الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261038 / تحميل: 6474
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه ما يَحدث فيها، فكتب له يوماً أنَّ علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جارية له ثمَّ تزوَّجها.

فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام):

أمَّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنَّه كان في أكفائك مِن قريش مَن تُمجَّد به في الصهر، وتستنجبه في الوُلد، فلا لنفسك نظرت ولا على وُلدك أبقيت والسَّلام.

فكتب إليه الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنَّه قد كان في نساء قريش مَن أتمجَّد به في الصهر، وأستنجبه في الوُلد، وإنَّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُرتقى في مَجد ولا مُستزاد في كرم، وإنَّما كانت مِلك يميني ثمَّ خرجت مِن مِلكي، فأراد الله عَزَّ وجَلَّ أمراً ألتمس به ثوابه فارتجعتها على سُنَّته، ومَن كان زكيَّاً في دين الله فليس يُخلُّ به شيء مِن أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَّم به النقيصة، وأذهب اللوم، فلا لَوْمَ على امرِئٍ مُسْلِمٍ، إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ والسَّلام).

فلمَّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشدَّ ما فخر عليك عليُّ بن الحسين!! فقال: يا بُنيَّ، لا تقل ذلك، فإنَّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف مِن بحر، إنَّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) - يا بني - يرتفع مِن حيث يتَّضع الناس (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠١

العَدل أساس المُلك

لّمَا صارَ محمد (صلى الله عليه وآله) ابْنَ سَبْعِ سِنينَ قالَ لأُمَّهِ حَليمَةَ: (يا أُمِّي، أَيْنَ إخْوَتي؟).

قالتْ: يا بُنيّ إنَّهُمْ يَرْعَوْنَ الغَنَمَ التي رَزَقَنا الله إيَّاها بِبَرَكَتِكَ.

قالَ: (يا أُمّاهُ، ما أَنْصَفْتِني!).

قالَتْ: كَيْفَ ذلِكَ يا وَلَدي؟!

قالَ: (أكُونُ أَنا في الظِّلِّ وإخْوَتي في الشَّمْسِ والْحَرِّ الشّديدِ وأنا أَشْرِبُ مِنها اللَّبَنَ!).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان وهو في سِنِّ السابعة يتحدَّث مع مُرضعته عن الإنصاف داخل مُحيط الأُسرة الصغير، ويُنمِّي في عقله الفتيِّ مفهوم العدل والإنصاف، وعندما بلغ (صلى الله عليه وآله) وشَبَّ ترسَّخ هذا المفهوم في ذهنه أكثر، وعمد إلى نقل هذا المفهوم مِن مُحيط الأُسرة المحدود وتطبيقه على مُحيط مدينة مَكَّة الواسع، فاجتمع (صلى الله عليه وآله) مع مجموعة مِن كِبار رجال العرب في حِلف سُمِّيَ بـ: (حلف الفضول) وذلك بهدف تحقيق العدالة وتطبيق العدل الاجتماعي، فتحالف معهم دفاعاً عن حقوق الناس، وكان ما كان كما نقله لنا التاريخ.

كان نفر مِن جُرْهم وقطوراء يُقال لهم: الفضيل بن الحارث الجُرهمي، والفضيل بن وداعة القطوريِّ، والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أنْ لا يُقرُّوا ببطن مَكَّة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلاَّ ذلك؛ لما عَظَّم الله مِن حَقَّها، فقال عمر بن عوف الجُرهمي:

إنَّ الفُضول تحالفوا وتعاقدوا

ألا يَـقرَّ بـبطن مَكَّة ظالم

أمـرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا

فـالجار والمعترُّ فيهم سالم

٢٠٢

ثمَّ درس ذلك، فلم يبق إلاَّ ذِكره في قريش.

ثمَّ إنَّ قبائل مِن قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتلاقوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المُطَّلب وبني أسد بن عبد العِزَّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مُرَّة، فتحالفوا وتعاقدوا أنْ لا يجدوا بمَكَّة مظلوماً مِن أهلها أو مِن غيرهم مِن سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على ظلمه حتَّى تُردُّ عليه مظلمته، فسَّمت قريش ذلك الحِلف حِلف الفُضول.

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتجنَّب في فترة شبابه الاختلاط في ذلك العصر الجاهلي قدر الإمكان، ويمتنع عن مُجالستهم، لكنَّه (صلى الله عليه وآله) شارك في هذا الحِلف بكلِّ سرور ورَحابة صدرٍ، وتعاون مع الأشخاص الذين تعاهدوا وتواثقوا على بَسط العدل؛ لأنَّ هذا الحِلف جاء مُطابقاً لمرامه وطباعه (صلى الله عليه وآله) ونفسِهِ التَّوَّاقةِ للعدل.

فالذي يُفكِّر بالعدل مُنذ طفولته، ويتحدَّث عن الإنصاف مع مُرضعته وهو ابن سبع سنين، لا بُدَّ أنْ يترسَّخ هذا المفهوم في نفسه أكثر عندما يُصبح شابَّاً. وكان لا بُدَّ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يستفيد مِن كلِّ فُرصة تُسنح له، ويلجأ إلى اتِّباع شتَّى الأساليب لتطبيق العدل الاجتماعي، الذي يُشكِّل هدفاً مُقدَّساً بالنسبة له (صلى الله عليه وآله). وفعلاً حانت الفُرصة المُنتظرة، عندما قرَّر عدد مِن كبار رجال مَكَّة بذل ما بوسعهم لتطبيق العدل ووضع حَدٍّ للظلم والجور، فاغتنمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُعلناً استعداده للتعاون معهم والانضمام للحٍلف، فكان ما كان.

وقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس قاطبة إلى العدل مُنذ بُعِث نَبيَّاً. وقد تخطَّت دعوته حدود مَكَّة وبلاد الحِجاز، وكان لها صدى واسع في جميع أنحاء المعمورة. ولم تَغِب ذِكرى حِلف الفضول عن بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتذكَّرها، فيسعد ويفخر بها.

٢٠٣

فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ الله تعالى: (لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمومَتي حِلْفاً في دارِ عَبْدِ الله بنِ جَدْعانَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعّمِ، ولّو دُعِيتُ بهِ في الإسْلام لأَجَّبْتُ).

لا أحد يعلم - على وجه التحديد - كمْ مَرَّة نجح حِلف الفضول مُنذ قيامه في إحقاق الحَقِّ وبسط العدل بين الناس، ولكنْ هناك حالتان نوردهما بإيجاز حسبما وردت في التواريخ.

السبب في هذا الحِلف والحامل عليه أنَّ رجلاً مِن زبيد قدم مَكَّة ببِضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان مِن أهل الشرف والقَدر بمَكَّة، فحبس عنه حقَّه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب فأبوا أنْ يُعينوا على العاص وانتهروه - أيْ الزبيدي - فلمَّا رأى الزبيدي الشرَّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يـا آل فِـهرٍ لمَظلوم بضاعته

بـبطن مَكَّة نائي الدهر والقَفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحِجر

إنَّ الـحرام لمَن تمَّت مكارمه

ولا حـرام لثواب الفاجِر الغَدر

والحرام بمعنى الاحترام؛ فقام في ذلك الزبير بن عبد المُطَّلب مع عبد الله بن جدعان، واجتمع إليه مَن تقدَّم وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتَّى يؤدَّى إليه حَقَّه شريفاً أو وضيعاً، ثمَّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي رواية أُخرى أنَّ رجلاً مِن خثعم قَدِم مَكَّة مُعتمراً أو حاجَّاً، ومعه بنت له جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحَجَّاج فقيل له: عليك بحِلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول، فإذا هُمْ يعنقون إليه مِن كلِّ جانب، وقد انتضوا أسيافهم - أيْ جرَّدوها - يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إنَّ نَبيهاً ظلمني في بُنيَّتي فانتزعها مِنِّي قَسراً.

٢٠٤

فساروا إليه حتَّى وقفوا على باب داره فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية فقد علمت مَن نحن، وما تعاهدنا عليه.

فقال: أفعل، ولكنْ متِّعوني بها الليلة.

