الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 254566 / تحميل: 6671
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) )

التّفسير

إنذار إلى كل أبناء آدم :

إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويرا واقعيا عن حياة جميع أفراد البشر على الأرض ، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم ، وهي تعتبر في الحقيقة استمرارا لبرامج آدم في الجنّة.

ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سوءات البدن التي كان لها دور

٥

مهم في قصّة آدم ، إذ يقول :( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ ) .

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءات ، بل للتجمل والزينة أيضا حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه.( وَرِيشاً ) .

وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور ، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها ، لهذا أطلق على نوع من أنواع الألبسة ، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها ، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال ، هذا مضافا إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سرج الفرس أو جهاز البعير.

وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضا ، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان ، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.

ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري ، عن حدّ اللباس المعنوي تبعا لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي ، الظاهري والباطني إذ قال :( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ) .

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة ، معبّر جدّا ، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار ، ويستر العيوب الجسمانية ، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان ، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والاجتماعية ، تعدّ زينة كبرى له زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّوا ، وتزيدها جلالا وبهاء.

ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى ،

٦

وأنّه ما هو؟

فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» وبعض بـ «الحياء» وبعض بـ «لباس العبادة» ، وبعض بـ «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة ، وحتى الترس ، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية ، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضا ، كما نقرأ في سورة النحل الآية (٨١) :( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) .

ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مرارا ـ معنى واسعا في الغالب ، ولها مصاديق متعددة ومختلفة ، وفي الآية الحاضرة ـ أيضا ـ يمكن استفادة جميع هذه المعاني منها.

وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن ، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان ، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و «العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية :( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم ، سواء الألبسة المادية أو المعنوية ، اللباس الجسماني أو لباس التقوى ، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.

نزول اللباس!

نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر : «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل ، إذ يقول :( قَدأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً ) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يتّخذ من الصوف ، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.

كما أننا نقرأ في الآية (٦) من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) وفي سورة الحديد الآية (٣٥)( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) . فما ذا يعني هذا؟

٧

يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من فوق إلى تحت ، مثلا يقولون : إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات ، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.

وفي مجال الحديد أيضا يقولون : إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.

ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي ، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيرا ، فيقال مثلا : أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه ، أو يقال : رفعت شكواي إلى القاضي ، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.

فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر ، لهذا عبّر عن هذا المفهوم بهذا اللفظ ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.

ويشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضا ، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا ، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّع بمقام مهمّ رفيع ، فإنّنا نشير إليه باسم الإشارة البعيد ، فنقول في محاوراتنا مثلا : تلك الشّخصية ، ونحن نقصد رجلا حاضرا قريبا ، وقد جاء في القرآن الكريم :( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) . والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر ، ولكن تعظيما له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.

اللباس في الماضي والحاضر :

لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب ، ولكن

٨

الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعا بالغا عبر الزمن ، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ وفي الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ والقرّ وكذا للزينة والتجمل ، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة ، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأولى من الأهمية في كثير من الحقول ، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء ، وعمال المعادن والمناجم والغواصون ، وغيرهم كثيرون ، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.

لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطورا هائلا ، واتسع نطاقها اتساعا كبيرا ، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.

يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا : «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان ، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم ، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه ، وأراد الخروج قدّموا له معطفا ليلبسه تذكارا لهذه الزيارة ، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله ، فهم قد نظفوه في الآلات المنظّفة ، فغزلوه بآلات الغزل ، فنسجوه بآلات النسج ، ففصّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة ، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور».(١)

ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية ، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيرا إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر ، وإشاعة الفساد ، وتحريك الشهوات ، والتكبر والإسراف والتبذير ، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد

__________________

(١) المنار ، ج ٨ ، ص ٣٥٩.

٩

ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابعها الجنوني على الطابع العقلاني ، وتكون أشبه بكل شيء إلّا باللباس والثوب.

والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة ، هو أنّ للعقد النفسية دورا مهمّا في ارتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة ، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم وملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بارتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم ، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة ، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من ارتداء مثل هذه الثياب.

وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّا تهدر وتبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها وتبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها ، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.

هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها ، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفدا من النصارى قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جدا ، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها ، فلما حضروا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلموا عليه ، لم يردّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سلامهم ، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة ، وأعرض عنهم ، فلمّا سألوا عليّاعليه‌السلام عن سبب إعراض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، قالعليه‌السلام لهم : أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكن ثمّ تعودون إليه.

ففعل النصارى ما قاله لهم الإمامعليه‌السلام ، ثمّ دخلوا على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني

١٠

المرّة الأولى وإنّ إبليس لمعهم».(١)

الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره ، ويدعو إلى مراقبته ، والحذر منه ، لأنّ الشّيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم ، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى ، ولهذا يقول تعالى :( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) .

وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى) ، وهذه الآية تضمنت تحذيرا ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.

على أنّ ظاهر عبارة( لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ) هو نهي الشيطان عن هذا العمل ، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب ، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقا نحبه قائلين : لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة ، أي راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.

ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فلا بدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدوّ.

وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد ، فإنّه من الممكن أن يكون حاضرا معك ، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت ، ولا بدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال

__________________

(١) سفينة البحار ، المجلد الثاني ، ص ٤ ـ ٥ ، مادة لبس.

١١

مهم ، فقد يتساءل أحد : كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّا بهذه القوة على الإنسان عدوّا لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان عدوا يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته ، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه ، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟! الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الاحتمالي إذ تقول :( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينقذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.

