الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261200 / تحميل: 6486
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مضافا إلى ثناء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم ، بحيث يشعرون بأنّهم إن فقدوا شيئا بحسب الظاهر ، فإنّهم قد حصلوا ـ قطعا ـ على ما هو أفضل منه.

اللطيف في الأمر ، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم ، إلّا أنّ هذا الحكم الذي شرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإسلامية يعكس عمق الجانب الإنساني في هذه الأحكام.

وفي نهاية الآية نقرأ :( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.

* * *

ملاحظات

١ ـ يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية ، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه ، لأنّهم ـ وكشكر منهم لقبول توبتهم ـ أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصرفها في سبيل الله ، إلّا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكتفى بأخذ قسم منها فقط.

إلّا أنّ سبب النزول هذا لا ينافي ـ مطلقا ـ أن هذه الآية بيّنت حكما كليا عاما في الزكاة ، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي ، كما قلنا ذلك مكررا في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب رواية ـ قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه ، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد ، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحيانا ، وأحيانا جزء من عشرين جزءا ، وفي الذهب والفضة (٥ ، ٢ خ) ، وفي الأنعام (البقر والغنم والإبل) لا

٢٠١

يصل إلى الثلث مطلقا.

لكن يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ قسما من أموالهم بعنوان الزكاة ، والمقدار الإضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم ، وعلى هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم ، ومقدارا آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.

٢ ـ إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس ، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة ، وإلّا فلا.

٣ ـ إنّ جملة( صَلِّ عَلَيْهِمْ ) وإن كانت خطابا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي ـ لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإسلامية تجري على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباقي المسلمين على السواء ، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ ـ وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة : «اللهم صلّ عليهم».

وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي أنّ شخصا لو قال : (اللهمّ صلّ على عليّ أمير المؤمنين) أو : (صلّ على فاطمة الزّهراء) فإنّهم اعتبروا ذلك ممنوعا وحراما! في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إلى دليل ، لا جوازه!

إضافة إلى أنّ القرآن الكريم ـ كما قلنا سابقا ـ قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين ، فكيف بأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه؟! لكن ، ماذا يمكن عمله؟ فإنّ التعصبات قد تقف أحيانا مانعة حتى من فهم آيات القرآن.

ولمّا كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول توبتهم ، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل بالله الغفور الرحيم ، لذا قالت :( أَلَمْ يَعْلَمُوا

٢٠٢

أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) . ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إنّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأخرى التي يعطيها العباد تقربا إليه ، أو تكفيرا لذنوبهم :( وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) .

لا شكّ في أنّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام المعصومعليه‌السلام أو خليفة المسلمين وقائدهم ، أو الأفراد المستحقون ، وفي كلّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهرا ، ولكن لمّا كانت يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه ـ لأنّهم خلفاء الله ووكلاؤه ـ قالت الآية : إنّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون ، فإنّهم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات ، وهم في الحقيقة وكلاء الله ، وعلى هذا فإنّ يدهم يد الله أيضا.

إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كلّ المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة ، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إليه ، لأنّ من يأخذها هو اللهعزوجل ، وإنّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال ، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين ، أو إعطائه الزكاة بشكل يؤدي إلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة ، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلّ أدب وخضوع ، كما يوصل العبد شيئا إلى مولاه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل»(١) !

وفي حديث آخر عن الإمام السّجادعليه‌السلام : «إنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب»(٢) .

بل إنّ رواية صرّحت بأنّ كلّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلّا الصدقة ، فإنّها

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

(٢) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.

٢٠٣

تصل مباشرة إلى يد الله سبحانه(١) .

هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بعبارات مختلفة ، ونقل أيضا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق العامّة ، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري : «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلّا الطيب ـ إلّا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت تمرة ، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»(٢) .

إنّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات ، والعظيم المعنى ، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإسلامية.

لقد وردت عبارات حديثية أخرى في هذا المجال ، وهي مهمّة وملفتة للنظر إلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم ، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.

فمثلا نجد في بعض الأحاديث ، أن الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام كانوا أحيانا يقبلون الصّدقة احتراما وتعظيما للصدقة ، ثمّ يعطونها الفقراء ، أو إنّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إليه ، لماذا؟ لأنّهم وضعوها في يد الله سبحانه!

وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير ، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة ، بل ويرمون مساعدتهم أحيانا بلا أدب وخلق؟!

وكما قلنا في محلّة ، فإنّ الإسلام يسعى بكلّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإسلامي ، إلّا أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلّ مجتمع أفرادا عاجزين أطفال ،

__________________

(١) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.

(٢) تفسير المنار ، ج ١١ ، ص ٣٣. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا.

راجع : بحار الأنوار ، ج ٩٦ ، ص ١٣٤ ، الطبعة الجديدة.

٢٠٤

يتامى ، مرضى وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل ، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء ، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.

ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد :( وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

التّوبة والجبران :

يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب ، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه ، كما هو في هذه الآيات ، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.

ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنبا ماليا ، أو أي ذنب آخر ، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية ، وذلك بالعمل الصالح ، وهذا هو الذي يرجع الروح إلى طهارتها الأولى التي كانت عليها قبل الذنب.

وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مرّت بصورة جديدة ، وتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ الناس :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهي تشير إلى أن لا يتصور أحد أنّه إذا عمل عملا ، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه ، بل إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين يعلمون به إضافة إلى علم اللهعزوجل .

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات ، فإنّ الإنسان ـ عادة ـ إذا أحسّ بأنّ أحدا ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته ، فإنّه يحاول أن يتصرّف تصرفا لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه ، فكيف إذا أحسّ وآمن بأنّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!

٢٠٥

إنّ هذا الاطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر ، لذا فإنّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول :( وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ مسألة عرض الأعمال

إنّ بين أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، عقيدة معروفة ومشهورة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يطلعون على أعمال كل الأمّة ، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.

إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، وربّما بلغت حدّ التواتر ، وننقل هنا أقساما منها كنماذج : روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح ، أبرارها وفجارها ، فاحذروها ، وهو قول اللهعزوجل :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) وسكت(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس ، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(٢) .

وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّ شخصا قال له : ادع الله لي ولأهل بيتي ، فقال : «أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليّ في كل يوم وليلة». يقول الراوي ، فاستعظمت ذلك ، فقال لي ، «أمّا تقرأ كتاب اللهعزوجل :( وَقُلِ

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧١ ، باب عرض الأعمال.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٦

اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، هو والله علي بن أبي طالب»(١) .

إنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، وفي بعضها عليعليه‌السلام ، وفي بعضها الآخر ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس ، وبعضها جعله كل يوم ، وبعضها في الأسبوع مرّتين ، وبعضها في أوّل كل شهر ، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.

ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات ، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة ، تماما كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية ، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم ، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع ، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أنّ الأمر كما قاله مفسّر والعامّة ، وهو أنّ الآية تشير إلى أمر طبيعي ، وهو أنّ الإنسان إذا عمل أي عمل ، فإنّه سيظهر ، شاء أم أبي، ومضافا إلى علم الله سبحانه ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟

وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال : الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية ، وذلك :

أوّلا : إنّ الآية مطلقة ، وهي تشمل جميع الأعمال ، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية ، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر ، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالبا ، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضا تعمل في السرّ ، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال ، الصالحة منها والطالحة ، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة. وعلى هذا فإنّ علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧١ ، باب عرض الأعمال.

٢٠٧

عن طريق غير طبيعي ، بل عن طريق التعليم الإلهي.

ثانيا : إنّ آخر الآية يقول :( فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر ـ العلنية منها والمخفية ـ وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد ، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضا كل الأعمال ـ الظاهرة منها والباطنة ـ ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.

وبتعبير آخر ، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال ، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال ، فهنا مرحلتان : إحداهما : مرحلة الاطلاع والعلم ، والأخرى : مرحلة الجزاء ، والموضوع واحد في المرحلتين.

ثالثا : إنّ ضميمة المؤمنين في الآية إلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية ، وإلّا فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء ، ومن هنا تتّضح مسألة أخرى بصورة ضمنية ، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية ـ كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضا ـ ليس جميع المؤمنين ، بل فئة خاصّة منهم ، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى ، ونعني بهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحقيقيين.

والمسألة الأخرى التي يجب الانتباه لها هنا ، وهي ـ كما أشرنا سابقا ـ أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها ، فإنّي إذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نبييصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّتيعليهم‌السلام يطلعون على كل أعمالي ، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم ، أو في كل أسبوع ، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال ، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن ، تماما كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريرا يوميا أو أسبوعيا ، تسجل فيه جزئيات أعمالهم ، يرفع إلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.

٢٠٨

٢ ـ هل الرّؤية هنا تعني النظر؟

المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى :( فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ) تعني المعرفة ، لا العلم ، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.

لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي ، وهو مشاهدة المحسوسات ، لا بمعنى العلم ، ولا بمعنى المعرفة ، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان ، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.

وأمّا بالنسبة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، فلا مانع من ذلك أيضا ، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها ، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإنسان لا تفنى ، بل تبقى إلى يوم القيامة.

٣ ـ لا شك أنّ اللهعزوجل يعلم بالأعمال قبل وقوعها ، والذي في جملة :( فَسَيَرَى اللهُ ) إشارة إلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.

* * *

٢٠٩

الآية

( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) )

سبب النّزول

قال جماعة من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، وهم : «هلال بن أمية» و «مرارة بن ربيع» و «كعب بن مالك» ، وسيأتي بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية (١١٨) من هذه السورة ، إن شاء الله تعالى.

ويستفاده من بعض الرّوايات الأخرى أنّ هذه الآية نزلت في بعض الكفار الذين قتلوا الشخصيات الإسلامية الكبرى ـ كحمزة سيد الشهداء ـ في ساحات الحروب ، ثمّ اهتدوا ودخلوا في دين الإسلام.

التّفسير

في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيدا عاقبة أمرهم ، فلا هم مستحقون حتما للرحمة الإلهية ، ولا من المغضوب عليهم حتما ، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم :( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ

٢١٠

إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) .

«مرجون» مأخوذ من مادة (إرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف ، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل ، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئا ما أحيانا رجاء تحقق هدف من هذا التأخير ، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير ، إلّا أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل.

إنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة ، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يكتبون من الأشقياء ، بل يوكل أمرهم إلى اللطف الإلهي كيف سيعامل هؤلاء ، وهذا طبعا حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.

وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ، بل يقتضي بعلمه وحكمته :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

سؤال :

وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية ، وهو ما الفرق بين هذه الفئة، والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية (١٠٢) من هذه السورة؟ فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين ، وكلا المجموعتين تابوا ، لأنّ المجموعة الأولى اعترفوا بذنوبهم ، وأظهروا الندم عليها ، والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى :( وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) . وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين :

١ ـ إنّ الطائفة الأولى تابوا بسرعة ، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة ، فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد ، وبعبارة موجزة : إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم

٢١١

صريحا ، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت.

أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية ، ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم ، ولم يظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم ، فهم في الواقع كانوا يطمحون إلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر.

إنّ هؤلاء ـ ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أشير إليهم ، وسيأتي بيان وضعهم ـ بقوا في حالة الخوف والرجاء ، ولهذا نرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم ، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل ، ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية ، فقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في انتظار الوحي ، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوما أو أقل.

ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأولى قد ختمت بقوله :( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهو دليل على قبول توبتهم ، أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التي لا تدل من قريب أو بعيد على قبول توبتهم.

ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافيا لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة، خاصّة في عصر نزول الآيات ، بل يشترط مع ذلك الإقدام على الاعتراف الصريح بالذنب، والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته ، وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة.

٢ ـ الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين ، هو أنّ الطائفة الأولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير ، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إلى الأعداء ، إلّا أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء ، ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم. غير أن قتل حمزة وأمثاله

٢١٢

لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه ، ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله وإرادته ، إمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم.

وعلى أي حال ، فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول ، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك ، أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما(١) .

ولو دققنا النظر حقا لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين ، ويمكن أن يكون كل منهما مقصودا في تفسير الآية.

* * *

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٦٥ ، وتفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٦.

٢١٣

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) )

سبب النّزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أخرى من المنافقين الذين أقدموا ـ من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة ـ على بناء مسجد في المدينة ، عرف فيما بعد ب (مسجد الضرار).

٢١٤

وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسّرين الإسلاميين ، وكثير من كتب التاريخ والحديث ، مع وجود اختلافات في جزئياته.

وخلاصة القضية ـ كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة ـ أنّ جماعة من المنافقين أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني سليم ـ قرب مسجد قبا ـ حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ ، وكذلك ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيّام الممطرة ، ويؤدوا فرائضهم الإسلامية ، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عازما على التوجه إلى تبوك.

فأذن لهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهم لم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا منه أن يصلي فيه، فأخبرهم بأنّه عازم على السفر الآن ، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم ويصلي فيه.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم والصلاة فيه ، وأن يدعوا الله لهم بالبركة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل بعد أبواب المدينة ، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات ، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء ، فأمر النّبي بحرق المسجد المذكور ، وبهدم بقاياه ، وأن يجعل مكانه محلا لرمي القاذورات والأوساخ.

إذا نظرنا إلى الوجه الظاهري لهذا العمل ، فسوف نتحير في البداية ، فهل أن بناء مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة ، والذي هو في حقيقته عمل ديني وخدمة إنسانية ، يعدّ عملا مضرا وسيئا حتى يصدر في حقّه هذا الحكم؟ إلّا أنّنا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أنّ هذا الأمر بهدمه في منتهى الدقة.

وتوضيح ذلك ، أنّ رجلا في زمن الجاهلية يقال له : أبو عامر ، كان قد اعتنق النصرانية ، وسلك مسلك الرهبانية ، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في

٢١٥

طائفة الخزرج.

وعند ما هاجر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر ، رأى أبو عامر ـ الذي كان يوما من المبشرين بظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ الناس قد انفضوا من حوله ، وبقي وحيدا ، وعند ذلك قرر محاربة الإسلام ، فهرب من المدينة إلى كفار مكّة ، واستمد منهم القوّة لمحاربة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءا من مخططات معركة أحد ، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحدها فجرحت جبهته وكسرت رباعيته.

فلمّا انتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب ، دوى صوت الإسلام أكثر من ذي قبل ، وعمّ كل الأرجاء ، فهرب أبو عامر من المدينة وذهب إلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليرجع إلى المسلمين ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.

ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى صدر منه من التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيّهم سمّاه (فاسقا).

يقول البعض : إنّ الموت لم يمهله حتى يطلع هرقل على نواياه ومشاريعه ، إلّا أنّ البعض الآخر يقول : إنّه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!

على كل حال ، فإنّه قبل أن يموت أرسل رسالة إلى منافقي المدينة يبشرهم فيها بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم ، وأكّد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزا ومقرّا في المدينة ليكون منطلقا لنشاطات المستقبل.

ولما كان بناء مثل هذا المقر ، وباسم أعداء الإسلام غير ممكن عمليا ، رأى المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد ، وبعنوان مساعدة المرضى والعاجزين.

وأخيرا تمّ بناء المسجد ، ويقال أنّهم اختاروا شابا عارفا بالقرآن من بين

٢١٦

المسلمين يقال له : «مجمع بن حارثة» أو «مجمع بن جارية» وأوكلوا له إمامة المسجد.

إلّا أنّ الوحي الإلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء ، وربّما لم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء قبل ذهابه إلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدّة ، من أجل أن يتّضح أمرهم أكثر من جهة ، ولئلا ينشغل فكريا وهو في مسيرة إلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو أصدر الأمر.

وكيف كان ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب ، بل إنّه ـ كما قلنا ـ أمر بعض المسلمين ـ وهم مالك بن دخشم ، ومعنى بن عدي ، وعامر بن سكر أو عاصم بن عدي ـ أن يحرقوا المسجد ويهدموه ، فنفذ هؤلاء ما أمروا به ، فعمدوا إلى سقف المسجد فحرّقوه ، ثمّ هدموا الجدران ، وأخيرا حولوه إلى محل لجمع الفضلات والقاذورات(١) .

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد!

أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين ، وتعرّف الآيات التي نبحثها مجموعة أخرى منهم ، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية ، إلّا أن اللطف الإلهي أدرك المسلمين ، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.

فالآية الأولى تقول :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ) (٢) وأخفوا أهدافهم الشريرة

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح الرازي ، وتفسير المنار ، وتفسير الميزان ، وتفسير نور الثقلين ، وكتب أخرى.

(٢) بالرغم من أنّ المفسّرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين ، وتقديرها هكذا : «ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ...».

٢١٧

تحت هذا الإسلام المقدس ، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف :

١ ـ إنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين ، فكان مسجدهم (ضرارا).

«الضرار» تعني الإضرار العمدي ، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل ، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إلى المكيدة بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته ، وسحق المسلمين ، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.

٢ ـ تقوية أسس الكفر ، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام : (وكفرا).

٣ ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين ، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريبا منه ، أو مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يبعد عنه ،( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ويظهر من هذه الجملة ـ وكذلك فهم بعض المفسّرين ـ أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر ، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي ، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية ، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإسلامية.

