الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 606

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 606 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 254792 / تحميل: 6687
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

والحاصل أنه كان يكبِّر كثيراً من الاُمور الصغيرة وكانت له روحية خاصة تحمله على ذلك.

ويشهد على ذلك أن الشيخ والنجاشي ربّما ضعفا رجلاً ، والغضائري أيضاً ضعفه ، لكن بين التعبيرين اختلافاً واضحاً.

مثلاً ذكر الشيخ في عبدالله بن محمد انه كان واعظاً فقيهاً ، وضعفه النجاشي بقوله : « إنه ضعيف » وضعَّفه الغضائري بقوله : « انه كذاب ، وضّاع للحديث لا يلتفت إلى حديثه ولا يعبأ به ».

ومثله علي بن أبي حمزة البطائني الذي ضعفه أهل الرجال ، فعرفه الشيخ بأنه واقفّي ، والعلاّمة بأنه احد عمد الواقفة. وقال الغضائري : « عليّ بن أبي حمزة لعنه الله ، أصل الوقف وأشدّ الخلق عداوة للوليّ من بعد أبي إبراهيم ».

ومثله إسحاق بن أحمد المكنّى بـ « أبي يعقوب أخي الاشتر » قال النجاشي : « معدن التَّخليط وله كتب في التخليط » وقال الغضائري : « فاسد المذهب ، كذّاب في الرواية ، وضّاع للحديث ، لا يلتفت إلى ما رواه »(1) .

وبذلك يعلم ضعف ما استدل به على عدم صحَّة نسبة الكتاب إلى ابن الغضائري من أن النجاشي ذكر في ترجمة الخيبري عن ابن الغضائري ، انه ضعيف في مذهبه ، ولكن في الكتاب المنسوب اليه : « إنه ضعيف الحديث ، غالي المذهب » فلو صحَّ هذا الكتاب ، لذكر النجاشي ما هو الموجود أيضاً(2) .

وذلك لما عرفت من أن الرجل كان ذا روحيَّة خاصَّة ، وكان إذا رأى

__________________

1 ـ لاحظ سماء المقال : 1 / 19 ـ 21 بتلخيص منّا.

2 ـ معجم رجال الحديث : 1 / 114 ، من المقدَّمات طبعة النجف ، والصفحة 102 طبعة لبنان.

١٠١

مكروهاً ، اشتدَّت عنده بشاعته وكثرت لديه شناعته ، فيأتي بألفاظ لا يصحّ التعبير بها الا عند صاحب هذه الروحية ، ولما كان النجاشي على جهة الاعتدال نقل مرامه من دون غلوّ وإغراق.

وبالجملة الآفة كلّ الآفة في رجاله هو تضعيف الأجلة والموثَّقين مثل « أحمد بن مهران » قال : « أحمد بن مهران روى عنه الكليني ضعيف » ولكن ثقة الاسلام يروي عنه بلا واسطة ، ويترحَّم عليه كما في باب مولد الزهراءعليها‌السلام (1) قال : « أحمد بن مهرانرحمه‌الله رفعه وأحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار الشيباني » إلى غير ذلك من الموارد.

ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على تضعيفاته ، فضلا عن معارضته بتوثيق النجاشي خبير الفنّ والشيخ عماد العلم. نعم ربما يقال توثيقاته في أعلى مراتب الاعتبار ولكنه قليل وقد عرفت من المحقق الداماد من أنه قل أن يسلم أحد من جرحه او ينجو ثقة من قدحه(2) . وقد عرفت آنفاً وسيأتي أن الاعتماد على توثيقه كالاعتماد على جرحه.

النظرية الخامسة

وفي الختام نشير إلى نظرية خامسة وان لم نوعز اليها في صدر الكلام وهي أنه ربما يقال بعدم اعتبار تضعيفات ابن الغضائري لانه كان جراحا كثير الردّ على الرواة ، وقليل التعديل والتصديق بهم ومثل هذا يعدّ خرقاً للعادة وتجاوزاً عنها ، وانما يعتبر قول الشاهد إذا كان انسانا متعارفاً غير خارق للعادة. ولأجل ذلك لو ادعى رجلان رؤية الهلال مع الغيم الكثيف في السماء وكثرة الناظرين ، لا يقبل قولهما ، لان مثل تلك الشهادة تعدّ على خلاف العادة ، وعلى ذلك فلا يقبل تضعيفه ، ولكن يقبل تعديله.

__________________

1 ـ الكافي : 1 / 458 ، الحديث 3.

2 ـ لاحظ سماء المقال : 22.

١٠٢

وفيه : أن ذلك إنما يتمّ لو وصل الينا كتاب الممدوحين منه ، فعندئذ لو كان المضعفون أكثر من الممدوحين والموثقين ، لكان لهذا الرأي مجال. ولكن يا للأسف! لم يصل الينا ذلك الكتاب ، حتى نقف على مقدار تعديله وتصديقه ، فمن الممكن أن يكون الممدوحون عنده أكثر من الضعفاء ، ومعه كيف يرمى بالخروج عن المتعارف؟

ولأجل ذلك نجد أن النسبة بين ما ضعفه الشيخ والنجاشي أو وثَّقاه ، وما ضعَّفه ابن الغضائري او وثقه ، عموم من وجه. فربَّ ضعيف عندهما ثقة عنده وبالعكس ، وعلى ذلك فلا يصحّ رد تضعيفاته بحجّة أنه كان خارجاً عن الحدّ المتعارف في مجال الجرح.

بل الحقّ في عدم قبوله هو ما أوعزنا اليه من أن توثيقاته وتضعيفاته لم تكن مستندة الى الحسّ والشهود والسماع عن المشايخ والثقات ، بل كانت مستندة الى الحدس والاستنباط وقراءة المتون والروايات ، ثمَّ القضاء في حقّ الراوي بما نقل من الرواية ، ومثل هذه الشهادة لا تكون حجة لا في التضعيف ولا في التوثيق. نعم ، كلامه حجة في غير هذا المجال ، كما إذا وصف الراوي بأنه كوفيٌّ او بصريٌّ أو واقفيٌّ او فطحيٌّ او له كتب ، والله العالم بالحقائق.

١٠٣
١٠٤

الفصل الرابع

المصادر الثانوية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الأربعة

2 ـ الجوامع الرجالية في العصور المتأخرة.

3 ـ الجوامع الرجالية الدارجة على منهج القدماء.

4 ـ تطوّر في تأليف الجوامع الرجالية.

١٠٥
١٠٦

1 ـ الأصول الرجالية الاربعة

* فهرس الشيخ منتجب الدين.

* معالم العلماء.

* رجال ابن داود.

* خلاصة الاقوال في علم الرجال.

١٠٧
١٠٨

الاصول الرجالية الاربعة

قد وقفت بفضل الابحاث السابقة ، على الاصول الاولية لعلم الرجال ، التي تعد امهات الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة ومؤلفو هذه الاصول يعدون في الرعيل الاول من علماء الرجال ، لا يدرك لهم شأو ولا يشق لهم غبار ، لانهم5 قد عاصروا أساتذة الحديث وأساطينه ، وكانوا قريبي العهد من رواة الاخبار ونقلة الآثار ، ولاجل ذلك تمكنوا تمكناً تاماً مورثاً للاطمئنان ، من الوقوف على أحوالهم وخصوصيات حياتهم ، اما عن طريق الحس والسماع ـ كما هو التحقيق ـ أو من طريق جمع القرائن والشواهد المورثة للاطمئنان الذي هو علم عرفي ، كما سيوافيك تحقيقه في الابحاث الآتية.

