الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261277 / تحميل: 6495
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مناقشة أدلّة القوم على أفضلية أبي بكر

هذه عامّة أدلّتهم ، ولو سألتني عن أهمّ هذه الأدلّة لذكرت لك : قضيّة الصلاة أوّلاً ، وحديث « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، فهما أهم هذه الأدلّة العشرة.

لكنّا نبحث عن كل هذه الأدلّة واحداً واحداً ، على ضوء كتبهم ، وعلى أساس رواياتهم ، وأقوال علمائهم.

الدليل الأول :

قوله تعالى :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ *وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ ) .

هذه آية قرآنية ، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الآيات المستدل بها على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ دلالة الآية على إمامة علي تتوقّف على ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر ، وإلاّ فالآية من

٢١

القرآن ، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.

قوله تعالى :( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى ) يتوقّف الإستدلال به على مقدمات ، حتّى تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر

أوّلاً : الإستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر يتوقّف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة عليعليه‌السلام ، وإلاّ فالمعصوم أكرم عند الله سبحانه وتعالى ممّن يؤتي ماله يتزكّى ، فإذن ، يتوقّف الإستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر ـ لو كانت نازلةً فيه ـ على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي أقامها الإمامية على عصمة عليعليه‌السلام ، وإلاّ فلو تمّ شيء من تلك الأدلّة لكان علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى ، وحينئذ يبطل هذا الاستدلال.

وثانياً : يتوقف الإستدلال بهذه الآية المباركة لأكرميّة أبي بكر ، على أنْ لا يتمّ ما استدلّ به لافضليّة عليعليه‌السلام ، وإلاّ لتعارضا بناء على صحة هذا الإستدلال وحجيّة هذا الحديث الوارد في ذيل هذه الآية المباركة ، ويكون الدليلان حجّتين متعارضتين ، ويتساقطان ، فلا تبقى في الآية هذه دلالة على امامته.

ولكنّ ممّا لا يحتاج إلى أدلّة إثبات هو : أنّ عليّاًعليه‌السلام لم يسجد لصنم قط ، وأبو بكر سجد ، ولذا يقولون ـ إذا ذكروا عليّاً ـ : كرّم الله وجهه ، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند الله سبحانه وتعالى.

٢٢

ثالثاً : يتوقف الإستدلال بهذه الآية المباركة على نزول الآية في أبي بكر ، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال :

القول الأول : إنّ الآية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.

القول الثاني : إنّ الآية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة ، راجعوا الدر المنثور في التفسير بالمأثور(1) ، يذكر لكم هذه القصة في ذيل هذه الآية ، وإنّ الآية بناء على هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.

القول الثالث : إنّ الآية نازلة في أبي بكر.

فالقول بنزول الآية المباركة في أبي بكر أحد الأقوال الثلاثة عندهم.

لكن هذا القول ـ أي القول بنزول الآية في أبي بكر ـ يتوقف على صحة سند الخبر به ، وإذا لم يتمّ الخبر الدال على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول.

وإليكم المصدر الذي ذكر فيه خبر نزول الآية في أبي بكر

__________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6 / 358.

٢٣

وتصريحه بضعف سند هذه الرواية :

الرواية يرويها الطبراني ، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ، ثمّ يقول : فيه ـ أي في سنده ـ مصعب بن ثابت ، وفيه ضعف(1) .

فالقول الثالث الذي هو أحد الأقوال في المسألة يستند إلى هذه الرواية ، والرواية ضعيفة.

ومصعب بن ثابت هو حفيد عبدالله بن الزبير ، مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير ، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصلة المطولة ، ومصعب بن ثابت : ضعّفه يحيى بن معين ، ضعّفه أحمد بن حنبل ، ضعّفه أبو حاتم قال : لا يحتجّ به ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وهكذا قال غير هؤلاء(2) .

فكيف يستدل بالآية المباركة على أكرميّة أبي بكر وأفضليّته ، وفي المسألة ثلاثة أقوال ، والقول بنزولها في أبي بكر يستند إلى رواية ، وتلك الرواية ضعيفة ؟

مضافاً : إلى أنّ هذا الإستدلال موقوف على عدم تماميّة أدلّة الإماميّة على أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته.

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 50.

(2) تهذيب التهذيب 10 / 144.

٢٤

الدليل الثاني :

الحديث : « إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».

هذا الحديث من أحسن أدلّتهم على إمامة الشيخين ، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام ، وفي كتب الاُصول أيضاً ، واستناداً إلى هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة ، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلى هذا الحديث حجة ، فالحديث مهمّ جدّاً ، لا سيّما وأنّه في مسند أحمد بن حنبل(1) ، وأيضاً في صحيح الترمذي(2) ، وأيضاً في مستدرك الحاكم(3) ، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة ، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.

ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلى أسانيد هذا الحديث ، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد ، على ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل ، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب ، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة ، وكبار علمائهم ينصّون على كثير من رجال هذا الحديث بالضعف ، ويجرحونهم بشتّى أنواع الجرح.

__________________

(1) مسند أحمد 5 / 382 ، 385.

(2) صحيح الترمذي 5 / 572.

(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 75.

٢٥

لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه بالنسبة إلى هذا الحديث ، وأُقرّب لكم الطريق ولا تحتاجون إلى مراجعة الكتب ، فأقول :

قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير(1) : أعلّه أبو حاتم [ أي قال : هذا الحديث عليل ] وقال البزّار كابن حزم لا يصح(2) .

فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث : أبو حاتم ، أبو بكر البزّار ، وابن حزم الأندلسي.

والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه ، يضعّفه بصراحة ، فراجعوا كتاب الترمذي وهو موجود(3) .

وإذا ما رجعتم إلى كتاب الضعفاء الكبير لأبي جعفر العُقيلي لرأيتموه يقول : منكر لا أصل له(4) .

وإذا رجعتم إلى ميزان الاعتدال يقول نقلاً عن أبي بكر

__________________

(1) وقد ذكرت لكم من قبل إنّنا في فهم الأحاديث والدقّة في أسانيدها لابدّ وأن نرجع إلى ما قيل في شرحها والكتب المؤلّفة في شروح الأحاديث ، من قبيل المرقاة وفيض القدير وشروح الشفاء للقاضي عياض ، وأمثال ذلك.

(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير 2 / 56.

(3) صحيح الترمذي 5 / 572.

(4) كتاب الضعفاء الكبير 4 / 95.

٢٦

النقّاش : وهذا الحديث واهٍ(1) .