٤ ـ والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق ، السيئة ، والانطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم :( وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

إلّا أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة

٢١٨

والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع ، وأنّهم لا يريدون إلّا الخير:( وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور ، فإنّهم إضافة إلى تلبسهم بلباس حسن ، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام ، وانحراف الأفكار.

إلّا أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر ، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن ، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء :( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء ، فهي جملة اسمية أوّلا ، ثمّ إنّ كلمة (إن) للتأكيد ، وأيضا اللام في (لكاذبون) ، والتي تسمى لام الابتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء ، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيدا شديدا على مسألة حياتية مهمّة ، ويأمر نبيّه بصراحة أن( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ) بل( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

إنّ كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل ، إلّا أنّها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين شيئين في التناسي والملاءمة ، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه ، والملاءمة وعدمها ، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيرا في آيات القرآن الكريم والأحاديث ، بل وفي محادثاتنا اليومية ، وله نماذج عديدة.

فمثلا نقول للشخص المجرم والسارق : إنّ الاستقامة والعمل الصالح الصحيح خير لك ، فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ السرقة والتلوث بالجريمة شيء حسن ، وأن الاستقامة والطهارة أحسن ، بل معناه أن الاستقامة وحسن السيرة شيء حسن ،

٢١٩

وأنّ السرقة عمل سيء وغير مناسب.

وقال المفسّرون : إنّ المسجد الذي أشارت الآية إلى أنّه يستحق أن يصلي فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو «مسجد قبا» حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.

واحتمل أيضا أن يكون المقصود منه مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو كل المساجد التي بنيت على أساس التقوى ، إلّا أنّنا لا حظنا تعبير( أَوَّلِ يَوْمٍ ) وأن مسجد قبا هو أوّل مسجد بني في المدينة(١) ، علمنا أنّ الاحتمال الأوّل هو الأنسب والأرجح ، ولو أنّ هذه الكلمة تناسب أيضا مساجد أخرى كمسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإضافة إلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى ، فإنّ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .

ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية ، أم المعنوية؟

هناك بحث بين المفسّرين في الرّواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأهل قبا : «ماذا تفعلون في طهركم ، فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟» قالوا : نغسل أثر الغائط.

وقد نقلت روايات أخرى بهذا المضمون عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، لكن ـ كما قلنا سابقا وأشرنا مرارا ـ مثل هذه الرّوايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية في هذا المصداق ، بل ـ وكما يشير ظاهر إطلاق الآية ـ أنّ للطهارة هنا معنى واسعا يشمل كل أنواع التطهير ، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب ، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثّالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين : المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى ، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلا :( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٠٧.

٢٢٠

تاريخ بغداد للخطيب :

حدّثنا الحسن بن أحمد بن سليمان السراج ، حدّثنا عبد السلام بن صالح ، حدّثنا علي بن هاشم بن البريد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد التميمي ، عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال : ( دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً ، وقالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق مع علي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة )(1) .

مجمع الزوائد :

( فإنّي سمعت : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : علي مع الحق ، أو : الحق مع علي حيث كان. قال : من سمع ذلك؟ قال : قاله في بيت أم سلمة ، قال : فأرسل إلى أم سلمة فسألها ، فقالت : قد قاله رسول الله في بيتي ، فقال الرجل لسعد : ما كنت عندي قط ألوم منك الآن ، فقال ولم؟ قال : لو سمعت هذا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أزل خادماً لعلي حتّى أموت )(2) .

( وعن أم سلمة أنّها كانت تقول : كان علي على الحق ، من اتّبعه اتّبع الحق ، ومن تركه ترك الحق ، عهد معهود قبل يومه هذا )(3) .

الإمامة والسياسة :

__________________

1 ـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 14 / 321 ، ونحوه في ترجمة الإمام علي بن أبي طالب tat من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 3 / 119 ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 tat / 73 ، وفرائد السمطين للحمويني ج 1 / 177 ، أرجح المطالب لعبيد الله الحنفي ص tat 598 ط لاهور.

2 ـ مجمع الزوائد 7 : 235.

3 ـ مجمع الزوائد 9 : 134.

٢٢١

( فدخل [ محمّد بن أبي بكر ] على أخته عائشة ، قال لها : أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : علي مع الحق والحق مع علي )(1) .

ربيع الأبرار للزمخشري :

( استأذن أبو ثابت مولى علي على أم سلمة رضي الله عنها فقالت : مرحباً بك يا أبا ثابت ، أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها؟ قال : تبع علي بن أبي طالب. قالت : وفقت والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : علي مع الحق والقرآن ، والحق والقرآن مع علي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض )(2) .

تفسير الرازي :

( وأمّا أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله عليه السلام : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار )(3) .

مناقب ابن مردويه :

__________________

1 ـ الإمامة والسياسة : 73.

2 ـ ربيع الأبرار للزمخشري ، وبهذا اللفظ أخرجه الخوارزمي في ( المناقب ) من طريق tat الحافظ ابن مردويه ، والحموي في ( فرائد السمطين ) في الباب السابع والعشرين عن tat طريق الحافظين أبي بكر البيهقي والحاكم أبي عبد الله النيسابوري.

3 ـ تفسير الرازي 1 : 205 ، ومستدرك الحاكم 3 ص 125 ، جامع الترمذي 2 ص 213 ، tat كنز العمال 6 ص 157 ، نزل الأبرار 24 ، مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي 7 ص 35 ، tat وقال : رواه أبو يعلى ، ورجاله ثقات.

٢٢٢

( عن أبي ذر أنّه سئل عن اختلاف الناس فقال : عليك بكتاب الله والشيخ علي بن أبي طالب عليه السلام ، فإنّي سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه ، والحق يدور حيثما دار علي )(1) .

