الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 254723 / تحميل: 6681
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

فلا يمكن الالتزام بتسلسل الإضافات والتعلّقات دون العلوم.

وأمّا الجواب بتسلسل العلوم الاعتبارية ، فلأنّه ـ بعد فرض أنّ علمه تعالى صفة وجودية ـ لم يدرك العقل فرقا بين علمه تعالى ، و [ بين ](١) علمه بعلمه ، حتّى يقال : إنّ الأوّل حقيقي وغيره اعتباري ، فإنّ الجميع علمه ، وعلمه صفة وجودية عندهم ، والتحكّمات الباردة لا أثر لها عند ذي المعرفة.

ولا يرد النقض علينا بعلمه تعالى على مذهبنا ؛ لأنّ علمه تعالى عندنا عين ذاته ، وليس هناك إلّا انكشاف المعلومات له ، فلا يتصوّر اعتبار مطابقة ذاته للمعلومات.

نعم ، يمكن فرض مطابقة علمه لها بمجرّد الاعتبار الذي لا تضرّ معه المطابقة ، لأمور غير متناهية ، في مراتب غير متناهية.

وأمّا ما أجاب [ به ] (٢) عن المحال الرابع ، فغير منطبق بكلا شقّي الترديد فيه على مراد المصنّف ; ، فإنّه أراد أنّه لو كانت الصفات زائدة على ذاته تعالى لزم التركيب في حقيقة الإله ؛ لأنّ الذات في نفسها ـ مع قطع النظر عن الحياة والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات ـ خالية عن مقتضيات الإلهية ، فإذا كان الإله هو المركّب من الذات والصفات ، ولا إله إلّا الله ، كان الله سبحانه مركّبا ، والتركيب ينفي الوجوب

مع إنّ القول بإلهية المركّب ـ لا الذات ـ في نفسها كفر بالإجماع والضرورة.

وأمّا تخصيصه لكلام أمير المؤمنين ٧ بصفات هي غير الذات

__________________

(١) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.

(٢) أضفنا ما بين القوسين المعقوفتين لضرورة السياق.

٢٨١

بالكلّيّة ، فتخصيص بلا شاهد ، مع إنّه إنّما ينفع إذا كان القول بأنّ صفاته ليست عين ذاته ولا غيرها رافعا لإشكال التركيب والخروج عن الوجوب ، وهو بالضرورة ليس كذلك ؛ لأنّه اعتذار لفظي فقط لا يغيّر قولهم بزيادة الصفات على الذات الذي جاء الإشكال من قبله.

هذا ، ويمكن أن يشير أمير المؤمنين ٧ بكلامه المذكور إلى المحال الثاني ، ويكون حاصله :

من وصف الله سبحانه فقد قرنه بغيره ؛ وهو صفاته

ومن قرنه بغيره فقد ثنّاه بواجب آخر ؛ لما عرفت من أنّ صفاته تعالى لا يمكن أن تصدر عنه بالاختيار أو الإيجاب ، فتكون واجبة الوجود بنفسها ، أو منتهية إلى واجب آخر صفاته عين ذاته ، فيتعدّد الواجب

ومن عدّده وثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد صيّره ممكنا وجهله.

والله ووليّه أعلم.

وأمّا ما أجاب به عن المحال الخامس ، فحاصله :

إنّ قولنا : « الصفات ليست عين الذات ، ولا غيرها » اصطلاح لفظي ناشئ من اعتبارين.

وفيه : إنّا رأيناهم يجيبون به عن الإلزامات الحقيقية المبنيّة على مغايرة الذات للصفات حقيقة ـ كما سمعت بعضها ـ ، فكيف يكون اصطلاحا واعتبارا مجرّدا؟!

وبالجملة : إن أرادوا به الحقيقة ، فهو غير معقول ، كما بيّنه المصنّف ;.

وإن أرادوا به الاعتبار والاصطلاح ، فلا مشاحّة.

٢٨٢

لكن ما بالهم يجيبون به عن الأمور المبنيّة على الحقائق؟! فلا بدّ أنّهم أخطأوا على أحد الوجهين!

* * *

٢٨٣
٢٨٤

البقاء ليس زائدا على الذات

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المبحث التاسع

في البقاء

وفيه مطلبان :

[ المطلب الأوّل

إنّه ليس زائدا على الذات

وذهب الأشاعرة إلى أنّ الباقي إنّما يبقى ببقاء زائد على ذاته ، وهو عرض قائم بالباقي ، وأنّ الله تعالى باق ببقاء قائم بذاته(٢) .

ولزمهم من ذلك المحال ـ الذي تجزم الضرورة ببطلانه ـ من وجوه :

الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزمهم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال بالضرورة.