وبعبارة أخرى : إنّ الخطوات الأولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه ، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع اجتياز حدود الروح ويعبرها إلّا بعد موافقة من الإنسان نفسه ، فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة ، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.

إن الآيات القرآنية الأخرى شاهدة أيضا على هذه الحقيقة ، ففي سورة النحل في الآية (١٠٠) نقرأ( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.

وفي الآية (٤٧) من سورة الحجر نقرأ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) .

وبعبارة أخرى : صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه ، إلّا أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم ، ففي كل مجلس معصية ، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب ، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها ، وعند طغيان الغرائز ، وعند اشتعال لهيب الغضب ، يكون حضور الشيطان حتميا ومسلّما ، وكأنّ

١٢

الإنسان يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه ، ويرى آثار قدمه بأمّ عينيه.

وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ يقول : «لما دعا نوح ربّهعزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال : يا نوح إنّ لك عندي يدا! أريد أن أكافئك عليها.

فقال نوح : إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد ، فما هي؟

قال : بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم ، فلم يبق أحد أغويه ، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.

فقال نوح : ما الذي تريد أن تكافيني به؟

قال : أذكرني في ثلاثة مواطن ، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن :

أذكرني إذا غضبت؟

واذكرني إذا حكمت بين اثنين!

واذكرني إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد!»(١) .

النقطة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا ، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غير قابل للرؤية للإنسان مطلقا ، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحيانا.

ولكن الظاهر أنّ هذين الاتجاهين غير متعارضين ، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يرى ، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات ، فلا تناف.

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي

__________________

(١) بحار الأنوار ، الطبعة الجديدة ، الجزء ١١ ، الصفحة ٣١٨.

١٣

تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضا ، وهي أنّه عند ما يسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحا ، عن دليله يجيب قائلا : هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه :( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا ) .

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أخرى قائلين :( وَاللهُ أَمَرَنا بِها ) .

إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء ، بالإضافة إلى الافتراء على الله ، عذران مختلفان ، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالبا.

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به ، وكأنّه وجد نفسه في غنى عن الرّدّ عليه وإبطاله ، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه ، هذا مضافا إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية ، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال :( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) .

إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله ، فإنّه تعالى لا يأمر إلّا بالمعروف والخير(١) .

ثمّ يختم الآية بهذه العبارة :( أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) .

ورغم أنّ الأنسب أن يقول : لماذا تنسبون ما هو كذب وليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك : لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استنادا الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر ، فيقال : إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلا ، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته ، فلما ذا تتهمون الله وتقولون على الله ما لا تعلمون؟!.

__________________

(١) راجع سورة البقرة ، ٢٦٨ و ٢٦٩.

١٤

ما هو المقصود من الفحشاء؟

ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين : إنّها إشارة إلى تقليد كان سائدا بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي ، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عريانا «رجالا ونساء» ظنا منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.

على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.

ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم ، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.

ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب «المنار» و «الميزان» ـ أخذوا للآية مفهوما واسعا إذ قالوا : إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر ، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة ، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنى واسعا سعة معنى الكلمة ، ومسألة «الطواف بالبيت عريانا» و «اتباع القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك ، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.

هذا وقد أعطينا توضيحا كافيا حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (١٧٠) من سورة البقرة.

* * *

١٥

الآيتان

( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) )

التفسير

حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوما كلّ أنواع الفعل القبيح ، وتأكّد أنّ الله يأمر بالفحشاء إطلاقا لهذا أشير في هذه الآية إلى أصول ومبادئ التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة ، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية ، أي المبدأ والمعاد ، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلا : أيّها النّبي( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوما واسعا يشمل جميع الأعمال الصالحة ، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله ، ووضع كل شيء في محلّه.

ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة» و «القسط» تفاوتا ، إذ تطلق «العدالة» ويراد

١٦

منها إعطاء كل ذي حق حقه ، ويقابلها «الظلم» وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم ، بينما يعني «القسط» أن لا تعطي حق أحد لغيره.

وبعبارة أخرى : أن لا يرضى بالتبعيض ، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.

ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين ، متساو تقريبا ، وهما يعنيان رعاية الاعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل ، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه ، إذ قال :( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه ،( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد ، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة ، إذ قال :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) .

* * *

بحثان

هنا نقطتان يجب الالتفات إليهما والوقوف عندهما :

١ ـ ما المقصود من «( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ .)

ذكر المفسّرون في تفسير( أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) تفاسير متنوعة ، فتارة قالوا : المراد هو التوجه صوب القبلة.

وأخرى : إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.

وثالثة احتملوا أيضا أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.

ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله ، ومحاربة كل ألوان

١٧

الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة ، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضا.

٢ ـ أقصر الأدلة على المعاد

لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيرا ، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمرا صعبا وعسيرا بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة ، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحيانا من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم ، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون :( أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (١) .

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم ، هو مسألة المعاد الجسماني ، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها ترابا ، وتبعثر ذراتها بفعل الرياح والأعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار ، ومن بين ثنايا ذرات الهواء ، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أخرى.

إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطئ ، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال ، إذ تقول : أنظروا إلى بداية الخلق ، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء ، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السّحب ، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي ، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة ، أو خضروات مختلفة جمعت من مختلف نقاط الأرض.

__________________

(١) سورة سبأ ، ٨.

١٨

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأولى تجتمع تلك الذرّات ثانية ، وتتواصل وتترابط ويتشكل الجسم الأوّل ، فلو كان هذا الأمر محالا فلما ذا وقع في مبدأ الخلقة.

