الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260295 / تحميل: 6437
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

مِنْكُمْ ) (١) .

ثمّ تشير الآية إلى سبب ذلك فتقول :( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ) .

فنيّاتكم غير خالصة ، وأعمالكم غير طاهرة ، وقلوبكم مظلمة ، وإنّما يتقبل الله العمل الطاهر من الورع التقي.

وواضح أنّ المراد من الفسق هنا ليس هو الذنب البسيط والمألوف ، لأنّه قد يرتكب الإنسان ذنبا وهو في الوقت ذاته قد يكون مخلصا في أعماله ، بل المراد منه الكفر والنفاق ، أو تلوّث الإنفاق بالرياء والتظاهر.

كما لا يمنع أن يكون الفسق ـ في التعبير آنفا ـ في مفهومه الواسع شاملا للمعنيين، كما ستوضح الآية التالية ذلك.

وفي الآية التالية يوضح القرآن مرّة أخرى السبب في عدم قبول نفقاتهم فيقول :( وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ) .

والقرآن يعوّل كثيرا على أنّ قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإيمان ، حتى أنّه لو قام الإنسان بعمل صالح وهو مؤمن ، ثمّ كفر بعد ذلك فإنّ الكفر يحبط عمله ولا يكون له أي أثر «بحثنا في هذا المجال في المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل».

وبعد أن أشار القرآن إلى عدم قبول نفقاتهم ، يشير إلى حالهم في العبادات فيقول:وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) كما أنّهم( وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ) .

وفي الحقيقة أنّ نفقاتهم لا تقبل لسببين :

الأوّل : هو أنّهم( كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ) .

والثّاني : أنّهم إنما ينفقون عن كره وإجبار.

كما أن صلواتهم لا تقبل لسببين أيضا :

الأوّل : لأنّهم( كَفَرُوا بِاللهِ ) .

__________________

(١) جملة «أنفقوا» وإن كانت في صورة الأمر ، إلّا أن فيها مفهوم الشرط ، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم.

٨١

والثّاني : أنّهم( لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) ! العبارات المتقدمة في الوقت الذي تبيّن حال المنافقين في عدم النفع من أعمالهم ، فهي في الحقيقة تبيّن علامة أخرى من علائمهم في الوقت ذاته ، وهي أن المؤمنين الواقعيين يمكن معرفتهم من نشاطهم عند أداء العبادة ، ورغبتهم في الأعمال الصالحة التي تتجلى فيهم بإخلاصهم.

كما يمكن معرفة حال المنافقين عن طريق كيفية أعمالهم ، لأنّهم يؤدّون أعمالهم عادة دون رغبة ومكرهين ، فكأنّما يساقون إلى عمل الخير سوقا.

وبديهي أنّ أعمال الطائفة الأولى (المؤمنين) لما كانت تصدر عن قلوب تعشق الله مقرونة بالتحرق واللهفة ، فإنّ جميع الآداب ومقرراتها مرعية فيها. إلّا أنّ الطائفة الثّانية لما كانت أعمالها تصدر عن إكراه وعدم رغبة ، فهي ناقصّة لا روح فيها ، وهكذا تكون البواعث المختلفة في أعمال الطائفتين تظفي على الأعمال شكلين مختلفين.

وفي آخر الآية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب نحو النّبي قائلا :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) .

فهي وإن كانت نعمة بحسب الظاهر ، إلّا أنّه( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) .

وفي الواقع فإنّهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد ، أي القوة الاقتصادية والإنسانية :

فالأوّل : إنّ مثل هؤلاء الأبناء لا يكونون صالحين عادة ، ومثل هذه الأموال لا بركة فيها ، فيكونان مدعاة قلقهم وألمهم في الحياة الدنيا ، إذ عليهم أن يسعوا ليل نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم ، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإثمّ والحرام.

٨٢

والثّاني : لما كانوا بهذه الأموال والأولاد متعلقين ، ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد فليس من الهيّن أن يغمضوا عن هذه الأموال والذّرية، ويخرجون من هذه الدنيا ـ بحال مزرية وفي حال الكفر.

فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والاطمئنان والدعة إذا كانا طاهرين طيبين وإلّا فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.

* * *

ملاحظتان

١ ـ يسأل بعضهم : إنّ الآية الأولى ـ من الآيات محل البحث ـ تقول :( أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ) مع أن الآية الأخرى تقول بصراحة :( وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ) .

ترى ألا توجد منافاة بين هذين التعبيرين؟!

لكن مع قليل من الدقة يتّضح الجواب على هذا السؤال ، وهو أن بداية الآية الأولى في صورة القضية الشرطية ، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها فعلى آية حال لن تتقبل منكم. ونعرف أن القضية الشرطية لا تدل على وجود الشرط ، أي على فرض أن ينفقوا طوعا واختيارا فإنفاقهم لا فائدة فيه ، لأنّهم غير مؤمنين.

إلّا أنّ ذيل الآية الأخرى بيان قضية خارجيّة ، وهي أنّهم ينفقون عن إكراه دائما.

٢ ـ والدرس الذي نستفيده من الآيات الآنفة ، هو أنّه لا ينبغي الانخداع بصلاة الناس وصيامهم ، لأنّ المنافقين يؤدون ذلك أيضا ، كما أنّهم ينفقون بحسب الظاهر في سبيل الله. بل ينبغي تمييز الصلاة والإنفاق بدافع النفاق من غيرهما عن أعمال

٨٣

المؤمنين البنّاءة والهادفة ، ويمكن معرفة ذلك بالتدقيق والإمعان في النظر ، ونقرأ في الحديث : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإنّ ذلك شيء اعتاده ، ولو تركه استوحش ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته».

* * *

٨٤

الآيتان

( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) )

التّفسير

علامة أخرى للمنافقين :

ترسم الآيتان أعلاه حالة أخرى من أعمال المنافقين بجلاء ، إذ تقول الآية الأولى :( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) ومن شدّة خوفهم وفرقهم يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان.

و «يفرقون» من مادة «الفرق» على زنة «الشفق» ومعناه شدّة الخوف.

يقول «الراغب» في «المفردات» إن الفرق في الأصل معناه التفرّق والتشتت ، فكأنّهم لشدّة خوفهم تكاد قلوبهم أن تتفرق وتتلاشى.

وفي الواقع أنّ مثل هؤلاء لما فقدوا ما يركنون إليه في أعماقهم ، فهم في هلع واضطراب عظيم دائم ، ولا يمكنهم أن يكشفوا عمّا في باطنهم لما هم عليه من الهلع والفزع ، وحيث أنّهم لا يخافون الله «لعدم إيمانهم به» ، فهم يخافون من كل شيء غيره ، ويعيشون في استيحاش دائم ، غير أنّ المؤمنين الصادقين ينعمون في

٨٥

ظل الإيمان بالهدوء والاطمئنان.