بيان الملازمة : إنّ الاستمرار كما يتحقّق في جانب الوجود ، كذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٥ ـ ٦٧.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ وما بعدها ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٦٤ ـ ١٦٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ، شرح التجريد : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

٢٨٥

يتحقّق في جانب العدم ؛ لإمكان تقسيم المستمرّ إليهما ، ومورد القسمة مشترك ؛ ولأنّ معنى الاستمرار كون الأمر في أحد الزمانين كما كان في الزمان الآخر.

وإن عني به صفة زائدة على الاستمرار ، فإن احتاج كلّ منهما إلى صاحبه ؛ دار

وإن لم يحتج أحدهما إلى الآخر ، أمكن تحقّق كلّ منهما بدون صاحبه ، فيوجد بقاء من غير استمرار وبالعكس ؛ وهو باطل بالضرورة

وإن احتاج أحدهما [ إلى صاحبه ] خاصة ، انفكّ الآخر عنه ؛ وهو ضروري البطلان.

الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور ؛ لأنّ البقاء عرض يحتاج في وجوده إلى الجوهر

فإن احتاج إلى وجود هذا الجوهر ـ الذي فرض باقيا ـ كان كلّ من البقاء ووجود الجوهر محتاجا إلى صاحبه ؛ وهو عين الدور المحال.

وإن احتاج إلى وجود جوهر غيره ، لزم قيام الصفة بغير الموصوف ؛ وهو غير معقول.

أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، فجاز أن يقوم بذاته لا في محلّ ، ويقتضي وجود الجوهر في الزمان الثاني ، وهو خطأ ؛ لأنّه يقتضي قيام البقاء بذاته فيكون جوهرا [ مجرّدا ] ، والبقاء لا يعقل إلّا عرضا قائما بغيره.

وأيضا : يلزم أن يكون هو بالذاتية أولى من الذات ، وتكون الذات بالوصفيّة أولى منه ؛ لأنّه مجرّد مستغن عن الذات ، والذات محتاجة إليه

والمحتاج أولى بالوصفيّة من المستغني ، والمستغني أولى بالذاتية من

٢٨٦

المحتاج ؛ ولأنّه يقتضي بقاء جميع الأشياء ؛ لعدم اختصاصه بذات دون أخرى.

الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا عن هذا البقاء ، كان وجوده في الزمان الثاني كذلك ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء وبعض أفرادها غنيا عنه.

* * *

٢٨٧

وقال الفضل(١) :

اتّفق المتكلّمون على إنّه تعالى باق ، لكن اختلفوا في كونه صفة ثبوتيّة زائدة أو لا؟

فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وأتباعه ، وجمهور معتزلة بغداد(٢) إلى أنّه صفة ثبوتية زائدة على الوجود ، إذ الوجود متحقّق دونه [ أي دون البقاء ] كما في أوّل الحدوث ، بل يتجدّد بعده صفة هي البقاء(٣) .

ونفى كون البقاء صفة موجودة زائدة كثير من الأشاعرة ، كالقاضي أبي بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الرازي(٤) ، وجمهور معتزلة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩.

(٢) منهم : بشر بن المعتمر الهلالي ( ت ٢١٠ ه‍ ) ، وثمامة بن الأشرس البصري ( ت ٢١٣ ه‍ ) ، وأبو جعفر محمّد بن عبد الله الإسكافي ( ت ٢٤٠ ه‍ ) ، وعيسى بن الهيثم الصوفي الخيّاط ( ت ٢٤٥ ه‍ ) ، وأبو القاسم عبد الله بن أحمد البلخي الكعبي ( ت ٣١٩ ه‍ ).

(٣) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦.

(٤) أمّا القاضي أبو بكر فهو : محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلّاني ، المتكلّم ، المالكي مذهبا ، الأشعري اعتقادا وطريقة.

ولد سنة ٣٣٨ ه‍ ، وسكن بغداد وتوفّي بها سنة ٤٠٣ ه‍ ، من تصانيفه : إعجاز القرآن ، الملل والنحل ، وهداية المسترشدين في الكلام ، وتمهيد الأوائل ، والإنصاف.

انظر في ترجمته : ترتيب المدارك ٢ / ٥٨٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٦٩ رقم ٦٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٩٠ رقم ١١٠ ، شذرات الذهب ٣ / ١٦٨ ، هديّة العارفين ٦ / ٥٩.

٢٨٨

البصرة(١) ، وقالوا : البقاء هو نفس الوجود في الزمان الثاني ، لا أمر زائد عليه(٢) .

ونحن ندفع ما أورده هذا الرجل على مذهب الشيخ الأشعري ، فنقول : أورد عليه ثلاث إيرادات :

الأوّل : إنّ البقاء إن عني به الاستمرار ، لزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية إلى آخر الدليل.

__________________

وأمّا إمام الحرمين فهو : ضياء الدين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ، الفقيه الشافعي.

