الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 238616
تحميل: 5247


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 238616 / تحميل: 5247
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

الآيات

( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) )

التّفسير

مشهد من قيامة عبدة الأوثان :

تتابع هذه الآيات أيضا البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين ، وتجسم حيرة وانقطاع هؤلاء عند حضورهم في محكمة العدل الإلهي ، ووقوفهم بين يدي الله لمحاسبتهم.

فتقول أوّلا :( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ ) (1) . واللطيف أنّ الآية أعلاه قد عبّرت عن الأصنام بشركائكم ، في

__________________

(1) إنّ (مكانكم) في الواقع مفعول لفعل مقدر ، وكانت في الأصل (ألزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم حتى تسألوا) وهذه الجملة في الحقيقة تشبه الآية (24) من سورة الصافات ، حيث تقول( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) .

٣٤١

حين أنّ المشركين كانوا قد جعلوا الأصنام شريكة لله ، لا شريكة أنفسهم.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة إشارة لطيفة إلى أن الأصنام لم تكن شريكة لله ، وأن أوهام وتخيلات عبدة الأوثان هي التي أعطتها هذا المقام ، وهذا يشبه تماما ما لو عيّن المشرف على التعليم معلما أو مديرا غير صالح لمدرسة ما ، صدرت ومنهما أعمال قبيحة وغير لائقة. فتقول للمشرف : تعال وانظر ، هذا معلمك وهذا مديرك يرتكبان مثل هذه الأعمال ، في حين أنّه ليس معلمه ولا مديره ، بل معلم المدرسة ومديرها الذي اختارهما.

ثمّ تضيف : أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين ـ أي العابدون والمعبودون ـ عن بعضهم البعض ، ونسأل كلا منهما على انفراد ، تماما كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد ، فنسأل العابدين : بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟ ونسأل المعبودين : لماذا أصبحتم معبودين؟ أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟( فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ) (1) .

في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء :( وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) فأنتم في الواقع كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم ، لا أنّكم كنتم تعبدوننا ، ولو سلمّنا ذلك فإنّ عبادتكم لنا لم تكن بأمرنا ولا برضانا ، والعبادة كهذه ليست بعبادة في الحقيقة.

ثمّ ، ومن أجل التأكيد الأشد ، يقولون :( فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ) (2) .

هناك بحث بين المفسّرين في المراد من الأصنام والشركاء ، أي معبودات هي؟ وكيف أنّها تتكلم بهذا الكلام؟

__________________

(1) «زيلنا» من مادة التزييل ، بمعنى التفريق ، قال بعض أرباب اللغة : إن مادتها الثلاثية ، زال يزيل ، بمعنى الفرقة ، لا أنّها من مادة : زال يزول بمعنى الزوال.

(2) (إن) في الجملة أعلاه مخففة من الثقيلة ، وهي للتأكيد ومعنى الجملة هو : إنّنا كنّا عن عبادتكم لغافلين.

٣٤٢

فالبعض احتمل أن يكون المراد منها المعبودات الإنسانية والشيطانية ، أو من الملائكة التي لها عقل وشعور وإدراك ، إلّا أنّهم رغم ذلك لا يعلمون بأنّ فئة تعبدهم ، أمّا لأنّهم يعبدونهم حال غيابهم ، أو بعد موتهم ، وعلى هذا فإنّ تكلم هؤلاء سيكون أمرا طبيعيا جدّا ، وهذه الآية نظيرة الآية (41) من سورة سبأ ، التي تقول :( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) .

والاحتمال الآخر الذي ذكره كثير من المفسّرين ، هو أن الله سبحانه يبعث الحياة والشعور في الأصنام في ذلك اليوم بحيث تستطيع إعادة الحقائق وذكرها ، والجملة أعلاه للأصنام التي دعاها الله سبحانه للشهادة ، وأنّهم كانوا غافلين عن عبادة من يعبدهم ، وبذلك تكون أكثر تناسبا مع هذا المعنى ، لأنّ الأصنام الحجرية والخشبية لا تفهم شيئا أصلا.

ويمكن أن نحتمل في تفسير هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات ، غاية ما في الأمر أن المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها ، أمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا شعور فإنّ الكلام عن لسان حالها ، وتتحدث عن طريق انعكاس آثار العمل ، تماما كما نقول : إنّ سيماءك تخبر عن سرك ، والقرآن الكريم يبيّن أيضا في الآية (21) من من سورة فصلت أن جلود الإنسان ستنطق يوم القيامة ، وكذلك في سورة الزلزلة يبيّن أنّ الأرض التي كان يسكنها الإنسان ستذكر الحقائق.

