الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261093 / تحميل: 6479
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وممّا لا شك فيه أنّ القرب والقربة بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى لا تعني القرب المكاني ، بل القرب المقامي ، أي السير إلى الذات المقدسة والكمال المطلق والتعرض لأنوار صفات جماله وجلاله وفي دائرة الفكر والروح.

* * *

١٨١

الآية

( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) )

التّفسير

السّابقون إلى الإسلام :

بالرغم من أن المفسّرين قد نقلوا أسبابا عديدة للنزول ، إلّا أنّ أيّا منها ـ كما سنرى ـ ليس سببا للنزول ، بل إنّها في الواقع بيان المصداق والوجود الخارجي لها.

على كل حال ، فإنّ هذه الآية ـ التي وردت بعد الآيات المتحدثة عن حال الكفار والمنافقين ـ تشير إلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين ، وقسمتهم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : السابقون في الإسلام والهجرة :( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ ) .

الثّاني : السابقون في نصرة وحماية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المهاجرين :( وَالْأَنْصارِ ) .

١٨٢

الثّالث : الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم ، وقبولهم الإسلام والهجرة ، ونصرتهم للدين الإسلامي ، فإنّهم ارتبطوا بهؤلاء السابقين :( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ) (١) .

ممّا قلناه يتبيّن أنّ المقصود من «بإحسان» في الحقيقة هو بيان الأعمال والمعتقدات لهؤلاء السابقين إلى الإسلام التي ينبغي اتباعها ، وبتعبير آخر فإنّ (إحسان) وصف لبرامجهم التي تتّبع.

وقد احتمل أيضا في معنى الآية أنّ (إحسان) بيان لكيفية المتابعة ، أي أن هؤلاء يتبعونهم بالصورة اللائقة والمناسبة. ففي الصورة الأولى الباء في (بإحسان) بمعنى (في) ، وفي الصورة الثّانية بمعنى (مع). إلّا أنّ ظاهر الآية مطابق للتفسير الأوّل.

وبعد ذكر هذه الأقسام الثّلاثة قالت الآية :( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) .

إن رضى الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء هو نتيجة لإيمانهم وأعمالهم الصالحة التي عملوها ، ورضاهم عن الله لما أعد لهم من الجزاء والعطايا المختلفة التي لا تدركها عقول البشر. وبتعبير آخر ، فإنّ هؤلاء قد نفذوا كل ما أراده الله منهم ، وفي المقابل أعطاهم الله كل ما أرادوا ، وعلى هذا فكما أنّ الله سبحانه راض عنهم ، فإنّهم راضون عن الله تعالى.

ومع أنّ الجملة السابقة قد تضمنت كل المواهب والنعم الإلهية ، المادية منها والمعنوية ، الجسمية والروحية ، لكن الآية أضافت من باب التأكيد ، وبيان التفصيل بعد الإجمال:( وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ ) ومن امتيازات هذه النعمة أنّها خالدة ، وسيبقى هؤلاء( خالِدِينَ فِيها ) وإذا نظرنا إلى مجموع هذه المواهب المادية والمعنوية أيقنا أن( ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(١) لقد عدّ الكثير من المفسّرين (من) الواردة في جملة( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ) تبعيضية ، وظاهر الآية أيضا كذلك ، لأن حديث الآية عن طلائع الإسلام والسابقين إليه ، لا عن جميع المسلمين. أمّا الباقون فإنّهم يدخلون في مفهوم الجملة التالية ، أي : (التابعون).

١٨٣

أيّ فوز أعلى وأكبر من أن يدرك الإنسان أن خالقه ومعبوده ومولاه قد رضي عنه ، وقد وقّع على قبول أعماله؟ وأي فوز أعلى من أن يحصل الإنسان على مواهب خالدة نتيجة أعمال محدودة يعملها في أيّام هذا العمر الفاني؟

* * *

بحوث

١ ـ موقع السّابقين

في كل ثورة اجتماعية جبارة تقوم ضد أوضاع المجتمع الفاسدة ، فإنّ طلائع الثورة هم أعمدتها ، وعلى عاتقهم يقع حملها وثقلها ، وهؤلاء في الحقيقة هم أوفى عناصر الثورة ، لأنّهم نصروا قائدهم وقدوتهم في أحلك الظروف والتفوا حوله في ساعات المحنة والوحدة رغم أنّهم محاصرون وتحيط بهم أنواع الأخطار إلّا أنّهم لم يتخلوا عن دعمهم ونصرتهم وتضحيتهم. خاصّة وإن مطالعة تاريخ صدر الإسلام تعطي صورة واضحة عن مدى ضخامة المشاكل التي واجهها السابقون والرعيل الأوّل من المسلمين!

كيف كانوا يؤذونهم ويعذبونهم لكنّهم لم يصرخوا ولم يتأوهوا رغم شدة آلامهم ، كانوا يتهمونهم ، يسحبونهم بالسلاسل ، وبالتالي يقتلونهم. ورغم كل ذلك ، فإنّ هؤلاء قد وضعوا قدما في هذا السبيل بإرادة حديدية ، وعشق ملتهب ، وعزم راسخ ، وإيمان عميق ، ووطنوا أنفسهم على تحمل أنواع المخاطر والمصاعب.

ومن بين هؤلاء كان سهم المهاجرين الأوّلين هو الأرجح ، ومن بعدهم الأنصار الأوائل ، أي الذين دعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واستقبلوه برحابة وأسكنوا أصحابه واعتبروهم كإخوانهم ، ودافعوا عنهم بكل وجودهم ، بل قدموهم حتى على قومهم. وإذا كانت الآية أعلاه قد أولت هذين القسمين اهتماما خاصا ، فلهذه العوامل.

١٨٤

إلّا أنّ القرآن الكريم في الوقت نفسه ـ كما هي طريقته دائما ـ لم يبخس حقّ الآخرين ، وذكر كل الأقسام والفئات الأخرى الذين التحقوا في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأعصار التالية ، والذين هاجروا ، أو آووا المهاجرين ونصروهم تحت عنوان التابعين بإحسان ، وبشر الجميع بالأجر والجزاء الحسن.

٢ ـ من هم التابعون؟

اصطلح جماعة من العلماء على أنّ كلمة «التابعين» تعني تلامذة الصحابة ، وجعلوها من مختصاتهم ، أي أولئك الذين لم يروا النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم تصدوا لاكتساب العلوم الإسلامية ووسعوها ، وبعبارة أخرى : إنّهم اكتسبوا علومهم الإسلامية من صحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن مفهوم الآية ـ كما قلنا قبل قليل ـ من الناحية اللغوية وإلّا ينحصر بهذه المجموعة ولا يختص بها ، بل يشمل كل الفئات والمجموعات التي اتبعت برامج وأهداف الطلائع الإسلامية والسابقون إلى الإسلام في كل عصر وزمان.

