الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261193 / تحميل: 6486
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ملاحظات

وهنا نلفت الأنظار إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ إنّ نوع العمل هو المهم لا مقداره ، وهذه الحقيقة في القرآن واضحة جلية ، فالإسلام لم يستند في أي مورد إلى كثرة العمل ومقداره ، بل هو يؤكّد دائما ـ وفي كل الموارد ـ على أن الأساس هو نوع العمل وكيفيته ، وهو يولي الإخلاص في العمل أهمية خاصّة ، والآيات المذكورة نموذج واضح لهذا المنطق القرآني.

وكما رأينا ـ أنّ القرآن الكريم مجّد عملا مختصرا لعامل مسلم بقي يعمل إلى الصباح في استقاء الماء بقلب يغمره عشق الله ومحبته ، وينبض بالمسؤولية تجاه مشاكل المجتمع الإسلامي ليحصل على صاع من تمر ويقدّمه لمقاتلي الإسلام في لحظات حساسة وفي مقابل ذلك نرى القرآن قد ذمّ الذين حقّروا هذا العمل الصغير ظاهرا ، الكبير واقعا ، وهدّدهم وأوعدهم بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم.

ومن هذه الواقعة تتّضح حقيقة أخرى ، وهي أنّ المسلمين في المجتمع الإسلامي الواقعي السالم يجب أن يحسوا جميعا بالمسؤولية تجاه المشاكل التي تعترض المجتمع وتظهر فيه ، ولا يجب أن ينتظروا الأغنياء والمتمكنين يقوموا وحدهم بحل هذه المشاكل والمصاعب ، بل على الضعفاء أيضا أن يساهموا بما يستطيعون ، مهما صغر وقل ما يقدمونه ، لأنّ الإسلام يتعلق بالجميع لا بفئة منهم ، وعلى هذا ، فعلى الجميع أن يسعوا في حفظ الإسلام ولو ببذل النفوس والدماء ، ويعملوا بكل وجودهم من أجل حياته وصيانته. المهم أن كل فرد يجب أن يبذل ما يستطيع ، ولا يلتفت إلى مقدار عطائه ، فليس المعيار كثرة العطاء وقلته ، بل الإحساس بالمسؤولية والإخلاص في العمل.

ومن المناسب في هذا المقام أن نطالع حديثا نقل عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «جهد المقل».

٢ ـ إنّ الصفة التي ذكرتها الآيات السابقة كسائر صفات المنافقين الأخرى لا

١٤١

تختص بمنافقي عصر النبوة ، بل هي مشتركة بين منافقي كل العصور والأزمنة ، فإنّ هؤلاء يسعون بسوء ظنهم ودناءة سريرتهم أن يقللوا من أهمية أعمال الخير بأساليب مختلفة ، وإماتة الحوافز الخيّرة في الناس والسخرية والاستهزاء ، والاستهانة بأعمال الفقراء المخلصة والخالية من كل شائبة ، وتحطيم شخصية هؤلاء ، كل ذلك من أجل إطفاء جذوة الخير في المجتمع لينالوا ما يطمحون إليه من الشر والفساد.

إلّا أنّ الواجب على المسلمين الواعين في كل عصر وزمن أن ينتبهوا إلى أهداف المنافقين وخططهم ، وأن يشمروا الساعد ويحثوا السير في الاتجاه المضاد لعمل هؤلاء ، فيدعون الناس إلى عمل الخير ، ويوقرون ويعظمون العمل الصغير إذا صدر من الفقراء ، ويكبرون فيهم تلك النفوس التي لم تقصّر عن خدمة الإسلام حسب طاقتهم ، وعن هذا الطريق سيشجعون الصغير والكبير على الاستمرار في هذه الأعمال ، بل ويكثرون منها إذا قدروا ، وكذلك عليهم أن يبينوا لهم خطط المنافقين الهدامة في سبيل تحطيمهم ، فإذا عرفها المجتمع فسوف لا تؤثر فيه دعاياهم وسمومهم ، وعندها سيستمر في طريق الخير وخدمة الدين الحنيف وتثبيت هذه العقيدة التي اختارها.

٣ ـ ليس المراد من جملة( سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ ) أنّ الله سيعمل أعمالا تشابه أعمالهم ، بل المراد ـ كما قاله المفسّرون ـ أنّ الله سبحانه تعالى سيجازيهم على ما عملوا من الأعمال السيئة ، أو أنّه تعالى سيحقرهم كما حقروا عباده وسخروا منهم.

٤ ـ لا شك أنّ عدد السبعين الوارد في الآية يدل على الكثرة لا على نفس العدد ، وبعبارة أخرى : إن معنى الآية ، أنّك مهما استغفرت لهؤلاء فلن يغفر الله لهم ، تماما كما يقول شخص لآخر : إذا أصررت وكررت قولك مائة مرّة فلن أقبل منك ، ولا يعني هذا أنّه لو كرر قوله مائة مرّة وزاد واحدة فسوف يقبل قوله ، بل المراد أن قوله سوف لن يقبل مطلقا مهما كرره.

١٤٢

إنّ مثل هذا التعبير يفيد تأكيد المراد ، ولهذا فقد ذكر هذا الموضوع بنفسه في الآية (٦) من سورة المنافقين ، وقد نفي نفيا مطلقا ، حيث تقول الآية :( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

والدليل الآخر على هذا الكلام ، العلة التي ذكرت في آخر الآية ، وهي :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) وهي توضح أنّ الاستغفار لأمثال هؤلاء مهما كثر وعظم فإنّه سوف لا ينجيهم ، ولا يمكن أن يكون سببا في خلاصهم ممّا ينتظرهم.

العجيب في الأمر أنّ عدّة روايات نقلت من مصادر أهل السنة ، ورد فيها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد أن نزلت هذه الآية : «لأزيدن في الاستغفار لهم على سبعين مرّة»!

رجاء منه أن يغفر الله لهم ، فنزلت :( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) (١) .

وهذه الرّوايات تعني أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فهم من هذه الآية أنّ المراد من السبعين هو العدد بالذات ، ولهذا قال : «لأزيدن في الاستغفار لهم على سبعين مرّة» في الوقت الذي تريد الآية ـ كما قلنا ـ أن تقول لنا : إن العدد المذكور ذكر على وجه الكثرة والمبالغة ، وكناية عن النفي المطلق المقترن بالتأكيد ، خصوصا مع ملاحظة العلة التي ذكرت في ذيل الآية التي توضح ما ذكرناه.

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الرّوايات لا يمكن قبولها لأنّها تخالف القرآن ، خاصّة وأن أسانيدها غير معتبرة عندنا.

التوجيه الوحيد الممكن لهذه الرّوايات ـ بالرغم من أنّه خلاف الظاهر ـ هو أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول ذلك قبل نزول الآيات المذكورة ، ولما نزلت هذه الآيات كف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاستغفار لهؤلاء.

ونقلت رواية أخرى في هذا الموضوع ، قد تكون هي الأصل للرّوايات

__________________

(١) لقد وردت روايات كثيرة بهذا المضمون ذكرت في تفسير الطبري ، ج ١٠ ، ص ١٣٨.

١٤٣

الأخرى المذكورة ، وإنّما اختلفت الرّوايات لأنّها نقلت بالمعنى لا بالنص ، وهي

أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لو علمت إنّني لو زدت على السبعين مرّة غفر لهم لفعلت»، ومعنى هذا الكلام ـ خاصه مع ملاحظة (لو) الدالة على الامتناع ـ أنّي أعلم أن الله سبحانه لا يغفر لهؤلاء ، غير أن قلبي يحرص على هداية عباد الله ونجاتهم ، بحيث لو عملت ـ فرضا ـ أن الزيادة في الاستغفار عن السبعين مرّة ستنجيهم لفعلت ذلك.

وعلى كل حال ، فإن معنى الآيات المذكورة واضح ، وكل حديث يخالفها فإمّا أن يوجه بحيث يوافقها أو يطرح جانبا.

* * *

١٤٤

الآيات

( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) )

التّفسير

إعاقة المنافقين مرّة أخرى :

يستمر الحديث في هذه الآيات حول تعريف المنافقين وأساليب عملهم وسلوكهم وأفكارهم ليعرفهم المسلمون جيدا ، ولا يقعوا تحت تأثير وسائل إعلامهم وخططهم الخبيثة وسمومهم.

في البداية تتحدث الآية عن هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك ،

١٤٥

وتعذروا بأعذار واهية كبيت العنكبوت ، وفرحوا بالسلامة والجلوس في البيت بدل المخاطرة بأنفسهم والاشتراك في الحرب رغم أنّها مخالفة لأوامر الله ورسوله :( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ ) وبدل أن يضعوا كل وجودهم وإمكاناتهم في سبيل الله لينالوا افتخار الجهاد وعنوان المجاهدين ، فإنّهم امتنعوا( وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) .

