الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261564 / تحميل: 6533
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والتصديق هما قسما العلم، وكلاهما يعرَّفان بحصول الصورة لدى العقل، والفَرق بينهما أن التصور لا يوجب الإذعان والحكم، بينما التصديق يوجب حصول الإذعان والحكم؛ ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وإنما هو فعل تقوم به النفس، فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة، تصل إلى الحكم، وهو الدمج بين الموضوع والمحمول، وهذه وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والإذعان بما أدركه وتصوَّره العقل النظري، وهذا فعل غير الإدراك، تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الإدراك.

ومن هنا نقول: إن العقل له أمر ونهي تكويني؛ أي بعث وزجر للقوى الأخرى الكُلِّية.

* بناء على هذا التفكيك بين القوتين تتَّضح لنا حقيقة العقل النظري؛ فهو يدرك نمطين من القضايا، أحدهما: لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي، والأخرى: ترتبط بالعمل، وهذا القسم من الإدراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثِّر على القوى المادُون لتنصاع إليها، فهو الرابط بين العقل النظري والقوى السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلى إدراكات العقل النظري الصادقة.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا أثرناها في مقدِّمة الفصل الأوَّل؛ من أن معنى الإيمان والتسليم هو الإذعان، وهو وظيفة العقل العملي، وأنه ليس إدراكاً صرفا، فهناك ثلاث مراحل: فحص، و إدراك، وإذعان وإيمان.

* قال العرفاء: إن الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين. ومقصودهم من ذلك: أن الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة أدناها هي المتصلة بعالم المادة وأعلاها هي المجرَّدة تجرُّداً تامَّا، فيبدأ من الدرجات الحسية، وهي المجردة عن المادة - دون أحكام المادة - إلى الخيال، وهي مجردة عن المادة - لا عن المقدار - ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلى الوهم،

٦١

وهو إدراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض، وهي مع تجرُّدها عن المادة وأحكامها إلاّ أنها متعلِّقة ومضافة إلى جزئي معين؛ إلى العقل ذي التجرُّد التامِّ عن المادة وأحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذَّب والكامل في صَلاته يتوجَّه بقلبه إلى ما فوق عالم العقل؛ حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية، وإلى هذا نمط من الإدراك، لكنَّه ليس بالقوة العاقلة، ويطلق عليه: الإدراك القلبي؛ وهو ذو درجات أربع: سر، وخفي، وأخفى، وهي ليست من سنخ الإدراكات الحصولية، بل إدراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية، وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتَّضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي؛ وذلك لأننا قلنا: إن مهمته الأساسية هي الإذعان والحكم، وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل، وحينئذٍ يترتَّب على الحكم والإذعان بها تأثُّر القوى السفلية، وقد يكون بالحكم والإذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم وعدم تناهيه.

٦٢

التنبيه الأوَّل:

الحسن والقبح العقليَّان

هذه المسألة من أمهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جرى البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الإسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية. وقد ذهب الأشاعرة إلى كونهما اعتباريين بجعل العقلاء، وأيَّدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلى القول بعقليَّـتهما وتكوينيَّـتهما. ويبتني على هذه المسألة ثمرات عدَّة؛ إذ أن أغلب البراهين تعود إلى حسن العدل وقبح الظلم، فإذا كان الحسن والقبح اعتباريين، فإن الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية. وتظهر خطورة المسألة أكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلى اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة؛ وذلك لأن المتكلمين يقولون: إن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية؛ أي أن العقل لو علم بمِلاكات الأحكام الشرعية، لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فإذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية، وهي مسألة الحسن والقبح، وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتَّبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الأحكام تبَعاً لتغيير الأفكار، وهو ما يُعرف حديثا بنظرية: تغيُّر المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة، فلا

٦٣

تتَّصف الشريعة حينئذ بالثبات، ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الإشكال وغيره مدفوع حتّى على القول باعتبارية الحسن والقبح كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرَّت بمراحل متعدِّدة:

1 - إن الفلاسفة القدمى قبل الإسلام، سواء في الهندية أم البهلوية أم الحرانية أم اليونانية، كلُّهم قائلون بعقلية المسألة، وممَّن أشار إلى عقليَّـتهما من المسلمين الفارابي في كتابه المنطقيات.

2 - إن ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبيِّن عدوله ولم يشر إليه، وهكذا أثَّر في مَن أتى مِن بعده؛ حيث تعاملوا مع كتبه على أنها ترجمة أمينة لكتب القوم. وقد تأثَّر هو في ذلك بما ذكره أبو الحسن الأشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته، فهو في منطق الشفاء والإشارات يمثِّل للمشهورات بالحسن والقبح؛ وهي الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وفي مقام أخر في النمط الثالث من الإشارات يقول: (إن أحكام العقل العملي تستعين بالنظري وقضاياه، إما أوَّليَّات أو مشهورات)، وكذلك عبارات أخرى كما في إلهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها: أن قضايا الحسن والقبح قضايا حقَّة يمكن إقامة البرهان عليها.

3 - بعض المتأخرين كالمحقق اللاّهيجي في كتابة (گوهر مراد)، والسبزواري في (شرح الأسماء الحسنى)، ذهب إلى أنها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخرى.

4 - المحقَّق الأصفهاني ومَن بعده ذهب إلى أنها اعتبارية مطلقاً ولا يمكن إقامة البرهان عليها، وهذا هو المذهب السائد إلى الآن.

٦٤

من خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحوَّلت هذه القضية من عقلية تكوينية إلى اعتبارية جعْلية.

أمَّا الأسباب التي دعت ابن سينا إلى القول بالاعتبارية:

1 - المغالطة التي ذكرها أبو الحسن الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، أمّا معنى المدح والذم، فليس كذلك؛ وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع، فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو أول من ذكر هذه المغالطة، بل أن السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلَّفاته.

