الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260921 / تحميل: 6473
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وفي هذا الصدد يكتب العلامة الطباطبائيّ في تفسيره قائلاً :

( انّ عامّة الآيات المتضمنّة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجّه خطاباتها إلى عامّة المؤمنين دون النبيّ خاصّةً كقوله تعالى:( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) ( البقرة: ١٩٥ )

وقوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) ( آل عمران: ١٠٤ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ) ( المائدة: ٣٥ )

وقوله:( وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) ( الحج: ٧٨ )

وقوله:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) ( البقرة: ١٧٩ )

وقوله:( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ) ( الطلاق: ٢ )

وقوله:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ) ( آل عمران: ١٠٣ )

وقوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى: ١٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها أنّ الدين ذو صبغة اجتماعية الشكل وقد حملها الله تعالى على الناس بصفتهم الاجتماعيّة ( كما حمل بعض الاُمور على الافراد بوصفهم الفرديّة ) ولم يرد إقامة الدين إلّا منهم أجمعهم، فالمجتمع المتكون منهم هو الذي أمره الله وندبه إلى ذلك من غير مزيّة في ذلك لبعضهم )(١) .

إنّ توجيه الخطاب بهذه التكاليف إلى المجتمع، إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المجتمع بما هو مجتمع عليه أن يقوم بها كما يقوم الفرد بواجبه الدينيّ، وهي على نحو الواجب الكفائّي الذي يجب على الجميع القيام بها أوّلاً وبالذات، فإن قام بها أحد سقطت عن الآخرين، وأمّا إذا لم يقم بها أحد كان الجميع عصاةً مسؤولين.

وحيث أنّ هذه التكاليف والواجبات المتوجّهة شرعاً إلى المجتمع ممّا لا يمكن

__________________

(١) الميزان ٤: ١٢٢ ـ ١٢٣.

٢٠١

القيام بها وأدائها دون جماعة متفرّغة لذلك، ودون جهاز حكم يتولّى تنفيذها، توجّب على المجتمع الإسلاميّ أن يقوم بتشكيل دولة يعهد إليها مسؤولية القيام بهذه التكاليف، وتطبيق النظم الاجتماعيّة الإسلاميّة، والوظائف المتوجهة إلى المجتمع أساساً، وذلك صيانةً للمجتمع من الإنهيار، وحفظاً لمصالحه وشؤونه، إذ بغير هذه الصورة لن يكون هناك إلّا الهرج والمرج والفوضى والفساد الذي يأباه الإسلام بشدّة، وترفضه تعاليم السماء أشدّ الرفض.

من هذا البيان المقتضب، يمكن لنا أن نستنبط كون الاُمّة والمجتمع هو مصدر السلطات الحكوميّة، ولكن ليس مصدراً مطلقاً بل مصدراً في إطار الحاكميّة الإلهيّة والقوانين الإسلاميّة، فالناس في الدين الإسلاميّ هم المكلفون بتشكيل الحكومة والدولة وتعيين الحاكم وانتخابه ـ إن لم يكن هناك حاكم منصوص عليه من جانب الله ـ لقيادة الاُمّة، وإدارة شؤونها، وتطبيق الشريعة الإلهيّة في المجالات الاجتماعيّة، لأنّهم هم المخاطبون بالخطابات المذكورة ولـمّا لم يكن في مقدورهم جميعاً القيام بذلك بأشخاصهم، لزم أن يبادروا إلى استنابة من يقوم بها.

أليس المجتمع ـ حسب منطق القرآن ـ هو الذي توجه إليه الأمر بقطع السارق وحدّ الزاني وردّ المعتدي وحفظ الثغور، وإقامة النظام الدينيّ ؟؟.

أفلا يدلّ ذلك ضمناً على أن الإسلام سمح للمجتمع الإسلاميّ بأن يشكّل الدولة التي تتولّى القيام بهذه الواجبات الاجتماعيّة، لأنّ الإسلام جعل هذه التكاليف في عهدة المجتمع، وطلب منه أداءها ؟ وهل يمكن للمجتمع الذي يقوم كلّ صنف من أصنافه بتكفُّل جانب ضروريّ من الجوانب المعيشيّة، بكلّ تلك الواجبات الاجتماعيّة والإداريّة والسياسيّة، دون جهاز حكوميّ متفرّغ ينّفذ ويراقب ويضمن إجراء القوانين الإلهيّة في المجالات المذكورة ؟

وهل يمكن أن يريد الإسلام إقامة الاُمور الاجتماعيّة والنظم الاجتماعيّ ولا يريد مقدّمة ذلك وهي تشكيل دولة تقوم وتتعهّد بتوزيع المسؤوليات وحفظ الحقوق.

٢٠٢

وحراسة العلاقات ؟

وهكذا تكون الاُمّة ـ في نظر الإسلام ـ مصدر السلطة الذي له أن يختار وينتخب حكّامه، وتكون الحكومة نابعةً من إرادته.

* * *

٥. العقلُ وتشكيل الدولة

يعتبر ( العقل ) أحد الأدلّة الشرعيّة التي يستند إليها الفقهاء في استنباط الأحكام جنباً إلى جنب مع القرآن والسّنة والاجماع.

وقد أشبع العلماء البحث في حجّية العقل في الموارد التي له الحكم فيها.

لقد دلّ العقل هذا على وجوب تشكيل الدولة من جانب الاُمّة، وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنسانيّ ومن المعلوم أنّ حفظ النظام الإنسانيّ من الواجبات العقليّة التي يحتِّمها العقل على البشر.

فإنّه يتوجب على البشر ـ بحكم العقل ـ أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته، إذ في ظلّ النظام يمكن أن يحصل الإنسان على سعادته وسلامته ويضمن مصالحه ومستقبله.

ولأجل هذا، نجد الشعوب تقرّر أنظمةً وقوانين لحفظ هذا النظام رغم أنّ بعضها لا يتديّن بدين ولا يتمسّك بشريعة إلهيّة.

وهذا إنّما يدلّ على أنّ موضوع إقامة النظام الاجتماعيّ، ممّا يقرُّ به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهةً، قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع ودين.

فهذه إذن حقيقة لا نقاش فيها.

ولكن ترى، هل يمكن للمجتمع أن يقوم بنفسه ـ ورغم عدم تخصُّصه في شؤون الإدارة، وعدم تفرغه لها ـ بحفظ النظام وإقراره ؟ أو هل يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد أن يؤمن الناس بهذه الحقيقة إيماناً مجرّداً من أي رادع، ومن دون أنّ يكون ثمة جهاز يتولّى

٢٠٣

مسؤولية الحفاط على النظام الاجتماعيّ الذي يدعو إليه العقل ويطلبه العقلاء، وينادون به.

والحقّ أنّ مجرّد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعيّ وبحجّة أنّه يكفل سعادة الفرد والمجتمع، من دون إقامة ( دولة )، لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام، ولذلك فإنّ العقل نفسه يحتِّم على البشر أن يقيم جهازاً يعهد إليه حفظ النظام، ولأجل ذلك لم يخل ـ كما قلنا ـ أي مجتمع بشريّ من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفّل إقرار النظام الاجتماعيّ المطلوب.

وهذا خير دليل على، أنّ للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات فهي إذن مصدرها، وهذا هو بالضبط ما يؤكّده الإسلام ويؤيّده، إذ الشرع كما يقولون يعضد العقل ويؤيّده فيما تكون فيه مصلحة الناس ومنفعتهم وخيرهم.

* * *

٦. سيرة المسلمين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

إنّ الصحابة ـ بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أحسّوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكوميّ يخلف القيادة النبويّة، يلمّون به شعثهم ويحفظون به اجتماعهم، فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الاُمّة وقيادة البلاد، وإن كان ذلك لا يخلو من علّة وعلاّت، كما أوضحناه.

إنّ الصحابة ـ وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من جانب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن عليّاًعليه‌السلام إماماً للمسلمين من بعده، كما تدلّ الأخبار القطعيّة والأحاديث المتواترة(١) على ذلك ـ إلّا أنّ فعلهم كان يدلّ في حدّ نفسه على أنّ الطريق الطبيعيّ لتأسيس الحكومة وإقامتها، هو انتخاب الاُمّة للحاكم والقائد، لولا النصّ.

* * *

__________________

(١) لقد أشرنا إلى بعض مصادر هذه النصوص في الصفحة ١٠٤ ـ ١٨١ من هذا الكتاب وتركنا الكثير.

٢٠٤

٧. سلطةُ الناس على أموالهم وأنفسهم

إنّ من أبرز مسلّمات الفقه الإسلاميّ هو قاعدة ( سلطة الإنسان على ماله ) التي هي مفاد قول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس مسلطون على أموالهم »(١) .

فإذا كان الناس مسلّطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلّا بإذن أصحابها، فهم ـ بطريق أولى ـ مسلّطون على أنفسهم، فلا يجوز لأحد أن يحدّد حرياتهم، ويحمل نفسه عليهم أو يتصرّف في مقدّراتهم وشؤونهم دون إذنهم.

هذا من جانب.

ومن جانب آخر نرى ؛ أنّ إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرّفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لحرياتهم المشروعة بالذات، فإنّ الجمع بين هذين الأمرين ( سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم، واستلزام أقرار النظام، التصرّف في تلك الأموال والنفوس )، هو بأن تكون الدولة التي تقيم النظام نابعةً من انتخاب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ.