وتوضيح ذلك أنّه على خلاف ما يعتقده البعض من أن الهجرة والنصرة ـ اللتين هما من المفاهيم الإسلامية البناءة ـ مختصتان بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّهما توجدان في كل عصر ـ وحتى في عصرنا الحاضر ـ ولكن بأشكال أخرى ، وعلى هذا فإنّ كل الأفراد الذين يسيرون في هذا المسير ـ مسير الهجرة والنصرة ـ يدخلون تحت هذين المفهومين.

إذن ، المهم أن نعلم أن القرآن الكريم بذكره كلمة (إحسان) يؤكّد على أن اتباع خط السابقين إلى الإسلام ، والسير في طريقهم يجب أن لا يبقى في حدود الكلام والادعاء ، بل وحتى مجرّد الإيمان الخالي من العمل ، بل يجب أن تكون هذه المتابعة أو الاتباع اتباعا فكريا وعمليا وفي كل الجوانب.

١٨٥

٣ ـ من هو أوّل من أسلم؟

إنّ أكثر المفسّرين يطرح هنا سؤالا ـ لمناسبة بحث الآية ـ وهو : من هو أوّل من أسلم ، وثبت هذا الافتخار العظيم باسمه في التاريخ؟

وفي جواب هذا السؤال ، فقد قالوا بالإجماع ، إنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة زوجة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوفية المضحية. وأمّا من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم ، وفريق كبير من أهل السنة قالوا : إنّ عليّاعليه‌السلام أوّل من أسلم ولبّى دعوة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ اشتهار هذا الموضوع بين علماء أهل السنة بلغ حدا ادّعى جماعة منهم الإجماع عليه واتفقوا على ذلك. ومن جملة هؤلاء الحاكم النيسابوري في (المستدرك على الصحيحين) وفي كتاب (المعرفة) ، فإنّه يقول في ص ٢٢ : لا أعلم خلافا بين أصحاب التواريخ أنّ علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه أوّلهم إسلاما ، وإنّما اختلفوا في بلوغه(١) .

وكتب ابن عبد البر في (الاستيعاب) ج ٢ ، ص ٤٥٧ : اتفقوا على أنّ خديجة أوّل من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به ، من علي بعدها(٢) .

وكتب أبو جعفر الإسكافي : قد روى الناس كافة افتخار علي بالسبق إلى الإسلام.(٣)

وبعد هذا ، فإنّ الرّوايات الكثيرة التي نقلت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن عليعليه‌السلام نفسه ، والصحابة ـ في هذا الباب بلغت حد التواتر ، وكنموذج لها نورد هنا بعض الأحاديث :

١ ـ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّلكم ورودا على الحوض أوّلكم إسلاما ، علي بن أبي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٠٧٥.

(٢) الغدير ، ج ٣ ، ص ٢٣٨ و ٢٣٧.

(٣) المصدر السّابق.

١٨٦

طالبعليه‌السلام ».(١)

٢ ـ نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أخذ بيد عليعليه‌السلام وقال: «إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهذا أوّل من يصافحني ، وهذا الصديق الأكبر».(٢)

٣ ـ نقل أبو سعيد الخدري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه وضع يده بين كتفي عليعليه‌السلام وقال : «يا علي ، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة : أنت أوّل المؤمنين بالله إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ...»(٣)

وكما أشرنا سابقا ، فإنّ عشرات الرّوايات في مختلف كتب التأريخ والتّفسير والحديث قد نقلت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآخرين في هذا الباب ، ومن أراد مزيد الاطلاع فليراجع الجزء الثّالث من الغدير ص ٢٢٠ ـ ٢٤٠ ، وكتاب إحقاق الحق الجزء ٣ ص ١١٤ ـ ١٢٠.

وهنا التفاتة لطيفة ، وهي أنّ جماعة لما لم يستطيعوا إنكار سبق عليعليه‌السلام في الإيمان والإسلام سعوا إلى إنكار ذلك بأساليب أخر ، أو التقليل من أهمية هذا الموضوع ، والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان عليعليه‌السلام ، ويدعي أنّه أول من أسلم.

فهم يقولون تارة إنّ عليّاعليه‌السلام في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره ، وهو غير بالغ طبعا ، وعلى هذا فإن إسلامه يعني إسلام صبي ، ومثل هذا الإسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة اقتدارهم في مقابل الأعداء (هذا القول ذكره الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية).

وهذا عجيب حقّا ، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) الحديث أعلاه ـ حسب نقل الغدير ـ جاء في مستدرك الحاكم ، ج ٢ ، ص ١٣٦ ، والإستيعاب ، ج ٢ ، ص ٤٥٧ ، وشرح ابن أبي الحديد ، ج ٣ ، ص ٢٥٨.

(٢) في المصدر السابق إنّ هذا الحديث قد نقل عن الطبراني ، والبيهقي ، والميثمي في المجتمع ، والحافظ الكنجي في الكفاية ، والإكمال ، وكنز العمال.

(٣) هذا الحديث ـ حسب نقل الغدير ـ قد نقل في كتاب حلية الأولياء ، ج ١ ، ص ٦٦.

١٨٧

لأنا نعلم أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد عرض الإسلام على عشيرته وقومه يوم الدار ، ولم يقبله إلّا عليّعليه‌السلام حين قام وأعلن إسلامه ، فقبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلامه ، بل وخاطبه بأنّك : أخي ووصي وخليفتي.

إنّ هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث ، من الشيعة والسنة ، في كتب الصحاح والمسانيد ، وكذلك جمع من مؤرخي الإسلام ، واستندوا عليه ، يبيّن أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى قبوله إسلام عليعليه‌السلام في ذلك السن الصغير ، فإنّه عرفه للحاضرين ـ وللناس فيما بعد ـ بأنّه أخوه ووصيه وخليفته(١) .

ويعبرون تارة أخرى بأنّ أوّل من أسلم من النساء خديجة ، ومن الرجال أبو بكر ، ومن الصبيان عليعليه‌السلام ، وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام عليعليه‌السلام . (ذكر هذا التعبير المفسّر المعروف والمتعصّب صاحب المنار في ذيل الآية المبحوثة).

