الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261176 / تحميل: 6484
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

هذه الصفة؟

وقد قلنا في جواب هذا السؤال : إنّ كل هذه العناوين ترجع إلى عنوان واحد ، وهو مسألة الشرك والكفر والعناد والافتراء والتكذيب بالآيات الإلهية ، وفي الآيات التي نبحثها ، تنحدر من هذا الأصل أيضا. (لمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام).

* * *

٣٢١

الآية

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) )

التّفسير

آلهة بدون خاصية!

واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضا ، وذلك عن طريق نفي ألوهية الأصنام ، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وانتفاء قيمتها وأهميتها :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) .

من البديهي أن الأصنام ـ حتى لو فرضنا أنّها منشأ الضر والنفع والربح والخسارة ـ ليست لها لياقة أن تكون معبودة ، إلّا أنّ القرآن الكريم يريد بهذا التعبير أن يوضح هذه النقطة ، وهي أنّ عبدة الأصنام لا يمتلكون أدنى دليل على صحة هذا العمل ، ويعبدون موجودات لا خاصية لها مطلقا ، وهذه أقبح وأسوأ عبادة.

ثمّ تتطرق إلى ادعاءات عبدة الأوثان الواهية ،( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ

٣٢٢

اللهِ ) أي إنّ هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سببا للضر والنفع رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.

لقد كان الإعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها ، وكما جاء في التواريخ ، فإنّ عمرو بن لحي كبير العرب عند ما ذهب إلى المياه المعدنية في الشام لمعالجة نفسه بها ، جلب انتباهه وضع عبدة الأصنام ، ولما سأل منهم عن الباعث على هذا العمل والعبادة ، قالوا له: إنّ هذه الأصنام هي سبب نزول الأمطار ، وحل المشاكل ، ولها الشفاعة بين يدي الله ، ولما كان رجلا خرافيا وقع تحت تأثير هذه الأجوبة ، وطلب منهم بعض الأصنام ليأخذها إلى الحجاز ، وعن هذا الطريق راجت عبادة الأصنام بين أهل الحجاز.

إنّ القرآن يقول في دفع هذا الوهم :( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) وهو كناية عن أن الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنّه يعلم بوجودهم في أي نقطة كانوا من السماء والأرض ، لأنّ سعة علم الله لا تدع أصغر ذرة في السماء والأرض إلّا وتحيط بها علما.

وبتعبير آخر ، إن ذلك يشبه تماما ما لو قيل لشخص : أعندك مثل هذا الوكيل؟ وهو في الجواب يقول : لا علم لي بوجود هذا الوكيل ، وهذا أفضل دليل على نفيه حيث لا يمكن أن لا يعلم الإنسان بوكيله.

وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

لقد بحث موضوع الشفاعة بصورة مفصلة في المجلد الأوّل ذيل الآية (٤٦) من سورة البقرة.

* * *

٣٢٣

الآية

( وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) )

التّفسير

إنّ هذه الآية ـ تتمّة للبحث الذي مرّ في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة الأصنام ـ تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر ، وتقول :( وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ) .

إنّ فطرة التوحيد هذه ، والتي كانت سالمة في البداية ، إلّا أنّها قد اختلفت وتلوّثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة ، والميول الشيطانية والضعف ، فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك ، وقد انقسم المجتمع الإنساني إلى قسمين مختلفين : قسم موحّد، وقسم مشرك :( فَاخْتَلَفُوا ) . بناء على هذا فإنّ الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة ، الانحراف المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.

وقد يطرح هنا هذا السؤال ، وهو : لماذا لا يرفع الله هذا الاختلاف بواسطة عقاب المشركين السريع ، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحّدا؟

ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي

٣٢٤

حرية البشر في مسير الهداية ، فهي رمز التكامل والرقي ، ولو لم يكن أمره كذلك فإنّ الله سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

بناء على هذا فإنّ( كَلِمَةٌ ) في الآية إشارة إلى السنّة وقانون الخلقة الذي يقتضي حرية البشر ، لأنّ المنحرفين والمشركين لو كانوا يعاقبون سريعا ومباشرة ، فإنّ إيمان الموحّدين سيكون اجباريا ونتيجة للخوف والرهبة ، ومثل هذا الإيمان لا يعدّ فخرا. ولا دليلا على التكامل ، والله سبحانه قد أجّل العقاب والجزاء لعالم الآخرة لينتخب الصالحون والطاهرون طريقهم بحرية تامّة.

* * *

٣٢٥

الآية

( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) )

التّفسير

المعجزات المقترحة!

مرّة أخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإيمان والإسلام( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

من الطبيعي ، وبدليل القرائن التي سنشير إليها بعد حين ، أنّ هؤلاء لم يقصدوا أي معجزة ، لأنّ من المسلّم أنّه كان للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة إلى القرآن معاجر أخرى ، وتاريخ الإسلام وبعض الآيات القرآنية شاهدة على هذه الحقيقة.

إنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإعجاز أمر بيد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد ، مضافا الى أنّه مأمور أن يستفيد من هذه القوّة مقابل كل مدّع لجوج معاند والعمل حسب ميله لإقناعه وإقامة الحجة عليه ، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة :( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) وبناء على هذا ، فإنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاء لأهوائكم وحسب ميولكم ورغباتكم ، ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.

٣٢٦

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد :( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) فانتظروا العقاب الإلهي ، وأنا أنتظر النصر!

أو كونوا بانتظار ظهور مثل هذه المعجزات ، وأكون بانتظار عقابكم أيّها المعاندون!.