والآية التالية تصوّر شدّة عداوة المنافقين للمؤمنين ونفورهم منهم ، في عبارة موجزة إلّا أنّها في غاية المتانة والبلاغة ، إذ تقول :( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) .

«الملجأ» معناه معروف ، وهو ما يأوي إليه الخائف عادة ، كالقلاع والكهوف وأضرابهما.

و «المغارات» جمع مغارة.

و «المدّخل» هو الطريق الخفي تحت الأرض ، كالنقب مثلا.

و «يجمحون» مأخوذ من الجماح ، ومعناه الحركة السريعة والشديدة التي لا يتأتى لأيّ شيء أن يصدها ، كحركة الخيول المسرعة الجامحة التي لا تطاوع أصحابها ، ولذلك سمّي الجواد الذي لا يطاوع صاحبه جموحا أو جامحا.

وعلى كل حال ، فهذه الآية واحدة من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها القرآن في وصف المنافقين ، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إخوانهم المؤمنين ، بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين ، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض ، لولّوا إليه وهم يجمحون ، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم من القبيلة والأموال والثروة ، كل ذلك يضطرهم إلى البقاء على رغم أنوفهم.

* * *

٨٦

الآيتان

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) )

سبب النّزول

جاء في تفسير «الدر المنثور» عن «صحيح البخاري» و «النسائي» وجماعة آخرين ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولا بتقسيم الأموال (من الغنائم أو ما شاكلها) ، وإذا برجل من بني تميم يدعى ذو الخويصرة ـ وهو حرقوص بن زهير ـ يأتي فيقول له : يا رسول الله ، اعدل. فقال رسول الله : «ويلك من يعدل إذا لم أعدل!» فصاح عمر : يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه. فقال رسول الله : «دعه فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلواتهم وصومهم مع صومه ، يمرقون من دين كما يمرق السهم من الرميّة ...».(١)

فنزلت الآيتان عندئذ ونصحت مثل هؤلاء الناس ووعظتهم.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٢٧.

٨٧

التّفسير

الأنانيون السفهاء :

في الآية الأولى أعلاه إشارة إلى حالة أخرى من حالات المنافقين ، وهي أنّهم لا يرضون أبدا بنصيبهم ، ويرجون أن ينالوا من بيت المال أو المنافع العامّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، سواء كانوا مستحقين أم غير مستحقين ، فصداقتهم وعداوتهم تدوران حول محور المنافع سلبا وإيجابا.

فمتى ملئت جيوبهم رضوا (عن صاحبهم) ومتى ما أعطوا حقّهم وروعي العدل في إيتاء الآخرين حقوقهم سخطوا عليه ، فهم لا يعرفون للحق والعدالة مفهوما «في قاموسهم» وإذا كان في قاموسهم مفهوم للحق أو العدل ، فهو على أساس أن من يعطيهم أكثر فهو عادل ، ومن يأخذ حق الآخرين منهم فهو ظالم!!

وبتعبير آخر : إنّهم يفقدون الشخصية الاجتماعية ، ويتمسكون بالشخصية الفردية والمنافع الخاصّة ، وينظرون للأشياء جميعا من هذه الزّاوية (المشار إليها آنفا).

لذا فإنّ الآية تقول :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) لكنّهم في الحقيقة ينظرون إلى منافعهم الخاصّة( فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ) .

فهؤلاء يرون أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير منصف ولا عادل!! ويتهمونه في تقسيمه المال!.

( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ ) .

ترى ألا يوجد أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؟! وهل الناس جميعا قانعون بحقّهم المشروع! فمن أعطاهم حقهم حسبوه عادلا؟!

ممّا لا ريب فيه أنّ الجواب على السؤال الآنف بالنفي ، ومع كل الأسف فما

٨٨

يزال الكثيرون يقيسون العدل ويزنون الحق بمعيار المنافع الشخصيّة ولا يقنعون بحقوقهم!! ولو قدّر لأحد أن يوصل إلى جميع الناس حقوقهم المشروعة ولا سيما المحرومين منهم ـ لتعالى صراخهم وعويلهم!!

فبناء على ذلك ، لا داعي لأن نقلب ونتصفح سجل التاريخ لمعرفة المنافقين.

فبنظرة واحدة إلى من حولنا ، بل بنظرة إلى أنفسنا ، نستطيع أن نميز حالنا من حال الآخرين!

اللهم ، أحي فينا روح الإيمان ، وأمت في أنفسنا النفاق وأفكار الشيطان.

* * *

٨٩

الآية

( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) )

التّفسير

موارد صرف الزكاة ودقائقها :

في تاريخ صدر الإسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح ، إحداهما في مكّة ، حيث كان هدف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر التعاليم الإسلامية. والثّانية في المدينة ، حيث أقدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشكيل حكومة إسلاميّة أجرى من خلالها الأحكام والتعاليم الإسلامية.

وممّا لا شك فيه أنّ أوّل وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت المال ، إذ عن طريقه تؤمّن حاجات الدولة الاقتصادية ، وهي حاجات طبيعية توجد في كل دولة بدون استثناء ، ومن هنا كان إيجاد بيت المال من أوائل أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، وتشكل الزكاة أحد موارده ، وعلى المشهور فإنّ هذا الحكم شرّع في السنة الثّانية للهجرة النبوية.

٩٠

وكما سنشير ـ بعد حين ـ إلى إرادة الله وحكمه ، فإنّ حكم الزكاة قد نزل من قبل في مكّة ، لكن لا على نحو وجوب جمعها في بيت المال ، بل كان الناس يؤدونها ذاتيا ، أمّا في المدينة فإنّ قانون جباية الزكاة وجمعها في بيت المال قد صدر من الله تعالى في الآية (١٠٣) من سورة التوبة.

إنّ الآية التي نبحثها ، والتي نزلت يقينا بعد آية وجوب الزكاة ـ وإن لم يسبق لها ذكر في القرآن الكريم ـ تبيّن الموارد المختلفة التي تصرف فيها الزكاة. وممّا يلفت النظر أن الآية بدأت بكلمة (إنّما) الدالّة على الحصر ، وهي توحي بأنّ بعض الأفراد الأنانيين أو المغفلين كانوا يطمعون في أن يحصلوا على نصيب من الزكاة بدون أي وجه لاستحقاقهم لها ، لكن كلمة (إنّما) ردّت أيديهم في أفواهم. وهذا المعنى تبيّنه الآيتان اللتان سبقت هذه الآية ، حيث ذكرت أنّ هؤلاء كانوا يعترضون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم إعطائهم شيئا من الزكاة ، ويرضون عنه إذا أعطاهم شيئا منها.

وعلى أي حال ، فإنّ الآية قد بيّنت ـ بوضوح ـ الموارد الحقيقة التي تصرف فيها الزّكاة ، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزّكاة في ثمانية أصناف :

١ ـ الفقراء.