فقالوا: لا والله، ولا شَخْب لقحة - أيْ مُقدار زمن - فأخرجها إليهم (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٥

الأحداث أسرع إلى الخير

عندما خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاهراً دعوته بين الناس في مَكَّة، دبَّت فورة عظيمة بين جيل الشابِّ، فتجمعَّوا بدافعٍ مِن ميولهم الفطريَّة حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ينهلون مِن مَعين أحاديثه الشريفة، وقد أثار هذا الأمر خلافات بين الشباب وأُسرهم، ودفع بالمُشركين إلى الاحتجاج على ذلك عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

... فاجتمعت قريش على أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا.

لقد بلغت دعوة النبيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أسماع كلِّ الناس مِن رجال ونساء، وشيوخٍ وشبابٍ، إلاّ أنَّ الشباب كانوا أكثر تأثُّراً بهذه الدعوة واندفاعاً لها؛ لأنَّ توقُّد الحِسِّ الديني لديهم خِلال مرحلة البلوغ، جعلهم مُتعطِّشين لتعلُّم فضائل الإيمان والأخلاق، ولهذا كانت كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنزل في نفوسهم كالماء السلسبيل، كما أنَّها كانت بالنسبة لهم بمثابة غذاء للروح، دون غيرهم مِن الشيوخ والطاعنين في السِّنِّ.

فلمَّا أوفد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة، ليُعلِّم أهلها قراءة القرآن، وينشر بينهم التعاليم والمعارف الإسلاميَّة، كان الشباب أوَّل مَن لبَّى دعوته، حيث أبدوا رغبة شديدة في تعلُّم قراءة القرآن واكتساب التعاليم الإسلاميَّة.

وكان مصب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كلِّ يوم ويطوف على مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الإسلام فيُجيبه الأحداث (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٦

الحِلم سيِّد الأخلاق

مَرّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ فيهِمْ رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدَّاءِ وهُمْ يُعْجَبُونَ مِنْهُ.

فَقالَ: (ما هذا؟).

قالُوا: رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدّاءِ.

قال: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِما هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟

رَجُلٌ سَبَّهُ رَجُلٌ فَحَلُمَ عَنْهُ، فَغَلَبَ نَفْسَهُ وغَلَبَ شَيْطانَهُ وشَيْطانَ صاحِبهِ).

يرى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ غلبة النفس الأمَّارة، التي فيها يكمن عزم الإنسان وقُدرته، لتبعث على العِزَّةِ والفَخر. والفتى الذي يبحث عن حَقٍّ وصدق عمَّا يرفع به رأسه بين الناس، عليه أنْ يبني شخصيَّته على أساسٍ مِن الحِلم والصبر والثبات والإرادة وغلبة النفس، ليؤمِّن سعادته في الدنيا والآخرة (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٧

في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب

كان ليزيد بن مُعاوية وَلد يُدعى: مُعاوية، كان يُحبُّه حُبَّاً جَمَّاً، ويودُّ تربيته تربية تعينه على بلوغ مُنيته، فاختار له مؤدِّباً ومُعلِّماً فاضلاً يُدعى (عمو المقصوص)، وقد عُرف هذا المؤدِّب بإيمانه وورعه، وحُبِّه ومولاته لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، وبغضه الدفين لظلم وبغي مُعاوية بن أبي سفيان ووَلده يزيد.

وقد حرص هذا المُعلِّم الكفوء على تعليم وتربية مُعاوية بن يزيد على التعاليم الإسلاميَّة، وتحريم وتنمية حِسِّ الإيمان والعقل والرغبة في المعرفة الدينيَّة في كيانه، وقد أفلح فعلاً في أنْ يصنع مِن مُعاوية بن يزيد فرداً مؤمناً عاقلاً، ومُحبِّاً لعليٍّ وآله (عليهم السلام أجمعين).

وقد بُويع لمُعاوية بن يزيد بالخلافة يوم موت أبيه وهو في عنفوان شبابه، حيث لم يكن يتجاوز العشرين مِن عُمره.

إنَّ سِنّ العشرين هو مِن سِنيِّ الدورة الواقعة بين سِنِّ الـ 18 والـ 23، وهي مرحلة تبرز فيها الرغبات بقوَّة في أعماق الفتيان والشباب، ففيها تصل الشهوة الجنسيَّة إلى ذروتها، وتنفتح أحاسيس التفوُّق والشُّهرة، وحُبُّ المال والجاه في ذات الشابِّ بعُنفٍ.

وخلال هذه الدورة يُصبح الشابُّ مُتعطِّشاً لتحصيل اللذائذ وإشباع الشهوات، وقد يلجأ إلى سلوك الطريق الملتوية وغير المشروعة؛ لتحقيق أمانيه ورغباته الدفينة.

إنَّ خلافة يزيد وحكومة بلاد واسعة كانت بالنسبة لمُعاوية الشابِّ أفضل وسيلة لإشباع ميوله ورغباته؛ إذ كان بإمكانه إشباع نزواته الجنسيَّة، وأحاسيس التفوُّق، وحُبِّ المال والجاه وغيرها مِن الرغبات الجامعة التي تكمن في أعماق كلِّ شابٍّ

٢٠٨

بصورة فطريَّة، فمُعاوية بن يزيد كان قادراً على استغلال وجوده على عرش الخلافة شَرَّ استغلال، في إرضاء غرائزه لو كان عبداً لهواه، ذليلاً لشهواته، لو لم يكن قد نشأ في ظِلِّ تربية إسلاميَّة صحيحة، وترعرع في كِنف مؤدِّبٍ كفوءٍ رسَّخ في نفسه روح الإيمان بالله والتعاليم الإسلاميَّة الحَقَّة؛ ليجعل منه إنساناً ذا إرادة قويَّة، مُتحرِّراً مِن قيود النفس الأمَّارة مُستقلَّاً لن يؤثِّر فيه منصب الخلافة بكلِّ عظمتها.

لقد أقام مُعاوية بن يزيد في الخلافة أربعين يوماً، نظر فيها في كلِّ ما ارتكبته حكومة أبيه وجَدِّه، مِن بغي وسوء فِعالٍ وجُرأة على الله سبحانه وتعالى، فأدرك عُظم الجرائم التي ارتكبها أبوه يزيد بن مُعاوية طيلة فَترة خلافته، الذي تجرَّأ على الله وبغى على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فوجد مُعاوية بن يزيد أمام مُفترق طريقين، عليه أنْ يختار سلوك أحدهما، فإمَّا أنْ يستمرَّ في الخلافة ويسير على خُطى أبيه وجَدِّه في البغي والرذيلة، ومُمارسة الظلم بحَقِّ العباد، وإشباع جميع رغباته وغرائزه، وإمَّا أنْ يُطيع أوامر الله ويسلك طريق الحَقِّ والفضيلة، ويخلع نفسه عن الخلافة التي لن تعود عليه إلاّ بالذِّلِّ والعار.

وقد اتَّخذ مُعاوية بن يزيد قراره، واستطاع بقوَّة إيمانه والتربية السليمة، التي عاش في ظلِّها أيَّام طفولته وصباه، أنْ يتغلَّب على هواه ويُصمِّم على إقالة نفسه مِن الخلافة، فصعد المِنبر ثمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بأحسن ما يذكر به، ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّ جَدِّي مُعاوية بن أبي سفيان قد نازع في أمر الخلافة مَن كان أولى بها منه ومِن غيره؛ لقَرابته مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعظم فضله وسابقته، أعظم المُهاجرين قدراً وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوَّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صُحبة، ابن عَمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصِهره وأخوه، زوَّجه (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة وجعله لها بَعلاً وجعلها له زوجة، أبو سِبطيه سيِّدي شباب أهل الجَنَّة، وأفضل هذه الأُمَّة، فركب جَدِّي منه ما تعلمون وركبتم معه ما لا

٢٠٩

تجهلون حتَّى انتظمت لجَدِّي الأُمور، فلمَّا جاءه القدر المحتوم واخترمته أيدي المَنون، بقي مُرتهناً بعلمه فريداً في قبره، ووجد ما قدَّمت يداه ورأى ما ارتكبه واعتداه.