إلّا أنّ هؤلاء النفر لم يكتفوا بتخلفهم وتركهم لهذا الواجب المهم ، بل إنّهم سعوا في تحذيل الناس عن الجهاد بوساوسهم الشّيطانية ومحاولة إخماد جذوة الحماسة الملتهبة في صدور المسلمين وتشبث المنافقون بكل عذر يمكن أن يحقق الهدف حتى ولو كان العذر الحرّ!!( وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ) . وفي الحقيقة إنّ هؤلاء كانوا يطمعون في أضعاف إرادة المسلمين ، ومن جهة أخرى كانوا يحاولون سحب أكبر عدد ممكن إلى مستنقع رذيلتهم ، حتى لا ينفردوا بالجرم.

ثمّ تتغير وجهة الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيأمره الله سبحانه وتعالى أن يجيبهم بلهجة شديدة وأسلوب قاطع :( قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ) . لكنّهم للأسف لضعف إيمانهم ، وعدم الإدراك الكافي لا يعلمون آية نار تنتظرهم ، فشرارة واحدة من تلك النّار أشدّ حرارة من جميع نيران الدّنيا وأشدّ حرقة وألما.

وتشير الآية الثّانية إلى أنّ هؤلاء قد ظنوا بأنّهم قد حققوا نصرا بتخلفهم وتخذيلهم المسلمين وصرف أنظارهم عن مسألة الجهاد ، وضحكوا لذلك وقهقهوا بملء أفواههم ، وهذا هو حال المنافقين في كل عصر وزمن ، إلّا أنّ القرآن حذّرهم من مغبة أعمالهم فقال:( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ) .

نعم ، ليبكوا على مستقبلهم المظلم ليبكوا على العذاب الأليم الذي ينتظرهم ليبكوا على أنّهم أعلقوا كل أبواب العودة بوجوههم ، وأخيرا ليبكوا على ما أنفقوا من قوتهم وقدراتهم وعمرهم الثّمين ، واشتروا به الخزي والفضيحة وسوء العاقبة وتعاسة الحظ.

١٤٦

وفي نهاية الآية يبيّن الله تعالى أنّ هذه العاقبة التي تنتظرهم هي( جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

ممّا قلناه يتّضح أنّ المقصود هو : إنّ هذه الجماعة يجب أن يضحكوا قليلا في هذه الدنيا ويبكوا كثيرا ، لأنّهم لو اطلعوا على ما ينتظرهم من العذاب الأليم لبكوا كثيرا ولضحكوا قليلا بالفعل.

إلّا أنّ بعض المفسّرين يذكر رأيا آخر في تفسير هذه الآية ، وهو أنّهم مهما ضحكوا فإنّ ضحكهم قليل لقصر عمر الدنيا ، وسيبكون في الآخرة بكاء بحيث أن كل بكاء الدنيا لا يعادل شيئا من ذلك البكاء.

غير أن التّفسير الأوّل أنسب وأوفق لظاهر الآية ، وللتعبيرات المشابهة لها سواء وردت في الأقوال أم الكتابات ، خاصّة إذا علمنا أن اللازم من التّفسير الثّاني أن يكون معنى الأمر في الآية هو الإخبار لا الأمر ، وهذا خلاف الظاهر.

ويشهد للمعنى الأوّل الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي ذكره كثير من المفسّرين ، حيث قال : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا». (فتأمل جيدا).

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ إشارة إلى طريقة أخرى دقيقة وخطرة من طرق المنافقين ، وهي أنّهم حينما يفعلون ما يخالف القانون الإسلامي ، فإنّهم يظهرون أعمالا يحاولون بها جبران ما صدر منهم ، ومحاولة تبرئة ساحتهم ممّا يستحقون من العقوبة ، وبهذه الأعمال المناقضة لأعمالهم المخالفة للقانون فإنّهم يخفون وجوههم الحقيقة ، أو يسعون إلى ذلك.

إنّ الآية الكريمة تقول :( فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ) أي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن يزرع اليأس في نفوس هؤلاء ، ويعلمهم أن هذا التلون سوف لا ينطلي على أحد ، ولن يخدع بهم أحد ، والأولى لهم أن يحزموا أمتعتهم ويرحلوا من هذا المكان إلى

١٤٧

مكان آخر ، فإنّ أحدا سوف لا يقع في مكائدهم وحبائلهم في هذه المدينة.

وتوجد هنا مسألة ينبغي التنبيه إليها ، وهي أنّ جملة( طائِفَةٍ مِنْهُمْ ) توحي أن هؤلاء المنافقين لم يكونوا بأجمعهم يمتلكون الشجاعة حتى يحضروا ويطلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السماح لهم في الخروج إلى الجهاد ، ربّما لأن بعضهم كانوا مفضوحين إلى حد يخجلون معه من الحضور في مجلس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب الخروج معه.

ثمّ تبيّن الآية أن سبب عدم قبول اقتراح هؤلاء وطلبهم ب( إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ لا شك أنّ هذه المجموعة من المنافقين لو كانوا قد ندموا على تخلفهم وتابوا منه، وأرادوا الجهاد في ميدان آخر من أجل غسل ذنبهم السابق ، لقبل الله تعالى منهم ذلك ، ولم يردهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلى هذا يتبيّن لنا أن طلبهم هذا بنفسه نوع من المراوغة والشيطنة وعمل نفاقي ، أو قل : إنّه كان تكتيكا من أجل إخفاء الوجه القبيح لهم ، والاستمرار في أعمالهم السابقة.

٢ ـ إنّ كلمة (خالف) تأتي بمعنى المتخلف ، وهي إشارة إلى المتخلفين عن الحضور في ساحات القتال ، سواء كان تخلفهم لعذر أو بدون عذر.

وذهب البعض قال : إنّ خالف بمعنى مخالف ، أي اذهبوا أيّها المخالفون وضموا أصواتكم إلى المنافقين لتكونوا جميعا صوتا واحدا.

وفسّرها البعض بأنّ معناها (فاسد) لأنّ الخلوف بمعنى الفساد ، وخالف : جاء في اللغة بمعنى فاسد.

ويوجد احتمال آخر ، وهو أنّه قد يراد من الكلمة جميع المعاني المذكورة ، لأنّ المنافقين وأنصارهم توجد فيهم كل هذه الصفات الرذيلة.

١٤٨

٣ ـ وكذا ينبغي أن نذكر بأنّ المسلمين يجب أن يستفيدوا من طرق مجابهة المنافقين في الأعصار الماضية ، ويطبقوها في مواجهة منافقي محيطهم ومجتمعهم ، كما يجب اتباع نفس أسلوب النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم ، ويجب الحذر من السقوط في شباكهم وأن لا ينخدع المسلم بهم ، ولا يرق قلبه لدموع التماسيح التي يذرفونها ، «فإنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين».

* * *

١٤٩

الآيتان

( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) )

التّفسير

أسلوب أشدّ في مواجهة المنافقين :

بعد أن أزاح المنافقون الستار عن عدم مشاركتهم في ميدان القتال ، وعلم الناس تخلفهم الصريح ، وفشا سرّهم ، أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه بأن يتبع أسلوبا أشدّ وأكثر صراحة ليقتلع وإلى الأبد ـ جذور النفاق والأفكار الشيطانية ، وليعلم المنافقون بأنّهم لا محل لهم في المجتمع الإسلامي ، وكخطوة عملية في مجال تطبيق هذا الأسلوب الجديد ، صدر الأمر الإلهي( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) .

إن هذا الأسلوب ـ في الواقع ـ هو نوع من الكفاح السلبي الفاعل في مواجهة المنافقين ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستطع ـ للأسباب التي ذكرناها آنفا ـ أن يأمر بقتل

١٥٠

هؤلاء صراحة لتطهير المجتمع الإسلامي منهم ، أمّا هذا الأسلوب السلبي فهو مؤثر في احتقار هؤلاء وتحجيم دورهم ، وتقزيمهم وطردهم من المجتمع الإسلامي.

من المعلوم أنّ المؤمن الحقيقي محترم في الشرع الإسلامي حيّا وميتا ، ولهذا نرى الدين الإسلامي الحنيف قد أصدر ضمن تشريعاته الأمر بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، وأوجب أن يولى احتراما كبيرا ، وأن يودع التراب بمراسم خاصّة ، وحتى بعد دفنه فإنّ من حقوقه أن يزور المؤمنون قبره ، ويستغفروا له ، ويطلبوا الرحمة له.

إنّ عدم إجراء هذه المراسم لفرد معين يعني طرده من المجتمع الإسلامي ، وإذا كان الطارد له هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ، فإنّ الصدمة والأثر النفسي على نفسيته ووجوده سيكون شديدا جدا.

