الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261423 / تحميل: 6512
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

والحاصل أنه كان يكبِّر كثيراً من الاُمور الصغيرة وكانت له روحية خاصة تحمله على ذلك.

ويشهد على ذلك أن الشيخ والنجاشي ربّما ضعفا رجلاً ، والغضائري أيضاً ضعفه ، لكن بين التعبيرين اختلافاً واضحاً.

مثلاً ذكر الشيخ في عبدالله بن محمد انه كان واعظاً فقيهاً ، وضعفه النجاشي بقوله : « إنه ضعيف » وضعَّفه الغضائري بقوله : « انه كذاب ، وضّاع للحديث لا يلتفت إلى حديثه ولا يعبأ به ».

ومثله علي بن أبي حمزة البطائني الذي ضعفه أهل الرجال ، فعرفه الشيخ بأنه واقفّي ، والعلاّمة بأنه احد عمد الواقفة. وقال الغضائري : « عليّ بن أبي حمزة لعنه الله ، أصل الوقف وأشدّ الخلق عداوة للوليّ من بعد أبي إبراهيم ».

ومثله إسحاق بن أحمد المكنّى بـ « أبي يعقوب أخي الاشتر » قال النجاشي : « معدن التَّخليط وله كتب في التخليط » وقال الغضائري : « فاسد المذهب ، كذّاب في الرواية ، وضّاع للحديث ، لا يلتفت إلى ما رواه »(1) .

وبذلك يعلم ضعف ما استدل به على عدم صحَّة نسبة الكتاب إلى ابن الغضائري من أن النجاشي ذكر في ترجمة الخيبري عن ابن الغضائري ، انه ضعيف في مذهبه ، ولكن في الكتاب المنسوب اليه : « إنه ضعيف الحديث ، غالي المذهب » فلو صحَّ هذا الكتاب ، لذكر النجاشي ما هو الموجود أيضاً(2) .

وذلك لما عرفت من أن الرجل كان ذا روحيَّة خاصَّة ، وكان إذا رأى

__________________

1 ـ لاحظ سماء المقال : 1 / 19 ـ 21 بتلخيص منّا.

2 ـ معجم رجال الحديث : 1 / 114 ، من المقدَّمات طبعة النجف ، والصفحة 102 طبعة لبنان.

١٠١

مكروهاً ، اشتدَّت عنده بشاعته وكثرت لديه شناعته ، فيأتي بألفاظ لا يصحّ التعبير بها الا عند صاحب هذه الروحية ، ولما كان النجاشي على جهة الاعتدال نقل مرامه من دون غلوّ وإغراق.

وبالجملة الآفة كلّ الآفة في رجاله هو تضعيف الأجلة والموثَّقين مثل « أحمد بن مهران » قال : « أحمد بن مهران روى عنه الكليني ضعيف » ولكن ثقة الاسلام يروي عنه بلا واسطة ، ويترحَّم عليه كما في باب مولد الزهراءعليها‌السلام (1) قال : « أحمد بن مهرانرحمه‌الله رفعه وأحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار الشيباني » إلى غير ذلك من الموارد.

ولأجل ذلك لا يمكن الاعتماد على تضعيفاته ، فضلا عن معارضته بتوثيق النجاشي خبير الفنّ والشيخ عماد العلم. نعم ربما يقال توثيقاته في أعلى مراتب الاعتبار ولكنه قليل وقد عرفت من المحقق الداماد من أنه قل أن يسلم أحد من جرحه او ينجو ثقة من قدحه(2) . وقد عرفت آنفاً وسيأتي أن الاعتماد على توثيقه كالاعتماد على جرحه.

النظرية الخامسة

وفي الختام نشير إلى نظرية خامسة وان لم نوعز اليها في صدر الكلام وهي أنه ربما يقال بعدم اعتبار تضعيفات ابن الغضائري لانه كان جراحا كثير الردّ على الرواة ، وقليل التعديل والتصديق بهم ومثل هذا يعدّ خرقاً للعادة وتجاوزاً عنها ، وانما يعتبر قول الشاهد إذا كان انسانا متعارفاً غير خارق للعادة. ولأجل ذلك لو ادعى رجلان رؤية الهلال مع الغيم الكثيف في السماء وكثرة الناظرين ، لا يقبل قولهما ، لان مثل تلك الشهادة تعدّ على خلاف العادة ، وعلى ذلك فلا يقبل تضعيفه ، ولكن يقبل تعديله.

__________________

1 ـ الكافي : 1 / 458 ، الحديث 3.

2 ـ لاحظ سماء المقال : 22.

١٠٢

وفيه : أن ذلك إنما يتمّ لو وصل الينا كتاب الممدوحين منه ، فعندئذ لو كان المضعفون أكثر من الممدوحين والموثقين ، لكان لهذا الرأي مجال. ولكن يا للأسف! لم يصل الينا ذلك الكتاب ، حتى نقف على مقدار تعديله وتصديقه ، فمن الممكن أن يكون الممدوحون عنده أكثر من الضعفاء ، ومعه كيف يرمى بالخروج عن المتعارف؟

ولأجل ذلك نجد أن النسبة بين ما ضعفه الشيخ والنجاشي أو وثَّقاه ، وما ضعَّفه ابن الغضائري او وثقه ، عموم من وجه. فربَّ ضعيف عندهما ثقة عنده وبالعكس ، وعلى ذلك فلا يصحّ رد تضعيفاته بحجّة أنه كان خارجاً عن الحدّ المتعارف في مجال الجرح.

بل الحقّ في عدم قبوله هو ما أوعزنا اليه من أن توثيقاته وتضعيفاته لم تكن مستندة الى الحسّ والشهود والسماع عن المشايخ والثقات ، بل كانت مستندة الى الحدس والاستنباط وقراءة المتون والروايات ، ثمَّ القضاء في حقّ الراوي بما نقل من الرواية ، ومثل هذه الشهادة لا تكون حجة لا في التضعيف ولا في التوثيق. نعم ، كلامه حجة في غير هذا المجال ، كما إذا وصف الراوي بأنه كوفيٌّ او بصريٌّ أو واقفيٌّ او فطحيٌّ او له كتب ، والله العالم بالحقائق.

١٠٣
١٠٤

الفصل الرابع

المصادر الثانوية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الأربعة

2 ـ الجوامع الرجالية في العصور المتأخرة.

3 ـ الجوامع الرجالية الدارجة على منهج القدماء.

4 ـ تطوّر في تأليف الجوامع الرجالية.

١٠٥
١٠٦

1 ـ الأصول الرجالية الاربعة

* فهرس الشيخ منتجب الدين.

* معالم العلماء.

* رجال ابن داود.

* خلاصة الاقوال في علم الرجال.

١٠٧
١٠٨

الاصول الرجالية الاربعة

قد وقفت بفضل الابحاث السابقة ، على الاصول الاولية لعلم الرجال ، التي تعد امهات الكتب المؤلفة في العصور المتأخرة ومؤلفو هذه الاصول يعدون في الرعيل الاول من علماء الرجال ، لا يدرك لهم شأو ولا يشق لهم غبار ، لانهم5 قد عاصروا أساتذة الحديث وأساطينه ، وكانوا قريبي العهد من رواة الاخبار ونقلة الآثار ، ولاجل ذلك تمكنوا تمكناً تاماً مورثاً للاطمئنان ، من الوقوف على أحوالهم وخصوصيات حياتهم ، اما عن طريق الحس والسماع ـ كما هو التحقيق ـ أو من طريق جمع القرائن والشواهد المورثة للاطمئنان الذي هو علم عرفي ، كما سيوافيك تحقيقه في الابحاث الآتية.