2 - تعريفه للعقل العملي؛ حيث إنه قد عرَّفه بتعريف هو عين العقل النظري والاختلاف بينهما في المُدرَك، وأن العقل، مطلقاً، شأنه الإدراك، وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصوّر أنَّ العقل له تدخُّل في أعمال الأفعال النفسانية! بل العمليات ليست إلاّ تأديبات وعادات، وهذا المبنى على خلاف مبنى الفلاسفة المتقدِّمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية.

3 - غضَّ ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما أرسطو، وهو البرهان العياني أو الشهودي، ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام على إثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفى بالقسم الأول المعروف في باب البرهان، وهو مختص بالكليَّات؛ لذا يشترط فيه الأبدية وعدم التغيير.

ولا بأس بذكر نبذة عن هذا البرهان:

هناك قوة في الإنسان تسمَّى: قوَّة الفطنة، وهذه قوة تُرَوِّي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الإرادة على طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة بأحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات على الجزئيات والوصول إلى الكمال المنشود.

٦٥

توضيح ذلك:

أن إدراك القضايا، حتّى العملية، لا يكفي للوصول إلى الكمال، وإنما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوى السفلى يكون بالانصياع إلى القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل يجب أن تكون هناك آلة وأداة تميِّز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية. وعدم إدراك الواقع الجزئي على ما هو عليه يؤثِّر في عدم الوصول للكمال المنشود؛ لأن تنزُّل القضايا الكلية إلى الجزئية لا يتمُّ إلاّ بأداة قادرة على استكشاف حال الجزئي على ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه، فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

* - مرحلة إدراك الكمال في الأعمال والبرهان عليها، وهذا يقوم به العقل النظري.

* - ثُم مرحلة الإذعان في العقل العملي والتأثير على القوى السفلى.

* - ثُم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزُّل من الأعلى إلى الأسفل قوله تعالى: ( بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) فهو إشارة إلى السداد والعصمة في مراحل التنزيل؛ حيث كونه حقَّاً لوحده لا يكفي، بل يجب أن يكون السداد في النزول، وفي النفس الإنسانية الإدراك والإذعان وحده غير كافٍ، بل يجب أن يحصل التسديد في التنفيذ على الأمور الخارجية الجزئية، وهذا لا يكون إلاّ بقوة الفطنة، وهي قوة فوق القوى المادون (الغضبية والعمّالة والشهوية)، فهي تستخدم هذه القوى للوصول إلى الجزئي الحقيقي المندرج تحت الأجناس العالية، فتصدر بعد ذلك أوامرها في عالم النفس لتولِّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات على الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ على هذا البرهان.

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري:

٦٦

1 - إن البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات.

2 - إن النظري يتوسَّط العقل النظري والعملي، أمّا العياني، فيتوسَّط العقل النظري والعملي والفطنة.

أمَّا كيف أدَّت الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلى إنكار الحسن والقبح العقلي، فبيانه:

إنه لو أذعنَّا بلزوم كون الأعمال برهانية، فلا بدَّ من القول بارتكاز الجزئيات على أنها قضايا برهانية، والذي يمكنه البرهنة على أن الجزيئات حسنة وحكيمة إمّا الحسن والقبح وإمّا التشريع؛ أي أنّ إدراك حسن وكمال الأفعال الجزئية يكون بأحد هذين، والأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية.

وبتعبير أخر: أن البرهان العياني يبرهن على أن العمل الجزئي على وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة على كل واقعة جزئية إلاّ بتوسط استناد البرهان إلى قضايا يقينية، لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلاّ الاعتبار، فحينئذ يحصل الالتفات إلى أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

ـ وحينئذٍ نقول: إن التوحيد النظري وحده - من دون تنزُّله إلى توحيد عملي - هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزُّل من التوحيد النظري إلى التوحيد في الطاعة إلاّ بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يُقبل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سبَّبت الخلط الحاصل لدى ابن سينا، وعليه ابتنى اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن، نعرض للأدلة التي أُقيمت على اعتباريَّتهما ومناقشتها، ثُم نعرض إلى الأدلة التي ذكرها صدر

٦٧

المتألهين.

أدلَّة اعتبارية الحسن والقبح:

1 - اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الأزمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت؛ بحيث يبقى الشي‏ء حسناً دائماً أو قبيحاً دائما.

2 - نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما أو عقليَّتهما.

3 - يذكرون في إثبات النفس: أن الإنسان لو خلق من دون أعضاء أصلا، فإنه سوف يدرك ذاته، وهذا يدل على مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه، فلو خُلق الإنسان وحيداً في هذا العالم ولم يؤدَّب على العادات الحسنة ولم يلاقِ أيَّ إنسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم، فهذا يدل على أنهما ليسا تكوينين، بل هما أمران جعليَّان.

4 - إن العقلاء إنما يحكمون بهذا الحكم من أجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام، لَمَا حكم العقلاء بذلك وبعبارة أخرى: أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخرى بواسطة هذا الاعتبار.

5 - ما ذكره المحقِّق الأصفهاني: أن الفعل المقتضي للمدح والذم على أحد نحوين، إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبَّبه والمقتضي لمقتضاه، وإمّا بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

أما السببية والمسبَّبية، فهي تكوينية، لكنَّها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوى الإنسان العقلية؛ بل هي ناشئة بدواع حيوانية كالانتقام والتشفِّي والغيظ. أما الغاية وذي الغاية، فإنها إذا ثبتت، فهي تعني وتدل على الاعتبارية؛ لأن الغاية لهيئة الاجتماع الاعتبارية، والمدح والذم،موجب لِمَا فيه صلاح العامة، فهو اعتباري محض.

٦٨

6 - ما ذكره ابن سينا والأصفهاني: أن الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين، لَمَا خرجا عن إحدى البديهيات الست وهما ليسا بواحدة منها، فيبطل كونها من البديهيَّات.

7 - إن المدح والذم يعدُّه العقلاء من الإنشائيات، والإنشاء من سنخ الاعتباريات.