إن هذا البرنامج والأسلوب الدقيق ـ في الواقع ـ كان قد أعد لمقابلة منافقي ذلك العصر ، ويجب أن يستفيد المسلمون من هذه الأساليب ، أي أنّ هؤلاء المنافقين ما داموا يظهرون الإسلام ، فمن الواجب عليهم أن يعاملوهم كمسلمين وإن كان باطنهم شيئا آخر ، أمّا إذ أظهروا نفاقهم ، وكشفوا اللثام عن وجوههم الحقيقية ، فعندئذ يجب أن يعاملوهم كأجانب عن الإسلام.

وفي آخر الآية يتّضح سبب هذا الأمر الإلهي ب( إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) ورغم ذلك فإنّهم لم يفكروا بالتوبة ولم يندموا على أفعالهم ليغسلوها بالتوبة ، بل إنّهم بقوا على أفعالهم( وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

وهنا يمكن أن يسأل أحدكم : إنّ المنافقين إذا كانوا ـ حقيقة ـ بهذا البعد عن رحمة الله ، وعلى المسلمين أن لا يظهروا أي ود أو محبّة تجاههم ، فلما ذا فضّلهم الله تعالى ومنحهم كل هذه القوى الاقتصادية من الأموال والأولاد؟

في الآية الأخرى يوجه الله سبحانه وتعالى الخطاب إلى النّبي( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ) فإنّها ليست منحة ومحبة من الله تعالى لهؤلاء المنافقين ، بل

١٥١

على العكس تماما ، فإنّ هذه الأموال والأولاد ليست لسعادتهم ، بل( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) .

إنّ هذه الآية ـ كنظيرتها التي مرّت في هذه السورة ، وهي الآية ٥٥ ـ تشير إلى حقيقة ، وهي أن هذه الإمكانيات والقدرات الاقتصادية والقوى الإنسانية للاشخاص الفاسدين ليست غير نافعة لهم فحسب ، بل هي ـ غالبا ـ سبب لابتلائهم وتعاستهم ، لأنّ أشخاصا كهؤلاء لا هم يصرفون أموالهم في مواردها الصحيحة ليستفيدوا منها الفائدة البناءة ، ولا يتمتعون بأبناء صالحين كي يكونوا قرة عين لهم ومعتمدهم في حياتهم. بل إنّ أموالهم تصرف غالبا في طريق الشهوات والمعاصي ونشر الفساد وتحكيم أعمدة الظلم والطغيان ، وهي السبب في غفلتهم عن الله سبحانه وتعالى ، وكذلك أولادهم في خدمة الظلمة والفاسدين ، ومبتلين بمختلف الانحرافات الأخلاقية ، وبذلك سيكونون سببا في تراكم البلايا والمصائب.

غاية الأمر إنّ الذين يظنون أن الأصل في سعادة الإنسان هو الثروة والقوة البشرية فقط ، أمّا كيفية صرف هذه الثروة والقوّة فليس بذلك الأمر المهم ، تكون لوحة حياتهم مفرحة ومبهجة ظاهرا ، إلّا أنّنا لو اقتربنا منها واطلعنا على دقائقها ، وعلمنا أنّ الأساس في سعادة الإنسان هو كيفية الاستفادة من هذه الإمكانيات والقدرات لعلمنا أنّ هؤلاء ليسوا سعداء مطلقا.

* * *

وهنا يجب الانتباه لمسألتين :

١ ـ لقد وردت في سبب نزول الآية الأولى روايات متعددة لا تخلو من الاختلاف.

فيستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما مات عبد الله بن أبي ـ المنافق المشهور ـ صلى عليه ، ووقف على قبره ودعا له ، بل لفّه بقميصه ليكون كفنا له ،

١٥٢

فنزلت الآية ونهت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكرار هذا الفعل.

في الوقت الذي يفهم من روايات أخرى أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صمّم أن يصلي عليه ، فنزل جبرئيل وتلا هذه الآية ، ومنعه من هذا العمل.

وتقول عدة روايات أخرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل عليه ، ولم يكن عزم على هذا العمل ، غاية ما في الأمر أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسل قميصه ليكفن به لترغيب قبيلة عبد الله بن أبي في الإسلام ، ولما سئل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبب فعله هذا أجابصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ قميصه سوف لن ينجيه من العذاب ، لكنّه يأمل أن يسلم الكثير بسبب هذا العمل ، وبالفعل قد حدث هذا ، فإنّ الكثير من قبيلة الخزرج قد أسلموا بعد هذه الحادثة.

وبالنظر إلى اختلاف هذه الرّوايات اختلافا كثير ، فإنّا قد صرفنا النظر عن ذكرها كسب للنزول ، خصوصا على قول بعض المفسّرين الكبار بأنّ وفاة عبد الله بن أبي كانت سنة (٩) هجرية ، أمّا هذه الآيات فقد نزلت في حدود السنة الثّامنة.(١) غير أن الذي لا يمكن إنكاره ، أنّ الظاهر من أسلوب الآية ونبرتها أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي على المنافقين، وكان يقف على قبورهم قبل نزول هذه الآيات ، لأنّ هؤلاء كانوا مسلمين ظاهرا(٢) ، لكنّه امتنع من هذه الأعمال بعد نزول هذه الآية.

٢ ـ وكذلك يستفاد من الآية المذكورة جواز الوقوف على قبور المؤمنين

__________________

(١) راجع الميزان ، ج ٩ ، ص ٣٦٧.

(٢) يستفاد من مجموعة من الرّوايات أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي على المنافقين بعد نزول هذه الآية أيضا ، إلّا أنّه يكبر أربعا لا أكثر ، أي أنّه كان يصرف النظر عن التكبير الخامس الذي هو دعاء للميت. إنّ هذه الرّواية يمكن قبولها فيما لو كان معنى الصلاة هنا الدعاء ، و (لا تصل) في الآية هو (لا تدع) ، أمّا لو كان المراد (لا تصل) فإنّ هذه الرّواية تخالف ظاهر القرآن ، ولا يمكن قبولها. ولا يمكن إنكار أن جملة (لا تصل) ظاهرة بالمعنى الثاني ، ولذلك فإنّنا لا نستطيع ـ من وجهة نظر الحكم الإسلامي ـ أن نصلي على المنافقين الذين اشتهر نفاقهم بين الناس ، وأن نرفع اليد عن ظهور الآية لرواية مبهمة.

١٥٣

والدعاء لهم والترحم عليهم ، لأنّ النهي الوارد في الآية مختص بالمنافقين ، وعلى هذا فإنّ هذه الآية تعني بمفهومها جواز زيارة قبور المؤمنين ، أي : الوقوف على قبورهم والدعاء لهم. إلّا أن الآية قد سكتت عن مسألة إمكان التوسل بقبور هؤلاء المؤمنين ، وطلب قضاء الحاجات ببركتهم من الله تعالى ، رغم جواز ذلك من وجهة نظر الرّوايات الإسلامية.

* * *

١٥٤

الآيات

( وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) )

التّفسير

دناءة الهمّة

الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول المنافقين ، إلّا أنّ هذه الآيات تقارن بين الأعمال القبيحة للمنافقين وأعمال المؤمنين الحقيقيين الحسنة ، وتوضح من خلال هذه المقارنة انحراف هؤلاء المنافقين ودناءتهم.

فالآية الأولى تتحدث عن حال المنافقين إذا ما دعا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس إلى

١٥٥

الثبات على الإيمان والجهاد في سبيل الله ، فإنّهم ـ أي المنافقون ـ رغم قدرتهم الجسمية والمالية سيطلبون العذر والسماح لهم بعدم المشاركة والبقاء مع ذوي الأعذار :( وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ ) .

كلمة «الطول» على وزن فعل ـ جاءت بمعنى القدرة والاستطاعة المالية ، وعلى هذا فإنّ( أُولُوا الطَّوْلِ ) بمعنى المستطيعين والقادرين ماليا وجسميا على الحضور في ميدان الحرب ، ورغم ذلك فهم يميلون إلى التخلف مع أولئك الذين لا قدرة لديهم ـ ماديا أو بدنيا ـ على الحضور والمشاركة في الجهاد.

وأصل هذه الكلمة مأخوذ من «الطول» ضد العرض ، والاشتراك والارتباط بين هذين المعنيين واضح ، لأنّ القدرة المالية والجسمية يعطي معنى الاستمرارية والدوام وطول القدرة.

وفي الآية التي تليها وبخ القرآن هؤلاء وذمّهم وقبّحهم بأنّهم( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ) ، وكما أشرنا سابقا ، فإنّ خوالف جمع خالفة ، وأصلها من (خلف) ، ولذلك يقال للمرأة إذا خرج الرجل من المنزل ، وبقيت في المنزل : إنّها خالفة. والمقصود من الخوالف في هذه الآية كل الذين عذروا عن المشاركة في الجهاد بشكل أو آخر ، أعم من أن يكونوا نساء أو مسنّين أو مرضى أو صبيان. وقد أشارت بعض الأحاديث الواردة في تفسير الآية إلى هذا الموضوع.