وقد تلت الطبقة الاولى ، طبقة اخرى تعد من اشهر علماء الرجال بعدهم ، كما تعد كتبهم مصادر له بعد الاصول الاولية نأتي بأسمائهم وأسماء كتبهم ، وكلهم كانوا عائشين في القرن السادس.

ان أقدم فهرس عام لكتب الشيعة ، هو فهرس الشيخ أحمد بن الحسين بن عبيدالله الغضائري ، الذي قد تعرفت عليه وما حوله من الاقوال والآراء.

نعم ، ان فهرست أبي الفرج محمد بن اسحاق المعروف بابن النديم

١٠٩

( المتوفّى عام 385 هـ ) وان كان أقدم من فهرس ابن الغضائري ، لكنه غير مختص بكتب الشيعة ، وانما يضم بين دفتيه الكتب الاسلامية وغيرها ، وقد أشار الى تصانيف قليلة من كتب الشيعة.

وقد قام الشيخ الطوسي بعد ابن الغضائري ، فألف فهرسه المعروف حول كتب الشيعة ومؤلفاتهم ، وهو من احسن الفهارس المؤلفة ، وقد نقل عنه النجاشي في فهرسه واعتمد عليه ، وان كان النجاسي أقدم منه عصراً وأرسخ منه قدماً في هذا المجال.

وقد قام بعدهم في القرن السادس ، العلاّمتان الجليلان ، الشيخ الحافظ ابو الحسن منتجب الدين الرازي ، والشيخ الحافظ محمَّد بن عليّ بن شهرآشوب السروي المازندراني ، فأكملا عمل الشيخ الطوسي وجهوده إلى عصرهما ، وإليك الكلام فيهما إجمالاً :

1 ـ فهرس الشيخ منتجب الدين

وهو تأليف الحافظ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن الحسن بن الحسين ( أخي الشيخ الصدوققدس‌سره ) بن علي ( والد الصدوق ). عرَّفه صاحب الرياض بقوله : « كان بحراً لا ينزف ، شيخ الاصحاب ، صاحب كتاب الفهرس. يروي عن الشيخ الطبرسي ( المتوفّى عام 548 هـ ) وأبي الفتوح الرازي ، وعن جمع كثير من علماء العامة والخاصَّة. ويروي عن الشيخ الطّوسي ( المتوفّى 460 هـ ) بواسطة عمّه الشيخ بابويه بن سعد.

وهذا الامام الرّافعي ( وهو الشيخ ابو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي الشافعي ، المتوفّى عام 623 ) يعرفه في تاريخه ( التدوين ) : الشيخ عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه شيخ ريّان من علم الحديث سماعاً وضبطاً وحفظاً وجمعاً ، قلَّ من يدانيه في هذه الاعصار في كثرة الجمع والسماع ، قرأت عليه بالرىّ سنة 584 هـ ، وتولد سنة 504 هـ ، ومات بعد

١١٠

سنة 585 هـ ، ثمَّ قال : ولئن اطلت عند ذكره بعض الاطالة فقد كثر انتفاعي بمكتوباته وتعاليقه فقضيت بعض حقه باشاعة ذكره وأحواله »(1) .

وقال الشيخ الحرّ العاملي في ترجمته : « الشيخ الجليل عليّ بن عبيدالله بن الحسن بن الحسين بن بابويه القمّي ، كان فاضلا عالما ثقة صدوقاً محدّثاً حافظاً راوية علاّمة ، له كتاب الفهرس في ذكر المشايخ المعاصرين للشيخ الطوسي والمتأخرين إلى زمانه »(2) .

وقد ألَّفه للسيد الجليل أبي القاسم يحيى بن الصدر(3) السعيد المرتضى باستدعاء منه حيث قال السيد له : « إن شيخنا الموفق السعيد أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسي ـ رفع الله منزلته ـ قد صنف كتابا في أسامي مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، ولم يصنف بعده شيء من ذلك » فأجابه الشيخ منتجب الدين بقوله : « لو أخَّر الله أجلي وحقق أملي ، لأضفت اليه ما عندي من أسماء مشايخ الشيعة ومصنّفيهم ، الذين تأخر زمانهم عن زمان الشيخ أبي جعفررحمه‌الله وعاصروه » ثمَّ يقول : « وقد بنيت هذا الكتاب على حروف المعجم اقتداء بالشيخ أبي جعفررحمه‌الله وليكون أسهل مأخذاً ومن الله التوفيق »(4) .

وكلامه هذا ينبئ عن أنه لم يصل اليه تأليف معاصره الشيخ محمد بن عليّ بن شهرآشوب ، الذي كتب كتابه الموسوم بـ « معالم العلماء » تكملة لفهرس الشيخ ، ولأجل ذلك قام بهذا العمل من غير ذكر لذلك الكتاب.

__________________

1 ـ رياض العلماء : 4 / 140 ـ 141 ، ولكن التحقيق انه كان حيّاً الى عام 600 هـ. لاحظ مقال المحقق السيد موسى الزنجاني المنشور في مجموعة حول ذكرى العلاّمة الامينيقدس‌سره .

2 ـ أمل الآمل : 2 / 194.

3 ـ المدفون بـ « ري » المعروف عند الناس بامام زادة يحيى وربما يحتمل تعدد الرجلين.

4 ـ فهرس الشيخ منتجب الدين : 5 ـ 6.

١١١

وقد ألَّف الشيخ الطوسي الفهرس بأمر استاذه المفيد الذي توفي سنة 413 هـ ، وفي حياته ، كما صرَّح به في أوله.

وقد أورد الشيخ منتجب الدين في فهرسه هذا ، من كان في عصر المفيد إلى عصره المتجاوز عن مائة وخمسين سنة.

وفي الختام ، نقول : « إن الحافظ بن حجر العسقلاني ( المتوفّى عام 852 هـ ) قد أكثر النقل عن هذا الفهرس في كتابه المعروف بـ « لسان الميزان » ، معبّراً عنه بـ « رجال الشيعة » أو « رجال الامامية » ولا يريد منهما إلا هذا الفهرس ، ويعلم ذلك بمقارنة ما نقله في لسان الميزان ، مع ما جاء في هذا الفهرس ، كما أن لصاحب هذا الفهرس تأليفاً آخر اسماه تاريخ الريّ ، وينقل منه أيضاً ابن حجر في كتابه المزبور ، والأسف كل الاسف أن هذا الكتاب وغيره مثل « تاريخ ابن ابي طيّ »(1) و « رجال عليّ بن الحكم » و « رجال الصدوق » التي وقف على الجميع ، ابن حجر في عصره ونقل عنها في كتابه « لسان الميزان » لم تصل إلينا ، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

ثم إن الغاية من اقتراح السيد عزّ الدين يحيى ، نقيب السادات ، هو كتابة ذيل لفهرس الشيخ على غراره ، بأن يشتمل على أسامي المؤلفين ، ومؤلفاتهم واحداً بعد واحد ، وقد قبل الشيخ منتجب الدين اقتراح السيّد ، وقام بهذا العمل لكنهقدس‌سره عدل عند الاشتغال بتأليف الفهرس عن هذا النمط ، فجاء بترجمة كثير من شخصيات الشيعة ، يناهز عددهم إلى 540 شخصية علمية وحديثية من دون أن يذكر لهم أصلا وتصنيفا ، ومن ذكر لهم كتاباً لا يتجاوز عددهم عن حدود مائة شخص.