إنّ هذه المسألة ليست صعبة التصور في زماننا الحاضر ، فإذا كان شريط أصم يسجل كل كلامنا ويعيده عند الحاجة ، فلا عجب أن تعكس الأصنام أيضا واقع أعمال عابديها!.

على كل حال ، ففي ذلك اليوم وذلك المكان وذلك الحال ـ كما يتحدث القرآن في آخر آية من آيات البحث ـ فإنّ كل إنسان سيختبر كل أعماله التي عملها سابقا ويرى نتيجتها ، بل نفس أعماله ، سواء العابدون والمعبودون المضلون الذين كانوا

٣٤٣

يدعون الناس إلى عبادتهم ، وسواء المشركون والمؤمنون ، من أي قوم ومن أي قبيل :( هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ ) وفي ذلك اليوم سيرجع الجميع إلى الله مولاهم الحقيقي، ومحكمة المحشر تبيّن أن الحكم لا يتم إلّا بأمره( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ ) .

وأخيرا فإنّ جميع هذه الأصنام والمعبودات المختلقة التي جعلها هؤلاء شريكة لله كذبا ستفنى وتمحى :( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) فإنّ القيامة ساحة ظهور كل الأسرار الخفية للعباد ، ولا تبقى آية حقيقة إلّا وتظهر نفسها. ومن الطبيعي أنّ هناك مواقف ومقامات لا تحتاج إلى سؤال أو جدال وبحث ، بل إنّ الحال يحكي عن كل شيء ، ولا حاجة للمقال.

* * *

٣٤٤

الآيات

( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) )

التّفسير

الحديث في هذه الآيات عن علامات ودلائل وجود الله سبحانه وأهليته للعبادة ، وتعقب أبحاث الآيات السابقة حول هذا الموضوع.

ففي البداية تقول : قل لهؤلاء المشركين وعبدة الأوثان الحائرين التائهين عن طريق الحق: من يرزقكم من السماء والأرض؟( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

«الرزق» يعني العطاء والبذل المستمر ، ولما كان الواهب لكل المواهب في الحقيقة هو الله سبحانه ، فإنّ «الرازق» و «الرزّاق» بمعناهما الحقيقي لا يستعملان

٣٤٥

إلّا فيه فقط ، وإذا استعملت هذه الكلمة في حق غيره فلا شك أنّها من باب المجاز ، كالآية (233) من سورة البقرة التي تقول في شأن النساء المرضعات :( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) .

وينبغي ـ أيضا ـ أن نذكّر بهذه النقطة ، وهي أنّ أكثر أرزاق الإنسان من السماء ، فالمطر المحيي للنبات من السماء ، الذي تحتاجه كل الكائنات الحية مستقر في فضاء الأرض ، والأهم من ذلك كله أشعة الشمس التي لا يبقي بدونها أي كائن حي ، ولا تنبعث بدونها أية حركة في أنحاء الكرة الأرضية فإنّها تأتي من السماء ، وحتى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار فإنّها حية بنور الشمس ، لأنا نعلم أن غذاء الكثير منها أعشاب صغيرة جدّا تنمو في طيات الأمواج على سطح المحيط مقابل أشعة الشمس ، والقسم الآخر من هذه الحيوانات تتغذى على لحوم الحيوانات البحرية الأخرى التي تتغذى على تلك النباتات.

والأرض وحدها هي التي تغذي جذور النباتات بواسطة موادها الغذائية ، وربّما كان هذا هو السبب في أن تتحدث الآية أوّلا عن أرزاق السماء ، ثمّ عن أرزاق الأرض حسب تفاوت درجة الأهمية.

ثمّ تشير الآية إلى حاستين من أهم حواس الإنسان ، واللتان لا يمكن كسب العلم وتحصيله بدونهما ، فقالت :( أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ ) . وفي الواقع فإنّ هذه الآية أشارت إلى النعم المادية أوّلا ، ثمّ إلى المواهب والأرزاق المعنوية التي تصبح النعم المادية بدونها فاقدة للهدف والمحتوى.

إن كلمة (سمع) مفردة ، وهي بمعنى الأذن ، و «الأبصار» وجمع بصر بمعنى العين ، وهنا يأتي هذا السؤال ، وهو : لماذا ذكرت كلمة السمع في كل القرآن بصيغة المفرد ، وأمّا البصر فإنّها جاءت تارة بصيغة المفرد ، وتارة أخرى بصيغة الجمع جواب هذا السؤال مذكور في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية (7) من سوره البقرة.