8 - ما ذكره الشهيد الصدر: أن تعريف العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والظلم هو منع الحق، والحق أمر اعتباري قانوني، فكذلك العدل والظلم. ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح على الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة. و قبل أن نستعرضها نتعرض لِمَا ذكره الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح، و هو كما ذكرنا أحد الأسباب التي أدَّت إلى مغالطة ابن سينا.

* إننا يجب أن نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم؛ فالمدح هو القضية المتكفِّلة لحمل كمال معين على موضوع معين، والذم بخلافه. وعليه يُعلم أنه يجب أن يكون الممدوح آتٍ بكمالٍ، فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن أن يُمدح بغير كمال أو يذم بغير نقص؛ فيجب أن يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: إن وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال، أي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالارتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متَّحدان هويةً ومختلفان وجودا، فالكمال الحقيقي وجود خارجي، والمدح وجود ذهني. وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

٦٩

الموجودات عن وجود الخالق؛ إذ أنها آيات عظمته وقدرته، وكلَّما كان الوجود أكمل، فحكايته عن الوجود الإلهي أعظم وأتم. وقد قال عليه‌السلام : (ما للَّه آية أكبر منّي) باعتبار أن الكمالات التي وصل إليها عليه‌السلام ( بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق أكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكياً عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول. فالحكاية ليست مقتصرة على الوجود الذهني، بل إن الأفعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثُم إنه لا مضايقة في أن يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للأمور الخارجية العينية؛ وذلك لغرض الاحتياج إلى هذا الاعتبار من أجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح: الوجود اللفظي والوجود الكتبي، فهما وجوادن اعتباريان دعت إليهما الحاجة، وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلى اعتبار وجودات أخرى حاكية عن الوجود الغيبي.

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن، فهو وإن كان إنشائياً، لكنَّه حاكٍ عن أمور تكوينية وواقع خارجي، وإنما أظهره القرآن بإنشاء الهجاء؛ لإعلام الآخرين بما حصل في الأقوام الآخرين.

* ثُم إن الشجار في الأمر البديهي لا يؤدِّي إلى عدم البداهة؛ نوضح ذلك من خلال علم المنطق: إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدِّي إلى إنكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الإنكار لا يؤدِّي إلى إنكار بديهية القضية.

وقد يكون الإنكار في بعض الأحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة؛ حيث لا ينصاع العقل العملي لمدرَكات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كلُّه لا يؤدِّي إلى عدم بداهة القضية.

٧٠

هذا كلُّه جواب إجمالي عن أدلة اعتبارية الحسن والقبح، أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - إن اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة إما أن يكون ناشئاً من اختلاف التشخيص؛ أي عدم إصابة الكمال الواقعي والنقص الواقعي، وذلك لاختلاف الافهام والعقول، وإما أن يكون ناشئاً من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الأماكن الباردة والحارة، فإنه في الأولى يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2 - أمّا وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء، فيُعلم جوابه مما مر.

3 - أمّا ما ذكروه من أن الإنسان لو خُلق وحيداً أو لم يؤدب، لَمَا حَكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة على المطلوب، بل إن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولو لم يكن هناك اجتماع أو لم يؤدب، فإن الظلم - كما سوف نبيِّن - هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرِف العقل بذلك التعريف وفكّر به، فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض؛ حيث قال في إلهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرُّع والتوسُّل: إن أكثر ما في أيدي الناس من الحسن والقبح حقٌّ يقام عليه البرهان.

4 - أمّا ما ذكره المحقق الأصفهاني؛ من أن سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام؛ وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داعٍ عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم، وهذا واضح في الكُمّلين من البشر، حيث نلاحظ أن انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية؛ وذلك لأن قواهم كلّها منصاعة تماماً للقوى العقلية، فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمُّون ظالماً - مثلاً - لا يكون الذم بداعي

٧١

الغريزة الحيوانية. ويمكن أن يكون تعبير القرآن عن موسى: ( وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ ) إشارة إلى

ذلك؛ إذ أن النطق والسكوت من خصائص الإنسان، بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة على أن غضبه لم يكن ناشئاً من القوى الحيوانية، بل من القوى العاقلة؛ وسرُّه هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسِّر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه؛ لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقَّاه من مدرَكات عن العوالم العلْوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخرى؛ أي عندما نُخبَر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) فإن هذا يعني عصمتها؛ لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلى القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يُطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربِّه.

5 - أمّا إشكال الشهيد الصدر، فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فإن التعريف الصحيح للعدل هو: وصول كل موجود إلى كماله المطلوب من دون إعاقة وممانعة موجود آخر. والظلم هو: ممانعة موجود من وصول موجود آخر لكماله. فالعدالة الاجتماعية - مثلاً - هي: وصول كل أفراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلى كمالاته الممكنة من دون إعاقة الأفراد الآخرين، أما عندما تصل طبقة لكمالها على حساب طبقة أخرى، فإنه يكون من الظلم الاجتماعي. والتشريع إنما يكون عادلاً؛ لأنه يكون كاشفاً عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينياً لا اعتباريا.

٧٢

أما الاحترام والتعظيم، فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي‏ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم؛ لِمَا فيه من ترويض النفس، وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص، فالتقديس ليس للبدن، بل للصفات العالية، ومن هنا نقول: إن التقديس إذا كان للحقائق والكمالات، فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الأباطيل والخرافات، فهذه قدسية باطلة. وبتعبير آخر، يمكن القول: إن القدسية والتقديس هو خضوع قوى الإنسان السفلى إلى قواه العقلية العملية، فإذا كانت تلك القوى العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للأباطيل، فتكون قدسية مذمومة. أمّا لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوى المادون، فإنها قدسية محمودة.

6 - أمّا ما ذكر من أن المدح والذم من الإنشائيات، فقد ذكرنا أن الإنشاء لا يصدر إلاّ من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني؛ فالهجاء هو إظهار للنقص التكويني، والمدح إبراز للكمال الخارجي الحقيقي، والبلاغيُّون قد أذعنوا بأن أقسام الإنشاء هي عناوين لماهيَّات الدواعي.

