الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261314 / تحميل: 6501
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

هذه الصفة؟

وقد قلنا في جواب هذا السؤال : إنّ كل هذه العناوين ترجع إلى عنوان واحد ، وهو مسألة الشرك والكفر والعناد والافتراء والتكذيب بالآيات الإلهية ، وفي الآيات التي نبحثها ، تنحدر من هذا الأصل أيضا. (لمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام).

* * *

٣٢١

الآية

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) )

التّفسير

آلهة بدون خاصية!

واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضا ، وذلك عن طريق نفي ألوهية الأصنام ، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وانتفاء قيمتها وأهميتها :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) .

من البديهي أن الأصنام ـ حتى لو فرضنا أنّها منشأ الضر والنفع والربح والخسارة ـ ليست لها لياقة أن تكون معبودة ، إلّا أنّ القرآن الكريم يريد بهذا التعبير أن يوضح هذه النقطة ، وهي أنّ عبدة الأصنام لا يمتلكون أدنى دليل على صحة هذا العمل ، ويعبدون موجودات لا خاصية لها مطلقا ، وهذه أقبح وأسوأ عبادة.

ثمّ تتطرق إلى ادعاءات عبدة الأوثان الواهية ،( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ

٣٢٢

اللهِ ) أي إنّ هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سببا للضر والنفع رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.

لقد كان الإعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها ، وكما جاء في التواريخ ، فإنّ عمرو بن لحي كبير العرب عند ما ذهب إلى المياه المعدنية في الشام لمعالجة نفسه بها ، جلب انتباهه وضع عبدة الأصنام ، ولما سأل منهم عن الباعث على هذا العمل والعبادة ، قالوا له: إنّ هذه الأصنام هي سبب نزول الأمطار ، وحل المشاكل ، ولها الشفاعة بين يدي الله ، ولما كان رجلا خرافيا وقع تحت تأثير هذه الأجوبة ، وطلب منهم بعض الأصنام ليأخذها إلى الحجاز ، وعن هذا الطريق راجت عبادة الأصنام بين أهل الحجاز.

إنّ القرآن يقول في دفع هذا الوهم :( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) وهو كناية عن أن الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنّه يعلم بوجودهم في أي نقطة كانوا من السماء والأرض ، لأنّ سعة علم الله لا تدع أصغر ذرة في السماء والأرض إلّا وتحيط بها علما.

وبتعبير آخر ، إن ذلك يشبه تماما ما لو قيل لشخص : أعندك مثل هذا الوكيل؟ وهو في الجواب يقول : لا علم لي بوجود هذا الوكيل ، وهذا أفضل دليل على نفيه حيث لا يمكن أن لا يعلم الإنسان بوكيله.

وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

لقد بحث موضوع الشفاعة بصورة مفصلة في المجلد الأوّل ذيل الآية (٤٦) من سورة البقرة.

* * *

٣٢٣

الآية

( وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) )

التّفسير

إنّ هذه الآية ـ تتمّة للبحث الذي مرّ في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة الأصنام ـ تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر ، وتقول :( وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ) .

إنّ فطرة التوحيد هذه ، والتي كانت سالمة في البداية ، إلّا أنّها قد اختلفت وتلوّثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة ، والميول الشيطانية والضعف ، فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك ، وقد انقسم المجتمع الإنساني إلى قسمين مختلفين : قسم موحّد، وقسم مشرك :( فَاخْتَلَفُوا ) . بناء على هذا فإنّ الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة ، الانحراف المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.

وقد يطرح هنا هذا السؤال ، وهو : لماذا لا يرفع الله هذا الاختلاف بواسطة عقاب المشركين السريع ، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحّدا؟

ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي

٣٢٤

حرية البشر في مسير الهداية ، فهي رمز التكامل والرقي ، ولو لم يكن أمره كذلك فإنّ الله سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

بناء على هذا فإنّ( كَلِمَةٌ ) في الآية إشارة إلى السنّة وقانون الخلقة الذي يقتضي حرية البشر ، لأنّ المنحرفين والمشركين لو كانوا يعاقبون سريعا ومباشرة ، فإنّ إيمان الموحّدين سيكون اجباريا ونتيجة للخوف والرهبة ، ومثل هذا الإيمان لا يعدّ فخرا. ولا دليلا على التكامل ، والله سبحانه قد أجّل العقاب والجزاء لعالم الآخرة لينتخب الصالحون والطاهرون طريقهم بحرية تامّة.

* * *

٣٢٥

الآية

( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) )

التّفسير

المعجزات المقترحة!

مرّة أخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإيمان والإسلام( وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

من الطبيعي ، وبدليل القرائن التي سنشير إليها بعد حين ، أنّ هؤلاء لم يقصدوا أي معجزة ، لأنّ من المسلّم أنّه كان للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إضافة إلى القرآن معاجر أخرى ، وتاريخ الإسلام وبعض الآيات القرآنية شاهدة على هذه الحقيقة.

إنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإعجاز أمر بيد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد ، مضافا الى أنّه مأمور أن يستفيد من هذه القوّة مقابل كل مدّع لجوج معاند والعمل حسب ميله لإقناعه وإقامة الحجة عليه ، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة :( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) وبناء على هذا ، فإنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاء لأهوائكم وحسب ميولكم ورغباتكم ، ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.

٣٢٦

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد :( فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) فانتظروا العقاب الإلهي ، وأنا أنتظر النصر!

أو كونوا بانتظار ظهور مثل هذه المعجزات ، وأكون بانتظار عقابكم أيّها المعاندون!.

* * *

ملاحظتان

وهنا ملاحظتان ينبغي الالتفات إليهما :

١ ـ كما أشرنا أعلاه فإنّ كلمة (آية) أي المعجزة ـ وإن كانت مطلقة وتشمل كل أنواع المعاجز ـ إلّا أنّ القرائن تبيّن أنّ هؤلاء لم يطلبوا المعجزة لمعرفة صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كانوا طلاب معاجز اقتراحية ، أي إنّهم كانوا كل يوم يقترحون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزة جديدة ويأملون أن يطيعهم في ذلك ، فكأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنسان لا عمل له سوى صنع المعجزات ، وهو منتظر لكل من هبّ ودبّ ليقترح عليه شيئا فيحقق له اقتراحه ، غافلين عن أن المعجزة هي من فعل الله سبحانه أوّلا ، ولا تتم إلّا بأمره وإرادته ، وهي ـ ثانيا ـ معجزة لمعرفة أحقّية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاهتداء به ، ووقوعها مرّة واحدة كاف لهذا الغرض ، وعلاوة على ذلك فإنّ نبيّ الإسلام قد أظهر من المعجزات القدر الكافي ، فطلب المزيد لا يكون إلّا بدافع الاقتراحات الأهوائية والشهوانية.

والشاهد على أنّ المقصود من (الآية) هنا المعجزات الاقتراحية ، هو :

أوّلا : إنّ نهاية الآية تهدد هؤلاء ، ولو كانوا يطلبون المعجزة لاكتشاف الحقيقة ، فلا وجه لهذا التهديد.

ثانيا : رأينا قبل عدّة آيات أن هؤلاء كانوا عنودين ولجوجين إلى الحد الذي اقترحوا فيه على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبدل كتابه السماوي ، أو يغير على الأقل الآيات

٣٢٧

التي تشير إلى نفي عبادة الأصنام.

ثالثا : حسب القاعدة المسلمة لدينا بأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضا» فإنّا نستطيع أن نفهم جيدا من خلال بعض الآيات ـ كالآيات (٩٠) و (٩٤) من سورة الإسراء ـ أن عبدة الأصنام اللجوجين هؤلاء ، لم يكونوا طلاب معجزة لأجل الهداية ، ولهذا نراهم كانوا يقولون أحيانا : نحن لن نؤمن لك حتى تفجر العيون من هذه الأرض اليابسة ، ويقول الآخر : إنّ هذا ليس بكاف ، بل يجب أن يكون لك بيت من ذهب ، وثالث يقول : وهذا أيضا لا يقنعنا حتى ترقى في السماء أمام أعيننا ، ويضيف رابع أنّ هذا الرقي في السماء ليس كافيا أيضا إلّا إذا أتيتنا بكتاب من الله لنا!! وأمثال ذلك من السفاسف والخزعبلات.

إذن ، فقد اتّضح ممّا قلنا أعلاه أنّ الاستدلال بهذه الآية على نفي أية معجزة ، أو كل المعجزات غير القرآن الكريم زيف يجانب الحقيقة ، (وستطالعون ـ إن شاء الله مزيدا من التوضيح حول هذا الموضوع في ذيل الاية (٥٩) من سورة الإسراء).

٢ ـ يمكن أن تكون كلمة «الغيب» في جملة :( إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ) إشارة إلى أنّ المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب ، وليست من اختيارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي مختصة بالله تعالى.

أو أن تكون إشارة إلى أن مصالح الأمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه ، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول المعجزة ، وأنّ طالب المعجزة باحث عن الحقيقة ، أنزل المعجزة ، لأنّ الغيب والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

* * *

٣٢٨

الآيات

( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) )

التّفسير

يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضا ـ حول عقائد وأعمال المشركين ، ثمّ دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك.