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى أبي يزيد - والكلام ما زال لمُعاوية - ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فركب هواه واستحسن خُطاه، وأقدم على ما أقدم مِن جُرأته على الله، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلَّت مُدَّته وانقطع أثره وضاجع عمله، وصار حليف حُفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.

ثمَّ اختنقته العبرة، فبكى طويلاً وعلا نحيبه، ثمَّ قال:

وما كنت لأتحمَّل آثامكم، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه ومَن رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعت بيعتي مِن أعناقكم والسَّلام.

فاضطرب المجلس، وقام مروان بن الحكم - وكان تحت المنبر - فقال له: أسنَّة عُمريَّة يا أبا ليلى؟!

فقال مُعاوية: اغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟! فو الله، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها. والله، لئن كانت الخلافة مَغنماً لقد نال أبي منها مَغرماً ومأثماً، ولئن كانت سوءاً فحسبه منها ما أصابها.

ثمَّ نزل عن المنبر وعيناه مُغرورقتان بالدموع.

ولمَّا رأى بنو أُميَّة ما حصل قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص:

أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به مِن الظلم وحسَّنت له البِدع، حتَّى نطق وقال ما قال.

٢١٠

فقال: والله، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ، فلم يقبلوا منه ذلك وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١١

جزاء مَن يتعدَّ حُرمات الله

كان الخليفة العباسي المُتوكِّل يبرز عِداءه الشديد وبُغضه للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما يذكره كان لا يُسمِّيه إلاِّ بـ: (أبو تراب)، ولا يتورَّع في المجالس العامَّة عن توجيه الإهانة له (عليه السلام)، لكنَّ وَلَده الشابَّ وولي عهده المُنتصر كان مُتألِّماً جِدَّاً مِن سُلوك أبيه إزاء الإمام علي (عليه السلام)، ولكنْ لم يكن يملك أمام هذا السلوك إلاَّ التزام الصمت، وقد جاء في كُتب التاريخ أنَّ المُتوكِّل كان يُبغض عليَّاً (عليه السلام) وينتقصه، فذكره وغَضَّ منه، فتمعَّر وجه ابنه المُنتصر لذلك، فشتمه المُتوكِّل وأنشأ يقول:

غَضِبَ الفَتى لابنِ عَمِّه

رَأسُ الفَتى في حَرِّ أُمِّهِ

لم يُطِق المنتصر هذه الإهانة التي سمعها مِن أبيه، وهو وليُّ العهد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين مِن العمر، وتأثَّر كثيراً لانتقاص أبيه منه أمام المَلأ، فأضمر له أمراً يُعوِّض له عمَّا حَقَّره به وحَقد عليه، وقَرَّر الأخذ بالثأر الذي يمحو عنه إهانة أبيه، وأغراه ذلك على قتله، فخطَّط مع بعض الغُلمان على قتله في أوَّل فُرصة ووعدهم بالمال والمنصب.

فبينما المُتوكِّل جالس في قصره يشرب مع ندمائه وقد سَكر، إذ دخل بغاء الصغير وأمر النُّدماء بالانصراف، فانصرفوا ولم يَبقَ عنده إلاَّ الفتح بن خاقان، فإذا الغُلمان الذين عيَّنهم المُنتصر لقتل المُتوكِّل قد دخلوا وبأيديهم السيوف مُصلتة، فهجموا عليه، فقال الفتح بن خاقان: ويلكم! أتقتلون أمير المؤمنين؟! ثمَّ رمى بنفسه عليه، فقتلوهما جميعاً، ثمَّ خرجوا إلى المُنتصر فسلَّموا عليه بالخلافة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١٢

المؤمن مُبتلى

كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يُدعى يونس بن عمّار، وذات يوم أُصيب يونس بمرض البَّرص أو الجُذام، وغطَّت بُقعٌ بيضاء كامل وجهه، فأثَّرت في نفسه، وأخذت شخصيَّته تضمحلُّ شيئاً فشيئاَ فاقدة مكانتها الاجتماعيَّة، وقد قيل في حَقِّه: لو كان للإسلام به حاجة، أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتُلي بهذا البَلاء، فجاء يونس بن عمَّار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام): (لَقَدْ كانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصابعِ فَكانَ يَقُولُ هكَذا ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: ( . .. يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ).

لقد رَدَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجَوفاء، حيث حاول (عليه السلام) أنْ يُثبت لنا إمكانيَّة ابتلاء المؤمن بالله وسُنَّة نبيِّه ببليَّة أو عاهة ما، مِثلما ابتُلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنَّه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويَّات يونس بن عمّار؛ حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البُقع البيضاء التي انتشرت في وجهه، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ، كما كان يفعل مؤمن آل فرعون، حيث كان يمدُّ يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول: ( ... يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، فتلك العاهة لم تَثنِ عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تُحبط معنويَّاته وشخصيَّته (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٣

لسانك حصانك إنْ صِنته صانك

كان ابن المقفع رجلاً ذكيَّاً ذا شأنٍ عظيمٍ في عصره، وكان يمتاز عن غيره بقوَّة عقله وحِدَّة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقِّي العلوم، وترجمة بعض الكُتب العلميَّة إلى اللغة العربيَّة لفطنته وكفاءته الفطريَّة، إلاّ أنَّ تفوّقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مَغروراً، وترك في سلوكه وأخلاقه آثاراً سيِّئة، مِمَّا جعله يواجه مَشاكل جَمَّة في عَلاقاته الاجتماعيَّة.

وكان ابن المُقفع يستهزئ بالناس ويُحقِّرهم بكلمات وألفاظ بذيئة؛ ليُثير في نفوسهم روح الحِقد والعِداء.

وكان سفيان بن مُعاوية - الذي نصَّبه المنصور الدوانيقي والياً على البصرة - مِن جُملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن مُعاوية أمام الناس.

وكان سفيان بن مُعاوية ذا أنف كبير قبيح الشَّكل، وكلَّما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ: السَّلام عليكم، ويعني به: السَّلام عليك وعلى أنفك الكبير، وذات يوم رَدَّ عليه سفيان بالقول: إنَّني لستُ نادماً على التزامي الصمت حيالك، فقال له ابن المقفع: إنَّ مَن خِصلته التلعثُم في الكلام يجب أنْ لا يندم أبداً على التزام الصَّمت.

وأحياناً كان ابن المقفع يُعيِّر سفيان بن مُعاوية بأُمِّه، حيث كان يُناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يابن المُغتلمة) أيْ: يا ابن المُنقادة للشهوة. وذات يوم أراد ابن المقفع أنْ يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عامٍّ عن رجل يموت ويُخلِّف زوجة وزوج، كيف يتمُّ تقسيم الميراث بينهما؟

آثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المُهين، النابع مِن غُروره وتكبُّره، حِقد سفيان عليه وعداءه له، وبات سفيان يتحيَّن الفُرص للانتقام مِن ابن المقفع شرَّ انتقام.

٢١٤

وصادف أنْ ادَّعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور مِن أبي مُسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرَّار لقتال عَمِّه، وأخيراً انتصر جيش أبي مسلم على جيش عبد الله بن علي، الذي لجأ إلى أخويه سليمان وعيسى مُتخفِّياً عندهم. وبعد فترة توجَّه الأخوان إلى المنصور، وطلبا منه الصَّفح عن أخيهما عبد الله، فقبل المنصور شفاعتهما، وقرَّر أنْ يَكتُبا عهد أمان ليوقِّعه المنصور الدوانيقي.

وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع، الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى، كتابة عهد الأمان، وطلبا منه أنْ يكون الكتاب مِن القوَّة بمكان، بحيث يسلب الدوانيقي كلَّ قُدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله، فكتب ابن المقفع عهد الأمان وغالى في تنظيمه، حيث ذكر فيه أنَّ المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعَمِّه عبد الله بن علي وألحق به الأذى، فإنَّ أمواله ستوزع على الرعيَّة، وسيعتق عبيده وجواريه ويُصبِح المسلمون في حِلٍّ مِن بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقِّعه، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب، فقيل له: إنَّه ابن المقفع، فأمر المنصور بعد أنْ امتنع عن التوقيع، أمر والي البصرة سِرَّاً بقتل ابن المقفع.