٢ ـ المساكين : وسيأتي البحث في نهاية تفسير الآية عن الفرق بين الفقير والمسكين.

٣ ـ العاملين عليها : وهم الذين يسعون في جباية الزكاة ، وإدارة بيت المال ، وما يعطى لهم هو في الواقع بمنزلة أجرة عملهم ، ولهذا لا يشترط فيهم الفقر على أي حال.

٤ ـ المؤلفة قلوبهم : وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي من أجل النهوض بالأهداف الإسلامية وتحقيقها ، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة بذل المال لهم ، والاستفادة منهم في الدفاع عن الإسلام وتحكيم دولته ، وإعلاء

٩١

كلمته. وسيأتي توضيح أوسع حول هذا القسم.

٥ ـ في الرقاب : وهذا يعني أن قسما من الزكاة يخصّص لمحاربة العبودية والرق وإنهاء هذه الحالة غير الإنسانية ، وكما قلنا في محله فإنّ برنامج الإسلام في معالجة مسألة الرقيق هو اتباع نظام (التحرير التدريجي) الذي ينتهي إلى تحرير جميع العبيد بدون مواجهة ردود فعل اجتماعية غير متوقعة ، ويشكّل تخصيص قسم من الزكاة لهذا الموضوع جانبا من هذا البرنامج المتكامل.

٦ ـ الغارمون : وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم ، ولم يكن هذا العجز نتيجة لتقصيرهم.

٧ ـ في سبيل الله : والمراد منه ـ كما سنشير إليه في آخر تفسير الآية ـ جميع السبل التي تؤدي إلى تقوية ونشر الدين الإلهي ، وهي أعم من مسألة الجهاد والتبليغ وأمثالها.

٨ ـ ابن السبيل : وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما ، وليس معهم من الزاد والراحلة ما يوصلهم إلى بلدانهم أو إلى الجهة التي يقصدونها ، حتى ولو لم يكونوا فقراء في واقعهم ، لكنّهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو قلّة أموالهم أو لأسباب أخر ، ومثل هؤلاء يجب أن يعطوا من الزكاة ما يوصلهم إلى مقصدهم أو بلدهم.

وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة ، ولذلك قال سبحانه :( فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) ولا شك أنّ هذه الفريضة قد حسبت بصورة دقيقة جدّا ، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع ، لأنّ( اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

* * *

٩٢

بحوث

وهنا أمور ينبغي ملاحظتها :

١ ـ الفرق بين الفقير والمسكين

هناك بحث بين المفسّرين في مفهومي الفقير والمسكين ، هل أنّ مفهومهما واحد ، وتكرار اللفظين معا في الآية من باب التأكيد فتصبح موارد صرف الزكاة سبعة لا ثمانية ، أم أنّهما لهما معنيان مختلفان؟

أغلب المفسّرين والفقهاء قالوا بالثّاني ، لكن وقع البحث حتى بين أنصار هذا القول في تفسير وتحديد مفهوم كل من الكلمتين ، والذي يبدو أقرب للنظر ، أنّ( الْفَقِيرَ ) هو الشخص الذي يعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنّه يعمل ويكتسب ، لكنّه لا يسأل أحدا مطلقا رغم حاجته لعفته وعزّة نفسه ، أمّا المسكين فهو أشد حاجة من الفقير ، وهو العاجز عن العمل ، فهو مضطر لأنّ يستعطي الناس ويسألهم. والدليل على ذلك أنّ الأصل اللغوي لكلمة مسكين مأخوذ من مادة السكون ، لأنّ المسكين لشدة فقره كأنّه سكن وأخلد إلى الأرض.

ثمّ إنّ ملاحظة استعمال الكلمتين في مواضع متعددة من القرآن يؤيد هذا الرأي ، فمثلا : نقرأ في الآية (١٦) من سورة البلد :( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) وفي الآية (٨) من سورة النساء :( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ) ويفهم من هذا التعبير أنّ المراد بالمساكين هم الذين يسألون ويستعطون إذا حضروا مثل هذه المواضع.

وفي الآية (٢٤) من سورة القلم نقرأ :( أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) وهي إشارة إلى السائلين.

وكذلك التعبير ب (إطعام مسكين) أو (طعام مسكين) ، فإنّه يوحي بأنّ المساكين هم الجياع الذين يحتاجون إلى الطعام ، في حين أنّنا نستطيع أن نفهم بوضوح ـ من خلال بعض الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة الفقير ـ أنّ المراد من الفقراء هم

٩٣

أفراد محتاجون للمال لكنّهم لحفظ ماء الوجه ولعزة أنفسهم لا يسألون الناس مطلقا ، كما تبين ذلك الآية (٢٧٣) من سورة البقرة :( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) .

وبعد كل هذا ففي رواية رواها محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق أو الإمام الباقرعليهما‌السلام ، أنّه سأله عن الفقير والمسكين فقال : «الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل»(١) . وبهذا المضمون وردت رواية عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، وكلتاهما صريحتان في المعنى السابق.

ونذكّر هنا بأنّ قسما من القرائن قد يظهر منه أحيانا خلاف ما قلناه ، إلّا أنّنا إذا نظرنا إلى مجموع القرائن اتّضح أن الحق ما قلناه.

٢ ـ هل يجب تقسيم الزّكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية؟

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية ، وصرف كل جزء في مورده الخاص إلّا أن يكون مقدار الزكاة من القلّة بحيث لا يمكن تقسيمه إلى ثمانية أقسام.

أمّا الأكثرية الساحقة من الفقهاء فقد ذهبوا إلى أن ذكر الأصناف الثمانية في الآية يبيّن جواز صرف الزكاة في هذه الموارد ، لا أنّه يجب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء. والسيرة الثابتة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تؤيّد هذا المعنى ، إضافة إلى أنّ الزكاة إحدى الضرائب الإسلامية ، والحكومة الإسلامية هي المسؤولة عن جبايتها من الناس ، والهدف من تشريعها هو تأمين الحاجات المختلفة للمجتمع الإسلامي.

أمّا كيفية صرف الزكاة في هذه الموارد الثمانية ، فإنّه يرتبط بالضرورات الاجتماعية من وجه ، وبرأي ووجهة نظر الحكومة الإسلامية من جهة أخرى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٤٤ ، باب ١ من أبواب مستحقي الزكاة ، حديث ٢.

