الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261556 / تحميل: 6532
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وهو وليكم بعدي وانه مني وانا منه وهو وليكم بعدي » ( هكذا مكرراً ) وفي لفظ آخر. « من كنت وليه فعلى وليه ». وفي آخر عن بريدة « غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله يتغير فقال: يا بريدة ألست اولى بالمؤمنين من انفسهم قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه » الى غير ذلك(١) .

ولا شك ان المراد بالولي هو المتولي لامور الناس والحاكم عليهم دون الناصر والمحب ونحو ذلك فان قوله « بعدي » اما ان يريد به بعده زمانا و نعلم أن نصرة الامام وحبه للمسلمين لم يختص بما بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بل كان ناصراً للمسلمين ومحباً لهم في عهد الرسالة المجيدة بكامله بل يمكن ان يقال ان نصرته لهم كانت منحصرة في ذلك العهد فقد اعتزل الامور بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله زهاء ثلاثين سنة. واما ان يريد بالبعدية من حيث الرتبة فولايته متأخرة رتبة عن ولاية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهذه قرينة واضحة على ان المراد بها ما هو من سنخ ولاية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي كونه اولى بالمؤمنين من انفسهم كما وقع التصريح بذلك في احد النصوص كما مر ذكره. هذا مع ان الولاية بمعنى النصرة والمحبة لا يختص بها عليعليه‌السلام بل المؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض كما في الكتاب العزيز فالولاية الخاصة به التي امتدحه بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله وجه عدم جواز معارضته في هذه النصوص هي الولاية بمعنى الاولوية والحكومة.

وهناك كثير من النصوص المتفرقة التي تدل بتواترها الاجمالي على نص الرسول بخلافة عليعليه‌السلام مثبتة في المجامع الروائية من اراد الوقوف عليها فليراجع المراجعات للامام شرف الدين او الغدير للعلامة الاميني او سائر الكتب المؤلفة لهذا الشأن.

واما اخبار الامامية واحتجاج الائمةعليهم‌السلام فاوضح من الشمس والنص على خلافتهعليه‌السلام واحد عشر اماماً من ولده من ضروريات المذهب وواضحاته والكتب في ذلك كثيرة منها كتاب كفاية الأثر للخزّاز الرازي، والالفين للعلامة الحلي، وغاية المرام والإنصاف للسيد هاشم البحرانى، وبحار الأنوار ( ج ٣٦ )، واثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحر العامليرحمه‌الله ، وجامع الأثر للسيد حسن آل طه، و....

____________________

(١) المعجم الكبير: ١٢ / ٩٩ ضمن ح ١٢٥٩٣، البداية والنهاية: المجلّد ٤ ج ٧ / ٣٤٥، مجمع الزوائد: ٩ / ١٢٠، منحة المعبود: ٢ / ١٧٨ ح ٢٦٥٢.

٢١

الشورى عند علماء الامامية

واما الشواهد التي تشبث بها الكاتب في ص ١٩ لاثبات « ان تراثهم ( الامامية ) يحفل بنصوص اخرى تؤكد التزام الرسول الاعظم واهل البيت بمبدأ الشورى وحق الامة في انتخاب ائمتها » فهي:

١ - تقول رواية يذكرها الشريف المرتضى - وهو من أبرز علماء الشيعة في القرن الخامس الهجري - إنّ العباس بن عبد المطلب خاطب أمير المؤمنين في مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسأله عن القائم بالأمر بعده « فإن كان لنا بيَّنه وإن كان لغيرنا وصّى بنا »، وإن أمير المؤمنين قال: « دخلنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين ثقل، فقلنا: يا رسول الله... استخلف علينا، فقال: لا، إنّي أخاف أن تتفرقوا عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيراً اختار لكم ».

أقول: التمسك بهذه الرواية واسنادها الى الشيعة والى كتاب الشافي للشريف المرتضى يدل على سوء سريرة الرجل وانه ليس كاتبا حراً بل كاتب اجير فهذه رواية يتمسك بها خصوم الشيعة والشريف ذكرها في عداد ما تمسك به الخصم لردّ وجود نصّ على امير المؤمنينعليه‌السلام وردّه الشريف المرتضىرحمه‌الله قال في ص١٥١ من الجزء الثاني ط طهران(١) : « قال صاحب الكتاب ( اي قاضي القضاة المعتزلي ) حكاية عن ابي هاشم: وكيف جاز ان يقول له العباس ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليل: سله عن هذا الامر فان كان لنا بيّنه وان كان لغيرنا وصّى بنا.... ».

واجاب عنه في ص١٥٢: « اما سؤال العباسرضي‌الله‌عنه عن بيان الامر من بعده فهو خبر واحد غير مقطوع عليه ومذهبنا في اخبار الآحاد التي لا تكون متضمنة لما يعترض على الأدلة والاَخبار المتواترة المقطوع عليها معروف فكيف بما يعترض ما ذكرناه من اخبار الآحاد ؟ فمن جعل هذا الخبر المروي عن العباس دافعاً لما تذهب إليه الشيعة من النصّ الذي قد دلّلنا على صحّته، وبيّنا استفاضة الرواية به فقد أبعد. على أنّ الخبر إذا سلّمناه وصحّت الرواية به غير دافع للنصّ، ولا منافٍ له لاَنّ سؤالهرحمه‌الله يحتمل أن يكون عن حصول الأمر لهم وثبوته في أيديهم، لا عن استحقاقه ووجوبه، يجري ذلك مجرى رجل نحل بعض أقاربه نحلاً وأفرده بعطية بعد وفاته، ثمّ حضرته الوفاة فقد يجوز لصاحب النحلة أن يقول له أترى ما نحلتنيه وافردتني به يحصل لي من بعدك، ويصير إلى يدي أم يحال بيني وبينه ويمنع من وصوله إليَّ ورثتك، ولا يكون هذا السؤال دليلاً على شكّه في الاستحقاق، بل يكون دالاً على شكّه في حصول الشيء الموهوب له إلى قبضته والذي يبيّن صحّة تأويلنا، وبطلان ما توهّموه قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في جواب العبّاس على ما وردت به الرواية:

____________________

(١) الارقام هنا تختلف عما ذكره الكاتب في الهامش وما ذكره خطأ.

٢٢

( انكم المقهورون )، وفي رواية اُخرى: ( انكم المظلومون ).

وقال في ص٩١ من الجزء الثالث في كلام طويل نقله عن كتاب المغني ( لقاضي القضاة ) يبدأ من ص٩٠ وينتهي في ٩٦: « والمروي عن العباس انه خاطب اميرالمؤمنينعليه‌السلام في مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ان يسأله عن القائم بالامر بعده وانه امتنع من ذلك خوفاً ان يصرفه عن اهل بيته فلا يعود اليهم ابداً.... ».

واجاب عنه الشريف في ص١٠١ بقوله: « فامّا الخبر الذي رواه عن العباس رضى الله عنه من انه قال اميرالمؤمنينعليه‌السلام : لوسألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن القائم بالامر بعده فقد تقدم في كتابنا الكلام عليه وبيّنا انه لو كان صحيحاً لم يدل على بطلان النص فلا وجه لا عادة ما قلناه فيه ».

وما ذكره الشريفرحمه‌الله جواب للكاتب ايضاً وهو ان هذا الخبر لو فرض صحة سنده - ولا سند له - فلا يقاوم هذه الاخبار المتواترة القطعية المتضمنة لنص الرسول الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على اميرالمؤمنينعليه‌السلام . هذا مع ان تشكيك العباس في النص لا يدل على عدم وجود النص كما جاء في التأويل الذي ذكره الشريف.

هذا بالنسبة الى صدر الرواية التي جاء بها الكاتب واما ما ذيّله به من ان اميرالمؤمنينعليه‌السلام قال دخلنا على رسول الله.... الى آخره فهذا ايضاً خبر آخر نقله في كتاب الشافي قبل هذا الخبر عن الخصم اي كتاب المغني ورده الشريف ايضاً بقوله فى ص١٠١: « وبعد فبازاء هذين الخبرين اللذين رواهما في ان اميرالمؤمنينعليه‌السلام لم يوص كما لم يوص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الاخبار التي ترويها الشيعة من جهات عدة وطرق مختلفة المتضمنة لانهعليه‌السلام وصّى الى الحسن ابنه واشار اليه واستخلفه وارشد الى طاعته من بعده وهي اكثر من ان نعدّها ونوردها » ثم ذكر بعض ما روي في هذا الباب.

وهذه ايضاً من مراوغات الكاتب حيث ينسب ما يرويه الشريف عن خصمه - ليرد عليه بعد ذلك الى نفس الشريف وكأنه اعتمد على هذه الرواية واستند اليها!!!

٢ - « ويقول الكليني في الكافي نقلاً عن الإمام جعفر بن محمد الصادق إنّه لما حضرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين فقال للعباس: يا عم محمد... تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي واُمّي إني شيخ كبير كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق هنيهة ثمّ قال: يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال كردّ كلامه... قال: أما إنّي سأعطيها من يأخذها بحقها، ثمّ قال: يا علي، يا أخا

٢٣

محمد، أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال: نعم بأبي واُمّي ذاك عليّ ولي(١) .

وهذه الوصية كما هو ملاحظ، وصية عادية شخصية آنية، لا علاقة لها بالسياسة والإمامة والخلافة الدينية وقد عرضها الرسول في البداية على العباس بن عبد المطلب فأشفق منها وتحمّلها الإمام أمير المؤمنين طواعية »(٢) .