فالآية الأولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء ، وتقول : أنّنا عند ما

٣٢٩

نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم ، ثمّ نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضرّاء ، فإنّهم بدلا من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب ، يسخرون بها ، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة ، فمثلا يفسرون الابتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام ، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها، أو أنّهم يعدون كل هذه الأمور صدفة محضة :( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا ) .

إنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه ، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر ، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية ، وظهور أنواع البلايا والنعم.

إلّا أنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه ، وأمره أن( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً ) . وكما أشرنا مرارا ، الى أنّ المكر في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي ، لا المعنى الذي يفهم من هذه الكلمة اليوم ، وهو الاقتران بنوع من الشيطنة ، وعلى هذا فإنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد(١) . لكن ما هو مصداق المكر الإلهي في هذه الآية؟

الظاهر أنّها إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون ، بل إنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحيانا. ومن البديهي أن من هو أقدر من الكل وأقوى من الجميع على دفع الموانع وتهيئة الأسباب ، ستكون خططه ـ أيضا ـ هي الأسرع. وبتعبير آخر فإنّ الله سبحانه في أي وقت يريد أنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه ، فإنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة ، في حين أن الآخرين ليسوا كذلك.

ثمّ يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستنسى ، بل إنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق :( إِنَّ

__________________

(١) لمزيد التوضيح راجع المجلد الثاني من تفسيرنا هذا ، ذيل الآية (٥٤) من سورة آل عمران.

٣٣٠

رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ ) ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الأخرى.

وسنبحث كتابة الأعمال والملائكة المأمورين بها في الآيات المناسبة.

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر ، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري ، وكيف أن الإنسان عند ما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر ، ينسى كل شيء إلّا الله تبارك وتعالى ويتعلق به ، لكنّه بمجرّد أن يرتفع البلاء وتزول الشدّة وتحل المشكلة ، فإنّه سيسلك طريق الظلم ويبتعد عن الله سبحانه.

تقول الآية :( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك ، و( دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء :( لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) . فلا نظلم أحدا ولا نشرك بعبادتك غيرك.

ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إلى شاطئ النجاة بدؤوا بالظلّم والجور :( فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلا في هذه الدنيا :( مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (١) ( ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

* * *

__________________

(١) إنّ كلمة (متاع) منصوبة بفعل مقدر ، وفي الأصل كانت : تتمتعون متاع الحياة الدنيا.

٣٣١

ملاحظات

وهنا يجب الالتفات إلى عدّة ملاحظات :

١ ـ إنّ ما قرأناه في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان ، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوّثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعند ما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شيء ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا ، فإنّهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق ، وينذرون ويقطعون العهود بأنّهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا.

إلّا أنّ هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري ، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء ، فبمجرّد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء ، فإنّ حجب الغفلة ستغشي قلوبهم ، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلّا بالطوفان.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة ، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّا ، أنّها تقيم الحجّة عليهم ، وستكون دليلا على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلا ، فإنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم. وأمّا عباد الله الصالحون فأمرهم واضح ، فإنّ توجههم إلى الله سبحانه في السراء بنفس قدر توجههم إليه في الضراء ، لأنّهم يعلمون أن كل خير وبركة تصل إليهم ، وتبدو ظاهرا أنّها نتيجة للعوامل الطبيعية ، فإنّها في الواقع من الله تعالى.

وعلى كل حال ، فإنّ هذا التذكير والتذكر قد جاء كثيرا في آيات القرآن المجيد.

٢ ـ لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء» ، ولم تذكر السراء ، وهي إشارة إلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية. في حين أنّ السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة ، فإنّها من آثار أعمال

٣٣٢

الإنسان نفسه.

٣ ـ إنّ الضمائر في بداية الآية الثّانية من الآيات التي نبحثها وردت بصيغة المخاطب ، إلّا أنّها في الأثناء بصيغة الغائب ، ومن المسلم أن لذلك نكتة ما : قال بعض المفسّرين : إنّ تغيير أسلوب الآية من أجل أنّها تبيّن حال المشركين وتعرضهم في الحال ابتلائهم بالطوفان والبلاء درسا وعبرة للآخرين ، ولهذا فإنّها فرضتهم غائبين وفرضت الباقين حضورا.

وقال البعض الآخر : إنّ النكتة هي عدم الاعتناء بهؤلاء وتحقيرهم ، حيث أن الله سبحانه قد قبل حضور هؤلاء وخاطبهم. ثمّ أبعدهم عنه وتركهم.

ويحتمل أيضا أن تكون الآية بمثابة تجسيم طبيعي عن وضع الناس ، فما داموا جالسين في السفينة ولم يبتعدوا عن الساحل فإنّهم في إطار المجتمع ، وعلى هذا يمكن أن يكونوا مخاطبين ، أمّا عند ما تبعدهم السفينة عن الساحل ، ويختفون عن الأنظار تدريجيا ، فإنّهم يعتبرون كالغائبين ، وهذا في الواقع تجسيم حي لحالتين مختلفتين عند هؤلاء.

٤ ـ إنّ جملة( أُحِيطَ بِهِمْ ) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل جانب ، إلّا أنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

* * *

٣٣٣

الآيتان

( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) )

التّفسير

لوحة الحياة الدّنيا :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا ، ففي الآية الأولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) .

إنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. وبهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان ، ومن بعضها

٣٣٤

الآخر الحيوانات( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) .

إنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمّة للكائنات الحيّة الأخرى ، فإنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعا من الجمال( حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ ) في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس ، وتتمايل الأغصان طربا مع النسيم ، وتظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئا فشيئا وتجسم جانبا دائب الحركة من الحياة بكل معنى الكلمة ، وتملأ القلوب بالأمل ، والعيون بالسرور والفرح ، بحيث( وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها ) في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها ، سواء ببرد قارص ، أو ثلوج كثيرة ، أو إعصار مدمّر ، ونجعلها كأنّ لم تكن شيئا مذكورا( أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

( لَمْ تَغْنَ ) مأخوذة من مادة (غنا) بمعنى الإقامة في مكان معين ، وعلى هذا فإنّ جملة( لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا ، وهذا كناية عن فناء الشيء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقا!.

وللتأكيد تقول الآية في النهاية :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

إنّ ما ذكر أعلاه تجسيم واضح وصريح عن الحياة الدنيوية السريعة الانقضاء والخداعة، والمليئة بالتزاويق والزخارف ، فلا دوام لثرواتها ونعيمها ، ولا هي مكان أمن وسلامة. ولهذا فإنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة المقابلة لهذه الحياة ، وقالت :( وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ) .

فلا وجود ولا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية ، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار ، وكل هذه المفاهيم قد جمعت في كلمة دار السّلام.

وإذا تلبّست الحياة في هذه الدنيا بعقيدة التوحيد والايمان بالمبدأ والمعاد ،

٣٣٥

فإنّها ستتبدل أيضا إلى دار السّلام ، ولا تكون حينئذ كالمزرعة التي أتلفها البلاء والوباء.

ثمّ تضيف الآية : إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء ـ إذا كان لائقا لهذه الهداية ـ إلى صراطه المستقيم ، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السّلام ومركز الأمن والأمان( وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ لما كان القرآن كتاب تربية وتكامل للإنسان ، فإنّه يستعين بالأمثلة لتوضيح الحقائق العقلية في كثير من الموارد ، وقد يجسّد المواضيع التي لها امتداد زمني طويل في مسرحية وتمثيلية قصيرة وقابلة للمطالعة أمام أعين الناس.

إنّ متابعة تأريخ مليء بالحوادث يتعلق بإنسان ما ، أو جيل ما ، والذي قد يطول لمائة سنة أحيانا ليس بالأمر الهين بالنسبة للأفراد العاديين ، أمّا عند ما تتلخص هذه الساحة والحياة في عدّة أشهر ، كما هو الحال في حياة كثير من النباتات ، من الولادة إلى الرشد والنمو والجمال ، ثمّ الهلاك والموت ، وتظهر أمام الإنسان ، فإنّه يستطيع أن يرى ببساطة مراحل حياته وكيفيتها في هذه المرآة الشفافة.

جسموا هذه اللقطات أمام أعينكم تماما : حديقة مليئة بالأشجار والخضرة والنباتات الدائمة الثمر ، وصخب الحياة يعم كل أرجائها وفجأة في ليلة مظلمة ، أو يوم صحو تغطي السحب السوداء وجه السماء ، وترعد وتبرق ثمّ تهب الأعاصير العاتية وتنهمر الأمطار الشديدة من كل جانب وتدمرها.

غدا نأتي لرؤية تلك الحديقة الأشجار متكسرة النباتات والأعشاب مبعثرة وميتة ، وكل شيء أمامنا ملقى على الأرض بصورة لا نصدق معها أنّ هذه هي تلك الحديقة الغنّاء الجميلة التي كانت تبتسم في وجوهنا بالأمس!.

