الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260610 / تحميل: 6464
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

«فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت» قالت ليلى الأخيلية:

لعمرك ما بالموت عار على امرى‏ء

إذا لم تصبه في الحياة المعاير

في (الأغاني): مرّ مالك بن الريب بليلى الأخيلية فجلس إليها يحادثها طويلا و أنشدها، فأقبلت عليه و أعجبت به حتّى طمع في وصلها ثم إذا هو بفتى قد جاء إليها كأنّه نصل سيف فجلس إليها فأعرضت عن مالك و تهاونت حتّى كأنّه عندها عصفور، و أقبلت على صاحبها مليّا من نهارها فغاظه ذلك من فعلها و أقبل على الرجل فقال: من أنت؟ فقال توبة بن الحميّر. فقال: هل لك في المصارعة؟ قال: و ما دعاك إلى ذلك و أنت ضيفنا و جارنا. قال: لا بدّ منه. فظنّ أنّ ذلك يخوفه منه فازداد لجاجا، فقام توبة فصارعه فصرعه، فلمّا سقط إلى الأرض صدرت منه ريح ذات صوت، فضحكت ليلى منه فاستحى مالك فاكتتب بخراسان و قال: لا أقيم ببلد العرب أبدا و قد تحدثت عني بهذا الحديث، فأقام ثمة حتّى مات و قبره هناك معروف( ١) .

و كان المخبّل السعدي خطب كما في (الأغاني) إلى الزبرقان بن بدر أخته خليدة فمنعه ثم زوّجها بآخر فقال المخبّل:

فأنكحته زهوا كأنّ عجانها

مشقّ إهاب أوسع السلخ ناجله

ثم مر المخبل بعد ما أسن و ضعف بصره بخليدة فأنزلته و قرّبته و أكرمته و وهبت له وليدة قالت له: إني آثرتك بها يا أبا يزيد فاحتفظ بها. فقال:

و من أنت حتّى أعرفك و أشكرك. قالت: لا عليك. قال: بلى و اللّه. قالت: أنا بعض من هتكت بشعرك ظلما أنا خليدة بنت بدر. فقال: و اسوأتاه منك فإنّي استغفر اللّه و أستقيلك، ثم قال:

____________________

(١) الأغاني ٢٢: ٢٩٧، دار احياء التراث العربي بيروت.

٦١

لقد ضلّ حلمي في خليدة إنّني

سأعتب نفسي بعدها و أتوب

فأقسم بالرّحمن إنّي ظلمتها

و جرت عليها و الهجاء كذوب( ١)

«و تغرى» من الإغراء أو التغرية أي: تولع.

«به لئام الناس» في (المعجم): اجتاز القاضي التنوخي يوما في بعض الدروب فسمع امرأة تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا اختي؟ فقالت لها: رزقتها يوم شهر بالقاضي التنوخي و ضرب بالسياط فرفع رأسه إليها و قال: يا بظراء صار صفعي تاريخك ما وجدت تاريخا غيره.

و في (العيون): دخل اعرابي على المساور الضبّي و هو بندار الريّ فسأله فلم يعطه فقال:

أتيت المساور في حاجة

فما زال يسعل حتّى ضرط

و حكّ قفاه بكرسوعه

و مسّح عثنونه و امتخط

فأمسك عن حاجتي خيفة

لاخرى تقطّع شرخ السفط

فأقسم لو عدت في حاجتي

للطّخ بالسلح و شي النمط

و قال غلطنا حساب الخراج

فقلت من الضرط جاء الغلط

فكان مساور كلّما ركب صاح به الصبيان: «من الضرط جاء الغلط» فهرب من غير عزل إلى بلاد أصبهان( ٢) .

«كان كالفالج الياسر» هكذا في النهج بتقديم «الفالج» في الاول و بتقديم الياسر بلفظ «كالياسر الفالج» في الثاني، و الظاهر أنّه أخذ الأول من رواية (الكافي) و أخذ الثاني من كتب عريب الحديث، بدليل أنّ النهاية أيضا نقله

____________________

(١) الاغاني ١٣: ١٩٦.

(٢) عيون الأخبار لابن قتيبة ٣: ١٥٤.

٦٢

كالثاني( ١ ) و هو الصحيح لأن الفالج صفة الياسر و الصفة لا تتقدم على الموصوف و كذلك نقله اليعقوبي كما مر.

و أما قول ابن أبي الحديد و لم يتفطّن للإختلاف بين لموضعين كغيره: إنّه من باب تقديم الصفة على الموصوف كقوله تعالى: و غرابيب سود( ٢ ) ...( ٣ ) ، ففي غير محله، فإنّ المواضع التي تتقدّم فيها الصفة تجعل مضافة لا موصوفة، كأن يقال في «الليالي السود» «سود الليالي»، و أما «غرابيب سود» فقال الجوهري «سود» بدل من «غرابيب» لأن تواكيد الألوان لا تتقدم( ٤ ) ، مع أنه بعد وجود الرواية الصحيحة لا نحتاج إلى تأويل.

ثم إنّ المصنّف في الأوّل لم يتعرّض لتفسير الكلمتين، و إنّما فسّرهما في الثاني بأنّ الياسرين هم الذين يتضاربون بالقداح على الجزور، و الفالج القاهر الغالب، و اعترض عليه ابن أبي الحديد ثمّة في تفسير الفالج بأنّ الغالب لا ينتظر كما قد وصف به بعد و إنّما يعني بالفالج الميمون النقيبة الّذي له عادة مطّردة أن يغلب، و قلّ أن يكون مقهورا( ٥ ) ، مع أنه نفسه في الأول فسره بما فسّره المصنّف ثمّة فقال: الفالج الظافر الفائز( ٦ ) ، فالاعتراض عليه نفسه، مع أنّه لم يفسّر أحد الفالج بالميمون النقيبة، و كان عليه أن يقول ليس المراد بالغالب الغالب فعلا بل شأنا، و هو الّذي يغلب غالبا. و فسّره ابن ميثم( ٧ ) بأن

____________________

(١) النهاية ٥: ٢٩٦.

(٢) فاطر: ٢٧.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٨: ٣١٤.

(٤) شرح ابن ميثم ٢: ٣.

(٥) شرح ابن أبي الحديد ١٩: ١١٥.

(٦) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٤.

(٧) شرح ابن ميثم ٢: ٣.

٦٣

المراد الفائز الذي ينتظر قبل فوزه أول فوزة من قداحه.

«الذي ينتظر أول فوزة من قداحه» بالكسر جمع القدح بالكسر، و أمّا القدح بفتحتين فجمعه أقداح للشرب، و القداح للميسر.

«توجب له المغنم» أي: الغنيمة.

«و يرفع بها عنه» هكذا في (المصرية) و الصواب: (و يرفع عنه بها) كما في (ابن أبي الحديد)( ١ ) و (ابن ميثم)( ٢ ) و (الخطية).

«المغرم» أي: الغرامة، قال ابن دريد في (جمهرته)، أسماء قداح الميسر ممّا اتّفق عليه الأصمعي و غيره من أهل العلم الفائزة منها سبعة و هي الفذ و التوأم و الضريب و هو المصفح و الحلس و النافس و المسبل و المعلّى، فهذه سبعة و منها ما لا نصيب له الفسيح و المنيح و الرقيب و الوغد( ٣) .

و قال ابن ميثم: المنقول أنّ الخشبات المسمّيات قداحا و هي التي كانت لأيسار الجزور سبعة: أولها الفذ و فيه فرض واحد، و الثاني التوأم و فيه فرضان، و ثالثها الضريب و فيه ثلاثة فروض، و رابعها الحلس و فيه أربعة، و الخامس النافس و فيه خمسة، و السادس المسبل و فيه ستة، و السابع المعلّى و له سبعة، و ليس بعده قدح فيه شي‏ء من الفروض إلاّ أنّهم يدخلون مع هذه السبعة أربعة اخرى تسمّى أو غادا لا فروض فيها و إنّما تنقل بها القداح و أسماؤها: المصدر ثم المضعف ثم المنيح ثم السفيح، فإذا اجتمع أيسار الحي أخذ كلّ منهم قدحا و كتب عليه اسمه أو علّمه بعلامة ثم أتوا بجزور فينحرها صاحبها و يقسمها عشرة أجزاء على الوركين و الفخذين و العجز

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٢.

(٢) شرح ابن ميثم ٢: ٣.

(٣) جمهرة اللغة ١: ٥٠٤.