فتبيَّن من كل ما سبق: أن الحسن والقبح أمران تكوينيان واقعيان، وليسا اعتباريين كما ذهب إليه جلّ المتأخرين.

أدلَّة واقعية الحسن والقبح:

ونلفت أخيراً إلى براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح؛ ذكرها بعد أن كان قد أنكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلى الخلط والتردد الحاصل لدى مَن أتى بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته.

والبراهين التي ذكرها للدلالة على واقعية الحسن والقبح ثلاثة:

٧٣

1 - العناية الإلهية:

أي أن للحق تعالى عناية بخلقه. والقاعدة الفلسفية المثبَتة هنا هي: أن علمه بالنظام الأتم والأكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

أن الباري يكون على أكمل وأشرف وأعلى ما يمكن أن يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك؛ حيث أن آيات ومخلوقات اللَّه تدل على صفة الكمال في الباري، والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي، وإفاضة الكمال على ما دون هو من العناية.

وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ إفاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل، حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلى تحقيق الكمالات الوجودية بنحو أكثر وأرفع، فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالإرادة إلى أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل على ضرورة التشريع والتقنين الإلهي؛ حيث إنه يرشد الفاعل الإرادي إلى طريق هذا الكمال.

ومؤدّى هذه القاعدة (العناية) يمكن أن يستبدل بقاعدة اللطف المعروفة إلاّ أن الأولى الحاكم بها هو العقل النظري، والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول: إن الأفعال يجب أن تؤدي إلى الكمال المطلوب، وهذا يقتضي أن يكون لهذه الأفعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي) وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدَّد طبقاً للكمال الذي في المعلوم، وهذا يعني أن في الأفعال الإرادية، في حد نفسها، كمال ونقص، وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي على طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عمّا هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الأشعري: إن واقع الفعل تابع لنمط التشريع، ولا هوية له في نفسه. أو لك أن تقول ما قدَّمناه؛ من أن حقيقة المدح: الإخبار عن الكمال. والذم: الإخبار عن النقص، فللأفعال الإرادية في نفسها مدح وذم؛ أي حسن وقبح.

٧٤

2 - تجسُّم الإعمال:

وهي قاعدة مهمة نقَّحها بوضوح فائق فلاسفة الإمامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك؛ ومؤداها: أن تكرار الفعل يولِّد ملكات إما حسنة نورانية أو ملكات رديئة، وكلّما ازدادت، ترسَّخت في النفس أكثر حتّى تصبح جوهرية. من هنا قالوا: إن الإنسان ليس هو النوع الأخير، بل يتلبَّس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل إما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا - وفي كل نوع - هناك شعب أخرى. بيان ذلك:

إن الإنسان في سعيه نحو الكمال إنما يبتغي أن يحصل على ما له ثبات، والكمال العرضي يكون في معرض الزوال، فيعود حاله إلى ما كان عليه قبل تحصيله. فهو يسعى لأن يحصل على كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا أن يكون معرَّضاً للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الأفعال المؤدية للكمال؛ حيث يُحدث الفعل - عند تكراره والمواظبة عليه - حالات في النفس تنتقل إلى هيئات، ثُم تتنقل إلى ملكات، فتشتد حتّى تصل وتصبح فصولاً جوهرية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملَّكها الإنسان وغيره، فمثلاً في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلَّت الروايات على أن الأجسام الأخروية هيئتها تابعة للفصول الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

أمّا تطبيق القاعدة على ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين أنها توجب تجسُّم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسَّم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك أن الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً، بل أمراً عقلياً له من مناشئ تكوينية.

٧٥

3 - قاعدة الغاية:

وهذه قاعدة تُبحث في أبحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته؛ بمعنى أن تصور النتيجة المترتبة على الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدِّمة على الفعل والثانية متأخرة عن وجود الفعل. وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدّة ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) فهناك تقدير مقدّم على الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي، وهو الغاية التي من اجلها خُلقت. وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وإن اقتربا من بعضهما. وإنكار العلة الغائية يساوق إنكار العلة الفاعلية.

أما تطبيق ذلك على الحسن والقبح، فبيانه: أن الفاعل الإرادي لا يفعل فعلاً إلاّ لأجل غاية، وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل، وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل، فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو: كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس، وتكون موجِبة للقرب الإلهي. أما في موارد القبح، فإن الكمال الذي تحققه بالأفعال هي كمالات للقوى الشهوانية والغضبية، فدعوى الأشعري: أن لا حسن ولا قبح واقعي في الأفعال، يساوق إنكار العلة الغائية، وإنكار العلة الغائية يؤدي إلى إنكار العلة الفاعلية.

فتلخَّص من مجمل البحث أن الحسن والقبح العقليين أمران تكوينيان واقعيان بالأدلة المثبِتة، سواء على مبنى المتقدِّمين كابن سينا أو على مبنى صدر المتألهين.

٧٦

التنبيه الثاني:

الخطأ في الفكر البشري

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري، وقد أثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة وأجابوا بإجابات متعدِّدة:

منها: أن علوم المنطق تتكفَّل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقى على عاتق الإنسان مراعاته عند

التطبيق، فالخطأ الناشئ هو من سوء التطبيق.

ومنها: أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة؛ حيث أن بعضها نظري، وكلَّما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: أن الخطأ هو نتيجة عدم توازن في أفعال النفس؛ فقد ذكرنا سابقاً أن الإذعان والجزم الحاصل لدى النفس هو غير النتيجة، وأن وظيفة العقل النظري هو الإدراك، فالخلل يحصل عندما يحصل جزم وإذعان غير متناسب مع درجة الإدراك الحاصلة لدى العقل النظري.