إلّا أنّ أوّلا : كما قلنا ، إنّ سن عليعليه‌السلام الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر بأي وجه ، ولا يقلل من شأنه ، خاصّة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى :( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (٢) ، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسىعليه‌السلام من أنّه تكلم وهو في المهد ، وخاطب أولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال :( إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (٣) .

إنّنا إذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إلى الحديث الذي نقلناه آنفا من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عليّاعليه‌السلام وصيه وخليفته اتّضح أن كلام صاحب المنار لم يصدر إلّا عن تعصب مقيت.

__________________

(١) هذا الحديث نقل بعبارات مختلفة ، وما أوردناه أعلاه هو ما نقله أبو جعفر الإسكافي في كتاب (نهج العثمانية) ، وبرهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء) ، وابن الأثير في (الكامل) ، وآخرون. لمزيد الاطلاع والاستيضاح راجع الجزء الثّاني من الغدير ، ص ٢٧٨ ـ ٢٨٦.

(٢) مريم ، ١٢.

(٣) مريم ، ٣٠.

١٨٨

ثانيا : إنّ من غير المسلم تاريخيا أنّ أبا بكر هو ثالث من أسلم ، بل ذكروا في كثير من كتب التاريخ والحديث جماعة أخرى أسلمت قبله.

وننهي هذا البحث بذكر هذا المطلب ، وهو أنّ علياعليه‌السلام أشار مرارا وتكرارا في خطبه إلى أنّه أوّل من أسلم ، وأوّل من آمن ، وأوّل من صلّى مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّن موقعه من الإسلام ، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.

إضافة إلى أنّ ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإسكافي المعتزلي ، أن البعض يقول : إذا كان أبو بكر قد سبق إلى الإسلام ، فلما ذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدّع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة.(١)

٤ ـ هل كان الصحابة كلهم صالحين؟

لقد أشرنا سابقا إلى هذا الموضوع ، وإلى أنّ علماء أهل السنة يعتقدون ـ عادة ـ بأن جميع أصحاب النّبي فاضلون وصالحون ومن أهل الجنّة. ولمناسبة الآية لهذا البحث ، والتي جعلها البعض دليلا قاطعا على هذا المدعى ، فإنّنا هنا نحلّل ونفصل هذا الموضوع المهم الذي يعتبر أساسا ومنبعا لاختلاف كثيرة أخرى في المسائل الإسلامية.

إنّ كثيرا من مفسّري أهل السنة نقلوا حديثا في ذيل هذه الآية ، وهو أن حميد بن زياد قال : ذهبت إلى محمّد بن كعب القرظي وقلت له : ما تقول في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال : جميع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة ، محسنهم ومسيئهم! فقلت : من أين قلت هذا؟ فقال : اقرأ هذه الآية :( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصار ) إلى قوله تعالى( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) ثمّ قال : لكن قد اشترط في التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمال الخير (ففي هذه الصورة فقط هم من

__________________

(١) الغدير ، ج ٣ ، ص ٢٤٠.

١٨٩

الناجين ، أمّا الصحابة فلم يشترط عليهم هذا الشرط)(١) .

إلّا أنّ هذا الادعاء لا يمكن قبوله ، وهو مردود بأدلة كثيرة :

أوّلا : إن الحكم المذكور في الآية يشمل التابعين أيضا ، والمقصود من التابعين ـ كما أشرنا سابقا ـ كل الذين يتبعون المهاجرين والأنصار السابقين في معتقداتهم وأهدافهم وبرامجهم ، وعلى هذا فإنّ كل الأمّة بدون استثناء ناجية.

وأمّا ما ورد في حديث محمّد بن كعب ، من أنّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر قيد الإحسان في التابعين ، أي أتباع الصحابة في أعمالهم الحسنة ، لا في ذنوبهم ، فهو أعجب البحوث وأغربها ، لأنّ مفهوم ذلك إضافة الفرع إلى الأصل ، فعند ما يكون شرط نجاة التابعين أن يتبعوا الصحابة في أعمالهم الحسنة ، فاشتراط هذا الشرط على الصحابة أنفسهم يكون بطريق أولى.

وبتعبير آخر فإنّ الله تعالى يبيّن في الآية أن رضاه يشمل كل المهاجرين والأنصار السابقين الذين كانت لهم برامج وأهداف صالحة ، وكل التابعين لهم ، لا أنّه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ، الصالح منهم والطالح ، أمّا التابعون فإنّه يرضى عنهم بشرط.

ثانيا : إنّ هذا الموضوع لا يناسب الدليل العقلي بأي وجه من الوجوه ، لأنّ العقل لا يعطي أي امتياز لأصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما الفرق بين أبي جهل وأمثاله ، وبين من آمنوا أوّلا ثمّ انحرفوا عن الدين؟

ولماذا لا تشمل رحمة الباري والرضوان الإلهي الأشخاص الذين جاؤوا بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنوات وقرون ، ولم تكن تضحياتهم وجهادهم أقل ممّا عمله أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قد امتازوا بأنهم لم يروا نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّهم عرفوه وآمنوا به؟

إنّ القرآن الذي يقول :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) كيف يرضى هذا التبعيض والتفرقة غير المنطقية؟

__________________

(١) تفسير المنار ، وتفسير الفخر الرازي في ذيل الآية أعلاه.

١٩٠

إنّ القرآن الذي يلعن الظالمين والفاسقين في آياته المختلفة ، ويعدهم ممّن استوجب العقاب والعذاب الإلهي ، كيف يوافق ويقرّ هذه الصيانة غير المنطقية للصحابة في مقابل الجزاء الإلهي؟!

هل إنّ مثل هذه اللعنات والتهديدات القرآنية قابلة للاستثناء ، وأن يخرج من دائرتها قوم معينون؟ لماذا ولأجل أي شي؟!

وإذا تجاوزنا عن كل ذلك ، ألا يعتبر مثل هذا الحكم بمثابة إعطاء الضوء الأخضر للصحابة ليرتكبوا من الذنب والجريمة ما يحلو لهم؟

ثالثا : إنّ هذا الحكم لا يناسب المتون التأريخية الإسلامية ، لأنّ كثيرا ممّن كان في صفوف المهاجرين والأنصار قد انحرف عن طريق الحق ، وتعرض لغضب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الملازم لغضب اللهعزوجل . ألم نقرأ في الآيات السابقة قصّة ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، وكيف انحرف وأصبح مورد لعنة وغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! ونقول بصورة أوضح : إذا كان مقصود هؤلاء أنّ أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يرتكبوا أي معصية ، وكانوا معصومين ، فهذا من قبيل إنكار البديهيات.

