الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261160 / تحميل: 6481
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ما طبكم »(1) .

وقد احتوى « نهج البلاغة » على طائفة كبيرة من خطب الامام تدل على استيائه البالغ ، وحزنه العميق من تخاذل جيشه وعدم استجابتهم لنصرته حتى ملأوا قلبه غيظا وجرعوه نغب التهمام انفاسا ـ على حد تعبيره ـ وبقي سأمهم من الحرب وكراهيتهم للجهاد مستمرا طيلة أيام أمير المؤمنين. ولما آل الأمر إلى الحسن (ع) ظهر ذلك بأبشع الصور فانه لما عرض عليهم دعوة معاوية للصلح ارتفعت أصواتهم وهم يهتفون :

« البقية البقية ».

ودل ذلك على مدى جزعهم من الحرب ، وكراهيتهم للجهاد ، وانهم لم يكونوا بأي حال مع الإمام لو فتح باب الحرب مع معاوية.

ج ـ فقد القوى الواعية :

ومما سبب تفلل الجيش العراقي فقده للقوى الواعية من أعلام الإسلام الذين آمنوا بحق أهل البيت (ع) وعرفوا فضلهم ، وكان الجيش بجميع كتائبه يكن لهم أعمق الولاء والتقدير لأنهم من خيار المسلمين ومن الذين أبلوا في الإسلام بلاء حسنا ، وكان لهم شأن كبير فى تنظيم الحركة العسكرية ، وفي توجيه الجيش في خدمة الأهداف الإسلامية ، وهم أمثال الصحابي العظيم عمار بن ياسر ، والقائد الملهم هاشم المرقال ، وثابت بن قيس ، وذو الشهادتين ونظائرهم من الذين سبقوا إلى الإسلام والإيمان ، وقد طحنتهم حرب صفين وقد أحصى رواة الأثر عدد البدرين منهم فكانوا ثلاثا وستين بدريا ، وهناك كوكبة أخرى من أبرار الصحابة وخيارهم قد استشهدوا فى تلك الحروب التي أثارها الطامعون والمنحرفون عن الإسلام ضد وصي رسول الله (ص)

__________________

(1) نهج البلاغة محمد عبده 1 / 70.

١٢١

وباب مدينة علمه ، وقد ترك فقدهم فراغا هائلا في الجيش العراقي فقد خسر الضروس والرءوس ، وبلي من بعدهم بالمنافقين والخوارج الذين كانوا سوسة تنخر فى كيانه ، ولو ضم جيش الإمام أمثال أولئك الأبرار لما التجأ إلى الصلح والموادعة مع خصمه.

د ـ الدعوة إلى الصلح :

ومما سبب ضعف العزائم ، وإخماد نار الثورة في نفوس الجيش دعوة معاوية إلى الصلح وحقن الدماء ، فقد كانت هذه الدعوى لذيذة مقبولة إلى حد بعيد ، فقد استطابها البسطاء والسذج ورحب بها عملاء معاوية وأذنابه من الذين ضمهم جيش الإمام ، ولم تكن الاكثرية الساحقة في الجيش تعلم بنوايا معاوية وما يبيته لهم من الشر فانخدعوا بدعوته إلى الصلح كما انخدعوا من قبل في رفع المصاحف ، مضافا لذلك خيانة زعمائهم ، والتحاقهم بمعسكر معاوية.

وعلى أي حال فقد رحبت أكثرية الجيش بالدعوة إلى الصلح وآثرت السلم على الحرب ، ولم يكن في استطاعة الامام أن يرغمهم على مناجزة معاوية ومقاومته.

ه ـ خيانة عبيد الله :

ويعتبر خذلان عبيد الله بن العباس من العوامل المهمة التي سببت تفكك الجيش وتخاذله ، فقد طعن بخيانته الجيش العراقي طعنة نجلاء ، وفتح باب الخيانة والغدر ، ومهد السبيل للالتحاق بمعاوية ، وقد وجد ذوو النفوس الضعيفة مجالا واسعا للغدر بخيانتهم للإمام ، فاتخذوا من غدر عبيد الله وسيلة لذلك فهو ابن عم الامام وأقرب الناس إليه ، وقديما قد قيل :

إذا فاتك الادنى الذي أنت حزبه

فلا عجب إن أسلمتك الاباعد

١٢٢

وقد أولد غدر عبيد الله في نفس الامام حزنا بالغا وأسى مريرا ، فانه لم يرع « الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله (ص) ، ولا من قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ، ونقمة التاريخ ».

و ـ رشوات معاوية :

وبالأموال تشترى ذمم الرجال ، وتباع الأوطان ، وتخمد الافكار ، وتسيل لها لعاب الابطال ، وقد عمد معاوية إلى بذلها بسخاء إلى الوجوه والاشراف والزعماء فانه لم ير وسيلة للتغلب على الاحداث إلا بذلك ، فغدروا بالامام ، وتسللوا إليه في غلس الليل وفى وضح النهار غير حافلين بالعار والخزي وعذاب الله ، وقد أدت خيانتهم إلى اضطراب الجيش وتفلله ، وإعلانه للعصيان والتمرد.

إن الاكثرية الساحقة من الجيش لم يكن لها أي هدف نبيل. وإنما كانت تسعى نحو المنافع والاطماع ، وقد أدلى بعضهم بذلك في بعض المعارك فقال :

« من أعطانا الدراهم قاتلنا معه ».

وهجا بعض الشعراء شخصا قتل في تلك المعارك يقول لابنائه :

ولا فى سبيل الله لاقى حمامه

أبوكم ولكن في سبيل الدراهم(1)

إن الجيش إذا كان مدفوعا بالدوافع المادية فانه لا يخلص في دفاعه ، ولا يؤمن من انقلابه ، وخطره على حكومته أعظم من الخطر الخارجي.

لقد بلغ من فساد العراقيين وجشعهم فى الحصول على أموال معاوية

__________________

(1) الطبري 2 / 19.

١٢٣

ان الإمام الحسن لما نزل بالمدائن للاستشفاء من جرحه في دار سعد بن مسعود الثقفي(1) وكان واليا على المدائن من قبل أمير المؤمنين (ع) وأقره الإمام الحسن عليها أقبل إليه ابن اخيه المختار ـ على ما قيل ـ وكان آنذاك غلاما فقال له :

« يا عم هل لك في الغنى والشرف؟ ».

« وما ذاك؟ ».

« توثق الحسن وتستأمن به إلى معاوية! ».

فانبرى إليه عمه وقد لسعه قوله قائلا :

« عليك لعنة الله أثب على ابن بنت رسول الله فاوثقه بئس الرجل أنت »(2) .

ولم يكن المختار وحده ـ على تقدير صحة هذه الرواية ـ قد غمره هذا الشعور بالخيانة ، فقد غمر ذلك أكثرية الجيش الذي كان مع الإمام ، فقد تسابقوا إلى مطامع الدنيا ، وليس ذلك في زمان الحسن (ع) وانما كان في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد قال الإمام زين العابدين (ع) « إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه »(3) ان معاوية عرف نقطة الضعف في جيش

__________________

(1) سعد بن مسعود الثقفي ذكره البخاري في الصحابة ، وقال الطبراني : له صحبة ، ولاه أمير المؤمنين (ع) على بعض أعماله. واستصحبه معه إلى صفين ، وروى عنه أنه قال : كان نوح إذا لبس ثوبا حمد الله ، وإذا أكل وشرب حمد الله ، فلذا سمي عبدا شكورا ، الاصابة 2 / 34.