وبعبارة أوضح: إنّ سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرّف فيها بالضرورة لأنّ من النظام أخذ الضرائب، وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها، وذلك بوضع القيود اللازمة عليها، وتنظيم الحريات والعلاقات

__________________

(١) مبدأ البرهان في هذا الدليل هو القاعدة المسلّمة بين الفقهاء وهي ( الناس مسلّطون على أموالهم ) وقلنا: إذا كان الناس مسلّطين على أموالهم فبالأولى أن يكونوا مسلّطين على نفوسهم.

غير أنّه يجب التنبيه على نكتة وهي أنّ الأولوية في الجانب السلبيّ لا الجانب الإيجابيّ.

والمقصود من الجانب السلبيّ أنّه إذا كان للأنسان أن يردّ الغير عن التصرّف في ماله فبالأولى يكون له ردُّ الغير عن التصرّف في نفسه، إذ جواز الردّ في جانب الأموال يستلزم جوازه في جانب النفس بطريق أولى.

وأمّا الجانب الإيجابيّ فليست هناك أيّة ملازمة والمراد منه هو أنّه إذا جاز للرجل أن يتصرّف في ماله فبالأولى له أن يتصرّف في نفسه، ومن المعلوم بطلان هذه الملازمة.

٢٠٥

وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال، واستحضار الأفراد للخدمة العسكريّة، وما شابه ذلك ممّا يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره، ولـمّا كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان ممّا لا يتحقّق إلّا بإقامة دولة قويّة ذات سلطة واقتدار، يتراءى ـ في بادئ النظر ـ أنّه يصطدم مع ما أقرّه الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحلّ، هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعةً موقع رضاهم، حتّى يكون التصرّف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلّمة ( الناس مسلطون على أموالهم ) وعلى أنفسهم.

* * *

٨. الحكومة أمانةٌ عند الحاكم

إنّ تشكيل الدولة وانتخاب الحاكم الأعلى، حقّ اجتماعيّ للاُمّة ولها أن تستوفي هذا الحق متى شاءت وأرادت وهذا يعني أنّ الحكومة ( أمانة ) عند الحاكم تعطيها الاُمّة له، وعليه أن يحرص على الأمانة غاية الحرص، ويواظب على أدائها أشدّ المواظبة.

أقول: إنّ هذه الحقيقة تستفاد من بعض الآيات والأحاديث العديدة التي تصف الحكم بأنّه أمانة، ومنها قول الله سبحانه:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء: ٥٨ ـ ٥٩ ).

إنّ الخطاب في قوله سبحانه( يَأْمُرُكُمْ ) موجّه إلى الحكام بقرينة قوله( وَإِذَا حَكَمْتُم ) وهذه قرينة على أنّ الأمانة المذكورة هي: الحكومة.

ويؤيّد كون المراد من الأمانة هو ( الحكومة ) ما جاء في الآية الثانية من الحثّ على إطاعة الله وإطاعة الرسول واولي الأمر، فمجيء هذه الآية عقيب الآية المتضمنة لكلمة الأمانة، يؤيّد أنّ المراد بالأمانة المذكورة هو ( الحكومة ) وأنّ الكلام في الآيتين إنمّا هو

٢٠٦

حول ( الحكومة ) وما لها وما عليها من الحقوق والواجبات.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الآية يتوقف على كون المراد من أهل الأمانة هو « الناس » فعندئذ تدل الآية على، أنّ الحكومة نابعة من جانب الاُمّة، وإن كانت نابعةً من جانب الله بالأصالة، وهي أمانة بيد الحاكم، ووديعة في عنقه، يطلب منه أداؤها. غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود من أهل الأمانة هو ( الله ) سبحانه وتعالى، فإن الحكومة له لا غير كما قال في كتابه الكريم:( إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ ) ( يوسف: ٤٠ ) فعندئذ لا يتمّ الاستدلال بالآية على المطلوب، ولكنّ الإجابة عن هذا الاحتمال واضحة، فإنّ الحكومة كما قلنا في الجزء الأوّل، حقّ ذاتيّ لله تعالى، ولا يعني من كونه حقّاً للناس أنّه حقّ أصيل لهم في قبال كونه حقّاً لله سبحانه، بل المراد أنّه حقّ أعطاه الله سبحانه له.

وبعبارة أخرى: ليس المقصود أنّ للشعب سيادةً وحاكميّةً في عرض السيادة والحاكميّة الإلهيّة، بل هما حقّان من نوعين، أحدهما حقّ مستقل وذاتيّ، والآخر حقّ تبعيّ موهوب، وهما لذلك يجتمعان دونما تضادّ وتباين، ولا منافاة بين أن يكون أهل الأمانة هو الاُمّة أو الله سبحانه.

وممّا يؤيّد القول بأنّ المراد من ( اهلها ) هو الناس، ما ورد في هذا الصدد من الاحاديث التي يستفاد منها كون ( الحكومة ) أمانة في عنق الحاكم، أو أنّ الحكّام خزّان الرعيّة ومؤتمنون على الحكومة، ومسؤولون عنها، إلى غير ذلك من النصوص التالية :

يقول الإمام عليّعليه‌السلام لأحد ولاته: « إنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة وأنت مسترعىً لما فوقك ليس لك أن تفتات في رعيّة »(١) .

ويقولعليه‌السلام أيضاً: « أيّها الناس إنّ أمركم هذا ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وإنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم معي »(٢) .

ويقول الإمامعليه‌السلام أيضاً: « انصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥).

(٢) الكامل لابن الأثير ٣: ١٩٣.

٢٠٧

فإنّكم خزّان الرّعيّة ووكلاء الاُمّة »(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً ما روي حول الآية عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوه، وأن يجيبوه إذا دعوا »(٢) .

فهذه العبارات صريحة في كون الاُمّة هي صاحبة الأمانة، التي هي الحكومة والسيادة، لأنّ الحكام حسب هذه النصوص ليسوا إلّا حفظةً للسلطة وحراسها وخزاناً لها لا أصحابها. ويؤيّد ذلك أيضاً، أنّ الروايات والأحاديث تضافرت من أهل البيت: حول الآية، وهي تفسرها بالإمامة التي يجب على كلّ إمام أن يؤدّيها إلى الإمام الذي بعده.

ففي تفسير البرهان في قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلى آخر قوله تعالى) عن زرارة عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا ) فقالعليه‌السلام : « أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده ليس له أن يزويها عنه، ألا تسمع قوله:( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ) هي الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام »(٣) .

نعم، إنّ الجمع بين المعنى ( وهو كون المقصود من الأمانة هو الحكومة التي تسلمّها الاُمّة إلى الحاكم ) والمعنى الثاني ( الذي روي عن أهل البيت من أنّ المقصود هو أداء كلّ إمام الإمامة إلى من بعده ) يحتاج إلى تأمّل ودقة تفكير.

ويؤيّد ما ذهبنا إليه، أنّ المفسر الإسلاميّ الكبير الطبرسيّ فسّر ( الأمانة ) في الآية بأنّ المراد هو ( الفيء وغير الفيء ) الذي يجب إيصاله إلى الاُمّة، أصحابها

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٥١٥).

(٢) الأموال لأبي عبيد: ١٢، ٣٨٨.

(٣) تفسير الميزان ٥: ٣٨٥ نقلاً عن البرهان قال العلاّمة الطباطبائيّ: وصدر هذا الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام .

٢٠٨

الحقيقيين وهو داخل في موضوع الحكومة، وأعمالها وصلاحياتها ومسؤوليّاتها ويقول: ( ومن جملتها ( أي من جملة الأمانات ) الأمر لولاة الأمر بقسم الصدقات والغنائم وغير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة )(١) .

ويؤيّد ذلك أيضاً أنّ الإمام الباقر محمّد بن عليّعليه‌السلام قال في ذيل هاتين الآيتين: « آيتان إحداهما لنا، والأخرى لكم »(٢) .

وعنى الإمام بالاولى قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) وبالثانية قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .

٩. كتب الإمام الحسن بن عليّعليه‌السلام إلى معاوية قبل نشوب الحرب بينهما: « إنّ عليّاً لـمّا مضى لسبيله ( رحمة الله عليه يوم قبض ويوم منّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّا ) ولاّني المسلمون الأمر من بعده فادخل فيما دخل فيه النّاس »(٣) .

وهذه العبارات صريحة في أنّ القاعدة المركوزة في أذهان المسلمين ( لولا التنصيص من الله سبحانه على شخص معيّن ) هي انتخاب المسلمين لحاكمهم، بحيث يجب ـ بعد انتخابه ـ دخول المخالف والمعارض فيما دخل في جمهرة الناس، ولذلك مضى الإمام الحسنعليه‌السلام يلفت نظر معاوية إليها.

١٠. ذمّ الإمام الصادقعليه‌السلام من يجبر الناس على حكمه بالسوط والسيف: ممّا يعني أنّ الشارع المقدس لا يرضى بالحاكم الذي يحمل نفسه على رقاب الناس قهراً ويحكمهم دون رضاهم، وذلك عندما قال له رجل: إنّه ربّما تكون بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا ؟ [ أي هل فيه بأس ] فقال الإمامعليه‌السلام : « هذا ليس من ذاك إنّما ذاك الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسّوط »(٤) .

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان ٢: ٦٣.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤: ١٢.

(٤) المستدرك ٣: ١٨٧ نقلا عن دعائم الإسلام.