ويقول الدارقطني ـ وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري ـ : هذا الحديث لا يثبت(2) .

وإذا رجعتم إلى كتاب العلاّمة العبري الفرغاني المتوفّى سنة 743 ه‍ ، يقول في شرحه على منهاج البيضاوي : إنّ هذا الحديث موضوع(3) .

ولو رجعتم إلى ميزان الاعتدال لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب ، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله ، فراجعوا(4) .

وإذا رجعتم إلى تلخيص المستدرك ترونه يتعقّب الحاكم ويقول : سنده واه جدّاً(5) .

وإذا رجعتم إلى مجمع الزوائد للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول : وفيه من لم أعرفهم(6) .

__________________

(1) ميزان الاعتدال 1 / 142.

(2) لسان الميزان 5 / 237.

(3) شرح المنهاج : مخطوط.

(4) ميزان الاعتدال 1 / 105 ، 141 و 43 / 610.

(5) تلخيص المستدرك ـ ط في ذيل المستدرك 3 / 75.

(6) مجمع الزوائد 9 / 53.

٢٧

وإذا رجعتم إلى لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام لرأيتم يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوط هذا الحديث ، فراجعوا لسان الميزان(1) .

وإذا رجعتم إلى أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة ، وهو شيخ الإسلام الهروي ، له كتاب الدر النضيد من مجموعة الحفيد ـ وهذا الكتاب مطبوع موجود ـ يقول : هذا الحديث موضوع(2) .

وابن درويش الحوت يورد هذا الحديث في كتابه أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه(3) (4) .

فهذا الحديث ـ إذن ـ لا يليق أنْ يُستدلّ به على مبحث الإمامة ، سواء كان يستدل به الشيعة الإمامية أو السنّة ، حتّى لو

__________________

(1) لسان الميزان 1 / 188 ، 272 و 5 / 237.

(2) الدر النضيد من مجموعة الحفيد : 97.

(3) أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب : 48.

(4) هذا ، وللحافظ ابن حزم الاندلسي في الإستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً ، إنّه يقول ما هذا نصّه : ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، ولكنّه لم يصح ويعيذنا الله من الإحتجاج بما لا يصح. الفصل في الملل والنحل 4 / 88.

٢٨

أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة عليعليه‌السلام ، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة ، فلا يمكن الإحتجاج به على القوم لإثبات الإمامة أصلاً ، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.

ولذا نرى بعضهم لمّا يرى سقوط هذا الحديث سنداً ، ومن ناحية أُخرى يراه حديثاً مفيداً لاثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنىً ، يضطر إلى أن ينسبه إلى الشيخين والصحيحين كذباً.

فالقاري ـ مثلاً ـ ينسب هذا الحديث في كتابه شرح الفقه الأكبر إلى صحيحي البخاري ومسلم ، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين ، ممّا يدلّ على أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً ، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها ، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.

ثمّ كيف يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالإقتداء بالشيخين ، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد ، فبمن يقتدي المسلمون ؟ وكيف يأمر رسول الله بالإقتداء بالشيخين ، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا ؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما ، وتلك الموارد كثيرة جدّاً ؟!

٢٩

الدليل الثالث :

قول رسول الله لأبي الدرداء : « ما طلعت شمس ولا غربت » إلى آخره.

هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم ، فقد رواه الطبراني في الأوسط بسند قال الهيثمي : فيه إسماعيل بن يحيى التيمي وهو كذّاب.

وفيه أيضاً ـ أي في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول : فيه بقيّة ـ بقيّة بن الوليد ـ وهو مدلّس وهو ضعيف(1) .

وهو ساقط عند علماء الرجال.

الدليل الرابع :

« هما سيّدا كهول أهل الجنّة ».

هذا الحديث يرويه البزّار ، ويرويه الطبراني ، كلاهما عن أبي سعيد.

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 44.

٣٠

قال الهيثمي حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد : فيه علي بن عابس وهو ضعيف.

ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيدالله بن عمر ويقول في راويه عبد الرحمن بن ملك : هو متروك(1) .

وليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.

الدليل الخامس :

« ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره ».

ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات وقال : هذا حديث موضوع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

وإذا كانت فتاوى ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله ، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.

الدليل السادس :

وأمّا صلاة أبي بكر ، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين :

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 53.

(2) كتاب الموضوعات 1 / 318.

٣١

السبب الأول : إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين لا بسند بل أكثر ، ووارد في المسانيد والسنن ، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة.

وثانياً : الصلاة أفضل العبادات ، وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله ، فإنّه سيكون دليلاً على أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده ، فيكون هذا الحديث ـ حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول الله ـ من أحسن الأدلّة على إمامة أبي بكر.

ولو راجعتم الكتب لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث ، واستدلالهم بهذا الخبر على رأس جميع الأدلّة وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.

رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة ، وعلى رأسهم عائشة بنت أبي بكر ، ولكنّك لو تأمّلت في الأسانيد لرأيت الصحابة يروون هذا الخبر مرسلاً ، أو يسمعون الخبر عن عائشة وتكون هي الواسطة في نقل هذا الخبر ، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة ، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين :

الأوّل : مخالفتها لعلي.

الثاني : كونها بنت أبي بكر.

٣٢

ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية ، لو نظرنا إلى ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر ، وأيضاً القرائن الخارجية التي لها علاقة بهذا الخبر ، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلى الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها ، ولم يكن من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية : قضية أمر رسول الله بخروج القوم مع أُسامة ، قضية بعث أُسامة ، وتأكيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا البعث إلى آخر لحظة من حياته المباركة.

أمّا أنّ النبي كان يؤكّد على بعث أُسامة ، وإلى آخر لحظة من حياته ، فلم يخالف فيه أحد ، ولا خلاف فيه أبداً ، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم ، فلا خلاف في هذا.

وأمّا أنّ كبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث ، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ، فكيف يأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بخروج أبي بكر في بعث أُسامة ، ويؤكّد على خروجه إلى آخر لحظة من حياته ، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه ؟

وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة ، ويقول هذا كذب ، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث

٣٣

أُسامة ، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلى الصلاة ، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم على إمامة أبي بكر ، إذن ، لابدّ من الإنكار والحال أنّ وجود أبي بكر في بعث اُسامة لا يقبل الإنكار.

أنقل لكم عبارة واحدة فقط ، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب فتح الباري بشرح البخاري :

قد روى ذلك ـ أي كون أبي بكر في بعث أُسامة ـ الواقدي ، وابن سعد ، وابن إسحاق ، وابن الجوزي ، وابن عساكر ، وغيرهم(1) . أي : وغيرهم من علماء المغازي والحديث.