وإن كان مقصودهم أنّ هؤلاء قد ارتكبوا المعاصي ، وعملوا المخالفات ، إلّا أنّ الله تعالى راض عنهم رغم ذلك ، فإنّ معنى ذلك أن الله سبحانه قد رضي بالمعصية!

من يستطيع أن يبرئ ساحة طلحة والزبير اللذين كانا في البداية من خواص أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك عائشة زوجة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دماء سبعة عشر ألف مسلم أريقت دماؤهم في حرب الجمل؟ هل أنّ اللهعزوجل كان راضيا عن إراقة هذه الدماء؟!

هل إنّ مخالفة عليعليه‌السلام خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي إذا لم نقبل النّص على خلافته فرضا ، فعلى الأقل كان قد انتخب بإجماع الأمّة ـ وشهر السلاح بوجهه وبوجه أصحابه الأوفياء شيء يرضى الله عنه؟

في الحقيقة ، إنّ أنصار نظرية (تنزيه الصحابة) بإصرارهم على هذا المطلب

١٩١

والمبحث قد شوهوا صورة الإسلام الطاهر الذي جعل الإيمان والعمل الصالح هو المعيار والأساس الذي يستند عليه في تقييم الأشخاص في كل المجالات وعلى أي الأحوال.

وآخر الكلام إن رضى الله سبحانه وتعالى في الآية التي نبحثها قد اتخذ عنوانا كليا ، وهو الهجرة والنصرة والإيمان والعمل الصالح ، وكل الصحابة والتابعين تشملهم رحمة الله ورضاه ما داموا داخلين تحت هذه العناوين ، فإذا خرجوا منها خرجوا بذلك عن رضى الله تعالى.

ممّا قلنا يتّضح بصورة جلية أنّ قول المفسّر العالم ـ لكنّه متعصب ـ أي صاحب المنار ، الذي يشن هنا هجوما عنيفا وتقريعا لاذعا على الشيعة لعدم اعتقادهم بنزاهة الصحابة جميعا ، لا قيمة له ، إذ الشيعة لا ذنب لهم إلّا أنّهم قبلوا حكم العقل وشهادة التاريخ ، وشواهد القرآن وأدلّته التي وردت في هذه المسألة ، ولم يعتبروا الامتيازات الواهية ، والأوسمة التي أعطاها المتعصبون للصحابة بدون استحقاق.

* * *

١٩٢

الآية

( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) )

التّفسير

مرّة أخرى يدير القرآن المجيد دفة البحث إلى أعمال المنافقين وفئاتهم ، فيقول :( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ) أي يجب أن لا تركزوا اهتمامكم على المنافقين الموجودين داخل المدينة ، بل ينبغي أن تأخذوا بنظر الإعتبار المنافقين المتواجدين في أطراف المدينة ، وتحذروهم ، وتراقبوا أعمالهم ونشاطاتهم الخطرة. وكلمة (أعراب) كما أشرنا تقال عادة لسكان البادية.

ثمّ تضيف الآية بأنّ في المدينة نفسها قسما من أهلها قد وصلوا في النفاق إلى أقصى درجاته ، وثبتوا عليه ، وأصبحوا ذوي خبرة في النفاق :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ) .

(مردوا) مأخوذة من مادة (مرد) بمعنى الطغيان والعصيان والتمرد المطلق ، وهي في الأصل بمعنى التعري والتجرّد ، ولهذا يقال لمن لم ينبت الشعر في وجهه :

١٩٣

(أمرد) ، وشجرة مرداء ، أي خالية من أي ورقة ، والمارد هو الشخص العاصي الذي خرج على القانون وعصاه كلية.

وقال بعض المفسّرين وأهل اللغة : إنّ هذه المادة تأتي بمعنى (التمرين) أيضا. (ذكر في تاج العروس والقاموس أن التمرين واحد من معاني هذه الكلمة). وربّما كان ذلك ، لأنّ التجرد المطلق من الشيء ، والخروج الكامل من هيمنته لا يمكن تحققه بدون تمرين وممارسة.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء المنافقين قد انسلخوا من الحق والحقيقة ، وتسلطوا على أعمال النفاق إلى درجة أنّهم كانوا يستطيعون أن يظهروا في مصاف المؤمنين الحقيقين ، دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتهم ومراوغتهم.

إنّ هذا التفاوت في التعبير عن المنافقين الداخليين والخارجيين في الآية يلاحظ جليا ، وربّما كان ذلك إشارة إلى أنّ المنافقين الداخليين أكثر تسلطا على النفاق ، وبالتالي فهم أشد خطرا ، فعلى المسلمين أن يراقبوا هؤلاء بدقّة ، لكن يجب أن لا يغفلوا عن المنافقين الخارجين، بل يراقبونهم أيضا. لذلك تقول الآية مباشرة بعد ذلك( لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة العلم الطبيعي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإلهي.

وفي النهاية تبيّن الآية صورة العذاب الذي سيصب هؤلاء :( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ ) .

لا شك أنّ العذاب العظيم إشارة إلى عذاب يوم القيامة ، إلّا أنّ بين المفسّرين نقاشا واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلّا أنّ الذي يرجحه النظر أن واحدا من هذين العذابين هو العقاب الاجتماعي لهؤلاء ، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم ، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا ، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الاجتماعي ، والدليل على ذلك ما

١٩٤

قرأناه في الآيات السابقة ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عند ما كانت تبلغ حد الخطر ، كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم ، بل وربّما طردهم من المسجد.

والعذاب الثّاني هو ما أشارت إليه الآية (٥٠) من سورة الأنفال ، حيث تقول هناك:( وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ) .

ويحتمل أيضا أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات.

* * *

١٩٥

الآية

( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) )

سبب النّزول

نقلت روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية ، ونواجه في أكثرها اسم (أبي لبابة الأنصاري) فهو ـ حسب رواية ـ قد امتنع مع اثنين ـ أو أكثر ـ من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاشتراك في غزوة تبوك ، لكنّهم لما سمعوا الآيات التي نزلت في ذم المتخلفين ندموا أشدّ الندم ، فجاءوا إلى مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وربطوا أنفسهم بأعمدته ، فلمّا رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبلغه أمرهم قالوا بأنّهم أقسموا أن لا يفكوا رباطهم حتى يفكّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يقسم أيضا أن لا يفعل ذلك حتى يأذن له الله ، فنزلت الآية ، وقبل الله توبتهم ، ففكّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رباطهم.