ولمَّا كان سُفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه مِن عِداءٍ لابن المقفع، الذي طالما مَسَّ كرامته وجرح شعوره، ويتحيَّن الفرصة للانتقام، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتَثْلُج صدر سفيان الذي استغلَّ هذه الفُرصة المُناسبة للانتقام مِن غريمه.

فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حُجرة، فدخل عليه وقال له: أتذكر ما قتله في شأني وشأن أُمِّي؟ والله، إنَّ أُمِّي لمُغتلمة إنْ لم أقتلك قتلة لم ترَ الرعيَّة مِثلها مِن قبل، فأمر سفيان بإشعال التنُّور، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين مِن العُمر، فأخذ يقتطَّع مِن جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنُّور، ومازال كذلك حتَّى قضى بهذه الطريقة المُفجعة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٥

لا طاعة لمَخلوق

حتَّى لو كان أُمَّاً في مَعصية الخالق

لقد أحدثت كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخُطبه المؤثِّرة في بدايات الدعوة تحوُّلاً روحيَّاً عظيماً في جيل الشباب، ولمَّا كان الشباب بفطرتهم ثوريِّين ويرغبون في التجدُّد والحداثة، التفُّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) مُعلنين انضواءهم تحت راية الإسلام، فبدأوا في ظِلِّ قيادته الرشيدة وتوجيهاته الحكيمة حملة ضِدَّ السُّنَن الفاسدة، والعادات والتقاليد المذمومة التي كانت سائدة آنذاك، مُعلنين عن مُخالفتهم للمُعتقدات والأفكار الباطلة أينما حلُّوا في أُسرتهم ومُجتمعهم، أو في حِلِّهم وترحالهم.

كان سعد بن مالك مِن الشباب النشيطين والمُتحمِّسين في صدر الإسلام، وقد اعتنق الإسلام على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو في سِنِّ الـ 17، وكان سعد قد أظهر وفاءه للإسلام ومُخالفته للجاهليَّة في أكثر مِن مكان وزمان، لا سِيَّما في الظروف الحرجة التي مَرَّ بها المسلمون قبل الهِجرة.

وكان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا أرادوا الإتيان بالصلاة، ينزلون إلى شعاب مَكَّة ليتَّقوا شَرَّ المُشركين، فبينا سعد بن مالك في نفر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شِعبٍ مِن شعاب مَكَّة، إذ ظهر عليهم نفر مِن المُشركين، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم حتَّى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد رجُلاً مِن المُشركين بلِحي جَمَل، فشجَّه فكان أوَّل دَمٍ أُريق في الإسلام.

وكان المُشركون في تلك الأيَّام في ذروة قوَّتهم وجَبروتهم، بينما المسلمون في نهاية الضعف والعجز، وأيُّ صِدامٍ بين الطرفين - آنذاك - كان يَجرُّ إلى أحداث خطيرة، ولكنَّ الشباب الذين أعدُّوا أنفسهم لتحمُّل شتَّى أنواع التعذيب والأذى لم

٢١٦

يخشوا عواقب الأُمور، أو المخاطر التي قد يواجهونها نتيجة دفاعهم عن حُرمة الإسلام.

يقول سعد: كنتُ رجلاً برَّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمت قالت: يا سعد ما، هذا الدين الذي أحدثت؟! لَتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتَّى أموت، وعيَّرتني، فقال: لا تفعلي يا أُمَّاه، فإنِّي لا أدع ديني، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت وقد جهدت وتصوَّرت أنَّ ابنها لو رآها على هذا الحال مِن الضعف سيترك دينه لبرِّه بها، وقد غاب عنها. إنَّ عطف الأُمِّ وبَرَّها لا يُمكنه أنْ يقف أمام الحُبِّ الإلهي لو تغلغل إلى النفس، ولهذا قال لها سعد في اليوم التالي:

والله، لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني.

ولمَّا رأت الأُمُّ التصميم القاطع لولدها، ويئست مِن تغيير مُعتقده عدلت عن قرارها بالإمساك عن الطعام.

وخُلاصة القول: إنَّ السلوك الثوري للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والخُطب الحماسيَّة كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيَّة ثوريَّة للشباب، الذين ثاروا بالاتِّكال على الله وتوجيهات قائدهم العظيم ضِدَّ سُنَن الجاهليَّة الفاسدة، فحطَّموا الأصنام وهدُّوا بيوتها واقتلعوا جذور الظلم والعدوان، وقضوا على الآداب والتقاليد والعادات الباطلة والنُّظم الفاسدة، وأقاموا مكانها نظاماً جديداً قائماً على أساس العلم والإيمان، والعدل والحُرِّيَّة، والأخلاق والفضيلة، استطاع أنْ يُنقذ البشريَّة مِن الجهل والضلالة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٧

مَن يَتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

مِن الأشخاص الذين آمنوا بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة، وفي ظلِّ أكثر الظروف قساوةً، عياش بن أبي ربيعة وزوجته أسماء بنت سلامة، فقد عانا الكثير مِن المشاكل والصعوبات والضغوطات في طريق إعلاء كلمة الحَقِّ.

كان لعياش شقيقان مِن أُمِّه هُما: أبو جهل، والحارث، وكان عندما اعتنق الإسلام في الثلاثين مِن عُمُره وزوجته في العشرين مِن العُمر، وما أنْ أعلن عياش إسلامه حتَّى ثارث ثائرة قومه، فحاولوا تعذيبه وإلحاق الأذى به؛ لمنعه مِن اتِّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤثِّر به وبقي ثابتاً على إسلامه.

وهاجر عياش وزوجته بمعيَّة مجموعة مِن المسلمين إلى الحبشة، بأمر مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنَّهما عادا إلى مَكَّة ثانية قبل الآخرين، فتعرَّضا مُجدَّداً لأذى المُشركين وتعذيبهم، حتَّى حان موعد هِجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة، فهاجرا وتخلَّصا مِن شَرِّ الأعداء.

وعندما علمت أسماء أُمُّ عياش بهجرة ولدها أقسمت اليمين، بأنَّها لن تدهن شَعرها ولن تجلِس في فَيء حتَّى يعود عياش، فشدَّ أبو جهل والحارث الرحال إلى المدينة، وأخبرا عياش بما أقسمت عليه أُمُّهم، وقالا له: إنَّك أكثرنا مكانة عند أُمِّنا، وإنَّك على دين يوصي ببَرِّ الوالدين، فعُدْ إلى مَكَّة واعبدْ ربَّك فيها كما تعبده هنا في المدينة.

فلمَّا سمع عياش بذلك تألَّم لحال أُمِّه وصَدَّق أخويه، فطلب منهما عهداً بعدم الخيانة إنْ هو عاد إلى مَكَّة، فغادر معهما المدينة، وما أنْ ابتعدوا عن المدينة حتَّى شرعا يُعذِّبانه ويؤذيانه، فربطاه ودخلا به مَكَّة نهاراً وهو على هذه الحال، وقالا:

٢١٨

(يا أهل مَكَّة، هكذا فافعلوا بسُفهائكم كما فعلنا بسفيهنا)، ثمَّ رميا به في حُجرة لا سقف له.

وبقي عياش سجيناً في مَكَّة لسنوات عديدة، لاقى خلالها شتَّى صنوف التعذيب، لكنَّه لم تظهر عليه علامات الضعف المعنوي والانهيار الروحي، فقد كان على اتَّصال بخالقه مُتسلِّحاً بقوَّة الإيمان في وجه المصائب والمصاعب.

وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المدينة يدعو له بالخلاص، وكان الناس مُتأثِّرين لما حَلَّ بعياش، وبعد مُدَّة تمكَّن أحد المسلمين - في خُطَّةٍ بارعةٍ - مِن التسلُّل إلى مَكَّة وإنقاذ عياش مِن السِّجن والعودة به إلى المدينة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٩

قوَّة الإيمان أقوى مِن قوَّة الجَسد

مِن المسلمين الأوائل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة، حيث اعتنق سعيد الإسلام وهو في العشرين مِن العُمر وزوجته تصغره بسنوات، كان سعيد وزوجته يحضران عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف مشحونة بالمخاطر لاكتساب تعاليم الإسلام وتعلُّم قراءة القرآن.

