الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 253777 / تحميل: 6634
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

القديمة التي تبدو حياتها منسجمة تمام الانسجام» فلم تكن هذه المسألة ـ مسألة أداء الدين ـ محل بحث ولا كيف يوفّى المهر.

المهم هنا أن المالك للمهر البنت وحدها لا الأب ، والخدمات التي قدمها موسى كانت في هذا السبيل أيضا.

ه ـ كان مهر بنت شعيب مهرا ثقيلا نسبيا ـ لأنّنا إذا أردنا أن نلاحظ أجرة العامل العادي خلال شهر ثمّ خلال سنة ، وبعدئذ نضاعف ذلك الأجر إلى ثماني مرات فسيكون مبلغا كثيرا جدّا.

الجواب : أولا لم يكن هذا الزواج زواجا بسيطا ، بل كان مقدمة لبقاء موسى عند «شعيب» متبعا شاكلته ومذهبه ، ومقدمة لأن يدرس موسىعليه‌السلام في جامعة علمية كبرى خلال هذه الفترة الطويلة ، والله العالم كم تعلم موسى من «شيخ مدين» في هذه المدّة من امور؟!

ثمّ بعد ذلك كله ، لو قلنا : إنّ هذه المدة الطويلة كان يقضيها موسى في خدمة شعيب ، ففي مقابل ذلك سيؤمن له شعيب مصرفه ونفقات زوجه من هذا الطريق أيضا فإذا جردنا مصرف موسى ونفقاته من أجرة عمله لم يكن المهر غاليا ـ بل سيبقى مبلغ زهيد وخفيف!

٣ ـ يستفاد ضمنا من هذه القصّة أن ما يشيع في عصرنا من أن اقتراح الأب على إختيار البعل لابنته أمر مصيب ، لا مانع منه وليس معيبا ، فإذا وجد الأب شخصا لائقا وجديرا ، فله الحق أن يقترح عليه الزواج من ابنته ، كما فعل شعيبعليه‌السلام مع موسى في شأن ابنتهعليه‌السلام والزواج منها.

٤ ـ اسما ابنتي شعيب : واحدة «صفورة» أو «صفورا» وهي التي تزوجت من موسىعليه‌السلام ، أمّا الثّانية فاسمها «ليا»(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٤٩.

٢٢١

الآيات

( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) )

٢٢٢

التّفسير

الشّرارة الأولى للوحي :

نصل الآن ـ إلى المقطع السابع ـ من هذه القصّة

لا يعلم أحد ـ بدقّة ـ ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب(١) ، ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسىعليه‌السلام سنوات عذبة هادئة ، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.

في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسىعليه‌السلام مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب ، وأن يكون راعيا لغنمه ؛ ليغسل نفسه ممّا تطبّعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.

كان على موسىعليه‌السلام أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترة ليعرف همومهم وآلامهم ، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.

ومن جهة أخرى كان موسى بحاجة الى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته. فأيّ مكان أفضل له من صحراء مدين ، وأفضل من بيت شعيب؟!.

إنّ مسئولية نبي من أولي العزم ، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها ، بل يمكن أن يقال : إنّ مسئولية موسىعليه‌السلام ـ بعد مسئولية النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من بين الأنبياء جميعا ، كانت أثقل وأهم ، بالنظر لمواجهته الجبابرة على الأرض ، وتخليص أمّة من أسرهم ، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.

نقرأ في «التوراة» وفي بعض الروايات الإسلامية ـ أيضا ـ أنّ شعيبا قرر تكريما لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة ، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها ـ في السنة الذي ودّع فيها موسى شعيبا ـ

__________________

(١) يظهر من الرّوايات الإسلامية أنّ موسىعليه‌السلام عمل مع شعيب عشر سنوات ، وهذا الموضوع موجود في كتاب وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، الصفحة ٣٤ (كتاب النكاح أبواب المهور. الباب ٢٢ ـ الحديث الرابع).

٢٢٣

أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب(١) ، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.

ومن البديهي أنّ موسىعليه‌السلام لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم ، وإن كان وجود «شعيب» الى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.

فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه ، وأن يخلصهم من قيود الأسر ، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.

وعليه أن ينهي وجود الظلمة وحكام الجور في مصر ، وأن يحطّم الأصنام ، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه ، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.

وأخيرا جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.

ويستفاد ضمنا من التعبير بـ «الأهل» التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسىعليه‌السلام كان عنده هناك غير زوجته ولد أو أولاد ، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون ، وكما صرّح بهذا المعنى في «التوراة» في سفر الخروج ، وإضافة إلى كل ذلك فإنّ زوجته كانت حاملا أيضا.

وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق ، ولئلا يقع أسيرا بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقا غير مطروق.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع :( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ) ثمّ التفت إلى أهله و( قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) أي (تتدفؤون).

«آنست» : مشتقّة من مادة «إيناس» ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة.

__________________

(١) راجع أعلام القرآن ، ص ٤٠٩.

٢٢٤

«جذوة» هي القطعة من النّار ، وقال بعضهم : بل هي القطعة الكبيرة من الحطب.

ويستفاد من قوله( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ ) أنّه كان أضاع الطريق ، كما يستفاد من جملة( لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) أن الوقت كان ليلا باردا.

ولم يرد في الآية كلام عن حالة زوجة موسى ، ولكن المشهور أنّها كانت حاملا ـ كما في كثير من التفاسير والرّوايات ـ وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة وكان موسى قلقا لحالها أيضا.

( فَلَمَّا أَتاها ) أي أتى النّار التي آنسها ورآها ، وجدها نارا لا كمثل النيران الأخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق ، بل هي قطعة من النور والصفاء ، فتعجب موسى من ذلك( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

«الشاطئ» معناه الساحل.

و «الوادي» معناه الطريق بين الجبلين ، أو ممر السيول.

و «الأيمن» مشتق من «اليمين» خلاف اليسار ، وهو صفة للوادي.

و «البقعة» القطعة من الأرض المعروفة الأطراف.

ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شيء ، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى وموسى بشر له جسم وأذنان ولا بدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية وطبيعي أن كثيرا من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاما داخليا ، وأحيانا يرون ما يوحى إليهم في «النوم» كما كان الوحي يأتيهم. أحيانا ـ عن طريق سماع الأمواج الصوتية.

وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم ، تعالى الله عن ذلك.

وفي بعض الرّوايات ورد أن موسىعليه‌السلام حين اقترب من النّار ، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدو

٢٢٥

أجمل ، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار ، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخصر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبسا فأتته ثانية وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّة تتجه النّار إليه ، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه.

ومن هنا ومع ملاحظة قرائن لا تقبل الإنكار اتّضح لموسىعليه‌السلام أنّ هذا النداء هو نداء إلهي لا غير.

ومع الالتفات إلى أنّ موسىعليه‌السلام سيتحمل مسئولية عظيمة وثقيلة فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل الله تعالى مناسبة لمقامه النبوي ، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز :

الأولى قوله تعالى :( وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) .

ويوم اختار موسىعليه‌السلام هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة ، ويهشّ بها على غنمه ، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار ، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرة العظيمة المودعة من قبل الله. وأن هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين ، وهكذا هي موجودات العالم ، نتصور أنّها لا شيء ، لكن لها استعدادات عظيمة مودعة في داخلها بأمر الله تتجلى لنا متى شاء.

في هذه الحال سمع موسىعليه‌السلام مرّة أخرى النداء من الشجرة( أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ) .

«الجانّ» في الأصل معناه الموجود غير المرئي ، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضا ؛ لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية كما عبر في بعض الآيات عن العصا بـ( ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) [سورة الأعراف الآية ١٠٧ وسورة الشعراء الآية ٣٢].