ولذا لمّا توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة ، ولذا لمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر قال : أنا أمير على أبي بكر وكيف أُبايعه ؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول الله به استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة ، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.

القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر ، أي خبر : أنّ النبي أرسل أبا بكر إلى الصلاة.

ولكن لا نكتفي بهذا القدر ، ونضيف أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يعتقد ،

__________________

(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8 / 124.

٣٤

وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون ، بأنّ خروج أبي بكر إلى الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول الله.

قال ابن أبي الحديد : سألت الشيخ ـ أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية ـ أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول الله لم يعيّنه ؟ فقال : أمّا أنا فلا أقول ذلك ، لكن عليّاً كان يقوله ، وتكليفي غير تكليفه ، كان حاضراً ولم أكن حاضراً.

ولا نكتفي بهذا القدر فنقول :

سلّمنا بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة ، فكم من صحابي أمر رسول الله بأنْ يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه ، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي الذي صلّى في مكانهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لكنْ لكم أن تقولوا : بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة ، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب ، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده ، لك أنْ تقول هذا ، كما قالوا.

فاسمع لواقع القضية ، واستمع لما يأتي :

إنّه لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الأمر ، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج بنفسه الشريفة ـ معتمداً على رجلين

٣٥

ورجلاه تخطّان على الأرض ـ ونحّى أبا بكر عن المحراب ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه.

لكنّهم يعودون فيقولون : بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة ، وهذا الذي وقع من رسول الله وقع مرّة واحدةً فقط.

قلت :

أوّلاً : لم تكن الصلاة أيّاماً ، بل هي صلاة واحدة ، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين ، فكانت صلاة واحدة.

وثانياً : على فرض أنّه قد صلّى أيّاماً وصلوات عديدة ، ففعل رسول الله ذلك في آخر يوم من حياته ، وخروجه بهذا الشكل معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان على الأرض ، دليل على أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.

فلو سلّمنا أنّ الأمر بهذه الصلاة هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو سلّمنا هذا ، فرسول الله ملتفت إلى أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة على إمامته من بعده ، وفي هذا الفعل إشعار بالإمامة والخلافة العامة من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار ، وهذا مذكور وموجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها على أنّ رسول الله هو الأمر بهذه الصلاة بزعهم.

٣٦

وهنا نكات :

النكتة الأولى : قالت الروايات : إنّه خرج معتمداً على رجلين ، والراوي عائشة ـ كما ذكرنا ، الأخبار كلّها تنتهي إلى عائشة ـ خرج رسول الله معتمداً على رجلين ورجلاه تخطّان الأرض ، وتنحّى أبو بكر عن المحراب ، وصلّى تلك الصلاة بنفسه الشريفة.

وخروجه بهذه الصورة دليل على العزل لو كان هناك نصّ.

وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول الله لدى خروجه ، ولم تذكر اسم الرجل الثاني ، والرجل الثاني كان عليعليه‌السلام ، ممّا يدلّ على انزعاجها من هذا الفعل.

يقول ابن عباس للراوي : أسمّتْ لك الرجل الثاني ؟ قال : لا ، قال : هو علي ، ولكنّها لا تطيب نفساً بأن تذكره بخير.

النكتة الثانية : إنّه لمّا رأى بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله ، وضع حديثاً في أنّ رسول الله لم يعزل أبا بكر ، وإنّما جاء إلى الصلاة معتمداً على رجلين ، وصلّى خلف أبي بكر ، فثبتت القضية وقويت.

وبعبارة أُخرى : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينصب أبا بكر عملاً ، مضافاً إلى إرساله إلى الصلاة لفظاً وقولاً ، إذ يأتي معتمداً على رجلين

٣٧

حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.

ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول الله ، مع اقتداء رسول الله به في الصلاة ، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلاً على إمامة أبي بكر لما عدا رسول الله ؟

نعم ، وضعوا هذه الأحاديث الدالّة على أنّ رسول الله اقتدى بأبي بكر.

لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث ، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين ، الموجود في الصحيحين : إنّ رسول الله نحّاه أو تنحّى أو تأخّر أبو بكر ، وصلّى رسول الله بنفسه تلك الصلاة.

أمّا هذا الحديث فموجود في مسند أحمد ، وهو حديث كذب قطعاً ، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة ، وحتّى أنّ بعضهم كالحافظ أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي بكر ، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته ، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي ، هذا غير معقول أصلاً.

رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ عشرين سنة تقريباً لأوّل مرّة ،

٣٨

نشرتها أنا بتحقيق منّي والحمد لله(1) .

النكتة الثالثة : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن خرج إلى الصلاة وصلّى بنفسه الشريفة ، ونحّى أبا بكر ، لم يكتف بهذا المقدار ، وإنّما جلس على المنبر بعد تلك الصلاة ، وخطب ، وذكر القرآن والعترة ، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما ، فأكّد رسول الله بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله ، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب ، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة إنّ على جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة ، وأكّد على وجوب هذا البعث وعلى الإسراع فيه.

وبعد هذا كلّه لا يبقى مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.

الدليل السابع :

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « خير أُمّتي أبو بكر وعمر ».

هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الإيجي وشارحه

__________________

(1) هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي ، المتوفى سنة 597 ه‍ ، ردّاً على معاصره الحافظ عبد المغيث الحنبلي ، ولذا أسماها بآفة أصحاب الحديث في الردّ على عبد المغيث ، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا.

٣٩

وغيرهما أيضاً.

لكن الحديث ليس هكذا ، للحديث ذيل ، وهم أسقطوا هذا الذيل ليتمّ لهم الإستدلال ، فاسمعوا إلى الحديث كاملاً :

عن عائشة ، قلت : يا رسول الله ، من خير الناس بعدك ؟ قال : « أبو بكر » ، قلت : ثمّ مَن ؟ قال : « عمر ».

هذا المقدار الذي استدلّ به هؤلاء.

لكن بالمجلس فاطمة سلام الله عليها ، قالت فاطمة : يا رسول الله ، لم تقل في علي شيئاً !

قال : « يا فاطمة ، علي نفسي ، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً ؟ ».