وكان لفاطمة شقيق حادُّ الأخلاق قويَّ الجِسم، شديد المُعارضة للإسلام. وذات يوم مِن أيَّام الصيف الحار التقى به رجل مِن قريش في أزقَّة مَكَّة، وقال له: أنت تزعم أنَّك هكذا؟ وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك وصبأت أُختك، فرجع غاضباً. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، فيكونان معه ويُصيبان مِن طعامه. وقد كان ضُمَّ إلى زوج أُخته رجلين، فجاء وقرع الباب والقوم يقرأون القرآن في صحيفة معهم، فلمَّا سمعوا الصوت تبادروا واختفوا، وقامت المرأة وفتحت الباب، فقال لها: يا عدوَّة نفسها، قد بلغني أنَّك أسلمت، وصفعها بقوَّة فسال الدمُ مِن وجهها، فلمَّا رأت الدمَ كشفت عن السِّرِّ وقالت بكلِّ صَراحة وثَبات: ما كنتَ فاعلاً فافعل، فقد أسلمت.

لقد كانت النساء والبنات مُضطهدات في العصر الجاهليِّ ومحرومات مِن حُقوقهنَّ الإنسانيَّة والمدنيَّة، وكُنَّ يُعاملن أسوأ مِن مُعاملة العبيد والحيوانات، إلى أنْ جاء الإسلام حاملاً منهجه التربوي، الذي يضمن للمرأة شخصيَّتها ويمحنها قوَّة في الإرادة واستقلالاً في الفكر، استطاعت مِن خِلالهما فتاة شابَّة الوقوف بوجه أخيها دفاعاً عن إيمانها ومُعتقدها بكلِّ شجاعة (1).

____________________

(1) الشاب، ج2.

٢٢٠

وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ) .

«بنيان» مصدر بمعنى اسم مفعول ، ويعني المبنى ، و (شفا) بمعنى حافة الشيء وطرفه ، و (جرف) بمعنى حافة النهر أو حافة البئر التي جرف الماء ما تحتها. و (هار) بمعنى الشخص أو البناء المتصدع المشرف على السقوط ، أو هو في حال السقوط.

إن التشبيه الوارد أعلاه يعطي صورة في منتهى الوضوح عن عدم ثبات أعمال المنافقين وتزلزلها ، وفي المقابل استحكام ودوام أعمال المؤمنين ونشاطاتهم وبرامجهم ، فهو يشبه المؤمنين بمن أراد أن يبني بناء ، فإنّه ينتخب الأرض الجيدة القوية التي تتحمل البناء ، ومختار من مواد البناء الأولية ما كان جيدا.

أمّا المنافقون فإنّه يشبّههم بمن يبني بيته على حافة النهر ـ ومثل هذه الأرض جوفاء ـ لأن جريان الماء قد نخرها ، وبالتالي فهي عرضة للسقوط في أي لحظة ، وكذلك النفاق ، فإنّ ظاهره حسن لكنّه عديم المحتوى كالبناية الجميلة ذات الأساس النخر.

إنّ هذه البناية يمكن أن تنهار في آية لحظة ، ومذهب أهل النفاق أيضا يمكن أن يظهر واقع أتباعه وباطنهم ، وبالتالي فضيحتهم وخزيهم.

إنّ التقوى والسعي في مرضاة الله تبارك وتعالى يعني التعامل مع الواقع ، والسير وفقا لقوانين الخلقة وهي بدون شك عامل البقاء والثبات.

أمّا النفاق فإنّه يعني الانفصال عن الواقع والابتعاد عن قوانين الوجود ، وهذا بلا شك هو عامل الزوال والفناء.

ومن هنا ، فإنّ المنافقين يظلمون أنفسهم ويظلمون المجتمع أيضا ولذلك فإنّ الآية اختتمت بقوله :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) . وكما قلنا مرارا ، فإنّ الهداية الإلهية تعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الغاية ، وهي تشمل ـ فقط ـ أولئك الذين لديهم الاستعداد لتقبل هذه الهداية ويستحقونها ، أمّا الظالمون الفاقدون لمثل هذا الاستعداد فسوف لا يشملهم هذا اللطف مطلقا ، لأنّ الله حكيم ، ومشيئته وإرادته

٢٢١

وفق حساب دقيق.

وفي آخر آية إشارة إصرار المنافقين وعنادهم ، فهي تعبّر عن تعصبهم وإصرارهم في أعمالهم ، وعنادهم في نفاقهم ، وحيرتهم في ظلمة كفرهم ، فهم في شك من بنيانهم الذي بنوه ، أو في النتيجة المرجوة منه ، وسيبقون في هذه الحال حتى موتهم :( لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ) .

إنّ هؤلاء يعيشون حالة دائمة من الحيرة والاضطراب ، وإن مقر النفاق الذي أقاموه ، والمسجد الضرار الذي بنوه ، سيبقى عامل تردد ولجاجة في أرواح هؤلاء ، فبالرغم من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أحرق هذا البناء وهدمه ، إلّا أن أثره وأهدافه قد لا تزول من القلوب.

وتقول الآية أخيرا :( وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) فإنّه تعالى إنّما أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهدم هذا البناء الذي يحمل صفة الحق ظاهرا ، حتى تتبيّن نيّات السوء التي انطوى عليها هؤلاء ، وتنكشف حقائقهم وبواطنهم وهذا الحكم الإلهي هو عين الحكمة ، وحسب صلاح المجتمع الإسلامي ، وقد صدر على هذا الأساس ، لا أنّه حكم عجول صدر نتيجة انفعال أو في لحظة غضب.

* * *

بحوث

١ ـ درس كبير

إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات ، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوضحان تماما بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقا ، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق ، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها ، والمستترة بهذا الظاهر البراق.

٢٢٢

المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان ، وفي كل مكان ، وبأي لباس تلبس ، وبأي صورة يظهر بها ، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب ، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.

إنّ الاستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئا جديدا ، بل هو طريق الاستعمار وأسلوبه على الدوام ، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما ، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم ، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.

وأساسا فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة ، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.

ومن البديهي أنّ محاربة الإسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة ، وذلك في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع ذلك النفوذ الخارق للإسلام والقرآن ، أمر غير ممكن ، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين ، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.

إلّا أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحيا إلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر ، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج ، ويحقق القرائن الأخرى التي لها علاقة البرامج وماهيتها ، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.

المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق ، ويلبي تلك الدعوة.

المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إليه ، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعارا دينيا ، أو يتعهد بالانضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين ، أو ينجذب إلى كل بناء يشيد باسم الدين.

٢٢٣

المسلم يجب أن يكون حذرا ، واعيا ، واقعيا ، بعيد النظر ، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الاجتماعية.

المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة ، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة ، ويعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء.

هناك قاعدة أساسية في الإسلام ، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء ، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته ، لا بظاهره ، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني ، إلّا أن أحدا لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته ، حتى ولو كان ماهرا ومقتدرا في اخفائها.

ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال ، وهو : لماذا أصدر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا بحرق المسجد الذي هو بيت الله ، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعا إخراج حصاة واحدة من حصاة ، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فورا إذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!

وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد ، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجدا بل معبدا للأصنام لم يكن مكانا مقدسا ، بل مقرا للفرقة والنفاق لم يكن بيت الله ، بل بيت الشيطان ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئا مطلقا.

كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين ، وفي كل الأزمنة والأعصار.

وتتّضح من هذا البحث ـ أيضا ـ أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام ، والتي تبلغ حدا بحيث إذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إلى التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقا.

٢٢٤

٢ ـ النفي لا يكفي لوحده!

الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات ، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار ، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأسسه على أساس التقوى.