وقد قلنا سابقا : إنّ هذا التفاوت في التعابير ربّما لبيان الحالات المختلفة

٢٢٦

لتلك الحية التي كانت في البداية حية صغيرة ، ثمّ ظهرت كأنّها ثعبان مبين.

كما ويحتمل أن موسىعليه‌السلام رآها في الوادي بصورة حية ، ثمّ في المرات الأخرى بدأت تظهر بشكل مهول( ثُعْبانٌ مُبِينٌ )

وعلى كل حال ، كان على موسىعليه‌السلام أن يعرف هذه الحقيقة ، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية ؛ لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك ، فلا مجال للخوف إذا.

كانت المعجزة الأولى آية «من الرعب» ، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أخرى «من النور والأمل» ومجموعهما سيكون تركيبا من «الإنذار» و «البشارة» إذ جاءه الأمر( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) .

فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئا عن مرض ـ كالبرص ونحوه ـ بل كان نورا الهيا جديدا.

لقد هزّت موسىعليه‌السلام مشاهدته لهذه الأمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب ، فقد أمر أن يضع يده على صدره( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ) .

قال بعضهم : هذه العبارة( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ ) كناية عن لزوم القاطعية والعزم الراسخ في أداء المسؤولية بالنسبة لرسالته ، وأن لا يخاف أو يرهب شيئا أو أحدا أو قوّة مهما بلغت.

وقال بعضهم : حين ألقى موسىعليه‌السلام عصاه فرآها كأنّها «جان» أو( ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) رهب منها ، فمدّ يده ليدافع عن نفسه ويطردها عنه ، لكن الله أمره أن يضم يده إلى صدره ، إذ لا حاجة للدفاع فهي آية من آياته.

والتعبير بـ «الجناح» [الذي يستعمل للطائر مكان اليد للإنسان] بدلا عن اليد في غاية الجمال والروعة ولعل المراد منه تشبيه هذه الحالة بحالة الطائر حين يدافع عن نفسه وهو أمام عدوّه المهاجم ، ولكنه يعود إلى حالته الأولى ويضم

٢٢٧

جناحه إليه عند ما يزول عنه العدو ولا يجد ما يرهبه!.

وجاء موسى النداء معقّبا :( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) .

فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى فعليك ـ يا موسى ـ أن تؤدي وظيفتك بنصحهم ، وإلّا واجهتهم بما هو أشد.

هنا تذكر موسىعليه‌السلام حادثة مهمة وقعت له في حياته بمصر ، وهي قتل القبطي ، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله.

وبالرغم من أنّ موسىعليه‌السلام كان يهدف عندها الى انقاذ المظلوم من الظالم الذي كان في شجار معه ، فكان ما كان إلّا أن ذلك لا معنى له في منطق فرعون وقومه ، فهم مصممون على قتل موسى إن وجدوه لذلك فإنّ موسى :( قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) .

وبعد هذا كلّه فإنّي وحيد ولساني غير فصيح( وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) .

كلمة «أفصح» مشتقّة من «الفصيح» وهو في الأصل كون الشيء خالصا ، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة «الفصيح» أيضا.

و «الردء» معناه المعين والمساعد.

وعلى كل حال فلأن هذه المسؤولية كانت كبيرة جدّا ، ولئلا يعجز موسى عن أدائها ، سأل ربّه أن يرسل معه أخاه هارون أيضا.

فأجاب الله دعوته ، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و( قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ) فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.

وبشرهما بالنصر والفوز ، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك : إذ قال سبحانه :( فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا ) فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الإضرار بكما( أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ ) .

٢٢٨

فكان ما أوحى الله إلى موسى أملا كبيرا وبشارة عظمى اطمأن بها قلبه ، وأصبح راسخ العزم والحزم ، وسنجد آثار ذلك في الصفحات المقبلة حين نقرأ الجوانب الأخرى من قصّة موسىعليه‌السلام إن شاء الله(١) .

* * *

__________________

(١) كانت لنا بحوث عديدة في هذا المجال ، فراجعها إن شئت في «تفسير سورة الأعراف» و «تفسير سورة طه» و «تفسير سورة الشعراء». وفي بعض السور الأخرى.

٢٢٩

الآيتان

( فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) )

التّفسير

موسى في مواجهة فرعون :

نواجه المقطع الثامن من هذه القصّة العظيمة لقد تلقى موسىعليه‌السلام من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدسة ، فوصل إلى مصر ، وأخبر أخاه هارون بما حمّل وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما فذهبا معا إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله ، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به من في القصر من جماعته وخاصته ، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته ولكن لنر ما جرى هناك ـ في قصر فرعون ـ مع موسى وأخيه.

يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع :( فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ) .

٢٣٠

وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) .

فواجهوا موسى متوسّلين بحربة توسّل بها جميع الجبابرة والضالّون على طول التاريخ ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم وهي حربة «السحر» لأنّ الأنبياء يأتون بأمور خارقة للعادات ، و «السحر» خارق للعادة «لكن اين هذا من هذه»؟

السحرة أناس منحرفون وأهل دنيا وعبيد لها وأساس عملهم قائم على تحريف الحقائق ، ويمكن معرفتهم جيدا بهذه العلامة في حين أنّ دعوة الأنبياء ومحتواها شاهد على صدق معاجزهم

ثمّ إنّ السحرة طالما يعتمدون على القدرة البشرية فإنّ عملهم محدود ، أمّا الأنبياء الذين يعتمدون على قوّة الهية ، فإن معاجزهم عظيمة وغير محدودة!

التعبير بـ «الآيات البيّنات» عن معاجز موسىعليه‌السلام بصيغة الجمع ، ربّما يراد به أن معاجز أخرى غير المعجزتين هاتين ، أو أن كل معجزة من معجزتيه مركبة من عدّة معاجز.

فتبديل العصا إلى ثعبان عظيم معجزة ، وعودة الثعبان إلى عصا معجزة أخرى.

والتعبير بـ «مفترى» مأخوذة من «فرية» بمعنى التهمة والكذب لأنّهم قصدوا أنّ موسى يكذب على الله!.

والتعبير بـ( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) مع أن نداء الأنبياء ودعوتهم من أمثال نوح وإبراهيم ويوسفعليهم‌السلام كانا من قبل موسىعليه‌السلام في هذه الأرض ، فجميعهم دعوا إلى عبادة الله سبحانه. هذا التعبير أساسه طول المدّة وبعد العهد عليهم ، أو أنّهم يريدون أن يقولوا : إنّ آباءنا ـ أيضا ـ لم يذعنوا لدعوة الأنبياء قبلك!.

لكن موسىعليه‌السلام أجابهم بلهجة التهديد والوعيد ، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار( وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ

٢٣١

الدَّارِ ) .

إشارة إلى أنّ الله يعلم حالي ، وهو مطلع عليّ بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب فكيف يمكن أن يمكنني الله من الأمور الخارقة للعادات لكي أضل بها عباده؟

فعلمه بحالي ومنحه لي هذه القدرة على الإتيان بالمعجزات دليل على حقانية دعوتي.

ثمّ بعد هذا ، الكاذب قد يقضي فترة بين الناس بالكذب والخديعة ، لكن سرعان ما يفتضح أمره ، فانتظروا لتشهدوا من تكون له العاقبة والإنتصار ولمن يكون الخزي والاندحار!؟

ولو كان كلامي كذبا فأنا ظالم و( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

وهذا التعبير يشبه تعبيرا آخر في الآية (٦٩) من سورة «طه» إذ جاء بهذه الصيغة «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ».

وهذه الجملة لعلها إشارة إلى الفراعنة المعاندين والمستكبرين ضمنا ، وهي أنّكم مقتنعون بمعاجزي ودعوتي الحقّة ، ولكنّكم تخالفونني ظلما فعليكم أن تعرفوا أنّكم لن تنتصروا أبدا ، والعاقبة لي فحسب.