ثمّ تطرقت الآية إلى ظاهرتي الموت والحياة اللتين هما أعجب ظواهر عالم

٣٤٦

الخلقة ، فتقول :( وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ ) وهذا هو نفس الموضوع الذي حيّر عقول علماء الطبيعية وعلماء الاحياء ، وهو كيف أتى الموجود الحي إلى الوجود من موجود ميت؟ فهل إنّ مثل هذه المسألة ـ التي لم تفلح جهود ومساعي العلماء الحثيثة إلى الآن في كشف أسرارها ـ أمرا بسيطا ومرتبطا بالصدفة وبدون برنامج وهدف؟ لا شك أنّ من وراء ظاهرة الحياة المعقدة والظريفة والمليئة بالأسرار علم وقدرة خارقة وعقل كلي.

إنّه لم يخلق الكائن الحي في البداية من الموجودات الأرضية الميتة وحسب ، بل إنّه قرر عدم خلود الحياة ، ولهذا خلق الموت في قلب الحياة ليفسح المجال عن هذا الطريق لتغير الأحوال والتكامل.

ويحتمل ـ أيضا ـ في تفسير هذه الآية أنّها تشمل الموت والحياة المعنويين إضافة إلى الموت والحياة الماديين ، لأنّنا نرى أناسا عقلاء طاهرين ورعين مؤمنين يولدون أحيانا من أبوين ملوثين منحرفين لا إيمان لهما ، ويلاحظ أيضا عكس ذلك حيث يأتي إلى الوجود إناسا تافهون لا قيمة لهم من أبوين فاضلين(1) . خلافا لقانون الوراثة.

طبعا ، لا يوجد مانع من أن تكون الآية أعلاه إلى كلا القسمين ، لأنّ كليهما من عجائب الخلقة ومن الظواهر العجيبة في العالم ، وهما موضحان لهذه الحقيقة ، وهي أن لقدرة الخالق العالم الحكيم دخلا في هذه الأمور إضافة إلى الأمور الطبيعية.

وقد أعطينا توضيحات أخرى حول هذا الموضوع في المجلد الخامس ذيل الآية (95) من سورة الأنعام.

ثمّ تضيف الآية :( وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) ، والكلام في الواقع بدأ عن خلق المواهب ، ثمّ عن حافظها وحارسها ومدبرها. وبعد أن يطرح القرآن الكريم هذه الأسئلة

__________________

(1) لقد جاء هذا المضمون في روايات متعددة في الجزء الأوّل ص 543 من تفسير البرهان في ذيل الآية (59) من سورة الأنعام.

٣٤٧

الثلاثة يقول مباشرة بأنّ هؤلاء سيجيبون بسرعة :( فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) .

يستفاد من هذه الجملة جيدا أنّه حتى مشركي وعبدة الأصنام في الجاهلة كانوا يعلمون أنّ الخالق والرازق والمحيي ومدبر أمور عالم الوجود هو الله سبحانه ، وقد علموا هذه الحقيقة عن طريق العقل ، وكذلك عن طريق الفطرة ، وهي أنّ هذا النظام الدقيق للعالم لا يمكن أن يكون وليد الصدفة والفوضى ، أو مخلوقا من قبل هذه الأصنام.

وفي آخر الآية يأمر الله نبيّه( فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) فإنّ الوحيد الذي له أهلية العبادة هو الذي بيده الخلق وتدبير أمره ، وإذا كانت العبادة لأجل أهلية وعظمة ذات المعبود ، فإنّ هذه الأهلية والعظمة منحصرة في الله تعالى ، وإذا كانت من أجل أنّه مصدر الضر والنفع ، فإنّ ذلك مختص بالله أيضا.

وبعد أن عرضت الآية السابقة نماذج من آثار عظمة وتدبير الله في السماء والأرض ، وأيقظت وجدان وعقل المخالفين ودعتهم للحكم في أمر الخالق ، واعترف هؤلاء بذلك ، خاطبتهم الآية التالية بلهجة قاطعة وقالت :( فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ ) لا الأصنام ، ولا سائر الموجودات التي جعلتموها شريكة للباريعزوجل ، والتي تسجدون أمامها وتعظمونها.

كيف يمكن أن يكون هؤلاء أهلا للعبودية في حين أنّهم ليسوا فقط غير قادرين على المشاركة في خلق العالم وتدبيره فحسب ، بل منغمسون في الفقر والاحتياج من الرأس حتى أخمص القدم.