إنّ النفي والإثبات يتجلى في الإسلام من شعاره الأصلي (لا إله إلّا الله) إلى أموره الصغيرة والكبيرة الأخرى ، يبيّن هذه الحقيقة ، وهي ضرورة وجود الإثبات إلى جانب النفي دائما على أرض الواقع العملي ، فإنّا إذا نهينا الناس عن الذهاب إلى مراكز الفساد ، فيجب أن نبني ونوفر لهم المقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها إذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة ، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة إذا حاربنا الثقافة الاستعمارية ، فيجب أن تهيئ الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم إذا شجبنا الانحلال الخلقي والسقوط الاجتماعي ، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.

الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي ، دون الاهتمام بالجانب الإيجابي والإثباتي ، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئا ، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح ، ولأنّ قانون الإسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة.

وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء ، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتميا.

٢٢٥

٣ ـ شرطان أساسيان

الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإيجابي دينيا واجتماعيا ، هو الذي يتشكل من عنصرين.

الأوّل : أن يكون الأساس الذي يستند إليه ، والهدف الذي يطمح إلى تحقيقه ، طاهرين من البداية :( أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) .

الثّاني : أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناسا طاهرين ومخلصين ومؤمنين :( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) .

إنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إلى الهدف المنشود.

* * *

٢٢٦

الآيتان

( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) )

التّفسير

تجارة لا نظير لها :

لما كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد ، فإنّ هاتين الآيتين قد بيّنتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع.

لقد عرّف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشتر ، والمؤمنين بأنّهم بائعون ، وقال :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) .

٢٢٧

ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية ، وهي عبارة عن : المشتري ، والبائع ، والمتاع ، والثمن ، وسند المعاملة أو وثيقتها ، فقد أشار الله سبحانه إلى كل هذه الأركان ، فجعل نفسه مشتريا ، والمؤمنين بائعين ، وأموالهم وأنفسهم متاعا وبضاعة ، والجنّة ثمنا لهذه المعاملة. غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف ، فقال :( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) وفي الواقع فإنّ يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه البضاعة ، سواء كانت روحا أم مالا يبذل في أمر الجهاد.

ثمّ يشير بعد ذلك إلى سند المعاملة الثابت ، والذي يشكل الركن الخامس فيها ، فقال:( وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) .

إذا أمعنا النظر في قوله :( فِي سَبِيلِ اللهِ ) يتّضح جليا أنّ الله تعالى يشتري الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله ، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة ، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.

ثم ، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة ، تضيف الآية :( وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ) أي أنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلا ، إلّا أنّه مضمون ، ولا وجود لأخطار النسيئة ، لأنّ الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل بعهده ، فلا هو ينسى ، ولا يعجز عن الأداء ، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ليندم عليه ويرجع عنه ، ولا يخلف وعده والعياذ بالله ، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك في وفائه بعهده ، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر.

والأروع من كل شيء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته ، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح ، تماما كما هو المتعارف بين التجار ، فيقولعزوجل :( فَاسْتَبْشِرُوا (١) بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(١) فاستبشروا مأخوذة من مادة البشارة ، والتي أخذت في الأصل من البشرة ، أي وجه الإنسان ، وهي إشارة إلى آثار الفرحة والسرور التي تبدو بوضوح على وجه الإنسان.

٢٢٨

وقد جاء نظير هذا المبحث بعبارات أخرى ، ففي الآيتين (١٠) و (١١) من سورة الصف يقول اللهعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

إنّ الإنسان ليقع في حيرة هنا من كل هذا اللطف والرحمة الإلهية ، فإنّ الله المالك لكل عالم الوجود ، والحاكم المطلق على جميع عالم الخلقة ، وكل ما يملكه أيّ موجود فانما هو من فيضه ومنحته ، يبدو في مقام المشتري لنفس هذه المواهب التي وهبها لعباده ، ويشتري ما أعطاه بمئات الأضعاف.

والأعجب من ذلك ، أنّ الجهاد الذي هو السبب في عزّة الإنسان وافتخار الامّة ، وثمراته تعود في النهاية عليها ، قد اعتبر دفعا وتسلميا لهذه البضاعة.

ومع أنّ المتعارف أنّ الثمن يجب أن يعادل المثمن أو البضاعة ، إلّا أن هذا التعادل لم يلاحظ في هذه المعاملة ، وجعلت السعادة الأبدية في مقابل بضاعة متزلزلة يمكن أن تفنى في أية لحظة ، (سواء كان على فراش المرض أو ساحة القتال).

والأهم من هذا أنّ الله سبحانه وتعالى مع أنّه أصدق الصادقين ، ولا يحتاج إلى سند وضمان ، فإنّه تعهد بأهم الوثائق والضمانات أمام عبيده.

وفي نهاية هذه المعاملة العظيمة ، والصفقة الكبيرة ، فإنّه قد بارك لهم وبشّرهم ، فهل تتصور رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!

وهل يوجد معاملة أكثر ربحا من هذه؟!

ولهذا ورد في حديث عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه لما نزلت هذه الآية كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، فتلا هذه الآية بصوت عال ، فكبر الناس ، فتقدم رجل من الأنصار وسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآية؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٢٩

«نعم». فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل(١) .

كما هي طريقة القرآن المجيد ، حيث أنّه يجمل الكلام في آية ، ثمّ يعمد إلى التفصيل في الآية التي تليها ، فقد بيّن سبحانه في الآية الثّانية حال البائعين للروح والمال لربّهمعزوجل ، فذكر تسع صفات مميزة لهم :

١ ـ فهم يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب بماء التوبة :( التَّائِبُونَ ) .

٢ ـ وهم يطهرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم :( الْعابِدُونَ ) .

٣ ـ وهم يحمدون ويشكرون كل نعم الله المادية والمعنوية :( الْحامِدُونَ ) .

٤ ـ وهم يتنقلون من مكان عبادة إلى آخر :( السَّائِحُونَ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ برامج تربية النفس عند هؤلاء لا تنحصر في العبادة ، أو في إطار محدود ، بل إن كان مكان هو محل عبدة لله وجهاد للنفس وتربية لها بالنسبة لهؤلاء ، وكل مكان يوجد فيه درس وعبرة لهؤلاء فإنّهم سيقصدونه.

(سائح) في الأصل مأخوذ من (سيح) ، و (سياحة) والتي تعني الجريان والاستمرار.

وهناك بحث بين المفسّرين فيما هو المقصود من السائح في الآية ، وأي نوع من الجريان والاستمرار والسياحة هو؟ فالبعض يرى ـ كما قلنا أعلاه ـ إن السير في تربية النفس وجهادها إنّما يكون في أماكن العبادة ، ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سياحة أمّتي في المساجد»(٢) .

والبعض الآخر يقول : إنّ السائح يعني الصائم ، لأنّ الصوم عمل مستمر طوال اليوم، وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن السّائحين هم الصّائمون»(٣) .

والبعض الآخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التنقل والتجوال في

__________________

(١) الدّر المنثور ، كما ورد في تفسير الميزان.

(٢) تفسير الميزان ، ذيل الآية.

(٣) تفسير نور الثقلين ، وكثير من التفاسير الأخرى.

٢٣٠

الأرض لمشاهدة آثار عظمة الله ، ومعرفة المجتمعات البشرية ، والتعرف على عادات وتقاليد وعلوم الأقوام التي تحيي فكر الإنسان وتنميه وتطوره.

وفريق آخر من المفسّرين يرى أن السياحة تعني التوجه إلى ميدان الجهاد ومحاربة الأعداء ، ويستشهدون بالحديث النبوي : «إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله».(١)

وأخيرا فإنّ البعض يرى أنّها سير العقل والفكر في المسائل العلمية المختلفة المرتبطة بعالم الوجود والتفكر فيها ، ومعرفة عوامل السعادة والإنتصار ، وأسباب الهزيمة والفشل.

إلّا أنّ أخذ الأوصاف ـ التي ذكرت قبل السياحة وبعدها ـ بنظر الإعتبار يرجح المعنى الأوّل ، ويجعله الأنسب من بين المعاني الأخرى ، وإن كانت كل هذه المعاني ممكنة في هذه الكلمة ، لأنّها جمعت في مفهوم السير والسياحة.