الرواية مع ضعفها سنداً بسهل بن زياد الآدمى لا تدل على شيء مما يرومه الكاتب فهل اثبات وصية كهذه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينفي نصبه للخلافة ؟! وهل في هذه الرواية جملة تدل على انحصار وصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام في ذلك ؟! كلا ولكن الغريق يتشبث بكل حشيش وكم اتعب نفسه هذا الرجل ليؤيد مزعمته هذه أن اهل البيتعليهم‌السلام لم يؤمنوا بالنص بل آمنوا بالشورى فلم يجد الا رواية ضعيفة تدل على ان هناك وصية اخرى للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاراد بذكرها ان يوهم للقارئ أن ائمة الشيعة لا يدعون ايصاء بالخلافة وانما يدعون ايصاءً بهذه الامور. ولكن كيف يمكن الاستدلال بهذه الرواية على انحصار الوصاية في ذلك ؟! ولو فرض دلالتها فهل تقاوم هذه الرواية عشرات الروايات المتواترات القطعيات التي ملأت كتب الشيعة مما صرح فيها بخلافتهعليه‌السلام بل تجاوزتها فملأت كتب العامة ايضاً ؟!

٣ - « وهناك وصية اخرى ينقلها الشيخ المفيد في بعض كتبه عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ويقول إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أوصى بها إليه قبل وفاته، وهي أيضاً وصية أخلاقية روحية عامة وتتعلّق بالنظر في الوقوف والصدقات »(٣) .

وهذه ايضاً كسابقتها وان لم اجدها في الامالي والارشاد ولكنها مهما كانت فانها على فرض الصحة لا تنفي الاستخلاف ولا تعارض الروايات الدالة على خلافتهعليه‌السلام ولو عارضت ايضاً لم يكن لها خطر كما هو واضح ولكن الكاتب يرقص فرحاً فقد وجد في هذه الروايات الثلاث ضالته وهو يدعي ان تراث الشيعة يحفل بنصوص تؤكد التزام اهل البيت بمبدأ الشورى !!! فتراه يقول:

« واذا القينا بنظرة على هذه الروايات التي يذكرها اقطاب الشيعة الامامية كالكليني والمفيد والمرتضى فاننا نرى انها تكشف عن عدم وصية رسول الله للامام علي بالخلافة والامامة وترك الامر شورى... »(٤) .

وقد القينا النظرة بل تأملنا بجد فرأينا الاحاديث لا تدل على ذلك ولا يتوهم منها الدلالة أصلاً بل

____________________

(١) الكافي ١: ٢٣٦.

(٢ - ٤) تطور الفكر... ص ٢٠.

٢٤

وجدناك كاذبا تنسب الحديث الى الشافي وهو لم يذكره الا نقلاً عن الخصم ليردّه.

احجام الامام عن اخذ البيعة لنفسه

ثم قال: « وهو ما يفسرّ احجام الامام علي عن المبادرة الى اخذ البيعة لنفسه بعد وفاة الرسول بالرغم من الحاح العباس بن عبدالمطلب عليه بذلك حيث قال له امدد يدك ابايعك وآتيك بهذا الشيخ من قريش ( يعنى ابا سفيان ) فيقال ان عم رسول الله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك من قريش احد والناس تبع لقريش فرفض الامام علي ذلك »(١) .

أقول: التاريخ يقول لنا ان الامام كان مشتغلا بتجهيز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما اجتمعت الانصار في السقيفة ثم حضر ابو بكر وعمر وابو عبيدة فمنعوهم من التبايع وساعدهم على ذلك ضغائن الاوس والخزرج كما اسلفناه وتم الامر لابي بكر فهذه البادرة التي اظهرها العباس - لو صحت الرواية - انما كان بعد مؤامرة السقيفة وتمامية الامر لابي بكر ومن الطبيعي ان يرفض الامام (ع) كل اقتراح من هذا القبيل بعد ان بقي منفردا لا يمكنه الصولة إلا بيد جذاء ونتيجته ان لا يبقى موحد ابداً ولا يسمع صوت الشهادة على المآذن.

هذا مع انهعليه‌السلام لم يكن بحاجة الى اخذ البيعة لنفسه فقد بايعه المسلمون يوم الغدير بما فيهم ابوبكر وعمر ووجوه الصحابة وقال له عمر: بخ بخ لك يا ابا الحسن اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن - أو كل مسلم - على اختلاف الروايات، وقد رواه جمع كثير من الحفاظ واصحاب السنن جمعهم العلامة الامينيرحمه‌الله في كتاب الغدير حيث قال: وخصوص حديث تهنئة الشيخين رواه من ائمة الحديث والتفسير والتاريخ من رجال السنة كثير لا يستهان بعدتهم بين راوٍ مرسلا له ارسال المسلّم وبين راوٍ اياه بمسانيد صحاح برجال ثقات تنتهي الى غير واحد من الصحابة كابن عباس وابي هريرة والبراء بن عازب وزيد بن ارقم....

ثم عد ستين حافظاً من اهل السنة رووه في مصنفاتهم منهم ابن ابي شيبة المتوفى ٢٣٥ في المصنف والامام احمد في سنده وابن جرير الطبري في تفسيره والحافظ الشهير الدار قطني في سننه والثعلبي في تفسيره والخطيب البغدادي في تاريخه والغزالي في سر العالمين والشهرستاني في الملل والنحل والخوارزمي في مناقبه وابن الجوزى في مناقبه ايضاً والامام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير وابن الاثير في اسد الغابة وسبط ابن الجوزي في تذكرته وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهم الى

____________________

(١) تطور الفكر... ص ٢٠.

٢٥

تمام الستين(١) .

ومن الغريب جداً ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصب خيمة في المكان واجلس فيها علياعليه‌السلام كما في بعض هذه المصادر وامر الناس ووجوه الصحابة رجالا ونساءً حتى امهات المؤمنين على ما في بعضها ايضاً - كما نقله في الغدير - ان يبايعوا عليا ثم يقال انه اراد بذلك اعلامهم انه ناصرهم وان عليهم ان يحبّوه ويوالوه !!!

شعور الامام بالاولوية والاحقية

وفي ص٢١: « وبالرغم من شعور الامام علي بالأحقّية والأولوية في الخلافة، إلاّ أنّه عاد فبايع أبا بكر، وذلك عندما حدثت الردّة، حيث مشى إليه عثمان بن عفان فقال له: « يا ابن عم، إنّه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم تبايع » ( المرتضى، الشافي، ج٣ ص ٢٤٢ ) فأرسل إلى أبي بكر أن يأتيه فأتاه أبو بكر فقال له: « والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير، ولكنّا كنّا نظنّ أن لنا في هذا الأمر نصيباً استبدّ به علينا »، وخاطب المسلمين قائلاً: « إنّه لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألاّ أكون عارفاً بحقّه، ولكنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر نصيباً استبدّ به علينا » ثمّ بايع أبا بكر، فقال المسلمون: اصبت واحسنت ».

يروي الكاتب هاتين الروايتين عن المرتضى في الشافي وكأنه هو الراوي لها مع انه رواها ضمن مجموعة من الروايات في نفس القضية عن البلاذري وقد قال فيه: « وحاله في الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروف »(٢) . وغرض الشريف من نقل هذه الروايات اثبات ان بيعتهعليه‌السلام لم تكن بطيب خاطر وتأييد لخلافة ابي بكر ولذلك قال في ذيل الحديث المذكور: « ومن تأمل هذا الخبر وما جرى مجراه علم كيف وقعت الحال في البيعة وما الداعي اليها ولو كانت الحال سليمة والنيات صافية والتهمة مرتفعة لما منع عمر ابا بكر ان يصير الى اميرالمؤمنينعليه‌السلام وحده » وهذا امر ورد في الخبر المذكور ولم ينقله الكاتب لانه ينافي غرضه الذي يتوخاه من نقل الحديثين المذكورين. صدر الرواية هكذا: عن عائشة قالت: « لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة بعد ستة

____________________

(١) للاطلاع راجع الغدير ١: ٢٧٠.

وانظر: مسند أحمد بن حنبل: ٤/٢٨١، وذكره عن أحمد في كنز العمّال: ٦/٣٩٧، فضائل أحمد: ١١١، ١٦٤، مصنّف ابن أبي شيبة: ١٢/٧٨/١٢٦٧، تاريخ بغداد: ٨/٢٩٠، البداية والنهاية: ٥/٢١٠، مناقب الخوارزمي: ٩٤، كفاية الطالب: ٦٢، فرائد السمطين: ١/٣٨، ٧١. الرياض النضرة: ٢/١٦٩، وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل: ١٠٩ ( مخطوط ).

(٢) الشافي ٣: ٢٤٠.

٢٦

اشهر فلما ماتت ضرع (!) الى صلح ابي بكر فأرسل اليه ان يأتيه فقال عمر: لا تأته وحدك قال وماذا يصنعون بي....».

ثم يفسر الكاتب ما نفث به صدر الامامعليه‌السلام طيلة ايام خلافته من شكاوى عما صنع به القوم بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقول: « ولا شك ان تمنع الامام علي من المسارعة إلى بيعة أبي بكر كان بسبب أنّه كان يرى نفسه أولى وأحقّ بالخلافة وهو كذلك، أو كان يرى ضرورة مشاركته في الشورى وعدم جواز الاستبداد بها دونه، وقد سأله رجل من بني أسد: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحقّ به ؟ فقال: يا أخا بني أسد... أما الاستبداد بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نوطاً، فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ».