ولد سنة ٤١٩ ه‍ ، قدم بغداد ثمّ سافر وجاور مكّة والمدينة ، ورجع إلى نيسابور يدرّس العلم ، ويعظ ، إلى أن توفّي بها سنة ٤٧٨ ه‍ ؛ من تصانيفه : الإرشاد في علم الكلام ، البرهان في الأصول ، غياث الأمم ، نهاية المطلب.

انظر في ترجمته : وفيات الأعيان ٣ / ١٦٧ رقم ٣٧٨ ، سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٦٨ رقم ٢٤٠ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٥ / ١٦٥ رقم ٤٧٧ ، شذرات الذهب ٣ / ٣٥٨ ، هديّة العارفين ٥ / ٦٢٦.

وأمّا الرازي فهو : أبو عبد الله فخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن ، الفقيه الشافعي ، المعروف بابن الخطيب.

ولد بالريّ سنة ٥٤٣ ه‍ أو ٥٤٤ ه‍ ، وتوفّي بمدينة هراة سنة ٦٠٦ ه‍ ، له تصانيف كثيره في فنون عديدة ، منها : تفسير القرآن الكريم ، المطالب العالية ، نهاية العقول ، الأربعين في أصول الدين ، المحصّل ، إبطال القياس.

انظر في ترجمته : وفيات الأعيان ٤ / ٢٤٨ رقم ٦٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢١ / ٥٠٠ رقم ٢٦١ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٨ / ٨١ رقم ١٠٨٩ ، شذرات الذهب ٥ / ٢١ ، هديّة العارفين ٦ / ١٠٧.

(١) منهم : واصل بن عطاء ( ت ١٣١ ه‍ ) ، وعمرو بن عبيد ( ت ١٤١ ه‍ ) ، وأبو بكر الأصمّ ( ت ٢٠٠ ه‍ ) ، وإبراهيم النظّام ( ت ٢٣١ ه‍ ) ، وأبو الهذيل العلّاف ( ت ٢٣٥ ه‍ ) ، وأبو علي الجبّائي ( ت ٣٠٣ ه‍ ) ، وأبو هاشم الجبّائي ( ت ٣٢١ ه‍ ).

(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٥٩ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦.

٢٨٩

والجواب : إنّ البقاء عني به استمرار الوجود ، لا الاستمرار المطلق حتّى يلزم اتّصاف العدم بالصفة الثبوتية ، فاندفع ما قال.

الثاني : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني لو احتاج إلى البقاء لزم الدور

ثمّ ذكر أنّ الأشاعرة أجابوا بمنع احتياج البقاء إلى الجوهر ، ورتّب عليه أنّه حينئذ جاز أن يقوم بذاته لا في محلّ

وهذا الجواب افتراء عليهم!(١) .

بل أجابوا بمنع احتياج الذات إليه ، وما قيل [ من ] أنّ وجوده في الزمان الثاني معلّل به ، ممنوع ؛ غاية ما في الباب أنّ وجوده فيه لا يكون إلّا مع البقاء ، وذلك لا يوجب أن يكون البقاء علّة لوجوده فيه ، إذ يجوز أن يكون تحقّقهما معا على سبيل الاتّفاق(٢) .

فاندفع كلّ ما ذكر من المحذور.

الثالث : إنّ وجود الجوهر في الزمان الثاني هو عين وجوده في الزمان الأوّل ، ولمّا كان وجوده في الزمان الأوّل غنيا ، كان في الثاني كذلك.

والجواب : إنّ جميع أفراد الوجود محتاج إلى البقاء في الزمان الثاني ، غنيّ عنه في الزمان الأوّل ، فلا يختلف أفراد الطبيعة في الاحتياج والغنى الذاتيّين

وهو حسب أنّ الوجود في الزمان الأوّل فرد ، وفي الزمان الثاني فرد آخر ، وهذا غاية جهله وعدم تدرّبه في شيء من المعقولات!

__________________

(١) بل حكاه الفخر الرازي في : الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٣.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٠٨.

٢٩٠

وأقول :

ما نقله عن الأشعري وأتباعه من أنّ تحقّق الوجود في أوّل الحدوث دون البقاء ، يدلّ على تجدّد صفة ثبوتية زائدة على الوجود هي البقاء ، ضروري البطلان ؛ لجواز أن يكون البقاء عين الوجود المستمرّ لا صفة زائدة متجدّدة.

ولو سلّم ، فلا يدلّ على كونها وجودية ، بل يجوز أن تكون اعتبارية ـ كما هو الحقّ ـ كمعيّة الباري سبحانه مع الحوادث المتجدّدة بتجدّد الحوادث.

وذكر شارح « المواقف » الجواب الأخير وعلم به الخصم(١) ، فإنّ ما ذكره من كيفية الخلاف قد أخذه من « المواقف » وشرحها(٢) ، فكان الأحرى به تركه.

وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الأوّل ، ففيه :

إنّ حقيقة البقاء هي الاستمرار ، لكن إذا كان البقاء صفة للوجود ، كان عبارة عن استمرار الوجود من باب تعيين المورد ، لا أنّ حقيقة البقاء هي خصوص استمرار الوجود ، فإنّه لا يدّعيه عاقل ، وذلك نظير الوجود ، فإنّه عبارة عن الثبوت ، فإذا كان وصفا لزيد ، كان عبارة عن ثبوته ، ولا يصحّ أن يقال : إنّ معنى الوجود ثبوت زيد ؛ فحينئذ يتمّ كلام المصنّف.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٠٧.

(٢) المواقف : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

٢٩١

وأمّا ما نقله عن الأشاعرة في الجواب عن الإيراد الثاني ، ففيه : إنّه لو لم تحتج الذات إلى البقاء ، وجاز أن يكون تحقّقهما على سبيل الاتّفاق ، لجاز انفكاك كلّ منهما عن صاحبه ؛ وهو غير معقول ؛ لا من طرف الذات ؛ لاستلزامه جواز أن لا تبقى ، فتكون ممكنة ؛ ولا من طرف البقاء ؛ لأنّ افتقار العرض إلى المعروض ضروري.

وأيضا : لو جاز أن يكون تحقّقهما اتّفاقيا ، لكان البقاء مستغنيا في نفسه عن الذات ، فيكون جوهرا ، وهو غير معقول ؛ ويكون واجبا إن استغنى عن غيرها أيضا ؛ أو ممكنا إن احتاج إليه ؛ ولا بدّ أن ينتهي إلى واجب آخر ، فيكون مع الذات واجب آخر ، ويلزم التركيب ويخرجان عن الوجوب.

وأيضا : لو استغنى البقاء عنها ، لكانت نسبته إلى جميع الأشياء على حدّ سواء ، فيثبت لجميع الأشياء ولا يختصّ بالذات.

فظهر أنّ ما نقله الخصم مشتمل على أكثر المفاسد التي ذكرها المصنّف وزيادة ـ وإن كان بعض ما زدناه واردا أيضا على ما نقله المصنّف عنهم ـ فأيّ حاجة للمصنّف في تغيير الجواب؟!

لكنّ الخصم لمّا لم يعرف غير « المواقف » ، يرى أنّ كلّ ما ليس فيها كذب ، على إنّ جواب « المواقف » وشرحها ـ الذي ذكره ـ مشتمل على ما نقله المصنّف ؛ لأنّهما إذا أجازا أن يكون اجتماع الذات والبقاء اتّفاقيا ، فقد قالا بعدم حاجة البقاء إلى المحلّ.

وأمّا ما أجاب به عن الإيراد الثالث ، فأجنبيّ عن الإشكال لأنّ صريح كلام المصنّف هو أنّ الوجود المستمرّ لا يصحّ أن يكون في الزمن الأوّل غنيا عن البقاء ، وفي الزمن الثاني محتاجا إليه

٢٩٢

وقد تخيّل أنّ مراد المصنّف هو اختلاف أفراد الوجود ، فبعضها غني عن البقاء في الزمن الأوّل ، محتاج إليه في الزمن الثاني ، والبعض الآخر ليس كذلك ، فأشكل عليه بعدم اختلاف أفراد الوجود بالغنى والاحتياج.

نعم ، مبنى الإشكال في كلام المصنّف على كون الوجود المستمرّ فردين للوجود : أحدهما : الوجود في الزمن الأوّل ، وثانيهما : الوجود في الزمن الثاني

فإنّه حينئذ لا يمكن احتياج ثانيهما إلى البقاء مع غنى أوّلهما عنه ؛ لامتناع كون بعض أفراد الطبيعة محتاجا بذاته إلى شيء ، وبعض أفرادها مستغنيا عنه ، وإنّما بنى الإشكال على كونهما فردين ؛ لأنّ التعدّد مقتضى قول الأشاعرة باختلاف الوجود في الزمانين بالغنى والحاجة إلى صفة البقاء ذاتا(١) ، فيكونان فردين من طبيعة واحدة حسب الفرض.

ولو بنى المصنّف ; الإشكال على القول بأنّ الوجود المستمرّ فرد واحد لا تزايد فيه ولا اشتداد ، لكان بطلان مذهب الأشعري أظهر ، إذ يمتنع أن يكون الفرد الواحد مختلفا بذاته بالاستغناء والحاجة في زمانين.

وقد كان الأولى بالمصنّف أن يذكر بطلان مذهب الأشعري على كلا الوجهين.

* * *

__________________

(١) انظر مؤدّاه في شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٧.

٢٩٣
٢٩٤

إنّه تعالى باق لذاته

قال المصنّف ـ نوّر الله ضريحه ـ(١) :

المطلب الثاني

في أنّ الله تعالى باق لذاته

الحقّ ذلك ؛ لأنّه لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ، فلا يكون واجبا ؛ للتنافي الضروري بين الواجب والممكن.