وقد سعى الفلاسفة والمفكرون لإزالة هذا الخطأ، أو على الأقل تقليل نسبة الخطأ، ومن تلك المحاولات ما دعى إليه السيد الشهيد الصدر(رحمه الله) باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلاً من القياس الأرسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية، حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتّى تصل إلى نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بإلغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

٧٧

معاملة اليقين الصحيح التام، وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا على هذه النظرية تعليق لا يتَّصل بجوهرها، فهي متينة وتامة، لكن:

1 - إن ما توصل إليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاؤله، ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية،خطأ؛ إذ إن النتيجة ليست برهانية، بل العمل بهذه النتيجة برهاني؛ بمعنى أنه أقام البرهان على تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الأصول عبر دليل الانسداد على وجوب العمل بالظن. وبعبارة أخرى: النتيجة ليست يقينية وإن كان العمل بها لابدَّ منه بالدليل اليقيني.

2 - لقد ذكر السيد أن بإمكان استخدام هذه النظرية لإثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة، وهذا غير تام؛ لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج إليـها في إثبـات الغيـب، إذ لدينـا كثير من البراهين - كبرهان

الصديقين - التي تورث اليقين.

3 - إن احتمال الخلاف يظل قائماً، وجزم النفس على خلافه - وهو قليل جدَّاً - لا ينفيه من أساسه، ولا يتحول إلى يقين.

٧٨

التنبيه الثالث:

الثابت والمتغيِّر

من المسائل المهمة التي تبتني على مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيُّره، فبناء على اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء، فإن الحسن والقبح يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع، بل هو متغيِّر. أمّا بناء على أنهما أمران واقعيَّان، فالنتيجة خلافها.

ـ وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخرى، وهي: أن ختم النبوة يعني أنْ لا حاجة إلى النبوة حتّى يوم

القيامة؛ وذلك لأنَّ العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة، ولا تحتاج إلى رعاية نبي ولا وصي، ولا هدايتهما.

ـ وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلاّمة الطباطبائي، وخلاصته: أن الإرادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغيُّر هذا الاعتبار تتغيَّر وجهة سير هذا الإنسان.

أمّا جواب هذه الصياغات:

فأوَّلاً: بما مرَّ من البراهين التي أثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: أن دعوى تكامل العقول تعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدى البشرية؛ لاطلاعهم على الحقائق وإصابتهم لها، والحال أنَّا نجد من أنفسنا الإذعان بعدم توقُّف هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدى الفطرة

٧٩

البشرية، وهذا يدل على أمرين:

الأول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعى البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلى الإحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وإن كانت الإصابة النسبية مستمرة، وهذا وإن لم يزلزل الحقائق المتوصَّل إليها، إلاّ أنها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الأمران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلى التشريع السماوي والنبوة المحمدية؛ لأن ربَّ الواقعية هو المحيط تماماً بها. كما يثبت بذلك عدم إحاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: أمّا جواب ما يُدَّعى من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار، وهو الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي، فهو يستدعي أن نُلقي نظرة على ما سطَّره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تُعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار:

وملخَّص ما ذكره العلاّمة:

أ - إن الاعتبار يمثِّل جانباً من نشاطات العقل العملي ومدرَكاته، وشأناً من شؤونه.

ب - إن كل موجود يسعى نحو كماله؛ فالفاعل غير الإرادي يوجد له صراط معيَّن يسير فيه. أمَّا الموجود الإرادي، فإنه يسعى نحو كماله من خلال إرادته.

ج - إن الفاعل الإرادي في تحريك إرادته يسعى نحو تحقيق ما هو غير موجود. أمَّا ما هو موجود، فلا يسعى لتحصيله كما هو واضح.

د - إن الإرادة تنطلق من قضايا غير حقيقية؛ أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولِّد الإرادة، ومن دونها لا يمكن للإرادة أن تنطلق.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مضافا إلى ثناء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم ، بحيث يشعرون بأنّهم إن فقدوا شيئا بحسب الظاهر ، فإنّهم قد حصلوا ـ قطعا ـ على ما هو أفضل منه.

اللطيف في الأمر ، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم ، إلّا أنّ هذا الحكم الذي شرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإسلامية يعكس عمق الجانب الإنساني في هذه الأحكام.

وفي نهاية الآية نقرأ :( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.

* * *

ملاحظات

١ ـ يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية ، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه ، لأنّهم ـ وكشكر منهم لقبول توبتهم ـ أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصرفها في سبيل الله ، إلّا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكتفى بأخذ قسم منها فقط.

إلّا أنّ سبب النزول هذا لا ينافي ـ مطلقا ـ أن هذه الآية بيّنت حكما كليا عاما في الزكاة ، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي ، كما قلنا ذلك مكررا في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب رواية ـ قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه ، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد ، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحيانا ، وأحيانا جزء من عشرين جزءا ، وفي الذهب والفضة (٥ ، ٢ خ) ، وفي الأنعام (البقر والغنم والإبل) لا

٢٠١

يصل إلى الثلث مطلقا.

لكن يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ قسما من أموالهم بعنوان الزكاة ، والمقدار الإضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم ، وعلى هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم ، ومقدارا آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.

٢ ـ إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس ، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة ، وإلّا فلا.

٣ ـ إنّ جملة( صَلِّ عَلَيْهِمْ ) وإن كانت خطابا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي ـ لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإسلامية تجري على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباقي المسلمين على السواء ، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ ـ وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة : «اللهم صلّ عليهم».

وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي أنّ شخصا لو قال : (اللهمّ صلّ على عليّ أمير المؤمنين) أو : (صلّ على فاطمة الزّهراء) فإنّهم اعتبروا ذلك ممنوعا وحراما! في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إلى دليل ، لا جوازه!

إضافة إلى أنّ القرآن الكريم ـ كما قلنا سابقا ـ قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين ، فكيف بأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه؟! لكن ، ماذا يمكن عمله؟ فإنّ التعصبات قد تقف أحيانا مانعة حتى من فهم آيات القرآن.