٣٣٦

نعم ، هكذا هي الحوادث في حياة البشر ، خصوصا في عصرنا الحاضر حيث تدمّر زلزلة أو حرب لا تطور إلّا ساعات قليلة مدينة عامرة وجميلة ، ولا تبقي منها إلّا الأنقاض. وأجساد متنائرة هنا وهناك.

آه ما أشد غفلة الذين يفرحون بمثل هذه الحياة الزائلة الفانية؟!

٢ ـ في جملة( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) ينبغي الالتفات إلى أنّ الاختلاط في الأصل ـ كما قال الراغب في المفردات ـ هو الجمع بين شيئين أو أكثر ، سواء كانت سائلة أو جامدة. والاختلاط أعم من الامتزاج ، لأن الامتزاج يطلق عادة على السوائل ، وعلى هذا يكون معنى الجملة أنّ النباتات يختلط بعضها بالبعض الآخر بواسطة ماء المطر ، سواء النباتات التي تنفع الإنسان ، أو الحيوان(١) .

وتشير الجملة أعلاه ـ أيضا ـ إشارة ضمنية إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الله سبحانه ينبت من ماء المطر ، الذي هو نوع واحد وليس له إلّا حقيقة واحدة ، أنواع النباتات المختلفة التي تؤمن مختلف حاجات الإنسان والحيوان من المواد الغذائية.

* * *

__________________

(١) يتّضح ممّا قيل أعلاه أنّ الباء في (به) سببية ، ولكن قد احتمل البعض أنّها بمعنى (مع) ، أي إنّ ماء ينزل من السماء ويختلط بالنباتات ، وينميها وينضجها. إلّا أنّ هذا الاحتمال الثّاني لا يناسب آخر الآية الذي يقول:( مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ) لأنّ ظاهر هذه الجملة أنّ المقصود هو الاختلاط بين أنواع الأعشاب ، لا اختلاط الماء والنبات. دققوا ذلك.

٣٣٧

الآيتان

( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) )

التّفسير

بيض الوجوه وسود الوجوه :

مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة ، ولهذه المناسبة فإنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ) (١) .

ومع أن هناك بحث بين المفسّرين في المقصود من الزيادة في هذه الجملة ، إلّا أنّنا إذا علمنا أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا ، رأينا أنّ المراد هو الإشارة إلى الثواب

__________________

(١) ينبغي التنبه إلى أن (الحسنى) في هذه الجملة مبتدأ مؤخر ، ومعنى الآية هكذا. الحسنى للذين أحسنوا ، ولذلك فإنّ (زيادة) المعطوفة عليها مرفوعة ، والحسنى صفة للمثوبة المقدّرة ، وقد حلّت محلّ الموصوف.

٣٣٨

المضاعف الكثير ، الذي يتضاعف أحيانا عشر مرات ، وأخرى آلاف المرات حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل ، فنقرأ في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام.( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

وفي الآية (١٢٧) من سورة النساء :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .

وفي الآيات المرتبطة بالإنفاق في سورة البقرة آية (٢٦١) يدور الحديث أيضا عن مكافأة الصالحين ومضاعفة عملهم إلى سبعمائة ضعف ، أو مضاعفته أضعافا كثيرة من قبل الله سبحانه.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أن من الممكن أن تستمر هذه الزيادة والإضافة حتى في عالم الآخرة ، أي أنّه في كل يوم سيمنحهم الله سبحانه موهبة ولطفا جديدا ، وهذا يبيّن أن حياة العالم الآخر ليست على وتيرة واحدة ، بل تستمر في حركتها نحو التكامل الى ما لا نهاية.

والرّوايات التي وردت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير هذه الآية ، والتي تبيّن أن المراد من «الزيادة» هو التوجه إلى نور الذات الإلهية المقدسة والاستفادة من هذه الموهبة المعنوية الكبيرة قد تكون إشارة إلى هذه النكتة.

وفي بعض الرّوايات المنقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، فسّرت «الزيادة» بزيادة النعم الدّنيوية التي يتفضل بها الله على الصالحين علاوة على ثواب الآخرة ، ولكن لا مانع من أن تكون الزيادة في الآية أعلاه إشارة إلى كل هذه المواهب.

ثمّ تضيف الآية :( وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ) . «يرهق» مأخوذة من مادة «رهق» ، وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية ، «والقتر» بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول :( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) التعبير بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنّة.

ثمّ يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النّار الذين يشكلون الطرف

٣٣٩

المقابل للمجموعة الأولى ، فتقول :( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ) وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة ، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة ، أمّا في العقاب فإنّ العدالة توجب أن يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلّا أن هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم( وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) (١) .

ويمكن أن يقول قائل : إنّ هؤلاء يجب أن لا يروا من العقاب إلّا بقدر ذنوبهم ، وأنّ اسوداد الوجه هذا ، وغبار الذل الذي يغطيهم شيء إضافي. لكن ينبغي الانتباه إلى أن هذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى الخارج ، تماما كما نقول : إنّ الأفراد المعتادين على شرب الخمر يجب أن يجلدوا. وفي الوقت نفسه فإنّ الخمر تولد مختلف أمراض المعدة والقلب والكبد والأعصاب.

وعلى كل حال ، فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة ، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم ، إلّا أن الجملة التالية تقول بصراحة :( ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) .

إنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي( كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

* * *

__________________

(١) من الممكن ، بقرينة الآية السابقة ، أن تكون جملة (ترهقهم ذلة) بتقدير : يرهقهم قتر وذلة) ، وبقرينة المقابلة حذفت (قتر) لأجل الاختصار.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

فأجابه مفتخراً بأنّه مِنْ عملاء السلطة الاُمويّة وأذنابها قائلاً :

أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ونصح الاُمّة ، والإمام إذ غششته وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو.

أيّ حقّ عرفه الباهلي؟ وأيّ نصيحة أسداها للاُمّة هذا الجلف الجافي الذي ارتطم في الباطل وماج في الضلال؟ لقد كان منتهى ما يفخر به تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو صفحةُ عارٍ وخزي على الإنسانية في جميع مراحل التاريخ.

وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : لاُمِّك الثكل! ما أجفاك وأفظك ، وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم منّي.

واستحيا عمارة بن عقبة(1) مِنْ جفوة الباهلي وقسوته ، فدعا بماء بارد فصبّه في قدح فأخذ مسلم كلّما أراد أنْ يشرب يمتلئ القدح دماً ، وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال وقد ذاب قلبه مِن الظمأ : لو كان مِن الرزق المقسوم لشربته(2) .

وهكذا شاءت المقادير أنْ يُحرمَ مِن الماء ويموت ظامئاً ، كما حُرِمَ مِن الماء ابن عمّه ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة.

مع ابن زياد :

وكان مِنْ أعظم ما رُزئ به مسلم أنْ يدخلَ أسيراً علي الدعيّ ابن مرجانة ، فقد ودّ أنّ الأرض وارته ولا يمثُل أمامه ، وقد شاءت المقادير

__________________

(1) في الإرشاد / 239 ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فجاء بقُلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء ، وقال له : اشرب.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 273.

٤٠١

أنْ يدخل عليه ، وقد دخل تحفُّ به الشرطة ، فلمْ يحفل البطل بابن زياد ولم يعنَ به ، فسلّم على الناس ولمْ يسلّم عليه ، فأنكر عليه الحرسي وهو مِنْ صعاليك الكوفة قائلاً : هلاّ تسلّم على الأمير؟ فصاح به مسلم محتقراً له ولأميره : اسكت لا اُمّ لك! ما لك والكلام؟! والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه.

وكيف يكون ابن مرجانة أميراً على مسلم سيّد الأحرار وأحد المستشهدين في سبيل الكرامة الإنسانية؟! إنّما هو أمير على اُولئك الممسوخين الذين لمْ يألفوا إلاّ الخنوع والذلّ والعار.

والتاع الطاغية مِن احتقار مسلم له وتبدّد جبروته ، فصاح به : لا عليك ، سلّمت أمْ لمْ تسلّم فإنّك مقتول.

ولمْ يملك الطاغية سوى سفك الدّم الحرام ، وحَسِبَ أنّ ذلك يخيف مسلماً أو يوجب انهياره وخضوعه له ، فانبرى إليه بطل عدنان قائلاً بكلّ ثقةٍ واعتزاز بالنفس : إنْ قتلتني فقد قَتَلَ مَنْ هو شرٌّ مِنك مَنْ كان خيراً منّي.

ولذعه هذا الكلام الصارم وأطاح بغلوائه ، فقد ألحقه مسلم بالجلاّدين والسفّاكين مِنْ قتلة الأحرار والمصلحين. واندفع الطاغية يصبح بمسلم : يا شاق ، يا عاق ، خرجت على إمام زمانك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة.

أيّ إمام خرج عليه مسلم ، وأيّ عصاً للمسلمين شقّها ، وأيّ فتنة ألقحها؟! إنّما خرج على قرين الفهود والقرود. لقد خرج لينقذ الاُمّة مِنْ محنتها أيّام ذلك الحكم الأسود.