وخالفت الأشاعرة في ذلك ، وذهبوا إلى أنّه تعالى باق بالبقاء(٢) .

وهو خطأ لما تقدّم(٣) ؛ ولأنّ البقاء إن قام بذاته تعالى لزم تكثّره واحتياج البقاء إلى ذاته تعالى ، مع إنّ ذاته محتاجة إلى البقاء ، فيدور.

وإن قام بغيره كان وصف الشيء حالّا في غيره ؛ ولأنّ غيره محدث.

وإن قام البقاء بذاته كان مجرّدا.

وأيضا : بقاؤه تعالى باق لامتناع تطرّق العدم إلى صفاته تعالى ؛ ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ، فيكون له بقاء آخر ، ويتسلسل.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٧.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٣) راجع : المبحث التاسع ، الصفحة ٢٨٥ وما بعدها.

٢٩٥

وأيضا : صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى.

* * *

٢٩٦

وقال الفضل(١) :

قد عرفت في ما سبق أكثر أجوبة ما ذكره في هذا الفصل

قوله : « لو احتاج في بقائه إلى غيره كان ممكنا ».

قلنا : الاحتياج إلى الغير الذي لم يكن من ذاته يوجب الإمكان ، ومن كان صفاته من ذاته لم يكن ممكنا.

قوله : « ولأنّ البقاء إن قام بذاته لزم تكثّره ».

قلنا : لا يلزم التكثّر ؛ لأنّ الصفات الزائدة ليست غيره مغايرة كلّيّة.

قوله : « احتاج البقاء إلى ذاته ، وذاته محتاجة إلى البقاء ، فيلزم الدور ».

قلنا : مندفع بعدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان معا كما سبق(٢) ، فهو قائم بذاته من غير احتياج الذات إليه ، بل هما متحقّقان معا.

قوله : « بقاؤه باق ».

قلنا : مسلّم ، فالبقاء موصوف ببقاء هو عين ذلك البقاء ، كاتّصاف الوجود بالوجود.

قوله : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث ».

قلنا : ممنوع ؛ لأنّا قائلون بقدمه.

قوله : « يكون له بقاء آخر ، ويتسلسل ».

قلنا : مندفع بما سبق من أنّ بقاء البقاء نفس البقاء.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٥٢.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٩٠ من هذا الجزء.

٢٩٧

قوله : « صفاته تعالى باقية ، فلو بقيت بالبقاء لزم قيام المعنى بالمعنى ».

قلنا : قد سبق أنّ الصفات ليست مغايرة للذات بالكلّيّة ، فيمكن أن يكون البقاء صفة للذات ، وتبقى الصفات ببقاء الذات ، فلا يلزم قيام المعنى بالمعنى.

٢٩٨

وأقول :

ما أجاب به عن لزوم إمكان الواجب مبنيّ على قولهم : إنّ صفاته ليست غير ذاته بالكلّيّة.

وقد عرفت أنّه لا طائل تحته ، إذ لا يرجع إلّا لإصلاح لفظي ، فإنّهم يقولون بزيادة الصفات في الوجود ، فتغاير الذات بالكلّيّة ، فيلزم إمكان الذات ، لحاجتها في الوجود إلى غيرها ، وهو البقاء ، ويلزم التكثّر.

وأمّا ما أجاب به عن لزوم الدور ، من عدم احتياج الذات إلى البقاء ، بل هما متحقّقان على سبيل الاتّفاق ، فقد عرفت في المبحث السابق ما فيه من المفاسد الكثيرة.

وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « بقاؤه باق » ، من أنّ بقاء البقاء عينه ، ففيه :

إنّه لو ساغ ذلك فلم لا يكون بقاء الذات عينها؟! مع إنّه باطل على مذهبهم ؛ لأنّهم زعموا أنّ القول بالعينية راجع إلى النفي المحض(١) ؛ لأنّه يؤدّي إلى أن يكون تعالى عالما لا علم له ، وقادرا لا قدرة له ، وباقيا لا بقاء له ، وهكذا

فإذا قالوا : إنّ بقاء البقاء عينه ، كان البقاء باقيا لا بقاء له ، وهو باطل بزعمهم(٢) .

__________________

(١) المواقف : ٢٨٠.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، المواقف : ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، شرح المواقف ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

٢٩٩

وأيضا : دليلهم السابق الذي استدلّوا به على إنّ البقاء صفة ثبوتية زائدة على الذات وارد مثله في بقاء البقاء

فيقال : تحقّق البقاء في أوّل حدوثه دون بقاء البقاء ، دليل على تجدّد صفة بقاء البقاء وزيادتها على البقاء ، فيلزمهم أيضا أن يكون بقاء البقاء أيضا صفة ثبوتية متجدّدة زائدة على البقاء ، لا أنّها عينه.