ينقل الكاتب هنا بعض الاخبار والخطب مما يوهم انهعليه‌السلام انما كان يرى نفسه احق بالخلافة من جهة الفضل والعلم والجهاد ولا يدعي نصاً على نفسه وانما كان يؤمن بالشورى كمبدأ لتعيين الخليفة ولذلك بايع ابابكر فلنلاحظ الاخبار والخطب:

١ - خطبة ١٦٢ من نهج البلاغة وهي التي نقلناها آنفاً عن الكاتب. وقد قال الامام بعد الجملة المذكورة « والحكم الله والمعود اليه يوم القيامة... » ولنتأمل الخطبة هل معنى العبارة ان الامام يؤمن بالشورى كمبدأ لتعيين الخليفة ؟ فلو صح ذلك فلماذا يشكو الامام المتقمصين للخلافة ؟ وما ذنبهم اذا كان الناس اختاروهم للقيادة ؟ أليس الواجب عليهم القيام باعبائها اذا اختارتهم الامة فلماذا يعبر الامام عنها بالاثرة. والأثرة: الشيء يؤخذ ممن هو حق له او نفس الأخذ من دون استحقاق، وفي الفائق انه الاستئثار بالفيء وغيره. وفي الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله للانصار: « انكم ستلقون بعدي اثرة فاصبروا ». واعتقاد الامام انه احق بالخلافة واصلح لها حسب نظرية الشورى لا يعني الا ان الاولى للناس ان يختاروه اماماً فان لم يفعلوا فلا شيء عليهم ولا على الذي يختارونه وليست هنا خلافة مغتصبه او وضع في غير محله فان محله هو الذي يختاره الناس سواء اصابوا الاصلح ام اخطأوا بل لا يجب عليهم ان يتحروا الاصلح فلماذا هذه الشكاوى وممن ؟ ولماذا التعبير بان نفوساً شحت عليها وبخلت بها لو لم يكن لهعليه‌السلام حق ثابت ؟ ولماذا يهددهم بان الحكم الله واليه يوم القيامة ؟

ثم يتابع الكاتب فيروي الخطبة الشقشقية متقطعة ونحن نرويها كاملة ليتضح الامر:

« أما والله لقد تقمصها فلان ( وفي نسخة ابن ابي قحافة ) وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا. ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطّير، فسدلت دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً. وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصّغير ،

٢٧

ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!

فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً، أرى تراثي نهباً، حتّى مضى الأوّل لسبيله، فأدلى بها إلى فلان ( وفي نسخة ابن الخطاب ) بعده. ثم تمثل بقول الاعشى:

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته - لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ! - فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصّعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم، فمني النّاس - لعمر الله - بخبط وشماسٍ. وتلوّن واعتراض، فصبرت على طول المدّة. وشدّة المحنة، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيالله وللشورى ! متى اعترض الرّيب في مع الأول منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر ! لكنّى أسففت إذ أسفوا. وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هنٍ وهنٍ، إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته !

فما راعني إلاّ والناس كعرف الضّبع إلي، ينثالون علي من كل جانبٍ، حتى لقد وطىء الحسنان، وشقّ عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون: كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: « تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين » بلى ! والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها !

أما والّذي فلق الحبّة، وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود النّاصر، وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقاروا على كظّة ظالم. ولا سغب مظلومٍ، لالقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنزٍ !(١)

ونستعرض الآن العبارات التي وردت في هذه الخطبة وتدل على انهعليه‌السلام يرفض الشورى ولا يرى لغيره حقا بالخلافة لا بشورى ولا بغيرها ويعتقدانه حق غصب منه:

١ - تقمصها... اي لبسها ولا يحق له ذلك... ولو كان الامر موكولاً الى الناس يختارون من يريدون حسب نظرية الشورى لكانت الخلافة بعد اختيارهم - كما يزعمه الزاعمون - حقا له وليس قميصاً لغيره لبسه ابن ابي قحافة غصبا وظلماً.

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لمحمد عبدة ١: ٣٤ ( الخطبة الشقشقية ).

٢٨

٢ - وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى. يشبه الامامعليه‌السلام الخلافة والامامة بالرحى ونفسه الزكية بقطبها والرحى لا تدور الاّ على قطبها فهو يرى لنفسه منزلة لا يمكن للخلافة الا ان تدور عليه وتكون بيده سواء اراد الناس أم ابوا ولو كان الامر موكولاً الى الناس لم يكن لاحد منزلة القطب في رحى الخلافة وانما القطب لها من اختاره الناس سواء كان صالحاً ام غير صالح اذ لا حق لاحد خارج نطاق الشورى وانتخاب الناس. والطريف ان الامامعليه‌السلام يعلن بان ابابكر يعلم ذلك ومن اين علمه ابوبكر مع انهم كانوا يزعمون ان عليّا شاب لا ترضى بزعامته مشايخ العرب فلا معنى لهذه الجملة الا الاشارة الى النص الذي كان يعلم به ابوبكر كما يعلمه سائر الصحابة.

٣ - وطفقت ارتئي بين ان اصول بيد جذّاء... هذه العبارة تدل بوضوح على انهعليه‌السلام لو كانت له يد قادرة على الحرب واعوان على الصولة على القوم لحاربهم وقاتلهم واخذ منهم الزعامة بالقوة وانما منعه عن ذلك فقد انصار اقوياء يبذلون النفس في سبيل الحق. وعلى ماذا يقاتل الامام لو لم يكن له حق مغصوب مسلوب ؟! ولو كان الامر شورى وبانتخاب الناس فالحق هو ما اختاروه ولم يكن هناك ما يبرر الصولة على القوم والاطاحة بهم فهذه الجملة صريحة في ان لهعليه‌السلام حقا ثابتا في زعامة المسلمين ليس لاحد ان يغتصبه سواء تجمعت الامة على احد ام تفرقوا.

وقد تكرر من الامامعليه‌السلام القول بهذا المضمون فمنها قوله في الخطبة(٥) من نهج البلاغة: « ايها الناس شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناحٍ، أو استسلم فأراح، ماءٌ آجن، ولقمة يغصّ بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزَّارع بغير أرضه، فإن أقُل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت.

هيهات بعد اللتيا والتي! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه، بل اندمجت على مكنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة ».

قال ابن ابي الحديد في ذيل الخطبة: « لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واشتغل عليّعليه‌السلام بغسله ودفنه، وبويع أبو بكر، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعبّاس وعليعليه‌السلام لإجالة الرأي، وتكلّموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج، فقال العباسرضي‌الله‌عنه : قد سمعنا قولكم فلا لِقلّة نستعين بكم، ولا لِظنّةٍ نترك آراءكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الاثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحقّ صرير الجُدجد، ونبسط إلى المجد أكفّاً لا نقبضها أو نبلغ المدى، وإن تكن الاُخرى، فلا لِقلّة في العدد ولا لوَهنٍ في الأيد، والله لولا أنّ الاسلام قيّد الفتك، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العليّ.

٢٩

فحلّ عليعليه‌السلام حبوته، وقال: الصبر حلم، والتقوى دين، والحجّة محمد، والطريق الصراط، ايها الناس شُقّوا أمواج الفتن.... ( الخطبة ).... فدخل الى منزله وافترق القوم »(١) .

وفي تذكرة ابن الجوزى: « لما دفن رسول الله.... ونقل الخطبة باختلاف »(٢) .

وقولهعليه‌السلام : افلح من نهض بجناح واستسلم فأراح كالصريح في أنه لو كان له جناح لنهض وقام بالسيف ولكن حيث لا جناح له فهو يستسلم ليريح الناس ولا يوجب ازعاجهم دون جدوى.

وفي الشطر الاخير من الخطبة بينعليه‌السلام ان استسلامه ليس خوفاً من الموت وقد أنس به مليّاً في خضمّ الحروب فهو آنس به من الطفل بثدي امه ولكنه انطوى على مكنون علم يمنعه من المطالبة بالقوة وهو - كما بينه في مواضع كثيرة - خوف الفتنة وانقسام المسلمين، والضغائن الجاهلية بعدُ كامنة في النفوس، فان وجدت لها مخرجا فارت، وعاد الامر جذعة، وارتد الناس الى الجاهلية، والمنافقون يكيدون للدين الحديث المكائد، وفي المسلمين سمّاعون لهم. والخطر محدق بهم من الخارج ايضاً حيث الامبراطوريات المهدّدة تحاول انتهاز الفرص للقضاء على كل خطر يهدد كيانها. ولذلك ردّ الامامعليه‌السلام اقتراح أبي سفيان بانه يملأ المدينة خيلاً ورجلاً.

وقولهعليه‌السلام في الخطبة(٢٦) : « فنظرت فاذا ليس لي معين إلاَّ اهل بيتي فضننت بهم عن الموت واغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على اخذ الكظم وعلى أمرَّ من طعم العلقم »(٣) .

ومثله على اختلاف يسير الخطبة ٢١٧ ففيها: « فنظرت فاذا ليس لي رافد ولا ذابّ ولا ساعد الا اهل بيتي فضننت بهم عن المنيّة فاغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ على امرّ من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار »(٤) .

٤ - أرى تراثي نهباً. وهذه الجملة ايضا صريحة في ان الامامعليه‌السلام كان يرى نفسه وارث الزعامة والولاية فهو لم يتحدث هنا عن ارث المال ولم يكن هو وارث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شرعاً لو كان له مال موروث بل كان المال لزوجاته وابنته مع أن كلامه هنا يدور حول الخلافة وتقمص ابي بكر لها فهي التراث المنهوب وهذا صريح في ان خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فى الولاية والأقرة على المسلمين ليست حقا للناس يختارون من شاؤوا بل تراث يورثه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من شاء وانه اورثها

____________________

(١) نهج البلاغة ١: ٢١٨.

(٢) تذكرة الخواص: ١٢٨، البحار ٢٨:٢٣٣.

(٣) نهج البلاغة ١: ١٢٢.

(٤) نهج البلاغة، صبحي الصالح: ٣٣٦.

٣٠

علياعليه‌السلام بالنص وانّهم غصبوها منه كما قالعليه‌السلام في خطبة اخرى: « فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليّ منذ قبض الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يومنا هذا »(١) .