٦٤

و الكاهل و الزور و الملجأ و الكتفين، ثم يعمد إلى الطفاطف و خرز الرقبة فيقسمها على تلك الأجزاء بالسويّة، فإذا استوت و بقي منها عظم أو بضعة لحم انتظر به الجازر من أراده ممن يفوز قدحه، فإذا أخذه عيّر به و إلاّ فهو للجازر. ثم يؤتى برجل معروف أنّه لم يأكل لحما قط بثمن إلاّ ان يصيبه عند غيره و يسمى الحرضة فيجعل على يديه ثوب و يعصب رؤوس أصابعه بعصابة كيلا يجد مس الفروض، ثم يدفع إليه القداح و يقوم خلفه رجل يقال له الرقيب فيدفع إليها قدحا منها من غير أن ينظر إليها، فمن خرج قدحه أخذ من أجزاء الجزور بعدد الفروض التي في قدحه، و من لم يخرج قدحه حتّى استوفيت أجزاء الجزور غرم بعدد فروض قدحه كأجزاء تلك الجزور من جزور اخرى لصاحب الجزور الذي نحرها، فإنّ اتّفق أن خرج المعلّى أوّلا فأخذ صاحبه سبعة أجزاء من أجزاء الجزور، ثم خرج المسبل فلم يجد صاحبه إلاّ ثلاثة أجزاء أخذها و غرم له من لم يفز قدحه ثلاثة أجزاء من جزور اخرى.

و أمّا القداح الأربعة الأوغاد فليس في خروج أحدها غنم و لا من عدم خروجه غرم، و المنقول عن الأيسار أنّهم كانوا يحرّمون ذلك اللحم على أنفسهم و يعدّونه للأضياف( ١) .

«و كذلك المرء المسلم البري‏ء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له) الذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون( ٢ ) ، إنّ الذين قالوا ربّنا اللّه ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة الّتي

____________________

(١) شرح ابن ميثم ٢: ٦.

(٢) النحل: ٣٢.

٦٥

كنتم توعدون. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و في الآخرة و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدّعون. نزلا من غفور رحيم( ١) .

و عنهمعليهم‌السلام : ما بين أحدكم و بين الجنة إلاّ أن تبلغ نفسه حلقه.

و لما انتهى الحسينعليه‌السلام إلى عذيب الهجانات فإذا هم بأربعة قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم و معهم دليلهم الطرمّاح بن عديّ على فرسه و هو يقول:

يا ناقتي لا تذعري من زجري

و شمّري قبل طلوع الفجر

بخير ركبان و خير سفر

حتّى تحلي بكريم النجر

أتى به اللّه لخير أمر

ثمّة أبقاه بقاء الدهر

فقال الحسينعليه‌السلام : و اللّه أرجو أن يكون ما أراد اللّه بنا خيرا قتلنا أم ظفرنا.

«و إمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال و معه دينه و حسبه» روى (الكافي): أنّ الصادقعليه‌السلام قال لسفيان الثوري و أصحابه الصوفية لما رأى عليه ثيابا بيضا كأنها غرقى‏ء البيض و أنكره فيما ردّ عليه: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما عجبت من شي‏ء كعجبي من المؤمن إنّه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له، و ان ملك ما بين مشارق الأرض و مغاربها كان خيرا له، و كلّ ما يصنع اللّه عز و جل به فهو خير له. و أخبروني أين أنتم عن سليمان بن داودعليه‌السلام حيث سأل اللّه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه اللّه تعالى ذلك و كان يقول الحق و يعمل به، و داود النبي قبله في ملكه و شدّة سلطانه، ثم يوسف النبيّ حيث قال لملك مصر إجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ

____________________

(١) فصلت: ٣٠ ٣٢.

٦٦

عليم( ١ ) ، ثم ذو القرنين عبد أحبّ اللّه فأحبه و طوى له الأسباب و ملكه مشارق الأرض و مغاربها و كان يقول الحق و يعمل به ثم لم نجد أحدا عاب عليه ذلك...( ٢) .

و روى (روضة الكافي) عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان عابد في بني اسرائيل و كان محارفا لا يتوجه في شي‏ء فيصيب فيه شيئا فأنفقت عليه امرأته حتّى لم يبق عندها شي‏ء، فجاعوا يوما من الأيام فدفعت إليه فضلا من غزل و قالت له بعه و اشتر شيئا نأكله، فانطلق به فوجد السوق قد أغلقت فقال لو أتيت هذا الماء فتوضأت منه و صببت عليّ منه و انصرفت، فجاء إلى البحر فإذا هو بصيّاد قد ألقى شبكته فأخرجها و ليس فيها إلاّ سمكة ردّية قد مكثت عنده حتّى صارت رخوة منتنة، فقال له بعني هذه السمكة و أعطيك هذا الغزل تنتفع به في شبكتك. قال: نعم، فأخذ السمكة و دفع إليه الغزل و انصرف بالسمكة إلى منزله، فلمّا شقّت امرأته السمكة بدت في جوفها لؤلؤة فأرتها زوجها فانطلق بها إلى السوق فباعها بعشرين ألف درهم و انصرف إلى منزله بالمال، فإذا سائل يدقّ الباب و يقول: يا أهل الدار تصدّقوا على المسكين. فقال له الرجل: ادخل فدخل، فقال له: خذ أحد الكيسين فأخذ أحدهما و انطلق، فقالت له امرأته: بينما نحن مياسير إذ ذهب بنصف يسارنا، فلم يكن ذلك بأسرع من أن دق السائل الباب و وضع الكيس مكانه ثم قال له: كل هنيئا مريئا إنّما أنا ملك أراد ربّك أن يبلوك فوجدك شاكرا( ٣) .

«إن المال و البنين حرث الدنيا» في (العقد الفريد): من قبائل مذحج سعد

____________________

(١) يوسف: ٥٤.

(٢) الكافي ٥: ٦٥ ٧٠.

(٣) الكافي ٨: ٣٨٥ و ٣٨٦ ح ٥٨٥.

٦٧

العشيرة بن مالك بن أدد، و إنّما سمّي سعد العشيرة لأنّه لم يمت حتّى ركب معه من ولده و ولد ولده ثلاثمئة رجل( ١) .

«و العمل الصالح حرث الآخرة» قال تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ماله في الآخرة من نصيب( ٢) .

«و قد يجمعهما اللّه لأقوام» قال تعالى: و منهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا( ٣) .

و روى الكشي: إن الصادقعليه‌السلام إذا رأى اسحاق بن عمّار، و إسماعيل بن عمّار قال: قد يجمعهما اللّه لأقوام يعني الدنيا و الآخرة( ٤) .

هذا، و قالوا: دخل أبو ورق على هارون و بين يديه جارية حسناء فقال له: صفها و إنّ اسمها دنيا، فقال:

ان دنيا هي التي

تملك القلب قاهره

ظلموا شطر اسمها

فهي دنيا و آخره

و لما قتل طاهر ذو اليمينين الأمين كتب إلى المأمون: وجّهت إليك بالدنيا و هو رأس المخلوع و بالآخرة و هي البردة و القضيب.

«فاحذروا ما حذركم اللّه من نفسه» لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين و من يفعل ذلك فليس من اللّه في شي‏ء إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة

____________________

(١) العقد الفريد ٣: ٣٠٧.

(٢) الشورى: ٢٠.

(٣) البقرة: ٢٠٢.

(٤) رجال الكشي: ٤٠٢ ح ٧٥٢.

٦٨

و يحذّركم اللّه نفسه و إلى اللّه المصير( ١ ) ، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّ لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا و يحذّركم اللّه نفسه و اللّه رؤوف بالعباد( ٢) .

و في (الارشاد): لما عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك قدم إليه عمرو بن معد يكرب فقال له النبي: أسلم يا عمرو يؤمنك اللّه من الفزع الأكبر. قال: يا محمّد ما الفزع الأكبر؟ فإنّي لا أفزع. فقال: يا عمرو انّه ليس كما تظنّ و تحسب، إنّ الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميّت إلاّ نشر و لا حيّ إلاّ مات إلاّ ما شاء اللّه، ثم يصاح بهم صيحة اخرى فينشر من مات و يصفّون جميعا و تنشقّ السماء و تهدّ الأرض و تخرّ الجبال هدّا، و ترمي النّار بمثل الجبال شرارا فلا يبقى ذو روح إلاّ انخلع قلبه و ذكر ذنبه و شغل بنفسه إلاّ ما شاء اللّه( ٣) .

«و اخشوه خشية» عن الحقيقة.

«ليست بتعذير» أي: بإظهار العذر و ليس له عذر، و لكن قال الجوهري:

كان ابن عباس يقرأ و جاء المعذرون( ٤ ) من أعذر و يقول: و اللّه لهكذا أنزلت، و يقول لعن اللّه المعذرين كان الأمر عنده أنّ المعذر هو المظهر للعذر اعتلالا من غير حقيقة له في العذر، و المعذر من له عذر( ٥) .

في الخبر: ان اللّه تعالى أنزل كتابا من كتبه على نبي من أنبيائه أنّه يكون من خلقي لمحسّنون الدنيا بالدين يلبسون مسوك الضأن على قلوب كقلوب الذئاب أشدّ مرارة من الصبر و ألسنتهم أحلى من العسل و أعمالهم الباطنة

____________________

(١) آل عمران: ٢٨.