٥ ـ وهم يركعون مقابل عظمة الله :( الرَّاكِعُونَ ) .

٦ ـ ويضعون جباههم على التراب أمام خالقهم ويسجدون له :( السَّاجِدُونَ ) .

٧ ـ وهم يدعون الناس لعمل الخير :( الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) .

٨ ـ ولم يقتنعوا بهذه الدّعوة للخير ، بل حاربوا كل منكر وفساد :( وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

٩ ـ وبعد أدائهم وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقومون بأداء آخر وأهم واجب اجتماعي ، أي حفظ الحدود الإلهية وإجراء قوانين الله ، وإقامة الحق والعدالة :( وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) .

وبعد ذكر هذه الصفات التسع فإنّ الله يرغّب ـ مرّة أخرى ـ أمثال هؤلاء المؤمنين المخلصين الذين هم ثمرة منهج الإيمان والعمل ، ويقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

__________________

(١) تفسير الميزان ، وتفسير المنار في ذيل الآية.

٢٣١

ولما لم يذكر متعلق البشارة ، وبتعبير آخر : إنّ البشارة لما جاءت مطلقة فإنّها تعطي مفهوما أوسع يدخل ضمنه كل خير وسعادة ، أي بشر هؤلاء بكل خير سعادة وفخر.

وينبغي الالتفات إلى أن الصفات الست الأولى ترتبط بجانب جهاد النفس وتربيتها ، والصفة السّابعة والثّامنة ترتبطان بالواجبات الاجتماعية الحساسة ، وتشيران إلى تطهير محيط المجتمع من السلبيات ، والصفة الأخيرة تتحدث عن المسؤوليات المختلفة المتعددة المرتبطة بتشكيل الحكومة الصالحة ، والمشاركة الجدية في المسائل السياسية الإيجابية.

* * *

٢٣٢

الآيتان

( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) )

سبب النّزول

جاء في مجمع البيان في سبب نزول الآيات أعلاه ، أنّ جماعة من المسلمين كانوا يقولون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت هذه الآيات تنذرهم بأنّ لا حقّ لأحد أن يستغفر للمشركين.

وقد ذكرت في سبب نزول هذه الآيات أمور أخرى ، سنوردها في نهاية تفسير هذه الآية.

التّفسير

ضرورة قطع العلاقات مع الأعداء :

نهت الآية الأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين بلهجة قاطعة

٢٣٣

وحادة ، فهي تقول :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ) ولكي توكّد ذلك قالت :( وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ) .

ثمّ أنّ القرآن الكريم بيّن سبب ودليل هذا الحكم فقال :( مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) فإنّ هذا العمل ـ أي الاستغفار للمشركين ـ عمل لا معنى له وفي غير محله ، لأنّ المشرك لا يمكن العفو عنه بأي وجه ، ولا سبيل لنجاة من سار في طريق الشرك ، إضافة إلى أن طلب المغفرة نوع من إظهار المحبة والارتباط بالمشركين ، وهذا هو الأمر الذي نهى عنه القرآن مرارا وتكرارا.

ولما كان المسلمون العارفون بالقرآن قد قرءوا من قبل أن إبراهيم استغفر لعمه آزر ، ولذا فمن الممكن جدّا أن يتبادر الى أذهانهم هذا السؤال : ألم يكن آزر مشركا؟ وإذا كان هذا العمل منهيا عنه فكيف يفعله هذا النّبي الكبير؟

لهذا نرى أن الآية الثّانية تتطرق لهذا السؤال وتجيب عليه مباشرة لتطمئن القلوب ، فقالت :( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) .

وفي آخر الآية توضيح بأنّ إبراهيم كان إنسانا خاضعا بين يدي اللهعزوجل ، وخائفا من غضبه ، وحليما واسع الصدر ، فقالت :( إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) .

إنّ هذه الجملة قد تكون بيانا لسبب الوعد الذي قطعه إبراهيم لآزر بالاستغفار له ، لأنّ حلمه وصبره من جهة ، وكونه أوّاها ـ والذي يعني كونه رحيما طبقا لبعض التفاسير ـ من جهة أخرى ، كانا يوجبان أن يبذل قصارى جهده في سبيل هداية آزر ، حتى وإن كان بوعده بالاستغفار له ، وطلب المغفرة عن أعماله السابقة.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة دليلا على أنّ إبراهيم لخضوعه وخشوعه وخوفه من مخالفة أوامر الله سبحانه لم يكن مستعدا لأن يستغفر للمشركين أبدا ، بل إنّ هذا العمل كان مختصا بزمان كان أمل هداية آزر يعيش في قلبه ، ولهذا فإنّه بمجرّد أن اتّضح أمر عداوته ترك هذا العمل.

٢٣٤

فإن قيل : من أين علم المسلمون أنّ إبراهيم قد استغفر لآزر؟

قلنا : إن آيات سورة التوبة هذه ـ كما أشرنا في البداية ـ قد نزلت في أواخر حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قرأ المسلمون من قبل في سورة مريم ، الآية (٤٧) أن إبراهيم بقوله :( سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) كان قد وعد آزر بالاستغفار ، ومن المسلّم أن نبي الله إبراهيمعليه‌السلام لا يعد كذبا ، وكلما وعد وفى بوعده.

وكذلك كانوا قد قرءوا في الآية (٤) من سورة الممتحنة أنّ إبراهيم قد قال له:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) وكذلك في الآية (٨٦) من سورة الشعراء ، وهي من السور المكية ، حيث ورد الاستغفار صريحا بقوله :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ رواية موضوعة!

إنّ الكثير من مفسّري العامّة نقلوا حديثا موضوعا عن صحيح البخاري ومسلم وكتب أخرى عن سعيد بن المسيب عن أبيه ، أنّه لما حضرت أبا طالب الوفاة أتى إليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال له النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عم ، قل لا إله إلّا الله أحاج لك بها عند الله» ، فالتفت أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية إلى أبي طالب وقالوا : أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟! وكرر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله ، إلّا أنّ أبا جهل وعبد الله منعاه من ذلك. وكان آخر ما قاله أبو طالب : على دين عبد المطلب، وامتنع عن قول : لا إله إلّا الله ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندئذ : «سأستغفر لك حتى أنهى عنه» فنزلت الآية :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (١) .

إلّا أنّ الأدلة والقرائن على كذب ووضع هذا الحديث واضحة ، لما يلي :

__________________

(١) تفسير المنار ، وتفاسير أخرى لأهل السنة.

٢٣٥

أوّلا : المعروف والمشهور بين المفسّرين والمحدثين أنّ سورة براءة نزلت في السنة التاسعة للهجرة ، بل يعتقد البعض أنّها آخر سورة نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أن المؤرخين ذكروا أن وفاة أبي طالب كانت في مكّة ، وقبل هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولهذا نرى التخبط والتناقض الصريح الذي وقع فيه بعض المتعصبين كصاحب تفسير المنار ، فإنّهم قالوا تارة : إنّ هذه الآية نزلت مرّتين! مرّة في مكّة ، ومرّة في المدينة في السنة التاسعة للهجرة وظنوا أنّهم لما ادّعوا هذا الدليل رفعوا التناقض الذي سقطوا فيه.

وقالوا تارة أخرى : إنّ من الممكن أن تكون هذه الآية نزلت حين وفاة أبي طالب ، ثمّ أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضعها في سورة التوبة. إلّا أنّ هذا الادعاء كسابقه السابق عار من الدليل.

ألم يكن من الأجدر بهم بدل أن يتخطبوا في هذه التوجيهات التي لا أساس لها ، أن يترددوا ويشككوا في صحة الرّواية السابقة؟!

ثانيا : لا شك في أنّ الله سبحانه وتعالى قد نهى المسلمين في آيات من القرآن عن محبّة المشركين قبل موت أبي طالب ، ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر مصاديق إبراز المحبّة والصداقة ، فكيف يمكن والحال هذه أن يرحل أبو طالب من الدنيا ويقسم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه سيستغفر له حتى ينهاه الله؟!