ثمّ أضافت الآية : بأن هؤلاء نتيجة لكثرة الذنوب والنفاق وصلوا إلى مرحلة( وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ) . وقد بحثنا في بداية سورة البقرة معنى الطبع على القلب.(١)

ثمّ تحدثت الآية التي تليها في الجانب المقابل عن صفات وروحيات الفئة التي تقابل المنافقين ، وهم المؤمنون المخلصون ، وعن أعمالهم الحسنة ، وبالتالي عاقبة

__________________

(١) راجع المجلد الأوّل من الأمثل (ذيل آية ٧ من سورة البقرة).

١٥٦

أعمالهم المعاكسة تماما لعاقبة أولئك. فهي تقول :( لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) فكانت عاقبتهم أن يتمتعوا بكل الخيرات والسعادة واللذائذ المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة( وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

كلمة (الخيرات) صيغة جمع محلّى بالألف واللام ، ومن ذلك يستفاد عموميتها ، فهي تعبير جامع لكل توفيق وخير ونصر وموهبة ، وهي تشمل المادية منها والمعنوية.

كما أن تعبير هاتين الجملتين ـ حسب القواعد التي قررت في المعاني والبيان ـ يدل على الحصر ، أي أن هذا التعبير يدل على أن (المخلصين) وحدهم يمثلون هذا الجانب المقابل ، ويدل على أنّ هؤلاء وحدهم الذين يستحقون كل خير وسعادة ، هؤلاء الذين يجاهدون بكل وجودهم وبكل ما يمتلكون.

ويستفاد بوضوح من هذه الآية أن «الإيمان» و «الجهاد» إذا اتحدا في شخص ، فسيصحبهما كل خير وبركة ، ولا سبيل إلى الفلاح والإخلاص ، أو إلى شيء من الخيرات والبركات المادية والمعنوية إلّا في ظل هذين العاملين.

وهناك نقطة أخرى تستحق التنبيه لها ، وهي أنّنا نستفيد من خلال مقارنة صفات هاتين المجموعتين أنّ المنافقين ـ لفقدانهم الإيمان ، وتلوثهم المضاعف بالمعاصي والذنوب ـ أفراد جاهلون ، لذلك فهم محرومون من (علو الهمة) التي هي وليدة الفهم والشعور والوعي ، فهم يرضون أن يكونوا مع القاعدين من المرضى والصبيان ، ويأبون الحضور في سوح الجهاد رغم افتخاراته وامتيازاته.

أمّا في المقابل ، فإنّ المؤمنين قد اتضحت لهم الأمور وأدركوا عواقبها فعلت همتهم بحيث رأوا أن الجهاد هو الطريق الوحيد للانتصار على المشاكل التي تعترضهم ، فسعوا إليه بكل وجودهم وقدراتهم.

إن هذا الدرس الكبير هو الذي علمنا القرآن إياه في كثير من آياته ، ومع ذلك

١٥٧

فنحن غافلون عنه.

وفي آخر آية من الآيات التي نبحثها إشارة إلى قسم من الجزاء الأخروي المعد لهؤلاء المؤمنين ، فهي تبشرهم بأنّهم قد( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) وتوكّد لهم بأنّ هذه المواهب والنعم سوف لا تفنى ولا تنفد ، بل سيبقون( خالِدِينَ فِيها ) ، ثمّ تبيّن أن( ذلِكَ ) هو( الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

إنّ تعبير( أَعَدَّ اللهُ ) علّامة جلية على مدى الاحترام الذي أولى الله هؤلاء المؤمنين به ، حيث أعدلهم من قبل كل هذه المواهب والنعم.

* * *

١٥٨

الآية

( وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) )

التّفسير

في هذه الآية ـ ولمناسبة البحث هنا للأبحاث السابقة حول المنافقين الذين يتعذرون بكل عذر ويتمسكون بأتفه الحجج ـ إشارة إلى وضع وواقع مجموعتين من المتخلفين عن الجهاد :

الأولى : وهم المعذورون فعلا في عدم مشاركتهم في القتال.

والثّانية : وهم المتخلفون عن أداء هذا الواجب الكبير تمردا وعصيانا ، وليس لهم أي عذر في تخلفهم هذا.

ففي البداية تقول الآية أنّ هؤلاء الأعراب رغم أنّهم كانوا معذورين في عدم الاشتراك في الجهاد ، فإنّهم حضروا بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يأذن لهم في الجهاد :( وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ) . وفي مقابل ذلك فإن الفئة الأخرى التي كذبت على الله ورسوله قد تخلف أفرادها دون أي عذر ،( وَقَعَدَ

١٥٩

الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ) . وفي النهاية هددت الآية المجموعة الثّانية تهديدا شديدا وأنذرتهم بأنّه( سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

إن ما قلناه في تفسير الآية المذكورة هو الأنسب للقرائن الموجودة ، فإننا نرى من جهة أن هاتين الفئتين تقابل إحداهما الأخرى ، ومن جهة أخرى فإنّ كلمة (منهم) تدل على أن أفراد المجموعتين لم يكونوا كفارا بأجمعهم ، ومن هاتين القرينتين يفهم أن (المعذرين) هم المعذورون حقيقة.

إلّا أنّه قيل في مقابل هذا التّفسير تفسيران آخران :

الأوّل : إنّ المقصود من (المعذرين) هم الذين كانوا يتمسكون بالأعذار الواهية والكاذبة للفرار من الجهاد. والمقصود من المجموعة الثّانية هم الذين لا يكلفون أنفسهم حتى مشقّة الاعتذار ، بل إنّهم يمتنعون علنا وبكل صراحة عن إطاعة أوامر اللهعزوجل .

الثّاني : إنّ كلمة (المعذرين) تشمل كل الفئات التي تعتذر بأعذار ما عن الذهاب إلى ميادين الحرب والجهاد ، سواء كانت هذه الأعذار صادقة أم كاذبة.

إلّا أنّ القرائن تدل على أنّ (المعذرين) هم المعذورون الحقيقيون.

* * *

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وتاريخ ابن معين، والمعرفة والتاريخ للفسويّ...

أقوال العلماء في هشام بن عمّار

قال العجليّ: هشام بن عمّار الدمشقيّ: صدوق. (تاريخ الثقات 459 / 1741). وقال معاوية بن صالح عن يحيى بن معين: ثقة. (تهذيب الكمال 30: 247). وقال أبو حاتم، عن يحيى بن معين: كيّس كَيْس. (الجرح والتعديل للرازيّ 9 / الترجمة 355).

وقال الدار قطنيّ: صدوقٌ كبير المحلّ. (تهذيب الكمال 248).

وقال عبد الرحمان بن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: صدوق. (الجرح والتعديل للرازيّ 9 / الترجمة 355).

مات هشام بن عمّار سنة خمس وأربعين ومئتين، وقيل غير ذلك.(1)

الوليد بن مسلم القرشيّ الدمشقيّ مولى بني اُميّة

وعن الوليد هذا، روى هشام بن عمّار الحديث، له ترجمة واسعة في كتب الرجال ممّا يشير إلى علوّ منزلته عندهم.(2)

____________________

(1) تاريخ البخاريّ 2: 382.

(2) طبقات ابن سعد 7: 470، وتاريخ الدوريّ 2: 634، وطبقات خليفة 317، وتاريخ البخاريّ الكبير 8 / الترجمة 2532، وثقات العجليّ 466، والجرح والتعديل 9 / الترجمة 70، والكنى للدولابيّ 2: 71، ورجال صحيح مسلم 185، والأنساب للسمعانيّ 5: 338، وتاريخ أبي زُرعة الدمشقيّ 1: 168 ومواضع كثيرة....

٢٨١

روى عن: عليّ بن حوشب الفزاريّ، وعنه روى الوليد الحديث. ومالك ابن أنس، واللّيث بن سعد، وسفيان الثّوريّ، وعبد الله بن لهيعة، ومحمّد بن عجلان، وعبد الملك بن جُرَيجْ، وأبي إسحاق الفزاريّ...

روى عنه: هشام بن عمّار - وهو الذي روى الحديث عن الوليد بن مسلم وأحمد بن حنبل، وأبو خَيْثمة زهير بن حرب، وبقيّة بن الوليد - وهو من أقرانه، وعبد الله بن وهب المصريّ - وهو من أقرانه، وعليّ ابن المدينيّ، وعبد الله بن الزبير الحُمَيديّ، والليث بن سعد - وهو من شيوخة، ونعيم بن حمّاد، وإسحاق بن راهوَيه، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وغيرهم كثير.

والقول في الرجال الذين روى عنهم، أو رَوَوا عنه، مِثل القول في هشام ابن عمّار.

قول العلماء فيه

ذكره ابن سعد في الطبقة السادسة وقال: ثقة كثير الحديث والعلم. (طبقات ابن سعد 7: 326 / 3926).

قال العجليّ: الوليد بن مسلم الدمشقيّ ثقة. (تاريخ الثّقات 466 / 1778).