ثمّ تنتهي إلى ذكر النتيجة :( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) وأنّى تولوا وجوهكم عن عبادة الله وأنتم تعلمون ألا خالق ولا معبود حقّا سواه؟

إنّ هذه الآية في الواقع تطرح طريقا منطقيا واضحا لمعرفة الباطل وتركه ، وهو أن يخطو الإنسان أوّلا في سبيل معرفة الحق بآليات الوجدان والعقل ، فإذا عرف الحق فإنّ كل ما خالفه باطل وضلال ، ويجب أن يضرب عرض الحائط.

٣٤٨

وتقول آخر آية في بيان العلة في عدم اتباع هؤلاء للحق رغم وضوح الأمر وظهور الحق :( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (1) وفي الواقع فإنّ هذه خاصية الأعمال السيئة المستمرة لهؤلاء بحيث تظلم قلوبهم وتلوث أرواحهم إلى درجة لا يرون معها الحق رغم وضوحه وتجلّيه ، ويسلكون نتيجة لذلك طريق الضلال.

بناء على ذلك ، فإنّ الآية أعلاه لا دلالة لها مطلقا على مسألة الجبر ، بل هي إشارة إلى آثار أعمال نفس الإنسان ، لكن لا شك أنّ هذه الأعمال لها تلك الخاصية بأمر الله ، تماما كما نقول لشخص : لقد قلنا لك مائة مرّة أن لا تحوم حول المواد المخدرة والمشروبات المسكرة ولا تتناولها ، لكنّك لم تصغ لنا ، فأصبحت الآن من المدمنين عليها ومحكوما بأن تبقى تعيسا لمدّة طويلة.

* * *

__________________

(1) كاف التشبيه هنا إشارة إلى المطلب الذي ذكر في آخر جملة من الآية السابقة ، ومعنى الآية هكذا : كما أنّه ليس بعد الحق إلّا الضلال ، كذلك حقّت كلمة ربّك.

٣٤٩

الآيات

( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) )

التّفسير

واحدة من علامات الحق والباطل :

تعقب هذه الآيات أيضا الاستدلالات المرتبطة بالمبدأ والمعاد ، وتأمر الآية الأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ثمّ تضيف :( قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) ولماذا تصرفون وجوهكم عن الحق وتتجهون نحو الضلال؟

وهنا سؤالان :

الأوّل : إنّ مشركي العرب غالبا لا يعتقدون بالمعاد ، خاصّة بالصورة التي

٣٥٠

يذكرها القرآن ، وإذا كان هذا حالهم فكيف يطلب القرآن منهم الاعتراف به؟

الثّاني : في الآية السابقة كان الكلام عن اعتراف المشركين وإقرارهم ، إلّا أنّ هذه الآية تأمر النّبي أن يقرّ هو بهذه الحقيقة ، فلما ذا هذا الاختلاف في التعبير؟

إلّا أنّ الانتباه إلى مسأله يوضح جواب كلا السؤالين ، وهي : إنّ المشركين بالرغم من عدم اعتقادهم بالمعاد الجسماني ، إلّا أنّ ذلك القدر الذي آمنوا به من أن بداية الخلق كانت من الله كاف لتقبل المعاد والإعتقاد به ، لأنّ كل من عمل عملا في البداية قادر على إعادته ، وبناء على هذا فإنّ الإعتقاد بالمبدإ إذا ما اقترن بشيء من الدقة كاف لإثبات المعاد. ومن هنا يتّضح لماذا أقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الحقيقة بدلا من المشركين ، فإنّه بالرغم من كون الإيمان بالمعاد من لوازم الإيمان بالمبدأ ، إلّا أنّ هؤلاء لما لم يتوجهوا إلى هذه الملازمة ، اختلف طراز التعبير وأقر النّبي مكانهم.

ثمّ تأمر الآية الأخرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة أخرى :( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ ) لأنّ المعبود يجب أن يكون هاديا ومرشدا لعبادة ، خاصّة وأنّها هداية نحو الحق ، في حين أنّ آلهة المشركين ، أعمّ من الجمادات أو الاحياء ، غير قادرة أن تهدي أحدا إلى الحق بدون الهداية الإلهية ، لأنّ الهداية إلى الحق تحتاج إلى منزلة العصمة والصيانة من الخطأ والاشتباه ، وهذا لا يمكن من دون هداية الله سبحانه وتسديده ، ولذلك فإنّها تضيف مباشرة :( قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ ) وإذا كان الحال كذلك( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ) (1) .

وتقول الآية في النهاية بلهجة التوبيخ والتقريع والملامة :( فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) .

وفي آخر آية إشارة إلى المصدر الأساس والعامل الأصل لهذه الانحرافات وهو الأوهام والظنون( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) وفي

__________________

(1) يهدّي كانت في الأصل يهتدي ، فبدلت التاء دالا وأدغمت فشددت.