(2) الطبري ، والاصابة ، ونفى بعض المحققين صحة الخبر وجعله من الموضوعات ، ولا يبعد ذلك لأن المختار من خيرة الرجال في هديه وورعه وسائر نزعاته

(3) خطط المقريزي 2 / 439.

١٢٤

الإمام فأغدف عليهم بالرشوات حتى استجابوا له وتركوا عترة نبيهم ووديعته في أمته.

ز ـ الاشاعات الكاذبة

ومما سبب انحلال الجيش الاشاعات الكاذبة التي أذاعها عملاء معاوية فى ( المدائن ) بأن قيس بن سعد قد قتل ، واشاعوا أخرى بأنه قد صالح معاوية ، وقد اعتقد الجيش بصحة هذه الأنباء فارتطم بالفتن والاختلاف وأعظم هذه الدعايات بلاء وأشدها فتكا هي ما بثّه الوفد الذي أرسله معاوية للإمام ، فانه لما خرج منه أخذ يفتري عليه بأنه قد أجابهم إلى الصلح ، وحينما سمعوا بذلك اندفعوا كالموج فنهبوا أمتعته ، واعتدوا عليه ، ولو كانت عند الزعماء والوجوه صبابة من الانسانية والكرامة لقاموا بحماية الامام ، ورد الغوغاء عنه حتى يتبين لهم الأمر ، ولكنهم أقاموا في ثكناتهم العسكرية ولم يقوموا بحمايته ونجدته.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن العوامل التي أدت إلى تفكك الجيش والقضاء على اصالته ، ومن البديهي ان القوى العسكرية قلب الدولة ومصدر حمايتها فاذا أصيبت بمثل هذه الزعازع والأخطار فهل يتمكن القائد الاعلى أن يحقق أهدافه أو يفتح باب الحرب مع القوى المعادية له؟!.

2 ـ قوة العدو :

العامل الثاني الذي دعى الامام إلى المصالحة والمسالمة هو ما يتمتع به خصمه من القوى العسكرية وغيرها التي لا طاقة للإمام على مناجزتها ، ولا قابلية له للوقوف أمامها ، حتى استطاع معاوية أن يناجز أمير المؤمنين من قبل ويرغم الامام الحسن على الصلح ، ونقدم عرضا لبعضها وهي :

١٢٥

أ ـ طاعة الجيش :

وغرس معاوية حبه في قلوب جيشه ، وهيمن على مشاعرهم وعواطفهم فقد عرف ميولهم واتجاههم فسايرها حتى أحبهم وأحبوه وصاروا طوع إرادته وقد اختمر في أذهانهم بسبب دعايته وتمويهه أنه الحجة من بعد الخلفاء ، وان النبي (ص) ليس له وارث شرعي غير بني أمية فقد نقل المؤرخون أن أبا العباس السفاح(1) لما فتح الشام أقبلت إليه طائفة من الزعماء والوجوه فحلفوا له أنهم ما علموا للرسول قرابة ، ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حنى تولى بنو العباس الخلافة ، وفى ذلك يقول ابراهيم بن المهاجر البجلي(2) :

أيها الناس اسمعوا أخبركم

عجبا زاد على كل العجب

عجبا من عبد شمس إنهم

فتحوا للناس أبواب الكذب

ورثوا أحمد فيما زعموا

دون عباس بن عبد المطلب

كذبوا والله ما نعلمه

يحرز الميراث إلا من قرب(3)

ويعود السبب في ذلك إلى الروايات التي تعمد وضعها الرواة المستأجرون وأشاعوها في أوساط دمشق من أن معاوية هو وارث النبيّ وأقرب الناس

__________________

(1) أبو العباس أول خلفاء بني العباس ولد سنة (108) بالحمية من ناحية البلقاء ، ونشأ بها ، وبويع له بالكوفة في 3 ربيع الاول سنة (132) وكان سريعا إلى سفك الدماء ، وسار على منواله عماله بالمشرق والمغرب ، توفى بالجدري سنة (136) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 100.

(2) ابراهيم بن المهاجر البجلي : هو أبو اسحاق الكوفي روى عن جماعة من الثقات وروى عنه آخرون اختلف فى روايته فقيل إنه ثقة وقيل إنه ضعيف ، تهذيب التهذيب 1 / 167.

(3) مروج الذهب 2 / 335.

١٢٦

إليه وقد أفاضوا عليه وعلى الشجرة الملعونة من اسرته النعوت الحسنة والاوصاف الشريفة حتى جعلوهم فى الرعيل الأول من المصلحين الاخيار وأصبحت طاعتهم فرضا من فروض الدين ، واعتقدوا فيه وفي بني أمية أكثر من ذلك يقول الاستاذ ( فان فلوتن ) : « وكان السواد الاعظم يرى في حزب بني أمية حزب الدين والنظام » وقال : « وكان معاوية فى نظر الحزب الاموي خليفة الله كما كان ابنه يزيد إمام المسلمين ، وعبد الملك إمام الاسلام وأمين الله »(1) وبلغ من ودهم وطاعتهم له أنه كان يسلك بهم جميع المسالك البعيدة التي تتنافى مع الدين حتى استطاع أن يحقق بهم جميع ما يصبو إليه ، ونظرا لمزيد طاعتهم له تمنى أمير المؤمنين أن يصارفه معاوية بأصحابه فيعطيه واحدا منهم ويأخذ عشرة من العراقيين الذين عرفوا بالشغب والتمرد.

ب ـ بساطة وسذاجة :

وأتاح الزمن الهزيل إلى معاوية أن يسيطر على جيش كان مثالا للسذاجة والبساطة فلم يعرف الاكثر منهم أي طرفيه أطول وقد احتفظ التأريخ بصور كثيرة من بلاهتهم تدل على مدى خمولهم وعدم نباهتهم ، فقد ذكر المؤرخون أن رجلا من أهل الكوفة قدم على بعير له إلى دمشق حال منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق قائلا له :

« هذه ناقتي أخذت مني بصفين ».

وحدث بينهما نزاع حاد فرفعا أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي بينة على دعواه تتألف من خمسين رجلا يشهدون انها ناقته فقضى معاوية على الكوفى وأمره بتسليم البعير إليه فورا ، فالتفت إليه العراقي متعجبا من هذا

__________________

(1) السيادة العربية ص 70.

١٢٧

الحكم قائلا :

« أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة! ».

« حكم قد مضى ».

ولما انفض الجمع أمر معاوية باحضار العراقي فلما مثل عنده سأله عن ثمن البعير فاخبره به فدفع إليه ضعفه وبرّ به وأحسن إليه ثم قال له :

« أبلغ عليا أني أقابله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل »(1) .

ان خمسين رجلا منهم لا يفرقون بين الناقة والجمل ، وليس من شك أن الاكثرية الساحقة منهم لا يميزون بين الحق والباطل ولا يتدبرون الفرق بين المحسوسات همج رعاع لا تفكير لهم ولا تدبر ، وأدل دليل على غفلتهم قصة الصحابي العظيم عمار بن ياسر حينما نال الشهادة فوقع الاختلاف فيما بينهم لقول النبي (ص) « ان ابن سمية تقتله الفئة الباغية » ولما رأى ابن العاص الخلاف قد دب فيهم قال لهم إن الذي قتله من أخرجه فصدقوا قوله ورجعوا إلى طاعة معاوية ومن الطبيعي ان الدولة إذا ظفرت بمثل هذا الجند المطيع الغافل توصلت الى غاياتها وتحقيق أهدافها.