* * *

ملاحظتان

وهنا ملاحظتان ينبغي الالتفات إليهما :

١ ـ كما أشرنا أعلاه فإنّ كلمة (آية) أي المعجزة ـ وإن كانت مطلقة وتشمل كل أنواع المعاجز ـ إلّا أنّ القرائن تبيّن أنّ هؤلاء لم يطلبوا المعجزة لمعرفة صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانوا طلاب معاجز اقتراحية ، أي إنّهم كانوا كل يوم يقترحون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة جديدة ويأملون أن يطيعهم في ذلك ، فكأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنسان لا عمل له سوى صنع المعجزات ، وهو منتظر لكل من هبّ ودبّ ليقترح عليه شيئا فيحقق له اقتراحه ، غافلين عن أن المعجزة هي من فعل الله سبحانه أوّلا ، ولا تتم إلّا بأمره وإرادته ، وهي ـ ثانيا ـ معجزة لمعرفة أحقّية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاهتداء به ، ووقوعها مرّة واحدة كاف لهذا الغرض ، وعلاوة على ذلك فإنّ نبيّ الإسلام قد أظهر من المعجزات القدر الكافي ، فطلب المزيد لا يكون إلّا بدافع الاقتراحات الأهوائية والشهوانية.

والشاهد على أنّ المقصود من (الآية) هنا المعجزات الاقتراحية ، هو :

أوّلا : إنّ نهاية الآية تهدد هؤلاء ، ولو كانوا يطلبون المعجزة لاكتشاف الحقيقة ، فلا وجه لهذا التهديد.

ثانيا : رأينا قبل عدّة آيات أن هؤلاء كانوا عنودين ولجوجين إلى الحد الذي اقترحوا فيه على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدل كتابه السماوي ، أو يغير على الأقل الآيات

٣٢٧

التي تشير إلى نفي عبادة الأصنام.

ثالثا : حسب القاعدة المسلمة لدينا بأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضا» فإنّا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال بعض الآيات ـ كالآيات (٩٠) و (٩٤) من سورة الإسراء ـ أن عبدة الأصنام اللجوجين هؤلاء ، لم يكونوا طلاب معجزة لأجل الهداية ، ولهذا نراهم كانوا يقولون أحيانا : نحن لن نؤمن لك حتى تفجر العيون من هذه الأرض اليابسة ، ويقول الآخر : إنّ هذا ليس بكاف ، بل يجب أن يكون لك بيت من ذهب ، وثالث يقول : وهذا أيضا لا يقنعنا حتى ترقى في السماء أمام أعيننا ، ويضيف رابع أنّ هذا الرقي في السماء ليس كافيا أيضا إلّا إذا أتيتنا بكتاب من الله لنا!! وأمثال ذلك من السفاسف والخزعبلات.

إذن ، فقد اتّضح ممّا قلنا أعلاه أنّ الاستدلال بهذه الآية على نفي أية معجزة ، أو كل المعجزات غير القرآن الكريم زيف يجانب الحقيقة ، (وستطالعون ـ إن شاء الله مزيدا من التوضيح حول هذا الموضوع في ذيل الاية (٥٩) من سورة الإسراء).

٢ ـ يمكن أن تكون كلمة «الغيب» في جملة :( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) إشارة إلى أنّ المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب ، وليست من اختيارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي مختصة بالله تعالى.

أو أن تكون إشارة إلى أن مصالح الأمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه ، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول المعجزة ، وأنّ طالب المعجزة باحث عن الحقيقة ، أنزل المعجزة ، لأنّ الغيب والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

* * *

٣٢٨

الآيات

( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) )

التّفسير

يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضا ـ حول عقائد وأعمال المشركين ، ثمّ دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.

فالآية الأولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء ، وتقول : أنّنا عند ما

٣٢٩

نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم ، ثمّ نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضرّاء ، فإنّهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب ، يسخرون بها ، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة ، فمثلا يفسرون الابتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام ، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الأمور صدفة محضة :( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ) .

إنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه ، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر ، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية ، وظهور أنواع البلايا والنعم.

إلّا أنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه ، وأمره أن( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً ) . وكما أشرنا مرارا ، الى أنّ المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي ، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم ، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة ، وعلى هذا فإنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد(١) . لكن ما هو مصداق المكر الإلهي في هذه الآية؟

الظاهر أنّها إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون ، بل إنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحيانا. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب ، ستكون خططه ـ أيضا ـ هي الأسرع. وبتعبير آخر فإنّ الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه ، فإنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة ، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.

ثمّ يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستنسى ، بل إنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق :( إِنَّ

__________________

(١) لمزيد التوضيح راجع المجلد الثاني من تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٥٤) من سورة آل عمران.

٣٣٠

رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأخرى.

وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر ، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري ، وكيف أن الإنسان عند ما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر ، ينسى كل شيء إلّا الله تبارك وتعالى ويتعلق به ، لكنّه بمجرّد أن يرتفع البلاء وتزول الشدّة وتحل المشكلة ، فإنّه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.

تقول الآية :( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك ، و( دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء :( لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) . فلا نظلم أحدا ولا نشرك بعبادتك غيرك.

ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إلى شاطئ النجاة بدؤوا بالظلّم والجور :( فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا :( مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١) ( ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

__________________

(١) إنّ كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر ، وفي الأصل كانت : تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

٣٣١

ملاحظات

وهنا يجب الالتفات إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ إنّ ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان ، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوّثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعند ما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شيء ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا ، فإنّهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق ، وينذرون ويقطعون العهود بأنّهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا.

إلّا أنّ هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري ، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء ، فبمجرّد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء ، فإنّ حجب الغفلة ستغشي قلوبهم ، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلّا بالطوفان.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة ، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّا ، أنّها تقيم الحجّة عليهم ، وستكون دليلا على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا ، فإنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم. وأمّا عباد الله الصالحون فأمرهم واضح ، فإنّ توجههم إلى الله سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إليه في الضراء ، لأنّهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل إليهم ، وتبدو ظاهرا أنّها نتيجة للعوامل الطبيعية ، فإنّها في الواقع من الله تعالى.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيرا في آيات القرآن المجيد.

٢ ـ لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء» ، ولم تذكر السراء ، وهي إشارة إلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية. في حين أنّ السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة ، فإنّها من آثار أعمال

٣٣٢

الإنسان نفسه.

٣ ـ إنّ الضمائر في بداية الآية الثّانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب ، إلّا أنّها في الأثناء بصيغة الغائب ، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما : قال بعض المفسّرين : إنّ تغيير أسلوب الآية من أجل أنّها تبيّن حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درسا وعبرة للآخرين ، ولهذا فإنّها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضورا.