وانبرى مسلم يردّ عليه قائلاً :

٤٠٢

والله ، ما كان معاوية خليفة بإجماع الاُمّة ، بل تغلّب على وصيّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) بالحيلة ، وأخذ منه الخلافة بالغصب ، وكذلك ابنه يزيد ؛ وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك زياد مِنْ بني علاج. وأنا أرجو أنْ يرزقني الله الشهادة على يد شرّ بربته ، فوالله ما خالفت ولا كفرت ولا بدّلت ، وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحُسين بن علي ، ونحن أولى بالخلافة مِنْ معاوية وابنه وآل زياد.

وكانت هذه الكلمات أشدّ على ابن مرجانة مِن الموت ، فقد كشفت واقعه أمام شرطته وعملائه ، وجرّدته مِنْ كلّ نزعة إنسانية ، وأبرزته كأحقر مخلوق على وجه الأرض. ولمْ يجد الدّعيّ وسيلةً يلجأ إليها سوى الافتعالات الكاذبة التي هي بضاعته وبضاعة أبيه زياد مِنْ قبل. فأخذ يتّهم مسلماً بما هو برئ منه قائلاً : يا فاسق ، ألمْ تكن تشرب الخمر في المدينة؟

فصاح به مسلم : أحقّ والله بشرب الخمر مَنْ يقتل النفس المحرّمة وهو يلهو ويلعب كأنّه لمْ يسمع شيئاً.

واسترد الطاغية تفكيره فرأى أنّ هذه الأكاذيب لا تجديه شيئاً ، فراح يقول له : منّتك نفسك أمراً حال الله بينك وبينه وجعله لأهله.

فقال مسلم باستهزاء وسخرية : مَنْ أهله؟!

ـ يزيد بن معاوية.

ـ الحمد لله ، كفى بالله حاكماً بيننا وبينكم.

ـ أتظنّ أنّ لك مِن الأمر شيئاً؟

٤٠٣

ـ لا والله ، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين.

ـ قتلني الله إنْ لمْ أقتلك.

ـ إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة. والله ، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة ماء لطال عليك أنْ تراني في هذا القصر ، ولكنْ إنْ كنت عزمت على قتلي فأقم لي رجلاً مِنْ قريش أوصي له بما اُريد(1) . وسمح له الطاغية بأن يوصي بما أهمّه.

وصيّة مسلم :

ونظر مسلم في مجلس ابن زياد فرأى عمر بن سعد فأحبّ أنْ يعهد إليه بوصيته ، فقال له : لا أرى في المجلس قرشيّاً غيرك(2) ، ولي إليك حاجة وهي سرّ(3) .

واستشاط ابن زياد غضباً حيث نفاه مسلم مِنْ قريش ، وأبطل استلحاقه ببني اُميّة ، فقد أبطل ذلك النسب اللصيق الذي ثبت بشهادة أبي مريم الخمّار ، ولمْ يستطع أنْ يقول ابن زياد شيئاً.

وامتنع ابن سعد مِن الاستجابة لمسلم ؛ ارضاءً لعواطف سيّده ابن مرجانة ، وكسباً لمودّته. وقد لمس ابن زياد خوره وخنوعه فأسرّها في نفسه

__________________

(1) الفتوح 5 / 97 ـ 99.

(2) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / 134.

(3) تاريخ ابن الأثير 3 / 274 ، الإرشاد / 239.

٤٠٤

ورأى أنّه خليق بأنْ يرشّحه لقيادة قوّاته المسلحة التي يزجّ بها لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وأمر ابن زياد عمر بن سعد بأنْ يقوم مع مسلم ليعهد إليه بوصيته ، وقام ابن سعد معه فأوصاه مسلم بما يلي :

1 ـ أنّ عليه ديناً بالكوفة يبلغ سبعمئة درهم ، فيبيع سيفه ودرعه ليوفيها عنه(1) .

وقد دلّ ذلك على شدّة احتياطه وتحرّجه في دينه ، كما أوصى أنْ يعطي لطوعة ما يفضل مِنْ وفاء دينه.

2 ـ أنْ يستوهب جئته مِن ابن زياد فيواريها(2) ؛ وذلك لعلمه بخبث الاُمويِّين وإنّهم لا يتركون المُثلة.

3 ـ أنْ يكتب للحُسين بخبره(3) فقد شغله أمره ؛ لأنّه كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة.

وأقبل ابن سعد يلهث على ابن زياد فقال له : أتدري أيّها الأمير ما قال لي؟ إنّه قال : كذا وكذا(4) .

وأنكر عليه ابن زياد إبداءه السرّ فقال : لا يخونك الأمين ، ولكنْ قد يؤتمن الخائن ؛ أمّا ماله فهو لك تصنع به ما شئت ، وأمّا الحُسين فإنْ لمْ يردنا لمْ نرده وإنْ أرادنا لمْ نكفّ عنه ، وأمّا جثته فإنّا لن نشفّعك فيها(5) .

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 274 ، وفي الطبري 6 / 212 إنّ عليّ ستمئة درهم ، وفي الأخبار الطوال / 241 إنّ عليّ ألف درهم.

(2) تاريخ الطبري 6 / 212.

(3) الإرشاد / 239.

(4) تاريخ ابن الأثير 3 / 274.

(5) وفي الإرشاد / 239 أمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنِعَ بها.

٤٠٥

لقد ترك الطاغية شفاعة ابن سعد في جثة مسلم ؛ فقد عزم على التمثيل بها للتشفّي منه وليتّخذ مِنْ ذلك وسيلة لإرهاب الناس وخوفهم.

الطاغية مع مسلم :

وصاح ابن مرجانة بمسلم ، فقال له : بماذا أتيت إلى هذا البلد؟ شتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ، ورميت بعضهم على بعض.

وانطلق فخر هاشم قائلاً بكلّ ثقة واعتزاز بالنفس : لست لذلك أتيت هذا البلد ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم على الناس مِنْ غير رضى ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهلاً لذلك ؛ فإنّه لمْ تزل الخلافة لنا منذ قُتِلَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ولا تزال الخلافة لنا ، فإنّا قُهرنا عليها.

إنّكم أوّل مَنْ خرج على إمام هدى وشقّ عصا المسلمين ، وأخذ هذا الأمر غصباً ونازع أهله بالظلم والعدوان(1) .

وأدلى مسلم بهذا الحديث عن أسباب الثورة التي أعلنها الإمام الحُسين على الحكم الاُموي ، وقد التاع الطاغية مِنْ كلام مسلم وتبدّدت نشوة ظفره ، فلمْ يجد مسلكاً ينفذ منه لإطفاء غضبه سوى السبّ للعترة الطاهرة ، فأخذ يسبّ علياً والحسن والحُسين.

وثار مسلم في وجهه ، فقال له : أنت وأبوك أحقّ بالشتم منهم ، فاقض ما أنت قاض ؛ فنحن

__________________

(1) الفتوح 5 / 101.

٤٠٦

أهل البيت موكّل بنا البلاء(1) .

لقد ظلّ مسلم حتّى الرمق الأخير مِنْ حياته عالي الهمّة ، وجابه الأخطار ببأس شديد ، فكان في دفاعه ومنطقه مع ابن مرجانة مثالاً للبطولات النادرة.

إلى الرفيق الأعلى :

وآن للقائد العظيم أنْ يُنقل عن هذه الحياة بعد ما أدّى رسالته بأمانة وإخلاص ، وقد رُزِقَ الشهادة على يد الممسوخ القذر ابن مرجانة ، فندب لقتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، فقال له : خذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك ؛ ليكون ذلك أشفى لصدرك.

والتفت مسلم إلى ابن الأشعث الذي أعطاه الأمان فقال له : يابن الأشعث ، أما والله ، لولا أنّك آمنتني ما استسلمت. قمْ بسيفك دوني فقد اخفرت ذمّتك. فلمْ يحفل به ابن الأشعث(2) .

واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فصعد به إلى أعلى القصر وهو يسبح الله ويستغفره بكلّ طمأنينة ورضى ، وهو يقول : اللّهم ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا(3) .

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيين فضرب عنقه ، ورمى برأسه

__________________

(1) الفتوح 5 / 102 ، وفي تاريخ ابن الأثير ، والإرشاد أنّ مسلماً لم يكلّم ابن زياد بعد شتمه له.

(2) الطبري 6 / 213.

(3) الفتوح 5 / 103.

٤٠٧

وجسده إلى الأرض(1) ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي يحمل نزعات عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومُثُلَ ابن عمّه الحُسين ، وقد استشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ونزل القاتل الأثيم فاستقبله ابن زياد ، فقال له : ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟

ـ كان يسبّح الله ويستغفره ، فلمّا أردت قتله قلت له : الحمد لله الذي أمكنني منك وأقادني منك. فضربته ضربة لمْ تغن شيئاً ، فقال لي : أما ترى فيّ خدشاً تخدشنيه وفاءً مِنْ دمك أيّها العبد.

فبهر ابن زياد وراح يبدي إعجابه وإكباره له قائلاً : أوَفخراً عند الموت(2) !

وقد انطوت بقتل مسلم صفحة مشرقة مِنْ أروع صفحات العقيدة والجهاد في الإسلام ، فقد استشهد في سبيل العدالة الاجتماعية ومن أجل إنقاذ الاُمّة وتحريرها مِن الظلم والجور. وهو أوّل شهيد مِن الاُسرة النّبوية يُقتل علناً أمام المسلمين ولمْ يقوموا بحمايته والذبّ عنه.