والتعبير بـ( عاقِبَةُ الدَّارِ ) ربّما كان إشارة لعاقبة الدار الدنيا ، أو لعاقبة الدار الآخرة ، أو لعاقبة الدارين جميعا ، وبالطبع فإنّ المعنى الثّالث أجمع وأنسب حسب الظاهر.

بهذا المنطق المؤدب أنذر موسىعليه‌السلام فرعون وقومه بالهزيمة في هذه الدنيا وفي الأخرى!.

* * *

٢٣٢

الآيات

( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) )

التّفسير

كيف كان عاقبة الظالمين؟

نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ المليء بالأحداث والعبر.

هذا المقطع يعالج مسألة صنع فرعون البرج ـ أو بنائه الصرح المعروف ـ للبرهنة على وهمية دعوة موسىعليه‌السلام .

ونعرف أن من سنن الساسة القدماء في أعمالهم أنّه كلما وقعت حادثة مهمّة

٢٣٣

على خلاف رغباتهم وميولهم (ومن أجل التمويه وإيهام الناس) يبادرون إلى خلق جوّ جديد ليلفتوا أنظار الناس إليه ، وليصرفوهم عن تلك الحادثة المطلوبة.

ويبدو أنّ بناء «الصرح العظيم» حدث بعد ما جرى لموسى من مواجهته السحرة ما جرى لأنّه يستفاد من سورة «المؤمن» أن هذا العمل «بناء البرج» تمّ حين كان الفراعنة يخططون لقتل موسىعليه‌السلام ، وكان مؤمن آل فرعون يدافع عنه ونعرف أنّه قبل أن يواجه موسىعليه‌السلام السحرة لم يكن مثل هذا العمل ولا مثل هذا الحديث ، وحيث أن القرآن الكريم تحدّث عن مواجهة موسىعليه‌السلام للسحرة في سورة «طه ، والأعراف ، ويونس ، والشعراء» فإنّه لم يتطرق إليها هنا. وإنّما تحدث هنا وفي سورة المؤمن عن بناء البرج.

وعلى كل حال فقد شاع خبر انتصار موسىعليه‌السلام على السحرة في مصر ، وإيمان السحرة بموسى زاد في الأمر أهمية ، كما أن موقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جديّ شديد.

واحتمال تيقظ الجماهير التي في أسر الذل كان كبيرا جدّا فيجب صرف أفكار الناس بأية قيمة كانت ، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية مقرونة ببذل من الجهاز الحكومي ، لإغفال الناس وتحميقهم!

وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس فرعون للتشاور في معالجة الموقف ، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع :( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) .

فأنا إلهكم في الأرض أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده ، ولكنني سأتحقق في الأمر ولا أترك الاحتياط ، فالتفت إلى وزيره هامان وقال :( فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ) ثمّ أصدر الأوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّا لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى.

( فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ ) .

٢٣٤

لم لم يذكر فرعون اسم الآجر ، واكتفى بالقول :( فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ) ؟ قال بعضهم : هذا دليل على أن الآجر لم يكن متداولا حتى ذلك الحين ، وإنّما ابتكره الفراعنة من بعد في حين أن بعضهم يرى أن هذا التعبير أو هذا البيان فيه نوع من التكبر وموافق لسنّة الجبابرة.

وقال بعضهم : إنّ كلمة «آجر» ليست فصيحة ، لذلك لم يستعملها القرآن ، وإنّما استعمل هذا التعبير المتقدم على لسان فرعون!.

هنا ناقش جماعة من المفسّرين كالفخر الرازي والآلوسي مسألة «الصرح» ، وهل بنى فرعون «الصرح» حقّا أم لا؟!

ويبدو أن الذي شغل فكر المفسّرين هو أن هذا العمل لم يكن متزّنا بأيّ وجه وأي حساب.

ترى ألم يكن الناس قد صعدوا الجبال من قبل فرأوا منظر السماء كما هو على الأرض؟.

وهل البرج الذي يبنيه البشر أكثر ارتفاعا من الجبل؟.

وأي أحمق يصدق أنّه يمكن الوصول إلى السماء بواسطة مثل هذا البرج؟! ولكن أولئك الذين يفكرون مثل هذا التفكير غفلوا عن هذه المسألة ، وهي أن مصر لم تكن أرضا جبلية ، وبعد هذا كلّه نسوا أنّ الطبقة العامّة لأهل مصر بسطاء ويخدعون بشتى الوسائل.

حتى في عصرنا الذي يسمى عصر العلم وعصر النور ، نجد مسائل تشبه ما وقع في العصور الماضية ينخدع بها الناس.

وعلى كل حال ، فطبقا لما ورد في بعض التواريخ ، فإنّ هامان أمر بأرض واسعة ليبنى عليها الصرح أو البرج ، وهيّأ خمسين ألف رجل من العمال والمهندسين لهذا العمل المضني ، وآلاف العمال لتهيئة الوسائل اللازمة لهذا البناء ، وفتح أبواب الخزائن وصرف أموالا طائلة في هذا السبيل ، واشغل عمالا كثيرين

٢٣٥

في هذا البناء حتى أنّه ما من مكان إلّا وتسمع فيه أصوات هذا البناء أو أصداؤه!.

وكلما اعتلى البناء أكثر فأكثر كان الناس يأتون للتفرج ، وما عسى أن يفعل فرعون بهذا البناء وهذا البرج.

صعد البناء إلى مرحلة بحيث أصبح مشرفا على جميع الأطراف. وكتب بعضهم : إنّ المعمارين بنوا هذا البرج بناء بحيث جعلوا حوله سلالم حلزونية يمكن لراكب الفرس أن يرتقي الى أعلى البرج.

ولمّا بلغ البناء تمامه ولم يستطع البناؤون أن يعلوه أكثر من ذلك جاء فرعون بنفسه يوما وصعده بتشريفات خاصة فنظر إلى السماء فوجدها صافية كما كان ينظرها من الأرض لم تتغير ولم يطرأ عليها جديد.

المعروف أنّه رمى سهما إلى السماء ، فرجع السهم مخضبا بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس : اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى(١) .

ومن المسلم به أن جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعا أعمى وأصم ، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان ، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق!.

ونقلوا هذا الخبر أيضا ، وهو أنّ البناء لم يدم طويلا «وطبعا لا يدوم» أجل لقد تهدم البناء وقتل جماعة من الناس ونقلوا في هذا الصدد قصصا أخرى ، وحيث أن لم تتّضح صحتها لنا فقد صرفنا عنها النظر.

والذي يلفت النظر أن فرعون في كلامه هذا( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) كان قد استعمل نهاية الخبث ومنتهى الشيطنة إذ كان يرى من المسلّم به أنّه إله!! وكان مدار بحثه : هل يوجد إله غيره؟!! ثمّ ينفي أن يكون هناك إله سواه إله ؛ لعدم وجود الدليل!!

__________________

(١) مقتبس من تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآيات محل البحث ، ج ٨٩ ، ص ٣٦٢.

٢٣٦

وفي المرحلة الثّالثة والأخيرة ، ومن أجل أن يقيم الدليل على عدم وجود إله غيره بنى ذلك الصرح!.

كل هذه الأمور تؤكّد جيدا أنّه كان يعرف تلك المسائل ، إلّا أنّه كان يضلل الناس ويصرف أفكارهم عن الحق ، ليحفظ موقعه وحكومته!.

بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه ، وعدم إذعانهم لمسألتي «المبدأ والمعاد» بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب انكار هذين الأصلين فيقول :( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ ) .

هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يبعد عن نفسه بعوضة ، وربّما قتله ميكروب لا يرى بالعين المجرّدة كيف يمكن له أن يدعي العظمة والألوهيّة!؟.