إذا «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة ، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول :( فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ ) (١) .

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقا أو يضلّ فريقا من دون سبب ، أضاف في الجملة ما يلي :( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله ، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وانحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية ، وكان انغماسهم في الفساد ، والضلال والانحراف ، والوثنية ، كبيرا إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأسا على عقب ، فحسبوا القبيح حسنا ، والضلالات هداية ، وفي هذه الحالة أغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية ، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

* * *

__________________

(١) جملة «فريقا هدى» من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي : فريقا مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين ، وفريقا (الثّانية) مفعول مقدم.

وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة «حق عليهم الضلالة».

١٩

الآيتان

( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) )

التّفسير

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة ، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة ، وكيفية الاستفادة الصحيحة منها.

في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي ، يشمل جميع الأعصار والقرون ، أن يتخذوا زينتهم عند ما يذهبون إلى المساجد( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة ، ومشط الشعر ، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضا أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

والحجاج بالعراق ، وعثمان بن حبارة بالحجاز ، وقرة بن شريك بمصر ) : امتلأت الأرض والله جوراً(١)

والفارق التأريخي هو انه مع جبروته وظلمه فقد تمت في عهده فتوحات واسعة وهذا يبين ان أمر الفتوحات لا يرتبط بعدالة الحاكم بل أن الإسلام كدين أقوى من الحام كفرد فقد يكون الخليفة جائراً ظالماً ، ولكن الناس تدخل في الدين الحنيف بإعتبار التوحيد والقرآن والصورة الكلية للإسلام .

وفي عهده قتل سعيد بن جبير شهيداً ، قتله الحجاج الثقفي في الكوفة .

الوليد والإمام زين العابدينعليه‌السلام

وهنا مجموعة من الشواهد التي مرّ بها السجادعليه‌السلام أيام الوليد :

أولاً : خشية المخزومي من الإمامعليه‌السلام : بالغ ولاة المدينة الإساءة إلى الإمام السجادعليه‌السلام وكان منهم هشام بن اسماعيل المخزومي والي المدينة من قبل عبد الملك بن مروان ( ت ٨٦ هـ ) ، بالرغم من وصية سيده عبد الملك بعدم التحرش بالإمامعليه‌السلام وعدم أيذائه ودار دولاب الحياة ومرت الأيام وإذا بالمخزومي يعزل من قبل الوليد بن

ــــــــــــــــ

(١) المصدر السابق .

١٠١

عبد الملك ( ت ٩٦ هـ ) ويجلد امام دار مروان بن الحكم وكانت خشية المخزومي هي ان يقابله الإمام السجادعليه‌السلام بالمثل وينتقم منه ولكن السجادعليه‌السلام كان أرفع من ذلك وأسمي فقد أمرعليه‌السلام أصحابه وخواصه الا يتعرضوا لهشام المخزومي ، بعد ان أذله الله وسلبه سلطته وعلم المخزومي بذلك فاستبدل سلوكه تجاه الإمامعليه‌السلام بسلوك آخر فكان ، وهو يرى زين العابدينعليه‌السلام ، لا يتمالك نفسه إلا بالهتاف : الله اعلم حيث يجعل رسالته(١)

ودلالات ذلك :

١ ـ كان مبدأهعليه‌السلام العفو عن الظالمين الذين ظلموه ويؤيده قولهعليه‌السلام : ( لو ان قاتل أبي أودع عندي السيف الذي قتل به أبي لأديته إليه )(٢) وتواتر الروايات القائلة بعفوه وسماحة نفسه تسقط الروايات المتعارضة التي تصوره وكأنه كان محباً للانتقام ، من ظالميه .

٢ ـ انهعليه‌السلام كان يقابل ظالميه ، وبعد ان هبطوا إلى أقصى حالات الضعف ، بالإحسان والرأفة كما حصل مع هشام المخزومي ، ومروان بن الحكم وعياله ونحوهم .

ثانياً : السجاد ودعاء الكرب : ولى الوليد على المدينة صالح بن عبد الله المري ، وكتب إليه بإخراج العلوي الحسن بن الحسن من السجن ،

ــــــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري ج ٨ ص ٦١ والكامل في التاريخ لابن الاثير ج ٤ ص ٢٠١ .

(٢) نور الأبصار ص ١٣٧ .

١٠٢

وضربه خمسمائة سوط فأخرجه إلى المسجد ليضربه أمام الناس ولما سمع الإمام زين العابدينعليه‌السلام بذلك خفّ إليه وأشار عليه بدعاء الكرب حتى يفرج الله عنه وهو : ( لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله العليّ العظيم ، سبحان الله رب السموات السبع ورب [ الأرضين السبع ] ورب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين ) فجعل الحسن يردد هذا الدعاء ، حتى صرف الله عنه فلم ينفذ الوالي ما أمر به ، واشفق عليه ، وكتب إلى الوليد بشأنه ، فأمره بالإفراج عنه(١)

ثالثاً : سراج الدنيا في ظلمات بني أمية : ولى الوليد على المدينة سنة ٨٧ هـ عمر بن عبد العزيز وكان الأخير يتظاهر بالعدل والتقوى ، ولكنه كان يتجاهل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ففي بداية ولايته على المدينة أحضر عمر بن عبدالعزيز : عروة بن الزبير ، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وغيرهم من فقهاء المدينة يطلب منهم العون على أمر الدين وتقويمه عند الأعوجاج كي لا يزلّ فيهوى في النار(٢) ولم يدع

ــــــــــــــــ

(١) الإتحاف بحب الأشراف ص ٧٦ .