٣٥١

النهاية تخاطب الآية ـ بأسلوب التهدد ـ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يتبعون أي منطق سليم وتقول :( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله سبحانه وحده الذي يهدي إلى الحق ، وهذا الحصر إمّا لأنّ المقصود من الهداية ليس. هو إراءة الطريق وحسب ، بل هو الإيصال إلى المقصد ، وهذا الأمر بيد الله فقط ، أو لأنّ إراءة الطريق والدلالة عليه هو أيضا من عمل الله في الدرجة الأولى ، وأمّا غيره من الأنبياء والمرشدين والمصلحين الإلهيين فإنّهم يطلعون على طريق الهداية عن طريقه وهدايته ، ويصبحون علماء بتعليمه.

2 ـ إنّ ما نقرؤه في الآيات أعلاه من أنّ آلهة المشركين لا تستطيع أن تهدي أحدا ، بل هي بذاتها محتاجة إلى الهداية الإلهية ، وإن كان لا يصدق على الأصنام الحجرية والخشبية، لأنّها لا تملك العقل والشعور مطلقا ، إلّا أنّه يصدق تماما في حق الآلهة التي لها شعور كالملائكة والبشر الذين أصبحوا معبودين.

ويحتمل أيضا أن تكون الجملة المذكورة بمعنى القضية الشرطية ، أي على فرض أنّ للأصنام عقلا وشعورا ، فإنّها لا تستطيع أن تجد الطريق بدون الهداية الإلهية لنفسها ، فكيف ستقدر على هداية الآخرين؟

وعلى كل حال ، فإنّ الآيات أعلاه تبيّن ـ بوضوح ـ أنّ من برامج الله الأصلية لعباده أن يهديهم إلى الحق ، ويتمّ ذلك عن طريق منح العقل ، وإعطاء الدروس المختلفة عن طريق الفطرة ، وإرادة وإظهار آياته في عالم الخلقة ، وكذلك عن طريق إرسال الأنبياء والكتب السماوية.

3 ـ طالعنا في آخر آية من هذه الآيات أنّ أكثر المشركين وعبدة الأصنام يتبعون ظنونهم وأوهامهم ، وهنا يأتي سؤال ، وهو : لماذا لم يقل الله سبحانه : وما

٣٥٢

يتبع كلّهم بدل أكثرهم ، لأنّا نعلم أنّ جميع المشركين شركاء في هذا الظن الباطل ، حيث يعتقدون أنّ الأصنام آلهة بحق وتملك النفع والضرر وتشفع عند الله ، ولهذا فإنّ البعض اضطر إلى تفسير كلمة «أكثرهم» بأنّها تعني «جميعهم» ، وذهب أن هذه الكلمة جاءت أحيانا بهذا المعنى.

إلّا أنّ هذا الجواب غير وجيه ، والأفضل أن نقول : إن المشركين صنفان : صنف يشكل الأكثرية ، وهم الأفراد الخرافيون الجهلاء الذين وقعوا تحت تأثير الأفكار الخاطئة ، واختاروا الأصنام لعبادتها.

أمّا القسم الثّاني ، وهم الأقلية ، فهم الزعماء وأئمّة الكفر الواعون لحقيقة الأمر والمطّلعون على عدم صحة عبادة الأصنام وأنّها لا أساس لها ، وإلّا أنّهم يدعون الناس لعبادتها حفظا لمصالحهم ، ولهذا السبب فإنّ الله يجيب الصنف الأوّل فقط لأنّهم مؤهلين للهداية ، أمّا الصنف الثّاني فلم يعبأ بهم مطلقا لأنّهم سلكوا هذا الطريق عن علم ووعي.

4 ـ يعتبر جماعة من علماء الأصول هذه الآية وأمثالها دليلا على أن الظن لا يمكن أن يكون حجة وسندا بأي وجه من الوجوه ، وأن الأدلة القطعية هي الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها.

إلّا أنّ جماعة أخرى يقولون : إنّنا نلاحظ بين الادلة الفقهية أدلّة ظنية كثيرة ، كحجية ظواهر الألفاظ ، وشهادة الشاهدين العدلين ، أو خبر الواحد الثقة وأمثال ذلك ، ولذلك فإنّ الآية المذكورة دليل على أنّ القاعدة الأصلية في مسألة الظن هي عدم حجيته ، إلّا أنّ تثبت حجيته بالدليل القطعي كالأمثلة أعلاه.

إلّا أنّ الحق هو أنّ الآية أعلاه تتحدث عن الظنون والأوهام التي لا أساس لها ، كظنون وأوهام عبدة الأصنام فقط ، ولا علاقة لها بالظن الذي يمكن الاعتماد عليه والموجود بين العقلاء ، وبناء على هذا فإنّ هذه الآية وأمثالها لا يمكن الاستناد إليها بأي وجه في مسألة عدم حجية الظن. فتدبر جيدا.