ورد في الحديث القدسي أنّ الله سبحانه يقول : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النّار»(١) .

ومن البديهي أنّ الله لا يحتاج إلى أوصاف كهذه ولكن حالة الطغيان والعدوان تستولي الإنسان حينما ينسى نفسه ، وتملأ ريح الكبر والغرور فكره!

لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟!

يقول القرآن الكريم :( فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ ) .

أجل ، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم ، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرة لهم!.

من الطريف أنّ القرآن يعبّر بـ «نبذناهم» من مادة «نبذ» على زنة «نبض» ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيدا ، ترى ما قيمة هذا الإنسان الأناني المتكبر المتجبّر الجاني المجرم؟!

أجل ، لقد نبذنا هؤلاء الذين لا قيمة لهم من المجتمع البشري ، وطهّرنا

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، التّفسير الكبير ، للفخر الرازي ، تفسير الميزان وتفاسير أخر ذيل الآية محل البحث.

٢٣٧

الأرض من لوث وجودهم.

ثمّ ، يختتم الآية بالتوجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) .

هذا النظر ليس بعين «البصر» بل هو بعين «البصيرة» ، وهو لا يخص ظلمة الماضي وفراعنة العهد القديم ، بل إن ظلمة هذا العصر ليس لهم من مصير سوى هذا المصير المشؤوم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا في شأنهم :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) .

هذا التعبير أوجد إشكالا لدى بعض المفسّرين ، إذ كيف يمكن أن يجعل الله أناسا أئمة للباطل؟!

ولكن هذا الأمر ليس معقدا لأنّه أولا إن هؤلاء هم في مقدمة جماعة من أهل النّار ، وحين تتحرك الجماعات من أهل النّار ، فإنّ هؤلاء يتقدمونهم إلى النّار! فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال ، فهم في الآخرة ـ أيضا ـ أئمّة النّار ، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم!.

ثانيا كونهم أئمّة الضلال ـ في الحقيقة ـ نتيجة أعمالهم أنفسهم ، ونعرف أن تأثير كل سبب هو بأمر الله ، فهم اتخذوا طريقا يؤدي بهم إلى الضلال وينتهي بهم إلى أن يكونوا أئمّة الضالين ، فهذه حالهم في يوم القيامة!.

ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة!( وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ! ) (١) لعنة الله معناها طردهم من رحمته ، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحا ومساء وفي كل وقت. وأحيانا تشملهم اللعنة العامة. وأحيانا يأتي اللعن خاصّة

__________________

(١) «المقبوح» مشتق من «القبح» ومعناه السوء. ما فسّره بعضهم بأنّ المقبوح معناه المطرود أو المفضوح أو المغضوب عليه وما شاكلها ، فهو من التّفسير بلازم المعنى ، وإلّا فالمقبوح معناه واضح.

٢٣٨

لبعضهم. حيث أنّ كل من يتصفح تأريخهم يلعنهم ، ويتنفّر من أعمالهم.

وعلى كل حال فإنّ سوء أعمالهم في هذه الدنيا ، هو الذي قبّح وجوههم في الدار الآخرة «يوم القيامة» ، لأنّه يوم البروز ويوم هتك الحجب.

* * *

ملاحظة!

أئمّة «النّور» وأئمّة «النّار»

هناك طائفتان من الأئمة في منطق القرآن الكريم ، فأئمة للمتقين يهدونهم إلى الخيرات ، كما ورد في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ ) (١) .

فهؤلاء أئمّة أصحاب مناهج واضحة ، لأنّ التوحيد الخالص والدعوة إلى الخير والعمل الصالح والحق والعدالة ، تشكّل متن مناهجهم فهم أئمّة النور ، وخطهم متصل بسلسلة الأنبياء والأوصياء الى خاتم النّبيين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائهعليهم‌السلام .

وهناك أئمّة للضلال وقد عبّرت عنهم الآيات محل البحث بأنّهم :( أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) !.

ومن خصائص هاتين الطائفتين من الأئمّة ، كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يلي : «إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان ، قال الله تبارك وتعالى :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم ، قال :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) يقدمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٧٣.

٢٣٩

حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف كتاب الله»(١) .

وبهذا المعيار يتّضح معرفة هاتين الطائفتين من الأئمة ففي يوم القيامة الذي تتمايز فيه الصفوف ، كل جماعة تمضي خلف إمامها ، فأهل النار إلى النّار ، وأهل الجنّة إلى الجنّة كما يقول القرآن الكريم :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (٢) .

وقلنا مرارا : إنّ يوم القيامة تجسم عظيم عن هذا العالم «الصغير» وأولئك الذين ارتبطوا بإمام معين واقتفوا أثره ، فهم سائرون خلفه هناك أيضا.

ينقل «بشر بن غالب» عن الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام أنّه سأله عن تفسير الآية( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) فقالعليه‌السلام : «إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه ، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها ، هؤلاء في الجنّة ، وهؤلاء في النّار وهو قولهعزوجل ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (٣) .

من الطريف أن فرعون الذي تقدّم قومه في هذه الدنيا وأغرقهم بمعيّته في أمواج النيل ، يقدم قومه يوم القيامة ـ أيضا ـ يخزيهم بمعيته في نار جهنم ، إذ يقول القرآن في شأنه:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) .(٤)

ونختم هذا البحث بحديث الإمام عليعليه‌السلام في شأن المنافقين حيث يقولعليه‌السلام : «ثمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النّار بالزور والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس»(٥) .

* * *

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) الإسراء ، ٧١.

(٣) أمالي الصدوق لما ورد في نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٢.

(٤) سورة هود ، ٩٨.

(٥) راجع نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

٦ ـ حقيقة تأريخية يسعى بعضهم إلى طمس معالمها

من المتفق عليه بين جميع المؤرخين والمفسّرين تقريبا أنّه لما نزلت الآيات الأولى من سورة براءة ، وألغيت العهود التي كانت بين المشركين والمسلمين ، أمر النّبي أبا بكر أن يبلغ هذه الآيات في موسم الحج ، ثمّ أخذها منه وأعطاها علياعليه‌السلام ليقوم بتبليغها ، فقرأها علي على الناس في موسم الحج. وبالرغم من اختلاف الرّوايات في جزئيات هذه القصة وجوانبها المتفرقة ، إلّا أن ذكر النقاط التالية يمكن أن يجلو لنا حقيقة ناصعة :

١ ـ يروي أحمد بن حنبل ـ إمام أهل السنة المعروف ـ في مسنده عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل فلانا «المقصود بفلان هو أبو بكر كما سيتّضح ذلك بعدئذ» وأعطاه سورة التوبة ليبلغها الناس في موسم الحج ، ثمّ أرسل عليّا خلفه وأخذها منه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه»(١) .

٢ ـ كما جاء في المسند ذاته عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة براءة مع أبي بكر ليبلغها ، فلمّا وصل أبو بكر إلى ذي الحليفة ـ ويدعى بمسجد الشجرة أيضا ـ وهو وعلى بعد مسافة فرسخ عن المدينة تقريبا ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع عليعليه‌السلام (٢) .

٣ ـ وورد أيضا في المسند نفسه ـ بإسناد آخر ـ عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه لما بعثه النّبي ومعه براءة قال : يا رسول الله لست خطيبا ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا محيص عن ذلك ، فإمّا أن أذهب بها أو تذهب بها ، فقال علي : إذا كان ولا بدّ فأنا أذهب بها. فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك»(٣) .

٤ ـ وينقل النسائي ـ أحد كبار علماء السنة ـ في خصائصه ، عن زيد بن

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ٣٣١ ، ط مصر.!

(٢) مسند أحمد بن حنبل ، ج ٣ ، ص ٢١٢.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ١٥٠.