٥ - فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها... حيث إنّ الامامعليه‌السلام لم يتعجب منه كيف عقد الخلافة لآخر ولم يترك الامر للشورى وانتخاب الناس ولو كان الامام يؤمن بالشورى كمبدأ لتعيين الخليفة لكان هذا هو وجه العجب حيث استند ابوبكر في شرعية خلافته الى الشورى - كما يزعمون - ثم عيّن الخليفة من بعده بالنص ولكنهعليه‌السلام لم يبد عجبا من ذلك وانما تعجب منه كيف عقدها لآخر وهو يستقيل منها في حياته ويشير بذلك الى قول ابي بكر في خطبة له: « اقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم »(٢) .

ويستشهد الكاتب بعد ذلك بهذه الرواية المروية عن زيد بن علي عن الامام اميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: « بايع الناس أبابكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت امري والزقت كلكلي بالارض » يروي الكاتب هذه القطعة من الحديث عن الشافي للشريف المرتضىرحمه‌الله ( ٣: ١١٠ ) ونحن ننقله كاملاً: «... ثم ان ابابكر هلك واستخلف عمرو قد والله علم أني اولى بالناس مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت امري ثم ان عمر هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدّة فقال: اقتلوا الاقلّ فكظمت غيظي وانتظرت امري والزقت كلكلي بالارض حتى ما وجدت الا القتال او الكفر بالله ».

ويعقب الكاتب على نقل هذه الخطب والكلمات بقوله: « وفي هذه الخطب يشير الامام علي بن ابي طالب الى اولويته بالخلافة واحقيته بها وان اهل البيت هم الثمرة اذا كانت قريش شجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يشير الى مسألة النص عليه من رسول الله او تعيينه خليفة من بعده... ».

وقد تبين بما مرّ انهعليه‌السلام لا يقصد بهذه العبارات انه اولى بالخلافة بل ان الخلافة حق له غصب منه وكذلك كلامه هذا فانه لا يقول: « وانا اولى بها منهم » كما يتوهمه او يوهمه الكاتب بل يقول: « وانا اولى بهم مني بقميصي هذا » كما صرح بذلك في عبارته التالية « وقد والله علم ( يعني ابابكر ) أني أولى بالناس مني بقميصي هذا... » ومن المعلوم انهعليه‌السلام يملك قميصه فمراده بهذا الكلام ليس اولويته بالخلافة بل المراد انه اولى بالناس من الناس أنفسهم وانه يملك امورهم اكثر مما يملك قميصه.

____________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ٦.

(٢) الإمامة والسياسة ١: ٢٢، كنز العمال ٥: ٥٨٨ ح ١٤٠٤٦، تاريخ الطبري ٣: ٢١٠، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١: ١٦٩.

٣١

فهذه العبارة غاية في الدلالة والصراحة بانهعليه‌السلام ولي أمر الناس ولاية مطلقة عامة شاملة لجميع شؤونهم ولاية تفوق ملكية الانسان لقميصه الذي يلبسه. هل يمكن ان يحصل هذه الولاية لانسان على الناس الا بجعل من الله تعالى ؟! من الواضح ان ولاية كهذه لاتحصل بانتخاب الناس واختيارهم مع انهم لم يختاروه خليفة وقائداً. فانظر مدى الفرق بين مفاد كلام الامام وما يروم الكاتب ان يحمل عليه كلامهعليه‌السلام .

ثم قال الكاتب: « وينقل الكليني رواية عن الامام محمد الباقر يقول فيها ان الامام عليا لم يدع الى نفسه وانه اقرّ القوم على ما صنعوا وكتم امره » وما وجدت هذا الحديث في الموضع الذي اشار اليه الكاتب اي الروضة من الكافي: ٢٤٦ ولا في مواضع اخرى تعد من مظانّه رغم البحث والفحص ومهما كان فلا يزيد هذا الحديث شيئاً على ما ذكر فمن الواضح انه عليهعليه‌السلام لم يدع الى نفسه علانية بحيث يوجب شق عصا المسلمين وهو الذي يقول لما عزم القوم على بيعة عثمان: « لقد علمتم أنّي احقّ الناس بها من غيري ووالله لاسلمنّ ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الاّ عليّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » الخطبة ٧٤. وغير ذلك مما قالهعليه‌السلام في ذلك.

يقول الكاتب: « واذا كان حديث الغدير يعتبر أوضح وأقوى نصّ من النبي بحقّ أمير المؤمنين، فإنّ بعض علماء الشيعة الإمامية الأقدمين، كالشريف المرتضى، يعتبره نصّاً خفياً غير واضح بالخلافة، حيث يقول في الشافي: « إنّا لا ندّعي علم الضرورة في النص، لا لأنفسنا ولا على مخالفينا، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرّح بادعاء ذلك »(١) .

من الغريب والمخجل ان ينسب الى الشريف ذلك وفي هذا الموضع بالذات من كتابه وهو انما يحاول فيه اثبات النص على خلافة اميرالمؤمنينعليه‌السلام ويرد على قاضي القضاة المعتزلي فلننظر ماذا يقول الشريف ليتبين مدى مراوغة الرجل:

قال الشريف قبل هذه العبارة بصفحات أي في الصفحة ٦٥: « الذي نذهب اليه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على أمير المؤمنينعليه‌السلام بالامامة بعده، ودلّ على وجوب فرض طاعته ولزومها لكلّ مكلّف، وينقسم النصّ عندنا في الأصل إلى قسمين أحدهما يرجع إلى الفعل ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل. فأمّا النصّ بالفعل والقول، فهو ما دلّت عليه أفعالهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنينعليه‌السلام من جميع الاُمّة، الدالّة على استحقاقه من التعظيم والاجلال

____________________

(١) تطور الفكر.... ص ٢٢.

٣٢

( الى ان قال في ص٦٧ ):

« فأمّا النص بالقول دون الفعل ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما علم سامعوه من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مراده منه باضطرار، وإن كنّا الآن نعلم ثبوته والمراد منه استدلالاً وهو النصّ الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالإمامة والخلافة، ويسمّيه أصحابنا النصّ الجلي كقولهعليه‌السلام « سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين »، و « هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا »(١) .

والقسم الآخر: لا نقطع على أن سامعيه من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علموا النصّ بالاِمامة منه اضطراراً ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالاً من حيث اعتبار دلالة اللفظ، وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن.

فأمّا نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلاّ استدلالاً كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي» و « من كنت مولاه فعليّ مولاه »، وهذا الضرب من النص هو الذي يسمّيه أصحابنا النصّ الخفيّ.

ثمّ النصّ بالقول ينقسم قسمة اُخرى إلى ضربين:

فضرب منه تفرّد بنقله الشيعة الإمامية خاصة، وإن كان بعض من لم يفطن بما عليه فيه من أصحاب الحديث قد روى شيئاً منه، وهو النصّ الموسوم بالجليّ.

والضرب الآخر رواه الشيعي والناصبي وتلقاه جميع الاُمّة بالقبول على اختلافها، ولم يدفعه منهم أحد يحفل بدفعه يعد مثله خلافاً وان كانوا قد اختلفوا في تأويله وتباينوا في اعتقاد المراد به وهو النصّ الموسوم بالخفي الذي ذكرناه ثانياً »(٢) .

لاحظ هذه العبارة فانه يقول ان النص بالقول على قسمين قسم اوجب العلم الضروري للسامعين في ذلك الوقت وان كان لا يوجب لنا في هذا الزمان علماً ضرورياً لعدم وجود القرائن الحالية الدخيلة في وضوح الدلالة اولم يثبت وقوعه لنا بعلم ضروري ولكنا نعلمه ونعلم دلالته ايضاً بعلم استدلالي. فالفرق بيننا وبينهم انهم يعلمون به وبدلالته ضرورة بمعنى انه لا يحتاج ايجابه للعلم والقطع الى استدلال وترتيب مقدمات لانهم كانوا شاهدين على ذلك فلا حاجة الى اثبات تواتره ولان القرائن الحالية توجب القطع بالمراد واما نحن فيمكننا تحصيل العلم والقطع بذلك ولكن بعد استدلال وترتيب مقدمات يوجب

____________________

(١) وهو حديث يوم الدار، انظر تاريخ الطبري ٢: ٣٢١.

(٢) الشافي ٢: ٦٥ - ٦٨.

٣٣

اثبات تواتر النقل ووضوح الدلالة. فهذا هو الفرق بين النص الجلي والنص الخفي عنده وعند اصحابنا كما يقول.

ولنعد الآن الى عبارته التي نقلها الكاتب وننقل ما قبلها وما بعدها ليتضح المراد:

« قال صاحب الكتاب: ( اي قاضي القضاة المعتزلي ): فان قيل انّا ندَّعي هذا الجنس من الاضطرار لمن فتّش عن الأخبار وأزال عن قلبه الشبهة، ولم يسبق إلى اعتقاد فاسدٍ، فأمّا من حصل فيه بعض هذه الوجوه لم يحصل له الضرورة، ولذلك يحصل الاضطرار لطوائف الشيعة ولا يحصل للمخالفين.

قيل لهم: إذا كان ذلك هو الحجّة وقد أقررتم أنّه لا يحصل للمخالف فيجب أن يكونوا في أوسع العذر في مخالفتكم وأن لا يلحقهم الذم بذلك.

فان قالوا: إنّما نذمّهم من حيث اعتقدوا إمامة غير أمير المؤمنينعليه‌السلام لشبهة.

قيل لهم: فيجب أن لا يلحق من شكّ في ذلك وتوقّف الذم ويكون معذوراً في ذلك وذلك ينقض أصلهم في الإمامة لأنّهم يحعلونها من أعظم أركان الدين وأصلاً لسائر الشرائع ( فكيف يصحّ أن لا يعلمها من خالفهم مع علمه بفروع الدين التي هي الصلاة والصيام وغير ذلك ).