وقال البعض الآخر : إنّ النكتة هي عدم الاعتناء بهؤلاء وتحقيرهم ، حيث أن الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثمّ أبعدهم عنه وتركهم.

ويحتمل أيضا أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس ، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإنّهم في إطار المجتمع ، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين ، أمّا عند ما تبعدهم السفينة عن الساحل ، ويختفون عن الأنظار تدريجيا ، فإنّهم يعتبرون كالغائبين ، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.

٤ ـ إنّ جملة( أُحِيطَ بِهِمْ ) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب ، إلّا أنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

* * *

٣٣٣

الآيتان

( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) )

التّفسير

لوحة الحياة الدّنيا :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا ، ففي الآية الأولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) .

إنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. وبهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان ، ومن بعضها

٣٣٤

الآخر الحيوانات( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) .

إنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمّة للكائنات الحيّة الأخرى ، فإنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعا من الجمال( حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ) في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس ، وتتمايل الأغصان طربا مع النسيم ، وتظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئا فشيئا وتجسم جانبا دائب الحركة من الحياة بكل معنى الكلمة ، وتملأ القلوب بالأمل ، والعيون بالسرور والفرح ، بحيث( وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ) في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها ، سواء ببرد قارص ، أو ثلوج كثيرة ، أو إعصار مدمّر ، ونجعلها كأنّ لم تكن شيئا مذكورا( أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

( لَمْ تَغْنَ ) مأخوذة من مادة (غنا) بمعنى الإقامة في مكان معين ، وعلى هذا فإنّ جملة( لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا ، وهذا كناية عن فناء الشيء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقا!.

وللتأكيد تقول الآية في النهاية :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

إنّ ما ذكر أعلاه تجسيم واضح وصريح عن الحياة الدنيوية السريعة الانقضاء والخداعة، والمليئة بالتزاويق والزخارف ، فلا دوام لثرواتها ونعيمها ، ولا هي مكان أمن وسلامة. ولهذا فإنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة المقابلة لهذه الحياة ، وقالت :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية ، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار ، وكل هذه المفاهيم قد جمعت في كلمة دار السّلام.

وإذا تلبّست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد ،

٣٣٥

فإنّها ستتبدل أيضا إلى دار السّلام ، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء والوباء.

ثمّ تضيف الآية : إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء ـ إذا كان لائقا لهذه الهداية ـ إلى صراطه المستقيم ، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السّلام ومركز الأمن والأمان( وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإنسان ، فإنّه يستعين بالأمثلة لتوضيح الحقائق العقلية في كثير من الموارد ، وقد يجسّد المواضيع التي لها امتداد زمني طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.

إنّ متابعة تأريخ مليء بالحوادث يتعلق بإنسان ما ، أو جيل ما ، والذي قد يطول لمائة سنة أحيانا ليس بالأمر الهين بالنسبة للأفراد العاديين ، أمّا عند ما تتلخص هذه الساحة والحياة في عدّة أشهر ، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات ، من الولادة إلى الرشد والنمو والجمال ، ثمّ الهلاك والموت ، وتظهر أمام الإنسان ، فإنّه يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.

جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماما : حديقة مليئة بالأشجار والخضرة والنباتات الدائمة الثمر ، وصخب الحياة يعم كل أرجائها وفجأة في ليلة مظلمة ، أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء ، وترعد وتبرق ثمّ تهب الأعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.

غدا نأتي لرؤية تلك الحديقة الأشجار متكسرة النباتات والأعشاب مبعثرة وميتة ، وكل شيء أمامنا ملقى على الأرض بصورة لا نصدق معها أنّ هذه هي تلك الحديقة الغنّاء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.

٣٣٦

نعم ، هكذا هي الحوادث في حياة البشر ، خصوصا في عصرنا الحاضر حيث تدمّر زلزلة أو حرب لا تطور إلّا ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة ، ولا تبقي منها إلّا الأنقاض. وأجساد متنائرة هنا وهناك.

آه ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية؟!

٢ ـ في جملة( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) ينبغي الالتفات إلى أنّ الاختلاط في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هو الجمع بين شيئين أو أكثر ، سواء كانت سائلة أو جامدة. والاختلاط أعم من الامتزاج ، لأن الامتزاج يطلق عادة على السوائل ، وعلى هذا يكون معنى الجملة أنّ النباتات يختلط بعضها بالبعض الآخر بواسطة ماء المطر ، سواء النباتات التي تنفع الإنسان ، أو الحيوان(١) .

وتشير الجملة أعلاه ـ أيضا ـ إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله سبحانه ينبت من ماء المطر ، الذي هو نوع واحد وليس له إلّا حقيقة واحدة ، أنواع النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الإنسان والحيوان من المواد الغذائية.

* * *

__________________

(١) يتّضح ممّا قيل أعلاه أنّ الباء في (به) سببية ، ولكن قد احتمل البعض أنّها بمعنى (مع) ، أي إنّ ماء ينزل من السماء ويختلط بالنباتات ، وينميها وينضجها. إلّا أنّ هذا الاحتمال الثّاني لا يناسب آخر الآية الذي يقول:( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) لأنّ ظاهر هذه الجملة أنّ المقصود هو الاختلاط بين أنواع الأعشاب ، لا اختلاط الماء والنبات. دققوا ذلك.

٣٣٧

الآيتان

( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) )

التّفسير

بيض الوجوه وسود الوجوه :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة ، ولهذه المناسبة فإنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (١) .

ومع أن هناك بحث بين المفسّرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة ، إلّا أنّنا إذا علمنا أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا ، رأينا أنّ المراد هو الإشارة إلى الثواب

__________________

(١) ينبغي التنبه إلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر ، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا ، ولذلك فإنّ (زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة ، والحسنى صفة للمثوبة المقدّرة ، وقد حلّت محلّ الموصوف.

٣٣٨

المضاعف الكثير ، الذي يتضاعف أحيانا عشر مرات ، وأخرى آلاف المرات حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل ، فنقرأ في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام.( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

وفي الآية (١٢٧) من سورة النساء :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .

وفي الآيات المرتبطة بالإنفاق في سورة البقرة آية (٢٦١) يدور الحديث أيضا عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إلى سبعمائة ضعف ، أو مضاعفته أضعافا كثيرة من قبل الله سبحانه.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإضافة حتى في عالم الآخرة ، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفا جديدا ، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة ، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لا نهاية.

والرّوايات التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية ، والتي تبيّن أن المراد من «الزيادة» هو التوجه إلى نور الذات الإلهية المقدسة والاستفادة من هذه الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إشارة إلى هذه النكتة.

وفي بعض الرّوايات المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، فسّرت «الزيادة» بزيادة النعم الدّنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة ، ولكن لا مانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إشارة إلى كل هذه المواهب.

ثمّ تضيف الآية :( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) . «يرهق» مأخوذة من مادة «رهق» ، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية ، «والقتر» بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) التعبير بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنّة.

ثمّ يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النّار الذين يشكلون الطرف

٣٣٩

المقابل للمجموعة الأولى ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة ، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة ، أمّا في العقاب فإنّ العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلّا أن هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم( وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

ويمكن أن يقول قائل : إنّ هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلّا بقدر ذنوبهم ، وأنّ اسوداد الوجه هذا ، وغبار الذل الذي يغطيهم شيء إضافي. لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى الخارج ، تماما كما نقول : إنّ الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا. وفي الوقت نفسه فإنّ الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد والأعصاب.

وعلى كل حال ، فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة ، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم ، إلّا أن الجملة التالية تقول بصراحة :( ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) .

إنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي( كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

* * *

__________________

(١) من الممكن ، بقرينة الآية السابقة ، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير : يرهقهم قتر وذلة) ، وبقرينة المقابلة حذفت (قتر) لأجل الاختصار.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) )

التّفسير

في هذه الآيات إشارة إلى النعم التي أسبغها الله على إبراهيم ، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة ، وهي من النعم الإلهية العظيمة.

يقول سبحانه :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) ولم تذكر الآية ابن إبراهيم الآخر إسماعيل ، بل ورد اسمه خلال حديث آية تالية ، ولعل السبب يعود إلى أنّ ولادة إسحاق من (سارة) العقيم العجوز تعتبر نعمة عجيبة وغير متوقعة.

ثمّ يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرّد كونهما ولدي نبي ، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح :( كُلًّا هَدَيْنا ) .

٣٦١

ثمّ لكيلا يتصور أحد أنه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم ، وأنّ التوحيد بدأ بإبراهيم ، يقول :( وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) .

إنّنا نعلم أن نوحا هو أوّل أولي العزم من الأنبياء الذين جاؤوا بدين وبشريعة.

فالإشارة إلى مكانة نوح ، وهو من أجداد إبراهيم ، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته ، إنّما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث «الوراثة والأصل» و «الذّرية».

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من أسرة إبراهيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ ) ، ثمّ يبيّن أن منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم :( وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

هناك كلام كثير بين المفسّرين بشأن الضمير في( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) هل يعود إلى إبراهيم ، أم إلى نوح؟ غير أنّ أغلبهم يرجعه إلى إبراهيم ، والظاهر أنّه لا مجال للشك في عودة الضمير إلى إبراهيم ، لأنّ الكلام يدور على ما وهبه الله لإبراهيم ، لا لنوحعليهما‌السلام ، كما أنّ الرّوايات التي سوف نذكرها تؤيد هذا الرأي.

النقطة الوحيدة التي حدت ببعض المفسّرين إلى إرجاع الضمير إلى نوح هي ورود ذكر «يونس» و «لوط» في الآيات التّالية ، إذ المشهور في التّأريخ أنّ «يونس» لم يكن من أبناء إبراهيم ، كما أنّ «لوطا» كان ابن أخي إبراهيم أو ابن أخته.

غير أنّ المؤرخين ليسوا مجمعين على نسب «يونس» ، فبعضهم يراه من أسرة إبراهيم(1) وآخرون يرونه من أنبياء بني إسرائيل(2) .

ثمّ إنّ الجاري عند المؤرخين أن يحفظوا النسب من جهة الأب ، ولكن ما

__________________

(1) تفسير الآلوسي ، ج 7 ، ص 184.

(2) دائرة المعارف فريد وجدي ، ج 10 ، ص 1055 ـ في مادة «يونس».

٣٦٢

الذي يمنع من أن ينتسب «يونس» من جهة أمّه إلى إبراهيم ، كما هي الحال بالنسبة إلى عيسى الذين نقرأ اسمه في الآيات؟

أمّا «لوط» فهو ، وإن لم يكن من أبناء إبراهيم ، فقد كان من أسرته ، فالعرب تطلق لفظة «لأب» على «العم» ، وكذلك تعتبر ابن الأخ أو ابن الأخت من «ذرية» المرء. وعلى هذا ليس لنا أن نتغاضى من ظاهر هذه الآيات فنعيد الضمير إلى نوح ، وهو ليس موضوع القول هنا.

في الآية الثانية يرد ذكر زكريا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعا كانوا من الصالحين ، أي أنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإجبارية ، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله :( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإلهيين ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربّهم درجات على أهل زمانهم :( وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) .

لم يتفق المفسّرون بشأن اسم «اليسع» فقد قال بعض : إنّه اسم عبري أصله «يوشع» ثمّ أضيفت إليه الألف وللام وأبدلت الشين سينا ، وبعض يرى أنّه اسم عربي من الفعل المضارع «يسع» وعلى كل حال هو اسم أحد الأنبياء من نسل إبراهيم.

وفي الآية الأخيرة إشارة عامّة إلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعا من الصالحين الذين هداهم الله :( وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

٣٦٣

ملاحظات

هنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض النقاط :

1 ـ أبناء النّبي :

في هذه الآيات اعتبر عيسى من أبناء إبراهيم (وباحتمال من أبناء نوح) مع انّنا نعلم أنّ اتصاله بهما إنّما هو من جهة الأم ، وهذا دليل على أنّ سلسلة النسب تتقدم من جهة الأب والأم تقدما متساويا ، ولذلك فإنّ الأحفاد من الابن أو البنت هم ذرية المرء وأولاده.