فيستدلّون بصدر الحديث بقدر ما يتعلّق بالشيخين ، ويجعلونه دليلاً على إمامة الشيخين ، ويسقطون ذيله ، وكأنّهم لا يعلمون بأنّ هناك من يرجع إلى الحديث ويقرأه بلفظه الكامل ، ويعثر عليه في المصادر.

لكن الحديث ـ مع ذلك ـ ضعيف سنداً ، فراجعوا كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة(1) .

__________________

(1) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1 / 367.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

مضافا إلى ثناء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من يقوم مقامه في جمع زكاة أموال الناس بحدّ ذاته يبعث على خلق نوع من الراحة النفسية والفكرية لهم ، بحيث يشعرون بأنّهم إن فقدوا شيئا بحسب الظاهر ، فإنّهم قد حصلوا ـ قطعا ـ على ما هو أفضل منه.

اللطيف في الأمر ، أنّنا لم نسمع لحد الآن أن المأمورين بجمع الضرائب مأمورين بشكر الناس وتقديرهم ، إلّا أنّ هذا الحكم الذي شرع كحكم مستحب في الأوامر والأحكام الإسلامية يعكس عمق الجانب الإنساني في هذه الأحكام.

وفي نهاية الآية نقرأ :( وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) وهذا الختام هو المناسب لما سبق من بحث في الآية ، إذ أن الله سبحانه يسمع دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومطلع على نيّات المؤدين للزّكاة.

* * *

ملاحظات

١ ـ يتّضح من سبب النزول المذكور لهذه الآية ، أنّ هذه الآية ترتبط بالآية التي سبقتها في موضوع توبة أبي لبابة ورفاقه ، لأنّهم ـ وكشكر منهم لقبول توبتهم ـ أتوا بأموالهم ووضعوها بين يدي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصرفها في سبيل الله ، إلّا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكتفى بأخذ قسم منها فقط.

إلّا أنّ سبب النزول هذا لا ينافي ـ مطلقا ـ أن هذه الآية بيّنت حكما كليا عاما في الزكاة ، ولا يصحّ ما طرحه بعض المفسّرين من التضاد بين سبب نزولها وما بينته من حكم كلي ، كما قلنا ذلك مكررا في سائر آيات القرآن وأسباب نزولها.

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب رواية ـ قد قبل ثلث أموال أبي لبابة وأصحابه ، في الوقت الذي لا يبلغ مقدار الزكاة الثلث في أي مورد ، ففي الحنطة والشعير والتمر والزبيب العشر أحيانا ، وأحيانا جزء من عشرين جزءا ، وفي الذهب والفضة (٥ ، ٢ خ) ، وفي الأنعام (البقر والغنم والإبل) لا

٢٠١

يصل إلى الثلث مطلقا.

لكن يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ قسما من أموالهم بعنوان الزكاة ، والمقدار الإضافي الذي يكمل الثلث بعنوان الكفّارة عن ذنوبهم ، وعلى هذا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذ الزكاة الواجبة عليهم ، ومقدارا آخر لتطهيرهم من ذنوبهم وتكفيرها فكان المجموع هو الثلث.

٢ ـ إنّ حكم (خذ) دليل واضح على أنّ رئيس الحكومة الإسلامية يستطيع أن يأخذ الزكاة من الناس ، لا أنّه ينتظر الناس فإن شاؤوا أدّوا الزكاة ، وإلّا فلا.

٣ ـ إنّ جملة( صَلِّ عَلَيْهِمْ ) وإن كانت خطابا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه من المسلّم أنّها في معرض بيان حكم كلّي ـ لأنّ القانون الكلّي يعني أن الأحكام الإسلامية تجري على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباقي المسلمين على السواء ، ومختصات النّبي من جانب الأحكام يجب أن تثبت بدليل خاصّ ـ وعلى هذا فإنّ المسؤولين عن بيت المال في كلّ عصر وزمان يستطيعون أن يدعوا لمؤدي الزكاة بجملة : «اللهم صلّ عليهم».

وممّا يثير العجب أنّ بعض المتعصبين من العامّة لم يجوز الصلاة مستقلة على آل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي أنّ شخصا لو قال : (اللهمّ صلّ على عليّ أمير المؤمنين) أو : (صلّ على فاطمة الزّهراء) فإنّهم اعتبروا ذلك ممنوعا وحراما! في الوقت الذي نعلم أنّ منع مثل هذا الدعاء هو الذي يحتاج إلى دليل ، لا جوازه!

إضافة إلى أنّ القرآن الكريم ـ كما قلنا سابقا ـ قد أجاز بصراحة مثل هذا الدعاء في حق أفراد عاديين ، فكيف بأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفائه؟! لكن ، ماذا يمكن عمله؟ فإنّ التعصبات قد تقف أحيانا مانعة حتى من فهم آيات القرآن.

ولمّا كان بعض المذنبين ـ كالمتخلفين عن غزوة تبوك ـ يصرّون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول توبتهم ، أشارت الآية الثّانية من الآيات التي بين يدينا إلى أنّ قبول التوبة ليس مرتبطا بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل بالله الغفور الرحيم ، لذا قالت :( أَلَمْ يَعْلَمُوا

٢٠٢

أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) . ولا ينحصر الأمر بتوقّف قبول التوبة على قبول الله لها، بل إنّه تعالى هو الّذي يأخذ الزكاة والصدقات الأخرى التي يعطيها العباد تقربا إليه ، أو تكفيرا لذنوبهم :( وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ ) .

لا شكّ في أنّ الذي يأخذ الزكاة هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام المعصومعليه‌السلام أو خليفة المسلمين وقائدهم ، أو الأفراد المستحقون ، وفي كلّ هذه الأحوال فإنّ الله تبارك وتعالى لا يأخذ الصدقات ظاهرا ، ولكن لمّا كانت يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنّواب الحقيقيين يد الله سبحانه ـ لأنّهم خلفاء الله ووكلاؤه ـ قالت الآية : إنّ الله يأخذ الصدقات. وكذلك العباد المحتاجون ، فإنّهم يأمر الله يأخذون مثل هذه المساعدات ، وهم في الحقيقة وكلاء الله ، وعلى هذا فإنّ يدهم يد الله أيضا.

إنّ هذا التعبير من ألطف التعبيرات التي تجسّد عظمة هذا الحكم الإسلامي ـ أي الزكاة ـ فبالرغم من ترغيب كلّ المسلمين ودعوتهم إلى القيام بهذه الوظيفة الإلهية الكبيرة ، فإنّها تحذرهم بشدّة وتأمرهم بأن يراعوا الآداب الإسلامية ويتقيّدوا باحترام من يؤدونها إليه ، لأنّ من يأخذها هو اللهعزوجل ، وإنّما حذرتهم حتى لا يتصور بعض الجهال ، أنّه لا مانع من تحقير المحتاجين ، أو إعطائه الزكاة بشكل يؤدي إلى تحطيم شخصية آخذ الزكاة ، بل بالعكس عليهم أن يؤدوها بكلّ أدب وخضوع ، كما يوصل العبد شيئا إلى مولاه.