(٢) آل عمران: ٣٠.

(٣) إرشاد المفيد: ٨٤.

(٤) التوبة: ٩٠.

(٥) الصحاح للجوهري ٢: ٧٤١١.

٦٩

أنتن من الجيف، بي يغترّون أم إيّاي يخادعون أم عليّ يجترئون؟ فبعزّتي حلفت لأبعثن عليهم فتنة تطأ في خطامها حتّى تبلغ أطراف الأرض، تترك الحليم منها حيران( ١) .

«و اعملوا في غير رياء و لا سمعة فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله اللّه» أي: يدعه.

«لمن» هكذا في (المصرية) و الصواب: (إلى من) كما في (ابن أبي الحديد)( ٢ ) و (ابن ميثم)( ٣ ) و (الخطية).

«عمل له» روى (الكافي): أنّ الصادقعليه‌السلام قال لعباد البصري: ويلك يا عباد إيّاك و الرياء فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى من عمل له.

و قالعليه‌السلام : قال تعالى: «أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلاّ ما كان لي خالصا».

و قالعليه‌السلام في قوله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا( ٤ ) هو الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه اللّه إنّما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه. ثم قالعليه‌السلام : ما من عبد ستر خيرا فذهبت الأيام أبدا حتّى يظهر اللّه له خيرا، و ما من عبد يستر شرّا فذهبت الايام حتّى يظهر اللّه له شرّا.

و قالعليه‌السلام في قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة. و لو ألقى معاذيره( ٥ ) ما يصنع الإنسان أن يتقرب إلى اللّه تعالى بخلاف ما يعلمه اللّه، ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسر سريرة رداه اللّه ردائها ان خيرا

____________________

(١) الجوهري ٢: ٧٤١.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٢.

(٣) شرح ابن ميثم ٢: ٣.

(٤) الكهف: ١١٠.

(٥) القيامة: ١٤ ١٥.

٧٠

فخير و ان شرا فشر( ١) .

و روى (عقاب الأعمال) عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الرياء الشرك باللّه، و إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، فلا خلاص لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له( ٢) .

و قال ابن أبي الحديد: قال عليعليه‌السلام : ليست الصلاة قيامك و قعودك، إنّما الصلاة إخلاصك و أن تريد بها اللّه وحده.

و توصّل ابن الزبير إلى امرأة ابن عمر و هي أخت المختار في أن تكلّم بعلها أن يبايعه، فكلّمته في ذلك و ذكرت قيامه و صيامه، فقال لها: أما رأيت البغلات الشهب الّتي كنّا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة. قالت: بلى.

قال: فإيّاها يطلب ابن الزبير بصومه و صلاته( ٣) .

هذا، و ذكروا أن رجلا من قريش قال لأشعب الطمّاع: ما شكرت معروفي عندك. فقال له: ان معروفك كان من غير محتسب فوقع عند غير شاكر.

«نسأل اللّه منازل الشهداء و معايشة السعداء و مرافقة الأنبياء» إشارة إلى قوله تعالى: و من يطع اللّه و الرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشّهداء و الصّالحين و حسن أولئك رفيقا( ٤) .

«أيها الناس إنّه لا يستغني الرجل و إن كان ذا مال عن عشيرته» و في (القاموس): قال عليعليه‌السلام «من يطل هن أبيه ينتطق به» أي: من كثر بنو أبيه

____________________

(١) الكافي ٢: ٢٩٣ ٢٩٥، ١، ٤، ٦، ٩.

(٢) عقاب الأعمال: ٣٠٣ ح ١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٥ ٣١٦.

(٤) النساء: ٦٩.

٧١

يتقوّى بهم، و قال غيلان بن سلمة الثقفي:

و إنّ ابن عمّ المرء مثل سلاحه

يقيه إذا لاقى الكميّ المقنّعا

و قال:

لم أر عزا لامرى‏ء كعشيرة

و لم أر ذلا مثل نأي عن الأهل( ١)

«و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم» في (العقد الفريد): كان مهلهل صار إلى قبيلة من اليمن يقال لهم جنب فخطبوا إليه فزوجهم و هو كاره لاغترابه عن قومه، و مهروا ابنته أدما، فقال:

أنكحها فقدها الأراقم في

جنب و كان الحباء من أدم

لو بأبانين جاء يخطبها

رمّل ما أنف خاطب بدم( ٢)

«و هم أعظم النّاس حيطة» أي: رعاية.

«من ورائه» في (كامل المبرد): قال ذو الرمّة لهلال بن أحوز المازني:

رفعت مجد تميم يا هلال لها

رفع الطراف على العلياء بالعمد

حتّى نساء تميم و هي نازحة بقلّة الحزن فالصمّان فالعقد

لو يستطعن إذا ضافتك مجحفة

و قينك الموت بالآباء و الولد( ٣)

و في (الأغاني): قال الشمردل في أخيه حكم لما أتاه نعيه:

و كنت سنان رمحي من قناتي

و ليس الرمح إلاّ بالسّنان

و كنت بنان كفّي من يميني

و كيف صلاحها بعد البنان

و كان يرى فيما يرى النائم كأن سنان رمحه سقط فأتاه نعي أخيه وائل، فقال:

____________________

(١) القاموس ٣: ٣٨٥.

(٢) العقد الفريد ٦: ٧٧.

(٣) الكامل للمبرد ١: ٥٠.

٧٢

و تحقيق رؤيا في المنام رأيتها

فكان أخي رمحا ترقّص عامله( ١)

«و ألمّهم» أي: أجمعهم.

«لشعثه» أي: تفرّقه.

«و أعطفهم» أي: أشفقهم.

«عليه عند نازلة» أي: شديدة نازلة.

«إذا» هكذا في (المصرية و ابن أبي الحديد) و لكن في (ابن ميثم)( ٢ ) و (الخطية) (ان)( ٣ ) و هو أحسن.

«نزلت به» في (العقد): قال عليّعليه‌السلام : عشيرة الرجل خير للرجل من غير العشيرة فإنّ كفّ عنهم يدا واحدة كفّوا عنه أيديا كثيرة مع مودتهم و حفاظهم و نصرتهم، ان الرجل ليغضب للرجل لا يعرفه إلاّ بنسبه. و سأتلوا عليكم من ذلك آيات من كتاب اللّه قال عزّ و جلّ فيما حكاه عن لوط: لو أنّ لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد( ٤ ) يعني العشيرة و لم يكن للوط عشيرة، فو الّذي نفسي بيده ما بعث اللّه نبيا من بعده إلاّ في ثروة من قومه و منعة من عشيرته، ثم ذكر شعيبا و قال له قومه إنّا لنراك فينا ضعيفا و لو لا رهطك لرجمناك( ٥ ) و كان مكفوفا و اللّه ما هابوا إلاّ عشيرته( ٦) .

في (الطبري) بعد ذكر قتل أصحاب معاوية لحجر و ستة من أصحابه فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي و كريم بن عفيف الخثعمي: إبعثوا بنا إلى

____________________

(١) الأغاني ١٣: ٣٥٣ و ٣٥٦.

(٢) شرح ابن ميثم ٢: ٤.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٣.

(٤) هود: ٨٠.

(٥) هود: ٩١.

(٦) العقد ٢: ٢٠٨.

٧٣

معاوية فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إلى معاوية يخبرونهما بمقالتهما فأجاز، فأدخلا عليه فقال معاوية للخثعمي: ما تقول في عليّ؟ قال:

أقول فيه قولك، أتبرّأ من دين عليّ الذي كان يدين اللّه به، فسكت معاوية و كره أن يجيبه فقال شمر بن عبد اللّه من بني قحافة: هب لي ابن عمي. فقال: هو لك.

قال: فخلى سبيله على أن لا يدخل الكوفة ما كان له سلطان. فقال له: تخيّر بلدا، فاختار الموصل، و كان يقول: لو قد مات معاوية قدمت المصر، فمات قبل معاوية بشهر، ثم أقبل معاوية على العنزيّ فقال له: يا أخا ربيعة ما قولك في عليّ؟ قال: دعني و لا تسألني. قال: لا أدعك. قال: أشهد أنّه كان من الذاكرين اللّه كثيرا و من الآمرين بالحق و القائمين بالقسط. قال: فما قولك في عثمان؟ قال:

هو أوّل من فتح باب الظلم و أرتج أبواب الحقّ. قال: قتلت نفسك. قال: بل إيّاك قتلت «و لا ربيعة بالوادي»، قال ذلك لأن شمر الخثعمي كلّم معاوية في كريم الخثعمي و لم يكن له أحد من قومه يكلّمه فيه، فبعث به إلى زياد و قال له: إنّ هذا شرّهم فاقتله شرّ قتلة، فدفنه زياد حيا بقسّ الناطف( ١) .