٢٠٩

١١. قال الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :

« الواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالاً كان أو مهتدياً، مظلوماً كان أو ظالماً، حلال الدم أو حرام الدّم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدّموا يداً ولا رجلاً ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم، عفيفاً، عالماً، ورعاً، عارفاً بالقضاء والسنّة يجمع أمرهم، ويحكم بينهم، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم، ويقيم حجّتهم ويجبي صدقاتهم »(١) .

وهو صريح في أنّ على الاُمّة أن تبادر إلى انتخاب حاكمها ( لولا النصّ على أحد طبعاً ).

١٢. وممّا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ القاعدة المركوزة في أذهان الناس في مجال الحاكم كانت هي أن يكون الحاكم منتخب الاُمّة، أو موضع رضاها على الأقلّ هو ما كتبه رجال من أهل الحكومة إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليك فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتآمر عليها بغير رضا منها ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ».

ولأجل ذلك كتب الإمام الحسينعليه‌السلام إليهم قائلاً: « أن بلغني أنّه قد اجتمع رأي ملئكم ذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم »(٢) .

فهذه الوجوه الاثنا عشر ـ عند التدبّر ـ تعطي للاُمّة، الحريّة الكاملة في انتخاب حكامّها تحت الضوابط الشرعيّة أو تدلّ ـ على الأقلّ ـ على لزوم كون الحكومة مورد رضاها.

__________________

(١) أصل سليم بن قيس: ١٨٢، وبحار الأنوار ٨: ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٢) الكامل للجزري ٣: ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

٢١٠

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل :

قد اتضح من البحث المتقدّم، أنّ رضا الاُمّة وانتخابها يعدّ منبعاً للسلطة، وعندئذ ينطرح السؤال التالي :

إذا كانت إرادة الاُمّة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلاميّة وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطيّة الغربيّة أيضاً فما الفرق بين الحكومتين ؟

الجواب :

إنّ المراد بكون الاُمّة ذات سيادة وحقّ في الحكومة الإسلاميّة يختلف عن السيادة الشعبيّة التي تقول بها الأنظمة الديمقراطيّة.

فالاُمّة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً متّصفاً بالشروط والصفات المعتبرة في الحاكم الإسلاميّ، من الفقه والعدل والدراية السياسيّة والمقدرة الإدارية، وغيرها من الشروط والمواصفات التي سيأتي ذكرها مفصّلاً في صفات الحاكم بينما يختلف الأمر عمّا هو عليه في الديمقراطيّة إذ في ظل هذا النظام يحقُّ للشعب أن يختار من يريد سواء أكان صالحاً أم لا، وسواء أكان متحلّياً بالمؤهّلات والشروط المذكورة أم لا.

كما أنّ على الحاكم الإسلاميّ الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلاميّ وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة، بينما يكون الأمر في النظام الديمقراطيّ على غير هذا

٢١١

النحو ؛ حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتئيه صالحاً كان أو فاسداً، وحقّاً كان أو باطلاً.

وبذلك يظهر، أنّه لا جامع ولا تشابه بين النظامين حتّى يرد على الاسلوب الإسلاميّ في ( انتخاب الحاكم من جانب الشعب ) ما يرد على الاسلوب الديمقراطيّ ولأجل ذلك، نجد أنفسنا في غنىً عن الإجابة على تلكم الإشكالات والاعتراضات والمؤاخذات. نعم لا بأس مع ذلك بالإشارة إلى ما أورد على الديمقراطيّة من اعتراضات ومؤاخذات تتميماً للفائدة.

مؤاخذاتٌ على الديمقراطيّة

إنّ الديمقراطيّة التي يعنى منها حكومة الشعب على الشعب عن طريق انتخاب النوّاب والحكام وذلك على النمط الغربيّ الذي يعتمد على تغليب الأكثريّة وترجيح آرائها، ينطوي على ثلاثة معايب رئيسيّة :

أوّلاً: إنّ الحاكم المنتخب يكون تابعاً للناس، وليس تابعاً للمصالح والحقائق، فإنّ الحاكم الذي يعتمد على آراء الناس وأصواتهم ( لا الضوابط والمؤهّلات والمعايير ) سيحاول دائماً أن يفعل ما يرضيهم، ويخطب ودّهم ويحقّق ما يشاؤون حقّاً كان أو باطلاً، وسيحاول مثل هذا الحاكم والنائب أن يكيِّف نفسه وفق أهواء ناخبيه، لا أن يهديهم ويرشدهم إلى مصالحهم الحقيقيّة، ويعمل بما يقتضيه الواقع في شأنهم، فما أكثر النوّاب الذين تجاهلوا نداءات الضمير إرضاءً للناس وإبقاءً على تأييدهم وكسباً لآرائهم وأصواتهم في المراحل التالية والدورات الاخرى. وما أكثر الأشخاص الصالحين الذين أرادوا أن يتّبعوا الحقّ والمصلحة الحقيقيّة لإرضاء الناس فخسروا تأييد الناس، وخسروا أصواتهم.

ثانياً: إنّ الشرط الأساسيّ لصحّة الانتخاب الشعبيّ، هو أن يكون الناخبون على درجة من الرشد الفكريّ والوعي والبصيرة حتّى لا يقعوا فريسة العواطف الرخيصة

٢١٢

والحادّة عند اختيار النوّاب أو الحكّام.

فلو توفر مثل هذا الشرط كان الانتخاب انتخاباً صحيحاً، ومفيداً.

ولكنّ المشكلة هي أنّ الأكثريّة الساحقة والتي هي الملاك في النظام الديمقراطيّ تفقد مثل هذه البصيرة والوعي والرشد الفكريّ، فإنّ الوعي والتفكير يختصان بطبقة خاصّة دون جمهرة الناس وسوادهم، فهي وحدها تفعل على بصيرة وبوعي، وأمّا الأكثرية الساحقة، فتتّبع في فعلها وتركها الأهواء الشخصيّة والتوجيهات التي يقوم بها اللاعبون خلف الستار من السياسيين ومحترفي السياسة.

فهل يمكن أن ننسى ما يعمله المرشّحون للنيابة أو الرئاسة لكسب هذه الأكثريّة من التوسل بجميع الوسائل الإغرائيّة، والأجهزة الدعائيّة والإعلاميّة ؟ فهم يستخدمون كل وسيلة رخيصة حتّى الفتيات والراقصات والأفلام الخليعة وإعطاء الوعود الخلاّبة، لاكتساب المزيد من أصوات الناس، إذ بهذه الاُمور يمكن الاستحواذ على عواطف أكثرية الجماهير، واستمالتهم، تلك الأكثريّة التي تتألف ـ في الأغلب ـ من السذّج، والبسطاء وغير المثقفين، فكيف يمكن أن تكون هذه الأكثرية ملاكاً لصحّة الانتخاب ومشروعيّته ؟

ثالثاً: إنّ تغليب الأكثريّة ولو بصوت واحد لا يكون ( عدلاً ) مضافاً إلى أنّه لا يجعل ما اختارته الأكثريّة ( حقاً ) لا نقاش فيه.

وإنّما لا يكون عدلاً، لأنّ تغليب هذه الأكثريّة ـ حتّى لو حصلت باسلوب صحيح بعيد عن المؤثّرات والإغراءات والاحتيالات ـ تجاهل لحقّ ما يقارب نصف المجتمع ومصالحه وإجحاف بحقّهم وهو إجحاف أدركه الغرب نفسه وتفطّن له كبار مفكّريه، وحقوقيّيه، واجتماعيّيه، ولكنّه لم يجد مفرّاً منه لأنّه لايعرف نهجاً بديلاً عنه، ولأجل ذلك لا يكون حقاً أيضاً.

هذه بعض معايب الديمقراطيّة وانتخاب الشعب لحكّامه ونوّابه على النهج الشائع في الأنظمة الديمقراطيّة وهو قليل من كثير.

٢١٣

وهي معايب واُمور يعاني الغرب من تبعاتها وآلامها أشدّ العناء، ويتحمّل بسببها أشدّ الأذى. ولذلك يبدو ؛ أنّ الانتخاب الشعبيّ للحاكم لا يكون مثالياً ولا صالحاً.

غير أنّ ما يقرّره النظام الإسلاميّ عار عن هذه المعايب ؛ وخال عن هذه المؤاخذات وذلك لوجوه هي :

أوّلاً: أنّه لا شكّ في أنّ أفضل أنواع الحكومات هو ( الحكومة التنصيصيّة الإلهيّة ) وإنّما الكلام هو فيما إذا لم يمكن التوصّل إلى هذا النوع فإنّه لن يكون سوى طريق واحد هو، قيام الاُمّة بانتخاب حكامها، بدلاً من أن يتسلّط على مصيرها ومقدّراتها بالقوّة، من يستبدّ برأيه، ويستأثر بفيئها، ولا يكون للناس في الأمر أي إرادة وكلمة.

ثانياً: انّ هذه الاعتراضات والمؤاخذات إنّما ترد على الانتخاب على النمط الغربيّ، والذي يجري في المجتمعات والبيئات الغربيّة التي لا تتمتّع بتربية أخلاقيّة ودينيّة رفيعة، والتي لا تخضع لأيّ شروط أو مواصفات موضوعيّة ومنطقيّة لا في الناخب ولا في المنتخب، ولا يعتبر سوى المزيد من الآراء والأصوات التي تباع وتشترى، وتكتسب بالأبواق وأجهزة الإعلام، وتحت تأثير الدعايات البرّاقة والوعود المنمّقة، لا ما يجري في البيئة الإسلاميّة وعلى النمط الإسلاميّ، الذي يشترط فيه للحاكم شروط ومواصفات تجعله رجلاً مثالياً في الأخلاق، نموذجيّاً في الإدراة، ويشترط على المنتخب، أن لا يختار إلّا من تتوفّر فيه الشرائط المعتبرة في الحاكم المثاليّ(١) ، إذ لولا ذلك لكان عمله من باب الركون إلى الظالم الذي أوعد الله عليه بالعذاب الأليم وبالنار إذ قال:( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) ( هود: ١١٣ ).