وأمّا ما أجاب به عن قول المصنّف : « ولأنّه يلزم أن يكون محلّا للحوادث »

فهو دالّ على إنّه لم يفهم مراده ، فإنّه لم يدّع أنّ البقاء حادث حتّى يجيب بأنّا قائلون بقدمه ، بل أراد أن يستدلّ على قوله : « بقاؤه باق » بأمرين :

الأوّل : امتناع طرق العدم إلى صفاته.

الثاني : إنّه لو جاز عدم بقاء البقاء ، لكان البقاء حادثا ؛ لأنّ ما يجوز عدمه حادث ، ولو كان البقاء حادثا لكان الواجب محلّا للحوادث ، فلا بدّ أن يكون البقاء باقيا ، وهكذا ويتسلسل.

وغرض الخصم في ما أجاب به عن التسلسل أنّه تسلسل في الاعتباريات ، وهو ليس بمحال ؛ لأنّ بقاء البقاء نفس البقاء واقعا وإن خالفه اعتبارا.

وفيه : إنّه مستلزم لكون البقاء أيضا اعتباريا ، فلم قالوا : إنّه صفة وجوديّة؟!(١) وذلك لأنّ التماثل في الأفراد المتسلسلة يستدعي وحدة حقيقتها.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٠٦.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مسائل حسن الطالع والحظ وعدمهما ، وما شابه ذلك ، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إلى هذه الأمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع ، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول : لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين ، ولا وراء الأوهام والخيال ، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم ، وفي نظمكم والاجتماعية ، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّا وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها ، وكانت قوية العزم والإرادة ، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك ، هذه الشعوب منتصرة حتما.

أمّا إذا حلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث ، وحلّ التراجع مكان الجرأة والنفاق والتفرقة مكان الاتحاد ، وحبّ النفس مكان الفداء ، وحل التظاهر والرياء محل الإخلاص والإيمان ، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) تبيّن أسمى قانون في حياة الإنسانية ، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإنسانية ، وأوضحها حتى لأولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإنسان ، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء : إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها ، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيدا ، فإنّ تأريخ الإسلام ، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد انتصارات باهرة في بداياته ، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة

٤٦١

بعدها.

ففي القرون الأولى كان الإسلام يتقدم في العالم بسرعة ، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة ، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم ، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معا ، وجاء بمدينة زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها ، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة ، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي ، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إلى الآخرين طلبا لوسائل الحياة الابتدائية ، ويبعثون بأبنائهم إلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم ، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة.

لكن الأمور بلغت حدا بحيث أنّهم لم يصدروا علما وصناعة ، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوما مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مائتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلّا أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة ، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهرا وسنين لإرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إلى أية نتيجة سيصلو؟

ألم يعد الله عباده بالقول :( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) أو قوله :( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

أو قوله :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الروم ، ٤٧.

(٢) المنافقون ، ٨.

(٣) الأنبياء ، ١٠٥.

٤٦٢

فهل الله عاجز ـ والعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك ، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات ، ويدعو إلى العودة إلى أعماق الوجدان ، والنظر في ثنايا المجتمع ، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم ، وأنّ الألطاف والرحمة الإلهية تعم الجميع ، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدرا فصرتم إلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال : إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة ، وانتهى ولن يعود ، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضا ، فإنّكم إذا عدتم إلى الله وأحكمتم أسس إيمانكم ، ووعت عقولكم ، وذكرتم عهودكم ومسئولياتكم ، وتصافحت الأيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدوّية للنهضة ، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد ، فسوف تعود المياه إلى مجاريها ، وستنقضي الأيّام السود وترون أفقا مشرقا وضاء ، وستعود أمجادكم العظيمة ، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم ، وليكتب علماؤكم ، ويجاهد مقاتلوكم ، ويسعى التجار والعمال ، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم ، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والاستعطاف!! ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة ، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب ، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة ، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية ، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية

٤٦٣

سلسلة من الإمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين ، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافا ، بل لا بدّ من الاستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

الأولى : ما ورد عن الإمام الصّادق في هذا الشأن إذ قالعليه‌السلام «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحقق بذلك السلب»(١) .

والثّانية : ما نقرؤه في حديث آخر لهعليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء ، فتحولوا عمّا أحبّ إلى ما أكره إلّا تحولت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

٢ ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ ، ولا في سائر الأمور

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح ، هو أنّه ليس للإنسان مصير خاص قد تعين من قبل ، ولا يقع تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التأريخ» و «جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإنسانية ، ويجعل التحوّلات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها ، وهو إرادة الإنسان نفسه! فبناء على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ، ويقولون : إنّ الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإجبارية ، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٣.