وأبقى معاوية أهل الشام على غفلتهم يتخبطون في دياجير الجهالة ويسرحون في ميادين الشقاء رازحين تحت نير الاستعباد الاموي قد وضع بينهم وبين الناس حجابا حديديا فلم يسمح للغير أن يتصل بهم ولم يسمح لهم بالاتصال بالغير لئلا تتبلور أفكارهم ويقفون على الحقيقة فيتبين لهم باطل معاوية وابتزازه للخلافة من أهلها.

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 332.

١٢٨

ج ـ اتفاق الكلمة :

ذكرنا فى بحوثنا السابقة ما منى به العراق من الاختلاف والتفكك بسبب الأحزاب التي كانت تعمل على زعزة كيان الدولة الهاشمية وتحطيم عروشها وعلى العكس من ذلك كانت الشام فانها بجميع طبقاتها لم تبتل بتلك الأحزاب ولم تصب بالافكار المعادية للحكم القائم فقد كان السلام والوئام والهدوء مخيما على دمشق وجميع ملحقاتها ولم يكن في الجيش ولا في المملكة وكر للخوارج ولا دعاة لهم ولا لغيرهم ممن يعملون على قلب الحكم ، وهذا الاتفاق الداخلي هو السبب في قوة معاوية واتساع نطاقه ونفوذه.

د ـ ضخامة القوى العسكرية :

وانفق معاوية جميع جهوده المعنوية والمادية فى إصلاح جيشه وتقويته فانه لما منيت الشام بخطر الروم بادر فعقد هدنة مؤقتة مع ملكها ودفع إليه أموالا خطيرة ولم يفتح معه باب الحرب لئلا تضعف أعصاب جيشه ومضافا إلى ذلك فانه لم يستعمله في الفتوح والحروب ، فلم يكن قد ولج به حربا غير صفين فكان محتفظا بنشاطه وقوته.

وبالإضافة لجيشه الذي كان مقيما معه في دمشق فانه لما عزم على حرب الإمام الحسن كتب إلى عماله وولاته في جميع الأقطار يطلب منهم النجدة والاستعداد الكامل لحرب ريحانة رسول الله (ص) ، وفى فترات قصيرة التحقت به قوى هائلة ضخمة فضمها إلى جيوش أهل الشام ، وزحف إلى العراق بجيش جرار كامل العدد حسن الهيئة موفور القوة ، مطيع لأمره فرأى الإمام الحسن (ع) أنه لا يتمكن على مقابلته ولا يستطيع أن يحاربه بجيشه المتخاذل الذي تسوده الخيانة والغدر.

١٢٩

ه ـ حاشيته :

ومضافا إلى ما كان يتمتع به معاوية من القوى العسكرية فقد ظفر بقوة أخرى لها أثرها الفعال فى تقوية جبهته وتوجيهه وتدبير شؤنه وهي انضمام المحنكين والسياسيين إليه طمعا بماله ودنياه ، وهم كالمغيرة بن شعبة الذي قيل في حيلته ودهائه « لو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج منها إلا بالمكر والخداع لخرج المغيرة من أبوابها كلها. » وقيل فى عظيم مكره « كان المغيرة لا يقع في أمر إلا وجد له مخرجا ، ولا يلتبس عليه أمران إلا أظهر الرأي في أحدهما » ومن حاشيته عمرو بن العاص الذي كان قلعة من المكر والباطل ، وقد قيل في وصفه « ما رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص » وهو في طليعة من رفع علم الثورة على عثمان لأنه عزله عن منصبه ، وكان يثير عليه حفائظ النفوس ويحفز القريب والبعيد لمناجزته وقال فى ذلك : « والله لألقى الراعي فاحرضه على عثمان فضلا عن الرؤساء والوجوه » ولما بلغه مقتله قال : « أنا أبو عبد الله ما نكأت قرحة إلا أدميتها » وهو الذي خدع الجيش العراقي برفع المصاحف ، فتركه ممزق الأوصال ، مختلف الأهواء.

لقد جذب معاوية هؤلاء الدهاة الماكرين الذين يخلطون السم بالعسل ، ويلبسون الباطل لباس الحق ، ولم يتحرجوا من الاثم والمنكر في سبيل نزعاتهم الشريرة ، ولم يكن لهم هدف إلا القضاء على ذرية النبيّ (ص) ومن يمت إليهم من صالحاء المسلمين ليتسنى لهم القضاء على الإسلام حتى يمعنوا في التحلل حيثما شاءوا ، وقد وقف الإمام الحسن (ع) معهم في صلحه أحزم موقف يتخذه المفكرون فقد حفظ ذرية رسول الله (ص) وحقن دماء المؤمنين من شيعته لأن التضحية في ذلك الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال

١٣٠

أن تعود بالصالح العام للمسلمين لأنهم يضفون عليها أصباغا من التمويه والتظليل ما تفقد به معنويتها وأصالتها.

و ـ ضخامة الأموال :

ويسر لمعاوية من الثراء العريض الذي مهدته له بلاد الشام طيلة ملكه لها فانه لم ينفقها فى صالح المسلمين وانما شرى بها الضمائر والاديان ، ليمهد بذلك الطريق الموصل لفوزه بالإمرة والسلطان والتحكم في رقاب المسلمين. لقد وجه معاوية الجباة السود إلى أخذ الضرائب من الشعوب الإسلامية التي احتلها ، وقد عمدوا إلى أخذ أموال المسلمين بغير حق ، حتى بالغوا في إرهاقهم وإرغامهم على أدائها ، كما فرض عليهم من الضرائب ما لا يقره الإسلام كهدايا النيروز وغيرها ، وقد امتلأت خزائنه بها فأنفقها بسخاء على حرب ريحانة رسول الله (ص) والتغلب عليه ، وقد رأى السبط بعد هذه القوى التي ظفر بها ابن هند أنه لا يمكن مناجزته ، ولا الانتصار عليه ، وان الموقف يقضي بالصلح والمسالمة لا بالحرب والمناجزة فانها تجر للأمة من المضاعفات السيئة ما لا يعلم خطورتها إلا الله.

3 ـ اغتيال أمير المؤمنين :

ومن العوامل التي دعت الإمام الى الصلح ما روع به من اغتيال أبيه ، فقد ترك ذلك حزنا مقيما وأسى شديدا في نفسه لأنه قد قتل على غير مال احتجبه ولا سنة في الإسلام غيرها ، ولا حق اختص به دونهم ، وكان يحيى بينهم حياة الفقراء والضعفاء ، ويتطلب لهم حياة حافلة بالنعم والخيرات ، ويسعى جادا فى اقامة العدل ، واماتة الجور ، ونصرة المظلومين واعالة الضعفاء والمحرومين ، فعمدوا على اغتياله وتركوه صريعا في محرابه

١٣١

لم يحافظوا حرمته ، ولا حرمة رسول الله (ص) فيه وقد رأى الإمام الحسن (ع) بعد ارتكابهم لهذه الجريمة النكراء أنه لا يمكن إصلاحهم ، وإرجاعهم الى طريق الحق والصواب ، فتنكر منهم ، وزهد في ولايتهم ، وقد أدلى (ع) بذلك بقوله :

« وقد زهدني فيكم اغتيالكم أبي ».