فيكون الانتخاب ـ في ظل النظام الإسلاميّ على العكس من النظام الديمقراطيّ ـ مسؤوليّةً للناخب والمنتخب، وليس لعبةً سياسيّة.

ثالثاً: إنّ الأدلّة الإسلاميّة تدلّ على أنّه يجب على الفقيه العادل، بل على كلّ

__________________

(١) ففي الحديث: « إنّما الإمام هو الحاكم بالكتاب الحابس نفسه على ذات الله إلى آخره » وسوف توافيك تلك الشروط في محلّها في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

٢١٤

مسلم ملتزم إذا رأى بدعةً شائعةً، وحكومةً منكرةً القيام ضدّها، ورفض شرعيّتها، وشجب عملها بل والإعلان عن إلغائها، بحكم ماله من الولاية التي له من جانب الله سبحانه كما يقول الإمام الحسينعليه‌السلام : « أيُّها الناس إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقُّ من غيّر »(١) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها »(٢) .

وبهذا يأمن المجتمع الإسلاميّ من مخاطر الانتخاب الشعبيّ، ويسلم من تبعاته وسيئاته.

إنّ افتقاد الانتخاب الشعبيّ على النهج الديمقراطيّ الغربيّ، الضمانات التي أقامها الإسلام في الانتخاب، هو الفارق الكبير بين الانتخابين ( الإسلاميّ والغربي ) وهو بالتالي يكون سبباً لفشل الديمقراطيّة الغربيّة بخلاف الإسلام.

إنّ المجتمع الإسلاميّ الذي يرسم القرآن ملامحه في آيات عديدة ويلخِّصها في قوله:( مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) ( الفتح: ٢٩ ).

إنّ مجتمعاً كهذا، من الجدير أن لا ينتخب لإدارة شؤونه إلّا ( حكومةً ) رشيدةً أمينةً رساليّةً مؤمنةً، وفيّةً للدين، ملتزمةً بالإسلام، ومخلصةً لمصالح الاُمّة وذلك على العكس من النظام الديمقراطيّ.

إنّ الأخذ بالضوابط والمقاييس التي ذكرها واشترطها الإسلام للقادة والزعماء ،

__________________

(١) الطبري ٤: ٣٠٤.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

٢١٥

كفيل أيضاً بأن يزيل جميع الاعتراضات الواردة على الانتخاب الشعبيّ ويحقّق أفضل حكومة من نوعها بين الحكومات.

* * *

السؤال الثاني :

إذا كان انتخاب الحاكم الأعلى غير مختص بفريق معيّن من أفراد الاُمّة، فلماذا يقول الإمام عليّعليه‌السلام في بعض رسائله: « وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً »(١)

الجواب :

إنّ السبب في حصر الإمام عليّعليه‌السلام حقّ انتخاب الإمام في المهاجرين والأنصار ـ بغضِّ النظر عن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذه الرسالة ـ هو تعذّّر إجراء الاستفتاء العامّ الشامل، وعدم إمكان استعلام آراء المسلمين كلّهم في ذلك العهد، الذي كان يفقد الوسائل الكافية للاتصال بجميع أفراد الاُمّة. وحيث أنّ تأخير الانتخاب للحاكم الأعلى ريثما يتمّ الوقوف على كلّ آراء المسلمين جميعاً، كان ينطوي على تعريض الاُمّة الإسلاميّة لأخطار جديّة حقيقيّة لا تخفى على كلّ من يعرف الأوضاع في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام، نجد الإمامعليه‌السلام يختار هذا الاُسلوب ويعلّل ذلك بقوله: « ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك من سبيل، ولكنّ أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار »(٢) .

كيف لا وقد مر عليك أيّها القارئ الكريم أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام صرّح في بعض خطبه بوضوح لا يقبل جدلاً، أن إرادة الاُمّة الإسلاميّة، هي مصدر السلطات، وأنّ الحكومة يجب أن تكون موضع رضا الناس(٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة رقم (٦).

(٢) نهج البلاغة: الرسالة (١٧٣) طبعة عبده.

(٣) راجع الصفحة ٢٠٧ ـ ٢٠٨ من هذا الجزء.

٢١٦

لقد كان المهاجرون والأنصار ـ في ذلك العهد ـ بحكم سبقهم إلى الإيمان بالإسلام بمنزلة وكلاء الاُمّة الإسلاميّة، فكان ما يختارونه يقرّه الآخرون. ولأجل ذلك، اعتبر الإمام عليّعليه‌السلام ما يختاره شورى المهاجرين والأنصار ومن يتّفقون عليه للحكم، حجّةً نافذةً على الآخرين.

ولا بأس بأن نذكر في خاتمة هذا الجواب، أنّ انتخاب الحاكم الأعلى للدولة كما يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب الاُمّة مباشرةً، كذلك يمكن أن يتحقّق عن طريق انتخاب نوّابها للحاكم الأعلى، ويكون مآل ذلك إلى رأي الاُمّة أيضاً.

ولعلّ ما ذكره الإمام عليّعليه‌السلام كان إشارةً إلى هذا الاُسلوب وكأنّ المسلمين في ذلك العصر كانوا ـ لاعتمادهم على المهاجرين والأنصار ـ يعدّونهم نوّاباً لهم، وإن لم يصرّحوا بذلك لفظاً.

يقول صاحب المنار في شأن هؤلاء المهاجرين والأنصار: ( وقد كانوا ( أي المهاجرين والأنصار ) في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يكونون معه حيث كان، وكذلك كانوا في المدينة قبل الفتوحات ثمّ تفرّقوا وكانوا يحتاجون إليهم في مبايعة الإمام ( الخليفة ) وفي الشورى وفي السياسة والإدارة والقضاء فأمّا المبايعة، فكانوا يرسلون إلى البعيد من اُمراء الأجناد، ورؤوس الناس في البلاد من يأخذ بيعتهم )(١) .

ثمّ إنّ استدلال الإمام بشورى المهاجرين والأنصار مع كون إمامته وخلافته منصوصاً عليها من جانب الله سبحانه، إنّما هو من باب الجدل وإفحام الخصم، وسيأتيك تفصيل ذلك عند البحث عن نظرية « الشورى أساس الحكم ».

السؤال الثالث :

لمّا كان الاتفاق على شخص واحد أمراً مستحيلاً عادةً، فعندئذ كيف ينتخب الحاكم الأعلى ؟ هل بتغليب الأكثريّة على الأقليّة، وذلك مناف لأصالة الحريّة الإنسانيّة

__________________

(١) المنار ٥: ١٩٥.

٢١٧

الفرديّة وقاعدة سلطة الإنسان على ماله ونفسه، ومستلزماً لبخس حقوق الأقليّة.

الجواب :

إذا نظرنا إلى الحياة الإنسانيّة من الزاوية الفرديّة، وأخذنا الإنسان بمعزل عن المجتمع، جاز لنا أن نستنكر هذا الترجيح، ونعتبره نقضاً صريحاً لحريّته الفرديّة وحقّه في الأخذ برأيه وانتخابه واختياره إذ لا مبرّر لذلك، ولا مسوّغ فلكلّ إنسان حقّ في إبداء رأيه وتنفيذه، ولا سلطة لأحد على أحد كما أسلفناه.

ولكنّنا لو نظرنا إلى ( الحياة الإنسانيّة ) من الزاوية الاجتماعيّة ودرسنا الإنسان والفرد وهو ضمن مجتمع متكوّن من أفراد آخرين، ذوي حقوق ومصالح مماثلة، فإنّ الحياة والعيش بالكيفيّة الاجتماعيّة حينئذ تقتضي القبول بكلّ لوازمها، ففي الحياة الاجتماعيّة تضمن المصالح، والحريّات الفرديّة في إطار المصلحة الاجتماعيّة، إذ بذلك وحده يمكن التوصّل إلى الاستقرار الاجتماعيّ وتحقيق السعادة الاجتماعيّة العامّة التي يتوقف عليها الاستقرار الفرديّ، وتتحقق في ظلّها السعادة الفرديّة ولـمّا كان الطريق الوحيد إلى حفظ النظام الاجتماعيّ وصيانة مصالح الاُمّة متوقّفة ـ بعد التشاور والمداولة ـ على ترجيح إحدى الطائفتين المختلفتين في الرأي على الاُخرى، فلا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، لأنّ تغليب الأقليّة على الأكثريّة عند العقلاء ترجيح للمرجوح على الراجح.

من هنا يلزم على الأقليّة القبول برأي الأكثريّة وانتخابها، والتنازل عن حقّها ورأيها.

وبعبارة اُخرى: إنّ الحياة الاجتماعيّة تشبه شركة مساهمة، يشترك فيها الأفراد المتعددون بالأسهم، فكما أنّ على مشتري السهم أن يتّبع في شرائه للسهم، ومشاركته في تلك الشركة برنامج الشركة المدوّن، ويكون شراؤه بمثابة الموافقة الضمنيّة على ذلك البرنامج، فإنّ العيش ضمن الحياة الاجتماعيّة يعتبر إمضاءً لشروط الحياة الاجتماعيّة، وقبولاً بمستلزماتها وأحكامها إذ لا بقاء للحياة الاجتماعيّة، ولا قيام لأمرها إلا بهذا

٢١٨

الطريق، كما لابقاء للشركة المساهمة إلّا بموافقة أصحاب الأسهم على برنامج الشركة وأهدافها، والقبول بمتطلباتها فهو باختصار، أشبه شيء بالشرط في ضمن العقد كما هو المصطلح في الفقه، والاعتراف بالملزوم اعتراف بلازمه.