فأراد هؤلاء أن يشكروا ذلك ، فقدموا كل أموالهم بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : إنّ هذه الأموال هي التي صرفتنا ومنعتنا عن الجهاد ، فاقبلها منّا ، وأنفقها في سبيل الله ، فأخبرهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لم ينزل عليه شيء في هذا. فلم تمض مدّة

١٩٦

حتى نزلت الآية التي تلي هذه الآية ، وأمرت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ قسما من أموال هؤلاء ، وحسب بعض الرّوايات فإنّه قبل ثلثها.

ونقرأ في بعض الرّوايات ، أن هذه الآية قد نزلت في قصّة بني قريظة مع أبي لبابة ، فإن بني قريظة قد استشاروا أبا لبابة في أن يسلّموا لحكم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوامره ، فأشار إليهم بأنّهم إن سلّموا له فسيقتلهم جميعا ، ثمّ ندم على ما صدر ، فتاب وشدّ نفسه بعمود المسجد، فنزلت الآية ، وقبل الله تعالى توبته(١) .

التّفسير

التّوابون :

بعد أن أشارت الآية السابقة إلى وضع المنافقين في داخل المدينة وخارجها ، أشارت هذه الآية هنا إلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم ، ورجاء لمحوها :( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) ويشملهم برحمته الواسعة ف( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

إنّ التعبير ب (عسى) في الآية ، والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها احتمال الفوز وعدمه ، أو تحقق الأمل وعدمه ، ربّما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء حالة الخوف والرجاء ، وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية.

ويحتمل أيضا أنّ التعبير ب (عسى) إشارة إلى وجوب الالتزام بشروط أخرى في المستقبل ، مضافا إلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الاكتفاء بذلك بل يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلا.

إلّا أنّنا إذا لا حظنا أن الآية تختم ببيان المغفرة والرحمة الإلهية ، فإن جانب

__________________

(١) مجمع البيان في ذيل الآية ، وتفاسير أخرى.

١٩٧

الأمل والرجاء هو الذي يرجح.

وهناك ملاحظة واضحة أيضا ، وهي أن نزول الآية في أبي لبابة ، أو سائر المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية ، بل إنّها تشمل كل الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة ، وندموا على أعمالهم السيئة.

ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم : إنّ هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم ، لأنّها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين ، ودعت التّوابين إلى الله الغفور الرحيم.

* * *

١٩٨

الآيات

( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) )

التّفسير

الزّكاة مطهرة للفرد والمجتمع :

في الآية الأولى من هذه الآيات إشارة إلى أحد الأحكام الإسلامية المهمّة ، وهي مسألة الزكاة ، حيث تأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل عام أن( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) .

إنّ كلمة (من) التبعيضية توضح أنّ الزكاة تشكل ـ دائما ـ جزءا من الأموال ، لا أنّها تستوعب جميع الأموال ، أو الجزء الأكبر منها.

ثمّ تشير إلى قسمين من الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية للزكاة ، حيث تقول:( تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) فهي تطهرهم من الرّذائل الأخلاقية ، ومن حبّ الدنيا

١٩٩

وعبادتها ، ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق ، وتزرع مكانها خلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في نفوسهم. وفوق كل ذلك فإنّ المفاسد الاجتماعية والانحطاط الخلقي والاجتماعي المتولّد من الفقر والتفاوت الطبقي والذي يؤدي إلى وجود طبقة محرومة ، كل هذه الأمور ستقتلع بتطبيق هذه الفريضة الإلهية وأدائها ، وهي التي تطهر المجتمع من التلوث الذي يعيشه ويحيط به ، وكذلك سيفعّل التكافل الاجتماعي ، وينمو ويتطور الإقتصاد في ظل مثل هذه البرامج.

وعلى هذا فإنّ حكم الزكاة مطهر للفرد والمجتمع من جهة ويكرّس الفضيلة في النفوس من جهة أخرى ، وهو سبب في تقدم المجتمع أيضا ، ويمكن القول بأنّ هذا التعبير أبلغ ما يمكن قوله في الزكاة ، فهي تزيل الشوائب من جهة ، ووسيلة للتكامل من جانب آخر.

ويحتمل أيضا في معنى هذه الآية أن يكون فاعل (تطهّرهم) هو الزكاة ، وفاعل (تزكيهم) (النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) ، وعلى هذا سيكون معنى هذه الآية هو : إنّ الزكاة تطهرهم ، وإن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يربيهم ويزكيهم.

إلّا أنّ الأظهر أنّ الفاعل في كلا الفعلين هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما شرحنا وبيّنا ذلك في البداية ، رغم أنّه ليس هناك فرق كبير في النتيجة.

ثمّ تضيف الآية في خطابها للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك حينما تأخذ الزكاة منهم فادع لهم( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) . إنّ هذا يدل على وجوب شكر الناس وتقديرهم ، حتى إذا كان ما يؤدونه واجبا عليهم وحكما شرعيا يقومون به ، وترغيبهم بكل الطرق ، وخاصّة المعنوية والنفسية ، ولهذا ورد في الرّوايات أنّ الناس عند ما كانوا يأتون بالزكاة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو لهم يقول : «اللهم صل عليهم».

ثمّ تقول الآية :( إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) لأنّ من بركات هذا الدعاء أن تنزل الرحمة الإلهية عليهم ، وتغمر قلوبهم ونفوسهم الى درجة أنّهم كانوا يحسون بها.

٢٠٠

مضافا إلى ثناء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم ، بحيث يشعرون بأنّهم إن فقدوا شيئا بحسب الظاهر ، فإنّهم قد حصلوا ـ قطعا ـ على ما هو أفضل منه.

اللطيف في الأمر ، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم ، إلّا أنّ هذا الحكم الذي شرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإسلامية يعكس عمق الجانب الإنساني في هذه الأحكام.

وفي نهاية الآية نقرأ :( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.

* * *

ملاحظات

1 ـ يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية ، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه ، لأنّهم ـ وكشكر منهم لقبول توبتهم ـ أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصرفها في سبيل الله ، إلّا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكتفى بأخذ قسم منها فقط.

إلّا أنّ سبب النزول هذا لا ينافي ـ مطلقا ـ أن هذه الآية بيّنت حكما كليا عاما في الزكاة ، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي ، كما قلنا ذلك مكررا في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب رواية ـ قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه ، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد ، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحيانا ، وأحيانا جزء من عشرين جزءا ، وفي الذهب والفضة (5 ، 2 خ) ، وفي الأنعام (البقر والغنم والإبل) لا

٢٠١

يصل إلى الثلث مطلقا.