(٢) تأريخ الطبري ج ٧ ص ٧١ والكامل لأبن الأثير ج ٤ ص ٢٠١ .

١٠٣

السجادعليه‌السلام إلى الإجتماع فكيف يكون ذلك ، وهو القائل : ( ان علي بن الحسين سراج الدنيا وجمال الإسلام وزين العابدين )(١)

قال في الكشكول : ( لما وضح لعمر بن عبد العزيز ميل الناس عن بني أمية لافراطهم في سب باب مدينة علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ علي بن أبي طالبعليه‌السلام ] ، وأخذت الأندية تلهج بوخامة هذه الدنية أراد أن يبرر موقفه أمام الناس فاظهر الإستياء من هذه الفعلة ومنع العمال والولاة مما اعتادوه من لعن أمير المؤمنين وردّ على العلويين فدكاً رجاء ان يستميل القلوب ويستهوي الأفئدة وإلا فهو ما جبل عليه من العداء فان الشجرة المرّة لا تنبت إلا مرّاً(٢) .

مع هشام بن عبد الملك

حج هشام ابن عبد الملك ( ت ١٢٥ هـ ) في زمن أبيه(٣) في سنة ٨٥ أو ٨٦ هجرية على الأرجح وكان عمره آنذاك في حدود الرابعة عشرة من العمر ذلك لأن ولادته كانت سنة نيف وسبعين كما في تأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٤٧ وتولى الخلافة بعد حوالي عشرين سنة من تأريخ قصيدة الفرزدق ، أي سنة خمس ومائة للهجرة .

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٤٨ .

(٢) الكشكول فيما جرى على آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ السيد حيدر الاملي ص ١٥٦ .

(٣) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ج ١ ص ١٥٣ بسنده المتصل الى عبد الله بن محمد عن أبيه .

١٠٤

وكان قد أحتشد بالبيت الحرام ذلك العام ، جمهور غفير من الحجيج للطواف والصلاة والتبرك بالحجر الأسود حتى ان هشاماً لما رأى ازدحام الناس على الحجر وتعسر عليه استلامه برفق ، وضع له منبر جلس عليه ينظر الجمع على راحته ويسلم من مدافعة الرجال .

وبينما هو على ذلك الحال ، أقبل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ونور الإمامة يسطع من محياه ، وعليه إزار ورداء ، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة ، فهابه الحجيج ، وبصر به بعض من يعرفه من الحجاج فنادى بأعلى صوته : (هذا بقية الله في أرضه ، هذا بقية النبوة ، هذا إمام المتقين ، وسيد العابدين ) فتقهقر الجمع ، حتى استلم الحجر وحده وقام باداء ما وجب عليه من دون تدافع أو مزاحمة فتعجبت حاشية هشام من ذلك ، وأخذوا يتساءلون عنه فتغير لون هشام ـ وهو الشاب المرشح للخلافة ـ ولم يرقه ان ينوه بمعرفته بالسجادعليه‌السلام أخر ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الزمان فانكر معرفته ظاهراً ، وهو على معرفةٍ به باطناً .

فقيّض الله له ولياً يضمر إيمانه بآل البيتعليه‌السلام في وقت كان معروفاً بشاعر البلاط الأموي وهذا المتفاني بحب ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الفرزدق ( همام بن غالب بن صعصعة ت ١١٠ هـ ) ، فقال شعراً جميلاً يعرّف به زين العابدين وفضل أهل البيتعليه‌السلام

والجدير بالذكر ان الفرزدق كان قد دخل مع أبيه على الإمام عليعليه‌السلام في البصرة سنة ٣٧ هـ فسأل الإمامعليه‌السلام عن الفرزدق ـ ولم يكن له من العمر اكثر من سبع وعشرين سنة ـ فقيل انه يقول الشعر ، فأرشدهعليه‌السلام الى ما هو خير له من ذلك وهو تعلم القرآن وعمل بالنصيحة واستفادها في شعره لاحقاً .

١٠٥

قصيدة الفرزدق :

قال : انا اعرفه ، وانشأ الفرزدق(١)

(يا سائلي أين حلّ الجود والكرم

عندي بيانٌ إذا طلابه قدم)

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التقيّ النقي الطاهر العلم

اذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمى إلى ذروة العزّ التي قصرت

عن نيلها عرب الأقوام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلا حين يبتسم (٢)

بكفه خيزرانٌ ريحها عبقٌ

من كفّ أروع في عرنينه شممٌ (٣)

من جدّه دان فضل الأنبياء له

وفضل أمتّه دانت له الأمم

ــــــــــــــــ

(١) المناقب ج ٣ ص ٣٠٦ .

(٢) الإغضاء : إدناء الجفون وأغضى على الشيء : سكت .

(٣) الخيزران : بضم الزاء شجرٌ هنديٌّ ، وهو عروق ممتدة في الأرض وعبق به الطيب بالكسر عبقاً بالتحريك : أي لزق به ورجلٌ عبق : إذا تطيّب بأدنى طيب لم يذهب عنه أياماً والأروع : من يعجبك بحسنه وجهارة منظره والعرنين : بالكسر ، الأنف والشّمم : محرّكة ، ارتفاع قصبة الأنف وحسنها واستواء أعلاها وقوله : من كفّ : فيه تجريد مضاف إلى الأروع .