حقا أن يكون اغتيال الامام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية الكبرى من الأسباب الوثيقة التي زهدت الامام الحسن في ذلك الشعب الجاهل الذي غمرته الفتن والأطماع ، وانحرف عن الطريق القويم.

4 ـ حقن الدماء :

ومن دواع الصلح رغبة الإمام الملحة في حقن دماء المسلمين ، وعدم اراقتها ، ولو فتح باب الحرب مع معاوية لضحى بشيعته وأهل بيته ، ويجتث بذلك الإسلام من أصله ، وقد صرح (ع) بذلك في جوابه عن دوافع صلحه فقال :

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي »

وأجاب (ع) بعض الناقمين عليه من شيعته فى الصلح فقال : « ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل »(1) . وأعرب في خطابه الذي ألقاه في المدائن عن مدى اهتمامه في دماء المسلمين فقد جاء فيه.

« أيها الناس. إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إنما هو حق أتركه لإصلاح أمر الأمة ، وحقن دمائها. »(2)

__________________

(1) الدينوري ص 303.

(2) أعيان الشيعة 4 / 42.

١٣٢

ومن حيطته ورعايته لذلك أنه أوصى أخاه الحسين حينما وافاه الأجل المحتوم أن لا يهرق في أمره ملء محجمة دما. »

إن أحب شيء للإمام (ع) الحفاظ على دماء المسلمين ، ونشر الأمن والوئام فيما بينهم ، وقد بذل في سبيل ذلك جميع جهوده ومساعيه.

5 ـ منة معاوية :

لقد علم الإمام (ع) أنه إن حارب معاوية فان اجلاف العراقيين وأوباشهم سوف يسلمونه أسيرا الى معاوية وأغلب الظن انه لا يقتله بل يخلي عنه ويسجل له بذلك مكرمة وفضيلة ويسدي يدا بيضاء على عموم الهاشميين ويغسل عنه العار الذي لحقه من أنه طليق وابن طليق ، وقد صرح الحسن (ع) بهذه الخاطرة قائلا :

« والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن أسالمه وأنا عزيز ، أحب إليّ من أن يقتلنى وأنا أسير أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ولمعاوية لا يزال يمن بها هو وعقبه على الحي منّا والميت. »

وهذا السبب له مكانته من التقدير فان الإمام أراد أن لا يسجل لخصمه أي فضيلة ومكرمة.

6 ـ حوادث المدائن :

ومن جملة الأسباب التي دعت الامام الى الصلح هي الحوادث القاسية التي لاقاها في المدائن ، وقد ذكرناها مشفوعة بالتفصيل وخلاصتها.

أ ـ خيانة الزعماء والوجوه واتصالهم بمعاوية.

١٣٣

ب ـ الحكم عليه بالتكفير من قبل الخوارج.

ج ـ اغتياله.

د ـ نهب أمتعته.

هذه بعض العوامل التي أدت الامام الى السلم ، وفيما نعلم انها تلزم بالصلح وعدم فتح أبواب الحرب.

7 ـ الحديث النبوي :

نظر النبي (ص) الى الحوادث الآتية من بعده فرآها بعينها وحقيقتها لا بصورها وأشكالها ، رأى أمّته ستخيم عليها الكوارث ، وتنصب عليها الفتن والخطوب ، حتى تشرف على الهلاك والدمار ، وإن إنقاذها مما هي فيه من الواقع المرير سيكون على يد سبطه الأكبر ، وريحانته من الدنيا الامام الحسن (ع) فأرسل كلمته الخالدة قائلا :

« إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين »(1) .

وانطبع هذا الحديث في أعماق الامام الحسن وفي دخائل ذاته منذ نعومة أظفاره ، وتمثل أمامه في ذلك الموقف الرهيب ، « وإنه ليطمئن الى قول جده كما يطمئن الى محكم التنزيل وها هو ذا جده العظيم يقول له : وكأن صوته الشريف يرن بعذوبته المحببة في أذنه ، ويقول لأمّه الطاهرة البتول ، ويقول على منبره ، ويقول بين أصحابه ، ويقول ما لا يحصى كثرة : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ».

وزادت هذه الذكرى تفاعلا شديدا في نفسه فقد رأى ما عناه

__________________

(1) تقدمت مصادر الحديث في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 81.

١٣٤

جده (ص) في ( المدائن ) رأى طائفتين :

( إحداهما ) شيعته وهم من خيار المسلمين ، وصالحائهم من الذين وقفوا على أهداف الاسلام ، وعرفوا حقيقته وواقعه.

( الثانية ) اتباع معاوية من السذج والبسطاء والمنحرفين عن الاسلام ، وهؤلاء وإن كانوا بغاة قد خرجوا على إمام زمانهم ولكنهم يدعون الاسلام وهاتان الطائفتان إن دارت رحى الحرب فانها ستطحن الكثير منهم وبذلك يتضعضع كيان الاسلام وتنهار قواه ، ومن يصد عن المسلمين العدو الرابض الذي يراقب الأحداث ليثب عليهم ، ومن هو يا ترى حريص على رعاية الاسلام والحفاظ على المسلمين غير سبط النبي ووارثه ، فاثر الصلح على ما فيه من قذى في العين ، وشجى في الحلق ، ويذهب شمس الدين الصقلي ( المتوفى سنة 565 ه‍ ) الى أن الباعث لخلع الحسن نفسه عن الخلافة حديث النبي (ص) في ذلك(1) .

وزعم الرواة ان النبي (ص) كان يحدث أصحابه عن عمر الخلافة الاسلامية فقال لهم : « إن الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا. » ولاحظوا أن في مصالحة الحسن لمعاوية قد كملت الثلاثون سنة حسب ما يقولون(2) .

__________________

(1) أنباء نجباء الأبناء ص 56.

(2) البداية والنهاية 8 / 41 ، وعندي أن هذا الحديث من الموضوعات لأن الخلافة قد صارت ملكا عضوضا في أيام عثمان فهو الذي حولها عن مفاهيمها الخلاقة وآثر الأمويين في الحكم والأموال وأتاح لهم من القوى ما هيأهم لمنازعة أمير المؤمنين ، وقد تحدث النبي (ص) عما يئول إليه الأمر من بعده فقال : « إن أول دينكم بدء نبوة ورحمة ، ثم يكون ملكا وجبرية » رواه السيوطي ـ

١٣٥

نظر الحسن (ع) الى قول جده (ص) فعلم أن الأمر لا بد أن ينتقل الى معاوية ، ومضافا لذلك فقد أخبره أبوه بذلك كما حدث عنه فقال :

« قال لي أبي ذات يوم : كيف بك يا حسن إذا ولي هذا الأمر بنو أميّة؟ وأميرها الرحب البلعوم ، الواسع الاعفجاج ، يأكل ولا يشبع ، فيستولي على غربها وشرقها ، تدين له العباد ، ويطول ملكه ، ويسن البدع والضلال ، ويميت الحق وسنة رسول الله (ص) ، يقسم المال في أهل ولايته ، ويمنعه عمن هو أحق به ، ويذل في ملكه المؤمن ، ويقوى في سلطانه الفاسق ، ويجعل المال بين أنصاره دولا ، ويتخذ عباد الله خولا ، ويدرس في سلطانه الحق ، ويظهر الباطل ، ويقتل من ناوأه على الحق »(1)

إن النبي والوصي قد استشفا من حجاب الغيب ما تمنى به الأمّة الاسلامية من المحن والبلاء بسبب تخاذلها عن مناصرة الحق ومناجزة الباطل وانها من جراء ذلك سيتولى أمرها الأدعياء من الطلقاء وأبنائهم فيسومونها سوء العذاب ، ويستأثرون بمال الله ، ويتخذون المسلمين عبيدا لهم وخولا.