يقال له: قد بيّنا أنا لا ندّعي علم الضرورة في النص لا لأنفسنا ولا على مخالفينا، وما نعرف أحداً من أصحابنا صرّح بادّعاء ذلك ولكنّا نكلّمك على ما يلزمك دون ما نذهب إليه ونعتقده حقّاً.

أمّا ادّعاؤك أن يكون المخالف لنا في أوسع العذر إذا لم يعرف النص ضرورة، فباطل لا يدخل في مثله شبهة على مثلك لأنّا إنّما ألزمناك أن يرتفع العلم الضرورة عنهم بالنصّ على وجهٍ كانوا فيه هم المانعين لأنفسهم منه، وهم مع كونهم مانعين من وقوعه متمكنون من إزالة المانع، والخروج عمّا ارتفع من أجله العلم بالنصّ من الشبهة أو السبق إلى الاعتقاد، ولو شاءوا لفارقوا ذلك فوقع لهم العلم الضروري، فكيف يجب على هذا أن يكونوا معذورين... »(١) .

وخلاصة القول ان قاضي القضاة يدعي ان العلم الضروري بالنص من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على خلافة عليعليه‌السلام انما يحصل لمن فتش الاخبار وبحث عن النص ولم يكن على شبهة وعقيدة مخالفة قبل ذلك ولا يحصل العلم الضروري لمن لم يفتش عنها او فتش وكان على اعتقاد راسخ بعدم وجود النص فانه يأول ما يراه او يمنع حصول التواتر وعلى ذلك فهو معذور في عدم حصول العلم له واذا كان كذلك فيأتي الاشكال في اصل ثبوت النص بانه كيف لم يحصل الشك والشبهة للمسلمين جميعاً المعترفين بالنبوة في وجوب الصلاة والصوم وحصل لهم الشك في ثبوت نص الخلافة ولم يحصل

____________________

(١) الشافي ٢: ٩٧ - ٩٨.

٣٤

العلم الضروري الا للشيعة وبذلك يتبين انه لا يوجد نص يوجب العلم الضروري بذلك. هذا خلاصة مدعى القاضي.

ويرد عليه الشريف بانا لا ندعي العلم الضروري بالنص لا لنا ولا لمخالفينا بل ندعى ان هذه الاخبار الواردة من طرقكم - ولا نكلّمك على ما نعتقده حقاً - يوجب العلم الاستدلالي اي يحصل العلم بعد ملاحظة الحجج والادلة المثبتة لصحة الاخبار وتواترها ووضوح دلالتها واما قولك: « ان من لم يلاحظ هذه الادلة فهو معذور » غير صحيح لانهم هم المانعون عن تحقق هذا العلم لهم حيث لم يلاحظوا الادلة وكيفية دلالتها على وجه يوجب العلم الضروري لهم ولو من طريق الاستدلال وهذا لا يوجب عذراً.

وما ذكره الشريف صحيح وواضح جداً فان من سمع بالرسالات واحتمل ان يكون هناك شريعة وحساب ومعاد لا يجوز له عقلا التغافل عنه والاشتغال بملاهي الحياة الدنيا ولا يكون معذوراً امام الله تعالى بانه لم يثبت له بالعلم الضروري صحة ما جاء به الرسل فكما ان رجلا كهذا ليس معذوراً قطعاً كذلك لا يعذر المخالف الذي يتغاضى ويتجاهل وجود هذه النصوص ووجود كتب استدلالية علمية لعلماء الشيعة فلا يراجعها لئلا يحصل له العلم بفساد مذهبه الذي بنى عليه شؤون حياته.

وهكذا يتبين انّ ما رامه الكاتب ان يستفيده من عبارة حذف اولها وآخرها في كتاب الشافي للشريف المرتضى هو عكس ما يقصده الشريف تماماً.

قال الكاتب: « ولذلك فإن الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير أو غيره من الأحاديث معنى النصّ والتعيين بالخلافة، ولذلك اختاروا طريق الشورى، وبايعوا أبا بكر كخليفة من بعد الرسول، ممّا يدلّ على عدم وضوح معنى الخلافة من النصوص الواردة بحقّ الاِمام علي، أو عدم وجودها في ذلك الزمان »(١) .

تبين مما مرّ في فصل نظام الشورى بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ان بيعة ابي بكر لم تقم على اساس الشورى وانما كانت فلتة وقى الله شرها كما يعتقد الشيخان ابوبكر وعمر. ومهما كان فلقائل ان يقول: ان البيعة وان لم تتم على اساس الشورى يومذاك الا ان المسلمين بايعوا تدريجياً فلم يختلف عليه اثنان وحصل الاجماع ولله الحمد !

ولكن الواقع ان ما حدث في ذلك العهد كان اشبه شيء بانقلاب عسكري لم يترك مجالاً لاحد ان يبدي رأيه او يخالف من دعي باسم خليفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فان ذلك كان يعدّ شقاً لعصا

____________________

(١) تطور الفكر... ص ٢٢.

٣٥

المسلمين ومبرراً لسفك دمه ومع ذلك فان هناك من لم يبايع اصلاً كسعد بن عبادة ومن بايع كرهاً وهم جماعة كثيرة اعلنوا كراهتهم وعلى رأسهم اميرالمؤمنينعليه‌السلام ويكفيك دليلاً على ذلك مامرّ من خطبه اللاذعة التي صرح فيها بانه لم يكن مكرهاً فحسب بل كان عازماً على ثورة دموية تقلب نظام الحكم ولكنه لم يستطع لخذلان الناس اياه وقد ورد في الروايات انه كان يسير على نوادي الانصار ليلا ومعه سيدة النساء سلام الله عليها يستنصرهم على غاصبي حقه فكانوا يعتذرون بسبق بيعتهم لابي بكر وانهم لو سمعوا داعيته قبلها لا جابوا.

وقد ورد ذكر ذلك في كتاب معاوية الى اميرالمؤمنينعليه‌السلام حيث كتب: « وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ويداك في يدي ابنيك حسن وحسين يوم بويع أبو بكر، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلاّ دعوتهم إلى نفسك، ومشيت إليهم بامرأتك، وأدليت إليهم بابنيك، واستنصرتهم على صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يجبك منهم إلاّ أربعة أو خمسة، ولعمري لو كنت محقّاً لأجابوك ولكنك ادّعيت باطلاً، وقلت ما لا يعرف، ورمت ما لا يدرك، ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حرّكك وهيّجك « لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم » فما يوم المسلمين منك بواحد »(١) .

ومع ذلك فهناك من الصحابة من انكر على ابي بكر جلوسه على منبر الخلافة وان بايع بعد ذلك مكرهاً كما ورد من طرقنا وهم جماعة من المهاجرين والانصار منهم خالد بن سعيد بن العاص والمقداد بن الاسود وابي بن كعب وعمار بن ياسر وابوذر الغفاري وسلمان الفارسي وعبدالله بن مسعود وبريدة الاسلمي وخزيمة بن ثابت وسهل بن حنيف وابو ايوب الانصاري وابو الهيثم بن التيهان وغيرهم(٢) .

الشورى عند امير المؤمنينعليه‌السلام

يحاول الكاتب ان يثبت ان اميرالمؤمنينعليه‌السلام كان يؤمن بالشورى كنظام لتعيين القائد وقد تبين بما ذكرناه في فصل « الشورى عند اهل البيتعليهم‌السلام » وفصل « شعور الامام بالاولوية والاحقية » انّهعليه‌السلام كان يرى لنفسه حقا ثابتاً بالنص وانه لو كان متمكناً من اخذ حقه بالقوة لحاربهم على ذلك ولو كان يرى ان ذلك حق للناس لم يكن لذلك مبرر وانما كان له الحق في ارشاد الناس وتوجيههم وبيان فضائله لهم ليختاروه ولم يكن له الحق في محاربة من اختاره الناس كما يزعمه

____________________

(١) شرح النهج ١: ١٣١، وج ٣: ٥، البحار ٢٨: ٣١٣.

(٢) راجع البحار ٢٨: ١٨٩ و ٢٠٨.

٣٦

دعاة الشورى.

ولكن الكاتب يحتج بدخول الامام في الشورى الذي عينها عمر لاختيار احدهم خليفة واحتجاجهعليه‌السلام بفضائله ودوره في خدمة الاسلام وعدم اشارته الى موضوع النص عليه او تعيينه خليفة من بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولو كان حديث الغدير يحمل هذا المعنى لا شار الامام الى ذلك وحاججهم بما هواقوى من ذكر الفضائل ص ٢٣.

والجواب عن ذلك واضح، فان الإمام ما كان يمكنه هذا الاحتجاج في شورى عيّنها عمر إذ يستوجب ذلك القدح في خلافته وخلافة من سبقه وهو وان صرّح في مواطن عديدة بانهما غصبا حقّه إلاّ انّه لا يمكنه الاحتجاج في مثل هذه الشورى بذلك فانه انّما دخلها بعد التنازل عن حقّه الأول فلا يمكنه الاستناد إليه وهو انما دخل الشورى لئلا يقال انّ انتخاب عثمان انّما تم من جهة عدم اشتراك عليعليه‌السلام في الشورى فلو كان لم يدخل في الشورى لاعترض عليه الناس بذلك فأراد أن يقطع عذرهم ويبطل احتجاجهم ليظهر للناس انّ انتخاب عثمان انّما كان حسب مكيدة لمبتكر الشورى.