ولا عجب أن يكون الحقّ معه يدور حيثما دار ، وهو من وصفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه بمنزلة رأسه من بدنه وأنّه كنفسه ، وأنّه معيار الحقّ ولو كان لوحده وكلّ الناس في صفّ آخر و

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( علي منّي بمنزلة رأسي من بدني )(2) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( والذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة ، ولتؤتن الزكاة ، أو لأبعثن إليكم رجلاً منّي أو كنفسي فأخذ بيد علي فقال هو هذا )(3) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا عمار إذا رأيت علياً قد سلك وادياً ، وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ، ودع الناس ، فإنّه لن يدلك على ردى ، ولن يخرجك من

__________________

1 ـ انظر : مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه : 113 ـ 118.

2 ـ المناقب للخوارزمي ص 87 و 91 ط الحيدرية ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص 92 حديث 135 و 136 ، الجامع الصغير للسيوطي ج 2 / 56 ط الميمنية ، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج 5 / 30 ، الرياض النضرة للطبري ج 2 / 172 و214 ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 7 / 12 ط السعادة بمصر ، ذخائر العقبى للمحب الطبري ص 63.

3 ـ المستدرك على الصحيحين ج 2 / 120 ، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ج 2 / 368 ح 867 ، مجمع الزوائد ج 9 / 163 ، الصواعق المحرقة ص 75 ط الميمنية ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 40 ، 285 ط اسلامبول ، كنز العمال ج 15 / 144 حديث 412 ط 2 ، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص 89 ط الحيدرية وص 32 ط بيروت ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص 40 ط الحيدرية ، المناقب للخوارزمي الحنفي ص 81.

٢٢٣

هدى )(1) .

وفي رواية : ( يا عمار إذا رأيت علياً قد سلك وادياً ، يا عمار ، إنّ طاعة علي من طاعتي ، وطاعتي من طاعة الله عزّ وجلّ.

وفي رواية : ( يا عمار إذا رأيت علياً قد سلك وادياً ، من تقلّد سيفاً أعان به علياً على عدّوه ، قلّده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلّد سيفاً أعان به عدو علي عليه ، قلّده الله يوم القيامة وشاحين من نار ، فقال علقمة والأسود لأبي أيوب : يا هذا حسبك! حسبك رحمك الله! حسبك رحمك الله )(2) .

هذه كلمات عربية يفهمها كلّ من عرف العربية ، وهي عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى ، فلابدّ من أخذ كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجدّية وتدبّر ؛ لأنّه كلام مرشد الأمّة.

وقفة مع بعض العبارات في النصوص السابقة :

1 ـ قول عائشة : فأقبل عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم غضباناً محمرّاً وجهه ، فقال : والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي وغيرهم إلّا خرج من الإيمان ، وإنّه مع الحق والحق معه.

2 ـ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أعيذك بالله أن تكوني منبحة كلاب الحوأب ).

3 ـ أترين يا حميراء أنّي لا أعرفك إن لأمتي منك يوماً مراً.

__________________

1 ـ ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق ج 3 / 170 ح 1208 ، المناقب للخوارزمي ص 57 وص 105 ح 110.

2 ـ تاريخ بغداد 13 / 186 ، كنز العمال 12 / 212 ، فرائد السمطين 1 / 178 ، مناقب الخوارزمي : 57 و 124 رواه ابن عساكرعن أبي صادق ، والخطيب البغدادي في البداية والنهاية : 7 / 307 ، وابن جرير في كنز العمال : 11 / 352.

٢٢٤

4 ـ أما أنّي قد أرى مكانه ولو فعلت لنفرتم عنه كما نفرت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران.

5 ـ شهادة أم سلمة وعمار وسعد و بمقام عليعليه‌السلام .

6 ـ ألا وأنّه ليس أحد أفقه في دين الله ، ولا أعلم بكتاب الله ، ولا أقرب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فانفروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين

7 ـ لو سمعت هذا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أزل خادماً لعلي حتّى أموت.

8 ـ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي مع الحق.

علي مع القرآن.

علي نفسي.

علي بمنزلة رأسي من بدني.

يا عمار ، إذا رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي.

طاعة علي من طاعتي ، وطاعتي من طاعة الله

إذن ثبت أنّ علياًعليه‌السلام هو ممثل الحق ، وفرقته هي صاحبة الحق في كلّ عصر ، وقد بيّنا أنّ أتباعه من نصروه في الجمل وصفين والنهروان ، ومن وفى له في ذريته في كربلاء وغيرها ، ومن نهج نهجه ، وأخذ عنه ومنه ، وتمسّك بحبله عبر الخط الرسالي المستمر في ذرّيته الذين لا تخلو الأرض من حجّة منهم كي لا تبطل

٢٢٥

حجج الله وبيّناته :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم ) (1) .

__________________

1 ـ الأنفال : 47.

٢٢٦
٢٢٧

الدليل الثاني عشر : آية المباهلة

قوله تعالى :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَة اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (1) .

المباهلة : مفاعلة من البهلة ، وهي : اللعنة ، ومأخذها من الإبهال ، وهو : الإهمال والتخلية ؛ لأن اللعن والطرد والإهمال من واد واحد ، ومعنى المباهلة أنّ يجتمعوا إذا اختلفوا ، فيقولوا بهلة الله على الظالم منّا )(2) .

بهل : أصل البهل كون الشيء غير مراعى ، والباهل البعير المخلى عن قيده أو عن سمة أو المخلّى ضرعها عن صرار. قالت امرأة : أتيتك باهلاً غير ذات صرار ، أي : أبحت لك جميع ما كنت أملكه لم استأثر بشيء دونه ، وأبهلت فلاناً خليته وإرادته تشبيهاً بالبعير الباهل.

والبهل والابتهال في الدعاء الاسترسال فيه والتضرّع ، نحو قوله عزّ وجلّ :( ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) ، ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أنّ الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن ، قال الشاعر : نظر الدهر إليهم فابتهل ، أي : استرسل فيهم فأفناهم )(3) .