وكان معاوية يعلم بمصير الأمر إليه في زمان أمير المؤمنين (ع) فقد صنع فذلكة استعلم بها منه عما يؤول إليه أمره ، فبعث جماعة من أصحابه الى الكوفة ليشيعون أن معاوية قد مات ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين ، وتكرر حديث الناس حول هذه الاشاعة فقال (ع).

« قد أكثرتم من نعي معاوية ، والله ما مات ، ولا يموتن حتى يملك

__________________

ـ في تأريخ الخلفاء ص 6 ، وقد تحقق قوله (ص) فان الدين أول بدئه كان نبوة ورحمة ، ثم تحول في زمان الأمويين الى ملك وطغيان وجبرية.

(1) البحار

١٣٦

ما تحت قدمي. »(1)

ولما بلغه ذلك اعتقد به لعلمه أن الامام هو باب مدينة علم النبي (ص) ومستودع سره ، وان قوله لا يتخلف عن الواقع ولا يخطئ الحق.

ومهما يكن الأمر فان الامام الحسن (ع) بصلحه مع معاوية قد لقبه المسلمون بالمصلح العظيم ، وقد أفاض عليه هذا اللقب جده الرسول من قبل.

8 ـ العصمة :

وذكرت طائفة من العلماء الأعلام صلح الامامعليه‌السلام فعللته بالعصمة وان الامام المعصوم لا يرتكب الخطأ ولا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح لجميع الأمّة ولعل الوجوه التي ذكرناها قد كشفت عن مناط هذا القول وأوضحت حسنه وذلك للأسباب والعوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته الى الصلح ، ونشير الى بعض الذاهبين الى هذا القول وهم :

1 ـ الشريف المرتضى :

قال الشريف المرتضى علم الهدى(2) رحمه‌الله : « إنه ( يعني الحسن )

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 295.

(2) الشريف المرتضى : هو علي بن الحسين ينتهي نسبه الوضاح الى امام المسلمين موسى بن جعفرعليه‌السلام ، كانت له نقابة الطالبيين لقب بالمرتضى وعلم الهدى كانت ولادته في سنة ( 355 هج ) ووفاته في سنة (436) ، وكان أكبر من أخيه الشريف الرضي. قال أبو جعفر الطوسي : قد توحّد المرتضى في علوم كثيرة وكان مجمعا على فضله ومقدما في العلوم كعلم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب وغير ذلك وله ديوان شعر يزيد على عشرة آلاف بيت وله مؤلفات كثيرة في مختلف الفنون جاء ذلك في معجم الأدباء 13 / 146.

١٣٧

قد ثبت انه المعصوم المؤيد بالحجج الظاهرة ، والأدلة القاهرة ، فلا بد من التسليم لجميع أفعاله وإن كان فيها ما لا يعرف وجهه على التفصيل أو كان له ظاهر نفرت منه النفوس »(1) .

2 ـ السيد ابن طاوس :

وعلل نابغة الإسلام السيد الجليل ابن طاوس طيب الله مثواه(2) في وصيته لولده صلح الإمام بالعصمة وببعض الأسباب التي ذكرناها قالرحمه‌الله يخاطب ولده :

« وليس بغريب من قوم عابوا جدك الحسن على صلح معاوية وهو كان بأمر جده وقد صالح جده الكفار وكان عذره في ذلك أوضح

__________________

(1) تنزيه الأنبياء ص 69.

(2) السيد ابن طاوس : هو السيد الجليل الكامل العابد المجاهد رضي الدين أبو القاسم على بن موسى بن جعفر بن طاوس الحسني الحسيني ، لقب بالطاوس من جهة حسن وجهه وخشونة رجليه ، وكان من سكنة الحلة ، وهو من السادة المعظمين ، ومن النقباء وله مؤلفات كثيرة ، وقد ذكر جميع مناقبه وعلومه الحجة الثبت السيد محمد باقر الخونساري في مؤلفه روضات الجنات 3 / 43 ـ 47 وجاء في الكنى والألقاب 1 / 328 ان السيد تولى نقابة الطالبيين وكان يجلس فى قبة خضراء والناس تقصده وقد لبسوا لباس الخضرة بدل السواد وذلك عقيب وقعة بغداد ، وفي ذلك يقول علي بن حمزة :

فهذا علي نجل موسى بن جعفر

شبيه علي نجل موسى بن جعفر

فذاك بدست للامامة أخضر

وهذا بدست للنقابة أخضر

يشير بذلك الى الامام الرضا (ع) لما ولى العهد فقد لبس لباس الخضرة توفى السيد ابن طاوس يوم الاثنين خامس ذي العقدة سنة ( 664 هج ).

١٣٨

الأعذار فلما قام أخوه الحسين بنصرهم وإجابة سؤالهم وترك المصالحة ليزيد المارق كانوا بين قاتل وخاذل حتى ما عرفنا أنهم غضبوا في أيام يزيد لذلك القتل الشنيع ولا خرجوا عليه ولا عزلوه عن ولايته وغضبوا لعبد الله ابن الزبير وساعدوه على ضلالته وافتضحوا بهذه المناقصة الهائلة وظهر سوء اختيارهم النازلة فهل يستبعد من هؤلاء ضلال عن الصراط المستقيم؟ وقد بلغوا الى هذا الحال السقيم العظيم الذميم »(1) .

وعلل السيدرحمه‌الله صلح الامام ( أولا ) بالعصمة من الخطأ وقاس صلحه بصلح جده الرسول (ص) مع المشركين في قصة الحديبية فكما ان صلح الرسول لا يتطرقه الشك ولا يأتيه النقد نظرا لوجود المصلحة فيه فكذلك صلح الإمام مع خصمه فانه محفوف بالمصلحة العامة لعموم المسلمين و ( ثانيا ) ببلاء الإمام ومحنته بذلك المجتمع الضال الذي لم يقم وزنا للفضيلة ولم يفقه من القيم الروحية شيئا فانه هو الذي اضطر الإمام الى الصلح والمسالمة. وأقام السيد الدليل على تفسخ أخلاق ذلك المجتمع وتماديه في الشر وذلك بمتابعته ليزيد شارب الخمور ، ومعلن الفسق والفجور ، ومناصرته والاشتراك معه في أفظع فظع جريمة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسينعليه‌السلام ولم يظهر أحد منهم الأسف والحزن على هذه الجريمة ، وما ثاروا عليه ، ولا عزلوه عن منصبه. وقد ذكرنا في الابحاث السالفة الأسباب التي أوجبت هذا الانحطاط الهائل في جموع أهل العراق.

9 ـ ابراز الواقع الاموي :

كان معاوية قبل أن يستولي على زمام الحكم ملتزما بتعاليم الإسلام

__________________

(1) كشف المحجة لثمرة المهجة يحتوي على وصايا رفيعة لولده ص 46.