وعلى هذا فإنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو جميعا من أحفاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ابنته يعتبرون أبناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ جاهلية ما قبل الإسلام لم تكن تعترف للمرأة بأية مكانة أو قيمة ، وكان النسب عندهم ما اتصل من جهة الأب فقط ، غير أنّ الإسلام أبطل هذه العادة الجاهلية ، ومن المؤسف أنّ بعض أصحاب الأقلام الذين في نفوسهم شيء تجاه أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، سعوا إلى إنكار هذا الموضوع ، وحاولوا العودة إلى الجاهلية بالامتناع عن نسبة أبناء فاطمة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفضوا اطلاق عبارة «ابن رسول الله» عليهم إحياء للتقاليد الجاهلية.

هذا الموضوع نفسه كان قد عرض للمناقشة على عهود الأئمّة ، فكانوا يجيبونهم بهذه الآية باعتبارها الدليل الدامغ والردّ الحاسم على ما يفترون.

من ذلك ما جاء في «الكافي» وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيمعليه‌السلام من قبل النساء ثمّ تلا :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ) إلى آخر الآيتين ، وذكر عيسى.

وفي تفسير العياشي عن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن معمر قال : بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن والحسين من ذرية النّبي تجدونه في كتاب الله ، وقد قرأت كتاب الله من أوّله إلى آخره فلم أجده ، قال : أليس تقرأ سورة الأنعام :

٣٦٤

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ) حتى بلغ( يَحْيى وَعِيسى ) أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال : صدقت.

وفي (عيون أخبار الرضا) في باب جمل من أخبار موسى بن جعفرعليه‌السلام مع هارون الرشيد ومع موسى بن المهدي حديث طويل بينه وبين هارون وفيه ثمّ قال : كيف قلتم : إنّا ذريّة النّبي ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعقب ، وإنّما العقب للذكر ، لا للأنثى وأنتم ولد لابنته ، ولا يكون لها عقب ، فقلت : «أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلّا ما اعفيتني من هذه المسألة» فقال : لا ، أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي ، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أنهى إلي ، وليست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنّه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف ولا واو ، إلّا تأويله عندكم ، واحتججتم بقولهعزوجل :( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم ، فقلت : «تأذن لي في الجواب؟» قال : هات ، فقلت : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى ) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال : ليس لعيسى أب ، فقلت : «إنّما الحق بذراري الأنبياء من طريق مريمعليها‌السلام ، وكذلك ألحقنا بذراري النّبي من قبل أمنا فاطمةعليها‌السلام »(1) .

يلفت النظر أنّ بعض المتعصبين من أهل السنة تطرقوا إلى هذا الموضوع عند تفسيرهم لهذه الآية ، منهم الفخر الرازي في تفسيره حيث استدل بها أن الحسن والحسين من ذرية النّبي ، لأنّ الله ذكر عيسى من ذرية إبراهيم مع أنّه يرتبط به عن طريق الأم فقط(2) .

وصاحب المنار الذي لا يقل تعصبا عن الفخر الرازي يقول : بعد أن ينقل

__________________

(1) تفسير (نور الثقلين) ، ج 1 ، ص 743.

(2) تفسير الفخر الرازي ، ج 13 ، ص 66.

٣٦٥

كلام الرازي ، أنّ في هذا الباب حديثا كره البخاري في صحيحه عن أبي بكر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مشيرا إلى الحسن بن عليعليه‌السلام : «إنّ ابني هذا سيد» بينما كانت لفظة (ابن) عند عرب الجاهلية لا تطلق على ابن البنت ثمّ يضيف ، لهذا السبب ، اعتبر الناس أولاد فاطمة أولاد رسول الله وعترته وأهل بيته.

لا شك أنّ أبناء البنت وأبناء الابن هم أبناء المرء ولا فرق بينهما ، ولا هي قضية اختص بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، وما سبب الاعتراض على هذا إلّا التعصب وإلّا التمسك بالأفكار الجاهلية ، ولهذا نجد جميع التشريعات الإسلامية ، كالزواج والإرث ، لا تفرق بينهما ، إنّ الاستثناء الوحيد في هذا الباب هو في موضوع الخمس الذي ورد في كتب الفقه ، حيث جعل لمن تحصل فيه عنوان السيادة.

2 ـ لماذا وردت أسماء الأنبياء في ثلاث مجموعات في ثلاث آيات؟

يحتمل بعض المفسّرين أنّ المجموعة الأولى : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون هؤلاء الستة ، كانوا بالإضافة إلى نبوتهم يمسكون بيدهم القيادة وزمان الحكم ، ولعل ورود( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى الأعمال الصالحة التي قاموا بها أثناء حكمهم.

أمّا المجموعة الثّانية : زكريا ويحيى وعيسى والياس ، فهم بالإضافة إلى نبوتهم كانوا معروفين بالزهد واعتزال الدنيا ، فجاء تعبير :( كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) بعد ذكر أسمائهم.

والمجموعة الثّالثة : إسماعيل واليسع ويونس ولوط ، فهم يشتركون في كونهم قاموا برحلات طويلة وهاجروا في سبيل نشر دعوة الله ، وعبارة( كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) (إذ اعتبرنا الإشارة إلى هؤلاء الأربعة ، لا لجميع من ورد ذكرهم في هذه الآيات الثلاث) تعتبر إشارة إلى هجرة هؤلاء في أرجاء الأرض وبين الأقوام المختلفة.

٣٦٦

3 ـ أهمية الأبناء الصالحين في تعريف شخصية الإنسان :

وهذا موضوع آخر يستنتج من هذه الآيات ، فلإضفاء الأهمية على شخصية إبراهيمعليه‌السلام بطل تحطيم الأصنام ، يشير الله إلى شخصيات إنسانية عظيمة كانوا من ذريّته في العصور المختلفة ، ويصفهم بصفات جليلة ، بحيث نجد من بين مجموع خمسة وعشرين نبيّا ورد ذكرهم في القرآن ، ستة عشر منهم من ذرية إبراهيم ، وواحدا من أجداده ، وهذا في الواقع درس كبير للمسلمين كافة لكي يدركوا أنّ أبناءهم جزء من كيانهم وشخصيتهم ، وأنّ لقضاياهم التربوية والإنسان أهمية كبيرة جدا.