ولمّا كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول توبتهم ، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل بالله الغفور الرحيم ، لذا قالت :( أَلَمْ يَعْلَمُوا

٢٠٢

أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) . ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إنّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأخرى التي يعطيها العباد تقربا إليه ، أو تكفيرا لذنوبهم :( وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) .

لا شكّ في أنّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام المعصومعليه‌السلام أو خليفة المسلمين وقائدهم ، أو الأفراد المستحقون ، وفي كلّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهرا ، ولكن لمّا كانت يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه ـ لأنّهم خلفاء الله ووكلاؤه ـ قالت الآية : إنّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون ، فإنّهم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات ، وهم في الحقيقة وكلاء الله ، وعلى هذا فإنّ يدهم يد الله أيضا.

إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كلّ المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة ، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إليه ، لأنّ من يأخذها هو اللهعزوجل ، وإنّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال ، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين ، أو إعطائه الزكاة بشكل يؤدي إلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة ، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلّ أدب وخضوع ، كما يوصل العبد شيئا إلى مولاه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل»(١) !

وفي حديث آخر عن الإمام السّجادعليه‌السلام : «إنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب»(٢) .

بل إنّ رواية صرّحت بأنّ كلّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلّا الصدقة ، فإنّها

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

(٢) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.

٢٠٣

تصل مباشرة إلى يد الله سبحانه(١) .

هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بعبارات مختلفة ، ونقل أيضا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق العامّة ، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري : «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلّا الطيب ـ إلّا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت تمرة ، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»(٢) .

إنّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات ، والعظيم المعنى ، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإسلامية.

لقد وردت عبارات حديثية أخرى في هذا المجال ، وهي مهمّة وملفتة للنظر إلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم ، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.

فمثلا نجد في بعض الأحاديث ، أن الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام كانوا أحيانا يقبلون الصّدقة احتراما وتعظيما للصدقة ، ثمّ يعطونها الفقراء ، أو إنّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إليه ، لماذا؟ لأنّهم وضعوها في يد الله سبحانه!

وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير ، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة ، بل ويرمون مساعدتهم أحيانا بلا أدب وخلق؟!

وكما قلنا في محلّة ، فإنّ الإسلام يسعى بكلّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإسلامي ، إلّا أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلّ مجتمع أفرادا عاجزين أطفال ،

__________________

(١) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.

(٢) تفسير المنار ، ج ١١ ، ص ٣٣. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا.

راجع : بحار الأنوار ، ج ٩٦ ، ص ١٣٤ ، الطبعة الجديدة.

٢٠٤

يتامى ، مرضى وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل ، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء ، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.

ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد :( وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

التّوبة والجبران :

يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب ، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه ، كما هو في هذه الآيات ، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.

ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنبا ماليا ، أو أي ذنب آخر ، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية ، وذلك بالعمل الصالح ، وهذا هو الذي يرجع الروح إلى طهارتها الأولى التي كانت عليها قبل الذنب.

وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مرّت بصورة جديدة ، وتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ الناس :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهي تشير إلى أن لا يتصور أحد أنّه إذا عمل عملا ، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه ، بل إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين يعلمون به إضافة إلى علم اللهعزوجل .

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات ، فإنّ الإنسان ـ عادة ـ إذا أحسّ بأنّ أحدا ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته ، فإنّه يحاول أن يتصرّف تصرفا لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه ، فكيف إذا أحسّ وآمن بأنّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!

٢٠٥

إنّ هذا الاطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر ، لذا فإنّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول :( وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ مسألة عرض الأعمال

إنّ بين أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، عقيدة معروفة ومشهورة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يطلعون على أعمال كل الأمّة ، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.

إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، وربّما بلغت حدّ التواتر ، وننقل هنا أقساما منها كنماذج : روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح ، أبرارها وفجارها ، فاحذروها ، وهو قول اللهعزوجل :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) وسكت(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس ، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(٢) .

وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّ شخصا قال له : ادع الله لي ولأهل بيتي ، فقال : «أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليّ في كل يوم وليلة». يقول الراوي ، فاستعظمت ذلك ، فقال لي ، «أمّا تقرأ كتاب اللهعزوجل :( وَقُلِ

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧١ ، باب عرض الأعمال.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٦

اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، هو والله علي بن أبي طالب»(١) .

إنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، وفي بعضها عليعليه‌السلام ، وفي بعضها الآخر ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس ، وبعضها جعله كل يوم ، وبعضها في الأسبوع مرّتين ، وبعضها في أوّل كل شهر ، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.

ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات ، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة ، تماما كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية ، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم ، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع ، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أنّ الأمر كما قاله مفسّر والعامّة ، وهو أنّ الآية تشير إلى أمر طبيعي ، وهو أنّ الإنسان إذا عمل أي عمل ، فإنّه سيظهر ، شاء أم أبي، ومضافا إلى علم الله سبحانه ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟

وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال : الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية ، وذلك :

أوّلا : إنّ الآية مطلقة ، وهي تشمل جميع الأعمال ، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية ، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر ، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالبا ، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضا تعمل في السرّ ، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال ، الصالحة منها والطالحة ، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة. وعلى هذا فإنّ علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧١ ، باب عرض الأعمال.

٢٠٧

عن طريق غير طبيعي ، بل عن طريق التعليم الإلهي.

ثانيا : إنّ آخر الآية يقول :( فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر ـ العلنية منها والمخفية ـ وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد ، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضا كل الأعمال ـ الظاهرة منها والباطنة ـ ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.

وبتعبير آخر ، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال ، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال ، فهنا مرحلتان : إحداهما : مرحلة الاطلاع والعلم ، والأخرى : مرحلة الجزاء ، والموضوع واحد في المرحلتين.

ثالثا : إنّ ضميمة المؤمنين في الآية إلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية ، وإلّا فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء ، ومن هنا تتّضح مسألة أخرى بصورة ضمنية ، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية ـ كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضا ـ ليس جميع المؤمنين ، بل فئة خاصّة منهم ، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى ، ونعني بهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحقيقيين.