٤٦٤

وأصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع.

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإسلامية ، ويرفضه القرآن ، فالإنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه ، فيصنع لها الفخر والنصر ، وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة ، فداؤه منه ودواؤه بيده ، فإذا لم يغير نفسه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

٤٦٥

الآيات

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) )

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة أخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالأحداث ، إلّا أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مرّا وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّهم ، الأسلوب الذي فيه عبرة للآخرين ، كما فيه درء لخطر هذه الطائفة.

٤٦٦

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

ولعل التعبير ب( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يشير إلى أنّ كثيرا من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لما وجدوه مكتوبا عنه في كتبهم ، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر ، فكفروا به وأظهروا عنادا شديدا في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم ، وكما يقول القرآن الكريم :( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وتقول الآية الأخرى :( الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) (١) . والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الإضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلا هم يخافون الله تعالى ، ولا يحذرون من مخالفة أوامره ، ولا يراعون القواعد والأصول الانسانية :( وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) .

والتعبير بـ «ينقضون» و «لا يتقون» وهما فعلان مضارعان ، هذا التعبير بهما يدلّ على الاستمرار ، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضوا عهودهم مرارا.(٢) .

والآية بعدها توضح كيفية أسلوب مواجهة هؤلاء فتقول :( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي قاتلهم بشكل مد مرّ بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

__________________

(١) «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة ، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم كما يرد هذا الاحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

(٢) بالإضافة إلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضا وهي «في كل مرّة»

٤٦٧

الشيء بدقة وسرعة ، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم ، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأخرى من الأعداء وناقضي العهود ، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون ، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضا ويتجنبوا الحرب مع المسلمين ، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين ، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم ، إلّا أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافا ودون سبب بل عند ما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم ، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإنباذ» وهي بمعنى «الإلقاء» أو «الإعلام» و «الرّد» أي : ردّ عليهم عهودهم وأعلن عن إلغائها جهرا.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها ، فألغه أنت من جهتك أيضا ، فهذا حكم عادل ، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

٤٦٨

المسلمين من نقض العهد ، وتحذرهم أن يكونوا هدفا وغرضا لهجوم العدوّ ، فهي تدعوهم إلى رعاية مبادئ الإنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد ، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) .

* * *

٤٦٩

الآيات

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) )

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها :

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر ، وهو لزوم

٤٧٠

الاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء ، فتقول :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته ، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والاستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة :( وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) .

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء ، ويرد هذا الاستعمال كثيرا بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه ، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و «المرابطة» تعني حفظ الحدود ، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر ، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطا أيضا.

* * *

ملاحظات

١ ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر ، والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماما.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظا ، إلّا أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق ، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب ، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثرا ما في الإنتصار على الأعداء ، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للانتصار على الأعداء هو كمية السلاح ، هم على خطأ كبير ، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوبا قليلة العدد وأسلحتها غير

٤٧١

متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة ، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناء على ذلك ، ومضافا إلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية ، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها ، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع ، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبل»(١) .

ونقرأ في رواية أخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح(٢) .

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(٣) .

ونجد رواية أخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول : «منه الخضاب بالسواد»(٤) .

فترى أنّ الإسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماما ليستعملوا الخضاب ، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم ، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناء على ذلك ، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السّابق.

٤٧٢

جدّا.

ولكن مع الأسف ، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح ، لا نجد فيهم أثرا لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم ، كأنّهم قد نسوا كل شيء. ولا هم يستغلّون قواهم الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا ما زلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وانحطاطنا على رقبة الإسلام ، ونقول : إذا كان الإسلام داعية ترقّ وتقدم ، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) إذا أضحى شعارا شاملا في كل مكان ، ينادي ، به الصغير والكبير ، والعالم وغير العالم ، والمؤلف والخطيب ، والجندي والضابط ، والفلاح والتاجر ، والتزموا به في حياتهم وطبقوه ، كان كافيا لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العملية وأئمّة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعا ، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح ، وشد الأزر ورفع المعنويات ، وبناء معسكرات التدريب ، وإختيار الزمان المناسب للهجوم ، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية ، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحا جديدا مؤثرا صنع في اليمن أيّام معركة حنين ، فأرسل النّبي جماعة إلى اليمن لشرائه فورا.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على شعار المشركين «أعل هبل ، اعل هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم : «إنّ لنا العزى والعزى لكم» ، بقوله : «الله مولانا ولا مولى لكم» ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في

٤٧٣

مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

ومن التعاليم الإسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية ، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة ، فهو مثل آخر على تفكير الإسلام العميق إلى جانب الاستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

٢ ـ واللطيفة المهمّة الأخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تخلق على مرور الزمان ولا تغدو بالية أو منسوخة برغم القدم ، فجملة( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام ، كما هي الحال اليوم ، وسيبقى مفهومها حيا إلى عشرات الآلاف من السنين الأخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة ، إذ أن جملة «ما استطعتم» عامّة ، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

٣ ـ ويرد هنا سؤال وهو : لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانونا شاملا لكل عصر وزمان ، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليما مهما خاصا بعصر النّبي ، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر ، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب ، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع ، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية :

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع ، فيقول : إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في

٤٧٤

مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الأخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم ، وليس الهدف هو توسعة الاستعباد والاستعمار في العالم ، بل الهدف من ذلك هو( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) !