4 ـ جواب على اعتراض :

لعل الذين يقرءون :( وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يستنتجون أنّ آباء الأنبياء لم يكونوا جميعا من المؤمنين وأنّ منهم من لم يكن موحدا ، كما يقول بعض المفسّرين من أهل السنة عند تفسير هذه الآية ، ولكنّنا يجب أن نلاحظ أنّ تعبير( اجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ ) بالقرينة الموجودة في هذه الآيات تعني مقام النبوة وحمل الرسالة ، وبهذا يتهاوى الاعتراض ، أي أنّ معنى هذه الآية سيكون هكذا : إنّنا قد اخترنا بعضا منهم لمقام النبوة ، وهذا لا يعني أنّ الآخرين لم يكونوا موحدين وفي الآية (90) من هذه السورة وردت لفظة «الهداية» بمعنى النبوة(1) .

* * *

__________________

(1) «من آبائهم» جار ومجرور متعلقان أمّا بجملة «فضلنا» الواردة في الآية السابقة أو بمحذوف تفسره الجملة التّالية فيكون الأصل «اجتبينا من آبائهم» ينبغي الالتفات إلى أن «من» في الآية تبعيضية حسب الظاهر.

٣٦٧

الآيات

( ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) )

التّفسير

ثلاثة امتيازات مهمّة :

بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة ، تتناول هذه الآيات الخطوط العامّة لحياتهم ، وتبدأ القول :( ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) .

أي أنّ هؤلاء على الرغم من صلاحهم واسترشادهم بقوة العقل والفكر في سيرهم الحثيث على طريق الهداية ، شملتهم عناية الهداية الإلهية ، وأخذت بأيديهم وإلّا فاحتمال انحرافهم وانحراف كل انسان موجود دائما.

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق ، أو

٣٦٨

يظن أنّ الله ينظر إلى هؤلاء نظرة خاصّة واستثنائية دونما سبب ، يقول القرآن عنهم :( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

فهم إذن مشمولون بهذا القانون الإلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التّالية تشير إلى ثلاثة امتيازات مهمّة هي أساس جميع امتيازات الأنبياء ، وهي قوله :( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) .

ولا يعني هذا أنّهم جميعا كانوا من أصحاب الكتب السماوية ، ولكن الكلام يدور على المجموع ، فنسب الكتاب إلى المجموع أيضا ، وهذا كقولنا : الكتاب الفلاني ذكر العلماء وكتبهم ، أي كتب من له تأليف منهم.

أمّا المقصود من «الحكم» فثمّة احتمالات ثلاثة :

1 ـ الحكم بمعنى «العقل والإدراك» ، أي : إنّنا فضلا عن إنزال كتاب سماوي عليهم فقد وهبناهم القدرة على التعقل والفهم ، إذ أن وجود الكتاب بغير وجود القدرة على فهمه فهما كاملا عميقا لا جدوى فيه.

2 ـ بمعنى «القضاء» أي أنّهم باستنباط القوانين الإلهية من تلك الكتب السماوية كانوا قادرين على أن يقضوا بين الناس بامتلاكهم لجميع شروط القاضي العادل.

3 ـ بمعنى «الحكومة» والإمساك بزمان الإدارة ، بالإضافة إلى مقام النّبوة ، إنّ الدليل على المعاني المذكورة ـ بالإضافة إلى المعنى اللغوي الذي ينطبق عليها ـ هو أنّ كلمة «الحكم» قد وردت بهذه المعاني نفسها أيضا في آيات أخرى من القرآن(1) .

وليس ثمّة ما يمنع من أنّ يشمل استعمال الكلمة في هذه الآية المعاني الثلاثة مجتمعة ، فالحكم أصلا ـ كما يقول «الراغب» في «مفرداته» هو المنع ،

__________________

(1) جاءت في الآية (12) من سورة لقمان بمعنى العلم والفهم ، وفي الآية (22) من سورة ص بمعنى القضاء ، وفي الآية (26) من سورة الكهف بمعنى الحكومة.

٣٦٩

ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات ، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم ، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة ، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

قلنا من قبل إنّ جميع الأنبياء لم يكونوا يحظون بهذه الامتيازات كلها ، وإسناد حكم إلى الجمع لا يعني شموله جميع أفراد ذلك الجمع ، بل قد يكون لبعض أفراده ، ومن ذلك مسألة إيتاء الكتاب لهؤلاء الأنبياء.

ثمّ يقول : لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكّة) تلك الحقائق ، فإن دعوتك لن تبقى بغير استجابة ، إذ إنّنا قد أمرنا جمعا آخر لا بقبولها فحسب ، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبدا ، بل يتبعون الحقّ :( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) .

جاء في تفسير «المنار» وتفسير «روح المعاني» عن بعض المفسّرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس ، وقد أسرعوا في قبول الإسلام وجاهدوا في سبيل نشره ، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإسلامية وألفوا الكثير من الكتب(1) .

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول لاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول له :( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (2) .

تؤكّد هذه الآية مرّة أخرى على أن أصول الدعوة التي قام بها الأنبياء

__________________

(1) يحتمل أيضا أن يكون المراد من «هؤلاء» هم الأنبياء أنفسهم ، أي إذا افترضنا المستحيل ، وقلنا أنّ هؤلاء الأنبياء العظام تخلوا عن أداء الرسالة الإلهية ، فإنّ الرسالة كانت تواصل سيرها على أيدي قوم آخرين ، هنالك تعبيرات مماثلة في القرآن ، كما جاء في الآية (65) من سورة الزمر( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) .

(2) الهاء في «اقتده» ليست ضميرا ، بل هي هاء السكت التي تلحق الكلمة المتحركة عند الوقف ، مثل همزة الوصل التي يؤتى بها إذا كان حرف الابتداء في الكلمة ساكنا ، وهي تسقط عند الوصل ، مثل هاء السكت غير أنّ هذه الهاء بقيت في الكتابة القرآنية من باب الاحتياط وارتوى الوقف هنا لكي تظهر هاء السكت.