* * *

الفرق الواضح بين الترجيحين

يمكن أن ينطرح في ذهن القارئ الكريم، أنّ ما أخذنا به على الديمقراطيّة الغربيّة جار في المقام، إذ قلنا هناك بأنّ ترجيح الأكثريّة ولو بصوت واحد بخس وتجاهل لحقّ الأقليّة، وعندئذ فما الفرق بين الترجيحين الحاكمين في الديمقراطيّة الغربيّة والحكومة الإسلاميّة ؟

غير أنّ القارئ الكريم الذي لمس حقيقة الحكومة الإسلاميّة يقف على الفرق الجوهريّ بين الترجيحين، فإنّ الأكثريّة في النظام الديمقراطيّ الغربيّ تأخذ بزمام الحكم وتتصرف في مصير المجتمع بأيّ نحو شاءت، وليس هناك ضابطة غالباً تحدد تصرّفاتها في مقابل الأقليّة، سواء أكانت في مجال التقنين والتشريع أم في مجال التطبيق والتخطيط، إذ لا يشترط في المتصرِّف شيء من الشرائط سوى تصويت الأكثريّة له. ولذلك لا رادع هناك من أي بخس وتجاوز لحقوق الأقليّة من جانب الأكثريّة الحاكمة.

أمّا الحكومة الإسلاميّة، فالأقليّة والأكثريّة كلاهما يتّبعان حكماً وقانوناً واحداً لا يختلفان في ذلك أبداً، فليس لهما إلّا الاتّباع لما شرعه الإسلام وجاء به الكتاب والسنة، وإنمّا الاختلاف في اُسلوب التطبيق والتخطيط، فليس للحاكم الأخذ بزمام الحكم أن يتجاهل حقوق الأقليّة، كما أنّه ليس للطرف الآخر الخروج عن دائرة الحقّ والعدل المتمثّلين في الشريعة المقدسة فتبقى هناك مسألة التصدّي لمقام الحكم ولا مناص من ترجيح الأكثريّة على الأقليّة حفظاً لنظام المجتمع وإبقاءً على وحدته وكيانه، ويتضح ما ذكرناه إذا لاحظنا مواصفات الحاكم وشرائطه في الحكومة الإسلاميّة كما ستوافيك في الفصل القادم.

٢١٩

السؤال الرابع :

ولاية الفقيه ومكانتها

في

الحكومة الإسلاميّة

ربّما يتصور البعض، أنّ القول بولاية الفقيه التي اتّفق على أصلها في الجملة جميع الفقهاء في فقه الإماميّة، يتنافى مع ما مر تقريره من إثبات السيادة للاُمّة وحقّها في انتخاب حكّامها ونوّابها.

الجواب :

إنّ البحث في ولاية الفقيه، وتوضيح حقيقتها ودلالتها، وبيان ما حولها من حقائق، يحتاج إلى تأليف رسالة، وقد أغنانا عن ذلك ما كتبه قائد الثورة الإسلاميّة الإمام الخمينيّقدس‌سره فنقول باختصار :

إنّ ما ذكرناه في « صيغة الحكومة الإسلاميّة » وتركيبتها هو ما يمكن لكلّ مطالع في الإسلام، استنباطه من الكتاب والسنّة بجلاء، غير أنّ هناك في فقه الشيعة الإماميّة « عنصراً خاصّاً » في الحكومة الإسلاميّة هو عنصر « ولاية الفقيه » الذي لا نجد مثيله في سائر المذاهب، وينبغي للقارئ الكريم أن يتعرّف على هذا العنصر استكمالاً لمعرفته بجميع عناصر الحكومة الإسلاميّة في عامّة المذاهب الفقهيّة.

إنّ الحديث عن ولاية الفقيه يقع في أمرين :

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الآيات

( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) )

التّفسير

مشهد من قيامة عبدة الأوثان :

تتابع هذه الآيات أيضا البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين ، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإلهي ، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.

فتقول أوّلا :( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ ) (١) . واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم ، في

__________________

(١) إنّ (مكانكم) في الواقع مفعول لفعل مقدر ، وكانت في الأصل (ألزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى تسألوا) وهذه الجملة في الحقيقة تشبه الآية (٢٤) من سورة الصافات ، حيث تقول( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) .

٣٤١

حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله ، لا شريكة أنفسهم.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة إشارة لطيفة إلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله ، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام ، وهذا يشبه تماما ما لو عيّن المشرف على التعليم معلما أو مديرا غير صالح لمدرسة ما ، صدرت ومنهما أعمال قبيحة وغير لائقة. فتقول للمشرف : تعال وانظر ، هذا معلمك وهذا مديرك يرتكبان مثل هذه الأعمال ، في حين أنّه ليس معلمه ولا مديره ، بل معلم المدرسة ومديرها الذي اختارهما.

ثمّ تضيف : أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين ـ أي العابدون والمعبودون ـ عن بعضهم البعض ، ونسأل كلا منهما على انفراد ، تماما كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد ، فنسأل العابدين : بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟ ونسأل المعبودين : لماذا أصبحتم معبودين؟ أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟( فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ) (١) .

في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء :( وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم ، لا أنّكم كنتم تعبدوننا ، ولو سلمّنا ذلك فإنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا ، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.

ثمّ ، ومن أجل التأكيد الأشد ، يقولون :( فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ) (٢) .

هناك بحث بين المفسّرين في المراد من الأصنام والشركاء ، أي معبودات هي؟ وكيف أنّها تتكلم بهذا الكلام؟

__________________

(١) «زيلنا» من مادة التزييل ، بمعنى التفريق ، قال بعض أرباب اللغة : إن مادتها الثلاثية ، زال يزيل ، بمعنى الفرقة ، لا أنّها من مادة : زال يزول بمعنى الزوال.

(٢) (إن) في الجملة أعلاه مخففة من الثقيلة ، وهي للتأكيد ومعنى الجملة هو : إنّنا كنّا عن عبادتكم لغافلين.

٣٤٢

فالبعض احتمل أن يكون المراد منها المعبودات الإنسانية والشيطانية ، أو من الملائكة التي لها عقل وشعور وإدراك ، إلّا أنّهم رغم ذلك لا يعلمون بأنّ فئة تعبدهم ، أمّا لأنّهم يعبدونهم حال غيابهم ، أو بعد موتهم ، وعلى هذا فإنّ تكلم هؤلاء سيكون أمرا طبيعيا جدّا ، وهذه الآية نظيرة الآية (٤١) من سورة سبأ ، التي تقول :( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

والاحتمال الآخر الذي ذكره كثير من المفسّرين ، هو أن الله سبحانه يبعث الحياة والشعور في الأصنام في ذلك اليوم بحيث تستطيع إعادة الحقائق وذكرها ، والجملة أعلاه للأصنام التي دعاها الله سبحانه للشهادة ، وأنّهم كانوا غافلين عن عبادة من يعبدهم ، وبذلك تكون أكثر تناسبا مع هذا المعنى ، لأنّ الأصنام الحجرية والخشبية لا تفهم شيئا أصلا.

ويمكن أن نحتمل في تفسير هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات ، غاية ما في الأمر أن المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها ، أمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا شعور فإنّ الكلام عن لسان حالها ، وتتحدث عن طريق انعكاس آثار العمل ، تماما كما نقول : إنّ سيماءك تخبر عن سرك ، والقرآن الكريم يبيّن أيضا في الآية (٢١) من من سورة فصلت أن جلود الإنسان ستنطق يوم القيامة ، وكذلك في سورة الزلزلة يبيّن أنّ الأرض التي كان يسكنها الإنسان ستذكر الحقائق.

إنّ هذه المسألة ليست صعبة التصور في زماننا الحاضر ، فإذا كان شريط أصم يسجل كل كلامنا ويعيده عند الحاجة ، فلا عجب أن تعكس الأصنام أيضا واقع أعمال عابديها!.

على كل حال ، ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال ـ كما يتحدث القرآن في آخر آية من آيات البحث ـ فإنّ كل إنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقا ويرى نتيجتها ، بل نفس أعماله ، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا

٣٤٣

يدعون الناس إلى عبادتهم ، وسواء المشركون والمؤمنون ، من أي قوم ومن أي قبيل :( هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ) وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إلى الله مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لا يتم إلّا بأمره( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ ) .

وأخيرا فإنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة لله كذبا ستفنى وتمحى :( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) فإنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد ، ولا تبقى آية حقيقة إلّا وتظهر نفسها. ومن الطبيعي أنّ هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إلى سؤال أو جدال وبحث ، بل إنّ الحال يحكي عن كل شيء ، ولا حاجة للمقال.

* * *

٣٤٤

الآيات

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) )

التّفسير

الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود الله سبحانه وأهليته للعبادة ، وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع.

ففي البداية تقول : قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض؟( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

«الرزق» يعني العطاء والبذل المستمر ، ولما كان الواهب لكل المواهب في الحقيقة هو الله سبحانه ، فإنّ «الرازق» و «الرزّاق» بمعناهما الحقيقي لا يستعملان

٣٤٥

إلّا فيه فقط ، وإذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنّها من باب المجاز ، كالآية (٢٣٣) من سورة البقرة التي تقول في شأن النساء المرضعات :( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) .