سلبه :

وانبرى سليل الخيانة محمّد بن الأشعث(3) إلى سلب مسلم ، فسلب

__________________

(1) مروج الذهب 3 / 9.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 274.

(3) الأشعث بن قيس : إنّما سمي بالأشعث لشعوثة رأسه ، واسمه سعد بن كرب ، هلك بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بأربعين ليلة ، وكان عمره 63 سنة ، جاء ذلك في تاريخ الصحابة / 5 ؛ أمّا محمّد بن الأشعث فأمّه اُمّ فروة أخت أبى بكر لأبيه ، جاء ذلك في الرياض المستطاب / 8.

٤٠٨

سيفه ودرعه وهو غير حافل بالعار والخزي ، وقد تعرّض للنقد اللاذع مِنْ جميع الأوساط في الكوفة.

ويقول بعض الشعراء في هجائه :

وتركت عمّكَ أنْ تُقاتلَ دونَهُ

فشلاً ولولا أنتَ كان منيعا

وقتلتَ وافدَ آلِ بيت محمّدٍ

وسلبت أسيافاً له ودروعا(1)

وعمد بعض أجلاف أهل الكوفة فسلبوا رداء مسلم وثيابه.

تنفيذ الإعدام في هانئ :

وأمر الطاغية بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة وإلحاقه بمسلم ؛ مبالغة في إذلال زعماء الكوفة وإذاعة للذعر والخوف بين الناس.

وقام محمّد بن الأشعث فتشفّع فيه خوفاً مِنْ بطش اُسرته قائلاً : أصلح الله الأمير ، إنّك قد عرفت شرفه في عشيرته(2) ، وقد عرف قومه إنّي وأسماء بن خارجة جئنا به إليك ، فاُنشدك الله أيّها الأمير لما وهبته لي ؛ فإنّي أخاف عداوة أهل بيته ، وإنّهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عدداً.

فلمْ يحفل ابن زياد وإنّما زبره وصاح به ، فسكت العبد ، واُخرج البطل إلى السوق في موضع تُباع فيه الأغنام مبالغة في إذلاله. ولمّا عُلم أنّه ملاق حتفه جعل يستنجد باُسرته وقد رفع عقيرته : وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم. وا عشيرتاه(3) !

__________________

(1) مروج الذهب 3 / 8.

(2) وفي رواية (عرفت شرفه في مصره).

(3) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 155.

٤٠٩

ولو كانت عند مذحج صبابة مِن الشرف والنبل لانبرت إلى إنقاذ زعيمها ، ولكنّها كانت كغيرها مِنْ قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً.

وعمد هانئ إلى إخراج يده مِن الكتاف وهو يطلب السلاح ليدافع به عن نفسه ، فلمّا بصروا به بادروا إليه فأوثقوه كتافاً ، وقالوا له : امدد عنقك. فأجاب برباطة جأش ورسوخ يقين : لا والله ، ما كنت بالذي أعينكم على نفسي.

وانبرى إليه وغد مِنْ شرطة ابن زياد يُقال له رشيد التركي(1) فضربه بالسيف فلمْ يصنع به شيئاً ، ورفع هانئ صوته قائلاً : اللّهم إلى رحمتك ورضوانك. اللّهم ، اجعل هذا اليوم كفّارة لذنوبي ؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت محمّد.

وضربه الباغي ضربة أخرى فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه الزاكي ، ولمْ يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة(2) ، وكان عمره يوم استشهد تسعاً وتسعين سنة(3) ، وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته ، وجزع لقتله الأحرار والمصلحون.

وقد رثاه أبو الأسود الدؤلي بقوله :

__________________

(1) وقد ثار لدم هانئ عبدُ الرحمن بن حصين فقتل رشيداً ، وفي ذلك يقول :

إنّي قتلتُ راشد التركيّا

وليته أبيض مشرفيّا

أرضى بذلك النّبيا

جاء ذلك في أنساب الأشراف 1 ق 1 / 155.

(2) الدر النظيم / 160 ، مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أنساب الأشراف 1 ق 1.

(3) مرآة الزمان / 85.

٤١٠

أقول: وذاك مِنْ جزعٍ ووجدِ

أزالَ اللهُ مُلكَ بني زيادِ

هُمُ جدعوا الاُنوفَ وكنّ شُمّاً

بقتلهِمُ الكريمَ أخا مرادِ(1)

ورثى الأخطل ابنَ زياد بقوله :

ولمْ يكُ عن يومِ ابنِ عروة غائباً

كما لمْ يغبْ عن ليلة ابنِ عقيلِ

أخو الحرب صرّاها فليس بناكلٍ

جبارٍ ولا وجب الفؤاد ثقيلِ

السحل في الشوارع :

وعهد الطاغية إلى زبانيته وعملائه بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق ، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(2) ؛ وذلك لإخافة العامة وشيوع الإرهاب ، وليكونا عبرة لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على الحكم الاُموي.

لقد سُحب هانئ أمام اُسرته وقومه ، ولو كان عندهم ذرّة مِن الشرف والحمية لانبروا إلى تخليص جثة زعيمهم مِنْ أيدي الغوغاء الذين بالغوا في إهانتها.

صلب الجثّتين :

ولمّا قضى الطاغية إربه في سحل جثة مسلم وهانئ أمر بصلبهما ،

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 155 ، ديوان أبي الأسود.

(2) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 155 ، الدر النظيم / 160 ، مقتل الخوارزمي 1 / 215.

٤١١

فصُلِبا منكوسين(1) في الكناسة(2) ، فكان مسلم فيما يقول المؤرّخون أوّل قتيل صُلِبَتْ جثته مِنْ بني هاشم(3) ، وقد استعظم المسلمون كأشدّ ما يكون الاستعظام هذا الحادث الخطير ؛ فإنّ هذا التمثيل الفظيع إنّما هو جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، ومسلم وهانئ إنّما هما مِنْ روّاد الحقّ ودُعاة الإصلاح في الإرض.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخضع الطاغية بعد قتله لمسلم وهانئ العراق الثائر ، وارتمت جميع أوساطه تحت قدميه بدون أيّة مقاومة.

الرؤوس إلى دمشق :

وعمد ابن مرجانة إلى إرسال رأس مسلم وهانئ وعمارة بن صلخب الأزدي(4) هدية إلى سيّده يزيد ؛ لينال الجائزة ويحرز إخلاص الاُسرة المالكة له.

وقد أرسل معها هذه الرسالة : أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما العيون ، ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فضربت أعناقهما وبعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الوداعي الهمداني ، والزّبير بن الأروح التميمي ، وهما مِنْ أهل السمع والطاعة ، فليسألهما أمير المؤمنين

__________________

(1) مناقب ابن شهر آشوب 2 / 94.

(2) المناقب والمثالب / 172.

(3) مروج الذهب 3 / 7.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 1 / 155.

٤١٢

عمّا أحبّ ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً ، والسّلام(1) .

واحتوت هذه الرسالة على العمليات التي قام بها الطاغية للقضاء على الثورة ، والتي كان مِنْ أهمّها :

1 ـ استعانته بالعيون والجواسيس في معرفة شؤون الثورة والوقوف على أسرارها ، وقد قام بهذه العملية معقل مولاه.

2 ـ إنّه دسّ لهانئ العضو البارز في الثورة الرجال حتّى صار تحت قبضته واعتقله ، وكذلك كاد لمسلم حينما ثار عليه ، فقد أرسل عيون أهل الكوفة ووجوهها مع العرفاء فأخذوا يذيعون الذعر وينشرون الإرهاب حتّى انهزم جيشه.

جواب يزيد :

ولمّا انتهت الرؤوس إلى دمشق سرّ يزيد بذلك سروراً بالغاً ، وكتب لابن مرجانة جواباً عن رسالته شكره فيها ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّك لمْ تعد إذ كنت كما أحبّ. عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابض. فقد كفيت وصدقت ظنّي ورأيي فيك وقد دعوت رسوليك فسألتهما عن الذين ذكرت ، فقد وجدتهما في رأيهما وعقلهما وفهمهما وفضلهما ومذهبهما كما ذكرت ، وقد أمرت لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك فاستوص بهما خيراً.

وقد بلغني أنّ الحُسين بن علي قد عزم على المسير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر واحترس واحبس على الظنّ ، واكتب إليّ في كلّ

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 214.

٤١٣

يوم بما تجدّد لك مِنْ خيرٍ أو شرٍّ ، والسّلام(1) .

وحفلت هذه الرسالة بالتقدير البالغ لابن زياد وأضفت عليه صفة الحازم اليقظ ، وإنّه قد حقّق ظنّ يزيد فيه أنّه أهل للقيام بمثل هذه الأعمال الخطيرة. وقد عرّفه يزيد بعزم الإمام الحُسين على التوجّه إلى العراق ، وأوصاه باتّخاذ التدابير التالية :

1 ـ وضع المراصد والحرس على جميع الطرق والمواصلات.