٣٧٠

واحدة ، بالرغم من وجود بعض الاختلافات الخاصّة والخصائص اللازمة التي تقتضيها الحاجة في كل زمان ومكان ، وكل دين تال يكون أكمل من الدين السابق. بحيث تستمر مسيرة الدروس العلمية والتربوية حتى تصل إلى المرحلة النهاية ، أي الإسلام.

ولكن ما المقصود من أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهتدي أولئك الأنبياء؟

يقول بعض المفسّرين : إنّ المقصود قد يكون هو الصبر وقوة التحمل والثبات في مواجهة المشاكل ، ويقول بعض آخر إنّه «التوحيد وإبلاغ الرسالة» ولكن يبدو أنّ للهداية معنى واسعا يشمل التوحيد وسائر الأصول العقائدية ، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الأصول الأخلاقية والتربوية.

يتّضح ممّا سبق أنّ هذه الآية لا تتعارض مع القول بأنّ الإسلام ناسخ الأديان والشرائع السابقة ، إذ أنّ النسخ إنّما يشمل جانبا من أحكام تلك الشرائع لا الأصول العامّة للدعوة.

ثمّ يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول للنّاس إنّه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجرا لقاء عملية تبليغ الرسالة :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) .

ليس الاقتداء بالأنبياء وبسنتهم الخالدة هو وحده الذي يوجب عليّ عدم طلب الأجر ، بل أنّ هذه الدين الطاهر الذي جئتكم به وديعة إلهية أضعها بين أيديكم ، وطلب الأجر على ذلك لا معنى له.

ثمّ إنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إن هي إلّا إيقاظ وتوعية للناس جميعا :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ) .

إنّ النعم العامّة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي أمور عامّة وعالمية ، لاتباع ولا تشترى ، ولا أجر يعطى لقاءها ، هذه الهداية أو الرسالة ليست خاصّة ومقصورة على بعض دون بعض حتى يمكن طلب الأجر عليها ، (ممّا قيل في تفسير هذه العبارة يتضح الترابط بينها وبين عبارات الآية الأخرى ، وبين ما

٣٧١

سبقها من آيات).

كما يتّضح من هذه الآية الأخيرة أنّ الدين الإسلامي ليس قوميا ولا إقليميا ، وإنّما هو دين عالمي عام.

* * *

٣٧٢

الآية

( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) )

سبب النّزول

الغافلون عن الله :

روي عن ابن عباس أنّ جمعا من اليهود قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد أحقا أنزل الله عليك كتابا؟ فقال : نعم ، فقالوا : قسما بالله إنّه لم ينزل عليك كتابا من السماء(1) .

هنالك أقوال أخرى في سبب نزول هذه الآية ، ولكنّنا سنعرف فيما بعد أنّ ما قلناه أقرب وأنسب.

__________________

(1) تفاسير مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي والمنار في تفسير الآية.

٣٧٣

التّفسير

يختلف المفسّرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين ، ولمّا لم تكن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباحثات مع اليهود في مكّة ، بل بدأت في المدينة ، وهذا السورة مكّية ، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة ، إلّا أنّها وضعت في هذه السّورة المكية بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا في القرآن ما يشابهه.

لاتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلا على تفسير الآية الإجمالي ، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية ، وعمّا تستهدفه.

في البداية تقول الآية : إنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد :( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ) .

فيأمر الله رسوله أن( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ) .

ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة ، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم :( تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ) .

إنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أمورا كثيرة لم تكونوا أنتم ولاءاباؤكم تعلمون عنها شيئا :( وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ ) .

وفي ختام الآية يؤمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر الله وأن يترك أولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم :( قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) .

إذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها ، يكون المعنى أنّ جمعا من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء.

ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود ـ اتباع التّوراة ـ نزول كتاب سماوي؟ نعم ، وسيزول عجبك إذا علمت المسألة التّالية : لو أمعنا النظر في العهد الجديد

٣٧٤

(الإنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إلى المسحة السماوية ، أي أنّها ليست خطابا موجها من الله إلى البشر ، بل إنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيحعليهما‌السلام وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير ، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك ، إذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب ، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل ، بل سردا لحوادث ماضية ، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى؟!

كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أناس عندهم أخبار عن الوحي ، فاعتبروها كتبا مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الاعتماد عليها.

بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم أسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إلى النّبي وإلى عباد الله؟ وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية فإنّهم قد انتابهم العجب فسألوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان الله قد أنزل عليه ـ حقا ـ كتاب ، ثمّ أنكروا هذا الأمر كليا ونفوا أن يكون أي كتاب قد نزل على أحد ، حتى على موسى.

غير أنّ الله يردّ عليهم قائلا : إنّكم ـ أنفسكم ـ تعتقدون أن ألواحا ومواضيع قد نزلت على موسى ، أي إنّ الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتابا سماويا إلّا أنّكم تؤمنون ـ على الأقل ـ بأنّ شيئا مثل هذا قد نزل من قبل الله ، وأنتم تظهرون قسما منه وتخفون كثيرا منه : وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إمكان إنكار اليهود نزول كتاب سماوي.

أمّا إذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين ، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن الله يبيّن

٣٧٥

لهم منطقيا أنّهم لا يستطيعون إنكار ذلك كليا بالنظر لنزول التّوراة على موسى ، وأنّ المشركين ـ وإن لم يدينوا بدين اليهود ـ كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإبراهيم ، وموسى أيضا على أقوى احتمال ـ أنبياء في عصورهم وأقاليمهم ، لذلك فهم عند ظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجأوا إلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن أمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي ، فلو لم يكونوا يؤمنون بأنّ تلك الكتب نازلة من السماء ، لما لجأوا إليها يطلبون ما طلبوا ، لذلك فهم بعد أن سألوا اليهود ، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم ، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النّبي الجديد المذكورة في تلك الكتب) ، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال مشركي مكّة أيضا.

لكن التّفسير الأوّل أقرب إلى سياق الآية وسبب النّزول وما فيها من ضمائر.