نعم ما يوافيك من الفهرس الآخر لمعاصره ـ أعني معالم العلماء ـ فهو على غرار فهرس الشيخ حذو القذّة بالقذّة.

__________________

1 ـ راجع في الوقوف على وصف هذا التاريخ وما كتبه في طبقات الامامية ايضا « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » ج 3 ، ص 219 ـ 220 هذا وتوفي ابن ابي طي سنة 630 هـ.

١١٢

2 ـ معالم العلماء في فهرس كتب الشيعة وأسماء المصنفين

وهو تأليف الحافظ الشهير محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني ، المولود عام 488 هـ ، والمتوفّى سنة 588 هـ ، وهو اشهر من أن يعرّف ، فقد أطراه أرباب المعاجم من العامة والخاصّة.

قال صلاح الدين الصفدي : « محمد بن علي بن شهرآشوب ابو جعفر السروي المازندراني ، رشيد الدين الشيعي ، احد شيوخ الشيعة. حفظ القرآن وله ثمان سنين ، وبلغ النهاية في أصول الشيعة ، كان يرحل اليه من البلاد ، ثم تقدَّم في علم القرآن والغريب والنحو ، ذكره ابن أبي طيّ في تاريخه ، وأثنى عليه ثناء بليغاً ، وكذلك الفيروزآبادي في كتاب البلغة في تراجم أئمة النَّحو واللغة ، وزاد أنه كان واسع العلم ، كثير العبادة دائم الوضوء ، وعاش مائة سنة الا ثمانية أشهر ، ومات سنة 588 هـ »(1) .

وذكره الشيخ الحرّ العاملي في « أمل الآمل » في باب المحمدين ، وذكر كتبه الكثيرة ، التي أعرفها « مناقب آل أبي طالب » وقد طبع في أربعة مجلدات ، و « متشابه القرآن » وهو من محاسن الكتب وقد طبع في مجلد واحد ، و « معالم العلماء » الذي نحن بصدد تعريفه ، وهذا الكتاب يتضمن 1021 ترجمة وفي آخرها « فصل فيما جهل مصنّفه » و « باب في بعض شعراء أهل البيت » وهذا الفهرس ، كفهرس الشيخ منتجب الدين تكملة لفهرس الشيخ الطوسي ، والمؤلفان متعاصران ، والكتابان متقاربا التأليف ، وقد أصبح معالم العلماء من المدارك المهمة لعلماء الرجال ، كالعلامة الحلي في « الخلاصة » ، ومن بعده.

__________________

1 ـ الوافي بالوفيات : 4 / 164.

١١٣

3 ـ رجال ابن داود

وهو تأليف تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلي المولود سنة 647 ، أي قبل تولد العلاّمة بسنة ، والمتوفّى بعد سنة 707 هـ ، تتلمذ على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس ( المتوفّى سنة 673 هـ ) قرأ عليه أكثر كتاب « البشرى » و « الملاذ » حتى قال : « وأكثر فوائد هذا الكتاب من اشاراته وتحقيقاته ، رباني وعلمني وأحسن إلي »(1) .

كما قرأ على الامام نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى المعروف بالمحقق ، وقال في حقه : « قرأت عليه ورباني صغيراً ، وكان له علي احسان عظيم والتفات ، وأجاز لي جميع ما صنفه وقرأه ورواه »(2) .

مميزات رجال ابن داود

ومن مزايا ذلك الكتاب ، أنه سلك فيه مسلكاً لم يسبقه أحد من الاصحاب ، لانه رتبه على الحروف ، الاول فالاول ، من الاسماء وأسماء الاباء والاجداد ، وجمع ما وصل اليه من كتب الرجال مع حسن الترتيب وزيادة التهذيب ، فنقل ما في فهرس الشيخ والنجاشي ، ورجال الكشي ، والشيخ وابن الغضائري والبرقي والعقيقي وابن عقدة والفضل بن شاذان وابن عبدون ، وجعل لكل كتاب علامة ولم يذكر المتأخرين عن الشيخ إلا اسماء يسيرة ، وجعل كتابه في جزأين ، الاول يختص بذكر الموثقين والمهملين ، والثاني بالمجروحين والمجهولين.

وذكر في آخر القسم الاول ، تحت عنوان خاص ، جماعة وصفهم النجاشي بقوله « ثقة ثقة » مرتين ، عدتهم أربعة وثلاثون رجلاً مرتبين على

__________________

1 ـ لاحظ رجال ابن داود : 45 ـ 46 طبعة النجف.

2 ـ رجال ابن داود : 62 طبعة النجف.

١١٤

حروف الهجاء ، ثم أضاف بأن الغضائري جاء في كتاب خمسة رجال زيادة على ما ذكره النجاشي ، ووضف كلا منهم بأنه « ثقة ثقة » مرتين ، ثم ذكر خمسة فصول لا غنى للباحث عنها ، كل فصل معنون بعنوان خاص.

ثم ذكر في آخر القسم الثاني ، سبعة عشر فصلاً لا يستغني عنها الباحثون ، كل فصل معنون بعنوان خاص ثم أورد تنبيهات تسعة مفيدة.

وبما أنه وقع في هذا الكتاب إشتباهات عند النقل عن كتب الرجال ، مثلا نقل عن النجاشي مطلباً وهو للكشّي أو بالعكس ، قام المحقق الكبير السيد محمد صادق آل بحر العلوم في تعليقاته على الكتاب ، باصلاح تلك الهفوات ولعل أكثر تلك الهفوات نشأت من استنساخ النساخ ، وعلى كل تقدير ، فلهذا الكتاب مزية خاصة لا توجد في قرينه الآتي أعني خلاصة العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ.

قال الافندي في « رياض العلماء » : « وليعلم أن نقل ابن داود في رجاله عن كتب رجال الاصحاب ، ما ليس فيها ، مما ليس فيه طعن عليه ، إذ أكثر هذا نشأ من اختلاف النسخ ، والازدياد والنقصان الحاصلين من جانب المؤلفين أنفسهم بعد اشتهار بعض نسخها وبقي في أيدي الناس على حالته الاولى من غير تغيير ، كما يشاهد في مصنفات معاصرينا أيضاً ولا سيّما في كتب الرجال التي يزيد فيها مؤلفوها ، الأسامي والأحوال يوماً فيوماً وقد رأيت نظير ذلك في كتاب فهرست الشيخ منتجب الدين ، وفهرست الشيخ الطوسي ، وكتاب رجال النجاشي وغيرها ، حتى إني رأيت في بلدة الساري نسخة من خلاصة العلاّمة قد كتبها تلميذه في عصره ، وكان عليها خطه وفيه اختلاف شديد مع النسخ المشهورة بل لم يكن فيها كثير من الأسامي والأحوال المذكورة في النسخ المتداولة منه »(1) .

__________________

1 ـ رياض العلماء : 1 / 258.

١١٥

أقول : ويشهد لذلك ان المؤلفات المطبوعة في عصرنا هذا تزيد وتنقص حسب طبعاتها المختلفة ، فيقوم المؤلف في الطبعة اللاحقة بتنقيح ما كتب بإسقاط بعض ما كتبه وإضافة مالم يقف عليه في الطبعة الأولى ، ولأجل ذلك تختلف الكتب للمعاصرين حسب اختلاف الطبعات.