ففي رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل»(١) !

وفي حديث آخر عن الإمام السّجادعليه‌السلام : «إنّ الصدقة لا تقع في يد العبد حتى تقع في يد الرّب»(٢) .

بل إنّ رواية صرّحت بأنّ كلّ أعمال ابن آدم تتلقاها الملائكة إلّا الصدقة ، فإنّها

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

(٢) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير الصافي في ذيل الآية.

٢٠٣

تصل مباشرة إلى يد الله سبحانه(١) .

هذا المضمون قد ورد في روايات أهل البيتعليهم‌السلام بعبارات مختلفة ، ونقل أيضا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق العامّة ، فقد جاء في صحيح مسلم والبخاري : «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ـ ولا يقبل الله إلّا الطيب ـ إلّا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت تمرة ، فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل»(٢) .

إنّ هذا الحديث المشحون بالتشبيهات والكنايات ، والعظيم المعنى ، مؤشر ودليل على الأهمية الخاصّة للخدمات الإنسانية ومساعدة المحتاجين والمحرومين في الأحكام الإسلامية.

لقد وردت عبارات حديثية أخرى في هذا المجال ، وهي مهمّة وملفتة للنظر إلى درجة أن اتباع هذا الدين يرون أنفسهم خاضعين لمن يأخذ منهم صدقاتهم ، وكأنّ ذلك المحتاج يمن على المتصدّق ويتفضل عليه بقبول صدقته.

فمثلا نجد في بعض الأحاديث ، أن الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام كانوا أحيانا يقبلون الصّدقة احتراما وتعظيما للصدقة ، ثمّ يعطونها الفقراء ، أو إنّهم كانوا يعطونها للفقير ثمّ يأخذونها منه يقبّلونها ويشمّونها ثمّ يعيدونها إليه ، لماذا؟ لأنّهم وضعوها في يد الله سبحانه!

وبهذا ندرك عظيم الفاصلة بين الآداب الإسلامية وبين الأشخاص الذين يحقرون المحتاجين فيما إذا أرادوا أن يعطوا الشيء اليسير ، أو يعاملونهم بخشونة وقسوة ، بل ويرمون مساعدتهم أحيانا بلا أدب وخلق؟!

وكما قلنا في محلّة ، فإنّ الإسلام يسعى بكلّ جدّ على أن لا يبقى فقير واحد في المجتمع الإسلامي ، إلّا أنّه ممّا لا شك فيه أنّ في كلّ مجتمع أفرادا عاجزين أطفال ،

__________________

(١) تفسير العياشي ، على ما نقل في تفسير البرهان في ذيل الآية.

(٢) تفسير المنار ، ج ١١ ، ص ٣٣. وقد نقل هذا الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا.

راجع : بحار الأنوار ، ج ٩٦ ، ص ١٣٤ ، الطبعة الجديدة.

٢٠٤

يتامى ، مرضى وأمثال هؤلاء ممّن لا قدرة له على العمل ، وهؤلاء يجب تأمين احتياجاتهم عن طريق بيت المال والأغنياء ، لكن هذا التأمين يجب أن يرافقه احترامهم وصيانة شخصياتهم.

ثمّ قالت الآية في النهاية من باب التأكيد :( وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

التّوبة والجبران :

يستفاد من عدّة آيات في القرآن الكريم أنّ التوبة لا تعني الندم على المعصية فحسب، بل يجب أن يرافقها ما يجبر ويكفر عن الذنب ، ويمكن أن يتمثل جبران هذا الخطأ بمساعدة المحتاجين ببذل ما يحتاجونه ، كما هو في هذه الآيات ، وكما مرّ في قصّة أبي لبابة.

ولا فرق في كون الذنب المقترف ذنبا ماليا ، أو أي ذنب آخر ، كما هو الحال في قضية المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ الهدف في الواقع هو تطهير الروح التي تلوّثت بالمعصية من آثار هذه المعصية ، وذلك بالعمل الصالح ، وهذا هو الذي يرجع الروح إلى طهارتها الأولى التي كانت عليها قبل الذنب.

وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مرّت بصورة جديدة ، وتأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ الناس :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فهي تشير إلى أن لا يتصور أحد أنّه إذا عمل عملا ، سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه ، بل إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين يعلمون به إضافة إلى علم اللهعزوجل .

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات ، فإنّ الإنسان ـ عادة ـ إذا أحسّ بأنّ أحدا ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته ، فإنّه يحاول أن يتصرّف تصرفا لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه ، فكيف إذا أحسّ وآمن بأنّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله؟!

٢٠٥

إنّ هذا الاطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر ، لذا فإنّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول :( وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ مسألة عرض الأعمال

إنّ بين أتباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّةعليهم‌السلام ، عقيدة معروفة ومشهورة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام يطلعون على أعمال كل الأمّة ، أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم.

إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّا ، وربّما بلغت حدّ التواتر ، وننقل هنا أقساما منها كنماذج : روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح ، أبرارها وفجارها ، فاحذروها ، وهو قول اللهعزوجل :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) وسكت(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس ، فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح»(٢) .

وفي رواية أخرى عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، أنّ شخصا قال له : ادع الله لي ولأهل بيتي ، فقال : «أولست أفعل؟ والله أنّ أعمالكم لتعرض عليّ في كل يوم وليلة». يقول الراوي ، فاستعظمت ذلك ، فقال لي ، «أمّا تقرأ كتاب اللهعزوجل :( وَقُلِ

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧١ ، باب عرض الأعمال.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢٠٦

اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، هو والله علي بن أبي طالب»(١) .

إنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، وفي بعضها عليعليه‌السلام ، وفي بعضها الآخر ذكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس ، وبعضها جعله كل يوم ، وبعضها في الأسبوع مرّتين ، وبعضها في أوّل كل شهر ، وبعضها عند الموت والوضع في القبر.

ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات ، ويمكن أن تكون كلّها صحيحة ، تماما كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية ، فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم ، والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع ، والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها؟ أم أنّ الأمر كما قاله مفسّر والعامّة ، وهو أنّ الآية تشير إلى أمر طبيعي ، وهو أنّ الإنسان إذا عمل أي عمل ، فإنّه سيظهر ، شاء أم أبي، ومضافا إلى علم الله سبحانه ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة؟

وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال : الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية ، وذلك :

أوّلا : إنّ الآية مطلقة ، وهي تشمل جميع الأعمال ، فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية ، لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر ، وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالبا ، بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضا تعمل في السرّ ، ويلفها الكتمان. ودعوى أن كل الأعمال ، الصالحة منها والطالحة ، أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة. وعلى هذا فإنّ علم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧١ ، باب عرض الأعمال.

٢٠٧

عن طريق غير طبيعي ، بل عن طريق التعليم الإلهي.

ثانيا : إنّ آخر الآية يقول :( فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشر ـ العلنية منها والمخفية ـ وظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد ، وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضا كل الأعمال ـ الظاهرة منها والباطنة ـ ولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية.

وبتعبير آخر ، فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال ، وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال ، فهنا مرحلتان : إحداهما : مرحلة الاطلاع والعلم ، والأخرى : مرحلة الجزاء ، والموضوع واحد في المرحلتين.

ثالثا : إنّ ضميمة المؤمنين في الآية إلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية ، وإلّا فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء ، ومن هنا تتّضح مسألة أخرى بصورة ضمنية ، وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآية ـ كما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضا ـ ليس جميع المؤمنين ، بل فئة خاصّة منهم ، وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى ، ونعني بهم خلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحقيقيين.

والمسألة الأخرى التي يجب الانتباه لها هنا ، وهي ـ كما أشرنا سابقا ـ أنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها ، فإنّي إذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي ، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ نبييصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّتيعليهم‌السلام يطلعون على كل أعمالي ، الحسنة والسيئة في يوم كل يوم ، أو في كل أسبوع ، فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال ، وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن ، تماما كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريرا يوميا أو أسبوعيا ، تسجل فيه جزئيات أعمالهم ، يرفع إلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم.

٢٠٨

٢ ـ هل الرّؤية هنا تعني النظر؟

المعروف بين جميع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى :( فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ) تعني المعرفة ، لا العلم ، لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين.

لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي ، وهو مشاهدة المحسوسات ، لا بمعنى العلم ، ولا بمعنى المعرفة ، فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان ، والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه.

وأمّا بالنسبة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، فلا مانع من ذلك أيضا ، حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها ، لأنّا نعلم أنّ أعمال الإنسان لا تفنى ، بل تبقى إلى يوم القيامة.

٣ ـ لا شك أنّ اللهعزوجل يعلم بالأعمال قبل وقوعها ، والذي في جملة :( فَسَيَرَى اللهُ ) إشارة إلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود.

* * *

٢٠٩

الآية

( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦) )

سبب النّزول

قال جماعة من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن غزوة تبوك ، وهم : «هلال بن أمية» و «مرارة بن ربيع» و «كعب بن مالك» ، وسيأتي بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية (١١٨) من هذه السورة ، إن شاء الله تعالى.

ويستفاده من بعض الرّوايات الأخرى أنّ هذه الآية نزلت في بعض الكفار الذين قتلوا الشخصيات الإسلامية الكبرى ـ كحمزة سيد الشهداء ـ في ساحات الحروب ، ثمّ اهتدوا ودخلوا في دين الإسلام.

التّفسير

في هذه الآية إشارة إلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيدا عاقبة أمرهم ، فلا هم مستحقون حتما للرحمة الإلهية ، ولا من المغضوب عليهم حتما ، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم :( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ

٢١٠

إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) .

«مرجون» مأخوذ من مادة (إرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف ، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل ، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئا ما أحيانا رجاء تحقق هدف من هذا التأخير ، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير ، إلّا أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل.

إنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة ، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يكتبون من الأشقياء ، بل يوكل أمرهم إلى اللطف الإلهي كيف سيعامل هؤلاء ، وهذا طبعا حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.

وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ، بل يقتضي بعلمه وحكمته :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

سؤال :

وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية ، وهو ما الفرق بين هذه الفئة، والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية (١٠٢) من هذه السورة؟ فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين ، وكلا المجموعتين تابوا ، لأنّ المجموعة الأولى اعترفوا بذنوبهم ، وأظهروا الندم عليها ، والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى :( وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) . وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء.

وللجواب على هذا السؤال نقول : إنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين :

١ ـ إنّ الطائفة الأولى تابوا بسرعة ، وأظهروا ندمهم بصورة واضحة ، فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد ، وبعبارة موجزة : إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم

٢١١

صريحا ، وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت.

أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية ، ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم ، ولم يظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم ، فهم في الواقع كانوا يطمحون إلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر.

إنّ هؤلاء ـ ومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أشير إليهم ، وسيأتي بيان وضعهم ـ بقوا في حالة الخوف والرجاء ، ولهذا نرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم ، وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل ، ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية ، فقد بقي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في انتظار الوحي ، حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوما أو أقل.

ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأولى قد ختمت بقوله :( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهو دليل على قبول توبتهم ، أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التي لا تدل من قريب أو بعيد على قبول توبتهم.

ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافيا لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة، خاصّة في عصر نزول الآيات ، بل يشترط مع ذلك الإقدام على الاعتراف الصريح بالذنب، والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته ، وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة.

٢ ـ الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين ، هو أنّ الطائفة الأولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير ، أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إلى الأعداء ، إلّا أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء ، ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم. غير أن قتل حمزة وأمثاله

٢١٢

لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه ، ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله وإرادته ، إمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم.

وعلى أي حال ، فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول ، والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك ، أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما(١) .

ولو دققنا النظر حقا لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين ، ويمكن أن يكون كل منهما مقصودا في تفسير الآية.

* * *

__________________

(١) للاطلاع على هذه الرّوايات ، راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٦٥ ، وتفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٠٦.

٢١٣

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) )

سبب النّزول

تتحدث الآيات أعلاه عن جماعة أخرى من المنافقين الذين أقدموا ـ من أجل تحقيق أهدافهم المشؤومة ـ على بناء مسجد في المدينة ، عرف فيما بعد ب (مسجد الضرار).

٢١٤

وقد ذكر هذا الموضوع كل المفسّرين الإسلاميين ، وكثير من كتب التاريخ والحديث ، مع وجود اختلافات في جزئياته.