٥٢١

سبيع ، عن عليعليه‌السلام ، أن النّبي أرسل أبا بكر بسورة براءة إلى أهل مكّة ، ثمّ بعث عليّا خلفه ليأخذ الكتاب منه «يعني السورة» فلحقه في الطريق وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر حزينا أسيفا ، وقال : يا رسول الله أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، إلّا أنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي»(١) .

٥ ـ وفي سند آخر أيضا ، عن عبد الله بن أرقم ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا بكر بسورة براءة ، فلمّا سار وبلغ بعض الطريق بعث النّبي عليا فلحقه وأخذ منه السورة ، فذهب بها علي إلى مكّة ، فرجع أبو بكر إلى النّبي متأثرا فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤدي عنّي إلّا أنا أو رجل منّي»(٢) .

٦ ـ وأورد ابن كثير ـ المفسّر المعروف ـ عن أحمد بن حنبل ، عن حنش ، عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أنّه عند ما نزلت عشر آيات من سورة براءة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا أبا بكر وأعطاه إيّاها ليبلغها أهل مكّة ، ثمّ بعث خلفي وأمرني بالذهاب خلفه وأخذ الكتاب منه ، فعاد أبو بكر إلى النّبي وقال : أنزل فيّ شيء؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولكنّ جبرئيل جاءني وقال : لن يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك»(٣) .

٧ ـ ونقل ابن كثير هذا المضمون عينه عن زيد بن سبيع(٤) .

٨ ـ كما أنّه روى هذا الحديث عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (محمّد الباقرعليه‌السلام ) في تفسيره(٥) .

٩ ـ وروى العلّامة ابن الأثير وهو ـ الآخر ـ من علماء السنة الكبار ، في «جامع الأصول» عن الترمذي عن أنس بن مالك ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل سورة

__________________

(١) الخصائص للنسائي ، ص ٢٨.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٣٢٢.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

٥٢٢

براءة مع أبي بكر ثمّ دعاه ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذه إلّا رجل من أهلي» فدعا عليا فأعطاه إيّاها(١) .

١٠ ـ وروى محب الدين الطبري ، في كتابه ذخائر العقبى ، عن أبو سعيد أو أبي هريرة ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أبا بكر أن يتولى أمر الحج ، فلمّا مضى وبلغ ضجنان سمع أبو بكر صوت بعير علي فعرفه ، فجاء إلى علي وقال : فيم جئت؟

فقالعليه‌السلام : أرسل النّبي معي سورة براءة. فلمّا رجع أبو بكر إلى النّبي وأظهر تأثره من تغيير «الرسالة» قال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغ عنّي غيري أو رجل مني» يعني عليا(٢) .

وقد صرحت روايات أخرى أنّ النّبي أعطى ناقته عليا ليركبها ويأتي بها أهل مكّة فيبلغهم ، فلمّا وصل منتصف الطريق سمع أبو بكر صوت ناقة رسول الله فعرفها.

وهذا النص ـ مع ما ورد آنفا ـ يدل على أنّ الناقة كانت ناقة النّبي وقد أعطاها عليّا ، لأهمية ما أمر به.

وقد روى هذا الحديث كثير من كتب أهل السنة مسندا تارة ، ومرسلا تارة أخرى ، وهو من الأحاديث المتفق عليها ، ولا يطعن فيه أبدا.

وطبقا لبعض الرّوايات الواردة عن أهل السنة أنّ أبا بكر لما صرف عن إبلاغ سورة براءة ، جعل أميرا على الحاج بمكّة.

توضيح وتحقيق :

هذا الحديث يثبت ـ بجلاء ـ فضيلة للإمام عليعليه‌السلام ، إلّا أنّنا ـ ويا للأسف ـ نجد مثل هذه الأحاديث لا ينظر إليها بعين الإنصاف والحق ، إذ يسعى بعضهم إلى

__________________

(١) جامع الأصول ، ج ٩ ، ص ٤٧٥.

(٢) ذخائر العقبى ، ص ٦٩.

٥٢٣

محوها ونسيانها كليّا ، أو إلى التقليل من أهميتها وقيمتها بأساليب شتى ملتوية :

١ ـ فمثلا يتناول صاحب تفسير المنار تارة ـ من الحديث آنف الذكر ـ المقطع الذي يتعلق بجعل أبي بكر أميرا على الحاج ، ويختار الصمت والسكوت في بقية الحديث الذي يدور حول أخذ سورة من أبي بكر ليبلغها علي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يبلغها إلّا أنا أو رجل منّي» يعني عليّاعليه‌السلام .

مع أنّ سكوت قسم من الأحاديث عن هذا الموضوع لا يكون دليلا على أن نهمل جميع تلك الأحاديث الواردة في شأن عليعليه‌السلام ولا نأخذها بنظر الإعتبار!! فأسلوب التحقيق يقتضي تسليط الضوء على الأحاديث الواردة في هذا الشأن كافة ، حتى ولو كانت على خلاف ما يجنح إليه الكاتب وتميل نفسه ، وأن لا يصدر عليها حكما مسبقا.

٢ ـ ويقوم بعض المفسّرين تارة بتضعيف سند الحديث ، كما في بعض الأحاديث الواردة عن حنش والسمّاك «كما فعله المفسّر آنف الذكر».

مع أنّ هذا الحديث ليس له طريق واحد أو طريقان ، بل له طرق شتى في كتبهم المعتبرة.

٣ ـ ومن العجيب الغريب أن يوجهوا مثل الحديث آنف الذكر توجيها مثيرا ، فيقولون : إنّما أعطى النّبي سورة براءة عليّا ، لأنّ العرب اعتادت عند إلغاء المواثيق أو العهود أن يمضي الشخص بنفسه أو يرسل أحدا من أهله.

مع أنّه ورد التصريح عن النّبي :

أوّلا : من طرق متعددة ، أنّ جبرئيل أمره بأن يبلغ علي سورة براءة أو هكذا أمرت! ثانيا : إنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن طرقهم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام : ينبغي أن تبلغ سورة براءة ، وإن لم تفعل فينبغي أن أبلغها أنا (مؤدي الحديث).

٥٢٤

ترى ألم يكن العباس عمّ النّبي أو أحد من أقارب النّبي موجودا يومئذ بين المسلمين! حتى يقول النّبي لعلي : إن لم تذهب فينبغي أن أذهب ، لأنّه لا يبلغها عني إلّا أنا أو رجل منّي؟!

ثالثا : لم يذكروا دليلا لأصل هذا الموضوع ، وهو أنّه كان من عادة العرب (كذا وكذا) وأكبر الظن أنّهم وجّهوا الحديث آنف الذكر وفق ميولهم ونزعاتهم! رابعا : جاء في بعض الرّوايات المعتبرة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يذهب بها إلّا رجل منّي وأنا منه» أو ما شابه ذلك.

وهذا التعبير يدل على أنّ النّبي كان يعدّ عليّا كنفسه ، ويعد نفسه كعلي أيضا. وهذا المضمون تناولته آية المباهلة.

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفا أنّنا لو تركنا التعصب الأعمى والأحكام المسبقة جانبا ، وجدنا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعله هذا أبان أفضلية عليعليه‌السلام على جميع الصحابة إنه هذا إلا بلاغ.

* * *

٥٢٥

الآيتان

( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) )

التّفسير

إلغاء عهود المشركين :

كانت في المجتمع الإسلامي ومحيطه طوائف شتى ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخذ منها موقفا خاصّا يتناسب وموقفها منه.

فطائفة منها مثلا لم يكن لها أيّ عهد مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لم يكن له أيّ عهد معها.

وطوائف أخرى عاهدت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية ـ وأمثالها ـ على ترك المخاصمة والمنازعة ، وكانت عهود بعضهم ذات أجل مسمى ، وبعض العهود لم تكن ذات أجل مسمى.