١٣٩

ظاهرا ، ويظهر الاهتمام بشئون المسلمين ، ولكن كان ذلك ـ من دون شك ـ رياء منه ومكيدة من باب المشي رويدا لأخذ الصيد ، كان يبطن الكفر والنفاق ويضمر السوء والعداء للمسلمين فأراد الإمام الحسن (ع) بصلحه أن يبرز حقيقته ، ويظهر للناس عاره وعياره ، ويعرفه للذين خدعهم بمظاهره من أنه أعدى عدو للإسلام ، فأخلى له الميدان ، وسلم له الأمر ، فاذا بكسرى العرب ـ كما يقولون ـ تتفجر سياسته الجهنمية بكل ما خالف كتاب الله ، وسنة رسول الله (ص) ، وإذا به يعمد الى فصم عرى الإسلام وإلى نسف طاقاته ، وإلى الإجهاز على القوى الواعية فيه ، فيصب عليها وابلا من العذاب الأليم ، فيعدم وينكّل بمن شاء منها ، ويرغم المسلمين على البراءة من عترة نبيهم ، واعلان سبهم وانتقاصهم على الأعواد والمنابر وبذلك ظهرت خفايا نفسه ، وفهم المسلمون جميعا حقيقة هذا الطاغية وما يبغيه من الغوائل لهم ، ولو لم تكن للصلح من فائدة إلا إظهار ذلك لكفى بها كما نصّ على ذلك الامام كاشف الغطاءرحمه‌الله في مقدمته لهذا الكتاب(1) .

إن معاوية بعد أن آل إليه الأمر حمل معول الهدم على جميع الأسس الاسلامية محاولا بذلك اطفاء نور الاسلام ، ولف لوائه ، ومحو أثره ، وقلع جذوره ، واعادة الحياة الجاهلية الأولى ، وقبل أن نعرض بعض موبقاته ومردياته التي سود بها وجه التأريخ نذكر ما أثر عن أبويه من الحقد والعداء للإسلام. وما ورد من النبي (ص) من الأخبار فى انتقاصه وذمه لنرى هل كان خليقا بأن تسند إليه الامارة ويفرض حاكما على المسلمين ويخلى بينه وبين الحكم يتصرف فيه كيفما يشاء من دون أن يحاسب أو يراقب وإلى القراء ذلك.

__________________

(1) ص 18 ـ 19.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

هذه الصفة؟

وقد قلنا في جواب هذا السؤال : إنّ كل هذه العناوين ترجع إلى عنوان واحد ، وهو مسألة الشرك والكفر والعناد والافتراء والتكذيب بالآيات الإلهية ، وفي الآيات التي نبحثها ، تنحدر من هذا الأصل أيضا. (لمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام).

* * *

٣٢١

الآية

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) )

التّفسير

آلهة بدون خاصية!

واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضا ، وذلك عن طريق نفي ألوهية الأصنام ، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وانتفاء قيمتها وأهميتها :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) .

من البديهي أن الأصنام ـ حتى لو فرضنا أنّها منشأ الضر والنفع والربح والخسارة ـ ليست لها لياقة أن تكون معبودة ، إلّا أنّ القرآن الكريم يريد بهذا التعبير أن يوضح هذه النقطة ، وهي أنّ عبدة الأصنام لا يمتلكون أدنى دليل على صحة هذا العمل ، ويعبدون موجودات لا خاصية لها مطلقا ، وهذه أقبح وأسوأ عبادة.

ثمّ تتطرق إلى ادعاءات عبدة الأوثان الواهية ،( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ

٣٢٢

اللهِ ) أي إنّ هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سببا للضر والنفع رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.

لقد كان الإعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها ، وكما جاء في التواريخ ، فإنّ عمرو بن لحي كبير العرب عند ما ذهب إلى المياه المعدنية في الشام لمعالجة نفسه بها ، جلب انتباهه وضع عبدة الأصنام ، ولما سأل منهم عن الباعث على هذا العمل والعبادة ، قالوا له: إنّ هذه الأصنام هي سبب نزول الأمطار ، وحل المشاكل ، ولها الشفاعة بين يدي الله ، ولما كان رجلا خرافيا وقع تحت تأثير هذه الأجوبة ، وطلب منهم بعض الأصنام ليأخذها إلى الحجاز ، وعن هذا الطريق راجت عبادة الأصنام بين أهل الحجاز.

إنّ القرآن يقول في دفع هذا الوهم :( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) وهو كناية عن أن الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنّه يعلم بوجودهم في أي نقطة كانوا من السماء والأرض ، لأنّ سعة علم الله لا تدع أصغر ذرة في السماء والأرض إلّا وتحيط بها علما.

وبتعبير آخر ، إن ذلك يشبه تماما ما لو قيل لشخص : أعندك مثل هذا الوكيل؟ وهو في الجواب يقول : لا علم لي بوجود هذا الوكيل ، وهذا أفضل دليل على نفيه حيث لا يمكن أن لا يعلم الإنسان بوكيله.

وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

لقد بحث موضوع الشفاعة بصورة مفصلة في المجلد الأوّل ذيل الآية (٤٦) من سورة البقرة.

* * *

٣٢٣

الآية

( وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) )

التّفسير

إنّ هذه الآية ـ تتمّة للبحث الذي مرّ في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة الأصنام ـ تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر ، وتقول :( وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ) .

إنّ فطرة التوحيد هذه ، والتي كانت سالمة في البداية ، إلّا أنّها قد اختلفت وتلوّثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة ، والميول الشيطانية والضعف ، فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك ، وقد انقسم المجتمع الإنساني إلى قسمين مختلفين : قسم موحّد، وقسم مشرك :( فَاخْتَلَفُوا ) . بناء على هذا فإنّ الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة ، الانحراف المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.

وقد يطرح هنا هذا السؤال ، وهو : لماذا لا يرفع الله هذا الاختلاف بواسطة عقاب المشركين السريع ، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحّدا؟

ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي

٣٢٤

حرية البشر في مسير الهداية ، فهي رمز التكامل والرقي ، ولو لم يكن أمره كذلك فإنّ الله سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

بناء على هذا فإنّ( كَلِمَةٌ ) في الآية إشارة إلى السنّة وقانون الخلقة الذي يقتضي حرية البشر ، لأنّ المنحرفين والمشركين لو كانوا يعاقبون سريعا ومباشرة ، فإنّ إيمان الموحّدين سيكون اجباريا ونتيجة للخوف والرهبة ، ومثل هذا الإيمان لا يعدّ فخرا. ولا دليلا على التكامل ، والله سبحانه قد أجّل العقاب والجزاء لعالم الآخرة لينتخب الصالحون والطاهرون طريقهم بحرية تامّة.

* * *

٣٢٥

الآية

( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) )

التّفسير

المعجزات المقترحة!

مرّة أخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإيمان والإسلام( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

من الطبيعي ، وبدليل القرائن التي سنشير إليها بعد حين ، أنّ هؤلاء لم يقصدوا أي معجزة ، لأنّ من المسلّم أنّه كان للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة إلى القرآن معاجر أخرى ، وتاريخ الإسلام وبعض الآيات القرآنية شاهدة على هذه الحقيقة.

إنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإعجاز أمر بيد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد ، مضافا الى أنّه مأمور أن يستفيد من هذه القوّة مقابل كل مدّع لجوج معاند والعمل حسب ميله لإقناعه وإقامة الحجة عليه ، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة :( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) وبناء على هذا ، فإنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاء لأهوائكم وحسب ميولكم ورغباتكم ، ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.

٣٢٦

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد :( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) فانتظروا العقاب الإلهي ، وأنا أنتظر النصر!