وفي الختام نذكر نصّ اجازة السيّد أحمد بن طاووس ، لتلميذه ابن داود مؤلّف الرجال ، وهي تعرب عن وجود صلة وثيقة بين الاستاذ والمؤلف فإنه بعد ما قرأ ابن داود كتاب « نقض عثمانية جاحظ » على مؤلفه « أحمد بن طاووس » كتب الاستاذ اجازة له وهذه صورتها :

« قرأ عليّ هذا « البناء » من تصنيفي ، الولد العالم الأديب التقي ، حسن بن علي بن داود ـ أحسن الله عاقبته وشرف خاتمته ـ وأذنت له في روايته عنّي.

وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن طاووس حامداً لله ومصلّياً على رسوله ، والطاهرين من عترته ، والمهديّين من ذريته ».

وفي آخر الرسالة ما هذه صورته :

« أنجزت الرسالة ، والحمد لله على نعمه ، وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين.

كتبه العبد الفقير إلى الله تعالى ، حسن بن علي بن داود ربيب صدقات مولانا المصّنف ـ ضاعف الله مجده وأمتعه الله بطول حياته ـ وصلاته على سيّدنا محمد النبي وآله وسلامه ».

وكان نسخ الكتاب في شوال من سنة خمس وستين وستمائة(1) .

__________________

1 ـ وقد أسماه المؤلف بـ « بناء المقالة الفاطمية في نفض الرسالة العثمانية للجاحظ » ويقال اختصاراً « البناء ».

١١٦

مشايخه

قال الافندي : ويروي ابن داود عن جماعة من الفضلاء :

منهم : السيد جمال الدين ابو الفضائل أحمد بن طاووس.

ومنهم : الشيخ مفيد الدين محمد بن جهيم الاسدي على ما يظهر من ديباجة رجاله(1) .

أقول : وهو يروي عن جماعة اخرى أيضاً.

منهم : المحقّق نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي ( المتوفّى عام 676 هـ ).

ومنهم الشيخ نجيب الدين أبو زكريا يحيى بن سعيد الحّلي ابن عم المحقق المذكور ( المتوفّى عام 689 هـ ).

ومنهم الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي والد العلاّمة الحلي.

ونقل الافندي في الرياض أنه كان شريك الدرس مع السيد عبد الكريم بن جمال الدين(2) أحمد بن طاووس الحلي ( المتوفّى عام 693 هـ ) عند المحقّق. ولكن العلاّمة الاميني عدّه من مشايخه(3) ، والظاهر اتقان الاول.

تلاميذه

يروي عنه جماعة كثيرة :

__________________

1 ـ نقض عثمانية جاحظ المطبوع حديثاً بـ « عمان ».

2 ـ رياض العلماء : 1 / 256.

3 ـ الغدير : 6 / 7.

١١٧

منهم : الشيخ رضي الدين علي بن أحمد المزيدي الحلي(1) ، استاذ الشهيد الاول ، المتوفّى عام 757 هـ.

ومنهم : الشيخ زين الدين ابو الحسن علي بن طراد المطارآبادي ، المتوفّى بالحلة 754 هـ.

تآليفه

للمترجم له تآليف قيّمة تبلغ ثلاثين كتاباً ذكر أسماءها في رجاله.

ومن شعره الرائق قوله في حقّ الوصي :

وإذا نظرت إلى خطاب محمَّد

يوم الغدير إذ استقّر المنزل

من كنت مولاه فهذا حيدر

مولاه لا يرتاب فيه محصِّل

لعرفت نصّ المصطفى بخلافة

مَنْ بعدَه غرّاء لا يتأوّل

وله اُرجوزة في الإمامة ، طويلة ، مستهلها :

وقد جرت لي قصّة غريبة

قد نتجت قضيّة عجيبة(2)

وفاته

قد عرفت أنه قد فرغ من رجاله عام 707 هـ ، ولم يعلم تاريخ وفاته على وجه اليقين ، غير أن العلاّمة الاميني ينقل عن « رياض العلماء » أنه رأى في مشهد الرضا نسخة من « الفصيح » بخط المترجم له ، في آخرها : « كتبه مملوكه حقاً حسن بن علي بن داود غفر له في ثالث عشر شهر رمضان المبارك سنة احدى وأربعين وسبعمائة حامداً مصلّياً مستغفراً ».

__________________

1 ـ وفي رياض العلماء مكان « المزيدي » ، « المرندي » ، وهو تصحيف.

2 ـ لاحظ الغدير : 6 / 3 ـ 6 ، وذكر شطراً منها السيد الامين في أعيان الشيعة : 22 / 343.

١١٨

فيكون له من العمر حينذاك 94 عاماً ، فيكون من المعمرين ، ولم يذكر منهم(1) .

4 ـ خلاصة الاقوال في علم الرجال

وهي للعلاّمة(2) على الاطلاق الحسن بن يوسف بن المطهَّر ، المولود عام 648 هـ ، والمتوفّى عام 726 هـ ، الذي طار صيته في الآفاق ، برع في المعقول والمنقول ، وتقدَّم على الفحول وهو في عصر الصبا. ألَّف في فقه الشريعة مطوَّلات ومتوسّطات ومختصرات ، وكتابه هذا في قسمين : القسم الاول ؛ فيمن اعتمد عليه وفيه سبعة عشر فصلا ، والقسم الثاني ؛ مختصّ بذكر الضعفاء ومن ردَّ قوله أو وقف فيه ، وفيه أيضا سبعة عشر فصلا ، وفي آخر القسم الثاني خاتمة تشتمل على عشر فوائد مهمَّة ، وكتابه هذا خلاصة ما في فهرست الشيخ والنجاشي وقد يزيد عليهما.

قال المحقّق التستري : « إن ما ينقله العلاّمة من رجال الكشي والشيخ ورجال النجاشي مع وجود المنقول في هذه الكتب غير مفيد ، وإنما يفيد في ما لم نقف على مستنده ، كما في ما ينقل من جزء من رجال العقيقي ، وجزء من رجال ابن عقدة ، وجزء من ثقات كتاب ابن الغضائري ، ومن كتاب آخر له في المذمومين لم يصل الينا ، كما يظهر منه في سليمان النخعي ، كما يفيد أيضاً فيما ينقله من النجاشي في ما لم يكن في نسختنا ، فكان عنده النسخة الكاملة من النجاشي واكمل من الموجود من ابن الغضائري ، كما في ليث البختري ، وهشام بن إبراهيم العبّاسي ، ومحمد بن نصير ، ومحمد بن أحمد بن محمد بن سنان ، ومحمد بن أحمد بن قضاعة ، ومحمد بن الوليد الصيرفي ، والمغيرة بن

__________________

1 ـ الغدير : 6 / 8 نقلاً عن روضات الجنات : 357.

2 ـ إن العلاّمة غني عن الاطراء ، وترجمته تستدعي تأليف رسالة مفردة ، وقد كفانا ، ما ذكره اصحاب المعاجم والتراجم في حياته وفضله وآثاره.

١١٩

سعيد ، ونقيع بن الحارث ، وكما ينقل في بعضهم اخباراً لم نقف على مأخذها ، كما في اسماعيل بن الفضل الهاشمي ، وفيما أخذه من مطاوي الكتب كمحمد بن أحمد النطنزي »(1) .