وقال إبراهيم بن المنذر الخراميّ: قدِمتُ البصرة، فجاءني عليّ ابن المدينيّ، فقال: أوّل شيء أطلب، أخرِجْ إلَيّ حديث الوليد بن مسلم.

فقلت: يا ابن أمّ، سبحان الله ؛ وأين سماعي من سماعك؟! فجعلتُ آبى ويُلحّ، فقلتُ: أخبرني إلحاحكَ هذا ما هو؟ قال: اُخبرُك الوليدُ رجلٌ وعنده علمٌ

٢٨٢

كثير ولم أستمكن منه...، قال: فأخرجتُ إليه، فتعجّب من فوائده وجعل يقول: كان يكتب على الوجه (المعرفة والتاريخ 2 / 422).

وقال أحمد بن أبي الحواري: قال لي مروان بن محمّد: إذا كتب حديث الأوزاعيّ عن الوليد بن مسلم، فما تبالي مَن فاتَك.(1)

قال أبو زرعة الدمشقيّ: قال لي أحمد بن حنبل: كان عندكم ثلاثةٌ أصحاب الحديث: مروان بن محمّد والوليد وأبو مُسْهِر (تاريخ أبي زرعة 7 / 384).

وقال يعقوب الفسويّ: كنت أسمع أصحابنا يقولون: علم الشام عند إسماعيل بن عيّاش، والوليد بن مسلم، فأمّا الوليد فمضى على سنّته، محموداً عند أهل العلم، مُتقِناً صحيحاً، صحيحَ العلم...(2) .

وأخباره طويلة يظهر منها فضله ومنزلته عند علماء عصره.

مات الوليد بن مسلم سنة أربع وتسعين ومائة، وقيل خمس وتسعين ومائة.(3)

عليّ بن حوشب: عليّ بن حوشب الفزاريّ، أبو سليمان الدمشقيّ.

وعنه روى الحديث الوليد بن مسلم، ورواه عليّ بن حوشب عن مكحول.

روى عن: أبيه حوشب، ومكحول الشاميّ، وأبي سلاّم الأسود، وأبي قبيل المعافريّ المصريّ.

____________________

(1) الجرح والتعديل 9 / الترجمة 70.

(2) المعرفة والتاريخ 2: 423.

(3) طبقات ابن سعد 7: 327.

٢٨٣

روى عنه: الوليد بن مسلم، وزيد بن عبيد الدمشقيّ، ويحيى بن صالح الوُحاظيّ، وأبو توبة الربيع بن نافع الحلبيّ...

الأقوال في عليّ بن حوشب

قال أبو زرعة الدمشقيّ: قلت لعبد الرحمان بن إبراهيم(1) : ما تقول في عليّ ابن حوشب الفزاريّ؟ قال: لا بأس به، قلتُ: ولِمَ لا تقول ثقة ولا تعلم إلاّ خيراً؟ قال: قد قلتُ لك إنّه ثقة.(2)

وذكر ابن حبّان عليّ بن حوشب في كتاب (الثقات) قال: من أهل الشام، يروي عن مكحول، روى عنه الوليد بن مسلم.(3)

مكحول: مكحول بن عبد الله أبو عبد الله الدمشقيّ، من سبي كابل لسعيد ابن العاص. وأخباره تطول نذكر موجزها بحسب حاجة البحث:

روى عن: أنس بن مالك، وواثلة بن الأُسْقع، وابن عمر، وأبي أمامة، وسعيد

____________________

(1) عبد الرحمان بن إبراهيم الدمشقيّ المعروف بدُحَيْم ابن اليتيم الاُمويّ بالولاء، مولى آل عثمان بن عفّان. قال العجليّ وغيره: ثقة! كان يختلف إلى بغداد، سَمِعوا منه فذُكِرَ الفئة الباغية هم أهل الشام، فقال: مَنْ قال هذا فهو ابن الفاعلة، فنكب الناس عنه، لم يسمعوا منه (تاريخ الثّقات للعجليّ 287 / 928).

العجب من العجليّ وغيره يوثّقون هذا الرجل، والقيد في التوثيق هو صدقه وعدم تعمّد الكذب، وأن لا يكون فحّاشاً، وقد وجدنا الرجل قد عمد إلى تكذيب حديث متواتر وأفحَشَ في سبّ من يرويه! هذا وهو مولىً لآل عثمان، فكيف لو كان أمويّاً أصالةً.

(2) تهذيب الكمال 20: 419.

(3) كتاب الثقات 4: 127 / 3241.

٢٨٤

بن المسيّب، وعكرمة مولى ابن عبّاس، وعروة بن الزبير، وطاووس ابن كيسان، وكريب مولى ابن عبّاس...

روى عنه: عليّ بن حوشب، الذي روى عنه حديث الأُذن الواعية، ومحمّد ابن إسحاق بن يسار - صاحب السّيرة والأوزاعيّ، وعبد القدّوس الشاميّ، وأُسامة بن زيد اللّيثيّ، والحجّاج بن أرطاة، وابن شهاب الزّهريّ، وعدد كبير ممّن ذُكروا في الثقات.

وأمّا مَن روى عنهم فقد ذكرنا بعض أسمائهم، وهم أشهر من أن يُعرَّفوا.

القول في مكحول: قال العجليّ: تابعيٌّ، ثقة. سمع من واثلة وأنس، وأبي هند الداريّ، ويقال: إنّه لم يسمع من أحدٍ من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ من هؤلاء.(1)

وقال يونس بن بُكير، عن محمّد بن إسحاق: سمعت مكحولاً يقول: طفتُ الأرض كلّها في طلب العلم.(2)

عن الزهريّ: العلماء أربعة: سعيد بن المسيّب بالمدينة، وعامر الشعبيّ بالكوفة، والحسن بن أبي الحسن بالبصرة، ومكحول بالشام.(3)

____________________

(1) تاريخ الثقات للعجليّ 439 / 1628.

(2) تاريخ ابن معين 2: 346 / 5239.

(3) الجرح والتعديل للرازيّ 8 / الترجمة 1867، حلية الأولياء 5: 179. 4 - منهاج السنّة النبويّة لابن تيميه 4: 140.

٢٨٥

النتيجة

ثبت صحّة سند الحديث الذي أخرجه البلاذريّ. إلاّ أنّ ابن تيميه قال فيه: «حديث موضوع باتّفاق أهل العلم».(4)

تعقيب: وقولنا فيه هنا مثل قولنا في البحوث السابقة، فهو وبكلّ يسرٍ يُطلِق لفظه الذي اشتُهِر به «موضوع باتّفاق أهل العلم»، وتارةً أُخرى: «باتفاق أهل المعرفة بالحديث» من غير ذكر لبعض أهل العلم والمعرفة أولئك، بل ولا ذكر واحدٍ منهم! ولو بُعث الرجل قبل البعث الأكبر والقيامة العظمى، وسئل: ما تقول في رجال سند الحديث الذي أخرجه البلاذريّ، هل هم شيعة روافض؟ أم إنّهم عاشوا في بيئة محترقة في التشيّع!

فنقل بعضهم الحديثَ عن الآخرَ تقيّة؟ أم هم مجهولو الحال؟ ونحن على ثقة أنّه إذا أراد أن يجيب ضاقت به السّبل ؛ فنقول: فأمّا التشيّع، فهم بعيدون كلّ البعد من ذلك. وأمّا البيئة، فهم من أهل الشام من دمشق حاضرة الدولة الأُمويّة، وفيهم من هو أُمويّ تثور ثائرته وهو في بغداد بعيداً عن أنصاره، وذلك لمّا ذُكرت الفئة الباغية.

وأمّأ حالهم: فقد أظهرت المصادر حُسْنَ حالهم. مع ملاحظة أنّا لم نرجع فيهم إلى مصدر شيعيّ.« فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلّا الضّلاَلُ فَأَنّى‏ تُصْرَفُونَ) .(1)

شواهد التنزيل للحسكانيّ الحنفيّ 2: 272 / 1008، قال: وهذا الحديث

____________________

(1) يونس: 32.

٢٨٦

رواه جماعة عن أميرالمؤمنين، منهم زِرّ بن جُبيش الأسديّ.(1)

____________________

(1) طبقات ابن سعد 6: 104، والمصنّف لابن أبي شيبة 13 / الرقم 15738، وتاريخ ابن معين 2 / 172، وتاريخ الثقات للعجليّ 261، وطبقات خليفة 237 / 983، وتاريخه 288، ومسند أحمد 5: 129، وتاريخ البخاريّ الكبير 3 / الترجمة 1495، والمعارف 427، والجرح والتعديل للرازيّ 3 / الترجمة 2817، ورجال صحيح مسلم 54، وإكمال الإكمال 4: 183، وأُسد الغابة 2: 300، والإصابة 1: 577.