2 ـ التحرّس في أعماله ، وأنْ يكون حذراً يقظاً.

3 ـ أخذ الناس بسياسة البطش والإرهاب.

__________________

(1) الفتوح 5 / 109 ، أنساب الأشراف 1 ق 1 ، ولمْ يتعرض المؤرّخون إلى شؤون هذه الرؤوس الكريمة ، فهل دُفنت في دمشق أو في مكان آخر؟ فقد أهملوا ذلك ، إلاّ أنّه جاء في مرآة الزمان / 59 فيما يخصّ رأس هانئ ما نصه : أنّه في هذه السنّة ـ أي سنة 302 هـ ـ ورد الخبر إلى بغداد أنّه وُجِدَ بخراسان بالقصر أزجاً فيه ألف رأس في برج ، في اُذن كلّ واحد خيط من إبريسم فيه رقعة فيها اسم صاحبه ، وكان مِنْ جملتها رأس هانئ بن عروة ، وحاتم بن حنّة ، وطلق بن معاذ وغيرهم. وتاريخهم ـ أيّ تاريخ وضعهم في ذلك الأزج ـ سنة سبعين مِن الهجرة.

ونقل الزركلي في هامش أعلامه 9 / 51 عن صلة تاريخ الطبري / 62 مِنْ حوادث سنة 304 هـ أنّه ورد إلى بغداد كتاب مِنْ خراسان يذكر فيه أنّه وجِدَ بقندهار في أبراج سورها برج متّصل بها ، فيه خمسة آلاف رأس في سلال مِنْ حشيش ، ومِنْ هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأساً ، في اُذن كلّ رأس منها رقعة مشدودة بخيط إبريسم باسم رجل منهم. وعدّ منهم هانئ بن عروة ، وقال : إنّهم قد وجدوا على حالهم إلاّ أنّه قد جفّت جلودهم ، والشعر عليها بحالته لمْ يتغيّر.

٤١٤

4 ـ أنْ يكون على اتصال دائم مع يزيد ويكتب له بجميع ما يحدث في القطر ، وطبّق ابن مرجانة جميع ما عهده إليه سيّده ، ونفّذ ما يلي :

إعلانُ الأحكام العرفية :

وبعدما أطاح الطاغية بثورة مسلم قبض على العراق بيد مِنْ حديد ، وأعلن الأحكام العرفية في جميع أنحاء العراق ، واعتمد في تنفيذ خططه على القسوة البالغة ، فأشاع مِن الظلم والجور ما لا يوصف. فكان اسمه موجباً لإثارة الفزع والخوف في نفوس العراقيين كما كان اسم أبيه زياد مِنْ قبل.

لقد فوّضتْ إليه حكومة دمشق السلطات الواسعة ، وأمرته بأخذ الناس بالظنّة وإعدام كلّ مَنْ يحقد على الحكم الاُموي ، أو له ضلع بالاشتراك في أيّة مؤامرة تُحاك ضدّه.

وبهذه الأساليب الرهيبة ساق الناس لحرب الحُسين. فقد كان يحكم بالموت على كلّ مَنْ يتخلّف ، أو يرتدع عن الخوض في المعركة(1) .

احتلال الحدود العراقية :

واحتل ابن زياد جميع الحدود العراقية احتلالاً عسكرياً ، ومنع الناس مِن الدخول للعراق والخروج منه إلاّ بإذن وتأشير خاص مِنْ شرطة الحدود ، وكانوا إذا أخذوا رجلاً أجروا معه التحقيق الكامل. فإنْ علموا براءته أطلقوا سراحه ، وإلاّ بعثوه مخفوراً إلى السلطة المركزية في الكوفة ؛ لتجري معه المزيد مِن التحقيق. وقد احتاط في هذه الجهة أشدّ الاحتياط ؛ مخافة أنْ يلج أحدٌ إلى العراق أو يخرج منه مِنْ شيعة الإمام الحُسين. ويقول المؤرّخون :

__________________

(1) الدولة الاُمويّة في الشام / 56.

٤١٥

إنّه جعل على جميع المفارق ورؤوس المنازل عيوناً مِنْ عسكره ، كما عيّن في البرّ نقاطاً ومسالح ترصد جميع الحركات ، وقد بعث الحُصين بن نمير رئيس شرطته إلى القادسية ومنها إلى خفان ثمّ إلى القطقطانية وجبل لعلع ، ورتّب في كلّ مكان جماعة مِن الفرسان والخيّالة ؛ لتفتيش الداخل والخارج.

وقد حفظت هذه الإجراءات تلك المناطق مِن الاشتراك بأيّ عمل ضدّ الدولة ، كما حفظت خطوط المواصلات بين الكوفة والشام ، وقد ألقت الشرطة القبض على مسهر الصيداوي رسول الإمام الحُسين إلى الكوفة وبعثته مخفوراً إلى ابن زياد ، وسنذكر حديثه في البحوث الآتية :

الاعتقالات الواسعة :

وقام ابن زياد بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف الشيعة. فاعتقل منهم فيما يقول بعض المؤرّخين اثني عشر ألفاً(1) ، وكان مِنْ بين المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي والمختار بن يوسف الثقفي وأربعمئة مِنْ الأعيان والوجوه(2) .

وقد أثارث هذه الإجراءات عاصفة مِن الفزع والهلع لا في الكوفة فحسب وإنّما في جميع أنحاء العراق ، وقد ابتعد الكوفيون عن التدخّل في أيّة مشكلة سياسية ، ولمْ تبدِ منهم أيّة حركة مِنْ حركات المعارضة وأيقنوا أنْ لا قدرة لهم على الإطاحة بالعرش الاُموي ، وظلّوا قابعين تحت وطأة سياطه القاسية.

__________________

(1) المختار ، مرآة العصر الاُموي / 74 ـ 75.

(2) الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء 1 / 109.

٤١٦

إخفاق الثورة

٤١٧
٤١٨

ويتساءل الكثيرون عن الأسباب التي أدّت إلى إخفاق مسلم في ثورته مع ما كان يتمتع به مِن القوى العسكرية ، في حين أنّ خصمه لمْ تكن عنده أيّة قوّة يستطيع أنْ يدافع بها عن نفسه ، فضلاً عن الهجوم والدخول في عمليات القتال ، ويعزو بعضهم السبب في ذلك إلى قلّة خبرة مسلم في الشؤون السياسية وعجزه مِن السيطرة على الموقف ؛ فترك المجال مفتوحاً لعدوه حتّى تغلّب عليه.

وهذا الرأي فيما يبدو سطحي ليست له أيّة صبغة مِن التحقيق ؛ وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الأحداث بعمق وشمول ، ومِنْ أهمها فيما نحسب دراسة المجتمع الكوفي وما مُنِيَ به مِن التناقض في سلوكه الفردي والاجتماعي ، والوقوف على المخططات السياسية التي اعتمد عليها ابن زياد للتغلّب على الأحداث ، والنظر في الصلاحيات المُعطاة لمسلم بن عقيل مِنْ قبل الإمام ؛ فإنّ الإحاطة بهذه الاُمور توضّح لنا الأسباب في إخفاق الثورة ، وفيما يلي ذلك :

المجتمع الكوفي :

ولا بدّ لنا أنْ نتحدّث بمزيد مِن التحقيق عن طبيعة المجتمع الكوفي ؛ فإنّه المرآة الذي تنعكس عليه الأحداث الهائلة التي لعبت دورها الخطير في تاريخ الإسلام السياسي ، وأنْ نتبيّن العناصر التي سكنت الكوفة وننظر إلى طبيعة الصلات الاجتماعية فيما بينهما ، والحياة الاقتصادية التي كانت تعيش فيها ؛ فإنّ البحث عن ذلك يلقي الأضواء على فشل الثورة ، كما يلقي الأضواء على التذبذب والانحرافات الفكرية التي مُنِيَ بها هذا المجتمع ، والتي كان مِنْ نتائجها ارتكابه لأبشع جريمة في تاريخ الإنسانية وهي إقدامه على قتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإلى القراء ذلك :

٤١٩

الظواهر الاجتماعية :

أمّا الظواهر الاجتماعية التي تفرّد بها المجتمع الكوفي دون بقيّة الشعوب فهي :

التناقض في السلوك :

والظاهرة الغريبة في المجتمع الكوفي أنّه كان في تناقض صريح مع حياته الواقعية ؛ فهو يقول شيئاً ويفعل ضدّه ، ويؤمن بشيء ويفعل ما ينافيه ، والحال أنّه يجب أنْ تتطابق أعمال الإنسان مع ما يؤمن به.

وقد أدلى الفرزدق بهذا التناقض حينما سأله الإمام عن أهل الكوفة ، فقال له : خلّفت قلوب الناس معك ، وسيوفهم مشورة عليك. وكان الواجب يقضي أنْ تذب سيوفهم عمّا يؤمنون به ، وأنْ يناضلوا عمّا يعتقدون به ، ولا توجد مثل هذه الظاهرة في تاريخ أيّ شعب مِن الشعوب.