٩٤

٣ ـ متى شرعت الزّكاة؟

يستفاد من الآيات القرآنية المختلفة ـ ومن جملتها الآية (١٥٦) من سورة الأعراف ، والآية (٣) من سورة النمل ، والآية (٤) من سورة لقمان ، والآية (٧) من سورة فصلت ، وكلها سور مكّية ـ أن حكم وجوب الزكاة نزل في مكّة ، وكان المسلمون ملزمين بأدائها كواجب شرعي ، لكن لما قدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وأسس الدولة الإسلامية ، وكان لا بدّ من إيجاد بيت المال ، أمره الله سبحانه بأن يأخذ الزكاة من الناس بنفسه ـ لا أنهم يصرفون الزكاة بأنفسهم حسب ما يرونه ـ فنزلت الآية (١٠٣) من سورة التوبة :( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) .

والمشهور أنّ ذلك انّ في السنة الثّانية للهجرة ، ثمّ بيّنت الآية التي نبحثها ـ الآية (٦٠) من سورة التوبة ـ موارد صرف الزكاة بصورة دقيقة. ولا ينبغي التعجب من أن تشريع أخذ الزكاة في الآية (١٠٣) ، وبيان موارد صرفها ـ والذي يقال أنّه نزل في السنة التاسعة للهجرة ـ في الآية (٦٠) ، لأنا نعلم أن آيات القرآن لم تجمع وترتب حسب تأريخ نزولها ، بل بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أمر بوضع كل آية في مكانها المناسب.

٤ ـ من هم المقصودون ب( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ؟

الذي يفهم من تعبير( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) أن أحد موارد صرف الزكاة هم الأفراد الذين يراد استمالتهم وجلب محبّتهم بالزكاة ، لكن هل المراد منهم الكفار الذين يمكن الاستعانة بهم في أمر الجهاد ببذل الزكاة لهم ، أم يدخل معهم المسلمون ضعيفو الإيمان؟

وكما قلنا في المباحث الفقهية ، فإنّ لهذه الآية ، وكذلك للروايات الواردة في هذا الموضوع مفهوما واسعا ، ولهذا فإنّها تشمل كل من يمكن استمالته من أجل نفع وتحكيم الإسلام ، ولا دليل على تخصيصها بالكفار.

٩٥

٥ ـ دور الزّكاة في الإسلام

إذا علمنا أنّ الإسلام يظهر على أنّه مذهب أخلاقي أو فلسفي أو عقائدي بحت ، بل ظهر إلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية والمعنوية في الحياة ، وكذلك إذا علمنا أن تشكيل وتأسيس الدولة الإسلامية قد لازم ظهور الإسلام منذ عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا علمنا أن الإسلام يهتم اهتماما خاصّا بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أنّ دور بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده ، من أهم الأدوار.

لا شك أن في كل مجتمع أفرادا عاجزين عن العمل ، مرضى ، يتامى ، معوقين ، وأمثالهم ، وهؤلاء يحتاجون حتما إلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم.

وكذلك يحتاج هذا المجتمع إلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه ، أمّا مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإنّ الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إليهم. وكذلك العاملون في الدولة الإسلامية ، الحكام والقضاة ، وسائل الإعلام والمراكز الدينية وغيرها ، فكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى ميزانية خاصّة ومبالغ طائلة لا يمكن تهيئتها دون أن يكون هناك نظام مالي محكم منظم.

وعلى هذا الأساس أولى الإسلام الزكاة ـ التي تعتبر في الحقيقة نوعا من الضرائب على الإنتاج والأرباح ، وعلى الأموال الراكدة ـ اهتماما خاصا ، حتى أنّه اعتبرها من أهم العبادات ، وقد ذكرت ـ جنبا إلى جنب ـ مع الصلاة في كثير من الموارد ، بل إنّه اعتبرها شرطا لقبول الصلاة.

وأكثر من هذا أننا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الدولة الإسلامية إذا طلبت الزكاة من شخص أو أشخاص وامتنع هؤلاء من ذلك فسوف يحكم بارتدادهم ، وإذا لم تنفع النصيحة معهم ولم يؤثر الموعظة فيهم ، فإنّ الاستعانة بالقوّة العسكرية لمقابلتهم أمر جائز.

٩٦

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من منع قيراطا من الزكاة فليس هو بمؤمن ، ولا مسلم ، ولا كرامة».(١)

وممّا يلفت النظر أنّ الرّوايات قد أظهرت أن تعين الزكاة بهذا المقدار يبيّن دقة حسابات الإسلام ، فإنّ المسلمين جميعا لو أدّوا زكاة أموالهم بصورة دقيقة وكاملة فسوف لن يبقى فقير أو محروم في كافة أنحاء البلاد الإسلامية. ففي رواية عن الصادقعليه‌السلام : «ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا وإن الناس ما افتقروا ، ولا احتاجوا ، ولا جاعوا ، ولا عروا إلّا بذنوب الأغنياء»(٢) .

وكذلك يفهم من الرّوايات أنّ أداء الزكاة سبب لحفظ أصل الملك والأموال وتحكيم أسسها ، بحيث أنّ الناس إذا أهملوا تطبيق هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ الفاصلة والتفاوت بين الطبقات سيصل إلى حد يعرض أموال الأغنياء إلى الخطر.

في حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : «حصّنوا أموالكم بالزكاة»(٣) . وبهذا المضمون نقلت روايات أخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام .

ولمزيد الاطلاع على هذه الأحاديث راجع الأبواب : الأوّل والثّالث والرّابع والخامس من أبواب الزكاة من المجلد السّادس من وسائل الشيعة.

٦ ـ ما الفرق بين العطف بـ «اللام أو في»؟

النقطة الأخيرة التي ينبغي الالتفات إليها ، هي أنّ في الآية التي نبحثها أربعة أقسام ذكرت معطوفة على حرف اللام :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٠ ، باب ٤ ، حديث ٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٤ ، باب ١ من أبواب الزكاة حديث ٦.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٦ ، باب ١ ، من أبواب الزكاة ، حديث ١١.

٩٧

وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ، وهذا التعبير عادة يفيد الملكية. أمّا الأقسام الأربعة الأخرى فقد سبقها حرف (في) :( وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ، وهذا التعبير عادة يستعمل لبيان مورد الصرف(١) .

هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في سبب اختلاف التعبير ، فالبعض يعتقد أن الأصناف الأربعة الأولى يملكون الزكاة ، أمّا الأصناف الأربعة الأخرى فإنّهم لا يملكونها ، بل إن الزكاة يجوز أن تصرف فيهم.

والبعض الآخر يعتقد أن الاختلاف في التعبير يشير إلى مسألة أخرى ، وهي أنّ الطائفة الثّانية أكثر استحقاقا للزكاة ، لأن كلمة (في) لبيان الظرفية ، لهذا فإن هذه المجموعة الرباعية تمثل محتوى ومصرف الزكاة ، والزكاة ووعاء لها ، في حين أن المجموعة الأولى ليست كذلك.