وينبغي ـ أيضا ـ أن نذكّر بهذه النقطة ، وهي أنّ أكثر أرزاق الإنسان من السماء ، فالمطر المحيي للنبات من السماء ، الذي تحتاجه كل الكائنات الحية مستقر في فضاء الأرض ، والأهم من ذلك كله أشعة الشمس التي لا يبقي بدونها أي كائن حي ، ولا تنبعث بدونها أية حركة في أنحاء الكرة الأرضية فإنّها تأتي من السماء ، وحتى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار فإنّها حية بنور الشمس ، لأنا نعلم أن غذاء الكثير منها أعشاب صغيرة جدّا تنمو في طيات الأمواج على سطح المحيط مقابل أشعة الشمس ، والقسم الآخر من هذه الحيوانات تتغذى على لحوم الحيوانات البحرية الأخرى التي تتغذى على تلك النباتات.

والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية ، وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أوّلا عن أرزاق السماء ، ثمّ عن أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية.

ثمّ تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان ، واللتان لا يمكن كسب العلم وتحصيله بدونهما ، فقالت :( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ) . وفي الواقع فإنّ هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أوّلا ، ثمّ إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى.

إن كلمة (سمع) مفردة ، وهي بمعنى الأذن ، و «الأبصار» وجمع بصر بمعنى العين ، وهنا يأتي هذا السؤال ، وهو : لماذا ذكرت كلمة السمع في كل القرآن بصيغة المفرد ، وأمّا البصر فإنّها جاءت تارة بصيغة المفرد ، وتارة أخرى بصيغة الجمع جواب هذا السؤال مذكور في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية (٧) من سوره البقرة.

ثمّ تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم

٣٤٦

الخلقة ، فتقول :( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ ) وهذا هو نفس الموضوع الذي حيّر عقول علماء الطبيعية وعلماء الاحياء ، وهو كيف أتى الموجود الحي إلى الوجود من موجود ميت؟ فهل إنّ مثل هذه المسألة ـ التي لم تفلح جهود ومساعي العلماء الحثيثة إلى الآن في كشف أسرارها ـ أمرا بسيطا ومرتبطا بالصدفة وبدون برنامج وهدف؟ لا شك أنّ من وراء ظاهرة الحياة المعقدة والظريفة والمليئة بالأسرار علم وقدرة خارقة وعقل كلي.

إنّه لم يخلق الكائن الحي في البداية من الموجودات الأرضية الميتة وحسب ، بل إنّه قرر عدم خلود الحياة ، ولهذا خلق الموت في قلب الحياة ليفسح المجال عن هذا الطريق لتغير الأحوال والتكامل.

ويحتمل ـ أيضا ـ في تفسير هذه الآية أنّها تشمل الموت والحياة المعنويين إضافة إلى الموت والحياة الماديين ، لأنّنا نرى أناسا عقلاء طاهرين ورعين مؤمنين يولدون أحيانا من أبوين ملوثين منحرفين لا إيمان لهما ، ويلاحظ أيضا عكس ذلك حيث يأتي إلى الوجود إناسا تافهون لا قيمة لهم من أبوين فاضلين(١) . خلافا لقانون الوراثة.

طبعا ، لا يوجد مانع من أن تكون الآية أعلاه إلى كلا القسمين ، لأنّ كليهما من عجائب الخلقة ومن الظواهر العجيبة في العالم ، وهما موضحان لهذه الحقيقة ، وهي أن لقدرة الخالق العالم الحكيم دخلا في هذه الأمور إضافة إلى الأمور الطبيعية.

وقد أعطينا توضيحات أخرى حول هذا الموضوع في المجلد الخامس ذيل الآية (٩٥) من سورة الأنعام.

ثمّ تضيف الآية :( وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) ، والكلام في الواقع بدأ عن خلق المواهب ، ثمّ عن حافظها وحارسها ومدبرها. وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه الأسئلة

__________________

(١) لقد جاء هذا المضمون في روايات متعددة في الجزء الأوّل ص ٥٤٣ من تفسير البرهان في ذيل الآية (٥٩) من سورة الأنعام.

٣٤٧

الثلاثة يقول مباشرة بأنّ هؤلاء سيجيبون بسرعة :( فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) .

يستفاد من هذه الجملة جيدا أنّه حتى مشركي وعبدة الأصنام في الجاهلة كانوا يعلمون أنّ الخالق والرازق والمحيي ومدبر أمور عالم الوجود هو الله سبحانه ، وقد علموا هذه الحقيقة عن طريق العقل ، وكذلك عن طريق الفطرة ، وهي أنّ هذا النظام الدقيق للعالم لا يمكن أن يكون وليد الصدفة والفوضى ، أو مخلوقا من قبل هذه الأصنام.

وفي آخر الآية يأمر الله نبيّه( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) فإنّ الوحيد الذي له أهلية العبادة هو الذي بيده الخلق وتدبير أمره ، وإذا كانت العبادة لأجل أهلية وعظمة ذات المعبود ، فإنّ هذه الأهلية والعظمة منحصرة في الله تعالى ، وإذا كانت من أجل أنّه مصدر الضر والنفع ، فإنّ ذلك مختص بالله أيضا.

وبعد أن عرضت الآية السابقة نماذج من آثار عظمة وتدبير الله في السماء والأرض ، وأيقظت وجدان وعقل المخالفين ودعتهم للحكم في أمر الخالق ، واعترف هؤلاء بذلك ، خاطبتهم الآية التالية بلهجة قاطعة وقالت :( فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ ) لا الأصنام ، ولا سائر الموجودات التي جعلتموها شريكة للباريعزوجل ، والتي تسجدون أمامها وتعظمونها.

كيف يمكن أن يكون هؤلاء أهلا للعبودية في حين أنّهم ليسوا فقط غير قادرين على المشاركة في خلق العالم وتدبيره فحسب ، بل منغمسون في الفقر والاحتياج من الرأس حتى أخمص القدم.

ثمّ تنتهي إلى ذكر النتيجة :( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) وأنّى تولوا وجوهكم عن عبادة الله وأنتم تعلمون ألا خالق ولا معبود حقّا سواه؟

إنّ هذه الآية في الواقع تطرح طريقا منطقيا واضحا لمعرفة الباطل وتركه ، وهو أن يخطو الإنسان أوّلا في سبيل معرفة الحق بآليات الوجدان والعقل ، فإذا عرف الحق فإنّ كل ما خالفه باطل وضلال ، ويجب أن يضرب عرض الحائط.

٣٤٨

وتقول آخر آية في بيان العلة في عدم اتباع هؤلاء للحق رغم وضوح الأمر وظهور الحق :( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (١) وفي الواقع فإنّ هذه خاصية الأعمال السيئة المستمرة لهؤلاء بحيث تظلم قلوبهم وتلوث أرواحهم إلى درجة لا يرون معها الحق رغم وضوحه وتجلّيه ، ويسلكون نتيجة لذلك طريق الضلال.

بناء على ذلك ، فإنّ الآية أعلاه لا دلالة لها مطلقا على مسألة الجبر ، بل هي إشارة إلى آثار أعمال نفس الإنسان ، لكن لا شك أنّ هذه الأعمال لها تلك الخاصية بأمر الله ، تماما كما نقول لشخص : لقد قلنا لك مائة مرّة أن لا تحوم حول المواد المخدرة والمشروبات المسكرة ولا تتناولها ، لكنّك لم تصغ لنا ، فأصبحت الآن من المدمنين عليها ومحكوما بأن تبقى تعيسا لمدّة طويلة.

* * *

__________________

(١) كاف التشبيه هنا إشارة إلى المطلب الذي ذكر في آخر جملة من الآية السابقة ، ومعنى الآية هكذا : كما أنّه ليس بعد الحق إلّا الضلال ، كذلك حقّت كلمة ربّك.

٣٤٩

الآيات

( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) )

التّفسير

واحدة من علامات الحق والباطل :

تعقب هذه الآيات أيضا الاستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد ، وتأمر الآية الأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ثمّ تضيف :( قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ولماذا تصرفون وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟

وهنا سؤالان :

الأوّل : إنّ مشركي العرب غالبا لا يعتقدون بالمعاد ، خاصّة بالصورة التي

٣٥٠

يذكرها القرآن ، وإذا كان هذا حالهم فكيف يطلب القرآن منهم الاعتراف به؟

الثّاني : في الآية السابقة كان الكلام عن اعتراف المشركين وإقرارهم ، إلّا أنّ هذه الآية تأمر النّبي أن يقرّ هو بهذه الحقيقة ، فلما ذا هذا الاختلاف في التعبير؟

إلّا أنّ الانتباه إلى مسأله يوضح جواب كلا السؤالين ، وهي : إنّ المشركين بالرغم من عدم اعتقادهم بالمعاد الجسماني ، إلّا أنّ ذلك القدر الذي آمنوا به من أن بداية الخلق كانت من الله كاف لتقبل المعاد والإعتقاد به ، لأنّ كل من عمل عملا في البداية قادر على إعادته ، وبناء على هذا فإنّ الإعتقاد بالمبدإ إذا ما اقترن بشيء من الدقة كاف لإثبات المعاد. ومن هنا يتّضح لماذا أقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الحقيقة بدلا من المشركين ، فإنّه بالرغم من كون الإيمان بالمعاد من لوازم الإيمان بالمبدأ ، إلّا أنّ هؤلاء لما لم يتوجهوا إلى هذه الملازمة ، اختلف طراز التعبير وأقر النّبي مكانهم.