ومِنْ غرائب هذا التناقض أنّ المجتمع الكوفي قد تدخّل تدخّلاً إيجابياً في المجالات السياسية وهامَ في تياراتها ، فكان يهتف بسقوط الدولة الاُمويّة ، وقد كاتبوا الإمام الحُسين لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وبطشهم ، وبعثوا الوفود إليه مع آلاف الرسائل التي تحثّه على القدوم لمصرهم.

ولمّا بعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل قابلوه بحماس بالغ ، وأظهروا له الدعم الكامل حتّى كاتب الإمام الحُسين بالقدوم إليهم ، ولكنْ لمّا دهمهم ابن مرجانة ونشر الرعب والفزع في بلادهم تخلّوا عن مسلم وأقفلوا عليهم بيوتهم ، وراحوا يقولون :

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

فقال الوليد : تبايعنا على أن تضع عنّا ما أصبنا ، و تعفي لنا عمّا في أيدينا ، و تقتل قتلة صاحبنا . فغضب عليّ عليه السّلام و قال : أمّا ما ذكرت من و تري إيّاكم . فالحقّ و تركم ، و أما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن اضيع حقّ اللّه ،

و أمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان للّه و للمسلمين فالعدل يسعكم ، و أما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غدا ، و لكن لكم أن أحملكم على كتاب اللّه ، و سنّة نبيّه . فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق ، و إن شئتم فالحقوا بملاحقكم . فقال مروان بل نبايعك ، و نقيم معك فترى و نرى ١ .

« لا حاجة لي في بيعته إنّها كفّ يهوديّة لو بايعني بكفه » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب : ( بيده ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) ٢ .

« لغدر بسبته » أي : باسته . في خبر ( الخرائج ) المتقدم « فلما بسط يده ليبايعه أخذ كفّه عن كفّ مروان فنزها و قال : لا حاجة لي فيها ، إنّها كفّ يهودية لو بايعني بيده عشرين مرة لنكث باسته . . . » ٣ .

و قد عرفت من خبر أبي مخنف « و أنّ فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث باسته » و من خبر الواقدي « و ايم اللّه إنّ فيكم من لا ابالي بايعني بكفه أو باسته ،

و لئن بايعني لينكثن » . قال ابن أبي الحديد : كان الغادر من العرب إذا عزم على الغدر بعد عهده حبق استهزاء ٤ .

قال عليه السّلام ذلك لأنّه يعرف ضميره ، و كيف كان يفي ببيعته ، و قد كان كتب الى معاوية ، و يعلى بن منبة قبل قتل عثمان « و إني خائف إن قتل يعني عثمان أن تكون أي الخلافة من بني اميّة بمناط الثريا إن لم نصر كرصيف

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٨ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) كذا في شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٣ ، لكن في شرح ابن ميثم ٢ : ٢٠٣ أيضا « بكفه » .

( ٣ ) الخرائج و الجرائح ١ : ١٨٦ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٥٤ ، و النقل بتصرف يسير .

٦٠١

الأساس المحكم ، و لئن و هى عمود البيت لتتداعينّ جدرانه ، و الّذي عيب عليه إطعامكما الشام و اليمن إلى أن قال :

و أما أنا فمساعف كلّ مستشير ، و معين كلّ مستصرخ ، و مجيب كل داع أتوقع الفرصة . فأثب و ثبة الفهد . أبصر غفلة مقتنصة .

و كتب الى معاوية بعد قتل عثمان مشيرا إليه عليه السّلام و أصحابه و لقد طويت أديمهم على نغل يحلم منه الجلد كذبت نفس الظان بنا ترك المظلمة ، و حبّ الهجوع إلاّ تهويمة الراكب العجل إلى أن قال و كتابي إليك و أنا كحرباء السبسب في الهجير ترقب عين الغزالة . هذا ، و قال الشاعر :

« إنّ احيحا هي صئبان السّه » ١

و السه : أيضا الاست ، و الصئبان : جمع الصؤابة بيضة القملة .

هذا ، و قال الأخطل و كان شاعرا نصرانيا ، و من المنقطعين إلى بني اميّة في بشر بن مروان :

فلا تجعلنيّ يا ابن مروان كامرئ

غلت في هوى آل الزبير مراجله

يبايع بالكف التي قد عرفتها

و في قلبه ناموسه و غوائله

« أما إنّ له إمرة » قال ابن أبي الحديد : و روى هذا الخبر من طرق كثيرة ،

و رويت فيه زيادة هكذا : « يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه ، و إنّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه » ٢ و قال الشاعر في امارة مروان ، و قد عرفت أنّه كان يلقب بخيط الباطل :

لحا اللّه قوما أمرّوا خيط باطل

على الناس يعطي من يشاء و يمنع ٣

ــــــــــــــــ

( ١ ) أورده لسان العرب ١٣ : ٤٩٥ ، مادة ( سه ) .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٣ .

( ٣ ) نقله ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٥٥ .

٦٠٢
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

و قد وقعت إمارته كما أخبر عليه السّلام قال المسعودي : أراد مروان بعد موت يزيد أن يلحق بابن الزبير . فمنعه من ذلك عبيد اللّه بن زياد عند لحاقه بالشام و قال له : إنك شيخ بني عبد مناف إلى أن قال :

قال عمرو بن سعيد الأشدق لمروان أدعوا الناس اليك ، و آخذها لك على أن يكون لي من بعدك .

فقال مروان : بل بعد خالد بن يزيد بن معاوية فرضي الأشدق بذلك ،

و دعا الناس إلى بيعة مروان فأجابوا ، و كانت أيّامه تسعة أشهر و أيّاما قلائل و قيل ثمانية أشهر و اختلف في سبب وفاته فمنهم من رأى أنّه مات مطعونا ، و منهم من رأى انّه مات حتف أنفه ، و منهم من رأى أنّ فاختة بنت أبي هاشم بن عتبة امّ خالد بن يزيد هي الّتي قتلته ، و ذلك أنّ مروان حين أخذ البيعة لنفسه و لخالد بن يزيد بعده ، و عمرو بن سعيد بعده .

ثم بداله في ذلك فجعلها لابنه عبد الملك بعده ثم لابنه عبد العزيز ، و دخل عليه خالد بن يزيد فكلّمه ، و أغلظ له فغضب من ذلك ، و قال : أتكلمني يا ابن الرطبة و كان مروان قد تزوّج بامّه فاختة ليذلّه بذلك و يضع منه فدخل خالد على امّه فقبّح لها تزوجها بمروان ، و شكا إليها ما نزل به منه . فقالت : لا يعيبك بعدها . فمنهم من رأى أنّها وضعت على نفسه و سادة ، و قعدت فوقها مع جواريها حتى مات ، و منهم من رأى انّها أعدّت له لبنا مسموما فلما دخل عليها ناولته إيّاه فشربه . فلما استقرّ في جوفه وقع يجود بنفسه ، و أمسك لسانه فحضره عبد الملك ، و غيره من ولده ، فجعل مروان يشير إلى امّ خالد يخبرهم أنّها قتلته و امّ خالد تقول : بأبي أنت حتّى عند النزع لم تشتغل عنّي انّه يوصيكم بيّ ١ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٨٥ ٨٩ ، و النقل بتصرف يسير .

٦٠٣

« كلعقة الكلب أنفه » فقد عرفت أنّ إمرته كانت تسعة أشهر أو ثمانية أشهر .

هذا ، و في ( أنساب البلاذري ) كان ابن همام حين حصر ابن مطيع في القصر أي في الكوفة من قبل ابن الزبير لمّا ظهر المختار فتدلّى منه مع ناس تدلّوا أيضا فقال : لما رأيت القصر اغلق بابه ، و تعلقت همدان بالأسباب . و رأيت أفواه الأزقّة حولنا ملئت بكلّ هراوة ، و ذباب ، و رأيت أصحاب الدقيق كأنّهم حول البيوت ثعالب الأسراب أيقنت أنّ أمارة ابن مضارب لم يبق منها فيش اير ذباب ١ .

و مما قيل في قصر المدّة قول ابن عباس في مدّة امارة عائشة في الجمل .

ففي ( العقد ) قال ابن عباس لها بعد هزيمتها إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الّذي خرجت منه . قالت : رحم اللّه أمير المؤمنين . إنّما كان عمر ابن الخطاب . فقال لها بل عليّ بن أبي طالب . فقالت : أبيت أبيت فقال لها : ما كان إباؤك إلاّ فواق ناقة بكيئة . ثمّ صرت ما تحلين ، و لا تمرّين و لا تأمرين ، و لا تنهين . فبكت حتّى علا نشيجها ٢ .

« و هو أبو الأكبش الأربعة » في ( إعلام الورى ) عن ابن مرهب بعد ذكر ورود مروان على معاوية ، و تركه حاجة له فورد ابنه عبد الملك إلى معاوية فكلّمه فلما أدبر عبد الملك قال ( معاوية لابن عباس و كان عنده ) : أنشدك اللّه يا ابن عباس أما تعلم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ذكر هذا . فقال : أبو الجبابرة الأربعة ؟ قال ابن عباس : اللّهم نعم ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) أنساب الأشراف ٥ : ٢٣٠ ، و ما نقل عن ابن همام فهو شعر في أربعة أبيات .