* * *

٣٥٣

الآيات

( وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) )

التّفسير

عظمة دعوة القرآن وحقانيته :

تتطرق هذه الآيات إلى الإجابة عن قسم آخر من كلمات المشركين السقيمة ، فإنّ هؤلاء لم يجانبوا الصواب في معرفة المبدأ وحسب ، بل كانوا يفترون على نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه هو الذي اختلق القرآن ونسبه إلى الله ، ورأينا في الآيات السابقة

٣٥٤

أنّهم طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي بغير هذا القرآن ، أو يغيره على الأقل ، وهذا بنفسه دليل على أنّهم كانوا يظنون أن القرآن من تأليف النّبي!

فالآية الأولى تقول :( وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ ) واللطيف هنا أنّها بدل أن تنفي هذا الأمر نفيا بسيطا ، نفته نفيا شأنيا ، وهذا يشبه تماما أن يقول شخص ما في مقام الدفاع عن نفسه : ليس من شأني الكذب ، وهذا التعبير اعمق وأكثر معنى من أن يقول : إنّي لا أكذب.

ثمّ تتطرق الآية إلى ذكر الدليل على أصالة القرآن وكونه وحيا سماويا : فتقول( وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي إنّ كل البشارات والدلالات الحقّة التي جاءت في الكتب السماوية السابقة تنطبق على القرآن ومن جاء به تماما ، وهذا بنفسه يثبت أنّه ليس افتراء على الله بل هو حق ، وأساسا فإنّ القرآن شاهد على صدق محتواه من باب أنّ طلوع الشمس دليل على الشمس.

ومن هنا يتّضح زيف الذين استدلوا بمثل هذه الآيات على عدم تحريف التّوراة والإنجيل ، لأنّ القرآن الكريم لم يصدق ما كان موجودا في هذه الكتب في عصر النزول ، بل إنّه أيّد العلامات الواردة في هذه الكتب حول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن. وقد بيّنّا توضيحات أكثر في هذا الباب في المجلد الأوّل من هذا التّفسير في ذيل الآية (41) من سورة البقرة.

ثمّ تذكر الآية دليلا آخر على أصالة هذا الوحي السماوي وهو : إنّ في هذا القرآن شرح كتب الأنبياء السابقين الأصيلة ، وبيان أحكامهم الأساسية وعقائدهم الأصولية ، ولهذا فلا شك في كونه من الله تعالى ، فتقول :( وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) وبتعبير آخر : لا يوجد فيه أي تضاد وتناقض مع برامج وأهداف الأنبياء السابقين ، بل يلاحظ فيه تكامل تلك التعليمات والبرامج ، وإذا كان هذا القرآن مختلقا فلا بدّ أن يخالفها ويناقضها.

ومن هنا نعلم أنّه لا يوجد أي اختلاف بين الكتب السماوية في أصول

٣٥٥

المسائل ، سواء كانت في العقائد الدينية ، أو البرامج الاجتماعية ، أو حفظ الحقوق ، أو محاربة الجهل ، أو الدعوة إلى الحق والعدالة ، وكذلك إحياء القيم الأخلاقية وأمثال ذلك ، سوى أن الكتاب الذي ينزل متأخرا يكون أرفع مستوى وأكمل من السابق ، تماما كاختلاف مراحل التعليم في الابتدائية والإعدادية والجامعة ، حتى انتهت المراحل بالكتاب الأخير الخاص بالمرحلة النهائية لتحصيل الأمم الديني ، ألا وهو القرآن.

ولا شك في وجود الاختلاف في جزئيات الأحكام بين الأديان والمذاهب السماوية ، إلّا أنّ الكلام عن أصولها الأساسية المتحدة والمشتركة في كل مكان.

وذكر في الآية التالية دليل ثالث على أصالة القرآن ، وخاطبت الذين يدعون أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد افترى هذا القرآن على الله ، بأنّكم إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا في ذلك بمن شئتم غير الله ، ولكنّكم لا تستطيعون فعل ذلك أبدا ، وبهذا الدليل يثبت أن القرآن من وحي السماء( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ هذه الآيات من جملة الآيات التي تبيّن إعجاز القرآن بصراحة ، لا إعجاز كل القرآن فحسب ، بل حتى إعجاز السورة الواحدة ، وقد خاطبت كل العالمين ـ بدون استثناء ـ بأنّكم إن كنتم معتقدين بأنّ هذه الآيات ليست من الله فأتوا بمثله ، أو بسورة منه على الأقل.