و فيه: كان عبد اللّه بن خليفة الطائي شهد مع حجر فطلبه زياد فتوارى، فبعث إليه الشرط فأخذوه فقالت أخته: يا معشر طيّ أ تسلمون سنانكم و لسانكم عبد اللّه بن خليفة؟ فشد الطائيّون عليهم و انتزعوه، فرجعوا إلى زياد فأخبروه فوثب على عدي بن حاتم و هو في المسجد فقال: إئتني بابن خليفة.

فقال: هذا شي‏ء كان في الحيّ لا علم لي به. قال: و اللّه لتأتينّي به. قال: أجيئك بابن عمّي تقتله، و اللّه لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، فأمر بعديّ إلى السجن فلم يبق بالكوفة يماني و لا ربعي إلاّ أتاه و كلّمه و قالوا تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: فإنّي أخرجه على أن يخرج ابن عمه عنّي

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٢٧٦.

٧٤

فلا يدخل الكوفة ما دام لي بها سلطان. فقال عديّ لعبد اللّه: إنّ هذا لجّ في أمرك فالحق بالجبلين( ١) .

و مرّ في الفصل في وصيتهعليه‌السلام إلى ابنه قوله: «و أكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الذي به تطير و يدك التي بها تصول...»، مع شروح مفيدة.

«و لسان الصدق يجعله اللّه للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره» قال إبراهيمعليه‌السلام : و اجعل لي لسان صدق في الآخرين( ٢ ) أي: ثناء حسنا، و قال تعالى في نوح و إبراهيم و موسى و هارون و إلياس: و تركنا عليه في الآخرين. سلام على نوح في العالمين( ٣ ) ، و تركنا عليه في الآخرين.

سلام على إبراهيم( ٤ ) ، و تركنا عليه في الآخرين. سلام على إلياسين( ٦ ) أي: تركنا قول «سلام عليهم» في الآخرين.

و في (الكافي): قال الصادقعليه‌السلام لأبي كهمس: إقرأ عبد اللّه بن أبي يعفور السلام و قل له: إنّ جعفر بن محمّد يقول لك: أنظر ما بلغ به عليّ عند النبي فالزمه و إنّ عليّا إنّما بلغ ما بلغ به بصدق الحديث و أداء الامانة( ٧) .

و روى: أنّ الرجل ليصدق حتّى يكتبه اللّه صديقا. و في (كامل المبرد):

قال ابن حلزة اليشكري:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٢٦٧.

(٢) الشعراء: ٨٤.

(٣) الصافات: ٧٨ ٧٩.

(٤) الصافات: ١٠٨ ١٠٩.

(٥) الصافات: ١١٩ ١٢٠.

(٦) الصافات: ١٢٩ ١٣٠.

(٧) الكافي ٢: ١٠٤ ح ٥.

٧٥

قلت لعمرو حين ارسلته

و قد خبا من دوننا عالج

لا تكسع الشول بأغبارها

انك لا تدري من الناتج

و أصبب لأضيافك ألبانها

فإنّ شر اللبن الوالج

و فيه: قال معاوية لابن الأشعث بن قيس: ما كان جدّك قيس بن معد يكرب أعطى الأعشى؟ فقال: أعطاه مالا و ظهرا و رقيقا و أشياء أنسيتها. فقال معاوية: لكن ما أعطاكم الأعشى لا ينسى.

هذا، و في (نسب قريش مصعب الزبيري): أتى عمرو بن سعيد الأشدق فتى من قريش يذكر حقا له في كراع من أديم بعشرين ألف درهم على أبيه بخط مولى أبيه و شهادة أبيه بخطه على نفسه، فقال له: و ما سبب مالك؟ قال:

رأيته و هو معزول يمشي وحده، فقمت فمشيت معه حتّى بلغ إلى باب داره ثم وقفت فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: لا إلاّ أنّي رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك. قال: وصلتك رحم يا ابن أخي، فكتب هذا الكتاب و قال: ليس اليوم عندنا شي‏ء فإذا أتانا شي‏ء فأتنا به، فمات قبل أن يصل إليه. فقال له عمرو: لا جرم، لا تأخذها إلاّ وافية.

قول المصنّف: «و منها» هكذا في (المصرية) و نسخة (ابن أبي الحديد) و لكن في (ابن ميثم و الخطية) «منها»( ١ ) و هو الأحسن فلم تتقدمها اخرى.

قوله «ألا لا يعدلنّ» هكذا في (المصرية) و الصواب: «ألا لا يعدلنّ أحدكم» كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٢) .

«عن القرابة يرى بها الخصاصة» أي: الفاقة.

«ان يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه و لا ينقصه إن أهلكه».

روى (الكافي) عن البزنطي قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الرضاعليه‌السلام

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٣.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٣.

٧٦

إلى ابنه أبي جعفر الجواد: بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، فإنّما ذلك من بخل منهم لئلا ينال منك أحد خيرا، و أسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك و مخرجك إلاّ من الباب الكبير، فإذا ركبت فليكن معك ذهب و فضة ثم لا يسألك أحد شيئا إلاّ أعطيته، و من سألك من عمومتك ان تبرّه فلا تعطه أقلّ من خمسين دينارا و الكثير إليك، و من سألك من عمّاتك فلا تعطها أقلّ من خمسة و عشرين دينارا و الكثير إليك، إنّما أنا اريد بذلك أن يرفعك اللّه، فأنفق و لا تخش من ذي العرش إقتارا.

و روى أنّ الباقرعليه‌السلام قال للحسين بن أيمن: أنفق و أيقن بالخلف من اللّه، فإنّه لم يبخل عبد و لا أمة بنفقة فيما يرضي اللّه عزّ و جلّ إلاّ أنفق أضعافها فيما يسخط اللّه.

و روى انّهعليه‌السلام قال: ان الشمس لتطلع و معها أربعة أملاك ملك ينادي يا صاحب الخير أتمّ و أبشر، و ملك ينادي يا صاحب الشرّ إنزع و أقصر، و ملك ينادي أعط منفقا خلفا و ممسكا تلفا، و ملك ينضحها بالماء و لو لا ذلك اشتعلت الأرض.

و روى عن الصادقعليه‌السلام قال: من يضمن أربعة بأربعة أبيات في الجنة:

انفق و لا تخف فقرا، و أنصف الناس من نفسك، و أفش السلام في العالم، و اترك المراء و إن كنت محقّا( ١) .

«و من يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة و تقبض منهم عنه أيد كثيرة» روى (أمالي المفيد) عن الشعبي قال: قال صعصعة: عادني أمير المؤمنينعليه‌السلام في مرضي ثم قال: أنظر فلا تجعلنّ عيادتي إيّاك فخرا على قومك، و إذا رأيتهم في أمر فلا تخرج منه فإنّه ليس بالرجل غنى عن

____________________

(١) الكافي ٤: ٤٢ ٤٤ ح ١ و ٥ و ٧ و ١٠.

٧٧

قومه، إذا خلع منهم يدا واحدة يخلعون منه أيدي كثيرة، فإذا رأيتهم في خير فأعنهم عليه، و إذا رأيتهم في شر فلا تخذلنهم، و ليكن تعاونكم على طاعة اللّه فإنّكم لن تزالوا بخير ما تعاونتم على طاعة اللّه تعالى و تناهيتم عن معاصيه( ١ ) . و من الشعر في ذلك:

أخاك أخاك إنّ من لا أخا له

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

و إنّ ابن عم المرء فاعلم جناحه

و هل ينهض البازي بغير جناح

أيضا:

إن كان ذا عضد يدرك ظلامته

إنّ الذليل الذي ليست له عضد

تنبو يداه إذا ما قلّ ناصره

و يأنف الضيم إن أثرى له عدد

أيضا:

تناس ذنوب الأقربين فإنّه

لكلّ حميم راكب هو راكبه

له هفوات في الرخاء يشوبها

بنصرة يوم لا توارى كواكبه

تراه عدوّا ما أمنت و يتّقي

بجبهته يوم الوغى من يحاربه

لكلّ امرى‏ء اخوان بؤس و نعمة

و أعظمهم في النائبات أقاربه

أيضا:

ألم تر أنّ جمع القوم يخشى

و ان حريم واحدهم مباح

و أنّ القدح حين يكون فردا

فيهصر لا يكون له اقتداح

و إنّك ان قبضت بها جميعا

أبت ما سمت واحدها القداح

كذاك تفرّق الإخوان مما

يذلهم و في الذلّ افتضاح

و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حافتا الصّراط يوم القيامة الرحم و الأمانة، فإذا مرّ الوصول للرحم المؤدي للأمانة نفذ إلى الجنّة، و إذا مرّ الخائن للأمانة القطوع

____________________

(١) لم يوجد هذا الحديث في أمالي المفيد، بل رواه الطوسي في أماليه (١ ١٢٥٧ الجزء ١٢.