وبما أن هذا الكتاب ورجال ابن داود متماثلان في التنسيق وكيفية التأليف ، يمكن أن يقال : إن واحداً منهما اقتبس المنهج عن الآخر ، كما يمكن أن يقال : إن كليهما قد استقلاّ في التنسيق والمنهج ، بلا استلهام من آخر ، غير أن المظنون هو أن المؤلفين ، بما أنهما تتلمذا على السيد جمال الدين أحمد بن طاووس المتوفّى سنة 673 هـ ، وقد كان هو رجالي عصره ومحقق زمانه في ذلك الفن ، قد اقتفيا في تنسيق الكتاب ما خطَّه استاذهما في ذلك الموقف ، والله العالم.

الفروق بين رجالي العلاّمة وابن داود

ثم ان هنا فروقاً بين رجالي العلاّمة وابن داود يجب الوقوف عليها واليك بيانها :

1 ـ ان القسم الاول من الخلاصة مختص بمن يعمل بروايته ، والثاني بمن لا يعمل بروايته ، حيث قال : « الاول ؛ في من اعتمد على روايته أو ترجح عندي قبول قوله. الثاني ؛ في مَنْ تركت روايته أو توقفت فيه ».

ولاجل ذلك يذكر في الاول الممدوح ، لعمله بروايته ، كما يذكر فيه فاسد المذهب إذا عمل بروايته كابن بكير وعليّ بن فضال. وأما الموثقون الذين ليسوا كذلك ، فيعنونهم في الجزء الثّاني لعدم عمله بخبرهم ، هذا.

والجزء الأوّل من كتاب ابن داود فيمن ورد فيه أدنى مدح ولو مع ورود ذموم كثيرة أيضا فيه ولم يعمل بخبره والجزء الثاني من كتابه ، فيمن ورد فيه

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 15.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ) .

«بنيان» مصدر بمعنى اسم مفعول ، ويعني المبنى ، و (شفا) بمعنى حافة الشيء وطرفه ، و (جرف) بمعنى حافة النهر أو حافة البئر التي جرف الماء ما تحتها. و (هار) بمعنى الشخص أو البناء المتصدع المشرف على السقوط ، أو هو في حال السقوط.

إن التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها ، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم ، فهو يشبه المؤمنين بمن أراد أن يبني بناء ، فإنّه ينتخب الأرض الجيدة القوية التي تتحمل البناء ، ومختار من مواد البناء الأولية ما كان جيدا.

أمّا المنافقون فإنّه يشبّههم بمن يبني بيته على حافة النهر ـ ومثل هذه الأرض جوفاء ـ لأن جريان الماء قد نخرها ، وبالتالي فهي عرضة للسقوط في أي لحظة ، وكذلك النفاق ، فإنّ ظاهره حسن لكنّه عديم المحتوى كالبناية الجميلة ذات الأساس النخر.

إنّ هذه البناية يمكن أن تنهار في آية لحظة ، ومذهب أهل النفاق أيضا يمكن أن يظهر واقع أتباعه وباطنهم ، وبالتالي فضيحتهم وخزيهم.

إنّ التقوى والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى يعني التعامل مع الواقع ، والسير وفقا لقوانين الخلقة وهي بدون شك عامل البقاء والثبات.

أمّا النفاق فإنّه يعني الانفصال عن الواقع والابتعاد عن قوانين الوجود ، وهذا بلا شك هو عامل الزوال والفناء.

ومن هنا ، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضا ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) . وكما قلنا مرارا ، فإنّ الهداية الإلهية تعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الغاية ، وهي تشمل ـ فقط ـ أولئك الذين لديهم الاستعداد لتقبل هذه الهداية ويستحقونها ، أمّا الظالمون الفاقدون لمثل هذا الاستعداد فسوف لا يشملهم هذا اللطف مطلقا ، لأنّ الله حكيم ، ومشيئته وإرادته

٢٢١

وفق حساب دقيق.

وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم ، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم ، وعنادهم في نفاقهم ، وحيرتهم في ظلمة كفرهم ، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه ، أو في النتيجة المرجوة منه ، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم :( لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والاضطراب ، وإن مقر النفاق الذي أقاموه ، والمسجد الضرار الذي بنوه ، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء ، فبالرغم من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحرق هذا البناء وهدمه ، إلّا أن أثره وأهدافه قد لا تزول من القلوب.

وتقول الآية أخيرا :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهرا ، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء ، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإلهي هو عين الحكمة ، وحسب صلاح المجتمع الإسلامي ، وقد صدر على هذا الأساس ، لا أنّه حكم عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب.

* * *

بحوث

١ ـ درس كبير

إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات ، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوضحان تماما بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقا ، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق ، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها ، والمستترة بهذا الظاهر البراق.

٢٢٢

المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان ، وفي كل مكان ، وبأي لباس تلبس ، وبأي صورة يظهر بها ، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب ، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.

إنّ الاستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئا جديدا ، بل هو طريق الاستعمار وأسلوبه على الدوام ، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما ، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم ، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.

وأساسا فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة ، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.

ومن البديهي أنّ محاربة الإسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة ، وذلك في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع ذلك النفوذ الخارق للإسلام والقرآن ، أمر غير ممكن ، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين ، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.

إلّا أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحيا إلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر ، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج ، ويحقق القرائن الأخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها ، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.

المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق ، ويلبي تلك الدعوة.

المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إليه ، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعارا دينيا ، أو يتعهد بالانضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين ، أو ينجذب إلى كل بناء يشيد باسم الدين.

٢٢٣

المسلم يجب أن يكون حذرا ، واعيا ، واقعيا ، بعيد النظر ، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الاجتماعية.

المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة ، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة ، ويعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء.

هناك قاعدة أساسية في الإسلام ، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء ، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته ، لا بظاهره ، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني ، إلّا أن أحدا لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته ، حتى ولو كان ماهرا ومقتدرا في اخفائها.

ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال ، وهو : لماذا أصدر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا بحرق المسجد الذي هو بيت الله ، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعا إخراج حصاة واحدة من حصاة ، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فورا إذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!

وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد ، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجدا بل معبدا للأصنام لم يكن مكانا مقدسا ، بل مقرا للفرقة والنفاق لم يكن بيت الله ، بل بيت الشيطان ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئا مطلقا.

كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين ، وفي كل الأزمنة والأعصار.

وتتّضح من هذا البحث ـ أيضا ـ أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام ، والتي تبلغ حدا بحيث إذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إلى التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقا.

٢٢٤

٢ ـ النفي لا يكفي لوحده!

الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات ، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار ، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأسسه على أساس التقوى.

إنّ النفي والإثبات يتجلى في الإسلام من شعاره الأصلي (لا إله إلّا الله) إلى أموره الصغيرة والكبيرة الأخرى ، يبيّن هذه الحقيقة ، وهي ضرورة وجود الإثبات إلى جانب النفي دائما على أرض الواقع العملي ، فإنّا إذا نهينا الناس عن الذهاب إلى مراكز الفساد ، فيجب أن نبني ونوفر لهم المقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها إذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة ، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة إذا حاربنا الثقافة الاستعمارية ، فيجب أن تهيئ الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم إذا شجبنا الانحلال الخلقي والسقوط الاجتماعي ، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.

الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي ، دون الاهتمام بالجانب الإيجابي والإثباتي ، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئا ، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح ، ولأنّ قانون الإسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة.

وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء ، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتميا.

٢٢٥

٣ ـ شرطان أساسيان

الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإيجابي دينيا واجتماعيا ، هو الذي يتشكل من عنصرين.

الأوّل : أن يكون الأساس الذي يستند إليه ، والهدف الذي يطمح إلى تحقيقه ، طاهرين من البداية :( أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) .

الثّاني : أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناسا طاهرين ومخلصين ومؤمنين :( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) .

إنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إلى الهدف المنشود.

* * *

٢٢٦

الآيتان

( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) )

التّفسير

تجارة لا نظير لها :

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد ، فإنّ هاتين الآيتين قد بيّنتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع.

لقد عرّف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشتر ، والمؤمنين بأنّهم بائعون ، وقال :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) .

٢٢٧

ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية ، وهي عبارة عن : المشتري ، والبائع ، والمتاع ، والثمن ، وسند المعاملة أو وثيقتها ، فقد أشار الله سبحانه إلى كل هذه الأركان ، فجعل نفسه مشتريا ، والمؤمنين بائعين ، وأموالهم وأنفسهم متاعا وبضاعة ، والجنّة ثمنا لهذه المعاملة. غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف ، فقال :( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) وفي الواقع فإنّ يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه البضاعة ، سواء كانت روحا أم مالا يبذل في أمر الجهاد.

ثمّ يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت ، والذي يشكل الركن الخامس فيها ، فقال:( وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) .

إذا أمعنا النظر في قوله :( فِي سَبِيلِ اللهِ ) يتّضح جليا أنّ الله تعالى يشتري الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله ، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة ، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.

ثم ، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة ، تضيف الآية :( وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ) أي أنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلا ، إلّا أنّه مضمون ، ولا وجود لأخطار النسيئة ، لأنّ الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل بعهده ، فلا هو ينسى ، ولا يعجز عن الأداء ، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ليندم عليه ويرجع عنه ، ولا يخلف وعده والعياذ بالله ، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك في وفائه بعهده ، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر.

والأروع من كل شيء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته ، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح ، تماما كما هو المتعارف بين التجار ، فيقولعزوجل :( فَاسْتَبْشِرُوا (١) بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(١) فاستبشروا مأخوذة من مادة البشارة ، والتي أخذت في الأصل من البشرة ، أي وجه الإنسان ، وهي إشارة إلى آثار الفرحة والسرور التي تبدو بوضوح على وجه الإنسان.

٢٢٨

وقد جاء نظير هذا المبحث بعبارات أخرى ، ففي الآيتين (١٠) و (١١) من سورة الصف يقول اللهعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

إنّ الإنسان ليقع في حيرة هنا من كل هذا اللطف والرحمة الإلهية ، فإنّ الله المالك لكل عالم الوجود ، والحاكم المطلق على جميع عالم الخلقة ، وكل ما يملكه أيّ موجود فانما هو من فيضه ومنحته ، يبدو في مقام المشتري لنفس هذه المواهب التي وهبها لعباده ، ويشتري ما أعطاه بمئات الأضعاف.

والأعجب من ذلك ، أنّ الجهاد الذي هو السبب في عزّة الإنسان وافتخار الامّة ، وثمراته تعود في النهاية عليها ، قد اعتبر دفعا وتسلميا لهذه البضاعة.

ومع أنّ المتعارف أنّ الثمن يجب أن يعادل المثمن أو البضاعة ، إلّا أن هذا التعادل لم يلاحظ في هذه المعاملة ، وجعلت السعادة الأبدية في مقابل بضاعة متزلزلة يمكن أن تفنى في أية لحظة ، (سواء كان على فراش المرض أو ساحة القتال).

والأهم من هذا أنّ الله سبحانه وتعالى مع أنّه أصدق الصادقين ، ولا يحتاج إلى سند وضمان ، فإنّه تعهد بأهم الوثائق والضمانات أمام عبيده.

وفي نهاية هذه المعاملة العظيمة ، والصفقة الكبيرة ، فإنّه قد بارك لهم وبشّرهم ، فهل تتصور رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!

وهل يوجد معاملة أكثر ربحا من هذه؟!

ولهذا ورد في حديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه لما نزلت هذه الآية كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، فتلا هذه الآية بصوت عال ، فكبر الناس ، فتقدم رجل من الأنصار وسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآية؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٢٩

«نعم». فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل(١) .

كما هي طريقة القرآن المجيد ، حيث أنّه يجمل الكلام في آية ، ثمّ يعمد إلى التفصيل في الآية التي تليها ، فقد بيّن سبحانه في الآية الثّانية حال البائعين للروح والمال لربّهمعزوجل ، فذكر تسع صفات مميزة لهم :

١ ـ فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة :( التَّائِبُونَ ) .

٢ ـ وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم :( الْعابِدُونَ ) .

٣ ـ وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية :( الْحامِدُونَ ) .

٤ ـ وهم يتنقلون من مكان عبادة إلى آخر :( السَّائِحُونَ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة ، أو في إطار محدود ، بل إن كان مكان هو محل عبدة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء ، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.

(سائح) في الأصل مأخوذ من (سيح) ، و (سياحة) والتي تعني الجريان والاستمرار.

وهناك بحث بين المفسّرين فيما هو المقصود من السائح في الآية ، وأي نوع من الجريان والاستمرار والسياحة هو؟ فالبعض يرى ـ كما قلنا أعلاه ـ إن السير في تربية النفس وجهادها إنّما يكون في أماكن العبادة ، ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سياحة أمّتي في المساجد»(٢) .

والبعض الآخر يقول : إنّ السائح يعني الصائم ، لأنّ الصوم عمل مستمر طوال اليوم، وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن السّائحين هم الصّائمون»(٣) .

والبعض الآخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في

__________________

(١) الدّر المنثور ، كما ورد في تفسير الميزان.

(٢) تفسير الميزان ، ذيل الآية.

(٣) تفسير نور الثقلين ، وكثير من التفاسير الأخرى.

٢٣٠

الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله ، ومعرفة المجتمعات البشرية ، والتعرف على عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإنسان وتنميه وتطوره.

وفريق آخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التوجه إلى ميدان الجهاد ومحاربة الأعداء ، ويستشهدون بالحديث النبوي : «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله».(١)

وأخيرا فإنّ البعض يرى أنّها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها ، ومعرفة عوامل السعادة والإنتصار ، وأسباب الهزيمة والفشل.

إلّا أنّ أخذ الأوصاف ـ التي ذكرت قبل السياحة وبعدها ـ بنظر الإعتبار يرجح المعنى الأوّل ، ويجعله الأنسب من بين المعاني الأخرى ، وإن كانت كل هذه المعاني ممكنة في هذه الكلمة ، لأنّها جمعت في مفهوم السير والسياحة.

٥ ـ وهم يركعون مقابل عظمة الله :( الرَّاكِعُونَ ) .

٦ ـ ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له :( السَّاجِدُونَ ) .

٧ ـ وهم يدعون الناس لعمل الخير :( الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) .