لكن يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ قسما من أموالهم بعنوان الزكاة ، والمقدار الإضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم ، وعلى هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم ، ومقدارا آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.

2 ـ إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس ، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة ، وإلّا فلا.

3 ـ إنّ جملة( صَلِّ عَلَيْهِمْ ) وإن كانت خطابا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي ـ لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإسلامية تجري على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباقي المسلمين على السواء ، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ ـ وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة : «اللهم صلّ عليهم».

وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي أنّ شخصا لو قال : (اللهمّ صلّ على عليّ أمير المؤمنين) أو : (صلّ على فاطمة الزّهراء) فإنّهم اعتبروا ذلك ممنوعا وحراما! في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إلى دليل ، لا جوازه!

إضافة إلى أنّ القرآن الكريم ـ كما قلنا سابقا ـ قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين ، فكيف بأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه؟! لكن ، ماذا يمكن عمله؟ فإنّ التعصبات قد تقف أحيانا مانعة حتى من فهم آيات القرآن.

ولمّا كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول توبتهم ، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل بالله الغفور الرحيم ، لذا قالت :( أَلَمْ يَعْلَمُوا

٢٠٢

أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) . ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إنّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأخرى التي يعطيها العباد تقربا إليه ، أو تكفيرا لذنوبهم :( وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) .

لا شكّ في أنّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام المعصومعليه‌السلام أو خليفة المسلمين وقائدهم ، أو الأفراد المستحقون ، وفي كلّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهرا ، ولكن لمّا كانت يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه ـ لأنّهم خلفاء الله ووكلاؤه ـ قالت الآية : إنّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون ، فإنّهم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات ، وهم في الحقيقة وكلاء الله ، وعلى هذا فإنّ يدهم يد الله أيضا.

إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كلّ المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة ، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إليه ، لأنّ من يأخذها هو اللهعزوجل ، وإنّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال ، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين ، أو إعطائه الزكاة بشكل يؤدي إلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة ، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلّ أدب وخضوع ، كما يوصل العبد شيئا إلى مولاه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل»(1) !

وفي حديث آخر عن الإمام السّجادعليه‌السلام : «إنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب»(2) .

بل إنّ رواية صرّحت بأنّ كلّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلّا الصدقة ، فإنّها

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية.

(2) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.

٢٠٣

تصل مباشرة إلى يد الله سبحانه(1) .

هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بعبارات مختلفة ، ونقل أيضا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق العامّة ، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري : «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلّا الطيب ـ إلّا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت تمرة ، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»(2) .

إنّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات ، والعظيم المعنى ، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإسلامية.

لقد وردت عبارات حديثية أخرى في هذا المجال ، وهي مهمّة وملفتة للنظر إلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم ، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.

فمثلا نجد في بعض الأحاديث ، أن الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام كانوا أحيانا يقبلون الصّدقة احتراما وتعظيما للصدقة ، ثمّ يعطونها الفقراء ، أو إنّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إليه ، لماذا؟ لأنّهم وضعوها في يد الله سبحانه!

وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير ، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة ، بل ويرمون مساعدتهم أحيانا بلا أدب وخلق؟!

وكما قلنا في محلّة ، فإنّ الإسلام يسعى بكلّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإسلامي ، إلّا أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلّ مجتمع أفرادا عاجزين أطفال ،

__________________

(1) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.

(2) تفسير المنار ، ج 11 ، ص 33. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا.

راجع : بحار الأنوار ، ج 96 ، ص 134 ، الطبعة الجديدة.

٢٠٤

يتامى ، مرضى وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل ، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء ، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.

ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد :( وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

التّوبة والجبران :

يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب ، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه ، كما هو في هذه الآيات ، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.

ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنبا ماليا ، أو أي ذنب آخر ، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية ، وذلك بالعمل الصالح ، وهذا هو الذي يرجع الروح إلى طهارتها الأولى التي كانت عليها قبل الذنب.

وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مرّت بصورة جديدة ، وتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ الناس :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهي تشير إلى أن لا يتصور أحد أنّه إذا عمل عملا ، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه ، بل إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين يعلمون به إضافة إلى علم اللهعزوجل .

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات ، فإنّ الإنسان ـ عادة ـ إذا أحسّ بأنّ أحدا ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته ، فإنّه يحاول أن يتصرّف تصرفا لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه ، فكيف إذا أحسّ وآمن بأنّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!

٢٠٥

إنّ هذا الاطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر ، لذا فإنّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول :( وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ مسألة عرض الأعمال

إنّ بين أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، عقيدة معروفة ومشهورة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يطلعون على أعمال كل الأمّة ، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.

إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، وربّما بلغت حدّ التواتر ، وننقل هنا أقساما منها كنماذج : روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح ، أبرارها وفجارها ، فاحذروها ، وهو قول اللهعزوجل :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) وسكت(1) .

وفي حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس ، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(2) .

وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّ شخصا قال له : ادع الله لي ولأهل بيتي ، فقال : «أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليّ في كل يوم وليلة». يقول الراوي ، فاستعظمت ذلك ، فقال لي ، «أمّا تقرأ كتاب اللهعزوجل :( وَقُلِ

__________________

(1) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 171 ، باب عرض الأعمال.

(2) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 158.

٢٠٦

اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، هو والله علي بن أبي طالب»(1) .

إنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، وفي بعضها عليعليه‌السلام ، وفي بعضها الآخر ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس ، وبعضها جعله كل يوم ، وبعضها في الأسبوع مرّتين ، وبعضها في أوّل كل شهر ، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.

ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات ، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة ، تماما كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية ، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم ، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع ، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أنّ الأمر كما قاله مفسّر والعامّة ، وهو أنّ الآية تشير إلى أمر طبيعي ، وهو أنّ الإنسان إذا عمل أي عمل ، فإنّه سيظهر ، شاء أم أبي، ومضافا إلى علم الله سبحانه ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟

وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال : الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية ، وذلك :

أوّلا : إنّ الآية مطلقة ، وهي تشمل جميع الأعمال ، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية ، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر ، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالبا ، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضا تعمل في السرّ ، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال ، الصالحة منها والطالحة ، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة. وعلى هذا فإنّ علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون

__________________

(1) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 171 ، باب عرض الأعمال.