ملاحظات :

هنا لا بدّ من الإشارة إلى بضع نقاط :

1 ـ «قراطيس» جمع «قرطاس» من أصل يوناني حسب قول بعضهم ، وهو «ما يكتب فيه» كما يقول «الراغب» في «مفرداته» وبناء على ذلك فإن الورق العادي وجلود الحيوانات والأشجار وأمثالها التي كانت تستخدم في الكتابة قديما ، تنضوي تحت هذه الكلمة.

2 ـ قد يسأل سائل : لماذا تذم الآية اليهود كتابتهم الوحي الإلهي على القراطيس ، وهل في تلك ما يوجب الذم؟

وجوابا على ذلك نقول : إنّ الذم لم يكن لهذا السبب ، إنّما السبب هو أنّهم كتبوه على قراطيس متفرقة بحيث يمكنهم أن يظهروا منه ما تقتضيه منافعهم ، وأن يخفوا ما يؤدي إلى ضررهم.

3 ـ إنّ عبارة( وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) في الواقع إشارة إلى أنّ من يعرف

٣٧٦

الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب السماوية إلى البشر ، لأنّ حكمة الله توجب :

أوّلا : أن يعين الإنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خلق من أجله وإلّا انتقض الهدف من الخلقة ، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو.

ثانيا : كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإنسان وحيدا في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات ، فلا يرسل إليه قائدا ومرشدا يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه ، وعليه فإن حكمته ورحمته توجبان إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية.

لا شك أن معرفة حقيقة الذات الالهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة ، وهذه الآية لا تقصد هذا الحدّ من معرفة الله ، وإنّما تريد أن تقول : لو حصل الإنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقي شك بأن مثل هذا الربّ لا يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي.

* * *

٣٧٧

الآية

( وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) )

التّفسير

تعقيبا على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي ، تشير هذه الآية إلى القرآن باعتباره كتابا سماويا آخر ، والواقع أنّ ذكر التّوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر ، فتبدأ بالقول :( وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ ) وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم ، ثمّ إنّه يؤكّد الكتب التي نزلت قبله :( مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) ، والمقصود من أنّ القرآن يصدق الكتب التي بين يديه هو أنّ جميع الإشارات والإمارات التي وردت فيها تنطبق عليه.

وهكذا نجد علامتين على أحقّية القرآن وردتا في عبارتين : الأولى : وجود علامات في الكتب السابقة تخبر عنه ، والثّانية : محتوى القرآن نفسه الذي يضم كل خير وبركة وسعادة ، وبناء على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة ، وفي المستندات التّأريخية من جهة أخرى.

٣٧٨

ثمّ يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإنذار والتحذير لأم القرى (مكّة) والساكنين حولها وتنبيههم إلى مسئولياتهم وواجباتهم :( وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) (1) .

«الإنذار» اخبار فيه تخويف من ترك الواجبات والمسؤوليات وهذا من أهم أهداف القرآن ، خاصّة بالنسبة للطغاة المعاندين.

وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء ، سيصدقون بهذا الكتاب ، ويؤدون فريضة الصّلاة ولا يفرطون فيها :( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) .

* * *

بحوث

نلفت الانتباه هنا إلى النقاط التّالية :

1 ـ الإسلام دين عالمي

تبيّن آيات القرآن المختلفة بما لا يدع مجالا للشك أنّ الإسلام دين عالمي ، من ذلك :( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (2) و( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) (3) . و( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) (4) وغيرها كثير في القرآن ، ولكلّها تؤكّد هذه الحقيقة ، وإنّه لمما يثير الانتباه أنّ معظم هذه الآيات قد نزلت في مكّة يوم لم يكن الإسلام قد تخطى حدود تلك المدينة.

ولكن فيما يخص الآية التي نحن بصددها ، يظهر لنا السؤال التالي : إنّ الآية

__________________

(1) يختلف المفسّرون في الجملة التي يمكن أن نعطف عليها جملة «ولتنذر» ولعلها معطوفة على جملة محذوفة بمعنى «لتبشر» أو مثلها.

(2) الأنعام ، 19.

(3) الأنعام ، 90.

(4) الأعراف ، 158.

٣٧٩

توجه الإنذار والهداية إلى ام القرى ومن حولها ، فكيف ينسجم هذا مع القول بأنّ الإسلام عالمي؟

في الحقيقة أنّ هذا الاعتراض جاء أيضا على لسان اليهود وغيرهم من أتباع الأديان الأخرى ظانين أنّهم قد أصابوا من عالمية الإسلام مقتلا ، باعتبار أنّ الآية تحدد مكانه بمنطقة خاصّة هي مكّة وأطرافها(1) .

الجواب :

يتّضح الجواب من هذا الاعتراض بالانتباه إلى نقطتين ، بحيث ندرك أنّ هذه الآية ، فضلا عن كونها لا تتعارض مع عالمية الإسلام ، هي واحد من أدلة عالميته أيضا : القرية بلغة القرآن اسم لكل موضع يجتمع فيه الناس ، سواء كان مدينة كبيرة أم قرية صغيرة ، ففي سورة يوسف ـ مثلا ـ جاء على لسان اخوة يوسف يخاطبون أباهم :( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ) (2) ونحن نعلم أنّهم كانوا قد رجعوا لتوهم من عاصمة مصر حيث حجز عزيز مصر أخاهم (بنيامين) كذلك نقرأ :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (3) . بديهي أنّ المقصود هنا ليس القرى في الأرياف ، بل هو كل منطقة مسكونة في العالم.

ومن جهة أخرى هناك روايات عديدة تقول : إنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة ، وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض».

كما أنّنا نعلم أنّه في البداية هطلت أمطار غزيرة فغطّى الماء الكرة الأرضية برمتها ، ثمّ غاض الماء شيئا فشيئا واستقر في المنخفضات ، وظهرت اليابسة من

__________________

(1) ورد اعتراض بعض المستشرقين بهذا الشأن ذكره صاحب المنار ، ج 7 ، ص 621 ، وفي تفسير في ظلال القرآن ، ج 3 ، ص 305.

(2) يوسف ، 82.

(3) الأعراف ، 96.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608