والمسألة الأخرى التي يجب الانتباه لها هنا ، وهي ـ كما أشرنا سابقا ـ أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها ، فإنّي إذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نبييصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّتيعليهم‌السلام يطلعون على كل أعمالي ، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم ، أو في كل أسبوع ، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال ، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن ، تماما كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريرا يوميا أو أسبوعيا ، تسجل فيه جزئيات أعمالهم ، يرفع إلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.

٢٠٨

٢ ـ هل الرّؤية هنا تعني النظر؟

المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى :( فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ) تعني المعرفة ، لا العلم ، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.

لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي ، وهو مشاهدة المحسوسات ، لا بمعنى العلم ، ولا بمعنى المعرفة ، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان ، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.

وأمّا بالنسبة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، فلا مانع من ذلك أيضا ، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها ، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإنسان لا تفنى ، بل تبقى إلى يوم القيامة.

٣ ـ لا شك أنّ اللهعزوجل يعلم بالأعمال قبل وقوعها ، والذي في جملة :( فَسَيَرَى اللهُ ) إشارة إلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.

* * *

٢٠٩

الآية

( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) )

سبب النّزول

قال جماعة من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، وهم : «هلال بن أمية» و «مرارة بن ربيع» و «كعب بن مالك» ، وسيأتي بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية (١١٨) من هذه السورة ، إن شاء الله تعالى.

ويستفاده من بعض الرّوايات الأخرى أنّ هذه الآية نزلت في بعض الكفار الذين قتلوا الشخصيات الإسلامية الكبرى ـ كحمزة سيد الشهداء ـ في ساحات الحروب ، ثمّ اهتدوا ودخلوا في دين الإسلام.

التّفسير

في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيدا عاقبة أمرهم ، فلا هم مستحقون حتما للرحمة الإلهية ، ولا من المغضوب عليهم حتما ، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم :( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ

٢١٠

إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) .

«مرجون» مأخوذ من مادة (إرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف ، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل ، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئا ما أحيانا رجاء تحقق هدف من هذا التأخير ، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير ، إلّا أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل.

إنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة ، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يكتبون من الأشقياء ، بل يوكل أمرهم إلى اللطف الإلهي كيف سيعامل هؤلاء ، وهذا طبعا حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.

وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ، بل يقتضي بعلمه وحكمته :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

سؤال :

وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية ، وهو ما الفرق بين هذه الفئة، والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية (١٠٢) من هذه السورة؟ فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين ، وكلا المجموعتين تابوا ، لأنّ المجموعة الأولى اعترفوا بذنوبهم ، وأظهروا الندم عليها ، والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى :( وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) . وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين :

١ ـ إنّ الطائفة الأولى تابوا بسرعة ، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة ، فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد ، وبعبارة موجزة : إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم

٢١١

صريحا ، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت.

أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية ، ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم ، ولم يظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم ، فهم في الواقع كانوا يطمحون إلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر.

إنّ هؤلاء ـ ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أشير إليهم ، وسيأتي بيان وضعهم ـ بقوا في حالة الخوف والرجاء ، ولهذا نرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم ، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل ، ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية ، فقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في انتظار الوحي ، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوما أو أقل.

ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأولى قد ختمت بقوله :( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهو دليل على قبول توبتهم ، أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التي لا تدل من قريب أو بعيد على قبول توبتهم.

ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافيا لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة، خاصّة في عصر نزول الآيات ، بل يشترط مع ذلك الإقدام على الاعتراف الصريح بالذنب، والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته ، وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة.

٢ ـ الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين ، هو أنّ الطائفة الأولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير ، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إلى الأعداء ، إلّا أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء ، ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم. غير أن قتل حمزة وأمثاله

٢١٢

لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه ، ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله وإرادته ، إمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم.

وعلى أي حال ، فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول ، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك ، أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما(١) .

ولو دققنا النظر حقا لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين ، ويمكن أن يكون كل منهما مقصودا في تفسير الآية.

* * *

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٦٥ ، وتفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٦.

٢١٣

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) )

سبب النّزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أخرى من المنافقين الذين أقدموا ـ من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة ـ على بناء مسجد في المدينة ، عرف فيما بعد ب (مسجد الضرار).

٢١٤

وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسّرين الإسلاميين ، وكثير من كتب التاريخ والحديث ، مع وجود اختلافات في جزئياته.

وخلاصة القضية ـ كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة ـ أنّ جماعة من المنافقين أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني سليم ـ قرب مسجد قبا ـ حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ ، وكذلك ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيّام الممطرة ، ويؤدوا فرائضهم الإسلامية ، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عازما على التوجه إلى تبوك.

فأذن لهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهم لم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا منه أن يصلي فيه، فأخبرهم بأنّه عازم على السفر الآن ، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم ويصلي فيه.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم والصلاة فيه ، وأن يدعوا الله لهم بالبركة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل بعد أبواب المدينة ، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات ، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء ، فأمر النّبي بحرق المسجد المذكور ، وبهدم بقاياه ، وأن يجعل مكانه محلا لرمي القاذورات والأوساخ.

إذا نظرنا إلى الوجه الظاهري لهذا العمل ، فسوف نتحير في البداية ، فهل أن بناء مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة ، والذي هو في حقيقته عمل ديني وخدمة إنسانية ، يعدّ عملا مضرا وسيئا حتى يصدر في حقّه هذا الحكم؟ إلّا أنّنا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أنّ هذا الأمر بهدمه في منتهى الدقة.

وتوضيح ذلك ، أنّ رجلا في زمن الجاهلية يقال له : أبو عامر ، كان قد اعتنق النصرانية ، وسلك مسلك الرهبانية ، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في

٢١٥

طائفة الخزرج.