ثمّ تأمر الآية الأخرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة أخرى :( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ ) لأنّ المعبود يجب أن يكون هاديا ومرشدا لعبادة ، خاصّة وأنّها هداية نحو الحق ، في حين أنّ آلهة المشركين ، أعمّ من الجمادات أو الاحياء ، غير قادرة أن تهدي أحدا إلى الحق بدون الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية إلى الحق تحتاج إلى منزلة العصمة والصيانة من الخطأ والاشتباه ، وهذا لا يمكن من دون هداية الله سبحانه وتسديده ، ولذلك فإنّها تضيف مباشرة :( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ ) وإذا كان الحال كذلك( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ) (١) .

وتقول الآية في النهاية بلهجة التوبيخ والتقريع والملامة :( فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

وفي آخر آية إشارة إلى المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الانحرافات وهو الأوهام والظنون( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) وفي

__________________

(١) يهدّي كانت في الأصل يهتدي ، فبدلت التاء دالا وأدغمت فشددت.

٣٥١

النهاية تخاطب الآية ـ بأسلوب التهدد ـ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يتبعون أي منطق سليم وتقول :( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله سبحانه وحده الذي يهدي إلى الحق ، وهذا الحصر إمّا لأنّ المقصود من الهداية ليس. هو إراءة الطريق وحسب ، بل هو الإيصال إلى المقصد ، وهذا الأمر بيد الله فقط ، أو لأنّ إراءة الطريق والدلالة عليه هو أيضا من عمل الله في الدرجة الأولى ، وأمّا غيره من الأنبياء والمرشدين والمصلحين الإلهيين فإنّهم يطلعون على طريق الهداية عن طريقه وهدايته ، ويصبحون علماء بتعليمه.

٢ ـ إنّ ما نقرؤه في الآيات أعلاه من أنّ آلهة المشركين لا تستطيع أن تهدي أحدا ، بل هي بذاتها محتاجة إلى الهداية الإلهية ، وإن كان لا يصدق على الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّها لا تملك العقل والشعور مطلقا ، إلّا أنّه يصدق تماما في حق الآلهة التي لها شعور كالملائكة والبشر الذين أصبحوا معبودين.

ويحتمل أيضا أن تكون الجملة المذكورة بمعنى القضية الشرطية ، أي على فرض أنّ للأصنام عقلا وشعورا ، فإنّها لا تستطيع أن تجد الطريق بدون الهداية الإلهية لنفسها ، فكيف ستقدر على هداية الآخرين؟

وعلى كل حال ، فإنّ الآيات أعلاه تبيّن ـ بوضوح ـ أنّ من برامج الله الأصلية لعباده أن يهديهم إلى الحق ، ويتمّ ذلك عن طريق منح العقل ، وإعطاء الدروس المختلفة عن طريق الفطرة ، وإرادة وإظهار آياته في عالم الخلقة ، وكذلك عن طريق إرسال الأنبياء والكتب السماوية.

٣ ـ طالعنا في آخر آية من هذه الآيات أنّ أكثر المشركين وعبدة الأصنام يتبعون ظنونهم وأوهامهم ، وهنا يأتي سؤال ، وهو : لماذا لم يقل الله سبحانه : وما

٣٥٢

يتبع كلّهم بدل أكثرهم ، لأنّا نعلم أنّ جميع المشركين شركاء في هذا الظن الباطل ، حيث يعتقدون أنّ الأصنام آلهة بحق وتملك النفع والضرر وتشفع عند الله ، ولهذا فإنّ البعض اضطر إلى تفسير كلمة «أكثرهم» بأنّها تعني «جميعهم» ، وذهب أن هذه الكلمة جاءت أحيانا بهذا المعنى.

إلّا أنّ هذا الجواب غير وجيه ، والأفضل أن نقول : إن المشركين صنفان : صنف يشكل الأكثرية ، وهم الأفراد الخرافيون الجهلاء الذين وقعوا تحت تأثير الأفكار الخاطئة ، واختاروا الأصنام لعبادتها.

أمّا القسم الثّاني ، وهم الأقلية ، فهم الزعماء وأئمّة الكفر الواعون لحقيقة الأمر والمطّلعون على عدم صحة عبادة الأصنام وأنّها لا أساس لها ، وإلّا أنّهم يدعون الناس لعبادتها حفظا لمصالحهم ، ولهذا السبب فإنّ الله يجيب الصنف الأوّل فقط لأنّهم مؤهلين للهداية ، أمّا الصنف الثّاني فلم يعبأ بهم مطلقا لأنّهم سلكوا هذا الطريق عن علم ووعي.

٤ ـ يعتبر جماعة من علماء الأصول هذه الآية وأمثالها دليلا على أن الظن لا يمكن أن يكون حجة وسندا بأي وجه من الوجوه ، وأن الأدلة القطعية هي الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها.

إلّا أنّ جماعة أخرى يقولون : إنّنا نلاحظ بين الادلة الفقهية أدلّة ظنية كثيرة ، كحجية ظواهر الألفاظ ، وشهادة الشاهدين العدلين ، أو خبر الواحد الثقة وأمثال ذلك ، ولذلك فإنّ الآية المذكورة دليل على أنّ القاعدة الأصلية في مسألة الظن هي عدم حجيته ، إلّا أنّ تثبت حجيته بالدليل القطعي كالأمثلة أعلاه.

إلّا أنّ الحق هو أنّ الآية أعلاه تتحدث عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها ، كظنون وأوهام عبدة الأصنام فقط ، ولا علاقة لها بالظن الذي يمكن الاعتماد عليه والموجود بين العقلاء ، وبناء على هذا فإنّ هذه الآية وأمثالها لا يمكن الاستناد إليها بأي وجه في مسألة عدم حجية الظن. فتدبر جيدا.

* * *

٣٥٣

الآيات

( وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) )

التّفسير

عظمة دعوة القرآن وحقانيته :

تتطرق هذه الآيات إلى الإجابة عن قسم آخر من كلمات المشركين السقيمة ، فإنّ هؤلاء لم يجانبوا الصواب في معرفة المبدأ وحسب ، بل كانوا يفترون على نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه هو الذي اختلق القرآن ونسبه إلى الله ، ورأينا في الآيات السابقة

٣٥٤

أنّهم طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي بغير هذا القرآن ، أو يغيره على الأقل ، وهذا بنفسه دليل على أنّهم كانوا يظنون أن القرآن من تأليف النّبي!

فالآية الأولى تقول :( وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ ) واللطيف هنا أنّها بدل أن تنفي هذا الأمر نفيا بسيطا ، نفته نفيا شأنيا ، وهذا يشبه تماما أن يقول شخص ما في مقام الدفاع عن نفسه : ليس من شأني الكذب ، وهذا التعبير اعمق وأكثر معنى من أن يقول : إنّي لا أكذب.

ثمّ تتطرق الآية إلى ذكر الدليل على أصالة القرآن وكونه وحيا سماويا : فتقول( وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي إنّ كل البشارات والدلالات الحقّة التي جاءت في الكتب السماوية السابقة تنطبق على القرآن ومن جاء به تماما ، وهذا بنفسه يثبت أنّه ليس افتراء على الله بل هو حق ، وأساسا فإنّ القرآن شاهد على صدق محتواه من باب أنّ طلوع الشمس دليل على الشمس.

ومن هنا يتّضح زيف الذين استدلوا بمثل هذه الآيات على عدم تحريف التّوراة والإنجيل ، لأنّ القرآن الكريم لم يصدق ما كان موجودا في هذه الكتب في عصر النزول ، بل إنّه أيّد العلامات الواردة في هذه الكتب حول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن. وقد بيّنّا توضيحات أكثر في هذا الباب في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (٤١) من سورة البقرة.

ثمّ تذكر الآية دليلا آخر على أصالة هذا الوحي السماوي وهو : إنّ في هذا القرآن شرح كتب الأنبياء السابقين الأصيلة ، وبيان أحكامهم الأساسية وعقائدهم الأصولية ، ولهذا فلا شك في كونه من الله تعالى ، فتقول :( وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) وبتعبير آخر : لا يوجد فيه أي تضاد وتناقض مع برامج وأهداف الأنبياء السابقين ، بل يلاحظ فيه تكامل تلك التعليمات والبرامج ، وإذا كان هذا القرآن مختلقا فلا بدّ أن يخالفها ويناقضها.

ومن هنا نعلم أنّه لا يوجد أي اختلاف بين الكتب السماوية في أصول

٣٥٥

المسائل ، سواء كانت في العقائد الدينية ، أو البرامج الاجتماعية ، أو حفظ الحقوق ، أو محاربة الجهل ، أو الدعوة إلى الحق والعدالة ، وكذلك إحياء القيم الأخلاقية وأمثال ذلك ، سوى أن الكتاب الذي ينزل متأخرا يكون أرفع مستوى وأكمل من السابق ، تماما كاختلاف مراحل التعليم في الابتدائية والإعدادية والجامعة ، حتى انتهت المراحل بالكتاب الأخير الخاص بالمرحلة النهائية لتحصيل الأمم الديني ، ألا وهو القرآن.

ولا شك في وجود الاختلاف في جزئيات الأحكام بين الأديان والمذاهب السماوية ، إلّا أنّ الكلام عن أصولها الأساسية المتحدة والمشتركة في كل مكان.