١٠٦

ينشق نور الهدى عن نور غرته

كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم (١)

مشتقّةٌ من رسول الله نبعته

طابت عناصره والخيم والشيم (٢)

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء الله قد ختموا

الله فضّله قدماً وشرّفه

جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك : من هذا ؟ بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجم

كلتا يديه غياثٌ عمّ نفعهما

يستوكفان ولا يعروهما العدم (٣)

سهل الخليقة لا تخسى بوادره

يزينه اثنان : حسن الخلق والكرم (٤)

حّمال أثقال أقوام إذا فدحوا

حلو الشمائل تحلو عنده نعم (٥)

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته

رحب الفناء أريبٌ حين يعترم (٦)

ما قال لا قط إلا في تشهده

لولا التشهد كانت لاؤه نعم

عمّ البرية بالإحسان فانقشعت

عنها الغيابة والإملاق والعدم

ــــــــــــــــ

(١) انجابت السحابة : انكشفت .

(٢) الخيم : بالكسر ، السجية والطبيعة والشيم : بكسر الشين وفتح الياء : جمع الشيمة بالكسر ، وهي الطبيعة .

(٣) استوكف : استقطر .

(٤) البوادر : جمع البادرة وهي ما يبدو من حدّتك في الغضب من قول أو فعل .

(٥) فدحه الدين : أثقله .

(٦) النقيبة : النفس والعقل ، والمشورة ونفاذ الرأي والطبيعة والأريب : العاقل وقوله : يعترم على المجهول من العرام ، أي عاقل إذا أصابته شدة .

١٠٧

من معشر حبّهم دين وبغضهم

كفر ، وقربهم منجى ومعتصم

إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم

أو قيل : من خير أهل الأرض ؟ قيل : هم

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمةٌ أزمت

والأسد أسد الشرى والبأس محتدم (١)

لا ينقض العسر بسطاً من أكفهم

سيان ذلك وإن أثروا وإن عدموا (٢)

يستدفع السوء والبلوى بحبهم

ويستربّ به الإحسان والنّعم

مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم

في كل بدءٍ ومختومٌ به الكلم

يأبي لهم أن يحلّ الذّمّ ساحتهم

خيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالندى هضم (٣)

أيّ الخلائق ليست في رقابهم

لأوّلية هذا أوله نعم

من يعرف الله يعرف أوّليّة ذا

فالدين من بيت هذا ناله الأمم

ولم يرق هشام تلك المصارحة التي سترها دون الشاميين ، وكبر عليه مدح الإمام زين العابدينعليه‌السلام بمحضره فأمر بسجن الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة ، والظاهر أنه أوصى بقطع صلته وعطائه من البلاط ولكن الفرزدق لم يعبأ بذلك .

ــــــــــــــــ

(١) الأزمة : الشدة ، وأزمت أي لزمت والشرى : ( كعلى ) طريق في سلمى كثيرة الأسد واحتدم عليه غيظاً : تحرّق ، والنار التهبت ، والدم اشتدت حمرته حتى تسوّد وفي بعض النسخ البأس بالباء الموحدة ، وفي بعضها بالنون وعلى الأول المراد أن شدتهم وغيظهم ملتهب في الحرب وعلى الثاني المراد أن الناس محتدمون عليهم حسداً .

(٢) أثرى : أي كثر ماله .

(٣) خيم : أي لهم خيم والندى : المطر ، ويستعار للعطاء الكثير وهضم : ( ككتب ) جمع هضوم ، يقال يد هضوم أي تجود بما لديها .

١٠٨

ووصلته هدية مالية من الإمامعليه‌السلام هي أعظم هدايا ذلك الزمان قيل انها اثني عشر الف درهم ، وقيل ألف دينار مشفوعة بالعذر بعدم وجدان الأكثر فأرجعها الفرزدق خوفاً من فوات الأجر الإلهي الذي توخاه من حبه لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلمه الإمامعليه‌السلام بقبول الله تعالى نصرته لذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنهمعليه‌السلام لا يرجعون بعطاياهم .

دلالات قصيدة الفرزدق :

١ ـ لاشك ان قصيدة الفرزدق تعدّ من أعظم الوثائق التاريخية التي تكشف حب الأمة الإسلامية لآل البيتعليه‌السلام في القرن الأول الهجري وتكشف أيضاً عن معرفة الأمة (على لسان الفرزدق ) لفضائل ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطهارتهم وتقواهم وعصمتهم وديباجة القصيدة تشير الى أدب جم ونظر بعيد وبلاغة متناهية وهذا ينطبق على أدب الفرزدق وشاعريته .

٢ ـ ان ذكر تلك القصيدة الرائعة في مصادر تاريخية واسعة يدلّ على تواترها وشيوعها بين الناس لم لا وقد وصف الفرزدق بأعظم وصفٍ ، وهو انه فاز بحب أهل البيتعليه‌السلام .

فقال ابن العماد الحنبلي ( ت ١٠٨٩ هـ ) في شذرات الذهب : ( مما يرجى له الزلفى وعظيم الفائدة بحميته في أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومدحه زين العابدين علي بن الحسين وإعرابه عن الرغبة والرهبة )(١) وقال ابن خلكان في الوفيات واليافعي في مرآة الجنان : ( للفرزدق مكرمة يرجى له فيها الرحمة في دار الآخرة )(٢) ثم ذكر الرواية تلازمها تلك القصيدة الرائعة وقال ابن كثير في البداية والنهاية : ( قال الفرزدق للسجادعليه‌السلام انما قتل هذا لله عز وجل ونصرةً للحق وقياماً بحق رسول الله في ذريته ، ولست أعتاض عن ذلك بشيء )(٣) . وقال السيوطي في شرح شواهد المغني : ( قال الفرزدق للسجادعليه‌السلام حين رد الصلة : يا ابن رسول الله ما قلته الا غضباً لله عز وجل ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما كنت لآخذ عليه شيئاً )(٤)

ــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب ج ١ ص ١٤٢ .