٨ ـ ولم يقتنعوا بهذه الدّعوة للخير ، بل حاربوا كل منكر وفساد :( وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

٩ ـ وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي ، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله ، وإقامة الحق والعدالة :( وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) .

وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّب ـ مرّة أخرى ـ أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل ، ويقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

__________________

(١) تفسير الميزان ، وتفسير المنار في ذيل الآية.

٢٣١

ولما لم يذكر متعلق البشارة ، وبتعبير آخر : إنّ البشارة لما جاءت مطلقة فإنّها تعطي مفهوما أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة ، أي بشر هؤلاء بكل خير سعادة وفخر.

وينبغي الالتفات إلى أن الصفات الست الأولى ترتبط بجانب جهاد النفس وتربيتها ، والصفة السّابعة والثّامنة ترتبطان بالواجبات الاجتماعية الحساسة ، وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات ، والصفة الأخيرة تتحدث عن المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة ، والمشاركة الجدية في المسائل السياسية الإيجابية.

* * *

٢٣٢

الآيتان

( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) )

سبب النّزول

جاء في مجمع البيان في سبب نزول الآيات أعلاه ، أنّ جماعة من المسلمين كانوا يقولون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت هذه الآيات تنذرهم بأنّ لا حقّ لأحد أن يستغفر للمشركين.

وقد ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أمور أخرى ، سنوردها في نهاية تفسير هذه الآية.

التّفسير

ضرورة قطع العلاقات مع الأعداء :

نهت الآية الأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين بلهجة قاطعة

٢٣٣

وحادة ، فهي تقول :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) ولكي توكّد ذلك قالت :( وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) .

ثمّ أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال :( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) فإنّ هذا العمل ـ أي الاستغفار للمشركين ـ عمل لا معنى له وفي غير محله ، لأنّ المشرك لا يمكن العفو عنه بأي وجه ، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك ، إضافة إلى أن طلب المغفرة نوع من إظهار المحبة والارتباط بالمشركين ، وهذا هو الأمر الذي نهى عنه القرآن مرارا وتكرارا.

ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرءوا من قبل أن إبراهيم استغفر لعمه آزر ، ولذا فمن الممكن جدّا أن يتبادر الى أذهانهم هذا السؤال : ألم يكن آزر مشركا؟ وإذا كان هذا العمل منهيا عنه فكيف يفعله هذا النّبي الكبير؟

لهذا نرى أن الآية الثّانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب ، فقالت :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) .

وفي آخر الآية توضيح بأنّ إبراهيم كان إنسانا خاضعا بين يدي اللهعزوجل ، وخائفا من غضبه ، وحليما واسع الصدر ، فقالت :( إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) .

إنّ هذه الجملة قد تكون بيانا لسبب الوعد الذي قطعه إبراهيم لآزر بالاستغفار له ، لأنّ حلمه وصبره من جهة ، وكونه أوّاها ـ والذي يعني كونه رحيما طبقا لبعض التفاسير ـ من جهة أخرى ، كانا يوجبان أن يبذل قصارى جهده في سبيل هداية آزر ، حتى وإن كان بوعده بالاستغفار له ، وطلب المغفرة عن أعماله السابقة.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة دليلا على أنّ إبراهيم لخضوعه وخشوعه وخوفه من مخالفة أوامر الله سبحانه لم يكن مستعدا لأن يستغفر للمشركين أبدا ، بل إنّ هذا العمل كان مختصا بزمان كان أمل هداية آزر يعيش في قلبه ، ولهذا فإنّه بمجرّد أن اتّضح أمر عداوته ترك هذا العمل.

٢٣٤

فإن قيل : من أين علم المسلمون أنّ إبراهيم قد استغفر لآزر؟

قلنا : إن آيات سورة التوبة هذه ـ كما أشرنا في البداية ـ قد نزلت في أواخر حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قرأ المسلمون من قبل في سورة مريم ، الآية (٤٧) أن إبراهيم بقوله :( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) كان قد وعد آزر بالاستغفار ، ومن المسلّم أن نبي الله إبراهيمعليه‌السلام لا يعد كذبا ، وكلما وعد وفى بوعده.

وكذلك كانوا قد قرءوا في الآية (٤) من سورة الممتحنة أنّ إبراهيم قد قال له:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) وكذلك في الآية (٨٦) من سورة الشعراء ، وهي من السور المكية ، حيث ورد الاستغفار صريحا بقوله :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ رواية موضوعة!

إنّ الكثير من مفسّري العامّة نقلوا حديثا موضوعا عن صحيح البخاري ومسلم وكتب أخرى عن سعيد بن المسيب عن أبيه ، أنّه لما حضرت أبا طالب الوفاة أتى إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عم ، قل لا إله إلّا الله أحاج لك بها عند الله» ، فالتفت أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية إلى أبي طالب وقالوا : أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟! وكرر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله ، إلّا أنّ أبا جهل وعبد الله منعاه من ذلك. وكان آخر ما قاله أبو طالب : على دين عبد المطلب، وامتنع عن قول : لا إله إلّا الله ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندئذ : «سأستغفر لك حتى أنهى عنه» فنزلت الآية :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (١) .

إلّا أنّ الأدلة والقرائن على كذب ووضع هذا الحديث واضحة ، لما يلي :

__________________

(١) تفسير المنار ، وتفاسير أخرى لأهل السنة.

٢٣٥

أوّلا : المعروف والمشهور بين المفسّرين والمحدثين أنّ سورة براءة نزلت في السنة التاسعة للهجرة ، بل يعتقد البعض أنّها آخر سورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أن المؤرخين ذكروا أن وفاة أبي طالب كانت في مكّة ، وقبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولهذا نرى التخبط والتناقض الصريح الذي وقع فيه بعض المتعصبين كصاحب تفسير المنار ، فإنّهم قالوا تارة : إنّ هذه الآية نزلت مرّتين! مرّة في مكّة ، ومرّة في المدينة في السنة التاسعة للهجرة وظنوا أنّهم لما ادّعوا هذا الدليل رفعوا التناقض الذي سقطوا فيه.

وقالوا تارة أخرى : إنّ من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت حين وفاة أبي طالب ، ثمّ أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضعها في سورة التوبة. إلّا أنّ هذا الادعاء كسابقه السابق عار من الدليل.

ألم يكن من الأجدر بهم بدل أن يتخطبوا في هذه التوجيهات التي لا أساس لها ، أن يترددوا ويشككوا في صحة الرّواية السابقة؟!

ثانيا : لا شك في أنّ الله سبحانه وتعالى قد نهى المسلمين في آيات من القرآن عن محبّة المشركين قبل موت أبي طالب ، ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر مصاديق إبراز المحبّة والصداقة ، فكيف يمكن والحال هذه أن يرحل أبو طالب من الدنيا ويقسم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه سيستغفر له حتى ينهاه الله؟!

العجيب أنّ الفخر الرازي ، الذي عرف بتعصبه في أمثال هذه المسائل ، لما لم يستطع إنكار أنّ هذه الآية قد نزلت ـ كبقية سورة التوبة ـ في أواخر عمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى توجيه محير وعجيب ، وهو أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمر بعد وفاة أبي طالب في الاستغفار له حتى نزلت هذه الآية ونهته عن الاستغفار! ثمّ يقول : ما المانع من أن يكون هذا الأمر ـ أي الاستغفار ـ مجازا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى ذلك الوقت؟!