وقد تلت الطبقة الاولى ، طبقة اخرى تعد من اشهر علماء الرجال بعدهم ، كما تعد كتبهم مصادر له بعد الاصول الاولية نأتي بأسمائهم وأسماء كتبهم ، وكلهم كانوا عائشين في القرن السادس.

ان أقدم فهرس عام لكتب الشيعة ، هو فهرس الشيخ أحمد بن الحسين بن عبيدالله الغضائري ، الذي قد تعرفت عليه وما حوله من الاقوال والآراء.

نعم ، ان فهرست أبي الفرج محمد بن اسحاق المعروف بابن النديم

١٠٩

( المتوفّى عام 385 هـ ) وان كان أقدم من فهرس ابن الغضائري ، لكنه غير مختص بكتب الشيعة ، وانما يضم بين دفتيه الكتب الاسلامية وغيرها ، وقد أشار الى تصانيف قليلة من كتب الشيعة.

وقد قام الشيخ الطوسي بعد ابن الغضائري ، فألف فهرسه المعروف حول كتب الشيعة ومؤلفاتهم ، وهو من احسن الفهارس المؤلفة ، وقد نقل عنه النجاشي في فهرسه واعتمد عليه ، وان كان النجاسي أقدم منه عصراً وأرسخ منه قدماً في هذا المجال.

وقد قام بعدهم في القرن السادس ، العلاّمتان الجليلان ، الشيخ الحافظ ابو الحسن منتجب الدين الرازي ، والشيخ الحافظ محمَّد بن عليّ بن شهرآشوب السروي المازندراني ، فأكملا عمل الشيخ الطوسي وجهوده إلى عصرهما ، وإليك الكلام فيهما إجمالاً :

1 ـ فهرس الشيخ منتجب الدين

وهو تأليف الحافظ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن الحسين ( أخي الشيخ الصدوققدس‌سره ) بن علي ( والد الصدوق ). عرَّفه صاحب الرياض بقوله : « كان بحراً لا ينزف ، شيخ الاصحاب ، صاحب كتاب الفهرس. يروي عن الشيخ الطبرسي ( المتوفّى عام 548 هـ ) وأبي الفتوح الرازي ، وعن جمع كثير من علماء العامة والخاصَّة. ويروي عن الشيخ الطّوسي ( المتوفّى 460 هـ ) بواسطة عمّه الشيخ بابويه بن سعد.

وهذا الامام الرّافعي ( وهو الشيخ ابو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي الشافعي ، المتوفّى عام 623 ) يعرفه في تاريخه ( التدوين ) : الشيخ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه شيخ ريّان من علم الحديث سماعاً وضبطاً وحفظاً وجمعاً ، قلَّ من يدانيه في هذه الاعصار في كثرة الجمع والسماع ، قرأت عليه بالرىّ سنة 584 هـ ، وتولد سنة 504 هـ ، ومات بعد

١١٠

سنة 585 هـ ، ثمَّ قال : ولئن اطلت عند ذكره بعض الاطالة فقد كثر انتفاعي بمكتوباته وتعاليقه فقضيت بعض حقه باشاعة ذكره وأحواله »(1) .

وقال الشيخ الحرّ العاملي في ترجمته : « الشيخ الجليل عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه القمّي ، كان فاضلا عالما ثقة صدوقاً محدّثاً حافظاً راوية علاّمة ، له كتاب الفهرس في ذكر المشايخ المعاصرين للشيخ الطوسي والمتأخرين إلى زمانه »(2) .

وقد ألَّفه للسيد الجليل أبي القاسم يحيى بن الصدر(3) السعيد المرتضى باستدعاء منه حيث قال السيد له : « إن شيخنا الموفق السعيد أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي ـ رفع الله منزلته ـ قد صنف كتابا في أسامي مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، ولم يصنف بعده شيء من ذلك » فأجابه الشيخ منتجب الدين بقوله : « لو أخَّر الله أجلي وحقق أملي ، لأضفت اليه ما عندي من أسماء مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، الذين تأخر زمانهم عن زمان الشيخ أبي جعفررحمه‌الله وعاصروه » ثمَّ يقول : « وقد بنيت هذا الكتاب على حروف المعجم اقتداء بالشيخ أبي جعفررحمه‌الله وليكون أسهل مأخذاً ومن الله التوفيق »(4) .

وكلامه هذا ينبئ عن أنه لم يصل اليه تأليف معاصره الشيخ محمد بن عليّ بن شهرآشوب ، الذي كتب كتابه الموسوم بـ « معالم العلماء » تكملة لفهرس الشيخ ، ولأجل ذلك قام بهذا العمل من غير ذكر لذلك الكتاب.

__________________

1 ـ رياض العلماء : 4 / 140 ـ 141 ، ولكن التحقيق انه كان حيّاً الى عام 600 هـ. لاحظ مقال المحقق السيد موسى الزنجاني المنشور في مجموعة حول ذكرى العلاّمة الامينيقدس‌سره .

2 ـ أمل الآمل : 2 / 194.

3 ـ المدفون بـ « ري » المعروف عند الناس بامام زادة يحيى وربما يحتمل تعدد الرجلين.

4 ـ فهرس الشيخ منتجب الدين : 5 ـ 6.

١١١

وقد ألَّف الشيخ الطوسي الفهرس بأمر استاذه المفيد الذي توفي سنة 413 هـ ، وفي حياته ، كما صرَّح به في أوله.

وقد أورد الشيخ منتجب الدين في فهرسه هذا ، من كان في عصر المفيد إلى عصره المتجاوز عن مائة وخمسين سنة.

وفي الختام ، نقول : « إن الحافظ بن حجر العسقلاني ( المتوفّى عام 852 هـ ) قد أكثر النقل عن هذا الفهرس في كتابه المعروف بـ « لسان الميزان » ، معبّراً عنه بـ « رجال الشيعة » أو « رجال الامامية » ولا يريد منهما إلا هذا الفهرس ، ويعلم ذلك بمقارنة ما نقله في لسان الميزان ، مع ما جاء في هذا الفهرس ، كما أن لصاحب هذا الفهرس تأليفاً آخر اسماه تاريخ الريّ ، وينقل منه أيضاً ابن حجر في كتابه المزبور ، والأسف كل الاسف أن هذا الكتاب وغيره مثل « تاريخ ابن ابي طيّ »(1) و « رجال عليّ بن الحكم » و « رجال الصدوق » التي وقف على الجميع ، ابن حجر في عصره ونقل عنها في كتابه « لسان الميزان » لم تصل إلينا ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

ثم إن الغاية من اقتراح السيد عزّ الدين يحيى ، نقيب السادات ، هو كتابة ذيل لفهرس الشيخ على غراره ، بأن يشتمل على أسامي المؤلفين ، ومؤلفاتهم واحداً بعد واحد ، وقد قبل الشيخ منتجب الدين اقتراح السيّد ، وقام بهذا العمل لكنهقدس‌سره عدل عند الاشتغال بتأليف الفهرس عن هذا النمط ، فجاء بترجمة كثير من شخصيات الشيعة ، يناهز عددهم إلى 540 شخصية علمية وحديثية من دون أن يذكر لهم أصلا وتصنيفا ، ومن ذكر لهم كتاباً لا يتجاوز عددهم عن حدود مائة شخص.