لكننا نحتمل ونرجح احتمالا آخر ، وهو أن الستة أقسام ـ وهم : الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل ـ التي لم تذكر قبلها (في) متساوون وقد عطفت على بعضها البعض ، أمّا القسمان الآخران ـ وهما في الرقاب وفي سبيل الله ـ اللذان بيّنتهما (في) فإنّ لهما وضعا خاصا ، وربّما كان السبب في اختلاف التعبير من جهة إمكان تملك الزكاة من قبل الأصناف الستة ، ويمكن أداء الزكاة إليهم (حتى المدينين والعاجزين عن أداء ديونهم ، لكن بشرط الاطمئنان إلى أنّ هؤلاء يصرفونها في سداد ديونهم).

أمّا الصنفان الآخران فلا يملكون الزكاة ، ولا يمكن دفع الزكاة إليهم ، بل تصرف في جهتهم ، فمثلا يجب الشراء العبيد وتحريرهم عن طريق الزكاة ، ومن الواضح أنّهم لا يملكون الزكاة في هذه الحالة ، بل صرفت الزكاة في جهة

__________________

(١) ينبغي الانتباه إلى أن (في) قد ذكرت صريحا في موردين ، وعطف على مجرور (في) في موردين ، كما أن اللام قد ذكرت في مورد واحد ، وعطف الباقي عليها.

٩٨

تحريرهم. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموارد التي تندرج تحت عنوان (في سبيل الله) كنفقات الجهاد ، وإعداد الأسلحة ، أو بناء المساجد والمراكز الدينية ، وأمثال هذه المفردات لا تملك الزكاة بل أنّها مورد لصرف الزكاة.

وعلى أي حال ، فإنّ التفاوت الاختلاف في التعبير يوضح الدقة المتناهية في التعبيرات القرآنية.

* * *

٩٩

الآية

( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) )

سبب النّزول

هذا حسن لا قبيح!

ذكرت عدّة أسباب متباينة لنزول الآية المذكورة ومنها أنّ الآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يذكرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوء ، فنهاهم أحدهم وقال : لا تتحدثوا بهذا الحديث لئلا يصل إلى سمع محمّد فيذكرنا بسوء ويؤلب الناس علينا.

فقال له أحدهم ـ واسمه جلاس ـ : لا يهمنا ذلك ، فنحن نقول ما نريد ، وإذا بلغه ما نقول سنحضر عنده وننكر ما قلناه ، وسيقبل ذلك منا فإنّه سريع التصديق لما يقال له ، ويقبل كل ما يقال من كل أحد ، فهو أذن ، فنزلت الآية وأجابتهم.

التّفسير

تتحدّث الآية ـ كما يفهم من مضمونها ـ عن فرد أو أفراد كانوا يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهم ويقولون أنّه أذن ويصدّق كل ما يقال له سريعا( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340
٣٤١

سورة

فصّلت

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٤٢

«سورة فصّلت»

نظرة في المحتوى العام للسورة :

سورة «فصلت» من السور المكية ، وهي بذلك لا تخرج في مضامينها الأساسية عن مثيلاتها ، بل تعكس في محتواها كامل خصائص السور المكّية ، من التأكيد على المعارف الإسلامية التي تتصل بالعقيدة وبالحساب والجزاء ، والوعيد والإنذار ، وبالبشرى للذين آمنوا.

لكن كون السورة مكّية لا يعني عدم اختصاصها بمواضيع معينة قد لا نجدها فيما سواها من السور القرآنية الأخرى.

بشكل عام يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط العريضة الآتية :

أوّلا : التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث ، كالإشارة الصريحة إلى حاكمية القرآن في جميع الأدوار والعصور ، وصيانته من أيّ تحريف ، وقوّة منطقه وتماسكه بحيث رأينا أعداء الله يخشون حتى من الاستماع إلى آياته ، بل ويمنعون الناس من مجرّد الإنصات إليه.

الآيتان (٤١) و (٤٢) من السورة تتحدثان عن هذه النقطة بوضوح كامل ، إذ يقول تعالى :( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) .

ثانيا : إثارة قضية خلق السماء والأرض ، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي

٣٤٣

خلق من مادّة (الدخان) ثمّ مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات الحيوانات.

ثالثا : ثمّة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من الأمم السابقة ، مثل قوم عاد وثمود ، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسىعليه‌السلام .

رابعا : تتضمّن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين ، مع ذكر آيات القيامة وما يتعلق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه ، وتوبيخ الله تبارك وتعالى لأمثال هؤلاء.

خامسا : تتناول السورة قسما من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.

سادسا : المواعظ والنصائح المختلفة التي تبعث في الروح الحياة من خلال الدعوة إلى الاستقامة في طريق الحق ، وتوجيه المؤمن نحو أسلوب التعامل المنطقي مع الأعداء وكيفية هدايتهم نحو الله.

سابعا : تنتهي السورة ببحث لطيف قصير عن آيات الآفاق والأنفس ، وتعود كرة اخرى إلى قضية المعاد.

فضيلة تلاوة السورة :

ورد في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من قرأ «حم السجدة» أعطي بكل حرف منها عشر حسنات»(١) .

وفي حديث آخر حول فضيلة قراءة هذه السورة ، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ «حم السجدة» كانت له نورا يوم القيامة مد بصره وسرورا ، وعاش في هذه الدنيا مغبوطا محمودا»(٢) .

وفي حدث عن «سنن البيهقي» أنّ «خليل بن مرّة» كان يقول : إنّ النّبي لم ينم

__________________

(١) مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة ، المجلد ٩ ، صفحة ٢.

(٢) مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة ، المجلد ٩ ، صفحة ٢.

٣٤٤

ليلة من الليالي قبل أن يقرأ سورتي «تبارك» و «حم السجدة».(١)

وطبيعي أنّ هذه السورة المباركة بكل ما تتضمّن في مضامينها العالية من أنوار ومعارف ومواعظ إنّما تكون مؤثرة فيما لو تحولت تلاوتها إلى نور ينفذ إلى أعماق النفس ، فتتحول في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم القيامة نحو الصراط والخلاص ، لأنّ التلاوة مقدمة للتفكير ، والتفكير مقدمة للعمل. إنّ تسمية السورة بـ «فصلت» مشتق من الآية الثّالثة فيها. وإطلاق «حم السجدة» عليها لأنّها تبدأ بـ «حم» والآية (٣٧) فيها هي آية السجدة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، ص صفحة ٨٤.

٣٤٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) )

التّفسير

عظمة القرآن :

تذكر الرّوايات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يكف عن عيب آلهة المشركين ، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون : هذا شعر محمّد. ويقول بعضهم : بل هو كهانة. ويقول بعضهم : بل هو خطب.