وخلاصة القضية ـ كما تستفاد من التفاسير والأحاديث المختلفة ـ أنّ جماعة من المنافقين أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه أن يسمح لهم ببناء مسجد في حي بني سليم ـ قرب مسجد قبا ـ حتى يصلي فيه العاجزون والمرضى والشيوخ ، وكذلك ليصلي فيه جماعة من الناس الذين لا يستطيعون أن يحضروا مسجد قبا في الأيّام الممطرة ، ويؤدوا فرائضهم الإسلامية ، وكان ذلك في الوقت الذي كان فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عازما على التوجه إلى تبوك.

فأذن لهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّهم لم يكتفوا بذلك ، بل طلبوا منه أن يصلي فيه، فأخبرهم بأنّه عازم على السفر الآن ، وعند عودته بإذن الله فسوف يأتي مسجدهم ويصلي فيه.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه الحضور في مسجدهم والصلاة فيه ، وأن يدعوا الله لهم بالبركة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل بعد أبواب المدينة ، فنزل الوحي وتلا عليه هذه الآيات ، وكشف الستار عن الأعمال هؤلاء ، فأمر النّبي بحرق المسجد المذكور ، وبهدم بقاياه ، وأن يجعل مكانه محلا لرمي القاذورات والأوساخ.

إذا نظرنا إلى الوجه الظاهري لهذا العمل ، فسوف نتحير في البداية ، فهل أن بناء مسجد لحماية المرضى والطاعنين في السنن من الظروف الطارئة ، والذي هو في حقيقته عمل ديني وخدمة إنسانية ، يعدّ عملا مضرا وسيئا حتى يصدر في حقّه هذا الحكم؟ إلّا أنّنا إذا دققنا النظر في الواقع الباطني وحققناه رأينا أنّ هذا الأمر بهدمه في منتهى الدقة.

وتوضيح ذلك ، أنّ رجلا في زمن الجاهلية يقال له : أبو عامر ، كان قد اعتنق النصرانية ، وسلك مسلك الرهبانية ، وكان يعد من الزهاد والعباد وله نفوذ واسع في

٢١٥

طائفة الخزرج.

وعند ما هاجر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة واحتضنه المسلمون ونصروه وبعد انتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر ، رأى أبو عامر ـ الذي كان يوما من المبشرين بظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّ الناس قد انفضوا من حوله ، وبقي وحيدا ، وعند ذلك قرر محاربة الإسلام ، فهرب من المدينة إلى كفار مكّة ، واستمد منهم القوّة لمحاربة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا قبائل العرب لذلك فكان ينفذ ويقود جزءا من مخططات معركة أحد ، وهو الذي أمر بحفر الحفر بين الصفين والتي سقط النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحدها فجرحت جبهته وكسرت رباعيته.

فلمّا انتهت غزوة أحد بكل ما واجه المسلمون فيها من مشاكل ونوائب ، دوى صوت الإسلام أكثر من ذي قبل ، وعمّ كل الأرجاء ، فهرب أبو عامر من المدينة وذهب إلى هرقل ملك الروم ليستعين به قتال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليرجع إلى المسلمين ويقاتلهم في جحفل لجب وجيش عظيم.

ويلزم هنا أن نذكر هذه النقطة ، وهي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى صدر منه من التحريض والدعوة لقتال المسلمين ونبيّهم سمّاه (فاسقا).

يقول البعض : إنّ الموت لم يمهله حتى يطلع هرقل على نواياه ومشاريعه ، إلّا أنّ البعض الآخر يقول : إنّه اتصل بهرقل وتحمس لوعوده!

على كل حال ، فإنّه قبل أن يموت أرسل رسالة إلى منافقي المدينة يبشرهم فيها بالجيش الذي سيصل لمساعدتهم ، وأكّد عليهم بالخصوص على أن يبنوا له مركزا ومقرّا في المدينة ليكون منطلقا لنشاطات المستقبل.

ولما كان بناء مثل هذا المقر ، وباسم أعداء الإسلام غير ممكن عمليا ، رأى المنافقون أن يبنوا هذا المقر تحت غطاء المسجد ، وبعنوان مساعدة المرضى والعاجزين.

وأخيرا تمّ بناء المسجد ، ويقال أنّهم اختاروا شابا عارفا بالقرآن من بين

٢١٦

المسلمين يقال له : «مجمع بن حارثة» أو «مجمع بن جارية» وأوكلوا له إمامة المسجد.

إلّا أنّ الوحي الإلهي أزاح الستار عن عمل هؤلاء ، وربّما لم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء قبل ذهابه إلى تبوك ليواجه هؤلاء بكل شدّة ، من أجل أن يتّضح أمرهم أكثر من جهة ، ولئلا ينشغل فكريا وهو في مسيرة إلى تبوك بما يمكن أن يحدث فيما لو أصدر الأمر.

وكيف كان ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتف بعدم الصلاة في المسجد وحسب ، بل إنّه ـ كما قلنا ـ أمر بعض المسلمين ـ وهم مالك بن دخشم ، ومعنى بن عدي ، وعامر بن سكر أو عاصم بن عدي ـ أن يحرقوا المسجد ويهدموه ، فنفذ هؤلاء ما أمروا به ، فعمدوا إلى سقف المسجد فحرّقوه ، ثمّ هدموا الجدران ، وأخيرا حولوه إلى محل لجمع الفضلات والقاذورات(١) .

التّفسير

معبد وثني في صورة مسجد!

أشارت الآيات السابقة إلى وضع مجاميع مختلفة من المخالفين ، وتعرّف الآيات التي نبحثها مجموعة أخرى منهم ، المجموعة التي دخلت حلبة الصراع بخطة دقيقة وذكية ، إلّا أن اللطف الإلهي أدرك المسلمين ، وبدد أحلام المنافقين بإبطال مكرهم وإحباط خطتهم.

فالآية الأولى تقول :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ) (٢) وأخفوا أهدافهم الشريرة

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح الرازي ، وتفسير المنار ، وتفسير الميزان ، وتفسير نور الثقلين ، وكتب أخرى.

(٢) بالرغم من أنّ المفسّرين قد أبدوا وجهات نظر مختلفة من الناحية الأدبية حول تركيب هذه الجملة ، إلّا أنّ الظاهر هو أن هذه الجملة معطوفة على الجمل السابقة التي وردت في شأن المنافقين ، وتقديرها هكذا : «ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ...».