نعم ما يوافيك من الفهرس الآخر لمعاصره ـ أعني معالم العلماء ـ فهو على غرار فهرس الشيخ حذو القذّة بالقذّة.

__________________

1 ـ راجع في الوقوف على وصف هذا التاريخ وما كتبه في طبقات الامامية ايضا « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ج 3 ، ص 219 ـ 220 هذا وتوفي ابن ابي طي سنة 630 هـ.

١١٢

2 ـ معالم العلماء في فهرس كتب الشيعة وأسماء المصنفين

وهو تأليف الحافظ الشهير محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني ، المولود عام 488 هـ ، والمتوفّى سنة 588 هـ ، وهو اشهر من أن يعرّف ، فقد أطراه أرباب المعاجم من العامة والخاصّة.

قال صلاح الدين الصفدي : « محمد بن علي بن شهرآشوب ابو جعفر السروي المازندراني ، رشيد الدين الشيعي ، احد شيوخ الشيعة. حفظ القرآن وله ثمان سنين ، وبلغ النهاية في أصول الشيعة ، كان يرحل اليه من البلاد ، ثم تقدَّم في علم القرآن والغريب والنحو ، ذكره ابن أبي طيّ في تاريخه ، وأثنى عليه ثناء بليغاً ، وكذلك الفيروزآبادي في كتاب البلغة في تراجم أئمة النَّحو واللغة ، وزاد أنه كان واسع العلم ، كثير العبادة دائم الوضوء ، وعاش مائة سنة الا ثمانية أشهر ، ومات سنة 588 هـ »(1) .

وذكره الشيخ الحرّ العاملي في « أمل الآمل » في باب المحمدين ، وذكر كتبه الكثيرة ، التي أعرفها « مناقب آل أبي طالب » وقد طبع في أربعة مجلدات ، و « متشابه القرآن » وهو من محاسن الكتب وقد طبع في مجلد واحد ، و « معالم العلماء » الذي نحن بصدد تعريفه ، وهذا الكتاب يتضمن 1021 ترجمة وفي آخرها « فصل فيما جهل مصنّفه » و « باب في بعض شعراء أهل البيت » وهذا الفهرس ، كفهرس الشيخ منتجب الدين تكملة لفهرس الشيخ الطوسي ، والمؤلفان متعاصران ، والكتابان متقاربا التأليف ، وقد أصبح معالم العلماء من المدارك المهمة لعلماء الرجال ، كالعلامة الحلي في « الخلاصة » ، ومن بعده.

__________________

1 ـ الوافي بالوفيات : 4 / 164.

١١٣

3 ـ رجال ابن داود

وهو تأليف تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلي المولود سنة 647 ، أي قبل تولد العلاّمة بسنة ، والمتوفّى بعد سنة 707 هـ ، تتلمذ على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس ( المتوفّى سنة 673 هـ ) قرأ عليه أكثر كتاب « البشرى » و « الملاذ » حتى قال : « وأكثر فوائد هذا الكتاب من اشاراته وتحقيقاته ، رباني وعلمني وأحسن إلي »(1) .

كما قرأ على الامام نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى المعروف بالمحقق ، وقال في حقه : « قرأت عليه ورباني صغيراً ، وكان له علي احسان عظيم والتفات ، وأجاز لي جميع ما صنفه وقرأه ورواه »(2) .

مميزات رجال ابن داود

ومن مزايا ذلك الكتاب ، أنه سلك فيه مسلكاً لم يسبقه أحد من الاصحاب ، لانه رتبه على الحروف ، الاول فالاول ، من الاسماء وأسماء الاباء والاجداد ، وجمع ما وصل اليه من كتب الرجال مع حسن الترتيب وزيادة التهذيب ، فنقل ما في فهرس الشيخ والنجاشي ، ورجال الكشي ، والشيخ وابن الغضائري والبرقي والعقيقي وابن عقدة والفضل بن شاذان وابن عبدون ، وجعل لكل كتاب علامة ولم يذكر المتأخرين عن الشيخ إلا اسماء يسيرة ، وجعل كتابه في جزأين ، الاول يختص بذكر الموثقين والمهملين ، والثاني بالمجروحين والمجهولين.

وذكر في آخر القسم الاول ، تحت عنوان خاص ، جماعة وصفهم النجاشي بقوله « ثقة ثقة » مرتين ، عدتهم أربعة وثلاثون رجلاً مرتبين على

__________________

1 ـ لاحظ رجال ابن داود : 45 ـ 46 طبعة النجف.

2 ـ رجال ابن داود : 62 طبعة النجف.

١١٤

حروف الهجاء ، ثم أضاف بأن الغضائري جاء في كتاب خمسة رجال زيادة على ما ذكره النجاشي ، ووضف كلا منهم بأنه « ثقة ثقة » مرتين ، ثم ذكر خمسة فصول لا غنى للباحث عنها ، كل فصل معنون بعنوان خاص.

ثم ذكر في آخر القسم الثاني ، سبعة عشر فصلاً لا يستغني عنها الباحثون ، كل فصل معنون بعنوان خاص ثم أورد تنبيهات تسعة مفيدة.

وبما أنه وقع في هذا الكتاب إشتباهات عند النقل عن كتب الرجال ، مثلا نقل عن النجاشي مطلباً وهو للكشّي أو بالعكس ، قام المحقق الكبير السيد محمد صادق آل بحر العلوم في تعليقاته على الكتاب ، باصلاح تلك الهفوات ولعل أكثر تلك الهفوات نشأت من استنساخ النساخ ، وعلى كل تقدير ، فلهذا الكتاب مزية خاصة لا توجد في قرينه الآتي أعني خلاصة العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ.

قال الافندي في « رياض العلماء » : « وليعلم أن نقل ابن داود في رجاله عن كتب رجال الاصحاب ، ما ليس فيها ، مما ليس فيه طعن عليه ، إذ أكثر هذا نشأ من اختلاف النسخ ، والازدياد والنقصان الحاصلين من جانب المؤلفين أنفسهم بعد اشتهار بعض نسخها وبقي في أيدي الناس على حالته الاولى من غير تغيير ، كما يشاهد في مصنفات معاصرينا أيضاً ولا سيّما في كتب الرجال التي يزيد فيها مؤلفوها ، الأسامي والأحوال يوماً فيوماً وقد رأيت نظير ذلك في كتاب فهرست الشيخ منتجب الدين ، وفهرست الشيخ الطوسي ، وكتاب رجال النجاشي وغيرها ، حتى إني رأيت في بلدة الساري نسخة من خلاصة العلاّمة قد كتبها تلميذه في عصره ، وكان عليها خطه وفيه اختلاف شديد مع النسخ المشهورة بل لم يكن فيها كثير من الأسامي والأحوال المذكورة في النسخ المتداولة منه »(1) .

__________________

1 ـ رياض العلماء : 1 / 258.

١١٥

أقول : ويشهد لذلك ان المؤلفات المطبوعة في عصرنا هذا تزيد وتنقص حسب طبعاتها المختلفة ، فيقوم المؤلف في الطبعة اللاحقة بتنقيح ما كتب بإسقاط بعض ما كتبه وإضافة مالم يقف عليه في الطبعة الأولى ، ولأجل ذلك تختلف الكتب للمعاصرين حسب اختلاف الطبعات.