٢٣٦

إنّ الفخر الرازي إذا حرر نفسه من قيود التعصب ، سيلتفت إلى عدم إمكان أن يستغفر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفرد مشرك طوال هذه المدّة ، في الوقت الذي كانت آيات كثيرة من القرآن الكريم قد نزلت إلى ذلك الزمان تدين وتشجب أي نوع من مودة المشركين ومحبتهم(١) .

ثالثا : إنّ الشخص الوحيد الذي روى هذه الرّواية هو «سعيد بن المسيب» ، وبعضه وعداؤه لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام أشهر من نار على علم ، وعلى هذا لا يمكن الاعتماد على روايته في شأن عليعليه‌السلام أو أبيه أو أبنائه مطلقا.

لقد نقل «العلّامة الأميني قدس سرّه» ـ بعد أن أشار إلى الموضوع أعلاه ـ كلاما عن «الواقدي» يستحق التوقف عنده ، حيث يقول : إن سعيد بن المسيب مر بجنازة الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام ولم يصل عليها ، واعتذر بعذر واه ، إلّا أنّه على قول ابن حزم ـ لما سئل : أتصلي خلف الحجاج أم لا؟ قال : نحن نصلّي خلف من هو أسوأ من الحجاج!

رابعا : كما قلنا في الجزء الخامس من هذا التّفسير ، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ أبا طالب قد آمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّنا الأدلة الواضحة على ذلك ، وأثبتنا بأنّ ما قيل في عدم إيمان أبي طالب هو تهمة كبيرة. وقد صرّح بذلك كل علماء الشيعة ، وجماعة من علماء السنة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) والقسطلاني في (إرشاد الساري) وزيني دحلان في (حاشية السيرة الحلبية).

وقلنا أن المحقق المدقق إذا لا حظ المد السياسي المغرض الذي تزعمه حكام بني أمية ضد عليعليه‌السلام ، استطاع أن يقدر بأن كل من ارتبط بأمير المؤمنين عليه

__________________

(١) لقد ورد النهي عن محبّة وموالاة الكافرين صريحا في الآية (١٣٩) من سورة النساء ، والتي نزلت قبل سورة التوبة مسلما ، وكذلك في الآية (٣٨) من سورة آل عمران ، وهي كذلك نزلت قبل سورة براءة ، وفي هذه السورة قال الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات التي سبقت هذه الآية :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

٢٣٧

السّلام لم يبق بمنأى عن التعرض المغرض.

في الحقيقة ، أنّ أبا طالب لم يكن له ذنب سوى أنّه أبو علي بن أبي طالبعليه‌السلام إمام المسلمين ، وقائدهم العظيم! ألم يتهموا أبا ذرّ ، ذلك المجاهد الإسلامي الكبير لحبّه وعشقه لعليعليه‌السلام ، وجهاده ضد مذهب عثمان؟!

(لمزيد الاطلاع على إيمان أبي طالب الذي كان حاميا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع مراحل حياته ، ومدافعا عنه ، ومطيعا لأوامره ، راجع الآية (٢٥) و (٢٦) من سورة الانعام في المجلد الرّابع من تفسيرنا هذا)

٢ ـ لماذا وعد إبراهيم آزر بالاستغفار؟

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : كيف وعد إبراهيم عمّه آزر بالاستغفار ، وحسب ظاهر هذه الآية وآيات القرآن الأخرى ، فإنّه قد وفى بوعده ، مع العلم أنّه لم يؤمن أبدا ، وكان من المشركين وعبدة الأصنام الى آخر حياته ، والاستغفار لمثل هؤلاء ممنوع؟

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي الانتباه أوّلا إلى أنّه يستفاد من الآية ـ بوضوح ـ أنّ إبراهيم كان يأمل أن يجذب آزر إلى الإيمان والتوحيد عن هذا الطريق ، وكان استغفاره في الحقيقة هو : اللهم اهده ، وتجاوز عن ذنوبه السابقة.

لكن لما ارتحل آزر من هذه الدنيا وهو مشرك ـ وأصبح من المحتم عند إبراهيم أنّه مات وهو معاد لله ، ولم يبق سبيل لهدايته ـ ترك استغفاره لآزر. وعلى هذا فإنّ المسلمين أيضا يستطيعون أن يستغفروا لأصدقائهم وأقربائهم المشركين ما داموا على قيد الحياة ، وكان هناك أمل في هدايتهم ، بمعنى طلب الهداية والمغفرة من الله سبحانه لهؤلاء ، إلّا أنّهم إذا ماتوا وهم كفار فلا مجال للاستغفار بعد ذلك.

أمّا ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام ذكر أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان

٢٣٨

قد وعد آزر بالاستغفار ان هو أسلم ـ لا أنّه يستغفر له قبل إسلامه ، فلمّا تبيّن له أنّه عدو لله تنفر منه وابتعد عنه ، وعلى هذا فإنّ وعد إبراهيم كان مشروطا ، فلمّا لم يتحقق الشرط لم يستغفر له أبدا ، فإنّ هذه الرّواية إضافة إلى أنّها مرسلة وضعيفة ، فإنّها تخالف ظاهر أو صريح الآيات القرآنية ، لأنّ ظاهر الآية التي نبحثها أن إبراهيم قد استغفر ، وصريح الآية (٨٦) من سورة الشعراء أن إبراهيم قد طلب المغفرة له ، حيث يقول :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

والشاهد الآخر ما ورد عن ابن عباس أنّه قال : إن إبراهيم قد استغفر مرارا لآزر ما دام حيا ، فلمّا مات على كفره وتبيّن عداؤه لدين الحق ، امتنع عن هذا العمل.

ولما كان فريق من المسلمين راغبين في أن يستغفروا للمحسنين الذين ماتوا وهم مشركون ، فقد نهاهم القرآن بصراحة عن ذلك ، وصرّح بأن وضع إبراهيم يختلف تماما عن وضعهم ، فإنّه كان يستغفر لآزر في حياته رجاء هدايته وإيمانه ، لا بعد موته.

٣ ـ ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء

إنّ هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين ، بل يستخلص من عدّة آيات في القرآن الكريم أن كل ارتباط وتضامن وعلاقة ، العائلية منها وغيرها ، يجب أن تخضع لإطار العلاقات العقائدية ، ويجب أن يحكم الانتماء الى الله ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية كل اشكاليات الترابط بين المسلمين. لأنّ هذا الارتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الاجتماعية ، ولا تستطيع العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه.

إنّ هذا درس كبير للأمس واليوم ، وكل الأعصار والقرون.

* * *

٢٣٩

الآيتان

( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) )

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ فريقا من المسلمين ماتوا قبل نزول الفرائض والواجبات وتشريعها ، فجاء جماعة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهروا قلقهم على مصير هؤلاء ـ وكانوا يظنون أن هؤلاء ربّما سينالهم العقاب الإلهي لعدم أدائهم الفرائض ، فنزلت الآية ونفت هذا التصور(١) .

وقال بعض الآخر من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في مسألة استغفار المسلمين للمشركين ، وإظهارهم محبّتهم لهم قبل النهي الصريح الوارد في الآيات السابقة ، لأنّ هذه المسألة كانت باعثا لقلق المسلمين ، فنزلت الآية وطمأنتهم إلى أنّ استغفارهم قبل الني لا يوجب حسابهم ومعاقبتهم.

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608