٢١٧

تحت هذا الإسلام المقدس ، ثمّ لخصت أهدافهم في أربعة أهداف :

١ ـ إنّ هؤلاء كانوا يقصدون من هذا العمل إلحاق الضرر بالمسلمين ، فكان مسجدهم (ضرارا).

«الضرار» تعني الإضرار العمدي ، وهؤلاء في الواقع بعكس ما كانوا يدّعونه من أنّ هدفهم تأمين مصالح المسلمين ومساعدة المرضى والعاجزين عن العمل ، كانوا يسعون من خلال هذه المقدمات إلى المكيدة بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته ، وسحق المسلمين ، بل إذا استطاعوا أن يقتلعوا الدين الإسلامي وجذوره من صفحة الوجود فإنّهم سوف لا يقصرون في هذا السبيل.

٢ ـ تقوية أسس الكفر ، ومحاولة إرجاع الناس إلى الحالة التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام : (وكفرا).

٣ ـ إيجاد الفرقة بين المسلمين ، لأنّ اجتماع فئة من المسلمين في هذا المسجد سيقلل من عظمة التجمع في مسجد قبا الذي كان قريبا منه ، أو مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يبعد عنه ،( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

ويظهر من هذه الجملة ـ وكذلك فهم بعض المفسّرين ـ أنّ المسافة بين المساجد يجب أن لا تكون قليلة بحيث يؤثر الاجتماع في مسجد على جماعة المسجد الآخر ، وعلى هذا فإنّ الذين يبنون المساجد أحدها إلى جانب الآخر بدافع من التعصب القومي ، أو الأغراض الشخصية ويفرقون جماعات المسلمين بحيث تبقى صفوف الجماعة خالية لا روح فيها ولا جاذبية ، يرتكبون ما يخالف الأهداف الإسلامية.

٤ ـ والهدف الأخير لهؤلاء هو تأسيس مقر ومركز لإيواء المخالفين للدين وأصحاب السوابق ، السيئة ، والانطلاق من هذا المقر في سبيل تنفيذ خططهم ومؤامراتهم :( وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ ) .

إلّا أنّ ممّا يثير العجب أنّ هؤلاء قد أخفوا كل هذه الأغراض الشريرة

٢١٨

والأهداف المشؤومة في لباس جميل ومظهر خداع ، وأنّهم لا يريدون إلّا الخير:( وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ) وهذا هو دين المنافقين وديدنهم في كل العصور ، فإنّهم إضافة إلى تلبسهم بلباس حسن ، فإنّهم يتوسلون عند الضرورة بأنواع الأيمان الكاذبة من أجل تضليل الرأي العام ، وانحراف الأفكار.

إلّا أنّ القرآن الكريم يبيّن أن الله تعالى الذي يعلم السرائر وما في مكنون الضمائر ، والذي تساوى لديه الظاهر والباطن ، والغيب والشهادة يشهد على كذب هؤلاء :( وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

في هذه الجملة نلاحظ عدة تأكيدات لتكذيب هؤلاء ، فهي جملة اسمية أوّلا ، ثمّ إنّ كلمة (إن) للتأكيد ، وأيضا اللام في (لكاذبون) ، والتي تسمى لام الابتداء تفيد التأكيد، وكذلك فإنّ مجيء كلمة (كاذبون) مكان الفعل الماضي دليل على استمرارية كذب هؤلاء ، وبهذه التأكيدات فإنّ الله سبحانه وتعالى قد كذّب أيمان هؤلاء المغلظة والمؤكدة أشد تكذيب.

يؤكّد الله سبحانه وتعالى في الآية التالية تأكيدا شديدا على مسألة حياتية مهمّة ، ويأمر نبيّه بصراحة أن( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً ) بل( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) لا المسجد الذي أسس من أوّل يوم على الكفر والنفاق وتقويض أركان الدين.

إنّ كلمة (أحق) وإن كانت أفعل التفضيل ، إلّا أنّها لم تأت هنا بمعنى المقارنة بين شيئين في التناسي والملاءمة ، بل هي تقارن بين التناسب وعدمه ، والملاءمة وعدمها ، ومثل هذا التعبير يستعمل كثيرا في آيات القرآن الكريم والأحاديث ، بل وفي محادثاتنا اليومية ، وله نماذج عديدة.

فمثلا نقول للشخص المجرم والسارق : إنّ الاستقامة والعمل الصالح الصحيح خير لك ، فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ السرقة والتلوث بالجريمة شيء حسن ، وأن الاستقامة والطهارة أحسن ، بل معناه أن الاستقامة وحسن السيرة شيء حسن ،

٢١٩

وأنّ السرقة عمل سيء وغير مناسب.

وقال المفسّرون : إنّ المسجد الذي أشارت الآية إلى أنّه يستحق أن يصلي فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو «مسجد قبا» حيث بنى المنافقون مسجد ضرار على مقربة منه.

واحتمل أيضا أن يكون المقصود منه مسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو كل المساجد التي بنيت على أساس التقوى ، إلّا أنّنا لا حظنا تعبير( أَوَّلِ يَوْمٍ ) وأن مسجد قبا هو أوّل مسجد بني في المدينة(١) ، علمنا أنّ الاحتمال الأوّل هو الأنسب والأرجح ، ولو أنّ هذه الكلمة تناسب أيضا مساجد أخرى كمسجد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّه بالإضافة إلى أنّ هذا المسجد قد أسس على أساس التقوى ، فإنّ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .

ولكن هل المراد من الطهارة في هذه الآية هي الطهارة الظاهرية والجسمية ، أم المعنوية؟

هناك بحث بين المفسّرين في الرّواية التي نقلت في تفسير (التبيان) و (مجمع البيان) في ذيل هذه الآية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لأهل قبا : «ماذا تفعلون في طهركم ، فإنّ الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء؟» قالوا : نغسل أثر الغائط.

وقد نقلت روايات أخرى بهذا المضمون عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، لكن ـ كما قلنا سابقا وأشرنا مرارا ـ مثل هذه الرّوايات لا تدل على انحصار مفهوم الآية في هذا المصداق ، بل ـ وكما يشير ظاهر إطلاق الآية ـ أنّ للطهارة هنا معنى واسعا يشمل كل أنواع التطهير ، سواء التطهير الروحي من آثار الشرك والذنوب ، أو التطهير الجسمي من الأوساخ والنجاسات.

وفي الآية الثّالثة من الآيات مقارنة بين فريقين وفئتين : المؤمنين الذين بنوا مساجد كمسجد قبا على أساس التقوى ، والمنافقين الذين بنوه على أساس الكفر والنفاق والتفرقة والفساد. فهي تقول أوّلا :( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٠٧.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608