__________________

1 ـ آل عمران (3) : 61

2 ـ الفائق في غريب الحديث 1 : 125.

3 ـ مفردات غريب القرآن : 63.

٢٢٨

قصّة المباهلة :

نصّ ماجاء في معرفة علوم الحديث للنيسابوري :

حدّثنا علي بن عبد الرحمن بن عيسى الدهقان بالكوفة ، قال : حدّثنا الحسين ابن الحكم الحبري ، قال : ثنا الحسن بن الحسين العرني ، قال ثنا حبّان بن علي العنزي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وفي قوله عزّ وجلّ :( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) إلى قوله( الكاذبين ) نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى نفسه ، ونساءنا ونساءكم في فاطمة ، وأبناءنا وأبناءكم في حسن وحسين ، والدعاء على الكاذبين نزلت في العاقب والسيّد وعبد المسيح وأصحابهم.

قال الحاكم : وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين ، وجعلوا فاطمة وراءهم ، ثمّ قال هؤلاء أبناءنا وأنفسنا ونساءنا ، فهلمّوا أنفسكم وأبناءكم ونساءكم ، ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين )(1) .

أحكام القرآن للجصّاص :

ونصّه مايلي : ( مطلب : في المباهلة وما رواه أصحاب السير في شأنها.

قوله تعالى( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) الاحتجاج المتقدّم لهذه الآية على النصارى في قولهم : إنّ المسيح هو ابن الله ، وهم وفد نجران ، وفيهم السيّد والعاقب قالا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ولداً من غير ذكر؟ فأنزل الله تعالى( إن مثل عيسى عند الله

__________________

1 ـ معرفة علوم الحديث : 49.

٢٢٩

كمثل آدم ) ، روي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة.

وقال قبل ذلك فيما حكي عن المسيح( ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم ) إلى قوله تعالى :( إنّ الله ربي وربكم فاعبدوه ) ، وهذا موجود في الإنجيل ؛ لأنّ فيه : ( إنّي ذاهب إلى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ). والأب السيّد في تلك اللغة ألا تراه قال : ( وأبي وأبيكم ) فعلمت أنّه لم يرد به الأبوّة المقتضية للبنوّة فلمّا قامت الحجّة عليهم بما عرفوه واعترفوا به وأبطل شبهتهم في قولهم : إنّه ولد من غير ذكر بأمر آدم عليه السلام ، دعاهم حينئذ إلى المباهلة ، فقال تعالى :( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) الآية ، فنقل رواة السير ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم ، ثمّ دعا النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة ، فأحجموا عنها ، وقال بعضهم لبعض : ( إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم ناراً ، ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة ).

وفي هذه الآيات دحض شبه النصارى في أنّه إله أو ابن الإله ، وفيه دلالة على صحّة نبوّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لولا أنّهم عرفوا يقيناً أنّه نبي ما الذي كان يمنعهم من المباهلة؟ فلمّا أحجموا وامتنعوا عنها دلّ أنّهم قد كانوا عرفوا صحّة نبوّته بالدلائل المعجزات ، وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدّمين.

وفيه الدلالة على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال :( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) ولم يكن هناك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنون غيرهما ، وقد

٢٣٠

روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال للحسن رضي الله عنه : ( إن ابني هذا سيّد ). وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير : ( لا تزرموا ابني ). وهما من ذريته أيضاً ، كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام بقوله تعالى :( ومن ذريته داود وسليمان ) إلى قوله تعالى :( وزكريا ويحيى وعيسى ) وإنما نسبته إليه من جهة أمّه ؛ لأنه لا أب له.

مطلب : في أنّ ولد البنت هل ينسب إلى قوم أبيه أو قوم أمّه.

ومن الناس من يقول : إنّ هذا مخصوص في الحسن والحسين رضي الله عنهما أنّ يسمّيا ابني النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيرهما ، وقد روي في ذلك خبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدلّ على خصوص إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس ؛ لأنه روي عنه أنّه قال : ( كلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي ). وقال محمّد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة : ( إنّ الوصيّة لولد الابن دون ولد الابنة ). وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنّ ولد الابنة يدخلون فيه. وهذا يدّل على أنّ قوله تعالى وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك مخصوص به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر ، وأنّ غيرهما من الناس إنّما ينسبون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم ، ألا ترى أنّ الهاشمي إذا استولد جارية رومية أو حبشية أنّ ابنه يكون هاشمياً منسوباً إلى قوم أبيه دون أمّه ، وكذلك قال الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فنسبة الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبنوة

٢٣١

على الإطلاق مخصوص بهما لا يدخل فيه غيرهما ، هذا هو الظاهر المتعارف من كلام الناس فيمن سواهما )(1) .

شواهد التنزيل :

ونصّه ما يلي : ( قوله عزّ اسمه :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) .

حدّثني الحاكم الوالد رحمه الله ، عن أبي حفص بن شاهين في تفسيره ، [ عن ] موسى بن القاسم ، [ عن ] محمّد بن إبراهيم بن هاشم ، قال : حدّثني أبي ، قال : حدّثني أبو عبد الله محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي ، عن عتبة بن جبيرة ، عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن سعد بن معاذ قال قدم وفد نجران العاقب والسيد فقالا : يا محمّد إنك تذكر صاحبنا؟ فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى بن مريم. فقال النبي : هو عبد الله ورسوله. قالا : فأرنا فيمن خلق الله مثله وفيما رأيت وسمعت. فأعرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) عنهما يومئذ ونزل [ عليه ] جبرئيل [ بقوله تعالى ] :( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) (2) الآية.

فعادا وقالا : يا محمّد هل سمعت بمثل صاحبنا قط؟ قال : نعم. قالا : من هو؟ قال : آدم ، ثمّ قرأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) :( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) الآية. قالا : فإنّه ليس كما تقول. فقال لهم رسول الله [ صلّى

__________________

1 ـ أحكام القرآن 2 : 18.

2 ـ آل عمران (3) : 59.