وكما بيّنا في المجلد الأوّل في ذيل الآية (23) من سورة البقرة ، فإنّ آيات القرآن تتحدى أحيانا أن يؤتى بمثل كل القرآن ، وأحيانا بعشر سور ، وأحيانا بسورة واحدة ، وهذا يوضح أنّ جزء القرآن وكلّه معجز. ولمّا لم تعين الآية سورة معينة فإنّها تشمل كل سورة من القرآن.

طبعا لا شك أنّ إعجاز القرآن لا ينحصر في جوانب الفصاحة والبلاغة وحلاوة البيان وكمال التعبيرات كما ظن ذلك جماعة من قدماء المفسّرين ، بل إن جانب

٣٥٦

الإعجاز يتمثل أيضا إضافة لما مر في بيان المعارف الدينية ، والعلوم التي لم تكن معروفة حتى ذلك اليوم ، وبيان الأحكام والقوانين ، وذكر تأريخ السابقين من دون أي خطأ أو تلبس بخرافة ، وعدم وجود الاختلاف والتضادّ فيه(1) .

مظاهر وتجليات جديدة من إعجاز القرآن :

ممّا يلفت النظر أنّ مظاهر جديدة من إعجاز القرآن تتّضح مع مرور الزمن ، حيث لم تكن تجلب الانتباه ـ سابقا ـ ولا يهتم بها ، ومن جملتها المحاسبات الكثيرة التي أجريت على كلمات القرآن بواسطة العقول الألكترونية ، والتي أثبتت أن لكلمات وفقرات القرآن وعلاقتها بزمن النزول خصوصيات جديدة ، وما تقرؤونه أدناه نموذج منها :

إنّ تحقيقات بعض العلماء والمحققين أدت إلى كشف روابط معقدة ومعادلات حسابية دقيقة جدّا في آيات القرآن حتى أنّها جمعت بين الحيرة واليقين في وجود مثل هذا النظام العلمي في بناء القرآن ، وذلك عن طريق التحقيق الإحصائي والرّياضي لكشف القواعد الدقيقة والمعادلات الرياضية للآيات الشريفة والتي تذكرنا من ناحية الأهمية والمعرفة باكتشاف نيوتن للجاذبية.

أحد علماء القرآن بدأ عمله من هذه المسألة البسيطة ، وهي أنّ الآيات النازلة في مكّة قصيرة ، والآيات التي نزلت في المدينة طويلة ، وهذه مسألة طبيعية ، فإنّ كل كاتب أو خطيب بليغ يغير من طول جمله ونغمات كلماته حسب موضوع الحديث ، فمثلا تكون جمل التوصيف قصيرة ، أمّا مسائل التحليل والاستدلال فهي طويلة وإذا كان الكلام لغرض تحريك العواطف أو للانتقاد او لبيان الأصول العقائدية العامّة ، فإنّ العبارة تكون قصيرة وبأسلوب الشعارات ، أمّا إذا كان بداية قصّة أو لبيان الكلام في استخلاص النتائج الأخلاقية و... فإنّ الأسلوب يكون

__________________

(1) لمزيد الاطلاع راجع المجلد الأوّل الآية (23) و (24) من سورة البقرة.

٣٥٧

هادئا والعبارات طويلة.

إنّ المسائل التي طرحت في مكّة هي من النوع الأوّل ، بينما المسائل التي طرحت في المدينة من النوع الثّاني ، فما نزل في مكّة كان بداية ثورة وبيان للمبادئ العامّة ، الاعتقادية والانتقادية ، والذي نزل في المدينة كان لبناء مجتمع وبيان مسائل حقوقية وأخلاقية وقصص تاريخية واستخلاص النتائج الفكرية والعلمية.

وبما أنّ القرآن نزل بلغة البشر فلا بدّ من أن يتبع السبك الجميل والبليغ في كلام البشر ، وفي النتيجة مراعاة قصر وطول الآيات بما يناسب المفاهيم ، وبالتالي يجب أن لا يكون القصر والطول اعتباطيا وعشوائيا ، بل يبدأ حسب قاعدة علمية دقيقة من الآيات القصيرة ، ويسير على وتيرة تصاعدية واحدة نحو الآيات الطويلة ، وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل آية أقصر من الآية التي نزلت بعد سنة ، وأطول من الآية التي نزلت قبلها بسنة ، وأن يكون مقدار الزيادة محسوبا ودقيقا ، وعلى هذا فلمّا كان الوحي قد نزل خلال 23 سنة ، فيجب أن يكون لدينا 23 طولا في الآيات كمعدل ، وبناء على هذه القاعدة يمكن أن يكون لدينا 23 عمودا بحيث تقسم كل الآيات حسب الطول في هذه الأعمدة ، والآن من أين نستطيع أن نعلم أن هذا التقسيم صحيح؟