(٢) مرآة الجنان ج ١ ص ٢٣٩ .

(٣) البداية والنهاية ج ٩ ص ١٠٩ .

(٤) شرح شواهد المغني ص ٢٥٠ طبعة مصر .

١٠٩

وقال الكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ( سمعت الحافظ فقيه الحرم محمد بن احمد بن علي القسطلاني يقول : سمعت شيخ الحرمين أبا عبد الله القرطبي يقول : لو لم يكن للفرزدق عند الله عمل الا هذا لدخل الجنة به ، لانها كلمة حق عند ذي سلطان جائر )(١)

وصح إسناد هذه الرواية ، بقسميها الواقعة والقصيدة ، عن السبكي(٢) ( ت ٧٧١ هـ ) ، وأبو نعيم(٣) ( ت ٤٣٠ هـ ) ، والاصبهاني(٤) ( ت ٣٥٦ هـ ) ، ومحمد بن مسعود العياشي ( من أعيان المائة الثالثة)

٣ ـ ان السبب الباعث لإنشاء الفرزدق قصيدته هو تجاهل هشام ( ولي العهد ) بمعرفة زين العابدينعليه‌السلام عند استفهام أهل الشام منه ، بعدما شاهدوا جلالة الإمامعليه‌السلام وهيبته فتقهقر جمع الحجيج عن الحجر ، حتى استلمه ولن يعبأ الفرزدق بسطوة هشام ولا جبروت أبيه الخليفة الظالم ، فقال قولة الحق في الإمام زين العابدينعليه‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) كفاية الطالب ص ٣٠٦ .

(٢) طبقات الشافعية الكبرى ج ١ ص ١٥٣ .

(٣) حلية الأولياء ج ٣ ص ١٣٩ .

(٤) الأغاني ج ١٩٠ ص ٤٠ .

١١٠

الإمامعليه‌السلام في شخصيته

وكان الإمام السجادعليه‌السلام كريماً في نفسه ، جليلاً في قومه وكان القوم يعظّمون مقامه ويثنون على إمامته وعبادته وتقواه كان أفضل هاشمي في زمانه(١) ، وكان ذو فضل عظيم على أهل بيته وعصره ولقد أوتي من الفضل والعلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثله ولا قبله إلا من مضى من سلفه(٢) ، وكان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألّهه وكمال عقله(٣) ، وروى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يحصى كثرة وحفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلا والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء(٤) ، وله من الخشوع وصدقة السر وغير ذلك من الفضائل(٥)

ولعل كتاب محمد بن طلحة القرشي الشافعي كان قد جمع صفات زين العابدينعليه‌السلام جمعاً رائعاً ، فقال :

ــــــــــــــــ

(١) قاله حماد بن زيد من أبرز فقهاء البصرة ( تهذيب التهذيب ج ٣ ص ٩)

(٢) قاله عبد الملك بن مروان ، على الرغم من عداوته للإمامعليه‌السلام ( بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٧٥)

(٣) قاله الذهبي في ( سير أعلام النبلاء ج ٤ ص ٢٤٠)

(٤) قاله الشيخ المفيد في ( الإرشاد ج ٢ ص ١٣٨ و ١٥٣)

(٥) قاله ابن تيمية في ( منهاج السنّة ج ٢ ص ١٢٣)

١١١

 ( كان قدوة الزاهدين وسيد المتقين ، وإمام المؤمنين ، شيمته تشهد له أنّه من سلالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسمته يثبت مقام قربه من الله زلفاً ، وثفناته تسجّل له كثرة صلاته وتهجدّه ، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها درّت له اخلاق التقوى فتفوّقها ، وأشرقت له أنوار التأييد فاهتدى بها ، وآلفته أوراد العبادة فآنس بصحبتها ، وحالفته وظائف الطاعة فتحلّى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع طريق الآخرة ، وظمأ الهواجر دليلاً استرشد به في مسافرة المسافرة وله من الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة وثبت بالآثار المتواترة وشهد له أنّه من ملوك الآخرة )(١)

حج خمساً وعشرين حجة راجلاً(٢) وكان المشي من المدينة إلى مكة يستغرق حوالي عشرين يوماً وإذا كانت المسافة بين مكة والمدينة حوالي ٤٠٠ كليومتراً وكان معدل مشي الإنسان في اليوم ٢٠ كيلومتر استغرق الذهاب ثلاثة أسابيع ، والإياب ثلاثة أخرى وإذا افترضنا ان أداء المناسك يستغرق أسبوعين استغرق حج الإمامعليه‌السلام شهرين من كل سنة .

وكان فساد الوضع الإجتماعي وقلّة الموالين يدعوانه إلى تكثيف العمل الإرشادي ، وتربية الناس على التعبد لله عزّ وجلّ ،

ــــــــــــــــ

(١) مطالب السؤول ج ٢ ص ٤١ .

(٢) العقد الفريد ج ٣ ص ١٠٣ .