أو كونوا بانتظار ظهور مثل هذه المعجزات ، وأكون بانتظار عقابكم أيّها المعاندون!.

* * *

ملاحظتان

وهنا ملاحظتان ينبغي الالتفات إليهما :

١ ـ كما أشرنا أعلاه فإنّ كلمة (آية) أي المعجزة ـ وإن كانت مطلقة وتشمل كل أنواع المعاجز ـ إلّا أنّ القرائن تبيّن أنّ هؤلاء لم يطلبوا المعجزة لمعرفة صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانوا طلاب معاجز اقتراحية ، أي إنّهم كانوا كل يوم يقترحون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة جديدة ويأملون أن يطيعهم في ذلك ، فكأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنسان لا عمل له سوى صنع المعجزات ، وهو منتظر لكل من هبّ ودبّ ليقترح عليه شيئا فيحقق له اقتراحه ، غافلين عن أن المعجزة هي من فعل الله سبحانه أوّلا ، ولا تتم إلّا بأمره وإرادته ، وهي ـ ثانيا ـ معجزة لمعرفة أحقّية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاهتداء به ، ووقوعها مرّة واحدة كاف لهذا الغرض ، وعلاوة على ذلك فإنّ نبيّ الإسلام قد أظهر من المعجزات القدر الكافي ، فطلب المزيد لا يكون إلّا بدافع الاقتراحات الأهوائية والشهوانية.

والشاهد على أنّ المقصود من (الآية) هنا المعجزات الاقتراحية ، هو :

أوّلا : إنّ نهاية الآية تهدد هؤلاء ، ولو كانوا يطلبون المعجزة لاكتشاف الحقيقة ، فلا وجه لهذا التهديد.

ثانيا : رأينا قبل عدّة آيات أن هؤلاء كانوا عنودين ولجوجين إلى الحد الذي اقترحوا فيه على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدل كتابه السماوي ، أو يغير على الأقل الآيات

٣٢٧

التي تشير إلى نفي عبادة الأصنام.

ثالثا : حسب القاعدة المسلمة لدينا بأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضا» فإنّا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال بعض الآيات ـ كالآيات (٩٠) و (٩٤) من سورة الإسراء ـ أن عبدة الأصنام اللجوجين هؤلاء ، لم يكونوا طلاب معجزة لأجل الهداية ، ولهذا نراهم كانوا يقولون أحيانا : نحن لن نؤمن لك حتى تفجر العيون من هذه الأرض اليابسة ، ويقول الآخر : إنّ هذا ليس بكاف ، بل يجب أن يكون لك بيت من ذهب ، وثالث يقول : وهذا أيضا لا يقنعنا حتى ترقى في السماء أمام أعيننا ، ويضيف رابع أنّ هذا الرقي في السماء ليس كافيا أيضا إلّا إذا أتيتنا بكتاب من الله لنا!! وأمثال ذلك من السفاسف والخزعبلات.

إذن ، فقد اتّضح ممّا قلنا أعلاه أنّ الاستدلال بهذه الآية على نفي أية معجزة ، أو كل المعجزات غير القرآن الكريم زيف يجانب الحقيقة ، (وستطالعون ـ إن شاء الله مزيدا من التوضيح حول هذا الموضوع في ذيل الاية (٥٩) من سورة الإسراء).

٢ ـ يمكن أن تكون كلمة «الغيب» في جملة :( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) إشارة إلى أنّ المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب ، وليست من اختيارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي مختصة بالله تعالى.

أو أن تكون إشارة إلى أن مصالح الأمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه ، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول المعجزة ، وأنّ طالب المعجزة باحث عن الحقيقة ، أنزل المعجزة ، لأنّ الغيب والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

* * *

٣٢٨

الآيات

( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) )

التّفسير

يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضا ـ حول عقائد وأعمال المشركين ، ثمّ دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.

فالآية الأولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء ، وتقول : أنّنا عند ما

٣٢٩

نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم ، ثمّ نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضرّاء ، فإنّهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب ، يسخرون بها ، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة ، فمثلا يفسرون الابتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام ، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الأمور صدفة محضة :( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ) .

إنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه ، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر ، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية ، وظهور أنواع البلايا والنعم.

إلّا أنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه ، وأمره أن( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً ) . وكما أشرنا مرارا ، الى أنّ المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي ، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم ، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة ، وعلى هذا فإنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد(١) . لكن ما هو مصداق المكر الإلهي في هذه الآية؟

الظاهر أنّها إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون ، بل إنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحيانا. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب ، ستكون خططه ـ أيضا ـ هي الأسرع. وبتعبير آخر فإنّ الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه ، فإنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة ، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.

ثمّ يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستنسى ، بل إنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق :( إِنَّ

__________________

(١) لمزيد التوضيح راجع المجلد الثاني من تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٥٤) من سورة آل عمران.

٣٣٠

رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأخرى.

وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر ، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري ، وكيف أن الإنسان عند ما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر ، ينسى كل شيء إلّا الله تبارك وتعالى ويتعلق به ، لكنّه بمجرّد أن يرتفع البلاء وتزول الشدّة وتحل المشكلة ، فإنّه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.

تقول الآية :( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك ، و( دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء :( لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) . فلا نظلم أحدا ولا نشرك بعبادتك غيرك.

ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إلى شاطئ النجاة بدؤوا بالظلّم والجور :( فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا :( مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١) ( ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

__________________

(١) إنّ كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر ، وفي الأصل كانت : تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

٣٣١

ملاحظات

وهنا يجب الالتفات إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ إنّ ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان ، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوّثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعند ما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شيء ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا ، فإنّهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق ، وينذرون ويقطعون العهود بأنّهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا.

إلّا أنّ هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري ، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء ، فبمجرّد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء ، فإنّ حجب الغفلة ستغشي قلوبهم ، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلّا بالطوفان.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة ، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّا ، أنّها تقيم الحجّة عليهم ، وستكون دليلا على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا ، فإنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم. وأمّا عباد الله الصالحون فأمرهم واضح ، فإنّ توجههم إلى الله سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إليه في الضراء ، لأنّهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل إليهم ، وتبدو ظاهرا أنّها نتيجة للعوامل الطبيعية ، فإنّها في الواقع من الله تعالى.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيرا في آيات القرآن المجيد.

٢ ـ لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء» ، ولم تذكر السراء ، وهي إشارة إلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية. في حين أنّ السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة ، فإنّها من آثار أعمال

٣٣٢

الإنسان نفسه.

٣ ـ إنّ الضمائر في بداية الآية الثّانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب ، إلّا أنّها في الأثناء بصيغة الغائب ، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما : قال بعض المفسّرين : إنّ تغيير أسلوب الآية من أجل أنّها تبيّن حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درسا وعبرة للآخرين ، ولهذا فإنّها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضورا.

وقال البعض الآخر : إنّ النكتة هي عدم الاعتناء بهؤلاء وتحقيرهم ، حيث أن الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثمّ أبعدهم عنه وتركهم.

ويحتمل أيضا أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس ، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإنّهم في إطار المجتمع ، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين ، أمّا عند ما تبعدهم السفينة عن الساحل ، ويختفون عن الأنظار تدريجيا ، فإنّهم يعتبرون كالغائبين ، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.