وكان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا ، وكان من حكّام ، العرب يتحاكمون إليه في الأمور ، وينشدونه لأشعاره فما اختاره من الشعر كان مختارا ، وكان له بنون لا يبرحون من مكّة ، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتجر بها ، وملك القنطار في ذلك الزمان (القنطار : جلد ثور مملوء ذهبا) وكان من المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٤٦

وفي يوم سأل أبو جهل الوليد بن المغيرة قائلا له :

يا أبا عبد شمس ، ما هذا الذي يقول محمّد؟ أسحر أم كهان أم خطب؟

فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس في الحجر ، فقال : يا محمّد أنشدني من شعرك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هو بشعر ، ولكنّه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال : اتل عليّ منه.

فقرأ عليه رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فلمّا سمع (الوليد) الرحمن استهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن ، قال : لا ، ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة «حم السجدة» ، فلمّا بلغ إلى قوله تعالى :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) فلمّا سمعه اقشعر جلده ، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش : يا أبا الحكم ، صبأ أبو عبد شمس إلى دين محمّد ، أما تراه لم يرجع إلينا؟ وقد قيل قوله ومضى إلى منزله ، فاغتمت قريش من ذلك غما شديدا.

وغدا عليه أبو جهل فقال : يا عم ، نكست برؤوسنا وفضحتنا.

قال : وما ذلك يا ابن أخ؟

قال : صبوت إلى دين محمّد.

قال : ما صبوت ، وإني على دين قومي وآبائي ، ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود.

قال أبو جهل : أشعر هو؟

قال : ما هو بشعر.

قال : فخطب هي؟

قال : إن الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور ، ولا يشبه بعضه بعضا ، له

٣٤٧

طلاوة.

قال : فكهانة هي؟

قال : لا.

قال : فما هو؟

قال : دعني أفكّر فيه.

فلمّا كان من الغدو قالوا : يا أبا عبد شمس ما تقول؟

قال : قولوا هو سحر ، فإنّه آخذ بقلوب الناس ، فأنزل الله تعالى فيه :( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً ) إلى قوله :( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) (١) (٢) .

إنّ هذه الرّواية الطويلة تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة ، بحيث أنّ أكثر المتعصبين من مشركي مكّة أبدى تأثره بآياتها ، وذلك يظهر جانبا من جوانب العظمة في القرآن الكريم.

نعود الآن إلى المجموعة الأولى من آيات هذه السورة المباركة ، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها( حم ) .

لقد تحدثنا كثيرا عن تفسير هذه الحروف ، ولا نرى حاجة للإعادة سوى أنّ البعض اعتبر( حم ) اسما للسورة. أو أنّ (ح) إشارة إلى «حميد» و (م) إشارة إلى «مجيد» وحميد ومجيد هما من أسماء الله العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول :( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) .

إنّ «الرحمة العامة» و «الرحمة الخاصة» لله تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق. ولها بركات خاصة للأولياء.

__________________

(١) المدثر ، الآية ١١ ـ ٣٠.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١٧ ، صفحة ٢١١ فما فوق ، ويمكن ملاحظة القصة في كتب اخرى منها : تفسير القرطبي في مطلع حديثه عن السورة. المجلد الثامن ، صفحة ٥٧٨٢.

٣٤٨

في الواقع إنّ الرحمة هي الصفة البارزة لهذا الكتاب السماوي العظيم ، التي تتجسّد من خلال آياته العطرة التي تفوح بشذاها ونورها فتضيء جوانب الحياة ، وتسلك بالإنسان مسالك النجاة والرضوان.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن ، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم ، وذكرت له خمسة صفات ترسيم الوجه الأصلي للقرآن :

فتقول أوّلا : إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كلّ آية في مكانها الخاص ، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كلّ المجالات والأدوار والعصور ، فهو :( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ) (١) .

وهو كتاب فصيح وناطق( قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وهذا الكتاب بشير للصالحين نذير للمجرمين :( بَشِيراً وَنَذِيراً ) إلّا أنّ أكثرهم :( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) (٢) .

بناء على ذلك فإنّ أول خصائص هذا الكتاب هو أنّه يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كلّ ما يحتاجه الإنسان وفي جميع المستويات ، ويلبي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل ، لأنّ «قرآن» مشتق من القراءة ، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثّالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته ، حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أي نواقص. وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم ، عن طريق أسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب ، فآية تقوم بتشويق

__________________

(١) «كتاب» خبر بعد الخبر ، وبهذا الترتيب فإنّ «تنزيل» خبر لمبتدأ محذوف و «كتاب» خبر بعد الخبر.

(٢) «لقوم يعلمون» يمكن أن تكون متعلقة بـ «فصلت» أو بـ «تنزيل».

٣٤٩

الصالحين والمحسنين بحيث أنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في أشواق الملكوت والرحمة. وأحيانا تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.

إنّ هذين الأصلين التربويين (الترغيب والتهديد) متلازمان في الآيات القرآنية ومترابطان في أسلوبه.

ومع ذلك فإنّ المتعصبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل ، وكأنّهم لا يسمعونها أبدا بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية ، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق ، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء ـ كمحاولة منهم لثني الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن دعوته ، وايغالا منهم في الغي وفي زرع العقبات ـ يتحدثون عند رسول الله بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم :( وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ) .

ما دام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا ، فاعمل ما شئت فإننا عاكفون على عملنا :( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) .

حال هؤلاء كحال المريض الأبله الذي يهرب من الطبيب الحاذق ، ويحاول أن يبعد نفسه عنه بشتى الوسائل والأساليب.

إنّهم يقولون : إنّ عقولنا وأفكارنا موضوعة في علب مغلقة بحيث لا يصلها شيء.

«أكنّة» جمع «كنان» وتعني الستار. أي أن الأمر لا يقتصر هنا على ستار واحد ، بل هي ستائر من العناد والتقليد الأعمى ، وأمثال ذلك ممّا يحجب القلوب ويطبع عليها.

وقالوا أيضا : مضافا إلى أنّ عقولنا لا تدرك ما تقول ، فإنّ آذاننا لا تسمع لما

٣٥٠

تقول أيضا ، وهي منهم إشارة إلى عطل المركز الأصلي للعمل والوسائل المساعدة الأخرى.

وبعد ذلك ، فإن بيننا وبينك حجاب سميك ، بحيث حتى لو كانت آذاننا سالمة فإننا لا نسمع كلامك ، فلما ذا ـ إذا ـ تتعب نفسك ، لماذا تصرخ ، تحزن ، تقوم بالدعوة ليلا ونهارا؟ اتركنا وشأننا فأنت على دينك ونحن على ديننا.

هكذا بمنتهى الوقاحة والجهل ، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

والطريف أنّهم لم يقولوا : «وبيننا وبينك حجاب» بل أضافوا للجملة كلمة «من» فقالوا :( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ) وذلك لبيان زيادة التأكيد ، لأنّ بزيادة هذه الكلمة يصبح مفهوم الجملة هكذا : إنّ جميع الفواصل بيننا وبينك مملوءة بالحجب ، وطبيعي أن يكون حجاب مثل هذا سميكا عازلا للغاية ليستوعب كلّ الفواصل بين الطرفين ، وبذلك سوف لا ينفع الكلام مع وجود هذا الحجاب.