اذن فدخوله في الشورى لا يدل على قبوله لها، مع انّ هذه الشورى ليست شورى واقعية فلم يشترك فيها المسلمون بأجمعهم، ولا المهاجرون والأنصار، بل ولا جميع أهل الحل والعقد، مع انّ كل ذلك تخصيص بلا مبرر، ثمّ اختيار هذه المجموعة بما فيهم عبد الرحمن بن عوف مع تمايله إلى صهره عثمان - كما ذكره الإمام عليعليه‌السلام في الشقشقية - وترجيح المجموعة التي فيها عبد الرحمن بنصّ الخليفة من دون أي مبرر أو مرجح يكشف لنا المكيدة التي دبّرها الخليفة لازاحة الحق عن أهله، فهذه لم تكن شورى كيف ما تصورناها بل هي مكيدة سياسية، ودخول الامام فيها لا يفيد دعاة هذا النظام. واحتجاجه بفضائله دون النص أيضاً لا يدل على عدم النص لما ذكرناه من انّه لا يمكن الاحتجاج به في تلك المجموعة. وانما يصحّ أن يسأل عن وجه عدم استناد الامام إلى النص يوم السقيفة واحتجاجاً على الشيخين، دون يوم الشورى واحتجاجاً على مناوئيه ذلك اليوم. والواقع انّ الإمامعليه‌السلام استند إلى النصّ يوم السقيفة ولكنه خرج عن داره متأخراً، وبعد انتهاز الشيخين واتباعهما فرصة اشتغال الامامعليه‌السلام بتجهيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك فقد كان يخرج الامامعليه‌السلام من داره ليلاً يأخذ أهل بيته ويمر على ابواب الصحابة ويذكرهم بالنصوص التي صرّح بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنهم كانوا يعتذرون بسبق بيعتهم لأبي بكر، كما انّ الصحيح الوارد عن طرقنا انّ الإمامعليه‌السلام واصحابه الذين مر ذكرهم احتجوا على ابي بكر وعمر وحزبهما بالنصوص المذكورة ولكن لم يعيروا لذلك اهتماماً واستمروا على نهجهم محتجّين بانّ العرب لا ترضى ان تكون النبوّة والخلافة في

٣٧

بيت واحد، والملاحظ المنصف يحصل له القطع بانّ الشيخين لم يكتفيا بمنع عليعليه‌السلام حقّه بل حاولا أن لا ينال علي ذلك بعد وفاتهما أيضاً، فتجد انّها احتجا عليه بانّه شاب وان مشيخة الصحابة لا يرضون بتأمّر شاب عليهم ومع ذلك فلم يرض عمر أن يجعل الخلافة له من بعده ولم يكن الامام آنذاك شاباً، بل حاول بالمكيدة التي ذكرنا شطراً منها في تعيين عناصر الشورى أن يمنعه من الوصول إليه، ولو لم يقتل عثمان لما آل الأمر إليهعليه‌السلام بعده أيضاً.

هذا وهناك رأي آخر يسلّم انّ الامامعليه‌السلام لم يواجه الحاكمين بنصوص الخلافة ولكنه يرى انّ هناك مبررات لهذا السكوت، ومع انّا لا نوافق على ذلك، بل نعتقد انّ الامام وأصحابه وأهل بيته بما فيهم سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها جابهوا الحاكمين بل وسائر الصحابة بتلك النصوص كما مرّ ذكره ولكنا نذكر هذه الفكرة لانها تستحق الدراسة والتأمّل ومن لم يطمئن بتصريح الامام، له أن يفسر ذلك بهذا الرأي.

يقول المفكر الاسلامي الكبير سيدنا الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه في كتابه القيّم « فدك في التاريخ »:

« ونحن نتبين من الصورة المشوشة التي عرفناها عن تلك الظروف والاوضاع ان الاعتراض بتلك النصوص المقدسة والاحتجاج بها في ساعة ارتفع فيها المقياس الزئبقي للافكار المحمومة والأهواء الملتهبة التي سيطرت على الحزب الحاكم الى الدرجة العالية كان من التقدير المعقول افتراض النتائج السيئة له لأن اكثر النصوص التي صدرت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأن الخلافة لم يكن قد سمعها الا مواطنوه في المدينة من مهاجرين وأنصار فكانت تلك النصوص اذن الامانة الغالية عند هذه الطائفة التي لابد أن تصل عن طريقهم الى سائر الناس في دنيا الاسلام يومئذ والى الاجيال المتعاقبة والعصور المتتالية. ولو احتج الامام على جماعة أهل المدينة بالكلمات التي سمعوها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في شأنه وأقام منها دليلاً على امامته وخلافته لكان الصدى الطبيعي لذلك أن يكذب الحزب الحاكم صديق الامة في دعواه وينكر تلك النصوص التي تمحو من خلافة الشورى لونها الشرعي وتعطل منها معنى الدين.

وقد لا يجد الحق صوتاً قوياً يرتفع به في قبال ذلك الانكار لأن كثيرا من قريش وفي مقدمتهم الامويون كانوا طامحين الى مجد السلطان ونعيم الملك وهم يرون في تقديم الخليفة على اساس من النص النبوي تسجيلا لمذهب الامامة الالهية، ومتى تقررت هذه النظرية في عرف الحكم الاسلامي كان معناها حصر الخلافة في بني هاشم آل محمد الاكرمين وخروج غيرهم من المعركة خاسرا. وقد نلمح

٣٨

هذا اللون من التفكير في قول عمر لابن عباس معللا اقصاء علي عن الامر: ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة(١) فقد يدلنا هذا على أن اسناد الامر الى علي في بداية الامر كان معناه في الذهنية العامة حصر الخلافة في الهاشميين وليس لذلك تفسير اولى من أن المفهوم لجمهرة من الناس يومئذ من الخلافة العلوية تقرير شكل ثابت للخلافة يستمد شرعيته من نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي ان وجد نصيرا من علية قريش يشجعه على مقاومة الحاكمين فانه لا يجد منهم عضدا في مسألة النص اذا تقدم الى الناس يحدثهم ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد سجل الخلافة لأهل بيته حين قال: اني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي الخ.

وأما الانصار فقد سبقوا جميع المسلمين الى الاستخفاف بتلك النصوص والاستهانة بها اذ حدت بهم الشراهة الى الحكم الى عقد مؤتمر في سقيفة بني ساعدة ليصفقوا على يد واحد منهم فلن يجد علي فيهم اذا استدل بالنصوص النبوية جنودا للقضية العادلة وشهودا عليها لانهم اذا شهدوا على ذلك يسجلون على انفسهم تناقضا فاضحا في يوم واحد وهذا ما يأبونه على انفسهم بطبيعة الحال.

وليس في مبايعة الأوس لأبي بكر أو قول من قال: لا نبايع الا عليا مناقضة كتلك المناقضة لأن المفهوم البديهي من تشكيل مؤتمر السقيفة ان مسألة الخلافة مسألة انتخاب لا نص فليس الى التراجع عن هذا الرأي في يوم اعلانه من سبيل.

وأما اعتراف المهاجرين بالامر فلا حرج فيه لأن الأنصار لم يجتمعوا على رأي واحد في السقيفة وانما كانوا يتذاكرون ويتشاورون ولذا نرى الحباب بن المنذر يحاول بث الحماسة في نفوسهم والاستمالة بهم الى رأيه بما جلجل به في ذلك الاجتماع من كلام وهو يوضح انهم جمعوا لتأييد فكرة لم يكن يؤمن بها الا بعضهم.

واذن فقد كان الامام يقدر انه سوف يدفع الحزب الحاكم الى انكار النصوص والاستبسال في هذا الانكار اذا جاهر بها ولا يقف الى جانبه حينئذ صف ينتصر له في دعواه لان الناس بين من قادهم الهوى السياسي الى انكار عملي للنص يسد عليهم مجال التراجع بعد ساعات وبين من يرى ان فكرة النص تجعل من الخلافة وقفا على بني هاشم لا ينازعهم فيها منازع. واذا سجلت الجماعة الحاكمة وانصارها انكارا للنص واكتفى الباقون بالسكوت في الاقل فمعنى هذا ان النص يفقد قيمته الواقعية وتضيع بذلك مستمسكات الامامة العلوية كلها ويؤمّن العالم الاسلامي الذي كان بعيدا عن مدينة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على انكار المنكرين لانه منطق القوة الغالب في ذلك الزمان.

____________________

(١) راجع تاريخ الكامل ج ٣ ص ٢٤.

٣٩

ولنلاحظ ناحية اخرى فان عليا لو ظفر بجماعة توافقه على دعواه وتشهد له بالنصوص النبوية المقدسة وتعارض انكار الفئة الحاكمة كان معنى ذلك ان ترفض هذه الجماعة خلافة ابي بكر وتتعرض لهجوم شديد لكيانه السياسي الى حد بعيد فانه لا يسكت عن هذا اللون من المعارضة الخطرة فمجاهرة علي بالنص كانت تجره الى المقابلة العملية وقد عرفنا سابقا انه لم يكن مستعدا لا علان الثورة على الوضع القائم والاشتراك مع السلطات المهيمنة في قتال.

ولم يكن للاحتجاج بالنص اثر واضح من ان تتخذ السياسة الحاكمة احتياطاتها واساليبها الدقيقة لمحو تلك الاحاديث النبوية من الذهنية الاسلامية لانها تعرف حنيئذ ان فيها قوة خطر على الخلافة القائمة ومادة خصبة لثورة المعارضين في كل حين.