٤ ـ إنّ جملة( أُحِيطَ بِهِمْ ) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب ، إلّا أنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

* * *

٣٣٣

الآيتان

( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) )

التّفسير

لوحة الحياة الدّنيا :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا ، ففي الآية الأولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) .

إنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. وبهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان ، ومن بعضها

٣٣٤

الآخر الحيوانات( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) .

إنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمّة للكائنات الحيّة الأخرى ، فإنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعا من الجمال( حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ) في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس ، وتتمايل الأغصان طربا مع النسيم ، وتظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئا فشيئا وتجسم جانبا دائب الحركة من الحياة بكل معنى الكلمة ، وتملأ القلوب بالأمل ، والعيون بالسرور والفرح ، بحيث( وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ) في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها ، سواء ببرد قارص ، أو ثلوج كثيرة ، أو إعصار مدمّر ، ونجعلها كأنّ لم تكن شيئا مذكورا( أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

( لَمْ تَغْنَ ) مأخوذة من مادة (غنا) بمعنى الإقامة في مكان معين ، وعلى هذا فإنّ جملة( لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا ، وهذا كناية عن فناء الشيء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقا!.

وللتأكيد تقول الآية في النهاية :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

إنّ ما ذكر أعلاه تجسيم واضح وصريح عن الحياة الدنيوية السريعة الانقضاء والخداعة، والمليئة بالتزاويق والزخارف ، فلا دوام لثرواتها ونعيمها ، ولا هي مكان أمن وسلامة. ولهذا فإنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة المقابلة لهذه الحياة ، وقالت :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية ، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار ، وكل هذه المفاهيم قد جمعت في كلمة دار السّلام.

وإذا تلبّست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد ،

٣٣٥

فإنّها ستتبدل أيضا إلى دار السّلام ، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء والوباء.

ثمّ تضيف الآية : إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء ـ إذا كان لائقا لهذه الهداية ـ إلى صراطه المستقيم ، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السّلام ومركز الأمن والأمان( وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإنسان ، فإنّه يستعين بالأمثلة لتوضيح الحقائق العقلية في كثير من الموارد ، وقد يجسّد المواضيع التي لها امتداد زمني طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.

إنّ متابعة تأريخ مليء بالحوادث يتعلق بإنسان ما ، أو جيل ما ، والذي قد يطول لمائة سنة أحيانا ليس بالأمر الهين بالنسبة للأفراد العاديين ، أمّا عند ما تتلخص هذه الساحة والحياة في عدّة أشهر ، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات ، من الولادة إلى الرشد والنمو والجمال ، ثمّ الهلاك والموت ، وتظهر أمام الإنسان ، فإنّه يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.

جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماما : حديقة مليئة بالأشجار والخضرة والنباتات الدائمة الثمر ، وصخب الحياة يعم كل أرجائها وفجأة في ليلة مظلمة ، أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء ، وترعد وتبرق ثمّ تهب الأعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.

غدا نأتي لرؤية تلك الحديقة الأشجار متكسرة النباتات والأعشاب مبعثرة وميتة ، وكل شيء أمامنا ملقى على الأرض بصورة لا نصدق معها أنّ هذه هي تلك الحديقة الغنّاء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.

٣٣٦

نعم ، هكذا هي الحوادث في حياة البشر ، خصوصا في عصرنا الحاضر حيث تدمّر زلزلة أو حرب لا تطور إلّا ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة ، ولا تبقي منها إلّا الأنقاض. وأجساد متنائرة هنا وهناك.

آه ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية؟!

٢ ـ في جملة( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) ينبغي الالتفات إلى أنّ الاختلاط في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هو الجمع بين شيئين أو أكثر ، سواء كانت سائلة أو جامدة. والاختلاط أعم من الامتزاج ، لأن الامتزاج يطلق عادة على السوائل ، وعلى هذا يكون معنى الجملة أنّ النباتات يختلط بعضها بالبعض الآخر بواسطة ماء المطر ، سواء النباتات التي تنفع الإنسان ، أو الحيوان(١) .

وتشير الجملة أعلاه ـ أيضا ـ إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله سبحانه ينبت من ماء المطر ، الذي هو نوع واحد وليس له إلّا حقيقة واحدة ، أنواع النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الإنسان والحيوان من المواد الغذائية.

* * *

__________________

(١) يتّضح ممّا قيل أعلاه أنّ الباء في (به) سببية ، ولكن قد احتمل البعض أنّها بمعنى (مع) ، أي إنّ ماء ينزل من السماء ويختلط بالنباتات ، وينميها وينضجها. إلّا أنّ هذا الاحتمال الثّاني لا يناسب آخر الآية الذي يقول:( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) لأنّ ظاهر هذه الجملة أنّ المقصود هو الاختلاط بين أنواع الأعشاب ، لا اختلاط الماء والنبات. دققوا ذلك.

٣٣٧

الآيتان

( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) )

التّفسير

بيض الوجوه وسود الوجوه :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة ، ولهذه المناسبة فإنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (١) .

ومع أن هناك بحث بين المفسّرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة ، إلّا أنّنا إذا علمنا أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا ، رأينا أنّ المراد هو الإشارة إلى الثواب

__________________

(١) ينبغي التنبه إلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر ، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا ، ولذلك فإنّ (زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة ، والحسنى صفة للمثوبة المقدّرة ، وقد حلّت محلّ الموصوف.

٣٣٨

المضاعف الكثير ، الذي يتضاعف أحيانا عشر مرات ، وأخرى آلاف المرات حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل ، فنقرأ في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام.( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

وفي الآية (١٢٧) من سورة النساء :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .

وفي الآيات المرتبطة بالإنفاق في سورة البقرة آية (٢٦١) يدور الحديث أيضا عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إلى سبعمائة ضعف ، أو مضاعفته أضعافا كثيرة من قبل الله سبحانه.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإضافة حتى في عالم الآخرة ، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفا جديدا ، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة ، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لا نهاية.

والرّوايات التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية ، والتي تبيّن أن المراد من «الزيادة» هو التوجه إلى نور الذات الإلهية المقدسة والاستفادة من هذه الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إشارة إلى هذه النكتة.

وفي بعض الرّوايات المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، فسّرت «الزيادة» بزيادة النعم الدّنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة ، ولكن لا مانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إشارة إلى كل هذه المواهب.

ثمّ تضيف الآية :( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) . «يرهق» مأخوذة من مادة «رهق» ، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية ، «والقتر» بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) التعبير بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنّة.

ثمّ يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النّار الذين يشكلون الطرف

٣٣٩

المقابل للمجموعة الأولى ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة ، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة ، أمّا في العقاب فإنّ العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلّا أن هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم( وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

ويمكن أن يقول قائل : إنّ هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلّا بقدر ذنوبهم ، وأنّ اسوداد الوجه هذا ، وغبار الذل الذي يغطيهم شيء إضافي. لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى الخارج ، تماما كما نقول : إنّ الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا. وفي الوقت نفسه فإنّ الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد والأعصاب.

وعلى كل حال ، فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة ، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم ، إلّا أن الجملة التالية تقول بصراحة :( ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) .

إنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي( كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

* * *

__________________

(١) من الممكن ، بقرينة الآية السابقة ، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير : يرهقهم قتر وذلة) ، وبقرينة المقابلة حذفت (قتر) لأجل الاختصار.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608