روى عن: عليّ بن أبي طالب، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعبد الله بن مسعود، وأبي ذرّ الغفاريّ، والعبّاس بن عبد المطّلب، وحذيفة بن اليمان، وأُبيّ بن كعب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل، وأبي وائل شقيق بن سَلَمة الأسديّ وهو من أقرانه، وعائشة.

روى عنه: عديّ بن ثابت وقد روى عنه الحديث -، وإبراهيم النّخعيّ، وحبيب بن أبي ثابت، وإسماعيل بن أبي خالد، وعامر الشّعبيّ، والمنهال بن عمرو الأسديّ، وأبو إسحاق الشّيبانيّ، وشمر بن عطيّة، وعاصم بن بَهْدَلة...

القول فيه: قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن مَعين: ثقة (الجرح والتعديل للرازيّ 3 / الترجمة 2817)، وذكره محمّد بن سعد في الطبقة الأُولى من تابعي أهل الكوفة وقال: كان ثقة كثير الحديث. (طبقات ابن سعد 6: 105).

قال العجليّ: زرّ بن حُبَيْش، من أصحاب عبد الله بن مسعود وعليّ، ثقة.

(تاريخ الثقات للعجليّ 165 / 458). وفي (رجال ابن داود: 157 / 620).

قال: كان فاضلاً، ومن أصحابنا. مات زرّ سنة إحدى وثمانين.

عديّ بن ثابت: روى الحديث عن زرّ بن حبيش.

روى عن: زرّ بن حبيش، وسعيد بن جبير، وسليمان بن صُرَد الخزاعيّ أمير التوّابين الذين خرجوا للطلب بثأر الحسينعليه‌السلام ، وأبيه ثابت، والبراء بن عازب، وزيد بن وهب الجهنيّ، ويزيد بن البراء بن عازب، وأبي راشد صاحب عمّار بن ياسر، وعبد الله بن أبي أوفى... =

٢٨٧

قال: عن الأعمش، عديّ بن ثابت، عن زِرّ بن حُبَيْش قال: قال أميرالمؤمنين: «ضمّني رسول الله إليه وقال: أمرني ربّي أن أُدنيك ولا أُقصيَك، وأن تسمع وتعي، وحقٌّ على الله أن تعي». فنزلت« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) قال: ورواه أيضاً عنه: ابنُه عمر، عن أبيه عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله أمرني أن أُدنيك ولا أُقصيك، وأعلّمك لتعي، وأُنزلت علَيّ هذه الآية:« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ » ، فأنت الأُذن الواعية لعلمي يا عليّ، وأنا المدينة وأنت الباب، ولا يؤتى المدينة إلاّ من بابها».

- وأيضاً شواهد التنزيل 2: 274 / 1009: فقد ذكر رواة حديث الأُذن الواعية: بُرَيدة الأسلميّ، مكحول - خمس روايات، جابر بن عبد الله الأنصاريّ، ابن عبّاس، سعيد بن جُبير عن ابن عبّاس، أنس بن مالك. قال وورد أيضاً عن الحسين بن عليّ، وعبد الله بن الحسن، وأبي جعفر، وغيرهم.

____________________

= روى عنه: سليمان الأعمش - الذي روى عنه حديث الأُذن الواعية، وأبان بن تغلب، وأبان بن عبد الله البَجَليّ، وأبو إسحاق السّبيعيّ، وشعبة بن الحجّاج، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وعليّ بن زيد بن جُدعان، وفضيل بن مرزوق، ومسعر بن كدام، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه: ثقة (الجرح والتعديل للرازيّ 7 / الترجمة 5).

وقال العجليّ: عديّ بن ثابت الأنصاريّ، ثقة ثبت... وكان شيخاً عالماً... (تاريخ الثقات للعجليّ 330 / 1115).

وقال أبو حاتم: صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاصّهم (الجرح والتعديل للرازيّ 7: 5).

وذكره ابن حبّان في كتاب (الثّقات 2: 417 / 3192).

مات عديّ بن ثابت سنة 116 هـ.

٢٨٨

المصادر

(ومن المصادر التي ذكرت نزول الآية في أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام )، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ أو زيادة:

أسباب النزول للواحديّ: 294، وتفسير الطبريّ 29: 56، والكشّاف للزمخشريّ 4: 151، والتفسير الكبير للفخر الرازيّ 30: 107، وتفسير ابن كثير الحنبليّ 4: 413، والمستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوريّ الحنفيّ 3: 110، والدرّ المنثور للسيوطيّ الشافعيّ 6: 260، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 319، وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهانيّ 1: 67، ومناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ الشافعيّ: 318 / ح 363 و 364، والمناقب للخوارزميّ الحنفيّ: 282 - 283 / ح 276 - 278، وكفاية الطالب للگنجيّ الشافعيّ: 108، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم: 22، ومناقب عليّ لابن مردويه: 337 - 339 / ح 565 - 572، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ: 123، وكنز العمّال للمتّقيّ الهنديّ 6: 408، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 95، وفرائد السمطين للجوينيّ الشافعيّ: الباب 40 / الحديث 166، والطرائف لابن طاووس: 93، ومطالب السَّؤول لابن طلحة الشافعيّ: 20، وكشف اليقين للعلاّمة الحليّ: 388، وتذكرة الحفّاظ للذهبيّ 4: 1405، ومجمع الزوائد للهيتميّ 1: 131، ولباب النقول للسيوطيّ: 225، وغاية المرام لهاشم البحرانيّ: 366، ومفتاح النَّجا للبدخشانيّ الحارثيّ: 40.

٢٨٩

حديث «أنا مدينة العلم وعليّ بابها».

قال ابن تيميه وحديث «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» أضعف وأوهى ؛ ولهذا إنّما يُعدّ في الموضوعات وإن رواه الترمذيّ! وذكره ابن الجوزيّ وبيّن أنّ سائر طُرقه موضوعة.(1)

وقال في موضع آخر: وممّا يروونه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، قال: وهذا حديث ضعيف، بل موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، ولكن قد رواه الترمذيّ وغيره، ومع هذا فهو كذب!(2)

لقد وصلنا مع هذا الرجل إلى حدّ أنّه لو قال: إنّ عليّ بن أبي طالب لم يُخلق بعد، وإنّما ذكره الترمذيّ أو تفرّد به مسلم، ومع ذلك فلا صحّة لما ذكر إذ لم يتابعه البخاريّ، أو نفى وجودَه أبو الفرج..، لَما استغربنا قوله!

محاكمة الحديث سنداً ومتناً

حكم ابن تيميه على الحديث بالضعف، والحديث الضعيف يحتجّ به ما لم يأت ما يُبطله كما هو مقرّر عند العلماء بالحديث وأُصوله. وليت ناصبيّته وقفت عند الحدّ هذا! فإنّه رتّب على تضعيفه للحديث أن جعله من الموضوعات، مع إقراره بذكر الترمذيّ للحديث، وجعل مدار إبطال الحديث هو ابن الجوزيّ. ونذكّر بحديث ردّ الشمس وحكمه عليه بالكذب ؛ لأنّ مداره - كما زعم هو -

____________________

(1) منهاج السّنّة 4: 138.

(2) علم الحديث لابن تيميه 526.

٢٩٠

عبيد الله بن موسى، وقال عنه: يروي الموضوعات. ثمّ طعن بابن عقدة الذي قال عنه: وأنا لا أتّهم به إلاّ ابنَ عقدة، والقول هذا لشيخه أبي الفرج.

فكان مدار ابن تيميه: أبا الفرج لا غير! وتكلّمنا هناك عن سند الحديث فكان من العلوّ بمكان، وذكرنا أنّ للحديث أسانيد أُخرى رفيعة.

وتحوّل بعد كلّ ذلك إلى القطع بأنّ الحديث مكذوب، وإن رواه الترمذيّ وغيره!

وليس لمثل ابن تيميه، ولا أبي الفرج أن يحكما على مثل الحكيم الترمذيّ وعلى نهجه الضالّ، سلك تلميذه الذهبيّ في تكذيب الحديث، إلاّ أنّ الأخير، تعامل مع الحديث بمحاكمة سنده، فخدشه ظنّاً منه أنّه بذلك يُبطل الحديث.

قال الحاكم في المستدرك: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب حدّثنا محمّد بن عبد الرحيم الهرويّ بالرملة، حدّثنا أبو الصّلت عبد السلام بن صالح، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب».