وفي الختام نذكر نصّ اجازة السيّد أحمد بن طاووس ، لتلميذه ابن داود مؤلّف الرجال ، وهي تعرب عن وجود صلة وثيقة بين الاستاذ والمؤلف فإنه بعد ما قرأ ابن داود كتاب « نقض عثمانية جاحظ » على مؤلفه « أحمد بن طاووس » كتب الاستاذ اجازة له وهذه صورتها :

« قرأ عليّ هذا « البناء » من تصنيفي ، الولد العالم الأديب التقي ، حسن بن علي بن داود ـ أحسن الله عاقبته وشرف خاتمته ـ وأذنت له في روايته عنّي.

وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن طاووس حامداً لله ومصلّياً على رسوله ، والطاهرين من عترته ، والمهديّين من ذريته ».

وفي آخر الرسالة ما هذه صورته :

« أنجزت الرسالة ، والحمد لله على نعمه ، وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين.

كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى ، حسن بن علي بن داود ربيب صدقات مولانا المصّنف ـ ضاعف الله مجده وأمتعه الله بطول حياته ـ وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله وسلامه ».

وكان نسخ الكتاب في شوال من سنة خمس وستين وستمائة(1) .

__________________

1 ـ وقد أسماه المؤلف بـ « بناء المقالة الفاطمية في نفض الرسالة العثمانية للجاحظ » ويقال اختصاراً « البناء ».

١١٦

مشايخه

قال الافندي : ويروي ابن داود عن جماعة من الفضلاء :

منهم : السيد جمال الدين ابو الفضائل أحمد بن طاووس.

ومنهم : الشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم الاسدي على ما يظهر من ديباجة رجاله(1) .

أقول : وهو يروي عن جماعة اخرى أيضاً.

منهم : المحقّق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي ( المتوفّى عام 676 هـ ).

ومنهم الشيخ نجيب الدين أبو زكريا يحيى بن سعيد الحّلي ابن عم المحقق المذكور ( المتوفّى عام 689 هـ ).

ومنهم الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي والد العلاّمة الحلي.

ونقل الافندي في الرياض أنه كان شريك الدرس مع السيد عبد الكريم بن جمال الدين(2) أحمد بن طاووس الحلي ( المتوفّى عام 693 هـ ) عند المحقّق. ولكن العلاّمة الاميني عدّه من مشايخه(3) ، والظاهر اتقان الاول.

تلاميذه

يروي عنه جماعة كثيرة :

__________________

1 ـ نقض عثمانية جاحظ المطبوع حديثاً بـ « عمان ».

2 ـ رياض العلماء : 1 / 256.

3 ـ الغدير : 6 / 7.

١١٧

منهم : الشيخ رضي الدين علي بن أحمد المزيدي الحلي(1) ، استاذ الشهيد الاول ، المتوفّى عام 757 هـ.

ومنهم : الشيخ زين الدين ابو الحسن علي بن طراد المطارآبادي ، المتوفّى بالحلة 754 هـ.

تآليفه

للمترجم له تآليف قيّمة تبلغ ثلاثين كتاباً ذكر أسماءها في رجاله.

ومن شعره الرائق قوله في حقّ الوصي :

وإذا نظرت إلى خطاب محمَّد

يوم الغدير إذ استقّر المنزل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاه لا يرتاب فيه محصِّل

لعرفت نصّ المصطفى بخلافة

مَنْ بعدَه غرّاء لا يتأوّل

وله اُرجوزة في الإمامة ، طويلة ، مستهلها :

وقد جرت لي قصّة غريبة

قد نتجت قضيّة عجيبة(2)

وفاته

قد عرفت أنه قد فرغ من رجاله عام 707 هـ ، ولم يعلم تاريخ وفاته على وجه اليقين ، غير أن العلاّمة الاميني ينقل عن « رياض العلماء » أنه رأى في مشهد الرضا نسخة من « الفصيح » بخط المترجم له ، في آخرها : « كتبه مملوكه حقاً حسن بن علي بن داود غفر له في ثالث عشر شهر رمضان المبارك سنة احدى وأربعين وسبعمائة حامداً مصلّياً مستغفراً ».

__________________

1 ـ وفي رياض العلماء مكان « المزيدي » ، « المرندي » ، وهو تصحيف.

2 ـ لاحظ الغدير : 6 / 3 ـ 6 ، وذكر شطراً منها السيد الامين في أعيان الشيعة : 22 / 343.

١١٨

فيكون له من العمر حينذاك 94 عاماً ، فيكون من المعمرين ، ولم يذكر منهم(1) .

4 ـ خلاصة الاقوال في علم الرجال

وهي للعلاّمة(2) على الاطلاق الحسن بن يوسف بن المطهَّر ، المولود عام 648 هـ ، والمتوفّى عام 726 هـ ، الذي طار صيته في الآفاق ، برع في المعقول والمنقول ، وتقدَّم على الفحول وهو في عصر الصبا. ألَّف في فقه الشريعة مطوَّلات ومتوسّطات ومختصرات ، وكتابه هذا في قسمين : القسم الاول ؛ فيمن اعتمد عليه وفيه سبعة عشر فصلا ، والقسم الثاني ؛ مختصّ بذكر الضعفاء ومن ردَّ قوله أو وقف فيه ، وفيه أيضا سبعة عشر فصلا ، وفي آخر القسم الثاني خاتمة تشتمل على عشر فوائد مهمَّة ، وكتابه هذا خلاصة ما في فهرست الشيخ والنجاشي وقد يزيد عليهما.

قال المحقّق التستري : « إن ما ينقله العلاّمة من رجال الكشي والشيخ ورجال النجاشي مع وجود المنقول في هذه الكتب غير مفيد ، وإنما يفيد في ما لم نقف على مستنده ، كما في ما ينقل من جزء من رجال العقيقي ، وجزء من رجال ابن عقدة ، وجزء من ثقات كتاب ابن الغضائري ، ومن كتاب آخر له في المذمومين لم يصل الينا ، كما يظهر منه في سليمان النخعي ، كما يفيد أيضاً فيما ينقله من النجاشي في ما لم يكن في نسختنا ، فكان عنده النسخة الكاملة من النجاشي واكمل من الموجود من ابن الغضائري ، كما في ليث البختري ، وهشام بن إبراهيم العبّاسي ، ومحمد بن نصير ، ومحمد بن أحمد بن محمد بن سنان ، ومحمد بن أحمد بن قضاعة ، ومحمد بن الوليد الصيرفي ، والمغيرة بن

__________________

1 ـ الغدير : 6 / 8 نقلاً عن روضات الجنات : 357.

2 ـ إن العلاّمة غني عن الاطراء ، وترجمته تستدعي تأليف رسالة مفردة ، وقد كفانا ، ما ذكره اصحاب المعاجم والتراجم في حياته وفضله وآثاره.

١١٩

سعيد ، ونقيع بن الحارث ، وكما ينقل في بعضهم اخباراً لم نقف على مأخذها ، كما في اسماعيل بن الفضل الهاشمي ، وفيما أخذه من مطاوي الكتب كمحمد بن أحمد النطنزي »(1) .