واني اعتقد أن عمر لو التفت الى ما تنبه اليه الأمويون بعد أن احتج الامام بالنصوص في ايام خلافته واشتهرت بين شيعته من خطرها لاستطاع أن يقطعها من اصولها ويقوم بما لم يقدر الأمويون عليه من اطفاء نورها وكان اعتراض الامام بالنص في تلك الساعة ينبهه الى ما يجب أن ينتهجه من أسلوب فأشفق على النصوص المقدسة أن تلعب بها السياسة وسكت عنها على مضض واستغفل بذلك خصومه حتى ان عمر « رضي الله تعالى عنه » نفسه صرح بأن عليا هو ولي كل مؤمن ومؤمنة بنص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

ثم ألم يكن من المعقول ان يخشى الامام على كرامة حبيبه وأخيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تنتقض وهي أغلى عنده من كل نفيس - اذا جاهر بنصوص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو لم ينس موقف الفاروق من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين طلب دواة ليكتب كتابا لا يضل الناس بعده أبدا، فقال عمر: ان النبي ليهجر أو قد غلب عليه الوجع(٢) ، وقد اعترف فيما بعد لابن عباس ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يريد أن يعين عليا للخلافة وقد صده عن ذلك خوفا من الفتنة(٣) .

وسواء أكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يريد ان يحرر حق علي في الخلافة اولا فان المهم ان نتأمل موقف عمر من طلبه فهو اذا كان مستعداً لاتهام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجها لوجه بما ينزهه عنه نص القرآن وضرورة الاسلام خوفا من الفتنة فما الذي يمنعه عن اتهام آخر له بعد وفاته مهما تلطفنا في تقديره فلا يقل عن دعوى ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصدر عن أمر الله في موضوع الخلافة

____________________

(١) راجع ذخائر العقبى ص ٦٧.

(٢) للحديث مصادر كثيرة تكتفي بذكر واحد منها، راجع صحيح البخاري ١: ٣٧، باب كتابة العلم.

(٣) راجع شرح النهج ج ٢ ص ١١٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

التّفسير

العقاب بعد البيان :

إن الآية الأولى تشير إلى قانون كلّي وعام ، يؤيده العقل أيضا ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ما دام لم يبيّن حكما ، ولم يصل شيء من الشرع حوله ، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحدا ، وبتعبير آخر : فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائما بعد بيان الأحكام ، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) .

إنّ المقصود من (يضل) ـ في الأصل الإضلال والتضييع ، أو الحكم بالإضلال ـ كما احتمله بعض المفسّرين (كما يقال في التعديل والتفسيق ، أي الحكم بعدالة الشخص وفسقه)(١) أو بمعنى الإضلال من طريق الثواب يوم القيامة ، وهو في الواقع بمعنى العقاب.

أو أنّ المقصود من «الإضلال» ما قلناه سابقا ، وهو سلب نعمة التوفيق ، وإيكال الإنسان إلى نفسه ، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية لا محالة ، وهذا التعبير إشارة خفية ولطيفة إلى حقيقة ثابتة ، وهي أنّ الذّنوب دائما هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد(٢) .

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي إن علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه ما دام لم يبيّن الحكم الشرعي لعباده ، فإنّه سوف لا يؤاخذهم أو يسألهم عنه.

__________________

(١) يتصور البعض أنّ باب (تفعيل) هو الوحيد الذي يأتي أحيانا بمعنى الحكم ، في حين يلاحظ ذلك في باب (إفعال) أيضا ، كالشعر المعروف المنقول عن الكميت ، حيث يقول في بيان عشقه وحبّه لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وطائفة قد أكفروني بحبّكم.

(٢) لمزيد التوضيح حول معنى الهداية والضلال في القرآن ، راجع ذيل الآية (٢٦) من سورة البقرة.

٢٤١

جواب سؤال

يتصور بعض المفسّرين والمحدّثين أنّ الآية دليل على أن «المستقلات العقلية» ـ (وهي الأمور التي يدركها الإنسان عن طريق العقل لا عن طريق حكم الشرع ، كإدراك قبح الظلم وحسن العدل ، أو سوء الكذب والسرقة والاعتداء وقتل النفس وأمثال ذلك) ـ ما دام الشرع لم يبيّنها ، فإن أحدا غير مسئول عنها. وبتعبير آخر فإنّ كل الأحكام العقلية يجب أن تؤيد من قبل الشرع لإيجاد التكليف والمسؤولية على الناس ، وعلى هذا فإنّ الناس قبل نزول الشرع غير مسئولين مطلقا ، حتى في مقابل المستقلات العقلية.

إلّا أنّ بطلان هذا التصور واضح ، فإنّ جملة( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ) تجيبهم وتبيّن لهم أنّ هذه الآية وأمثالها خاصّة بالمسائل التي بقيت في حيز الإبهام وتحتاج إلى التّبيين والإيضاح ، ومن المسلّم أنّها لا تشمل المستقلات العقلية ، لأنّ قبح الظلم وحسن العدل ليس أمرا مبهما حتى يحتاج إلى توضيح.

الذين يذهبون إلى هذا القول غفلوا عن أن هذا القول ـ إن صحّ ـ فلا وجه لوجوب تلبية دعوة الأنبياء ، ولا مبرر لأن يطالعوا ويحققوا دعوى مدعي النّبوة ومعجزاته حتى يتبيّن لهم صدقه أو كذبه ، لأنّ صدق النّبي والحكم الإلهي لم يبيّن لحد الآن لهؤلاء ، وعلى هذا فلا داعي للتحقق من دعواه.

وعلى هذا فكما يجب التثبت من دعوى من يدعي النّبوة بحكم العقل ، وهو من المستقلات العقلية ، فكذلك يجب اتباع سائر المسائل التي يدركها العقل بوضوح.

والدليل على هذا الكلام التعبير المستفاد من بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ففي كتاب التوحيد ، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(١) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية وأمثالها تعتبر أساسا لقانون كلّي أصولي ، وهو

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٧٦.

٢٤٢

أننا ما دمنا لا نملك الدليل على وجوب أو حرمة شيء ، فإنّنا غير مسئولين عنه ، وبتعبير آخر فإنّ كل شيء مباح لنا ، إلّا أن يقوم دليل على وجوبه أو تحريمه ، وهو ما يسمونه ب (أصل البراءة).

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكّد :( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وأن نظام الحياة والموت أيضا بيد قدرته ، فإنّه هو الذي( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) وعلى هذا :( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ، وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده ، وخاضعة لأمره ، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره ، وتلتجئوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه وتوادوهم ، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

* * *

٢٤٣

الآيتان

( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) )

سبب النّزول

درس كبير!

قال المفسّرون : إنّ الآية الأولى نزلت في غزوة تبوك ، وما واجهه المسلمون من المشاكل والمصاعب العظيمة ، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة بمكان بحيث صمّم جماعة على الرجوع ، إلّا أنّ اللطف الإلهي والتوفيق الرّباني شملهم ، فثبتوا في مكانهم.

ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبو خيثمة ، وكان من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،لا من المنافقين ، إلّا أنّه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤٤

مرّت عشرة أيّام على هذه الواقعة ، وكان الهواء حارا محرقا ، فحضر يوما عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته ، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد ، فتذكر فجأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغاص في تفكير عميق ، وقال في نفسه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وضمن له آخرته ، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري المحرقة ، وتحمل مشقّة هذا السفر ، أمّا أبو خيثمة ـ يعني نفسه ـ فهو في ظل بارد ، يتمتع بأنواع الأطعمة ، والنساء الجميلات!! إنّ هذا ليس من الإنصاف.

فالتفت إلى زوجاته وقال : أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة ، ولا أستظل بهذه الخيمة حتى ألتحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار ، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس ببنت شفة ، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض : من هذا الراكب على الطريق؟ ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا خيثمة» فلمّا اقترب وعرفه الناس ، قالوا : نعم ، هو أبو خيثمة ، فأناخ راحلته وسلّم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحدثه بما جرى له ، فرحبّ به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له.

وبذلك فإنّه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبّت قدمه.

* * *

وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثّانية ، خلاصته : إنّ ثلاثة من المسلمين وهم : «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «وهلال بن أمية» ، امتنعوا من المسير مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشتراك في غزوة تبوك ، إلّا أن ذلك ليس لكونهم جزءا من المنافقين ، بل لكسلهم وتثاقلهم ، فلم يمض زمان حتى ندموا.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن

٢٤٥

تقصيرهم ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة ، وأمر المسلمين أيضا أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة ، حتى أنّ أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لهم بالمفارقة ، لكنّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.

إنّ فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر ، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثرت تأثيرا روحيا شديدا ، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال : كنت يوما جالسا في سوق المدينة وأنا مغموم ، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي ، فلمّا عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها : إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا ، فتغير حالي وقلت : الويل لي ، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!

خلاصة الأمر : إنّ عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام ، إلّا أنّهم لا يكلمونهم قط ، ومضت مدّة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم ، لكن دون جدوى في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال : إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا ، فلما ذا لا يعتزل كل منا صاحبه ، صحيح أنّنا مذنبون جميعا ، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضا ، ولم بتكلموا بكلمة واحدة ، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيرا وبعد خمسين يوما من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، وسفينة البحار ، وتفسير أبي الفتوح الرازي.

٢٤٦

التّفسير

الحصار الاجتماعي للمذنبين :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عن غزوة تبوك ، والمسائل والأحداث التي ترتبط بهذا الحدث الكبير ، وما جرى خلاله.

فتشير الآية الأولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة ، وتقول :( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) .

ثمّ تبيّن أن شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب ، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول :( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) . ثمّ توكّد مرّة أخرى على أن الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد :( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) .

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عند ما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مر شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعة اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول :( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) .

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّا وغمّا بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم( وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا( وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ

٢٤٧

إِلَّا إِلَيْهِ ) فأدركتهم رحمة الله مرّة أخرى ، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

بحوث

وهنا بحوث نلفت النظر إليها :

١ ـ المراد من توبة الله على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قرأنا في الآية الأولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار ، وقبل توبتهم. ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب ، ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته ، وإن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحداث تبوك.