١١٢

فكانعليه‌السلام يبذل وقتاً ثميناً في موعظة المؤمنين وتدريس المتعلمين في الوقت الذي يقوم فيه بتأدية العبادات كالصلاة والصيام والحج وجهاد النفس ( الجهاد الأكبر ) فيتوهم المتوهم ( وهو عباد البصري ) ويسأله عن سبب تركه الجهاد الأصغر ، فيجيبه الإمامعليه‌السلام ، بان العلّة تكمن في قلّة الموالين الذين يعتمد عليهم في عمل عظيم كالقيام بالسيف فإذا وجدوا ( فالجهاد معهم أفضل من الحج )(١)

وكانت شخصية السجادعليه‌السلام تجذب أطراف إجتماعية متباعدة كالزهري عالم بني أمية ، والفرزدق شاعر البلاط الأموي ، وسعيد بن جبير التابعي الجليل ، ومحمد بن أسامة من بني هاشم ، وكان يصل الجميع بفكره ونصائحه ومحبتهعليه‌السلام

فهذا الزهري ، عندما عاقب شخصاً ومات في العقوبة ، خرج هائماً وتوحش ودخل إلى غار ، فطال مقامه تسع سنين فنصحه الإمام زين العابدينعليه‌السلام وقال له :

(إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك ، فابعث بديّة مسلّمة إلى أهله واخرج الى أهلك ومعالم دينك ) فقال له : فرّجت عني يا سيدي ! الله أعلم حيث يجعل رسالته ورجع الى بيته ولزم علي بن الحسينعليه‌السلام ، وكان يعدّ عند البعض من أصحابه ، ولذلك قال له بعض بني مروان : يا زهري ! ما فعل نبيك ؟

ــــــــــــــــ

(١) المناقب ج ٣ ص ٢٩٨ والاحتجاج ص ١٧١ .

١١٣

يعني علي بن الحسينعليه‌السلام (١) إلا ان الحق ان الزهري كان من حاشية آل مروان ، ولم يثبت أنه كان من أتباع أهل البيتعليه‌السلام أصلاً .

أما الفرزدق ( همام بن غالب ) فقد ذكرنا قصيدته ودلالالتها العقائدية ، وانه قالها كلمة حقٍ عند سلطان جائر .

وهذا سعيد بن جبير يأتم بعلي بن الحسينعليه‌السلام ، فكان زين العابدينعليه‌السلام يثني عليه ، وما كان سبب قتل الحجاج له إلا على هذا الأمر وذكر أنه لما دخل على الحجاج بن يوسف قال : أنت شقي بن كسير ؟ قال : أمي كانت أعرف بي ، سمتني سعيد بن جبير .

قال : ما تقول في أبي بكر وعمر ، هما في الجنة أو في النار ؟

قال : لو دخلت الجنة فنظرت إلى أهلها لعلمت من فيها ، ولو دخلت النار ورأيت أهلها لعلمت من فيها .

قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل قال أيهم أحبّ إليك ؟

قال : أرضاهم لخالقي قال فأيهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرّهم ونجواهم قال : أبيت أن تصدقني ؟ قال : بل لم أحب أن أكذبك(٢)

ــــــــــــــــ

(١) المناقب ج ٣ ص ٢٩٨ .

(٢) روضة الواعظين ص ٢٤٨ .

١١٤

وهذا محمد بن أسامة عندما حضرة الموت ، دخلت عليه بنو هاشم ، فقال لهم : قد عرفتم قرابتي ومنزلتي منكم ، وعليّ دين فأحبّ أن تضمنوه عني فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( أما والله ثلث دينك عليّ ) ثم سكت وسكتوا فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( عليّ دينك كله ) ثم قال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( أما إنه لم يمنعني أن أضمنه أولاً إلا كراهة أن تقولوا : سبقنا )(١) وهكذا خلق الأولياء أبناء الأنبياءعليه‌السلام

وكان الإمام السجادعليه‌السلام يحنو على آل عقيل ويكرمهم ، لما لهم من مواقف مشرفة يوم عاشوراء ، فقد ضحى أبناء عقيل وأحفاده الشبان بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام وكانعليه‌السلام يقول : ( إني أذكر يومهم مع أبي عبد اللهعليه‌السلام فأرقّ لهم )(٢) وكان من برهعليه‌السلام بآل عقيل انه بنى دورهم التي هدمها الأمويون(٣) وكانت ترد الإمامعليه‌السلام أموالٌ من مصادر مختلفة ، فكان يستثمرها في ذلك .

ــــــــــــــــ

(١) روضة الكافي ج ٨ ص ٣٣٢ .

(٢) كامل الزيارات ص ١٠٧ .

(٣) غاية الاختصار ص ١٦٠ .

١١٥

الأيام الأخيرة

ذكر جملة من المؤرخين(١) ان الوليد بن عبد الملك ( ت ٩٦ هـ ) قد دسّ سماً للإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وقيل ان هشام بن عبد الملك ( ت ١٢٥ هـ ) سمه(٢) ولأن شهادتهعليه‌السلام كانت أيام ملك الوليد الممتدة من سنة ٨٦ وحتى سنة ٩٦ للهجرة ، فانه يحتمل ان الوليد قد أوعز الى أخيه هشام بسمه في المدينة في شهر محرم الحرام سنة ٩٥ للهجرة ولا يوجد من بين المصادر التاريخية تأريخاً دقيقاً يبين وقت إطعام السم إلا انه من المؤكد انه قد حصل في شهر محرم الحرام والسم لا يدع للمرء فرصة العيش إلا فترة زمنية قصيرة .

ولنعش تلك الأيام الأخيرة من حياة الإمام السجادعليه‌السلام بين الوريقات القادمة .

ــــــــــــــــ

(١) ابن حجر في الصواعق المحرقة ص ١٢٠ وابن الصباغ في الفصول المهمة والشبراوي في الإتحاف ص ٥٢ .

(٢) دلائل الإمامة لابن جرير الطبري ص ٨٠ ومناقب ابن شهر اشوب ج ٢ ص ٢٦٩ وتاريخ القرماني ص ١١١ .