وقد يكون الهدف من قول المشركين :( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) محاولتهم زرع اليأس عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو قد يكون المراد نوعا من التهديد له ، أي اعمل ما تستطيعه ونحن سوف نبذل ما نستطيع ضدّك وضدّ دينك ، والتعبير يمثل منتهى العناد والتحدي الأحمق للحق ولرسالاته.

* * *

٣٥١

الآيات

( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) )

التّفسير

من هم المشركون؟

الآيات التي بين أيدينا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين ، وهي في الواقع إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة ، وإزالة لأي وهمّ قد يلصق بدعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول تعالى لرسوله الكريم :( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) .

فلا أدّعي أنّي ملك ، ولست إنسانا أفضل منكم ، ولست بربّكم ، ولا ابن الله بل أنا إنسان مثلكم ، وأختلف عنكم بتعليمات التوحيد والنبوّة والوحي ، لا أريد أن

٣٥٢

أفرض عليكم ديني حتى تقفوا أمامي وتقاوموني أو تهددونني ، لقد أوضحت لكم الطريق ، وإليكم يعود التصميم والقرار النهائي.

ثمّ تستمر الآية :( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) (١) .

ثمّ تضيف الآية محذّرة :( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) .

الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين ، وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها ، حيث يقول تعالى :( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

إنّ هؤلاء يعرفون بأمرين : ترك الزكاة ، وإنكار المعاد.

لقد أثارت هذه الآية كلاما واسعا في أوساط المفسّرين ، وذكروا مجموعة احتمالات تفي تفسيرها ، والسبب في كلّ ذلك هو أنّ الزكاة من فروع الدين ، فكيف يكون تركها دليلا على الكفر والشرك؟

البعض أخذ بظاهر الآية وقال : إنّ ترك الزكاة يعتبر من علائم الكفر ، بالرغم من عدم تلازمه مع إنكار وجوبه.

البعض الآخر اعتبر الترك مع تلازم الإنكار دليلا على الكفر ، لأنّ الزكاة من ضروريات الإسلام ومنكرها يعتبر كافرا.

وقال آخرون : الزكاة هنا بمعنى التطهير والنظافة ، وبذلك يكون المقصود بترك الزكاة ، ترك تطهير القلب من لوث الشرك ، كما جاء في الآية (٨١) من سورة الكهف في قوله تعالى :( خَيْراً مِنْهُ زَكاةً ) .

إلّا أنّ كلمة (لا يؤتون) لا تناسب المعنى أعلاه ، لذلك يبقى الإشكال على حاله.

__________________

(١) «فاستقيموا» مأخوذة من «الاستقامة» وهي هنا بمعنى التوجه بشكل مستقيم نحو شيء معين ، لذا فإنها تعدت بواسطة الحرف (إلى) لأنّها تعطي مفهوم (استواء).

٣٥٣

لذلك لا يبقى من مجال سوى أن يكون المقصود منها هو أداء الزكاة.

المشكلة الأخرى التي تواجهنا هنا ، هي أن الزكاة شرّعت في العام الثّاني من الهجرة المباركة ، والآيات التي بين أيدينا مكية ، بل يذهب بعض كبار المفسّرين إلى أنّ سورة «فصلت» هي من أوائل السور النازلة في مكّة ، لذلك كلّه ـ وبغية تلافي هذه المشكلة ـ فسّر المفسّرون الزكاة هنا بأنها نوع من الإنفاق في سبيل الله ، أو أنّهم تأولوا المعنى بقولهم : إنّ أصل وجوب الزكاة نزل في مكّة ، إلّا أنّ حدودها ومقدارها والنصاب الشرعي لها نزل تحديده في العام الثّاني من الهجرة المباركة.

يتبيّن من كلّ ما سلف أنّ أقرب مفهوم لمقصود الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق ، أما كون ذلك من علائم الشرك ، فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل الله يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب لله ، لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه ، وبذلك فإنّ الإنفاق ـ وعدمه ـ يمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك ، خصوصا في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه ونفسه ، كما نرى ذلك واضحا في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.

بعبارة اخرى : إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا ، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد ، أو يكون ترك الزكاة ملازما لإنكار وجوبه.

وثمّة ملاحظة اخرى تساعد في فهم التّفسير ، وهي أنّ الزكاة لها وضع خاص في الأحكام والتعاليم الإسلامية ، وإعطاء الزكاة يعتبر علامة لقبول الحكومة الإسلامية والخضوع لها ، وتركها يعتبر نوعا من الطغيان ولمقاومة في وجه الحكومة الإسلامية ، ونعرف أنّ الطغيان ضدّ الحكومة الإسلامية يوجب الكفر.

والشاهد على هذا المطلب ما ذكره المؤرخون من «اصحاب الرّدة» وأنّهم من

٣٥٤

«بني طي» و «غطفان» و «بني اسد» الذين امتنعوا عن دفع الزكاة لعمال الحكومة الإسلامية في ذلك الوقت ، وبهذا رفعوا لواء المعارضة فقاتلهم المسلمون وقضوا عليهم.

صحيح أنّ الحكومة الإسلامية لم يكن لها وجود حين نزول هذه الآية ولكن هذه الآية يمكنها أن تكون إشارة مجملة الى هذه القضية.

وقد ذكر في التواريخ أن أهل الردّة قالوا بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا الصلاة فنصلي ، وأمّا الزكاة فلا يغصب أموالنا» وهكذا رأى المسلمون ضرورة قتالهم وقمع الفتنة.

الآية الأخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء المشركين البخلاء ، وتتعرض إلى جزائهم حيث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) .

«ممنون» مشتق من «منّ» وتعني هنا القطع أو النقص ، لذا فإنّ غير ممنون تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.

وقيل إنّ مصطلح «منون» ـ على وزن «زبون» ـ ويعني الموت مشتق من هذه المفردة ، وكذلك المنّة باللسان ، لأنّ الأوّل يعني القطع ونهاية العمر ، بينما الثاني يعني قطع النعمة والشكر(١) .

وذهب بعض المفسّرين إلى القول بأنّ المقصود بـ( غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أنّه لا توجد أيّ منّة على المؤمنين فيما يصلهم من أجر وجزاء وعطاء. لكن المعنى الأوّل أنسب.

* * *

__________________

(١) يلاحظ مادة «من» في مفردات الراغب.