وبما أن هذا الكتاب ورجال ابن داود متماثلان في التنسيق وكيفية التأليف ، يمكن أن يقال : إن واحداً منهما اقتبس المنهج عن الآخر ، كما يمكن أن يقال : إن كليهما قد استقلاّ في التنسيق والمنهج ، بلا استلهام من آخر ، غير أن المظنون هو أن المؤلفين ، بما أنهما تتلمذا على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس المتوفّى سنة 673 هـ ، وقد كان هو رجالي عصره ومحقق زمانه في ذلك الفن ، قد اقتفيا في تنسيق الكتاب ما خطَّه استاذهما في ذلك الموقف ، والله العالم.

الفروق بين رجالي العلاّمة وابن داود

ثم ان هنا فروقاً بين رجالي العلاّمة وابن داود يجب الوقوف عليها واليك بيانها :

1 ـ ان القسم الاول من الخلاصة مختص بمن يعمل بروايته ، والثاني بمن لا يعمل بروايته ، حيث قال : « الاول ؛ في من اعتمد على روايته أو ترجح عندي قبول قوله. الثاني ؛ في مَنْ تركت روايته أو توقفت فيه ».

ولاجل ذلك يذكر في الاول الممدوح ، لعمله بروايته ، كما يذكر فيه فاسد المذهب إذا عمل بروايته كابن بكير وعليّ بن فضال. وأما الموثقون الذين ليسوا كذلك ، فيعنونهم في الجزء الثّاني لعدم عمله بخبرهم ، هذا.

والجزء الأوّل من كتاب ابن داود فيمن ورد فيه أدنى مدح ولو مع ورود ذموم كثيرة أيضا فيه ولم يعمل بخبره والجزء الثاني من كتابه ، فيمن ورد فيه

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 15.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

كلّ مؤمن ، ولا يكترثون بكل شيء ولا يرعون حرمة ولا عهدا ، فهم في الحقيقة أعداء الإيمان والحقّ ، وهم مصداق ما ذكره القرآن في شأن أقوام سابقين أيضا حيث يقول :( وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ من هم المستثنون في هذه الآية؟

جرى الكلام بين المفسّرين في الطائفة المستثناة من الحكم :( إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فمن هؤلاء المستثنون في هذه الآية؟!

إلّا أنّه بملاحظة الآيات السابقة ، يظهر أن المراد من هذه الجملة هم أولئك الذين بقوا على عهدهم ووفائهم ، أي القبائل التي هي من بني ضمرة وبني كنانة وبني خزيمة وأضرابهم.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة بمنزلة التأكيد للآيات السابقة ، فإنّ على المسلمين أن يكونوا حذرين واعين ، وأن يعرفوا هؤلاء الأوفياء بالعهد ويميزوهم عن سواهم الناكثين للعهد.

وما قوله تعالى :( عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) فلعل هذا التعبير يشير إلى ما كان من معاهدة بين المسلمين والمشركين في السنة السادسة للهجرة ، عند صلح الحديبية على بعد خمسة عشر ميلا عن مكّة ، فقد التحق جماعة آخرون من مشركي العرب كالقبائل المشار إليها آنفا بهذه المعاهدة حيث عاهدوا المسلمين عن ترك الخصام ، إلّا أن مشركي قريش نقضوا عهدهم ، ثمّ أسلموا في السنة الثامنة عند فتح مكّة ، أمّا الجماعة التي التحقت حينئذ من المشركين بمن عاهد المسلمين ، فلم يسلموا ولم ينقضوا عهدهم.

__________________

(١) سورة البروج ، الآية ٨.

٥٤١

ولمّا كانت أرض مكّة تستوعب منطقة واسعة «حولي ٤٨ ميلا» فقد عدّت المنطقة كلها جزءا من المسجد الحرام ، كما نقرأ عن ذلك في الآية (١٩٦) من سورة البقرة ، إذ تذكر موضوع حج التمتع وأحكامه فتقول :( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) .

والمعروف عند الفقهاء وفتاواهم أن أحكام حج التمتع إنما تجب على من تبعد داره «أو دار أهله» أكثر من ٤٨ ميلا عن مكّة.

فبناء على ذلك لا مانع أبدا من أن يطلق على الحديبية ، التي تبعد ١٥ ميلا عن مكّة ، تعبير : عند المسجد الحرام.

وأمّا قول بعضهم : إن الاستثناء الوارد في الآية إنما هو في شأن مشركي قريش ، الذين عدّ القرآن الكريم عهدهم الذي عقدوه في صلح الحديبية محترما ، فهذا القول يبدو بعيدا ، بل هو غير صحيحى ، لأنّه.

أوّلا : من المعلوم أنّ مشركي قريش نقضوا العهد ، فنقضهم مقطوع به ، ولا مراء فيه ، فإن لم يكونوا قد نقضوا العهد ، فمن الذين لم ينقضوا عهدهم إذا؟!

ثانيا : إن صلح الحديبية إنّما كان في السنة السادسة للهجرة ، بينما أسلم مشركو قريش في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكّة ، فبناء على ذلك فالآيات هذه النازلة في السنة التاسعة للهجرة ، لا يمكن أن تكون ناظرة إليهم.

٢ ـ متى يجوز الغاء المعاهدة؟

كما قلنا ذيل الآيات المتقدمة ، فإنّ المراد من الآيات محل البحث لا يعني جواز الغاء العهد بمجرّد تصميم المشركين وعزمهم على نقض العهد عند بلوغهم القدرة ، بل إنّهم أبدوا هذا الأسلوب وطريقة تفكيرهم عمليّا مرارا ، فمتى استطاعوا أن يوجهوا ضربتهم إلى الإسلام دون الالتفات إلى المعاهدة وجهوها. وهذا المقدار من عملهم كاف لإلغاء عهدهم.

* * *

٥٤٢

الآيات

( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) )

التّفسير

لم تخشون مقاتلة العدوّ؟!

إنّ أحد أساليب الفصاحة والبلاغة أن يكرر المتحدّث المطلب المهم بتعابير مختلفة للتأكيد على أهمية ، وليكون له أثر في النفوس. ولما كانت مسألة تطهير

٥٤٣

المحيط الإسلامي من الوثنية وعبادة الأصنام وإزالة آثارها ، من المسائل ذات الأهميّة القصوى ، فإنّ القرآن يكرر هذه المطالب بعبارات جديدة ـ في الآيات محل البحث ـ ويورد القرآن كذلك لطائف تخرج المطلب ـ عن صورة التكرار ، ولو التكرار المجازي.

فتقول الآية الأولى من هذا الآيات محل البحث :( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) .

وتضيف معقبة( وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وكان التعبير في الآيات المتقدمة أنّهم إذا أدّوا وظيفتهم الإسلامية ، أي تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزّكاة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) أمّا التعبير في هذه الآية( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) أي لا فارق بينهم وبين أحد من المسلمين من حيث الاحترام والمحبّة ، كما لا فارق بين الإخوان.

وهذه التعابير تؤثر من الناحية النفسية في أفكار المشركين وعواطفهم لتقبل الإسلام ، إذ تقول في حقّهم تارة( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) وتارة( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) إلخ

ولكن لو استمر المشركون في نقض العهود ، فتقول الآية التالية :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ ) .

صحيح أنّهم عاهدوكم على عدم المخاصمة والمقاتلة ، إلّا أن هذه المعاهدة ـ بنقضها مرارا ، وكونها قابلة للنقض في المستقبل ـ لا اعتبار لها أصلا ولا قيمة لها.

وتعقّب الآية مضيفة( لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ) .

وفي الآية الأخرى خطاب للمسلمين لإثارة هممهم ، وإبعاد روح الضعف والخوف والتردد عنهم في هذا الأمر الخطير ، إذ تقول الآية :( أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) .