وذكر في الآية التالية دليل ثالث على أصالة القرآن ، وخاطبت الذين يدعون أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد افترى هذا القرآن على الله ، بأنّكم إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا في ذلك بمن شئتم غير الله ، ولكنّكم لا تستطيعون فعل ذلك أبدا ، وبهذا الدليل يثبت أن القرآن من وحي السماء( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ هذه الآيات من جملة الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بصراحة ، لا إعجاز كل القرآن فحسب ، بل حتى إعجاز السورة الواحدة ، وقد خاطبت كل العالمين ـ بدون استثناء ـ بأنّكم إن كنتم معتقدين بأنّ هذه الآيات ليست من الله فأتوا بمثله ، أو بسورة منه على الأقل.

وكما بيّنا في المجلد الأوّل في ذيل الآية (٢٣) من سورة البقرة ، فإنّ آيات القرآن تتحدى أحيانا أن يؤتى بمثل كل القرآن ، وأحيانا بعشر سور ، وأحيانا بسورة واحدة ، وهذا يوضح أنّ جزء القرآن وكلّه معجز. ولمّا لم تعين الآية سورة معينة فإنّها تشمل كل سورة من القرآن.

طبعا لا شك أنّ إعجاز القرآن لا ينحصر في جوانب الفصاحة والبلاغة وحلاوة البيان وكمال التعبيرات كما ظن ذلك جماعة من قدماء المفسّرين ، بل إن جانب

٣٥٦

الإعجاز يتمثل أيضا إضافة لما مر في بيان المعارف الدينية ، والعلوم التي لم تكن معروفة حتى ذلك اليوم ، وبيان الأحكام والقوانين ، وذكر تأريخ السابقين من دون أي خطأ أو تلبس بخرافة ، وعدم وجود الاختلاف والتضادّ فيه(١) .

مظاهر وتجليات جديدة من إعجاز القرآن :

ممّا يلفت النظر أنّ مظاهر جديدة من إعجاز القرآن تتّضح مع مرور الزمن ، حيث لم تكن تجلب الانتباه ـ سابقا ـ ولا يهتم بها ، ومن جملتها المحاسبات الكثيرة التي أجريت على كلمات القرآن بواسطة العقول الألكترونية ، والتي أثبتت أن لكلمات وفقرات القرآن وعلاقتها بزمن النزول خصوصيات جديدة ، وما تقرؤونه أدناه نموذج منها :

إنّ تحقيقات بعض العلماء والمحققين أدت إلى كشف روابط معقدة ومعادلات حسابية دقيقة جدّا في آيات القرآن حتى أنّها جمعت بين الحيرة واليقين في وجود مثل هذا النظام العلمي في بناء القرآن ، وذلك عن طريق التحقيق الإحصائي والرّياضي لكشف القواعد الدقيقة والمعادلات الرياضية للآيات الشريفة والتي تذكرنا من ناحية الأهمية والمعرفة باكتشاف نيوتن للجاذبية.

أحد علماء القرآن بدأ عمله من هذه المسألة البسيطة ، وهي أنّ الآيات النازلة في مكّة قصيرة ، والآيات التي نزلت في المدينة طويلة ، وهذه مسألة طبيعية ، فإنّ كل كاتب أو خطيب بليغ يغير من طول جمله ونغمات كلماته حسب موضوع الحديث ، فمثلا تكون جمل التوصيف قصيرة ، أمّا مسائل التحليل والاستدلال فهي طويلة وإذا كان الكلام لغرض تحريك العواطف أو للانتقاد او لبيان الأصول العقائدية العامّة ، فإنّ العبارة تكون قصيرة وبأسلوب الشعارات ، أمّا إذا كان بداية قصّة أو لبيان الكلام في استخلاص النتائج الأخلاقية و... فإنّ الأسلوب يكون

__________________

(١) لمزيد الاطلاع راجع المجلد الأوّل الآية (٢٣) و (٢٤) من سورة البقرة.

٣٥٧

هادئا والعبارات طويلة.

إنّ المسائل التي طرحت في مكّة هي من النوع الأوّل ، بينما المسائل التي طرحت في المدينة من النوع الثّاني ، فما نزل في مكّة كان بداية ثورة وبيان للمبادئ العامّة ، الاعتقادية والانتقادية ، والذي نزل في المدينة كان لبناء مجتمع وبيان مسائل حقوقية وأخلاقية وقصص تاريخية واستخلاص النتائج الفكرية والعلمية.

وبما أنّ القرآن نزل بلغة البشر فلا بدّ من أن يتبع السبك الجميل والبليغ في كلام البشر ، وفي النتيجة مراعاة قصر وطول الآيات بما يناسب المفاهيم ، وبالتالي يجب أن لا يكون القصر والطول اعتباطيا وعشوائيا ، بل يبدأ حسب قاعدة علمية دقيقة من الآيات القصيرة ، ويسير على وتيرة تصاعدية واحدة نحو الآيات الطويلة ، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل آية أقصر من الآية التي نزلت بعد سنة ، وأطول من الآية التي نزلت قبلها بسنة ، وأن يكون مقدار الزيادة محسوبا ودقيقا ، وعلى هذا فلمّا كان الوحي قد نزل خلال ٢٣ سنة ، فيجب أن يكون لدينا ٢٣ طولا في الآيات كمعدل ، وبناء على هذه القاعدة يمكن أن يكون لدينا ٢٣ عمودا بحيث تقسم كل الآيات حسب الطول في هذه الأعمدة ، والآن من أين نستطيع أن نعلم أن هذا التقسيم صحيح؟

نحن نعلم سبب نزول بعض الآيات بواسطة الرّوايات الشريفة التي ذكرت ـ بصراحة ـ في أية سنة نزلت هذه الآيات ، والبعض الآخر يمكن تعيينه من خلال مفاهيمه ، فمثلا : الآيات التي تبيّن بعض الأحكام كتغيير القبلة ، وتحريم الخمر ، وتشريع الحجاب والزكاة والخمس ، أو الآيات التي تتحدث عن الهجرة ، فإنّ سنّي تعيين هذه الأحكام معلومة.

وبتعجب مثير للدهشة نرى أن هذه الآيات التي يعلم عام نزولها ، قد اجتمعت في نفس الأعمدة التي فرضت أنّها أخذت حسب الطول في هذا الجدول. «فتدبر

٣٥٨

جيدا»

والأعجب هو ملاحظة بعض الاستثناءات في موردين أو ثلاثة ، بمعنى أن سورة المائدة مثلا آخر السور الكبار النّازلة ، في حين أن عدّة آيات منها يجب أن تكون حسب المعادلة ـ قد نزلت في السنين الأولى! وبعد التحقيق في متون التفاسير والرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين المعتبرين ، لوحظ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآيات القليلة نزلت في البداية ، لكن وضعت في سورة المائدة حسب أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذه الطريقة يمكن تعيين سنة نزول كل آية حسب هذا الحساب الرياضي ، وكتابة القرآن حسب سنة النزول أيضا.

أي أديب وبليغ في العالم يستطيع أن يعين سنة كتابة كل جملة من خلال طول العبارة؟ خاصّة وأنّه ليس نصا كتابيا كأي أثر علمي أو أدبي جلس كاتبه مدّة معينة وكتبه وليس كتابا ألفه كاتبه في موضوع ما ، بل يحتوي على مسائل مختلفة نزلت بالتدريج حسب احتياج المجتمع ، أو هي جواب لمسائل مطروحة من الحوادث والمسائل طرحت على مدى مسيرة الدعوة وإبلاغ الرسالة ، وقد بيّنت من قبل القائد ، ثمّ جمعت ونظمت.

بل إنّ موسيقى ولحن لغات وكلمات القرآن الخاصّة ـ أيضا ـ معجزة نادرة في نوعها كما ذكر ذلك بعض المفسّرين. وقد ذكروا شواهد مختلفة جميلة على هذا الموضوع ، ومن جملتها الحادثة أدناه التي وقعت لسيد قطب المفسّر المعروف : يقول في ذيل الآية محل البحث : «ولن أذكر نماذج ممّا وقع لغيري ولكنّي أذكر حادثا وقع لي وكان معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما كنّا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم ـ أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة

٣٥٩

ذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ، حاول أن يزاول تبشيره معنا! وقد يسر لنا قائد السفينة ـ وكان إنجليزيا ـ أن نقيم صلاتنا ، وسمح لبحارة السفينة طهاتها وخدمها ـ وكلّهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا ، إذ كانت المرّة الاولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ، والركاب الأجانب ـ معظمهم ـ متحلقون يرقبون صلاتنا! وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القدّاس»!!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! ـ كانت شديدة التأثر والانفعال ، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها ، جاءت تشدّ على أيدينا بحرارة ؛ وتقول : ـ في إنجليزية ضعيفة ـ إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! وليس هذا موضع الشاهد في القصّة ولكن ذلك مان في قولها : أي لغة هذه التي كان يتحدث بها «قسيسكم»! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلّا قسيس ـ أو رجل الدين ـ كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم!. وأجبناها فقالت : إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقى عجيب ، وإنّ كنت لم أفهم منها حرفا ثمّ كانت المفاجأة الحقيقة لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أت أسأل عنه إنّ الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه ـ بهذا اللغة الموسيقية ـ فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية كما لو كان ـ الإمام ـ مملوءا من الروح القدس! ـ حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!

تفكرنا قليلا ، ثمّ أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت ـ مع ذلك ـ مفاجأة تدعو إلى الدهشة ، من سيدة

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608