٢٠٧

عن طريق غير طبيعي ، بل عن طريق التعليم الإلهي.

ثانيا : إنّ آخر الآية يقول :( فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر ـ العلنية منها والمخفية ـ وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد ، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضا كل الأعمال ـ الظاهرة منها والباطنة ـ ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.

وبتعبير آخر ، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال ، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال ، فهنا مرحلتان : إحداهما : مرحلة الاطلاع والعلم ، والأخرى : مرحلة الجزاء ، والموضوع واحد في المرحلتين.

ثالثا : إنّ ضميمة المؤمنين في الآية إلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية ، وإلّا فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء ، ومن هنا تتّضح مسألة أخرى بصورة ضمنية ، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية ـ كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضا ـ ليس جميع المؤمنين ، بل فئة خاصّة منهم ، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى ، ونعني بهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحقيقيين.

والمسألة الأخرى التي يجب الانتباه لها هنا ، وهي ـ كما أشرنا سابقا ـ أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها ، فإنّي إذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نبييصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّتيعليهم‌السلام يطلعون على كل أعمالي ، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم ، أو في كل أسبوع ، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال ، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن ، تماما كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريرا يوميا أو أسبوعيا ، تسجل فيه جزئيات أعمالهم ، يرفع إلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.

٢٠٨

2 ـ هل الرّؤية هنا تعني النظر؟

المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى :( فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ) تعني المعرفة ، لا العلم ، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.

لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي ، وهو مشاهدة المحسوسات ، لا بمعنى العلم ، ولا بمعنى المعرفة ، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان ، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.

وأمّا بالنسبة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، فلا مانع من ذلك أيضا ، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها ، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإنسان لا تفنى ، بل تبقى إلى يوم القيامة.

3 ـ لا شك أنّ اللهعزوجل يعلم بالأعمال قبل وقوعها ، والذي في جملة :( فَسَيَرَى اللهُ ) إشارة إلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.

* * *

٢٠٩

الآية

( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) )

سبب النّزول

قال جماعة من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، وهم : «هلال بن أمية» و «مرارة بن ربيع» و «كعب بن مالك» ، وسيأتي بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية (118) من هذه السورة ، إن شاء الله تعالى.

ويستفاده من بعض الرّوايات الأخرى أنّ هذه الآية نزلت في بعض الكفار الذين قتلوا الشخصيات الإسلامية الكبرى ـ كحمزة سيد الشهداء ـ في ساحات الحروب ، ثمّ اهتدوا ودخلوا في دين الإسلام.

التّفسير

في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيدا عاقبة أمرهم ، فلا هم مستحقون حتما للرحمة الإلهية ، ولا من المغضوب عليهم حتما ، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم :( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ

٢١٠

إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) .

«مرجون» مأخوذ من مادة (إرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف ، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل ، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئا ما أحيانا رجاء تحقق هدف من هذا التأخير ، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير ، إلّا أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل.

إنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة ، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يكتبون من الأشقياء ، بل يوكل أمرهم إلى اللطف الإلهي كيف سيعامل هؤلاء ، وهذا طبعا حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.

وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ، بل يقتضي بعلمه وحكمته :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

سؤال :

وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية ، وهو ما الفرق بين هذه الفئة، والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية (102) من هذه السورة؟ فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين ، وكلا المجموعتين تابوا ، لأنّ المجموعة الأولى اعترفوا بذنوبهم ، وأظهروا الندم عليها ، والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى :( وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) . وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين :

1 ـ إنّ الطائفة الأولى تابوا بسرعة ، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة ، فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد ، وبعبارة موجزة : إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم

٢١١

صريحا ، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت.

أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية ، ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم ، ولم يظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم ، فهم في الواقع كانوا يطمحون إلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر.

إنّ هؤلاء ـ ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أشير إليهم ، وسيأتي بيان وضعهم ـ بقوا في حالة الخوف والرجاء ، ولهذا نرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم ، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل ، ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية ، فقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في انتظار الوحي ، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوما أو أقل.

ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأولى قد ختمت بقوله :( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهو دليل على قبول توبتهم ، أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التي لا تدل من قريب أو بعيد على قبول توبتهم.

ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافيا لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة، خاصّة في عصر نزول الآيات ، بل يشترط مع ذلك الإقدام على الاعتراف الصريح بالذنب، والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته ، وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة.

2 ـ الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين ، هو أنّ الطائفة الأولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير ، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إلى الأعداء ، إلّا أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء ، ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم. غير أن قتل حمزة وأمثاله

٢١٢

لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه ، ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله وإرادته ، إمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم.

وعلى أي حال ، فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول ، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك ، أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما(1) .

ولو دققنا النظر حقا لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين ، ويمكن أن يكون كل منهما مقصودا في تفسير الآية.

* * *

__________________

(1) للاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 265 ، وتفسير البرهان ، ج 2 ، ص 106.

٢١٣

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) )

سبب النّزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أخرى من المنافقين الذين أقدموا ـ من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة ـ على بناء مسجد في المدينة ، عرف فيما بعد ب (مسجد الضرار).

٢١٤

وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسّرين الإسلاميين ، وكثير من كتب التاريخ والحديث ، مع وجود اختلافات في جزئياته.

وخلاصة القضية ـ كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة ـ أنّ جماعة من المنافقين أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني سليم ـ قرب مسجد قبا ـ حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ ، وكذلك ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيّام الممطرة ، ويؤدوا فرائضهم الإسلامية ، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عازما على التوجه إلى تبوك.

فأذن لهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهم لم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا منه أن يصلي فيه، فأخبرهم بأنّه عازم على السفر الآن ، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم ويصلي فيه.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم والصلاة فيه ، وأن يدعوا الله لهم بالبركة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل بعد أبواب المدينة ، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات ، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء ، فأمر النّبي بحرق المسجد المذكور ، وبهدم بقاياه ، وأن يجعل مكانه محلا لرمي القاذورات والأوساخ.

إذا نظرنا إلى الوجه الظاهري لهذا العمل ، فسوف نتحير في البداية ، فهل أن بناء مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة ، والذي هو في حقيقته عمل ديني وخدمة إنسانية ، يعدّ عملا مضرا وسيئا حتى يصدر في حقّه هذا الحكم؟ إلّا أنّنا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أنّ هذا الأمر بهدمه في منتهى الدقة.