فعلام تقلقون وأنتم لم تبدأوهم بالقتال وإلغاء العهد من قبلكم( وَهُمْ بَدَؤُكُمْ

٥٤٤

أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ؟

وإذا كان بعضكم يتردد في مقاتلتهم خشية ، منهم ، فإنّ هذه الخشية لا محل لها( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وفي الآية التالية وعد بالنصر الحاسم للمسلمين ، إذ تقول( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

وليس ذلك فحسب ، بل ،( وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ) .

وبهذا يشعر المؤمنون بالراحة والطمأنينة بعد أن كانوا يقاسون الألم والعذاب تحت وطأة هؤلاء المجرمين ، ويزيل الله تعالى عن قلوبهم آلام المحنة بهذا النصر( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من( قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) هم جماعة المؤمنين من بني خزاعة ، وقد استغفلهم عبدة الأوثان من بني بكر فهجموا عليهم غدرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من هذا التعبير هم جماعة من أهل اليمن استجابوا لدعوة الإسلام ، ولما وصلوا مكّة عذّبوا وأوذوا من قبل عبدة الأصنام.

إلّا أنّه لا يبعد أن تشمل هذه العبارة جميع أولئك الذين تعرّضوا لأذى المشركين وعبدة الأصنام وتعذيبهم فكانت قلوبهم تغلي دما منهم.

أمّا الآية التالية فتضيف : إنّ في انتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سرورا للمؤمنين ، وإنّ الله يسدّدهم( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السابقة( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) كما يحتمل أن تكون مستقلة عنها. وأن تكون الجملة السابقة إشارة إلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإسلام والنّبي الكريم ، شفيت بانتصار الإسلام.

وأمّا الجملة الثّانية( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) فهي إشارة أن أولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لا قوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين

٥٤٥

فأغاظوهم ، سيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) .

وتختتم الآية بالقول :( وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

كما تشير العبارة الأخيرة ضمنا إلى امكانية أن يلج بعضهم باب التوبة ، فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم ، فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك. كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإسلام ويشملهم توفيق الله ، لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة.

وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرة ـ بصورة عامّة من قبيل الإخبار القراني بالمغيبات ، وهي من دلائل صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا.

* * *

ملاحظات

١ ـ هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) من هم؟!

قال بعضهم : إنّ الآية تشير إلى اليهود ، وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفرس والرّوم.

وقال بعضهم : هي إشارة إلى كفّار قريش.

وقال بعضهم : بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم.

إلّا أنّ ظاهر الآيات يدلّ ـ بوضوح ـ على أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصمة ، إلّا أنّهم نقضوا عهدهم.

وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز.

كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إلى قريش ، لأنّ قريشا

٥٤٦

ورئيسها ـ أبا سفيان ـ أعلنوا إسلامهم ـ ظاهرا ـ في السنة الثامنة بعد فتح مكّة ، والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّا عن مفهوم الآية ، لأنّ الآية ـ أو الآيات محل البحث ـ تتكلم عن مواجهة فعلية ، لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه.

كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإسلام ، بعيد غاية البعد ، لإن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين.

ثمّ إنّ كلمة «أيمان» جمع «يمين» وكلمة «عهد» يشيران إلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة ، لا إلى قبول الإسلام. فلاحظوا بدقة.

وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإسلامية أنّ هذه الآية طبّقت على «النّاكثين» في «معركة الجمل» وأمثالها ، فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب ، بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل.

والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإجابة ، هو : إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم ، وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة ، فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول :( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) مع أنّهم قد نكثوها فعلا.

والجواب : إنّ المراد من هذه الجملة ـ المذكورة آنفا ـ أنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان ، ولم يثوبوا إلى رشدهم ، فينبغي مقاتلتهم. ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمرّ هدايته إيانا.

٥٤٧

والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) جاءت في مقابل( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين ، فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله ، وإمّا أن يستمرا على طريقهم ونكث أيمانهم. ففي الصورة الأولى هم إخوانكم في الدين ، وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم.

٢ ـ ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول : قاتلوا الكفار ، بل تقول :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) وهي إشارة إلى أن (القاعدة الجماهيرية) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم ، فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم ، لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد ، فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها. فمواجهة الكفار لا تجدي نفعا ما دام أئمتهم في الوجود ، أضف إلى ذلك فإنّ هذا التعبير يعدّ ضربا من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين ، إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين ، فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار.

والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش ، مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر ، وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّة ـ بحسب الظاهر ـ وكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين ، فمقاتلتهم لا مفهوم لها.

واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقيا على قوته «ساري المفعول» فالكي نزيل الاستعمار والفساد والظلم ، لا بدّ من مواجهة رؤوساء والأكابر وأئمّة المنحرفين ، وإلّا فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد ، فلاحظوا بدقة.

٣ ـ إنّ التّعبير بـ( فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) الوارد في الآيات المتقدمة ، من ألطف التعابير التي يمكن أن يعبّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع ، وبيان أوثق العلائق العاطفية ، لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل

٥٤٨

المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين.

إلّا أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها ، ووقف الإخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يصدق ، وقد يقاتل كلّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال ، وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا.

٤ ـ يستفاد ـ إجمالا ـ من جملة «أتخشونهم» أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد ، إمّا لقوّة العدوّ وقدرته ، أو لأنّهم كانوا يعدو نقض العهد ذنبا.

فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف ، بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله. ثمّ إن خشيتكم من نكث الإيمان ونقض العهد ليست في محلها ، فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدأوكم أوّل مرّة!

٥ ـ يبدو أنّ جملة( هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ ) إشارة إلى مسألة عزمهم على إخراج الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة (عند هجرته إلى المدينة) بادئ الأمر ، إلّا أن نياتهم تغيرت وتبدلت إلى الإقدام على قتله ، إلّا أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله.

وعلى كل حال ، فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم ، بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام ، حيث اشتركت قريش والقبائل الأخرى في هذا الأمر. أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحا من طرق أخرى.

٦ ـ ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم ، وهذا يشبه تماما لو أردنا أن ننجز

٥٤٩

عملا ـ مثلا ـ فنمضي إلى بعض أصدقائنا ونقول له : نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك ، فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر ، بل المراد أنّ الله منحك قدرة ونية طاهرة ، وبالإفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة.

* * *

٥٥٠

الآية

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) )

التّفسير

في هذه الآية ترغيب للمسلمين في الجهاد عن طريق آخر ، حيث تحمّل الآية المسلمين مسئولية ذات عبء كبير ، وهي أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أن كلّ شيء سيكون تامّا بادعائكم الإيمان فحسب ، بل يتجلى صدق النيّة وصدق القول والإيمان الواقعي في قتالكم الأعداء قتالا خالصا من أي نوع من أنواع النفاق.

فتقول الآية أوّلا :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) (١) .

و «الوليجة» مشتقة من «الولوج» ومعناه الدخول ، وتطلق الوليجة على من

__________________

(١) «أم» حرف عطف ويعطف بها جملة استفهامية على جملة استفهامية أخرى ، ولهذا فهي تعطي معنى الاستفهام ، غاية ما في الأمر أنّها تأتي بعد جملة استفهامية دائما ، وفي الآية محل البحث عطفت على الجملة «ألا تقاتلون» التي بدئت بها الآية (١٣).