وقد نقضت بعض تلك الطوائف عهودها من جانب واحد ، وبدون أي سبب يجيز النقض وذلك بمظاهرتها أعداء الإسلام. أو حاولت اغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٥٢٦

كما هو الحال في يهود بني النضير وبني قريظة ، فواجههم النّبي بشدة وطردهم من المدينة ، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول ، سواء كانت ذات أجل مسمى أو لم تكن.

الآية الأولى من الآيتين محل البحث تعلن للمشركين كافة( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

ثمّ أمهلتهم مدّة أربعة أشهر ليفكروا فيها ويحدّدوا موقفهم من الإسلام ، فإمّا أن يتركوا عبادتهم للأصنام ، أو يتهيئوا للمواجهة والقتال ، فقالت :( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر (١) وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ )

* * *

ملاحظتان

١ ـ هل يصحّ إلغاء المعاهدة من جانب واحد؟!

نحن نعرف أنّ الإسلام أولى أهمية قصوى للوفاء بالعهد والالتزام بالمواثيق حتى مع الكفار والمشركين ، وهنا ينقدح سؤال وهو : كيف أمر القرآن بإلغاء العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين من جانب واحد؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة الأمور التالية :

أوّلا : كما صرّح في الآيتين (٧) و (٨) من هذه السورة فإنّ إلغاء هذا العهد لم يكن دون أية مقدمة ، بل هناك قرائن ودلائل ظهرت من جانب المشركين تدلّ على نقضهم عهدهم ، وأنّهم كانوا على استعداد ـ في ما لو استطاعوا ـ أن يوجهوا ضربة قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم التي عاهدوها ، ومن المنطقي

__________________

(١) «سيحوا» فعل أمر مشتق من «السياحة» ومعناها الجولة الهادفة.

٥٢٧

أنّه إذا رأى الإنسان عدوّه يتربص به ويستعد لنقض عهده ، ولديه قرائن على ذلك وعلائم واضحة أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله ويعلن إلغاء عهده ويردّ عليه بما يستحق.

ثانيا : ما المانع من إلغاء العهود والمواثيق التي تفرض في ظروف استثنائية على بعض الأمم والشعوب ـ فيضطرون مكرهين على قبولهم والرضا بها ـ من جانب واحد إذا حصلوا على القدرة الكافية لإلغائها.

وعبادة الأصنام ليست عقيدة ولا فكرا ، بل هي خرافة ووهم باطل خطر ، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإنساني ، فإذا كانت قوة عبدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيرة العربية ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجبورا على معاهدتهم ومصالحتهم ، فإنّ ذلك لا يعني أنّه لا يحق له إلغاء ـ معاهدته إذا ما قويت شوكته ـ وأن يبقى على عهده الذي يخالف العقل والمنطق والدراية.

وهذا يشبه تماما ظهور مصلح كبير ـ مثلا ـ بين عبدة البقر ، فيقوم بعمل إعلامي كبير ، وحين يواجه ضغوطا شديدة يضطر إلى عقد هدنة بينهم وعند ما يجتمع له أتباع بقدر كاف ينتفض لإزالة هذه الخرافة ، والأفكار المنحطة ، ويلغي معاهدته.

ولهذا نلحظ أنّ هذا الحكم مختص بالمشركين ، أمّا أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية من الذين كان بينهم وبين النّبي نوع من المواثيق والمعاهدات ، فقد بقيت على حالها ولم يلغ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.

أضف إلى ذلك أن إلغاء عهود المشركين لم يكن قد حدث بصورة مفاجئة ، بل أمهلوا مدّة أربعة أشهر ، وأعلن هذا القرار في الملأ العام ، وفي اجتماع الحاج يوم عيد الأضحى ، وفي البيت الحرام ، لتكون لهم الفرصة الكافية للتفكير ، ولتحديد الموقف ، لعلهم يرجعون عن تلك الخرافة التي كانت أساس تفرقتهم

٥٢٨

وتشتتهم وجهلهم ، ويرتدعون عن خيانتهم. والله سبحانه لم يرض لهم أن يكونوا غافلين عن هذا القرار ، فلم يسلبهم فرصة التفكّر ، فإنّ لم يسلموا فقد كانت لهم الفرصة الكافية للاستعداد للمواجهة القتالية والحرب ، لئلا تكون المواجهة غير متكافئة الطرفين.

فلو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليرعى الأصول الإنسانية والأخلاقية لما كان أمهلهم مدّة أربعة أشهر ، والفرصة الكافية لأن توقظهم من نومتهم ؛ أو يستعدوا لتهيئة القوّة القتالية المناسبة لمواجهة المسلمين ومحاربتهم إيّاهم بها.

أجل ، لو لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لما أمهلهم ولحاربهم من يوم إلغاء المعاهدة!

ومن هنا فإنّنا نجد الكثير من أولئك المشركين ـ عبدة الأصنام ـ راجعوا أنفسهم وفكروا مليّا في التعاليم الإسلامية حتى ثابوا إلى رشدهم واعتنقوا الإسلام.

٢ ـ متى بدأت الأشهر الأربعة؟

هناك بين المفسّرين كلام كثير في الجواب على هذا السؤال ، إلّا أنّ ظاهر الآي يدل على أن المدّة بدأت منذ إعلان البلاغ المهم على المشركين ، أي من يوم عيد الأضحى ، وهو العاشر من شهر ذي الحجة ، وانتهت في العاشر من شهر ربيع الثاني من السنة التالية.

ويؤيد ذلك ما ورد من حديث مروي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في هذا الشأن «راجع تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٣».

* * *

٥٢٩

الآيتان

( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) )

التّفسير

العهود المحترمة :

نلحظ في هاتين الآيتين البيّنتين مزيد تأكيد على موضوع إلغاء المعاهدات التي كانت بين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمشركين ، حتى أنّ تاريخ الإلغاء قد أعلن في هذه الآية إذ نقول :( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (١) .

__________________

(١) جملة وأذان إلخ. معطوفة على جملة : براءة من الله. وهناك احتمالات أخرى في تركيب الجملة «ونظمها» ، غير أن ما ذكرناه أكثر ظهورا كما يبدوا.

٥٣٠

وفي الحقيقة ، أنّ الله سبحانه يريد في هذا الإعلان العام في مكّة المكرمة ، وفي ذلك اليوم العظيم ، أن يوصد كل ذريعة يتذرع بها المشركون والأعداء ، ويقطع ألسنة المفسدين ، لئلا يقولوا : إنّهم استغفلوا في الحملة أو الهجوم عليهم ، وإن ذلك ليس من الشّهامة والرجولة.

كما أنّ التّعبير بـ «إلى الناس» مكان أن يقال «إلى المشركين» يدل على وجوب إبلاغ هذا «الأذان» والإعلام لجميع الناس الحاضرين في مكّة ذلك اليوم ، ليكون غير المشركين شاهدا على هذا الأمر أيضا.

ثمّ يتوجه الخطاب في الآية إلى المشركين أنفسهم ترغيبا وترهيبا ، لعلهم يهتدون ، إذ تقول الآية :( فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

أي أنّ الاستجابة لرسالة التوحيد فيها صلاحكم وفيها خير لكم ولمجتمعكم ودنياكم وآخرتكم ، فلو تدبّرتم بجد وصدق لرأيتم أن قبول الدعوة هو البلسم الشافي لكلّ جراحاتكم وليس في الأمر منفعة لله أو لرسوله.

ثمّ إنّ الآية تحذر المخالفين المعاندين المتعصبين فتقول :( وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ) . فلا يمكنكم الخروج من دائرة قدرته المطلقة بحال.

وأخيرا فإنّ الآية أنذرت المعاندين المتعصبين قائلة :( وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .

وكما أشرنا من قبل فإنّ إلغاء هذه العهود من جانب واحد ـ ورفض عهد المشركين ـ يختص بأولئك الذين دلّت القرائن على استعدادهم لنقض عهدهم وبدت بوادره ، لذلك فإنّ الآية استثنت قسما منهم لوفائهم بالعهد ، فقالت( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

* * *

٥٣١

ملاحظات

١ ـ الحج الأكبر!

اختلف المفسّرون في المراد من قوله تعالى :( يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) والذي نستفيده من كثير من الرّوايات الواردة عن الفريقين ، روايات أهل البيتعليهم‌السلام وأهل السنة ، أنّه يوم العاشر من ذي الحجة «عيد الأضحى» وبتعبير آخر «يوم النحر».

وانتهاء المدة باليوم العاشر من شهر ربيع الثّاني «للسنة العاشرة» ، وفقا لما جاء في المصادر الإسلامية ، دليل آخر على هذا الموضوع : أضف إلى ذلك كله فإنّ يوم النحر في الواقع ينتهي فيه القسم الأساس من أعمال الحج ، ومن هنا فيمكن أن يدعى ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر(١) .

وأمّا سبب تسميته بالحج الأكبر ، فلأنّه اجتمع في ذلك العام جميع الطوائف من المسلمين وعبدة الأوثان والمشركين ، [كما اعتادوا عليه في موسم الحج] إلّا أنّ هذا الأمر لم يتحقق في السنين التالية «لمنع غير المسلمين من الحج».

وهناك تفسير آخر مضافا إلى التّفسير المذكور آنفا وهو أن المراد منه مراسم الحج في قبال مراسم العمرة التي يعبر عنها بالحج الأصغر.

وهذا التّفسير جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ، ولا يمنع أن تكون كلتا العلّتين مدعاة لهذه التسمية(٢) .

__________________

(١)جاء في تفسير نور الثقلين ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال : «إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حج المسلمون والمشركون ولم يحج المشركون بعد تلك السنة. (ج ٢ ، ص ١٨٤)

(٢) وجاء في التّفسير المذكور آنفا عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في جوابه لبعض أصحابه : الأكبر هو يوم النحر والأصغر العمرة (ج ٢ ، ص ١٨٦)

٥٣٢

٢ ـ المواد الأربع التي أعلنت ذلك اليوم

وإن كان القرآن الكريم أعلن براءة الله من المشركين بشكل مطلق ، إلّا أنّ الذي يستفاد من الرّوايات أنّ عليّاعليه‌السلام قد أمر بإبلاغ أربع مواد إلى الناس ، وهي :

١ ـ إلغاء عهد المشركين.

٢ ـ لا يحق للمشركين أن يحجّوا في المواسم المقبلة.

٣ ـ منع العراة والحفاة من الطواف الذي كان شائعا ومألوفا حتى ذلك الوقت.

٤ ـ منع المشركين من دخول البيت الحرام.

وقد جاء في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ الإمام عليا خطب في موسم الحج ذلك العام فقال : «لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يحجن البيت مشرك ، ومن كان له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم تكن له مدة فمدته أربعة أشهر».

وفي بعض الروايات إشارة إلى المادة الرّابعة ، وهي عدم دخول المشركين وعبدة الأصنام البيت الحرام(١) .

٣ ـ من هم الذين كانت لهم عهود «إلى مدّة»

يظهر من أقوال المؤرخين وبعض المفسّرين أنّ الذين كانت لعهدهم مدة ، هم جماعة من بني كنانه وبني ضمرة ، فقد بقي من عهدهم في ترك المنازعة تسعة أشهر ، وقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده وفيّا ، لأنّهم بقوا أوفياء لعهدهم ولم يظاهروا المشركين في مواجهة الإسلام حيت انتهت مدّتهم(٢) .

وقد عدّ بعضهم طائفة بني خزاعة من هؤلاء الذين كان لعهدهم مدّة.(٣)

* * *

__________________

(١) جاء في بعض الرّوايات منع المشركين من دخول المسجد.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ذيل الآية محل البحث.

(٣) تفسير المنار ، ج ١٠ ، ذيل الآية محل البحث.

٥٣٣

الآيتان

( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) )

التّفسير

الشدّة المقرونة بالرّفق :

نقرأ في الآيتين أعلاه بيان وظيفة المسلمين بعد انتهاء مدّة إمهال المشركين «الأشهر الأربعة» وقد أصدر القرآن أوامره الصارمة في هذا الصدد فقال :( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) .

ثمّ يقول :( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٢) .

__________________

(١) الفعل «انسلخ» مأخوذ من الانسلاخ ومعناه الخروج ، وأصله من «سلخ الشاة» أي إخراج الشاة من جلدها عند الذبح.

(٢) المرصد مأخوذ من الرّصد ويعني الطريق أو الكمين.

٥٣٤

ويلاحظ في هذه الآية أربعة أوامر صارمة صادرة في شأن المشركين «إيصاد الطرق بوجههم ، محاصرتهم ، أسرهم ، ثمّ قتلهم». وظاهر النص أنّ الأمور الأربعة ليست على نحو التخيير ، بل ينبغي ملاحظة الظروف والمحيط والزمان والمكان والأشخاص ، والعمل بما يناسب هذه الأمور ، فلو كان في الأسر والمحاصرة وإيصاد السبيل بوجه المشركين الكفاية فيها ، وإلّا فلا محيص عن قتالهم.

وهذه الشدّة متناغمة ومتوائمة مع منهج الإسلام وخطته في إزالة الوثنية وقلعها من جذورها ، وكما أشرنا إلى ذلك سلفا ، فإنّ حرية الإعتقاد «أي عدم إكراه أهل الأديان الأخرى على قبول الإسلام» تنحصر في أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا تشمل عبدة الأوثان ، لأنّ الوثنية ليست عقيدة صحيحة ، ولا دينا كي تلحظ بعين الاحترام ، بل هي تخلّف وخرافة وانحراف وجهل ، ولا بدّ من استئصال جذورها بأي ثمن كان وكيف ما كان.

وهذه الشدّة والقوّة والصرامة لا تعني سدّ الطريق ، ـ طريق الرجوع نحو التوبة ـ بوجههم ، بل لهم أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا إلى سبيل الحق ، ولذلك فإنّ الآية عقبت بالقول :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) .

وفي هذه الحال ، أي عند رجوعهم نحو الإسلام ، لن يكون هناك فرق بينهم وبين سائر المسلمين ، وسيكونون سواء وإياهم في الحقوق والأحكام.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . يتوب على عباده المنيبين إليه.

وتستكمل الآية التالية هذا الموضوع بأمر آخر ، كما يتّضح بجلاء أن هدف الإسلام من هذا الأمر إنّما هو نشر التوحيد والحق والعدالة ، وليس هو الاستثمار أو الاستعمار وامتصاص المال ، أو الاستيلاء على أراضي الآخرين ، إذ تقول الآية :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ) .

أي عليك أن تعامل من يلجأ إليك من المشركين برفق ولطف ، وامنحه

٥٣٥

المجال للتفكير حتى يبيّن له محتوى دعوتك في كمال الإرادة والحرية ، فإذا أشرقت أنوار الهداية في قلوبهم فسيؤمنون بدعوتك.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) وأوصله إلى مكان آمن حتى لا يعترضه أحد في طريقه.

وأخيرا فإنّ الآية تبين علة هذا الحكم ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ) .

فبناء على ذلك لو فتحت أبواب اكتساب المعرفة بوجوههم ، فإنّه يؤمّل فيهم خروجهم من الوثنية التي هي وليدة الجهل ـ والتحاقهم بركب التوحيد الذي هو وليد العلم والمعرفة.