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. وأبو الصّلت ثقة مأمون، فإنّي سمعت أبا العبّاس محمّد بن يعقوب في التاريخ يقول: سألتُ يحيى بن مَعين عن أبي الصّلت الهرويّ فقال: ثقة، فقلت: أليس قد حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: «أنا مدينة العلم»؟! فقال: قد حدّث به محمّد بن جعفر الفَيديّ، وهو ثقة مأمون. سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القبانيّ إمام عصره ببخارى يقول: سمعت صالح بن محمّد بن حبيب الحافظ يقول وسُئل عن أبي

٢٩١

الصّلت فقال: دخل يحيى بن معين، ونحن معه، على أبي الصّلت فسلّم عليه، فلمّا خرج تَبِعْتُه فقلت له: ما تقول - رحمك الله - في أبي الصّلت؟ فقال: هو صدوق، فقلت له: إنّه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأتها من بابها»، فقال: قد روى هذا - أي حديث مدينة العلم - ذاك الفَيْديّ عن أبي معاوية عن الأعمش كما رواه أبو الصّلت.(1)

قال الذهبيّ في التلخيص: بل موضوع. قال الحاكم: وأبو الصّلت ثقة مأمون. قال الذهبيّ: لا والله، لا ثقة ولا مأمون.(2)

ومن طريق آخر: قال الحاكم: حدّثنا بصحّة ما ذكره الإمام أبو زكريا، حدّثنا يحيى بن معين، حدّثنا أبو الحسين محمّد بن أحمد بن تميم القنطريّ، حدّثنا الحسين بن فهم، حدّثنا محمّد بن يحيى بن الضريس، حدّثنا محمّد بن جعفر الفيديّ، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنهم ا قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب».

قال الحسين بن فهم: حدّثناه أبو الصّلت الهرويّ عن أبي معاوية.

قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم أنّ الحسين بن فهم بن عبد الرحمان ثقة مأمون حافظ.

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 137 / 4637.

(2) التلخيص للذهبيّ، هامش المستدرك.

٢٩٢

ولهذا الحديث شاهد من حديث سفيان الثوريّ بإسنادٍ صحيح.(1)

قال الذهبيّ: العجب من الحاكم وجرأته في تصحيحه هذا وأمثاله من البواطيل، وأحمد هذا دجّال كذّاب!(2)

قال الحاكم: حدّثني أبو بكر محمد بن عليّ الفقيه الإمام الشاشيّ القفّال ببخارى وأنا سألته، حدّثني النّعمان بن هارون البلديّ ببلد من أصل كتابه، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد الحرّانيّ، حدّثنا عبد الرزّاق، حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن عبد بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمان بن عثمان التّيميّ قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فَمن أراد العلم فليأت الباب».(3)

لقد وجدنا ابن تيميه قد حكم على الحديث بالكذب، وحجّته في ذلك أن أبا الفرج قد حكم بذلك، فأغنى نفسه عن البحث، إذ عادته المنتظمة كما ذكرنا في غير هذا الموطن أنّه يكذّب الحديث، وذريعته فيه أنّه كذب عند أهل العلم والمعرفة بالحديث. وإلاّ لاذ بأبي الفرج، فطوّقه ذلك الأمر واستراح.

وأمّا تلميذه الذهبيّ فقد وجدناه في تلخيصه للمستدرك: إمّا أن يوافق الحاكم، أو يسكت عن الحديث، أو يخدش سنده بأيّ ثمّة خدش. لكنّ نائرته اضطرم أُوارها في «حديث الطير»، فحمل على الحاكم نفسه! وكذلك في حديث

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 137 / 4638.

(2) التلخيص للذهبيّ، هامش المستدرك 3: 137 / 4638.

(3) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 138 / 4639.

٢٩٣

«مدينة العلم» فقد حكم عليه بالوضع، ولم يقف عند الحدّ هذا، بل حلف بالله تعالى أنّ أبا الصّلت لا ثقة ولا مأمون!

وقبل الولوج في نقد سند الحديث، نذكّر بما أوردناه بشأن رجال علم الحديث والرجال وما أصابهم من جرح وتعديل علماء زمانهم أو ما هو قريب من ذلك. فإنّ يحيى بن مَعين هو من أقران أحمد بن حنبل، وهو ممّن يَخبت ابن تيميه وابن الجوزيّ والذهبيّ لإمامته ولا يتجاوزون قوله، فهو عندهم عدل أحمد بن حنبل، وقد قال فيه أبو زرعة(1) : لم يُنتفَع به - أي بيحيى - لأنّه كان يتكلّم في الناس(1) ! ويروى هذا عن عليّ بن المدينيّ،(3)

____________________

(1) أبو زُرعة: عمرو بن جابر الحضرميّ، مصريّ، تابعيّ ثقة (تاريخ الثّقات للعجليّ 362 / 1252، و 498 / 1952).

(2) تاريخ يحيى بن معين 1: 8.

(3) عليّ بن عبد الله بن جعفر بن نجيح المدنيّ: مات بسرّ مَنْ رأى سنة عدل أربع وثلاثين ومائتين. علمٌ ثبت حافظ، إمام أهل الحديث والرجال ثقة، عدل، حادّ الذكاء، واسع المعرفة، مستقيم الأمر، ضابط لما يرويه، وإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبويّ مع معرفة بنقد الرجال مع ورعٍ وتقوى، وهوشيخ البخاريّ وعنه شحن صحيحه بالحديث، وقال عنه: ما استصغرت نفسي بين يدي أحدٍ إلاّ بين يدي عليّ بن المدينيّ. ولمّا سئل البخاريّ: ما تشتهي؟ قال: أن أقدم العراق وعليٌّ حيّ فأجالسه.

تلقّي المدينيّ العلم عن: حمّاد بن زيد، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرزّاق ابن همّام، وغُنْدر، وعبد الرحمان بن مهديّ، وابن عُلَيّة، ويوسف بن يعقوب الماجشون، والدّراورديّ، وعبد الله بن وَهْب، والوليد بن مسلم... =

٢٩٤

من وجوه(1) . وقال: كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن يحيى بن معين.(2)

ووقع أبو داود فيه، فلمّا أُنكر عليه قال: من جرّ ذيول الناس جرّوا ذيله!(3)

وقد قال يحيى بن مَعين عن نفسه: إنّا لنطعن على أقوام لعلّهم قد حطّوا رحالهم في الجنّة من أكثر من مئتي سنة! هذا هو بعض شأن يحيى بن مَعين، حُكْم علماء عصره عليه، وحكمه على نفسه! وسؤالنا لابن الجوزيّ، وابن تيميه: فهلاّ اقتديتما به فتركتما الناس لله! ألم يصلكما قول إمامكما وحكمه في سند حديث مدينة العلم؟ وماذا سيكون جوابكما إذا حشرتما وجاء أبو الصّلت وغيره

____________________

= روى عنه: البخاريّ، وأبو داود. وروى عنه: سفيان بن عيينة، ومعاذ بن معاذ - وهما من شيوخه ؛ وأحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة - وهما من أقرانه. وروى عنه أبو داود، والترمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجة في التفسير له بواسطة: الذّهليّ، والجوزجانيّ، والحسن بن عليّ الخلاّل، والحسن بن الصباح البزّار...

تلقّى العلم عنه خلق كثير، منهم: ابنه عبد الله، وأحمد بن منصور الرماديّ، وصالح جزرة، وعبد الله البغويّ، والباغندي، وأبو يعلى الموصليّ، وأبو حاتم الرازيّ...

قال أبو حاتم الرازيّ: كان علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل، وكان الإمام أحمد لا يسمّيه، إنّما يكنّيه ؛ تبجيلاً له.

انظر في: الطبقات الكبرى 7: 308، وتاريخ البخاريّ الكبير 3: 2 / 248، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3: 1 / 193، وتاريخ بغداد 11: 458 / 473، والفهرست لابن النديم 331، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبليّ 2: 81...

(1) تاريخ يحيى بن معين 1: 8.

(2) تهذيب الكمال للمزّيّ 31: 564.

(3) نفسه.

٢٩٥

يطالبون بحقّهم؟ وهل هناك كفّارة؟! ثمّ ما تقولان للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولعليّعليه‌السلام وهما يشكوانكما؟!

ومع كلّ ما ذكرناه، يبقى ابن معين له شأنه في هذا الميدان، وهو لكما ألزم إذ جعلتموه حجّةً بينكما وبين الله تعالى.

وابن معين عاصر أبا الصّلت ورآه وسمعه، فالحكم له ومن هو في طبقته، لا لكما! فهلاّ حملتما على ابن معين لا على الحاكم، وقد كان ابن معين في سند الحديث، وهو الذي حكم بصدق الحديث، وصدّق أبا الصّلت ووثّقه؟!

وزاد أن قوّى وثاقة الحديث فذكره من طريق الفيديّ عن أبي معاوية عن الأعمش مثلما رواه أبو الصّلت، وكان جوابه هذا حينما أُشكِل عليه وسئل عن أبي الصّلت وروايته لحديث مدينة العلم.

فلِمَ أغمضتم عيناً عن الفيديّ، الذي جعله ابن معين حجّةً أخرى في تصديقه الحديث لوثاقة الفيديّ عنده، وعلّقتم الحديث الثاني على أحمد؟! ولَيتكم وقفتم عند تضعيف أحمد! وإنّما ذهب بكم الأمر إلى القول فيه: دجّال كذّاب! وهو من أعظم ما يُرمى به المرء بعد الإسلام، وهو الباب لكلّ الخطايا. ولذا قرّروا الأخذ بروايات أهل الأهواء والبدع، وقالوا في رجال الحديث: لئن يخرّ أحدهم من السماء أهونُ عليه من أن يكذب.