٥٥١

يعتمد عليه في الأسرار ومعناها يشبه معنى البطانة تقريبا.

وفي الحقيقة فإنّ الجملة المتقدمة تنّبه المسلمين إلى أنّ الأعمال لا تكمل بإظهار الإيمان فحسب ، ولا تتجلى شخصية الأشخاص بذلك ، بل يعرف الناس باختبارهم عن طريقين :

الأوّل : الجهاد في سبيل الله لغرض محو آثار الشرك والوثنية.

الثاني : ترك أية علاقة أو أي تعاون مع المنافقين والأعداء.

فالأوّل لدفع العدو الخارجي ، والثّاني يحصّن المجتمع من خطر العدو الداخلي.

وجملة( لَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ) التي قد يلاحظ نظيرها في بعض آيات القرآن الأخر ، تعني أن أمركم لم يتحقق بعد ، وبتعبير آخر : إنّ نفي العلم هنا معناه نفي المعلوم ، ويستعمل مثل هذا التعبير في مواطن التأكيد. وإلّا فإنّ الله ـ طبقا للأدلة العقلية وصحيح آيات القرآن الكثيرة ـ كان عالما بكل شيء ، وسيبقى عالما بكل شيء.

وهذه الآية تشبه الآية الأولى من سورة العنكبوت ، إذ تقول :( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .

وكما ذكرنا آنفا في تفسيرنا لسورة آل عمران أنّ اختبار الله لعباده ليس لكشف أمر مجهول عنده ، بل هو لتربيتهم ولأجل إنّما الاستعدادات وتجلّي الأسرار الداخلية في الناس.

وتختتم الآية بما يدلّ على الإخطار والتأكيد( وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

فلا ينبغي أن يتصور أحدّ أنّ الله لا يعرف العلائق السرّية بين بعض الأفراد وبين المنافقين ، بل يعرف كل شيء جيدا وهو خبير بالأعمال كلها.

ويستفاد من سياق الآية أن بين المسلمين يؤمئذ من كان حديث العهد بالإسلام ولم يكن على استعداد للجهاد ، فيشمله هذا الكلام أمّا المجاهدون الصادقون فقد بيّنوا مواقفهم في سوح الجهاد مرارا.

* * *

٥٥٢

الآيتان

( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) )

التّفسير

من يعمر مساجد الله؟

من جملة المسائل التي يمكن أن تخالط أذهان البعض بعد إلغاء عهد المشركين وحكم الجهاد ، هو : لم نبعد هذه الجماعة العظيمة من المشركين عن المسجد الحرام لأداء مناسك الحج ، مع أنّ مساهمتهم في هذه المراسم عمارة للمسجد من جميع الوجوه «المادية والمعنوية» إذ يستفاد من إعاناتهم المهمّة لبناء المسجد الحرام ، كما يكون لوجودهم أثر معنوي في زيادة الحاجّ والطائفين حول الكعبة المشرفة وبيت الله.

فالآيتان ـ محل البحث ـ تردّان على مثل هذه الأفكار الواهية التي لا أساس

٥٥٣

لها ، وتصرّح الآية الأولى منهما بالقول :( ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ) .

وشهادتهم على كفرهم جلية من خلال أحاديثهم وو أعمالهم ، بل هي واضحة في طريقة عبادتهم ومراسم حجّهم.

ثمّ تشير الآية إلى فلسفة هذا الحكم فتقول :( أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) .

ولذلك فهي لا تجديهم نفعا :( وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ) .

فمع هذه الحال لا خير في مساعيهم لعمارة المسجد الحرام وبنائه وما إلى ذلك ، كما لا فائدة من كثرتهم واحتشادهم حول الكعبة.

فالله طاهر منزّه ، وينبغي أن يكون بيته طاهرا منزّها كذلك ، فلا يصح أن تمسه الأيدي الملوثة بالشرك.

أمّا الآية التّالية فتذكر شروط عمارة المسجد الحرام ـ إكمالا للحديث آنف الذكر ـ فتبيّن خمسة شروط مهمّة في هذا الصدد ، فتقول ،( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

وهذا النص إشارة إلى الشرطين الأوّل والثّاني ، اللذين يمثلان الأساس العقائدي ، فما لم يتوفر هذان الشرطان لا يصدر من الإنسان أي عمل خالص نزيه ، بل لو كان عمله في الظاهر سليما فهو في الباطن ملّوث بأنواع الأغراض غير المشروعة.

ثمّ تشير الآية إلى الشرطين الثّالث والرّابع فتقول :( وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ) .

أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكفي أن يكون مجرّد ادعاء فحسب ، بل تؤيده الأعمال الكريمة ، فعلاقة الإنسان بالله ينبغي أن تكون قوية محكمة ، وأن يؤدي صلاته بإخلاص ، كما ينبغي أن تكون علاقته بعباد الله وخلقه قوية ، فيؤدي الزكاة إليهم.

٥٥٤

وتشير الآية إلى الشرط الخامس والأخير فتقول :( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) .

فقلبه مليء بعشق الله ، ولا يحسّ إلّا بالمسؤولية في امتثال أمره ولا يرى لأحد من عبيده أثرا في مصيره ومصير مجتمعه وتقدمه ، هم أقل من أن يكون لهم أثر في عمارة محل للعبادة.

ثمّ تضيف الآية معقبة بالقول :( فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) فيبلغون أهدافهم ويسعون لعمارة المسجد.

* * *

ملاحظات

١ ـ ما المراد من العمارة

هل تعني عمارة المسجد بناءه وتأسيسه وترميمه ، أو تعني الاجتماع فيه والمساهمة في الحضور عنده؟!

اختار بعض المفسّرين أحد هذين المعنيين في تفسير «عمارة المسجد» في الآية ـ محل البحث ـ غير أنّ الآية ذات مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وما شاكلّها جميعا. فليس للمشركين أن يحضروا في المساجد ، وليس لهم أن يبنوا مسجدا ـ وما إلى ذلك ـ بل على المسلمين أن يقوموا بكل ذلك.

ويستفاد من الآية ـ ضمنا ـ أنّه لا ينبغي للمسلمين أن يقبلوا من المشركين ـ بل جميع الفرق غير الإسلامية ـ هدايا أو إعانات للمساجد وبنائها ، لأنّ الآية الأولى وإن كانت تتكلم على المشركين ، لكنّ الآية الثّانية بدأت بكلمة «إنما» لتدل على أن عمارة مساجد الله خاصّة بالمسلمين.

ومن هنا يتّضح أيضا أنّ متولي المساجد ومسئوليها ينبغي أن يكونوا من أنزه الناس ، ولا ينتخب لهذه المهمّة من لا حريجة له في الدين طمعا في ماله وثروته ، أو مقامه الاجتماعي كما هو الحال في كثير من البلاد ، إذ تولّى مساجدها

٥٥٥

من ليس لها أهلا.

بل يجب ابعاد جميع الأيدي الملوثة عن هذه الأماكن المقدسة.

ومنذ أن تدخل في أمور المساجد والمراكز الإسلامية أو أشرف عليها حكام الجور ، أو الأثرياء المذنبون ، فقدت تلك المساجد والمراكز الإسلامية «حيثيتها» ومكانتها ومسخت مناهجها البنّاءة ، ولذا فنحن نرى كثيرا من هذه المساجد على شاكلة مسجد ضرار.