وقد ورد في كتب السنة والشيعة أنّ أحد المشركين (عبدة الأصنام) سأل عليّاعليه‌السلام بعد إلغاء المعاهدة فقال : يا ابن أبي طالب ، لو أراد أحد أن يواجه النّبي بعد هذه المدّة «الأشهر الأربعة» ويسأله أو يسمع كلام الله منه ، أهو آمن؟!

فقال عليعليه‌السلام : أجل ، إنّ الله يقول :( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ ) (١) .

وهكذا تتوازن وتتساوى كفتا الشدّة المستفادة من الآية الأولى ـ محل البحث ـ واللين المستفاد من الآية التي تليها ، فإنّ سبيل التربية قائم على الشدة المشفوعة باللين ، ليكون منهما الدواء الناجع.

ملاحظات

* * *

١ ـ ما المراد من الأشهر الحرم؟

بالرّغم من أنّ المفسّرين قد بحثوا كثيرا في هذا الشأن ، إلّا أنّه ـ مع ملاحظة ما جاء في الآيات المتقدمة ـ يظهر أنّ المراد منها هي أربعة الأشهر التي كانت مدّة

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٦ وتفسير الفخر الرازي ، ص ٢٢٦.

٥٣٦

الإمهال للمشركين ، والتي بدأت من عاشر ذي الحجة للسنة التاسعة وانتهت بالعاشر من شهر ربيع الثّاني من السنة العاشرة الهجرية.

وهذا التّفسير يعتقد به أغلب المحققين ، والأهم من ذلك أنّ كثيرا من الرّوايات صرّحت بهذا المضمون أيضا(١) .

٢ ـ هل الصّلاة والزّكاة شرط في قبول الإسلام؟

يستفاد من الآيتين محل البحث أنّه لا بدّ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لقبول توبة المشركين ، ولهذا فقد استدل بعض فقهاء أهل السنة على أن ترك الصلاة والزكاة دليل على الكفر.

إلّا أنّ الحق هو أنّ المراد من هذين الحكمين الإسلاميين هو متى ما شك في إسلام شخص ما ، كما هي الحال في المشركين يومئذ ، فعلامة إسلامه أن يؤدي هاتين الوظيفتين «الصلاة ، والزكاة».

أو أنّ المراد هو أن يقرّوا بالصلاة والزكاة على أنّهما أمران إلهيان ويلتزموا بهما ، ويعترفوا بهما على أنّهما فرضان واجبان وإن قصّروا في أدائمها ، لأن هناك أدلة وافرة تقضي بأنّ تارك الصلاة أو الزكاة ليس كافرا ، بل يعدّ إسلامه ناقصا.

وبالطبع إن كان ترك الزكاة له دلالة على تحدّي الحكومة الاسلامية والثورة عليها فهو سبب للكفر ، إلّا أن هذا بحث آخر لا علاقة له بموضوعنا هذا.

٣ ـ الإيمان وليد العلم

يستفاد من الآيات محل البحث أنّ الباعث على عدم الإيمان هو الجهل ، وأساس الإيمان الأصيل هو العلم ، لهذا فينبغي توفير الإمكانات اللازمة لإرشاد الناس وهدايتهم ليعرفوا طريق الحقّ ، ولا يقبلوا الإسلام بواسطة التقليد إلا عميق.

* * *

__________________

(١) ورد في تفسير نور الثقلين ، الجزء الثّاني منه ذيل الآية محل البحث حديث بهذا الشأن (فراجع إن شئت).

٥٣٧

الآيات

( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) )

التّفسير

المعتدون النّاقضون العهد :

كما لا حظنا في الآيات السابقة الإسلام ألغى جميع العهود التي كانت بينه وبين المشركين وعبدة الأوثان ـ إلّا جماعة خاصّة ـ وأمهلهم مدّة أربعة أشهر ليقرروا موقفهم منه.

وفالآيات ـ محل البحث ـ بيان لعلة إلغاء العهود من قبل الإسلام ، فتقول الآية الأولى من هذه الآيات مستفهمة استفهاما إنكاريا :( كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ

٥٣٨

عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ) ؟! أي أنّهم لا ينبغي لهم أن يتوقعوا أو ينتظروا الوفاء بالعهد من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن جانب واحد ، في وقت تصدر منهم المخالفات وعدم الوفاء بالعهد.

ثمّ استثنت الآية مباشرة أولئك الذين لم ينقضوا عهدهم ، بل بقوا أوفياء له ، فقالت :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .

وفي الآية التالية يثار هذا الموضوع بمزيد الصراحة والتأكيد ، ويستفهم عنه استفهاما إنكاريا أيضا ، إذ تقول الآية :( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وكلمة «الإلّ» معناها القرابة ، وقال بعضهم : إنّها تعني هنا العهد والميثاق.

فعلى المعنى الأوّل أي «القرابة» يكون المراد من ظاهر الآية أنّه بالرغم من أنّ قريشا تربطها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعض المسلمين علاقة قربى ، إلّا أنّها لا ترقب هذه القرابة أو الرحم ولا ترعى حرمتها ، فكيف إذن تتوقع من النّبي والمسلمين احترام علاقتهم بها.

وعلى المعنى الثّاني تكون كلمة «إلّ» مؤكّدة بكلمة (ذمّة) وتعني العهد والميثاق أيضا ، قال الراغب في المفردات : إن «الإل» كل حالة ظاهرة من عهد حلف وقرابة تئل (أي تلمع) فلا يمكن إنكاره(١) .

وتضيف الآية معقبة بأن هؤلاء يريدون أن يخدعوكم بألفاظهم المزوّقة فقالت :( يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ) .

لأن قلوبهم مليئة بالحقد والقسوة وطلب الانتقام وعدم الاعتناء بالعهد وعلاقة القربى ، وإن أظهروا المحبّة بألسنتهم.

__________________

(١) المفردات ، ص ٢٠.

٥٣٩

وفي نهاية الآية إشارة إلى جذر هذا الموضوع وأساسه وهو فسقهم ، فتقول :( وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ) .

وفي الآية التالية بيان لبعض علائم فسقهم وعصيانهم ، إذ أعربت الآية عن ذلك على النحو التالي( اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) .

وقد جاء في بعض الرّوايات أن أبا سفيان أقام مأدبة ودعا إليها جماعة من الناس ، ليثير حفيظتهم وعداوتهم بوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الطريق.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تشير إلى هذه القصة ، إلّا أن الظاهر أن الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه القصّة وما شاكلها حيث أغمضوا أعينهم وصدوا عن سبيل الله وآياته من أجل منافعهم المادية التي لا تدوم طويلا.

ثمّ تعقب الآية بالقول :( إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فقد خسروا طريق السعادة وضيعوها ، وحرّموا الهداية ، وهم في الوقت ذاته أو صدوا الطريق بوجه الآخرين ، وأي عمل أسوأ من أن يحمل الإنسان وزره ووزر سواه!

أمّا في آخر آية من الآيات ـ محل البحث ـ فهي تأكيد آخر على ما ورد في الآيات المتقدمة ، إذ تقول الآية :( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

وهذه الخصلة فيهم لم يبتل بها المؤمنون فحسب بل يعتدون على كل من تناله أيديهم( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ) .

وبالرغم من أنّ مضمون هذه الآية تأكيد لما سبق من الآيات المتقدمة ، إلّا أنّ هناك فرقا بينهما ، حيث كان الكلام في ما سبق على عدم رعاية المشركين حرمة لخصوص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المتقّين حوله( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) أمّا الآية محل البحث فالكلام فيها عن عدم رعايتهم حرمة لكل مؤمن( لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) .

أي إن المشركين لا ينظرون إليكم (النّبي والخواص من الصحابة) نظرة تمتاز عن سواكم بل هذه النظرة ـ نظرة العداء والبغضاء ـ ينظر بها المشركون إلى

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606