وقد علمتم صحّة ووثاقة الحديث الأوّل، فعلامَ علّقتم الحديث الذي بعده على أحمد وطعنتموه بُمديٍّ ما طعنتم بها الكفّارَ والخوارج؟! فماذا أعددتم ليوم

٢٩٦

غدٍ؟! و« سَيَعْلَمُونَ غداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ) .(1)

وأبو الفرج عند ابن تيميه، هو مدار تكذيب حديث مدينة العلم، وأبو الفرج مات سنة (597 هـ)، وأبو الصلت توفّي سنة (236 هـ)، فالفاصلة الزمنيّة بينهما هي (361) سنة!

وأمّا الذهبيّ الذي حلف بالله أنّ أبا الصّلت لا ثقة ولا مأمون، فإنّه مات سنة 748 هـ، وبذا تكون الفاصلة الزمنيّة بينه وبين أبي الصّلت هي (512) سنة فقط! وبين الذهبيّ وبين أحمد بن عبد الله المتوفّى سنة 271 هـ، الذي قال عنه الذهبيّ: إنّه كذّاب دجّال، (477) سنة.

وليس بين ابن تيميه المتوفّى سنة (728 هـ) وبين أبي الصّلت أكثر من (492) سنة، وأمّا بينه وبين أحمد بن عبد الله فأقلّ من ذلك، فهي لا تزيد على (457) سنة! فَلْيَحكم المنصفون.

وبين ابن تيميه، وأبي معاوية الضّرير (533) سنة، وبين الذهبيّ وأبي معاوية (533) سنة.

وفي الحديث الذي ذكره الحاكم، وفي طريقه الحسين بن فهم، وجدنا الذهبيّ قد رحم نفسه فلم يحلف بالله تعالى بتضعيفه بل قال بإسقاطه! كما فعل بشأن أبي الصّلت.

وقد مرّ بنا قول الحاكم فيه: إنّ الحسين بن فهم ثقة مأمون حافظ. فقد نعته

____________________

(1) القمر: 26.

٢٩٧

بما نعت به أبا الصلت وزاد: حافظ. لكنّ الذهبيّ لم تطاوعه نفسه. وربّما نسي! فقد قال عنه في كتاب آخر له: الحسين بن فهم، صاحب محمّد بن سعد (صاحب الطبقات الكبرى)، قال الحاكم: ليس بالقويّ!(1) وتابعه ابن حجر فقال عنه عينَ عبارة الذهبيّ!(2)

وهذا أشكل وأعضل ما نجده في منهجيّة كتابة التاريخ والتراجم، وهو اللاّموضوعيّة وعدم التجرّد عن العصبيّة والهوى، وعبادة الأشخاص على أسمائها، حتّى لَتجد كتباً ربّما كثرت أجزاؤها هي عينها لسابقين مع تغيير عنوان الكتاب اللاحق، ليس أكثر! وإلاّ قولُهما مناقض تماماً لما ذكره الحاكم في حديث مدينة العلم، إذ أفرده من سلسلة السند فأقامه حجّةً لأهل العلم، وذلك هو قوله: ليعلم المستفيد لهذا العلم أنّ الحسين بن فهم ثقة مأمون حافظ.

ولم يكن الحسين بن فهم من أقران الذهبيّ، ولا ابن حجر، ولا هما قريبا عهد به، فإنّ الفاصلة الزمنيّة بين الذهبيّ وابن فهم هي (459) سنة، وأمّا بين ابن حجر وابن فهم فهي (563) سنة! وما يدرينا فلعلّ الحسين بن فهم ممّن قال عنهم ابن معين قد حطّوا رحالهم في الجنّة!

من أخبار الحسين بن فهم

الحسين بن محمّد بن عبد الرحمان بن فهم بن مُحرز بن إبراهيم، أبو عليّ.

____________________

(1) ميزان الاعتدال للذهبيّ 2: 308 / 1266.

(2) لسان الميزان لابن حجر 2: 308.

٢٩٨

سمع: يحيى بن مَعين، ومصعباً الزبيريّ، ومحمّد بن سعد كاتب الواقديّ، وأبا خَيثمة زُهير بن حرب، ومحمّد بن سلاّم الجُمحيّ...

روى عنه: أحمد بن معروف الخشّاب، وأبو عليّ (الطوماريّ، وأحمد ابن كامل... ؛ وكان ثقةً، وكان عسراً في الرواية متمنّعاً إلاّ مَن أكثر ملازمته، وكان حسن المجلس مفتياً مفنناً في العلوم، كثير الحفظ للحديث مسنده ومقطوعه ولأصناف الأخبار والنّسب والشّعر، والمعرفة بالرجال، وكان يقول: صحبت يحيى ابن مَعين وأخذت عنه معرفة الرجال، وصحبت مصعب بن عبد الله - الزبيريّ ت 236 هـ، له (نسب قريش) - فأخذت عنه النّسب، وصحبت أبا خيثمة فأخذتُ عنه المسند، وصحبت الحسن بن حمّاد سجّادة فأخذت عنه الفقه.(1)

ترجمة أبي الصّلت(2) :

عبد السلام بن صالح بن سليمان بن أيوب بن ميسرة، أبو الصّلت الهرويّ، مولى عبد الرحمان بن سَمُرة القرشيّ. سكن نيسابور، ورحل في طلب الحديث إلى البصرة والكوفة والحجاز واليمن.(3)

وهو خادم عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام أديبٌ فقيه عالم.(4)

____________________

(1) تاريخ بغداد 8: 92 / 4190.

(2) سنن الدار قطنيّ 1: 110، والجرح والتعديل 6، الترجمة 257، وتاريخ بغداد 11: 46 / 5728، مطالب السؤول 214، ورجال ابن ماجة 15، 51، وتهذيب الكمال للمزّيّ 18: 73 / 3421.

(3) تاريخ بغداد 11: 46، وتهذيب الكمال 18: 73.

(4) تهذيب الكمال للمزّيّ 18: 73.

٢٩٩

روى عن: عليّ بن موسى الرضا، الثامن من أئمّة أهل البيت النبيّ عليه وعليهم السلام، ومحمّد بن خازم أبي معاوية الضّرير، ومالك بن أنس إمام المذهب المالكيّ، وعبد الرزّاق بن همّام(1) ، وسفيان بن عُيَينة(2) ، وعبد السلام بن

____________________

(1) محمّد بن خازم تأتي ترجمته، ومالك أشهر من أن يعرّف، والرضاعليه‌السلام فرع الشجرة العلويّة الطاهرة. وعبد الرزّاق بن همّام بن نافع الحِمْيَريّ الصنعانيّ، عالم اليمن حافظ كبير، له: المصنّف، وتفسير القرآن العزيز، توفّي سنة إحدى عشرة ومائتين.

روى عن: أبيه، ومَعْمَر بن سليمان، وعبيد الله بن عمر، وابن جُريج، وحجّاج بن أرْطأة، والأوزاعيّ، والسّفيانَين، ومالك.

قال العجليّ: يمانيّ، ثقة وكان يتشيّع. (تاريخ الثّقات 302 / 1000).

روى عنه: شيخاه: مُعتمر وسفيان بن عينية، وأبو أسامة وهو أكبر منه، وأحمد، وابن معين وإسحاق، ومحمّد بن رافع، وأحمد بن صالح المصريّ (شيخ البخاريّ: توفّي سنة ثمان وأربعين ومئتين، مضت ترجمته في الحديث الذي أنكره ابن تيميه «حديث ردّ الشمس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحمل حملةً منكرةً على سنده، وجرح أحمد هذا»، قال ابن سعد: قفة، من الطبقة الخامسة من أهل اليمن - وذلك بلحاظ سنة وفاته -، ومثله ذكر خليفة بن خياط في (طبقاته 521 / 2673).

قال عبد الرزّاق: جالَسنا مَعمراً سبعَ سنين. (الجرح والتعديل 6 / 38).

قال أحمد بن صالح: قلت لأحمد بن حنبل: رأيتَ أحداً أحسنَ حديثاً من عبد الرزّاق؟ قال: لا. (تهذيب الكمال 2: 829).

و قال عبد الوهّاب بن همّام: كنتُ عند معمر فذكر أخي عبد الرزّاق، وقال: خليق إن عاش أن تُضرب إليه أكباد الإبل. (تهذيب الكمال 2: 829).

وقال أبو صالح محمّد بن إسماعيل: بلغنا ونحن عند عبد الرزّاق أنّ ابن معين. وأحمد بن حنبل تركوا حديث عبد الرزّاق، فدخلنا من ذلك غمّ شديد، فلمّا كان وقت الحجّ وافيت بمكّة يحيى بن =

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608