٧٨

للرحم لم ينفعه معه عمل فتكفى‏ء به الصراط في النار.

هذا، و قال ابن أبي الحديد: قال عثمان: إنّ عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه اللّه، و أنا أعطيتهم ابتغاء وجه اللّه( ١) .

قلت: ما قاله عثمان مغالطة، فإعطاء الأقرباء إن كان من مال المعطي فلا يمكن أن يكون منعه كما فعل عمر ابتغاء وجه اللّه، لأنّه قطع الرحم المذموم الذي فاعله ملوم، و إن كان من مال اللّه و كان المعطي غير مستحقه فأعطاؤه كما فعل عثمان و نهب بيت المال و وهبه لبني الشجرة الملعونة في القرآن كيف يكون ابتغاء وجه اللّه، لقدمني الناس لعمر اللّه من هؤلاء بخبط و شماس.

«و من تلن حاشيته يستدم من قومه المودّة» هو نظير قولهعليه‌السلام : «من لان عوده كثفت أغصانه».

في (الكافي) عن أبي جعفرعليه‌السلام : لما خرج أمير المؤمنينعليه‌السلام يريد البصرة نزل بالرّبذة فأتاه رجل من محارب فقال: إنّي تحمّلت في قومي حمالة و إنّي سألت في طوائف منهم المواساة و المعونة فسبقت إليّ ألسنتهم بالنكد فمرهم بمعونتي. فقال: أين هم؟ فقال: هؤلاء فريق منهم حيث ترى، فنصّعليه‌السلام راحلته فأدلفت كأنّها ظليم فدلف بعض أصحابه في طلبها فلاى بلاى ما لحقت، فانتهى إلى القوم فسلّم عليهم و سألهم ما يمنعهم من مواساة صاحبهم، فشكوه و شكاهم فقالعليه‌السلام «وصل امرؤ عشيرته فانّهم أولى ببره و ذات يده و وصلت العشيرة أخاها إن عثر به دهر و أدبرت عنه دنيا فإنّ المتواصلين المتباذلين مأجورون و ان المتقاطعين المتدابرين موزورون» ثم بعث راحلته( ٢) .

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣٣٠.

(٢) الكافي ٢: ١٥٣، ١٨.

٧٩

قول المصنف في الأول (قال الشريف أقول) هكذا في (المصرية) و إنّما في (ابن أبي الحديد) قال الرضي، و في (ابن ميثم)( ١ ) قال السّيد( ٢ ) ، و هو دليل على أن أصله من كلام الشّراح و أنّ «أقول» زائدة (الغفير هاهنا) انما قال ههنا لأن الغفيرة تأتي في موضع آخر بمعنى آخر، قال الجوهري يقال «ما فيهم غفيرة» أي: لا يغفرون ذنبا لأحد، قال الراجز:

يا قوم ليست فيهم غفيرة

فامشوا كما تمشي جمال الحيرة( ٣)

و قال ابن دريد: و كلّ شي‏ء غطيته فقد غفرته، و منه المغفرة و الغفيرة( ٤ ) (الزيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير، الجمّ الغفير و الجماء الغفير) المفهوم من الجوهري انهما يأتيان بالوصفية معرفة و نكرة و بالاضافة، فقال و قولهم «جاءوا جماء غفيرا و الجماء الغفير و جم الغفير و جماء الغفير» أي: جاءوا بجماعتهم: الشريف و الوضيع( ٥) .

(و يروى: عفوة من أهل أو مال) هو رواية اليعقوبي، فقد عرفت أنّ في خبره «فمن أصابه نقص في أهله و ماله و رأى عند أخيه عفوة فلا يكوننّ ذلك عليه فتنة» و الغفيرة رواية (الكافي) كما مر و كذا (النهاية)( ٦) .

(و العفوة الخيار من الشي‏ء، يقال عفوة الطعام أي: خياره) و قال الجوهري و قال بعضهم العفاوة بالكسر أول المرق و أجوده، و العفاوة بالضم آخره يردّها مستعير القدر مع القدر يقال منه «عفوة

____________________

(١) شرح ابن ميثم ٢: ١١.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١: ٣١٣.

(٣) شرح ابن ميثم ٢: ١١.

(٤) الصحاح للجوهري ٢: ٧٧١.

(٥) جمهرة اللغة ٢: ٧٧٨.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٠٧، و النهاية ٣: ٣٧٤.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

لا تفهم ممّا نقول شيئا!(١) .

وفي الآية التالية إشارة إلى واحدة من العلل الأساسية لمخالفة المشركين ، فتقول : إنّ هؤلاء لم ينكروا القرآن بسبب الإشكالات والإيرادات ، بل إن تكذيبهم وإنكارهم إنّما كان بسبب عدم اطلاعهم وعلمهم به :( بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) .

في الواقع ، إنّ سبب إنكارهم هو جهلهم وعدم اطلاعهم ، لكن المفسّرين احتملوا احتمالات متعددة فيما هو المقصود من هذه الجملة وأن الجهل بأي الأمور كان ، وكان تلك الاحتمالات يمكن أن تكون مقصودة من الجملة : الجهل بالمعارف الدينية والمبدإ والمعاد ، كما ينقل القرآن قول المشركين في شأن المعبود الحقيقي (الله) ، حيث كانوا يقولون :( أجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ ) (٢) . أو أنّهم كانوا يقولون في مسألة المعاد:( أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) (٣) ،( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) (٤) .

في الحقيقة لم يكن لهؤلاء أي دليل على نفي المبدأ والمعاد ، وكان الجهل والتخلف الناشئ من الخرافات والتعود على مذهب الأجداد هو السد الوحيد في طريقهم.

أو الجهل بأسرار الأحكام.

أو الجهل بمفهوم بعض الآيات المتشابهة.

أو الجهل بمعنى الحروف المقطعة.

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٤٢٢.

(٢) سورة ص ، ٥.

(٣) الإسراء ، ٩٧.

(٤) سورة سبأ ، ٨.

٣٦١

أو الجهل بالدروس والعبر التي هي الهدف النهائي من ذكر تاريخ الماضين.

إن مجموع هذه الجهالات والضلالات كانت تحملهم على الإنكار والتكذيب ، في حين أن تأويل وتفسير وتحقق المسائل المجهولة بالنسبة لهؤلاء لم يبيّن بعد( وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) .

«التأويل» في أصل اللغة بمعنى إرجاع الشيء وعلى هذا فإنّ كل عمل أو قول يصل إلى هدفه النهائي نقول عنه : إن تأويله قد حان وقته ، ولهذا يطلق على بيان الهدف الأصلي من إقدام معين ، أو التّفسير الواقعي لكلمة ما ، أو تفسير وإعطاء نتيجة الرؤيا ، أو تحقق فرضية في ارض الواقع ، اسم التأويل. وقد تحدثنا بصورة مفصلة حول هذا الموضوع في المجلد الثّاني ذيل الآية (٧) من سورة آل عمران.

ثمّ يضيف القرآن مبينا أن هذا المنهج الزائف لا ينحصر بمشركي عصر الجاهلية ، بل إنّ الأقوام السابقين كانوا مبتلين أيضا بهذه المسألة ، فإنّهم كانوا يكذبون الحقائق وينكرونها دون السعي لمعرفة الواقع ، أو انتظار تحققه :( كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) . وقد مرت الإشارة أيضا في الآيات (١١٣) و (١١٨) من سورة البقرة إلى وضع الأمم السابقة من هذه الناحية.

الواقع ، إنّ عذر هؤلاء جميعا كان جهلهم ورغبتهم عن التحقيق والبحث في الحقائق الواقعية ، في حين أن العقل والمنطق يحكمان بأنّه لا ينبغي للإنسان انكار ما يجهله مطلقا ، بل يبدأ بالبحث والتحقيق.

وفي النهاية وجهت الآية الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) أي إنّ هؤلاء سيلاقون أيضا نفس المصير.

وأشارت الآية الأخيرة من آيات البحث إلى فئتين عظيمتين من المشركين ، فتقول : إنّ هؤلاء لا يبقون جميعا على هذا الحال ، بل إنّ جماعة منهم لم تخمد فيهم روح البحث عن الحق وطلبه وسيؤمنون بالقرآن في النهاية. في حين أن الفئة الأخرى ستبقى في عنادها وإصرارها وجهلها ، وسوف لا تؤمن أبدا :( وَمِنْهُمْ مَنْ

٣٦٢

يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ ) .

ومن الواضح أنّ أفراد الفئة الثّانية فاسدون ومفسدون ، ولذلك قالت الآية في النهاية :( وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) وهي إشارة إلى أن الذين لا يذعنون للحق ، هم أفراد يسعون لحل عرى المجتمع ، ولهم دور مهم في إفساده.