وتوضيح ذلك ، أنّ رجلا في زمن الجاهلية يقال له : أبو عامر ، كان قد اعتنق النصرانية ، وسلك مسلك الرهبانية ، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في

٢١٥

طائفة الخزرج.

وعند ما هاجر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر ، رأى أبو عامر ـ الذي كان يوما من المبشرين بظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ الناس قد انفضوا من حوله ، وبقي وحيدا ، وعند ذلك قرر محاربة الإسلام ، فهرب من المدينة إلى كفار مكّة ، واستمد منهم القوّة لمحاربة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءا من مخططات معركة أحد ، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحدها فجرحت جبهته وكسرت رباعيته.

فلمّا انتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب ، دوى صوت الإسلام أكثر من ذي قبل ، وعمّ كل الأرجاء ، فهرب أبو عامر من المدينة وذهب إلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليرجع إلى المسلمين ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.

ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى صدر منه من التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيّهم سمّاه (فاسقا).

يقول البعض : إنّ الموت لم يمهله حتى يطلع هرقل على نواياه ومشاريعه ، إلّا أنّ البعض الآخر يقول : إنّه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!

على كل حال ، فإنّه قبل أن يموت أرسل رسالة إلى منافقي المدينة يبشرهم فيها بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم ، وأكّد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزا ومقرّا في المدينة ليكون منطلقا لنشاطات المستقبل.

ولما كان بناء مثل هذا المقر ، وباسم أعداء الإسلام غير ممكن عمليا ، رأى المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد ، وبعنوان مساعدة المرضى والعاجزين.

وأخيرا تمّ بناء المسجد ، ويقال أنّهم اختاروا شابا عارفا بالقرآن من بين

٢١٦

المسلمين يقال له : «مجمع بن حارثة» أو «مجمع بن جارية» وأوكلوا له إمامة المسجد.

إلّا أنّ الوحي الإلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء ، وربّما لم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء قبل ذهابه إلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدّة ، من أجل أن يتّضح أمرهم أكثر من جهة ، ولئلا ينشغل فكريا وهو في مسيرة إلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو أصدر الأمر.

وكيف كان ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب ، بل إنّه ـ كما قلنا ـ أمر بعض المسلمين ـ وهم مالك بن دخشم ، ومعنى بن عدي ، وعامر بن سكر أو عاصم بن عدي ـ أن يحرقوا المسجد ويهدموه ، فنفذ هؤلاء ما أمروا به ، فعمدوا إلى سقف المسجد فحرّقوه ، ثمّ هدموا الجدران ، وأخيرا حولوه إلى محل لجمع الفضلات والقاذورات(1) .

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد!

أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين ، وتعرّف الآيات التي نبحثها مجموعة أخرى منهم ، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية ، إلّا أن اللطف الإلهي أدرك المسلمين ، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.

فالآية الأولى تقول :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ) (2) وأخفوا أهدافهم الشريرة

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح الرازي ، وتفسير المنار ، وتفسير الميزان ، وتفسير نور الثقلين ، وكتب أخرى.

(2) بالرغم من أنّ المفسّرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين ، وتقديرها هكذا : «ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ...».

٢١٧

تحت هذا الإسلام المقدس ، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف :

1 ـ إنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين ، فكان مسجدهم (ضرارا).

«الضرار» تعني الإضرار العمدي ، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل ، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إلى المكيدة بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته ، وسحق المسلمين ، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.

2 ـ تقوية أسس الكفر ، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام : (وكفرا).

3 ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين ، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريبا منه ، أو مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يبعد عنه ،( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ويظهر من هذه الجملة ـ وكذلك فهم بعض المفسّرين ـ أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر ، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي ، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية ، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإسلامية.

4 ـ والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق ، السيئة ، والانطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم :( وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

إلّا أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة

٢١٨

والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع ، وأنّهم لا يريدون إلّا الخير:( وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور ، فإنّهم إضافة إلى تلبسهم بلباس حسن ، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام ، وانحراف الأفكار.

إلّا أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر ، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن ، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء :( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء ، فهي جملة اسمية أوّلا ، ثمّ إنّ كلمة (إن) للتأكيد ، وأيضا اللام في (لكاذبون) ، والتي تسمى لام الابتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء ، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيدا شديدا على مسألة حياتية مهمّة ، ويأمر نبيّه بصراحة أن( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ) بل( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

إنّ كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل ، إلّا أنّها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين شيئين في التناسي والملاءمة ، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه ، والملاءمة وعدمها ، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيرا في آيات القرآن الكريم والأحاديث ، بل وفي محادثاتنا اليومية ، وله نماذج عديدة.

فمثلا نقول للشخص المجرم والسارق : إنّ الاستقامة والعمل الصالح الصحيح خير لك ، فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ السرقة والتلوث بالجريمة شيء حسن ، وأن الاستقامة والطهارة أحسن ، بل معناه أن الاستقامة وحسن السيرة شيء حسن ،

٢١٩

وأنّ السرقة عمل سيء وغير مناسب.

وقال المفسّرون : إنّ المسجد الذي أشارت الآية إلى أنّه يستحق أن يصلي فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو «مسجد قبا» حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.

واحتمل أيضا أن يكون المقصود منه مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو كل المساجد التي بنيت على أساس التقوى ، إلّا أنّنا لا حظنا تعبير( أَوَّلِ يَوْمٍ ) وأن مسجد قبا هو أوّل مسجد بني في المدينة(1) ، علمنا أنّ الاحتمال الأوّل هو الأنسب والأرجح ، ولو أنّ هذه الكلمة تناسب أيضا مساجد أخرى كمسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإضافة إلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى ، فإنّ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .

ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية ، أم المعنوية؟

هناك بحث بين المفسّرين في الرّواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأهل قبا : «ماذا تفعلون في طهركم ، فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟» قالوا : نغسل أثر الغائط.

وقد نقلت روايات أخرى بهذا المضمون عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، لكن ـ كما قلنا سابقا وأشرنا مرارا ـ مثل هذه الرّوايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية في هذا المصداق ، بل ـ وكما يشير ظاهر إطلاق الآية ـ أنّ للطهارة هنا معنى واسعا يشمل كل أنواع التطهير ، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب ، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثّالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين : المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى ، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلا :( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ

__________________

(1) الكامل لابن الأثير ، ج 2 ، ص 107.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608