٢ ـ العمل الخالص ينبع من الإيمان فحسب

قد يتساءل بعضنا قائلا : ما يمنع أن نستعين بأموال غير المسلمين لبناء المساجد وعمارتها؟!

لكن من يسأل مثل هذا السؤال لم يلتفت إلى أنّ الإسلام يعد العمل الصالح ثمرة شجرة الإيمان في كل مكان ، فالعمل ثمرة نيّة الإنسان وعقيدته دائما وهو انعكاس لها ويتخذ شكلهما ولونهما دائما ، فالنيات غير الخالصة لا تنتج عملا خالصا.

٣ ـ الحماة الشجعان

تدل عبارة( وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ) على أنّ عمارة المسجد المحافظة عليها لا تكون إلّا في ظل الشهامة والشجاعة ، فلا تكون هذه المراكز المقدسة مراكز لبناء شخصية الإنسان وذات منهج تربوي عال إلّا إذا كان بانوها وحماتها رجالا شجعانا لا يخشون أحدا سوى الله ، ولا يتأثرون بأي مقام ، ولا يطبقون منهجا غير المنهج الإلهي.

٤ ـ هل المراد من الآية هو المسجد الحرام فحسب؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ الآية محل البحث تختص بالمسجد الحرام ، مع أنّ

٥٥٦

ألفاظ الآية عامّة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وإن كان المسجد الحرام الذي هو أعظم المساجد الإسلامية في مقدمتها ، ويوم نزول الآية كان المسجد الحرام هو محل إشارة الآية ، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على تخصيص مفهوم الآية.

٥ ـ أهمية بناء المساجد

وردت أحاديث كثيرة في أهمية بناء المساجد عن طرق أهل البيت وأهل السنة ، تدلّ على ما لهذا العمل من الشأن الكبير.

فقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنّة»(١) .

كما ورد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه»(٢) .

إلّا أنّ ما هو أكثر أهمية هذا اليوم هو عمارة المسجد المعنوية ، وبتعبير آخر ينبغي أن نهتم بعمارة شخصية الذين يرتادون المسجد وأهله وحفظته اهتمامنا بعمارة المسجد ذاته.

فالمسجد ينبغي أن يكون مركزا لكل تحرك إسلامي فاعل يؤدي إلى إيقاظ الناس ، وتطهير البيئة والمحيط ، وحثّ المسلمين للدفاع عن ميراث الإسلام.

وينبغي الالتفات إلى أن المسجد جدير بأن يكون مركزا للشباب المؤمن ، لا محلا للعجزة والكسالى والمقعدين ، فالمسجد مجال للنشاط الاجتماعي الفعال ، لا مجال العاطلين والبطّالين والمرضى.

* * *

__________________

(١) ورد هذا الحديث في كتاب وسائل الشيعة ، الباب ٨ من أبواب أحكام المساجد كما ورد عن ابن عباس في تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٢١٣.

(٢) كتاب المحاسن ، ص ٥٧ حسب نقل كنز العرفان ، ج ١ ، ص ١٠٨.

٥٥٧

الآيات

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) )

سبب النّزول

هناك روايات مختلفة في سبب نزول الآيات ـ محل البحث ـ منقولة في كتب أهل السنة والشيعة ، ونورد هنا ما يبدو أكثر صحة.

يروي «أبو القاسم الحسكاني» عالم أهل السنة المعروف ، عن بريدة ، أن «شيبة» و «العباس» كان يفتخر كلّ منهما على صاحبه ، وبينما هما يتفاخران إذ مرّ عليهما علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقال : فيم تتفاخران؟

فقال العباس : حبيت بما لم يحب به أحد وهو سقاية الحاج.

٥٥٨

فقال شيبة : إني أعمر المسجد الحرام ، وأنا سادن الكعبة.

فقال عليعليه‌السلام : على أنّي مستحي منكما ، فلي مع صغر سني ما ليس عندكما. فقالا : وما ذاك؟!

فقال : جاهدت بسيفي حتى آمنتما بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرج العباس مغضبا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاكيا عليّا فقال : ألا ترى ما يقول؟

فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أدعو لي عليّا فلمّا جاءه علي قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم كلّمت عمّك العباس بمثل هذا الكلام؟ فقالعليه‌السلام : إذا كنت أغضبته ، فلما بيّنت من الحق ، فمن شاء فليرض بالقول الحق ومن شاء فليغضب.

فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال : يا محمّد ، إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : اتل هذه الآيات :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (١) .

وقد وردت هذه الرواية بالمضمون ذاته مع اختلاف يسير في التعابير في كتب كثيرة لأهل السنة ، كتفسير الطبري والثعلبي ، وأسباب النّزول للواحدي وتفسير الخازن البغدادي ، ومعالم التنزيل للعلّامة البغوي ، والمناقب لابن المغازلي ، وجامع الأصول لابن الأثير ، وتفسير الفخر الرازي ، وكتب أخرى.(٢)

وعلى كل حال ، فالحديث آنف الذكر من الأحاديث المعروفة والمشهورة ، التي يقرّبها حتى المتعصبون ، وسنتكلم عنه مرّة أخرى بعد تفسير الآيات.

التّفسير

مقياس الفخر والفضل :

مع أنّ للآيات ـ محل البحث ـ شأنا في نزولها ، إلّا أنّها في الوقت ذاته

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآيات محل البحث.

(٢) لمزيد الإيضاح يراجع كتاب إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٧.

٥٥٩

تستكمل البحث الذي تناولته الآيات المتقدمة ، ونظير ذلك كثير في القرآن.

فالآية الأولى من هذه الآيات تقول :( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

«السقاية» لها معنى مصدري وهو إيصال الماء للآخرين ، وكما تعني المكيال ، كما جاء في الآية ٧٠ من سورة يوسف( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) وتعني الإناء الكبير أو الحوض الذي يصب فيه الماء.

وكان في المسجد الحرام بين بئر زمزم والكعبة محل يوضع فيه الماء يدعى بـ «سقاية العباس» وكان معروفا آنئذ ، ويبدو أنّ هناك إناء كبيرا فيه ماء يستقى منه الحاج يومئذ.

ويحدثنا التأريخ أنّ منصب «سقاية الحاج» قبل الإسلام كان من أهل المناصب ، وكان يضاهي منصب سدانة الكعبة ، وكانت حاجة الحاج الماسة في أيّام الحج إلى الماء في تلك الأرض القاحلة اليابسة المرمضة(١) التي يقل فيها الماء ، وجوّها حار أغلب أيّام السنة ، وكانت هذه الحاجة الماسة تولي موضوع «سقاية الحاج» أهميّة خاصّة ، ومن كان مشرفا على السقاية كان يتمتع بمنزلة اجتماعية نادرة ، لأنّه كان يقدم للحاج خدمة حياتية.

وكذلك «عمارة المسجد الحرام» أو سدانته ورعايته ، كان لها أهميته الخاصّة ، لأنّ المسجد الحرام حتى في زمن الجاهلية كان يعدّ مركزا دينيا ، فكان المتصدي لعمارة المسجد أو سدانته محترما.

ومع كل ذلك فإنّ القرآن يصّرح بأنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أفضل من جميع تلك الأعمال وأشرف.

__________________

(١) «المرمضة» مشتقة من «الإرماض» أي شديدة الحر ، والأرض الرمضاء كذلك : شدية الحر.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606