٢٣٢

الله عليه وآله وسلم ] :( تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) الآية ، فأخذ رسول الله بيد علي ومعه فاطمة وحسن وحسين [ و ] قال : هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا. فهمّا أنّ يفعلا ، ثمّ إنّ السيّد قال للعاقب : ما تصنع بملاعنته؟ لئن كان كاذباً ما تصنع بملاعنته ، ولئن كان صادقاً لنهلكن!! فصالحوه على الجزية ، فقال النبي [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] يومئذ : والذي نفسي بيده لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد )(1) .

فتح الباري :

( ووقع في رواية عامر بن سعد بن أبي وقاص عند مسلم والترمذي قال قال معاوية لسعد : ما منعك ان تسب أبا تراب؟ قال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبّه ، فذكر هذا الحديث [ حديث المنزلة ] وقوله : لأعطين الراية رجلاً يحبّه الله ورسوله ، وقوله لما نزلت :( فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ) دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين فقال : اللهم هؤلاء أهلي )(2) .

تفسير ابن كثير :

( قال : ( والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرّة الأولى وإنّ إبليس لمعهم ) ، ثمّ سألهم وسألوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتّى قالوا له : ما تقول في عيسى فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرّنا إن كنت نبيّا أنّ نسمع ما تقول فيه؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( ما عندي فيه شيء يومي هذا ، فأقيموا حتّى

__________________

1 ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت 1 : 155.

2 ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 7 : 60.

٢٣٣

أخبركم بما يقول لي ربّي في عيسى ).

فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية :( إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم ـ إلى قوله ـ الكاذبين ) فأبوا أنّ يقرّوا بذلك.

فلمّا أصبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدّة نسوة ، فقال شرحبيل لصاحبيه : لقد علمتما أنّ الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلّا عن رأيي ، وإنّي والله أرى أمراً ثقيلا ، والله لئن كان هذا الرجل مبعوثاً فكنّا أوّل العرب طعناً في عينيه وردّاً عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتّى يصيبنا بجائحة وأنا لأدنى العرب منهما جواراً ، ولئن كان هذا الرجل نبيّاً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى منّا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلّا هلك ، فقال صاحباه : فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال : أرى أنّ أحكمه فإنّي أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً ، فقالا له : أنت وذاك.

قال : فتلّقى شرحبيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : إنّي قد رأيت خيراً من ملاعنتك فقال : ( وما هو )؟ فقال : حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( لعلّ وراءك أحداً يثرب عليك )؟ فقال شرحبيل : سل صاحبي ، فسألهما فقالا : ما يرد الوادي ولا يصدر إلّا عن رأي شرحبيل ، فرجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يلاعنهم حتّى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كلّ ثمرة وكلّ صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل

٢٣٤

عليهم وترك ذلك كلّه لهم على ألفي حلّة ، في كلّ رجب ألف حلّة ، وفي كلّ صفر ألف حلة. وذكر تمام الشروط وبقية السياق.

والغرض أنّ وفودهم كان في سنة تسع لأنّ الزهري قال : كان أهل نجران أوّل من أدّى الجزية إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية الجزية إنّما أنزلت بعد الفتح وهي قوله تعالى :( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية.

وقال أبو بكر بن مردويه : حدّثنا سليمان بن أحمد ، حدّثنا أحمد بن داود المكي ، حدّثنا بشر بن مهران ، حدّثنا محمّد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر قال : قدم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم العاقب والطيّب فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أنّ يلاعناه الغداة. قال : فغدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ، ثمّ أرسل إليهما فأبيا أنّ يجيبا ، وأقرّا له بالخراج. قال : فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( والذي بعثني بالحق لو قالا : لا ، لأمطر عليهم الوادي ناراً ).

قال جابر : وفيهم نزلت( ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) قال جابر( أنفسنا وأنفسكم ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي بن أبي طالب ،( وأبناءنا ) الحسن والحسين( ونساءنا ) فاطمة.

وهكذا رواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن عيسى ، عن أحمد بن محمّد بن الأزهري ، عن علي بن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند به بمعناه. ثمّ قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه هكذا )(1) .

__________________

1 ـ تفسير القرآن العظيم 1 : 379.

٢٣٥

جامع البيان ، الطبري :

عن قتادة في قوله :( فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) قال : بلغنا أنّ نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج ليلاً عن أهل نجران ، فلمّا رأوه خرج ، هابوا وفرقوا ، فرجعوا. قال معمر ، قال قتادة : لما أراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل نجران أخذ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة : ( اتّبعينا ) ، فلمّا رأى ذلك أعداء الله رجعوا.

حدّثنا الحسن بن يحيى ، قال : ( أخبرنا ) عبد الرزاق ، قال : ( أخبرنا ) معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لو خرج الذين يباهلون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً.

حدّثنا أبو كريب ، قال : ثنا زكريا ، عن عدّي قال : ثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله.

حدّثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( والذي نفسي بيده لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد إلّا أهلك الله الكاذبين ).

حدّثني يونس ، قال : ( أخبرنا ) ابن وهب ، قال : ثنا ابن زيد ، قال : قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لاعنت القوم بمن كنت تأتي حين قلت( أبناءنا وأبناءكم ) ؟ قال : ( حسن وحسين ).

حدّثني محمّد بن سنان ، قال : ثنا أبو بكر الحنفي ، قال : ثنا المنذر بن ثعلبة ، قال : ثنا علباء بن أحمر اليشكري ، قال : لما نزلت هذه الآية :( فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم ) الآية ، أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود :

٢٣٦

ويحكم أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوا! فانتهوا )(1) .

صحيح مسلم :

( ولما نزلت هذه الآية( فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ) دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللهم هؤلاء أهلي )(2) .

وقفة مع شاهد في كلامهم يجب الالتفات إليه :

1 ـ عبارة : ( الدلالة على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال تعالوا : ندع أبناءنا وأبناءكم ، ولم يكن هناك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنون غيرهما ).