الجهل والإنكار :

كما يستفاد من الآيات أعلاه أنّ قسما مهمّا من مخالفة الحق ومحاربته تنبع عادة من الجهل ، ولهذا السبب قالوا : عاقبة الجهل الكفر!

إنّ أوّل مهمّة تقع على عاتق كل إنسان يطلب الحق أن يتريت في مقابل ما يجهل ، يتحرك صوب البحث ثمّ وتحقيق كل جوانب المطلب الذي يجهله ، وما لم يحصل على الدليل القاطع على بطلانه فلا ينبغي له رفضه ، كما أنّه لا ينبغي له قبوله والاعتقاد به إذا لم يحصل لديه دليل قاطع على صحته نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان حديثا رائعا عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الباب ، حيث يقول «إنّ الله خص هذه الأمّة بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا إلّا ما يعلمون ، وأن لا يردوا ما لا يعلمون ، ثمّ قرأ :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) ، وقرأ :( بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) .

* * *

٣٦٣

الآيات

( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) )

التّفسير

العمي والصمّ :

تتابع هذه الآيات البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول إنكار وتكذيب المشركين، وإصرارهم على ذلك ، فقد علّمت الآية الأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقة جديدة في المواجهة ، فقالت :( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) .

إنّ لإعلان الترفع وعدم الاهتمام هذا ، والمقترن بالاعتماد والإيمان القاطع بالمذهب ، أثرا نفسيا خاصا ، وبالذات على المنكرين المعاندين ، فهو يفهمهم بعدم وجود أي إجبار وإصرار على قبولهم الدعوة الإسلامية. بل إنّهم بعدم تسليمهم

٣٦٤

أمام الحق سيحرمون أنفسهم ، ولا يضرون إلّا أنفسهم.

وقد ورد نظير هذا التعبير في آيات أخرى من القرآن ، كما نقرأ في سورة الكافرون :( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .

ومن هذا البيان يتّضح أن محتوى مثل هذه الآيات لا ينافي مطلقا الأمر بالتبليغ أو الجهاد في مقابل المشركين كيما تعتبر مثل هذه الآيات منسوخة. بل إنّ هذا نوع من المواجهة المنطقية عن طريق عدم الاكتراث لهؤلاء الأشخاص المعاندين.

وتشير الآيتان التاليتان إلى سبب انحراف هؤلاء وعدم إذعانهم للحق ، وتبيّن أنّ التعليمات الصحيحة ، والآيات المعجزة التي تهزّ الوجدان والدلالات الأخرى الواضحة لا تكفي بمفردها لهداية الإنسان ، بل إنّ استعداد التقبل ولياقة قبول الحق لازمة أيضا ، كما أنّ البذر لوحده ليس كافيا لإنبات النبات والأوراد ، بل إنّ الأرض بدورها يجب أن تكون مستعدة. ولهذا قالت الآية :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ (١) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ) .

وهناك فئة ثانية يشخصون بأبصارهم إليك ، وينظرون إلى أعمالك المتضمنة أحقيتك وصدق قولك ، إلّا أنّهم عمي لا يبصرون :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ (٢) أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ) .

ولكن اعلم وليعلم هؤلاء أنّ قصور الفكر هذا ، وعدم البصيرة والعمى عن رؤية وجه الحق ، والصمم عن سماع كلام الله ليس شيئا ذاتيا لهم نشؤوا عليه منذ ولادتهم ، وإنّ الله تعالى قد ظلمهم ، بل إنّهم هم الذين ظلموا أنفسهم بأعمالهم السيئة وعدائهم وعصيانهم للحق ، وعطلوا بذلك عين بصيرتهم وأذن أفئدتهم عن

__________________

(١) في الحقيقة هناك جملة مقدرة في هذه الآية تقديرها : «كأنّهم صم لا يستمعون».

(٢) هنا أيضا جمله مقدرة هي : كأنّهم عمي لا يبصرون.

٣٦٥

سماع الحق واتباعه ، فـ( إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

* * *

ملاحظتان

وهنا ينبغي الالتفات لملاحظتين :

١ ـ ما نقرؤه في الآية الثّانية من أنّهم يستمعون إليك ، وفي الآية الثّالثة من أنهم ينظرن إليك ، إشارة إلى أنّ جماعة من هؤلاء يسمعون هذا الكلام المعجز ، وجماعة أخرى ينظرون إلى معجزاتك التي تدل كلها بوضوح على صدق كلامك وأحقية دعوتك ، إلّا أنّ أحدا من هاتين الفئتين لم ينتفع من استماعه أو نظره ، لأنّ نظرهم لم يكن نظر فهم وإدراك ، بل نظر انتقاد وتتبع عثرات ومخالفة.

وكذلك لا يستفيدون من استماعهم ، لأنّهم لا يستمعون لإدراك محتوى الكلام ، بل للعثور على ثغرات فيه لتكذيبه وإنكاره ، ومن المعلوم أن نيّة الإنسان ترسم شكل العمل وتغيّر من آثاره.

٢ ـ جاءت في آخر الآية الثّانية جملة :( وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ) وفي آخر الآية الثّالثة جملة :( وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ) وهي إشارة إلى أنّ الاستماع ـ أي إدراك الألفاظ ـ ليس كافيا بمفرده ، بل إنّ التفكر والتدبر فيها لازم أيضا لينتفع الإنسان من محتواها. وكذلك لا أثر للنظر بمفرده ، بل إنّ البصيرة ـ وهي إدراك مفهوم ما يبصره الإنسان ـ لازمة أيضا ليصل إلى عمقها ويهتدي.

* * *

٣٦٦

الآيات

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) )

التّفسير

بعد بيان بعض صفات المشركين في الآيات السابقة ، أشير هنا إلى وضعهم المؤلم في القيامة. تقول الآية :( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) .

الإحساس بقلة مقدار الإقامة في دار الدنيا وقصره ، إمّا لأنّه بالنسبة للحياة الاخروي لا يبلغ سوى ساعة واحدة. أو لأنّ هذه الدنيا الفانية انقضت بسرعة بحيث كأنّها لم تكن أكثر من ساعة ، أو لأنّهم لما لم يستفيدوا من عمرهم الاستفادة الصحيحة ، فيتصورون أنّها لا تساوي أكثر من قيمة ساعة!.

بناء على ما قلناه في التّفسير أعلاه ، فإنّ جملة( يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) إشارة إلى

٣٦٧

مقدار بقائهم في الدنيا ، أي إنّهم يحسون أنّ أعمارهم كانت قصيرة إلى الحد الذي يكفي لالتقاء شخصين وتعارفهما ثمّ تفرقهما!.

وقد احتمل أيضا ـ في تفسير هذه الآية ـ أنّ المقصود هو الإحساس بقصر الزمان بالنسبة لحياة البرزخ ، أي إنّ هؤلاء يعيشون في فترة البرزخ حالة شبيهة بالنوم بحيث لا يشعرون بمرور السنين والقرون والأعصار ، ويظنون في القيامة أن مرحلة برزخهم التي استغرقت آلاف أو عشرات الآلاف من السنين ، لم تكن إلّا ساعة. والشاهد على هذا التّفسير الآيتان (٥٥) ـ (٥٦) من سورة الروم ، اللتان تقولان :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

يستفاد من هاتين الآيتين أنّ مجموعة من المجرمين يقسمون في القيامة أن فترة برزخهم لم تكن أكثر من ساعة ، إلّا أنّ المؤمنين يقولون لهم : إنّ المدّة كانت طويلة ، والآن قد قامت القيامة وأنتم لا تعلمون. ونحن نعلم أن البرزخ ليس متساويا بالنسبة للجميع ، وسنذكر تفصيل ذلك في ذيل الآيات المناسبة.

وبناء على هذا التّفسير ، فإنّ معنى جملة( يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ ) سيكون : إنّ هؤلاء يحسون بأنّ زمان البرزخ كان قصيرا بحيث أنّهم لم ينسوا أي أمر من أمور الدنيا ، ويعرف بعضهم البعض الآخر جيدا. أو أنّ كلا منهم يرى أعمال الآخرين القبيحة هناك ، ويطّلع كل منهم على باطن الآخر ، وهذا بحد ذاته فضيحة كبرى بالنسبة لهؤلاء.

ثمّ تضيف الآية أنّه سيثبت لكل هؤلاء في ذلك اليوم :( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ) وأنفقوا كل ملكاتهم وطاقاتهم الحيوية دون جدوى( وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ) بسبب هذا التكذيب والإنكار والإصرار على الذنب ، ولأنّ قلوبهم وأرواحهم كانت مظلمة.

٣٦٨

وتقول الآية التالية تهديدا للكفار ، وتسلية لخاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ) .