وعند ما هاجر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر ، رأى أبو عامر ـ الذي كان يوما من المبشرين بظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ الناس قد انفضوا من حوله ، وبقي وحيدا ، وعند ذلك قرر محاربة الإسلام ، فهرب من المدينة إلى كفار مكّة ، واستمد منهم القوّة لمحاربة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءا من مخططات معركة أحد ، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحدها فجرحت جبهته وكسرت رباعيته.

فلمّا انتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب ، دوى صوت الإسلام أكثر من ذي قبل ، وعمّ كل الأرجاء ، فهرب أبو عامر من المدينة وذهب إلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليرجع إلى المسلمين ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.

ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى صدر منه من التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيّهم سمّاه (فاسقا).

يقول البعض : إنّ الموت لم يمهله حتى يطلع هرقل على نواياه ومشاريعه ، إلّا أنّ البعض الآخر يقول : إنّه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!

على كل حال ، فإنّه قبل أن يموت أرسل رسالة إلى منافقي المدينة يبشرهم فيها بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم ، وأكّد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزا ومقرّا في المدينة ليكون منطلقا لنشاطات المستقبل.

ولما كان بناء مثل هذا المقر ، وباسم أعداء الإسلام غير ممكن عمليا ، رأى المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد ، وبعنوان مساعدة المرضى والعاجزين.

وأخيرا تمّ بناء المسجد ، ويقال أنّهم اختاروا شابا عارفا بالقرآن من بين

٢١٦

المسلمين يقال له : «مجمع بن حارثة» أو «مجمع بن جارية» وأوكلوا له إمامة المسجد.

إلّا أنّ الوحي الإلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء ، وربّما لم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء قبل ذهابه إلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدّة ، من أجل أن يتّضح أمرهم أكثر من جهة ، ولئلا ينشغل فكريا وهو في مسيرة إلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو أصدر الأمر.

وكيف كان ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب ، بل إنّه ـ كما قلنا ـ أمر بعض المسلمين ـ وهم مالك بن دخشم ، ومعنى بن عدي ، وعامر بن سكر أو عاصم بن عدي ـ أن يحرقوا المسجد ويهدموه ، فنفذ هؤلاء ما أمروا به ، فعمدوا إلى سقف المسجد فحرّقوه ، ثمّ هدموا الجدران ، وأخيرا حولوه إلى محل لجمع الفضلات والقاذورات(١) .

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد!

أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين ، وتعرّف الآيات التي نبحثها مجموعة أخرى منهم ، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية ، إلّا أن اللطف الإلهي أدرك المسلمين ، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.

فالآية الأولى تقول :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ) (٢) وأخفوا أهدافهم الشريرة

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح الرازي ، وتفسير المنار ، وتفسير الميزان ، وتفسير نور الثقلين ، وكتب أخرى.

(٢) بالرغم من أنّ المفسّرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين ، وتقديرها هكذا : «ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ...».

٢١٧

تحت هذا الإسلام المقدس ، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف :

١ ـ إنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين ، فكان مسجدهم (ضرارا).

«الضرار» تعني الإضرار العمدي ، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل ، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إلى المكيدة بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته ، وسحق المسلمين ، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.

٢ ـ تقوية أسس الكفر ، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام : (وكفرا).

٣ ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين ، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريبا منه ، أو مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يبعد عنه ،( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ويظهر من هذه الجملة ـ وكذلك فهم بعض المفسّرين ـ أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر ، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي ، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية ، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإسلامية.

٤ ـ والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق ، السيئة ، والانطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم :( وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

إلّا أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة

٢١٨

والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع ، وأنّهم لا يريدون إلّا الخير:( وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور ، فإنّهم إضافة إلى تلبسهم بلباس حسن ، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام ، وانحراف الأفكار.

إلّا أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر ، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن ، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء :( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء ، فهي جملة اسمية أوّلا ، ثمّ إنّ كلمة (إن) للتأكيد ، وأيضا اللام في (لكاذبون) ، والتي تسمى لام الابتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء ، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيدا شديدا على مسألة حياتية مهمّة ، ويأمر نبيّه بصراحة أن( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ) بل( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

إنّ كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل ، إلّا أنّها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين شيئين في التناسي والملاءمة ، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه ، والملاءمة وعدمها ، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيرا في آيات القرآن الكريم والأحاديث ، بل وفي محادثاتنا اليومية ، وله نماذج عديدة.

فمثلا نقول للشخص المجرم والسارق : إنّ الاستقامة والعمل الصالح الصحيح خير لك ، فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ السرقة والتلوث بالجريمة شيء حسن ، وأن الاستقامة والطهارة أحسن ، بل معناه أن الاستقامة وحسن السيرة شيء حسن ،

٢١٩

وأنّ السرقة عمل سيء وغير مناسب.

وقال المفسّرون : إنّ المسجد الذي أشارت الآية إلى أنّه يستحق أن يصلي فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو «مسجد قبا» حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.

واحتمل أيضا أن يكون المقصود منه مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو كل المساجد التي بنيت على أساس التقوى ، إلّا أنّنا لا حظنا تعبير( أَوَّلِ يَوْمٍ ) وأن مسجد قبا هو أوّل مسجد بني في المدينة(١) ، علمنا أنّ الاحتمال الأوّل هو الأنسب والأرجح ، ولو أنّ هذه الكلمة تناسب أيضا مساجد أخرى كمسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإضافة إلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى ، فإنّ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .

ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية ، أم المعنوية؟

هناك بحث بين المفسّرين في الرّواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأهل قبا : «ماذا تفعلون في طهركم ، فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟» قالوا : نغسل أثر الغائط.

وقد نقلت روايات أخرى بهذا المضمون عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، لكن ـ كما قلنا سابقا وأشرنا مرارا ـ مثل هذه الرّوايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية في هذا المصداق ، بل ـ وكما يشير ظاهر إطلاق الآية ـ أنّ للطهارة هنا معنى واسعا يشمل كل أنواع التطهير ، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب ، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثّالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين : المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى ، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلا :( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٠٧.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608