( ٢ ) العقد الفريد ٥ : ٧٢ ، و فتوح ابن اعثم ٢ : ٣٣٦ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) إعلام الورى : ٣٥ .

٦٠٤

و في ( حيوان الدميري ) قال مصعب الزبيري : زعموا أنّ عبد الملك بن مروان رأى في منامه أنّه بال في المحراب أربع مرّات . فدسّ من سأل سعيد بن المسيب و كان يعبرّ الرؤيا فقال : يملك من صلبه أربعة . فكان آخرهم هشام ١ .

و قال ابن أبي الحديد : فسّروا الأكبش الأربعة ببني عبد الملك الوليد ،

و سليمان ، و يزيد ، و هشام ، و لم يل الخلافة من بني اميّة ، و لا من غيرهم أربعة إخوة إلاّ هؤلاء و يجوز عندي أن يريد عليه السّلام ولد مروان لصلبه عبد الملك ، و عبد العزيز ، و بشر ، و محمّد ، و كانوا كباشا أبطالا أنجادا وليّ عبد الملك الخلافة ،

و وليّ بشر العراق ، و ولي محمّد الجزيرة ، و ولى عبد العزيز مصر و لكلّ منهم آثار مشهورة ٢ .

قلت : و كان لمروان ولد آخر أحمق ، معاوية بن مروان ، و هو الّذي قال للطحان : أرأيت إن قام حمارك و حركّ رأسه ليصوت جلجله ما علمك ؟ فقال :

و من له بمثل عقل الأمير . و الأظهر ما عليه الأكثر من كون المراد بني عبد الملك الأربعة الّذين و لو الخلافة ، و كيف كان . فمروان كان أبا عشرة .

هذا ، و في ( كامل الجزري ) : ولي الخلافة في الأخوين المسترشد ،

و المقتفي ابنا المستظهر ، و الهادي و الرشيد ابنا المهدي ، و الواثق و المتوكّل ابنا المعتصم ، و في الاخوة الثلاثة ، الأمين ، و المأمون ، و المعتصم بنو هارون ،

و المكتفي ، و المقتدر و القاهر بنو المعتضد ، و الراضي ، و المتقى ، و المطيع بنو المقتدر ، و أما أربعة إخوة فليس إلاّ الوليد ، و سليمان ، و يزيد ، و هشام بنو عبد الملك ٣ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) حياة الحيوان ١ : ٧١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٤ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٣ ) ذكره كلا في موضعه من الكامل .

٦٠٥

و كما أخبر عليه السّلام بهؤلاء الأكبش الأربعة أخبر عليه السّلام أنّ كبشا آخر و هو ابن الزبير يستحلّ حرمة الكعبة .

ففي ( تاريخ الطبري ) : قال عبد اللّه بن سليم ، و المذري بن المشمعل الأسديان : سمعنا ابن الزبير و هو يقول للحسين عليه السّلام يوم التروية بين الحجر و الباب : إن شئت أن تقيم أقمت . فوليت هذا الأمر فآزرناك ، و ساعدناك ،

و نصحنا لك ، و بايعناك . فقال عليه السّلام « إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشا يستحلّ حرمتها فما أحبّ أن أكون ذلك الكبش » ١ و يأتي خبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ولد أبي العاص جدّ مروان كعثمان .

« و ستلقى الامّة منه و من ولده يوما أحمر » و في خبر الخرائج المتقدّم بعد قوله عليه السّلام في مروان : لو بايعني بيده عشرين مرّة لنكث باسته ثم قال عليه السّلام :

هيه يا ابن الحكم خفت على رأسك أن تقع في هذه المعمعة ؟ كلاّ و اللّه حتّى يخرج من صلبك فلان ، و فلان يسومون هذه الامّة خسفا ، و يسقونهم كأسا مصبرة ٢ .

و قال ابن أبي الحديد « و في ( الاستيعاب ) نظر علي عليه السّلام يوما إلى مروان .

فقال له : ويل لك ، و ويل لأمّة محمّد منك ، و من بنيك ، اذا شاب صدغاك » ٣ قلت :

الّذي وجدت في ( الاستيعاب ) « ويلك و ويل امّة محمّد منك ، و من بنيك إذا ساءت درعك » ٤ و الظاهر كون كلّ منهما تصحيفا ، و أنّ الأصل في قول « و أشاب ذراعاك » و قول « إذا ساءت درعك » « إذا شاب صدغاك » كما مرّ في خبر .

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ٢٨٨ ، سنة ٦٠ .

( ٢ ) الخرائج و الجرائح ١ : ١٨٦ .

( ٣ ) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٥٥ .

( ٤ ) الاستيعاب ٣ : ٤٢٥ .

٦٠٦

و في الجزري يقال لمروان و لولده : بنو الزرقاء و زرقاء بنت موهب جدة مروان لأبيه كانت من ذوات الرايات في البغاء قال ابن الأشعث لمّا أجمع أهل العراق على خلع عبد الملك بدير الجماجم إنّ بني مروان يعيرون بالزرقاء و اللّه ما لهم نسب أصحّ منه إلاّ أنّ بني أبي العاص أعلاج من أهل صفوريّة ١ .

قال ابن أبي الحديد : و في ( أغاني أبي الفرج ) : قال مروان لمعاوية لمّا عزله عن الامارة : رويدا رويدا ، فقد بلغ بنو الحكم ، و بنو بنيه نيفا و عشرين ،

و إنّما هي أيّام قلائل حتّى يكملوا أربعين ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ .

ثمّ هم للجزاء بالحسني و السوء بالمرصاد .

قال أبو الفرج : هذا رمز إلى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم « إذا بلغ بنو أبي العاص ،

أربعين رجلا اتّخذوا مال اللّه دولا ، و عباد اللّه خولا » فكان بنو أبي العاص يذكرون انّهم سيلون أمر الامّة إذا بلغوا إلى هذه العدّة . فغضب معاوية و قال :

يا ابن الوزغ لست هناك ، فقال مروان : هو ما قلت لك ، و إنّي الآن لأبو عشرة و أخو عشرة ، و عمّ عشرة ، و قد كاد ولد أبي أن يكمّلوا العدّة يعني أربعين و لو قد بلغوها لعلمت أين تقع منّي . فانخذل معاوية . فقال الأحنف لمعاوية : ما رأيت لك سقطة مثلها ما هذا الخضوع لمروان ؟ و أيّ شي‏ء يكون منه و من بني أبيه إذا بلغوا أربعين ؟ و ما الّذي تخشاه منهم ؟ فقال : ان الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع امّ حبيبة لمّا زفّت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ، و هو يتولىّ نقلها إليه ،

فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يحدّ النظر إليه . قيل له : لقد أحددت النظر إلى الحكم . فقال :

« ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر من بعدي » فو اللّه لقد تلقّاها مروان من عين صافية .

ــــــــــــــــ

( ١ ) الكامل ٤ : ١٩٤ و ٤٧١ ، سنة ٦٥ و ٨٢ .

٦٠٧

فقال له الأحنف : رويدا لا يسمع هذا منك أحد . فإنّك تضع من قدرك و قدر ولدك بعدك ، و إن يقض اللّه أمرا يكن . فقال له معاوية : اكتمها عليّ . فقد لعمرك صدقت و نصحت ١ .

قلت : و في ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : إشتكى عمرو بن عثمان .

فكان العوّاد يدخلون عليه . فيخرجون ، و يتخلّف عنده مروان فيطيل . فانكرت ذلك رملة بنت معاوية امرأة عمرو . فخرجت كوّة . فاستمعت على مروان . فإذا هو يقول : ما أخذ هؤلاء يعني حرب بن اميّة الخلافة إلاّ باسم أبيك . فما يمنعك أن تنهض بحقك . فلنحن أكثر منهم رجالا . منّا فلان ، و منهم فلان و عدّد فضول رجال أبي العاص على رجال بني حرب فلمّا برأ عمرو تجهّز للحج ، و تجهّزت رملة في جهازه . فلما خرج عمرو خرجت رملة إلى أبيها بالشام فأخبرته ، و قالت له : ما زال يعدّ فضل رجال أبي العاص على بني حرب حتّى عدّ ابني عثمان و خالدا ابني عمرو . فتمنيت أنّهما ماتا . فكتب معاوية إلى مروان :

أو اضع رجل فوق اخرى تعدّنا

عديد الحصى ما ان تزال تكاثر

و امّكم تزجي تؤاما لبعلها

و امّ أخيكم نزرة الولد عاقر

إشهد يا مروان أنّي سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول : إذا بلغ ولد الحكم ثلاثين رجلا اتّخذوا مال اللّه دولا ، و دين اللّه دخلا ، و عباد اللّه خولا » . فكتب إليه مروان :

أما بعد يا معاوية فإنّي أبو عشرة ، و أخو عشرة ، و عم عشرة ٢ .

ثمّ الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ورد تارة في الحكم أبي مروان كما عرفته من معاوية على رواية مصعب الزبيري ، و اخرى في أبي العاص جدّه كما عرفته

ــــــــــــــــ

( ١ ) شرح ابن ابي الحديد ٢ : ٥٦ ٥٧ ، و النقل بتقطيع .

( ٢ ) نسب قريش : ١١٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٦٠٨