وتبيّن الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث قانونا كليا في شأن كل الأنبياء ، ومن جملتهم نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلّم ، وكل الأمم ومن جملتها الأمّة التي كانت تحيا في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ) فإذا جاء رسولها وبلغ رسالته ، وآمن قسم منهم وكفر آخرون ، فإنّ الله سبحانه يقضي بينهم بعدله ، ولا يظلم ربّك أحدا ، فيبقى المؤمنون والصالحون يتمتعون بالحياة ، أمّا الكافرون فإنّهم فمصيرهم الفناء او الهزيمة :( فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

وهذا ما حصل لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمته المعاصرة له ، فإنّ أعداءه هلكوا في الحروب ، أو انهزموا في النهاية وطردوا من ساحة المجتمع وأخذ المؤمنون زمام الأمور بأيديهم. وبناء على هذا فإنّ القضاء والحكم الذي ورد في هذه الآية هو القضاء التكويني في هذه الدنيا ، وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّه إشارة إلى حكم الله يوم القيامة. فهو خلاف الظاهر.

* * *

٣٦٩

الآيات

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) )

التّفسير

العذاب الإلهي واختيارات الرّسول :

بعد التهديدات التي ذكرت في الآيات السابقة المتعلقة بعذاب وعقاب منكري الحق ، فإنّ هذه الآيات تنقل أوّلا استهزاء هؤلاء بالعذاب الإلهي وسخريتهم وانكارهم. فتقول:( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

هذا الكلام كان كلام مشركي عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما ، لأنّ الآيات التالية التي

٣٧٠

تتضمن جواب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدة على هذا المطلب.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء أرادوا بهذه الكلمات أن يظهروا عدم اهتمامهم بتهديدات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة ، وتقوية قلوب الذين خافوا من هذه التهديدات وتهدئة خواطرهم ليرجعوا إلى صفوفهم.

وفي مقابل هذا السؤال ، فإنّ الله سبحانه أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بعدّة طرق:

فيقول أوّلا :( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) فإنّي لست إلّا رسوله ونبيّه ، وإنّ تعيين موعد نزول العذاب بيده فقط ، وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ، فمن باب الأولى أن لا أملكهما لكم.

إنّ هذه الجملة في الحقيقة إشارة إلى توحيد الأفعال حيث يرتبط كل شيء في هذا العالم بالله سبحانه ، وكل الحركات والأفعال معلولة لإرادته ومشيئته ، فهو الذي ينصر المؤمنين بحكمته ، وهو الذي يجازي المنحرفين بعدالته.

من البديهي أنّ ذلك لا ينافي أنّ الله قد أعطانا قوى وطاقات نملك بواسطتها جلب النفع ودفع الضرر ، ونستطيع أن نختار ما يتعلق بمصيرنا ، وبتعبير آخر فإنّ هذه الآية تنفي الملكية بالذات لا بالغير ، وجملة( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) قرينة واضحة على هذا الموضوع.

ومن هنا يعلم أنّ استدلال بعض المتعصبين ـ ككاتب تفسير المنار ـ بهذه الآية على نفي جواز التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضعيف جدّا ، لأنّه إذا كان المقصود من التوسل أن نعتبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذا قدرة ذاتية ومالكا للنفع والضر ، فإنّ هذا شرك قطعا ، ولا يمكن أن يؤمن بهذا أي مسلم ، أمّا إذا كانت هذه الملكية من الله سبحانه وهي داخلة تحت عنوان : إلّا ما شاء الله ، فما المانع من ذلك؟ وهذا هو عين الإيمان والتوحيد. إلّا أنّه نتيجة الغفلة عن هذه النكتة أتلف وقته ووقت قرّاء تفسيره بالبحوث الطويلة ، وهو مع الأسف (رغم كل الامتيازات الموجودة في تفسيره) قد ارتكب كثيرا من هذه الأخطاء ، والتي يمكن اعتبار التعصب منبعها جميعا!

٣٧١

ثمّ يتطرق القرآن إلى جواب آخر ويقول :( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) وبتعبير آخر فإنّ أي أمّة إذا انحرفت عن مسير الحق ، فسوف لا تكون مصونة من العذاب الإلهي الذي هو نتيجة أعمالها ، فعند ما ينحرف الناس عن قوانين الخلقة والطبيعة فسيبددون طاقاتهم وملكاتهم في فراغ ويسقطوا في النهاية في هاوية الانحطاط ويحتفظ تاريخ العالم في ذاكرته بنماذج كثيرة من ذلك.

في الواقع إنّ القرآن الكريم يحذر المشركين الذين كانوا يتعجلون العذاب الإلهي بأن لا يعجلوا ، فعند ما يحل موعدهم فإنّ هذا العذاب سوف لن يتأخر أو يتقدم لحظة.

ويجب الالتفات إلى أنّ الساعة قد تعني أحيانا لحظة ، وأحيانا المقدار القليل من الزمن ، بالرغم من أنّ معناها المعروف اليوم هو الأربع والعشرون ساعة التي تشكل الليل والنهار.

وتطرح الآية الأخرى الجواب الثّالث ، فتقول :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ) فهل تستطيعون أن تدفعوا عن أنفسكم هذا العذاب المفاجئ غير المرتقب؟ وإذا كان الحال كذلك ف( ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) ؟

وبتعبير آخر ، فإنّ هؤلاء المجرمين الجريئين إن لم يتيقنوا نزول العذاب فليحتملوا على الأقل أن يأتيهم فجأة ، فما الذي يضمن لهؤلاء أنّ تهديدات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف لن تقع أبدا؟ إنّ الإنسان العاقل يجب أن يراعي الاحتياط على الأقل في مقابل مثل هذا الضرر المحتمل ويكون منه على حذر.

وورد نظير هذا المعنى في آيات أخرى من القرآن ، وبتعبيرات أخرى ، مثل :( أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً ) سورة الإسراء ، الآية (٦٨). وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الكلام والأصول

٣٧٢

بقاعدة «لزوم دفع الضرر المحتمل»(١) .

وفي الآية التالية ورد جواب رابع لهؤلاء ، فهي تقول : إذا كنتم تفكرون أن تؤمنوا حين نزول العذاب ، وأنّ إيمانكم سيقبل منكم ، فإنّ ظنّكم هذا باطل لا صحّة له :( أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ) ، لأنّ أبواب التوبة ستغلق بوجوهكم بعد نزول العذاب ، وليس للإيمان حينئذ أدنى أثر ، بل يقال لكم :( آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) .

هذا بالنسبة لعقاب هؤلاء الدنيوي ، وفي الآخرة :( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) ، فإنّ أعمالكم في الواقع هي التي أخذت بأطرافكم ، وهي التي تتجسد أمامكم وتؤذيكم على الدوام.

* * *

ملاحظات

١ ـ كما قلنا في ذيل الآية (٣٤) من سورة الأعراف ، فإنّ بعض أهل البدع والأديان المختلقة في عصرنا استدلوا بآيات. مثل :( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) التي وردت مرّتين في القرآن ، على نفي خاتمية نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوصلوا إلى أن كل دين ومذهب ينتهي في النهاية ويخلي مكانه لمذهب آخر. في حين أن الأمّة تعني القوم والجماعة. لا المذهب.

إنّ هدف هذه الآيات هو أنّ قانون الحياة والموت لا يختص بالأفراد ، بل إنّه يشمل الأقوام والأمم أيضا ، فإذا سلكوا طريق الظلم والفساد فإنّهم سينقرضون لا

__________________

(١) يتّضح ممّا قلناه أعلاه ، أنّ الآية المذكورة تشتمل على قضية شرطية ، ذكر شرطها ، إلّا أنّ جزاءها مقدر ، وجملة :( ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) جملة مستقلة. وتقدير الآية هكذا : أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا كنتم تقدرون على دفعه أو تعدونه أمرا محالا فإذا كان الأمر كذلك (ماذا يستعجل منه المجرمون). وما احتمله البعض من أن جملة : ماذا يستعجل هي جزاء الشرط بعيدا جدا. دققوا ذلك.

٣٧٣

محالة ، خاصّة إذا لا حظنا في هذا البحث الآية التي قبلها والتي بعدها ، فستثبت هذه الحقيقة بوضوح ، وهي أنّ الكلام ليس عن نسخ المذهب ، بل عن نزول العذاب وفناء قوم أو أمّة ، لأنّ الآية السابقة واللاحقة تتحدثان عن نزول العذاب والعقاب الدنيوي.

٢ ـ إذا لا حظنا الآيات أعلاه سيأتي هذا السؤال ، وهو : هل ستبتلي المجتمعات الإسلامية أيضا بهذا العقاب والعذاب في هذا العالم؟

والجواب عن هذا السؤال بالإيجاب ، إذ لا دليل لدينا على أنّ هذه الأمّة مستثناة ، بل إنّ هذا القانون في حق كل الأمم والملل ، وما قرأناه في بعض آيات القرآن ـ الأنفال ـ من أنّ الله سبحانه سوف لا يعذب هذه الأمّة ، فهو مشروط بواحد من شرطين : إمّا وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أولئك ، أو الاستغفار والتوبة من الذنوب ، لا أنّه بدون قيد أو شرط.