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإنسانية ، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافا ، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون ، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية ، فإنّ أعداء الحق والعدل والاستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسما من الأراضي الإسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة ، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل ، وقتلوا المئات من الأبرياء ، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية ، وأحالوها إلى انقاض ، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أخرى إلى سجلهم الأسود في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل ، وأصدرت الأمم المتحدة بيانا دعت فيه إلى إخلاء هذه الأرض ، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الاستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني ، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا ، لتقول لنا : جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إلى مكانه الأوّل.

٤٧٥

وممّا يثير النظر ويسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و «عدوّكم» وذلك إشارة إلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام ، بل الهدف هو حفظ رسالة الإسلام الإنسانية ، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداء الله وأعداء الحق والعدل والإيمان والتوحيد والأخلاق الإنسانية ، فينبغي الردّ عليهم انطلاقا من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم ، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية ، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله ، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول :( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين احتملوا في هذه الطائفة : الذين لا تعلمونهم احتمالات كثيرة ، فقال بعضهم : إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم ، وقال آخرون : إنّها إشارة إلى الأعداء مستقبلا ، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلّا أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم ، فإذا قوى جيش الإسلام فإنّ أولئك سيقعون

٤٧٦

في حيرة واضطراب ويرحلون ، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (١٠١) من سورة التّوبة إذ تقول :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الإسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

٢ ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليما لمسلمي اليوم أيضا ، وهو أنّه لا ينبغي الاكتفاء بالاستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم ، بل عليكم أن تنتبهوا للأعداء الاحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة ، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما منوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر ، وهو أنّ الاستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة ، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له ، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال ، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله ، ولن ينقص منه شيء أبدا( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) فيرجع إليكم جميعه ، بل أكثر ممّا أنفقتم( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإسلام وقوته وعظمته ، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضا ، فبناء على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثوابا أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله ، فمع هذه الحال لا تظلمون ، بل ستنالون خيرا كثيرا.

٤٧٧

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع ، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء ، مالا كان أو نفسا أو فكرا أو منطقا أو قوة أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية ، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم ، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم ، وبناء على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبدا.

أهداف الجهاد في الإسلام وأركانه :

واللطيفة الأخرى التي تستفاد من هذه الآية ، وتكون جوابا على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم ، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه ، فالآية تقول بوضوح : إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم ، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّا في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم ، وما صرّح به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإسلام هو دين السيف ، وتارة يقولون بأنّ الإسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد ، ويقيسون النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعود إلى القرآن ، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع ، لتتّضح لهم كل تلك الأمور.

٤٧٨

الاستعداد للصّلح :

مع أنّ الآية السابقة أو ضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كاف ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) .

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضا ، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل ، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضا ، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إلى جهة ، لذلك يمكن الاستناد في تفسير هذه الآية إلى جذر اللغة تارة ، وإلى مفهومها الثّانوي تارة أخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عند ما يراد التوقيع على معاهدة الصلح ، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل ، فتقول :( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ومع ذلك فهي تحذر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من احتمال الاحتيال والخداع في دعوة الأعداء ، إلى الصلح ، فقد تكون دعوة للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة ، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر ، إلّا أنّ الآية تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخشى هذا الأمر أيضا ، لأنّ اللهعزوجل سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال ، إذ تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة ، لأنّ الله( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .

فكم أرادوا بك كيدا ، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنة ، لكنّهعزوجل حفظك ورعاك في مواجهة

٤٧٩

كل ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعا في الدفاع عنك ، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ، ولكنّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) .

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظا وحقدا بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ، وسيكونون صفا واحدا متراصا ، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ، ولم يكن هذا الإمر مقتصرا على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضا الذين جاءوا من مكّة ، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإسلام ـ حب ومودّة ، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضا ، لكن اللهعزوجل غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ، منهم حوالي ثمانين نفرا من المهاجرين والباقي من الأنصار ، فكانوا جيشا صغيرا ، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ، أو إيجاد تلك الألفة ، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ، كأولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإمكان إزالتها ، لا بالمال ولا بالجاه والمقام ، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلّا بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606