2 ـ عبارة : ( وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال للحسن رضي الله عنه : إنّ ابني هذا سيّد وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير : لا تزرموا ابني. وهما من ذريته أيضاً كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام ).

3 ـ قال معاوية لسعد : ما منعك ان تسبّ أبا تراب؟ قال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبّه ( معاوية يأمر بسبّ علي ، وعليك التعليق ).

4 ـ( أنفسنا وأنفسكم ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي بن أبي

__________________

1 ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري3 : 409.

2 ـ صحيح مسلم 7 : 120 ، باب فضائل عليعليه‌السلام ، مسند أحمد 1 : 185 ، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص.

٢٣٧

طالب( وأبناءنا ) الحسن والحسين( ونساءنا ) فاطمة.

5 ـ فقال اللهم هؤلاء أهلي.

6 ـ عبارة : ( وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدّة نسوة ).

7 ـ لو لم يكن من دليل إلّا احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام في الشورى على الحاضرين بجملة من فضائله ومناقبه ، فكان من احتجاجه آية المباهلة ، وهذه القصّة مشهورة ، وكلّهم أقروا بما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام وصدقوه في ما قال ، وهذا الاحتجاج في الشورى مروي من طرق السنة أنفسهم ، كما في الصواعق المحرقة لابن حجر : ( أخرج الدارقطني ان علياً يوم الشورى احتجّ على أهلها ، فقال لهم : أنشدكم بالله ، هل فيكم أحد أقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الرحم منّي ، ومن جعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه غيري؟ قالوا : اللهم لا )(1) .

وكذلك هناك روايات كثيرة في احتجاج أبناء الإمام عليعليه‌السلام ، ومن ذلك ما روي أنّ المأمون العباسي سأل الإمام الرضاعليه‌السلام بقوله : هل لك دليل من القرآن الكريم على إمامة علي ، أو أفضلية علي؟ فذكرله الإمامعليه‌السلام آية المباهلة ، واستدل بكلمة :( وأنفسنا ) ، كما جاء في الفصول المختارة للشيخ المفيد ما هذا نصّه.

وحدّثني الشيخ أدام الله عزّه أيضاً قال : قال المأمون يوماً للرضا عليه السلام : أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام يدلّ عليها القرآن قال : فقال له الرضا عليه السلام : فضيلته في المباهلة ، قال الله جلّ جلاله :( فمن حاجّك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا

__________________

1 ـ الصواعق المحرقة 2 : 454 ، الباب الحادي عشر ، الآية التاسعة.

٢٣٨

ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذببن ) ، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسين عليهما السلام فكانا ابنيه ، ودعا فاطمة عليها السلام فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فكان نفسه بحكم الله عزوجل ، وقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأفضل فوجب أنّ لا يكون أحد أفضل من نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم الله عزّ وجلّ.

قال : فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ابنيه خاصّة ، وذكر النساء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ابنته وحدها ، فلم لا جاز أنّ يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لأمير المؤمنين عليه السلام ما ذكرت من الفضل؟ قال : فقال له الرضا عليه السلام : ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين ؛ وذلك أنّ الداعي إنّما يكون داعياً لغيره ، كما يكون الآمرآمراً لغيره ، ولا يصح أنّ يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً في المباهلة إلّا أمير المؤمنين عليه السلام ، فقد ثبت أنّه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه ، وجعل حكمه ذلك في تنزيله. قال : فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال )(1) .

8 ـ اعتراف ابن تيمية ـ الذي من طبيعته تكذيب فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ـ بعدم خروج أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله في قضية المباهلة غير هؤلاء

__________________

1 ـ عن الفصول المختارة للشيخ المفيد : 38.

٢٣٩

الأربعة إلّا أنّه يقول بأن عادة العرب في المباهلة كانت أنّ يخرجوا الأقرب نسباً وإن لم يكن ذا فضيلة ، وإن لم يكن ذا تقوى ، وإن لم يكن ذا منزلة خاصّة أو مرتبة عند الله سبحانه وتعالى. لكنه يعترض على نفسه ويقول : إن كان كذلك ، فلم لم يخرج العباس عمه معه ، والعباس أقرب إلى رسول الله من علي؟ ويقول في الجواب على نفسه : بأنّ العباس لم يكن في تلك المرتبة لأن يحضر مثل هذه القضية ، فلذا يكون لعلي في هذه القضية نوع فضيلة(1) .

ونجيبه على قوله : إنّ العرب تأخذ الأقرب في المباهلة بقولنا :

أوّلاً : أنّ الرسول هو القدوة الحسنة لكلّ مسلم ، وكلامه وفعله ليس عن الهوى ، ولا يقلّد العرب ، ولا غيرهم في شيء ، وأنّ كلامه وأفعاله ما هي إلّا وحي يوحى.

ثانياً : أنّ العباس ( رضي الله عنه ) هو أقرب من عليعليه‌السلام ، إذ بالإجماع أنّ العم أقرب من ابن العم ، فلِمَ لم يأخذ إلّا عليعليه‌السلام ؟ وقد اعترف بذلك بنفسه.

ثالثاً : أنّ الإمام عليعليه‌السلام له فضائل ودلائل غير آية المباهلة تدلّ على أولويته بالخلافة ، بل ثبت وجوب اتّباعه من الصحاح والمسانيد والتفاسير السنية المعتبرة ، مضافاً إلى اجماع الشيعة.

رابعاً : يعترض ابن تيمية بقوله : ( لم تكن الفضيلة هذه لعلي فقط ، وإنّما كانت لفاطمة والحسنين أيضاً ، إذن ، لم تختص هذه الفضيلة بعلي ).

نقول : إنّ البحث لم يكن في تفضيل علي على فاطمة والحسنين عليهم

__________________

1 ـ منهاج السنّة 7 : 122 ـ 130.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608