٣ ـ توكّد الآيات أعلاه مرّة أخرى على هذه الحقيقة ، وهي أنّ أبواب التوبة تغلق حين نزول العذاب فلا ينفع الندم حينئذ ، وسبب ذلك واضح ، لأنّ التوبة في مثل هذه الأحوال تكون عن إكراه وإجبار ، ومثل هذه التوبة لا قيمة لها.

* * *

٣٧٤

الآيات

( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦) )

التّفسير

لا معنى للشك في العذاب الإلهي :

كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب المجرمين في هذه الدنيا والعالم الآخر ، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضا.

فالآية الأولى تقول : إنّ هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإلهي في هذا العالم والعالم الآخر :( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ) ومن المعلوم أنّ «الحق» هنا ليس في مقابل الباطل ، بل المراد منه هو : هل إنّ لهذه العقوبة حقيقة وواقعا وأنّها ستتحقق؟ لأنّ الحق والتحقق مشتقان من مادة واحدة ، ومن البديهي

٣٧٥

أنّ الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل واقع موجود ، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل.

ويأمر الله سبحانه نبيّه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد :( قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ ) وإذا ظننتم أنّكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإلهي فأنتم على خطأ كبير :( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

الواقع إنّ هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع ، ففي الجملة الأولى يقول : إن عذاب المجرمين امر واقعي ، ويضيف في الجملة الثّانية أن أية قدرة لا تستطيع أن تقف أمامه ، تماما كالآيات (٨) ـ (٩) من سورة الطور :( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) .

إنّ التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الانتباه ، فمن جهة القسم ، ومن جهة أخرى إنّ ولام التأكيد ، ومن جهة ثالثة جملة( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) وكل هذه توكّد على أنّ العقاب الإلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.

وتوكّد الآية الأخرى على عظمة هذه العقوبة ، وخاصّة في القيامة ، فتقول :( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ) (١) . في الواقع ، إنّ هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإلهي ، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئا ، ولا ينقص من عذابهم مقدار رأس ابرة ، خاصّة وأنّ لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية ، وهي أنّهم : يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم ممّا يوجب لهم اظهار الندم مزيدا من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم إبراز الندم :( وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) .

ثمّ توكّد الآية على أنّه بالرغم من كل ذلك ، فإنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل ، ولا يظلم أحد منهم :( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) . إنّ هذه الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائما في مسأله العقوبة والعدالة ، لأنّ تأكيدات

__________________

(١) في الواقع ، إن في الجملة أعلاه جملة مقدرة ، وهي : (من هول القيامة والعذاب).

٣٧٦

الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين توهّم أنّ المسألة مسألة انتقام ، ولذا فإنّ القرآن يقول أوّلا إنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالقسط ، ثمّ يؤكّد على أنّ أي أحد من هؤلاء سوف لا يظلم.

ثم ، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإلهية مأخذ الهزل ، ولكي لا يظنوا أنّ الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود ، تضيف الآية :( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) لأنّ جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.

وتوكّد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرّة أخرى ، حيث تقول :( هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ ) وبناء على ذلك فإن له القدرة على إماتة العباد ، كما أن له القدرة على إحيائهم لمحكمة الآخرة ، وفي النهاية :( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) وستلاقون جزاء كل أعمالكم هناك.

* * *

ملاحظتان

١ ـ من جملة الأسئلة التي تطرح في مورد الآيات أعلاه : هل أنّ لسؤال المشركين عن واقعية العقاب الإلهي صفة الاستهزاء ، أم أنّه كان سؤالا حقيقيا؟

ذهب البعض الى أنّ السؤال الحقيقي علامة الشك ، وهو لا يناسب وضع المشركين ، إلّا أنّه بملاحظة أنّ كثيرا من المشركين كانوا في حالة تردد ، وجماعة منهم أيضا كانوا على علم بأحقية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد وقفوا ضده نتيجة التعصب والعناد وأمثال ذلك ، فسيبدو واضحا أن كون سؤال هؤلاء حقيقيا ليس بعيدا أبدا.

٢ ـ إن حقيقة الندامة هي الندم على ارتكاب عمل اتّضحت آثاره السلبية سواء استطاع الإنسان أن يجبر ذلك أم لا ، وندم المجرمين في القيامة من النوع الثّاني ، وإنّما كتموه لأنّ إظهاره سيزيد من فضيحتهم.

* * *

٣٧٧

الآيتان

( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) )

التّفسير

القرآن رحمة إلهية كبرى :

لقد جاءت في بعض الآيات السابقة بحوث في شأن القرآن عكست جوانب من مخالفات المشركين. وفي هذه الآيات تجدد الكلام عن القرآن بهذه المناسبة أيضا ، ففي البداية تخاطب جميع البشرية خطابا عالميا وشموليا وتقول :( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

لقد بيّنت هذه الآية أربع صفات للقرآن ، ولإدراك مدلولاتها ومحتواها لا بدّ أن نعتمد أوّلا على لغاتها ومعناها.

٣٧٨

«الوعظ» و «الموعظة» ، كما جاء في المفردات : هو النهي الممتزج بالتهديد ، أنّ معنى الموعظة أوسع من هذا ظاهرا ، كما نقل عن الخليل بن أحمد الفراهيدي في نفس كتاب المفردات ، أنّ الموعظة عبارة عن التذكير بالنعم والطيبات المقترن برقة القلب. وفي الحقيقة فإنّ كل نصح وإرشاد يترك أثرا في المخاطب ، ويخوفه من السيئات ويرغّبه في الصالحات يسمى وعظا وموعظة. وطبعا ليس معنى هذا أن كل موعظة يجب أن يكون لها تأثير ، بل المراد أنّها تؤثر في القلوب المستعدة.

والمقصود من شفاء أمراض القلوب ، وبتعبير القرآن شفاء ما في الصدور ، هي تلك التلوّثات المعنوية والروحية ، كالبخل والحقد والحسد والجبن والشرك والنفاق وأمثال ذلك ، وكلها من الأمراض الروحية والمعنوية.

والمقصود من «الهداية» هو الهداية نحو المقصود ، أي تكامل ورقي الإنسان في كافة الجوانب الإيجابية.

والمراد من «الرحمة» هي النعم المادية والمعنوية الإلهية التي تشمل حال الأفراد اللائقين، كما نقرا في كتاب المفردات أنّ الرحمة متى ما نسبت إلى الله فإنّها تعني بذله وهبته للنعم ، وإذا ما نسبت إلى البشر فإنّها تعني العطف ورقة القلب.

في الواقع ، إنّ الآية أعلاه تشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإنسان في ظل القرآن.

المرحلة الأولى : مرحلة الموعظة والنصيحة.

المرحلة الثّانية : مرحلة تطهير روح الإنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية.

المرحلة الثّالثة : مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير.

المرحلة الرّابعة : هي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى أن يكون لائقا لأن تشمله رحمة الله ونعمته.

٣٧٩

وكل مرحلة من هذه المراحل تأتي بعد المرحلة السابقة لها ، والجميل في الأمر أنّها تتمّ جميعا في ظل نور القرآن وتوجيهاته.

القرآن هو الذي يعظ البشر ، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة ، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها ، والقرآن أيضا هو الذي ينزل النعم الإلهية على الفرد والمجتمع.

ويوضح أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في كلامه الجامع في نهج البلاغة هذه الحقيقة بأبلغ تعبير ، حيث يقول : «فاستشفوه من أدوائكم ، واستعينوا به على ولائكم ، فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق ، والغي والضلال»(١) .

وهذا بنفسه يبيّن أنّ القرآن وصفة لتحسين حال الفرد والمجتمع ، وصيانتهم من أنواع الأمراض الأخلاقية والاجتماعية ، وهذه الحقيقة أودعها المسلمون في كف النسيان ، وبدل أن يستفيدوا من هذا الدواء الشافي ، فإنّهم يبحثون عن دوائهم وعلاجهم في المذاهب الأخرى ، وجعلوا هذا الكتاب السماوي الكبير كتاب قراءة فقط ، لا كتاب تفكر وعمل!

وتقول الآية الأخرى من أجل تكميل هذا البحث والتأكيد على هذه النعمة الإلهية الكبرى ـ أي القرآن المجيد ـ :( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) ولا يفرحوا بمقدار الثروات ، وعظم المراكز ، وعزة القوم والقبيلة ، لأنّ رأس المال الحقيقي والأساس للسعادة الحقيقية هو هذا القرآن ، فهو أفضل من كل ما جمعوه ، ولا يمكن قياسه بذلك المجموع ، إذا( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608