نحن نعلم سبب نزول بعض الآيات بواسطة الرّوايات الشريفة التي ذكرت ـ بصراحة ـ في أية سنة نزلت هذه الآيات ، والبعض الآخر يمكن تعيينه من خلال مفاهيمه ، فمثلا : الآيات التي تبيّن بعض الأحكام كتغيير القبلة ، وتحريم الخمر ، وتشريع الحجاب والزكاة والخمس ، أو الآيات التي تتحدث عن الهجرة ، فإنّ سنّي تعيين هذه الأحكام معلومة.

وبتعجب مثير للدهشة نرى أن هذه الآيات التي يعلم عام نزولها ، قد اجتمعت في نفس الأعمدة التي فرضت أنّها أخذت حسب الطول في هذا الجدول. «فتدبر

٣٥٨

جيدا»

والأعجب هو ملاحظة بعض الاستثناءات في موردين أو ثلاثة ، بمعنى أن سورة المائدة مثلا آخر السور الكبار النّازلة ، في حين أن عدّة آيات منها يجب أن تكون حسب المعادلة ـ قد نزلت في السنين الأولى! وبعد التحقيق في متون التفاسير والرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين المعتبرين ، لوحظ أنّهم قالوا : إنّ هذه الآيات القليلة نزلت في البداية ، لكن وضعت في سورة المائدة حسب أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذه الطريقة يمكن تعيين سنة نزول كل آية حسب هذا الحساب الرياضي ، وكتابة القرآن حسب سنة النزول أيضا.

أي أديب وبليغ في العالم يستطيع أن يعين سنة كتابة كل جملة من خلال طول العبارة؟ خاصّة وأنّه ليس نصا كتابيا كأي أثر علمي أو أدبي جلس كاتبه مدّة معينة وكتبه وليس كتابا ألفه كاتبه في موضوع ما ، بل يحتوي على مسائل مختلفة نزلت بالتدريج حسب احتياج المجتمع ، أو هي جواب لمسائل مطروحة من الحوادث والمسائل طرحت على مدى مسيرة الدعوة وإبلاغ الرسالة ، وقد بيّنت من قبل القائد ، ثمّ جمعت ونظمت.

بل إنّ موسيقى ولحن لغات وكلمات القرآن الخاصّة ـ أيضا ـ معجزة نادرة في نوعها كما ذكر ذلك بعض المفسّرين. وقد ذكروا شواهد مختلفة جميلة على هذا الموضوع ، ومن جملتها الحادثة أدناه التي وقعت لسيد قطب المفسّر المعروف : يقول في ذيل الآية محل البحث : «ولن أذكر نماذج ممّا وقع لغيري ولكنّي أذكر حادثا وقع لي وكان معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاما كنّا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم ـ أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة

٣٥٩

ذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ، حاول أن يزاول تبشيره معنا! وقد يسر لنا قائد السفينة ـ وكان إنجليزيا ـ أن نقيم صلاتنا ، وسمح لبحارة السفينة طهاتها وخدمها ـ وكلّهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي منهم معنا من لا يكون في «الخدمة» وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحا شديدا ، إذ كانت المرّة الاولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ، والركاب الأجانب ـ معظمهم ـ متحلقون يرقبون صلاتنا! وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح «القدّاس»!!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم «تيتو» وشيوعيته! ـ كانت شديدة التأثر والانفعال ، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها ، جاءت تشدّ على أيدينا بحرارة ؛ وتقول : ـ في إنجليزية ضعيفة ـ إنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! وليس هذا موضع الشاهد في القصّة ولكن ذلك مان في قولها : أي لغة هذه التي كان يتحدث بها «قسيسكم»! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم «الصلاة» إلّا قسيس ـ أو رجل الدين ـ كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم!. وأجبناها فقالت : إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقى عجيب ، وإنّ كنت لم أفهم منها حرفا ثمّ كانت المفاجأة الحقيقة لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أت أسأل عنه إنّ الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن «الإمام» كانت ترد في أثناء كلامه ـ بهذا اللغة الموسيقية ـ فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية كما لو كان ـ الإمام ـ مملوءا من الروح القدس! ـ حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها!

تفكرنا قليلا ، ثمّ أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت ـ مع ذلك ـ مفاجأة تدعو إلى الدهشة ، من سيدة

٣٦٠