١١٦

وصايا السجادعليه‌السلام لأهل بيته

وكان من عادة آل البيتعليه‌السلام إذا علموا بدنو الأجل وقرب الوفادة على الله تعالى أوصلوا أهليهم بحسن طاعة الله تعالى وحسن التعامل مع الناس وكان الإمام السابق يوصي الإمام اللاحق بوصايا الإمامة والحكمة .

ومن ذلك ان مجموعة من أصحاب الإمام زين العابدينعليه‌السلام دخلت عليه أيام مرضه لعيادته ، فقالوا له : كيف أصبحت يا ابن رسول الله فدتك أنفسنا قالعليه‌السلام : ( في عافية والله المحمود على ذلك ) ثم قال لهم : ( كيف أصبحتم جميعاً ) قالوا : أصبحنا لك والله يا ابن رسول الله محبين وادين قالعليه‌السلام : ( من أحبنا الله تعالى أدخله الله ظلاً ظليلاً يوم لا ظل إلا ظله ، ومن أحبنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنا بالجنة ، ومن أحبنا لغرض دنياً أتاه رزقه من حيث لا يحتسب )(١)

ومما أوصى به ولده : ( إذا أصابتكم مصيبة أو نزلت بكم فاقة فليتوضأ الرجل ويحسن وضوءه ويصلي أربع ركعات أو ركعتين ، وبعد الفراغ يقول : يا موضع كل شكوى ، يا سامع كل نجوى ، يا شافي كل بلاء ، ويا عالم كل خفية ، ويا كاشف ما يشاء يا نجي

ــــــــــــــــ

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ ص ٢١٨ .

١١٧

موسى ، ومصطفى محمد ، يا خليل إبراهيم ، أدعوك دعاء من اشتدت فاقته ، وضعفت قوته ، وقلّت حيلته ، دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك أني كنت من من الظالمين ) ثم قالعليه‌السلام : ( من أصابه البلاء ودعا بهذا الدعاء أصابه الفرج من الله تعالى )(١)

وقالعليه‌السلام : ( يا بنيّ أخذ بيدي جدي وقال : يا بنّي أفعل الخير إلى كل من طلبه منك ، فإن كان أهله فقد أصبت موضعه وإن لم يكن أهله كنت أهله وإن شتمك رجل وتحول الى يسارك وأعتذر إليك ، فأقبل منه )(٢) و( جالسوا أهل الدين والمعرفة ، فإن لم تقدروا عليهم فالوحدة آنس وأسلم ، فإن أبيتم إلا مجالسة الناس فجالسوا أهل المروآت )(٣)

وقالعليه‌السلام لبعض ولده : ( ان الله تعالى رضيني لك و لم يرضك لي ، وأوصاك بي ولم يوصني بك ، فعليك بالبر تحفة يسيرة )(٤) و( اعلم أن خير الآباء للابناء من لم تدعه المودّة إلى التفريط فيه ، وخير الأنباء للآباء من لم يدعه التقصير الى العقوق له )(٥)

ــــــــــــــــ

(١) كشف الغمة للأربلي ص ١٦٥ .

(٢) مشكاة الأنوار ص ٦٥ .

(٣) رجال الكشي ص ٤١٩ .

(٤) تحف العقول ص ٦٧ .

(٥) العقد الفريد ج٣ ص ٨٩ .

١١٨

وقالعليه‌السلام : ( يا بني خمسة لا تصاحبهم ولا توافقهم ولا تحادثهم إياك ومصاحبة الكذاب فانه بمنزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب وإياك ومصاحبة الفاسق فانه بائعك بأكلة أو أقل منها وإياك ومصاحبة البخيل فانه يخذلك فيما تكون إليه أحوج وإياك ومصاحبة الأحمق فانه يريد ان ينفعك فيضرك وإياك ومصاحبة قاطع رحمه ، فاني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع(١) قال تعالى : (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَى‏ أَبْصَارَهُمْ ) (٢) . وقال الله تعالى :( وَالّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ ) (٣)  وقال الله تعالى : (( الّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٥) (٤) .

ــــــــــــــــ

(١) كشف الغمة ص ٢٠٠ .

(٢) سورة محمد : الآية ٢٢ ـ ٢٣ .

(٣) سورة الرعد : الآية ٢٥ .

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٧ .

(٥) الوافي ج٣ ص ١٠٥ .

١١٩

ثم قالعليه‌السلام : ( أحبكم الى الله أحسنكم عملاً ، وأعظمكم عند الله عملاً أسعاكم لعياله ، وأكرمكم عند الله أتقاكم لله تعالى )(١)

وقالعليه‌السلام : ( يا بنّي اصبر على النوائب ولا تتعرض للحقوق ، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعتك له )(٢) ( وإياك ومعادات الرجال فانها لن تعدمك مكر حليم أو مفاجأة لئيم )(٣)

وصايا السجادعليه‌السلام لإبنه الباقرعليه‌السلام

وفي أيام مرضهعليه‌السلام أيضاً جمع أولاده محمداً والحسن وعبد الله وزيداً والحسين وأوصى بالإمامة إلى أبنه محمد بن عليعليه‌السلام ، وكناه الباقر وجعل أمرهم إليهعليه‌السلام وقال له :

(يا بنّي : العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والعقل ترجمان العلم واعلم ان العلم أبقى ، واللسان أكثر هذراً وان صلاح الدنيا بحذافيرها في كلمتين بهما إصلاح شأن المعائش : ملء مكيالٍ

ــــــــــــــــ

(١) تحف العقول ص ٦٧ .

(٢) حلية الأولياء ج ٣ ص ١٣٨ والبيان والتبيين للجاحظ ج ٢ ص ٥٩ .

(٣) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٦٠ الطبعة القديمة .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606