٣٥٥

ملاحظة

الأهمية الاستثنائية للزكاة في الإسلام :

الآية أعلاه تعتبر تأكيدا مجدّدا وشديدا حول أهمية الزكاة كفريضة إسلامية ، سواء كانت بمعنى الزكاة الواجبة أو بمفهومها الواسع ، وينبغي أن يكون ذلك ، لأنّ الزكاة تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتحقيق العدالة الاجتماعية ، ومحاربة الفقر والمحرومية ، وملء الفواصل الطبقية ، بالإضافة إلى تقوية البنية المالية للحكومة الإسلامية ، وتطهير النفس من حبّ الدنيا وحبّ المال ، والخلاصة : إنّ الزكاة وسيلة مثلي للتقرب إلى الله تبارك وتعالى :

وقد ورد في الروايات الإسلامية أن ترك الزكاة يعتبر بمنزلة الكفر ، وهو تعبير يشبه ما ورد في الآية التي نحن بصددها.

وفي هذا المجال نستطيع أن نقف مع الأحاديث الآتية :

أوّلا : في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ من وصايا رسول الله لأمير المؤمنين على بن أبي طالب قوله له : «يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأئمّة عشرة ، وعدّ منهم مانع الزكاة ثمّ قال : يا علي من منع قيراطا من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة ، يا علي : تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا ، وذلك قولهعزوجل :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) ١) .

ثانيا : في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها ، وهي الزكاة ، بها حقنوا دماءهم وبها سموا مسلمين»(٢) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد السادس ، الصفحات ١٨ و ١٩ «باب ثبوت الكفر والارتداد والقتل بمنع الزكاة استحلالا وجحودا» وقد اعتبر بعض الفقهاء كصاحب الوسائل مثلا ، أنّ الروايات أعلاه تختص بإنكار الزكاة.

(٢) المصدر السابق.

٣٥٦

ثالثا : أخيرا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «من منع قيراطا من الزكاة فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا»(١) .

وتقدم بحث مفصل عن أهمية الزكاة في الإسلام وفلسفتها وتأريخ وجوب الزكاة في الإسلام ، وكل ما يتعلق بها من أمور ، في تفسير الآية (٦٠) من سورة التوبة.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٥٧

الآيات

( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) )

التّفسير

مراحل خلق السماوات والأرض :

الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية ، وعلائم العظمة ، وقدرة الخلق جلّ وعلا في خلق الأرض والسماء ، وبداية خلق الكائنات ، حيث يأمر تعالى النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمخاطبة الكافرين والمشركين وسؤالهم : هل يمكن إنكار خالق هذه

٣٥٨

العوالم الواسعة العظيمة؟

لعلّ هذا الأسلوب يوقظ فيهم إحساسهم ووجدانهم فيحتكمون للحق.

يقول تعالى :( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) وتجعلون لله تعالى شركاء ونظائر :( وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) .

إنّه لخطأ كبير ، وكلام يفتقد إلى الدليل.( ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

إنّ الذي يدبّر أمور هذا العالم ، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق ، فلما ذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!

إنّ الذي يستحق العبادة هو الذي يقوم بالخلق والتدبير ، ويملك هذا العالم ويحكمه.

الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية ، حيث تقول :( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين :( سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) (١) .

وبهذا الترتيب فإنّ تبارك وتعالى قد دبّر لكلّ شيء قدره وحاجته ، وليس ثمّة في الوجود من نقص أو عوز ، كما في الآية (٥٠) من سورة «طه» حيث قوله تعالى :( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) .

المقصود من «السائلين» هنا هم الناس ، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات [وإذا ذكرت بصيغة الجمع للعاقب فهي من باب التغليب].

ووفق هذا التّفسير فإنّ الله تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب ، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضا.

__________________

(١) هناك احتمالات متعدّدة حول محل (سواء) و (للسائلين) من الأعراب وبما تختص.

الأوّل : أنّ (سواء) حال بـ (أقوات) و (للسائلين) متعلق بـ (سواء) وتكون النتيجة هي التّفسير الذي أوردناه أعلاه.

الثّاني : أنّ (سواء) صفة للأيام ، يعني أنّ هذه المراحل الأربع تتساوى فيما بينها. وأما (للسائلين) فإما أن تتعلق بـ (قدر) أو بمحذوف ويكون التقدير (كائنة للسائلين) يعني أنّ الأيّام الأربع هذه تعتبر جوابا للسائلين. لكن التّفسير الأوّل أوضح.

٣٥٩

وهنا يثار هذا السؤال : تذكر الآيات القرآنية ـ أعلاه ـ أنّ خلق الأرض تمّ في يومين ، وخلق الجبال والبركات والطعام في أربعة أيّام. وبعد ذلك خلق السماوات في يومين ، وبذا يكون المجموع ثمانية أيّام ، في حين أن أكثر من آية في كتاب الله تذكر أنّ خلق السماوات والأرض تمّ في ستة أيّام ، أو بعبارة اخرى : في ستة مراحل(١) ؟

سلك المفسّرون طريقان في الإجابة على هذا السؤال :

الطريق الأوّل : وهو المشهور المعروف ، ومفاده أنّ المقصود بأربعة أيّام هو تتمة الأربعة أيّام ، بأن يتم في اليومين الأولين من الأربعة خلق الأرض ، وفي اليومين الآخرين خلق باقي خصوصيات الأرض. مضافا إلى ذلك اليومين لخلق السماوات ، فيكون المجموع ستة أيّام أو ست مراحل.

وشبيه ذلك ما يرد في اللغة العربية من القول مثلا بأنّ المسافة من هنا إلى مكّة يستغرق قطعها عشرة أيّام ، وإلى المدينة المنورة (١٥) يوما ، أي إنّ المسافة بن مكّة والمدينة تكون خمسة أيام ومن هنا إلى مكّة عشرة أيّام(٢) .

وهذا التّفسير صحيح لوجود مجموعة الآيات التي تتحدث عن الخلق في ستة أيّام ، وإلّا ففي غير هذه الحالة لا يمكن الركون له ، من هنا تتبين أهمية ما يقال من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا.

الطريق الآخر الذي اعتمده المفسّرون للإجابة على الإشكال أعلاه هو قولهم : إنّ أربعة أيّام لا تختص ببداية الخلق ، بل هي إشارة إلى الفصول الأربعة للسنة ، والتي هي بداية ظهور الأرزاق ونمو المواد الغذائية التي تنفع الإنسان

__________________

(١) يمكن مراجعة الآيات (٥٤) من سورة الأعراف و (٣) من سورة هود و (٥٩) من سورة الفرقان و (٤) من سورة السجدة و (٣٨) سورة ق و (٤) من سورة الحديد.

(٢) في ضوء هذا التفسير يكون للآية تقديرها بالصيغة الآتية وقدّر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيّام أو يكون التقدير كما جاء في تفسير «الكشاف» : «كل ذلك في أربعة أيّام».

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608