إلّا أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحة هذا التّفسير ، لأن :

أوّلا : إن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده ، ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية ، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام:( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) . ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية ، بل الكلام ـ عن تبيين الأحكام والإرشاد إلى سنن الماضين القيمة المفيدة ، وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.

ثانيا : لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه ، ففي كتاب (القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة : رجع عليه بفضله

٢٤٨

وقبوله :

ثالثا : إنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين ، مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإلهية تعم الجميع ، وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد ، بل هي الرحمة الإلهية الخاصّة التي أدركت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة ، وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد.

٢ ـ غزوة تبوك وساعة العسرة

«السّاعة» من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني ، سواء كان قصيرا أم طويلا ، ولا يقال للزمن الطويل جدا : ساعة. «والعسرة» بمعنى المشقة والصعوبة.

إن تاريخ الإسلام يبيّن أنّ المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة ، لأنّ المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم.

وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار ، ولا بدّ من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم.

وإذا تجاوزنا جميع ذلك ، فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا.

والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية.

إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة ، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل ، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية

أمّا من ناحية الطعام والشراب ، فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية.

٢٤٩

بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحيانا ، فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!

لكن ، ورغم كل هذه الأوضاع ، فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات ، فإنّهم توجهوا برفقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو العدو ، وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون ، درسا كبيرا خالدا في ذاكرة الزمن درسا كافيا لكل الأجيال ، وطريقا للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف ، وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم ب( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) لأنّ (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل.

لكن ، وكما رأينا ، فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين ، ولطف الله سبحانه بهم ، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة ، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق.

٣ ـ ما هو معنى( خُلِّفُوا ) ؟

لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب (خلّفوا) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره ، وذلك لأن المسلمين عند ما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد ، فإنّهم لا يعبؤون به ، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إلى جبهات الجهاد.

أو لأنّ هؤلاء عند ما حضروا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم ، وأخّر قبول توبتهم.

٢٥٠

٤ ـ درس كبير دائمي

من المسائل المهمّة التي تستفاد من هذه الآيات ، مسألة مجازاة المجرمين والفاسدين عن طريق الحصار الاجتماعي وقطع الروابط والعلاقات ، فنحن نرى أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا الأمل من كل شيء.

إنّ هذا الأسلوب قد أثر في المجتمع الإسلامي آنذاك تأثيرا قويا جدّا ، بحيث قلّ بعد هذه الحادثة من يجرءوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.

إنّ هذا النوع من العقاب لا يحتاج إلى متاعب وميزانية السجون ، وليس فيه خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون ، إلّا أنّ أثره أكبر وأشدّ من تأثير أي سجن ، فهو نوع من الإضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد الفاسدين ، فإنّ المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين عن أداء الواجبات الاجتماعية الحساسة ، فإنّ النصر سيكون حليفهم قطعا ، وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.

أمّا روح المجاملة والمساومة والاستسلام التي سرت اليوم ـ مع الأسف ـ في كثير من المجتمعات الإسلامية كمرض عضال ، فإنّها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال هؤلاء المتخلفين ، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.

٥ ـ غزوة تبوك ونتائجها

منطقة «تبوك» هي أبعد نقطة وصل إليها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزواته ، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام ، ولذلك سمّيت تلك المنطقة بأرض تبوك.

إنّ انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت

٢٥١

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية ، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم ، فلما بزغ فجر الإسلام ، وظهرت قوّة جيش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وحّد الحجاز تحت راية واحدة ، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.

إنّ دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز ، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإسلام السريع ، لذلك فقد جهزت جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل ، وكان مجهزا بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوّة عظمى كإمبراطورية الروم ، واستقر الجيش في حدود الحجاز ، فوصل الخبر إلى مسامع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق المسافرين ، فأراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة.

فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد ، وبعث الرسل الى المناطق الأخرى يبلّغون المسلمين بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفا لقتال الروميين ، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.

كان الهواء شديد الحّر ، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية ، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد ، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جدّا ، إلّا أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.

إنّ هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية ، والمسير الطويل ، والرياح السموم المحرقة ، وعواصف الرمال الكاسحة ، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل ، قد عرف ب (جيش العسرة) ، ولكنّه تحمل جميع هذه المشاكل ، ووصل إلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلف علياعليه‌السلام مكانه ، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إن قيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة عليعليه‌السلام مكانه كان عملا ضروريا وفي محله ، فإنّه

٢٥٢

كان من المحتمل جدا أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين ـ الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد ـ من غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطويلة ، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة ، إلّا أنّ وجود عليعليه‌السلام كان سدّا منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما وصل إلى تبوك لم ير أثرا لجيوش الروم ، وربّما كان ذلك لأنّهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم ، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة ، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب ، فرأوا أنّ الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم ، وليبيّنوا أنّ خبر تجمع جيش الروم على الحدود ، ونيّته بالقيام بهجوم على المدينة ، شائعة لا أساس لها ، لأنّهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية ، فخافوا من ذلك.

إلّا أنّ حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس :

أولا : إنّ هذا الموضوع أثبت أنّ المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإسلام ، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الاشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.

ثانيا : إنّ الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمضوا عهودا بعدم التعرض للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحاربته ، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية ، وأمنوا خطرهم.

ثالثا : إنّ إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم ، ودوّى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم ، وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.

رابعا : إنّ المسلمين بقطعهم هذا الطريق ، وتحملهم لهذه الصعاب ، قد عبّدوا

٢٥٣

الطريق لفتح الشام في المستقبل ، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.

وهكذا ، فإنّ هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبي على عادته ـ قد استشار جيشه في الاستمرار في التقدم أو الرجوع ، وكان رأي الأكثر بأنّ الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإسلامية ، خاصّة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق ، وضعفت مقاومتهم الجسمية ، فأقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إلى المدينة.

* * *

٢٥٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) )

التّفسير

كونوا مع الصّادقين :

في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، وأظهروا عمليا تكذيبهم للإيمان بالله واليوم الآخر ، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إلى حظيرة الإيمان بمقاطعتهم ، ونبّهوههم على خطئهم.

أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.

في البداية تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت :( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

وقد احتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين ، ومن هم؟إلّا أنّنا إذا أردنا اختصار الطريق ، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.

٢٥٥

فنقرأ في سورة البقرة ، الآية (١٧٧) :( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة ، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء ، ثمّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والاستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد ، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول : إنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.

وعلى هذا ، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات ، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي ، وفي الآية (١٥) من سورة الحجرات نقرا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فإنّ هذه الآية أيضا تعرّف الصدق بأنّه مجموع الإيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.

ونقرا في الآية (٨) من سورة الحشر :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فهذه الآية عرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة ، وهي أنّ الصادقين هم الذين

٢٥٦

يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

هل المراد من الصّادقين هم المعصومون فقط؟

بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين ـ كما ذكرنا سابقا ـ مفهوم واسع ، إلّا أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.

يروي سليم بن قيس الهلالي : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان له يوما كلام مع جمع من المسلمين ، ومن جملة ما قال : «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) . فقال سلمان : يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة»؟ قالوا : اللهم نعم(١) .

ويروي نافع عن عبد الله بن عمر : إنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال :( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يعني مع محمّد وأهل بيته(٢) .

وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة ـ كصاحب المنار ـ قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا : مع محمّد وأصحابه ، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان ، وصحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا في زمن خاص ، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبد الله بن عمر هي الأصح.

ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة ، وقال : إنّ

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٧٠.

(٢) المصدر السّابق.

٢٥٧

موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس ، يروي في ذيل هذه الآية : هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول : أورد ذلك أيضا عبد الرزاق في كتاب رموز الكنوز(١) .

أمّا المطلب الأهم ، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى ، ثمّ بالكون مع الصادقين ، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّا وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين ، لكان اللازم أن يقال : وكونوا من الصادقين ، لا مع الصادقين. (فتأمل جيدا).

إنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة.

ومن جهة أخرى ، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإنسان مجالسا ومعاشرا لهم، بل المراد قطعا هو اتباعهم والسير في خطاهم.

إذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟

وعلى هذا ، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إذا دققنا النظر فيها.

إن الملفت للنظر هنا ، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي ، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة ـ وإن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية ـ ويقول : إنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته ، وسيكون هذا الأمر في كل زمان ، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّه يضيف بعد ذلك : إنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا ، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت ، إلّا أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأمّة ، لا أنّه فرد

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ١٧٠.

٢٥٨

واحد! وبتعبير آخر : إنّ هذه الآية دليل على حجية إجماع المؤمنين ، وعدم خطأ مجموع الأمّة(١) .

وبهذا الترتيب ، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيدا ، إلّا أنّه زاغ في النصف الثّاني ، ولو أنّه التفت إلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضا بسلامة ، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأمّة ، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإمام ، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي ، والتابعين غير المتبوعين ، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).

ونتيجة ذلك : إنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان.

ويبقى سؤال أخير ، وهو أنّ الصادقين جمع ، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟

والجواب على هذا السؤال واضح أيضا ، وهو أنّ الخطاب ليس مختصا بأهل زمن وعصر معين ، بل إنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون ، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر ، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم ، فإنّنا إذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإعتبار ، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.

والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد تجب طاعته غير شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه ، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ١٦ ، ص ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٢٥٩

الآيتان

( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) )

التّفسير

معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب :

كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك ، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.

فالآية الأولى تقول :( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) لأنّه قائد الأمّة ، ورسول الله ، ورمز

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608