العجيب أنّ الفخر الرازي ، الذي عرف بتعصبه في أمثال هذه المسائل ، لما لم يستطع إنكار أنّ هذه الآية قد نزلت ـ كبقية سورة التوبة ـ في أواخر عمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى توجيه محير وعجيب ، وهو أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمر بعد وفاة أبي طالب في الاستغفار له حتى نزلت هذه الآية ونهته عن الاستغفار! ثمّ يقول : ما المانع من أن يكون هذا الأمر ـ أي الاستغفار ـ مجازا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى ذلك الوقت؟!

٢٣٦

إنّ الفخر الرازي إذا حرر نفسه من قيود التعصب ، سيلتفت إلى عدم إمكان أن يستغفر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفرد مشرك طوال هذه المدّة ، في الوقت الذي كانت آيات كثيرة من القرآن الكريم قد نزلت إلى ذلك الزمان تدين وتشجب أي نوع من مودة المشركين ومحبتهم(١) .

ثالثا : إنّ الشخص الوحيد الذي روى هذه الرّواية هو «سعيد بن المسيب» ، وبعضه وعداؤه لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام أشهر من نار على علم ، وعلى هذا لا يمكن الاعتماد على روايته في شأن عليعليه‌السلام أو أبيه أو أبنائه مطلقا.

لقد نقل «العلّامة الأميني قدس سرّه» ـ بعد أن أشار إلى الموضوع أعلاه ـ كلاما عن «الواقدي» يستحق التوقف عنده ، حيث يقول : إن سعيد بن المسيب مر بجنازة الإمام السجاد علي بن الحسينعليه‌السلام ولم يصل عليها ، واعتذر بعذر واه ، إلّا أنّه على قول ابن حزم ـ لما سئل : أتصلي خلف الحجاج أم لا؟ قال : نحن نصلّي خلف من هو أسوأ من الحجاج!

رابعا : كما قلنا في الجزء الخامس من هذا التّفسير ، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ أبا طالب قد آمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيّنا الأدلة الواضحة على ذلك ، وأثبتنا بأنّ ما قيل في عدم إيمان أبي طالب هو تهمة كبيرة. وقد صرّح بذلك كل علماء الشيعة ، وجماعة من علماء السنة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) والقسطلاني في (إرشاد الساري) وزيني دحلان في (حاشية السيرة الحلبية).

وقلنا أن المحقق المدقق إذا لا حظ المد السياسي المغرض الذي تزعمه حكام بني أمية ضد عليعليه‌السلام ، استطاع أن يقدر بأن كل من ارتبط بأمير المؤمنين عليه

__________________

(١) لقد ورد النهي عن محبّة وموالاة الكافرين صريحا في الآية (١٣٩) من سورة النساء ، والتي نزلت قبل سورة التوبة مسلما ، وكذلك في الآية (٣٨) من سورة آل عمران ، وهي كذلك نزلت قبل سورة براءة ، وفي هذه السورة قال الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات التي سبقت هذه الآية :( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ) .

٢٣٧

السّلام لم يبق بمنأى عن التعرض المغرض.

في الحقيقة ، أنّ أبا طالب لم يكن له ذنب سوى أنّه أبو علي بن أبي طالبعليه‌السلام إمام المسلمين ، وقائدهم العظيم! ألم يتهموا أبا ذرّ ، ذلك المجاهد الإسلامي الكبير لحبّه وعشقه لعليعليه‌السلام ، وجهاده ضد مذهب عثمان؟!

(لمزيد الاطلاع على إيمان أبي طالب الذي كان حاميا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع مراحل حياته ، ومدافعا عنه ، ومطيعا لأوامره ، راجع الآية (٢٥) و (٢٦) من سورة الانعام في المجلد الرّابع من تفسيرنا هذا)

٢ ـ لماذا وعد إبراهيم آزر بالاستغفار؟

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : كيف وعد إبراهيم عمّه آزر بالاستغفار ، وحسب ظاهر هذه الآية وآيات القرآن الأخرى ، فإنّه قد وفى بوعده ، مع العلم أنّه لم يؤمن أبدا ، وكان من المشركين وعبدة الأصنام الى آخر حياته ، والاستغفار لمثل هؤلاء ممنوع؟

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي الانتباه أوّلا إلى أنّه يستفاد من الآية ـ بوضوح ـ أنّ إبراهيم كان يأمل أن يجذب آزر إلى الإيمان والتوحيد عن هذا الطريق ، وكان استغفاره في الحقيقة هو : اللهم اهده ، وتجاوز عن ذنوبه السابقة.

لكن لما ارتحل آزر من هذه الدنيا وهو مشرك ـ وأصبح من المحتم عند إبراهيم أنّه مات وهو معاد لله ، ولم يبق سبيل لهدايته ـ ترك استغفاره لآزر. وعلى هذا فإنّ المسلمين أيضا يستطيعون أن يستغفروا لأصدقائهم وأقربائهم المشركين ما داموا على قيد الحياة ، وكان هناك أمل في هدايتهم ، بمعنى طلب الهداية والمغفرة من الله سبحانه لهؤلاء ، إلّا أنّهم إذا ماتوا وهم كفار فلا مجال للاستغفار بعد ذلك.

أمّا ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام ذكر أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان

٢٣٨

قد وعد آزر بالاستغفار ان هو أسلم ـ لا أنّه يستغفر له قبل إسلامه ، فلمّا تبيّن له أنّه عدو لله تنفر منه وابتعد عنه ، وعلى هذا فإنّ وعد إبراهيم كان مشروطا ، فلمّا لم يتحقق الشرط لم يستغفر له أبدا ، فإنّ هذه الرّواية إضافة إلى أنّها مرسلة وضعيفة ، فإنّها تخالف ظاهر أو صريح الآيات القرآنية ، لأنّ ظاهر الآية التي نبحثها أن إبراهيم قد استغفر ، وصريح الآية (٨٦) من سورة الشعراء أن إبراهيم قد طلب المغفرة له ، حيث يقول :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

والشاهد الآخر ما ورد عن ابن عباس أنّه قال : إن إبراهيم قد استغفر مرارا لآزر ما دام حيا ، فلمّا مات على كفره وتبيّن عداؤه لدين الحق ، امتنع عن هذا العمل.

ولما كان فريق من المسلمين راغبين في أن يستغفروا للمحسنين الذين ماتوا وهم مشركون ، فقد نهاهم القرآن بصراحة عن ذلك ، وصرّح بأن وضع إبراهيم يختلف تماما عن وضعهم ، فإنّه كان يستغفر لآزر في حياته رجاء هدايته وإيمانه ، لا بعد موته.

٣ ـ ضرورة قطع كل رابطة بالأعداء

إنّ هذه الآية ليست الوحيدة التي تتحدث عن قطع كل رابطة بالمشركين ، بل يستخلص من عدّة آيات في القرآن الكريم أن كل ارتباط وتضامن وعلاقة ، العائلية منها وغيرها ، يجب أن تخضع لإطار العلاقات العقائدية ، ويجب أن يحكم الانتماء الى الله ومحاربة كل أشكال الشرك والوثنية كل اشكاليات الترابط بين المسلمين. لأنّ هذا الارتباط هو الأساس والحاكم على كل مقدراتهم الاجتماعية ، ولا تستطيع العلاقات والروابط السطحية والفوقية أن تنفيه.

إنّ هذا درس كبير للأمس واليوم ، وكل الأعصار والقرون.

* * *

٢٣٩

الآيتان

( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) )

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ فريقا من المسلمين ماتوا قبل نزول الفرائض والواجبات وتشريعها ، فجاء جماعة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهروا قلقهم على مصير هؤلاء ـ وكانوا يظنون أن هؤلاء ربّما سينالهم العقاب الإلهي لعدم أدائهم الفرائض ، فنزلت الآية ونفت هذا التصور(١) .

وقال بعض الآخر من المفسّرين : إنّ هذه الآية نزلت في مسألة استغفار المسلمين للمشركين ، وإظهارهم محبّتهم لهم قبل النهي الصريح الوارد في الآيات السابقة ، لأنّ هذه المسألة كانت باعثا لقلق المسلمين ، فنزلت الآية وطمأنتهم إلى أنّ استغفارهم قبل الني لا يوجب حسابهم ومعاقبتهم.

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608