الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 238498
تحميل: 5247


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 238498 / تحميل: 5247
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

المظلم وهدوئه يهيء الروح والجسد المتعبين للعمل والحركة من جديد.

نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) أولئك الذين يسمعون ويدركون ، وبعد إدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ الهدوء والسكون النفسي الذي هو الهدف من خلق الليل بات من المسلمات العلمية بعد أن أثبته العلم اليوم ، فإنّ حجب الظلام ليست وسيلة إجبارية لإيقاف النشاطات اليومية وحسب ، بل لها أثر مباشر على السلسلة العصبية وعضلات الإنسان وسائر الحيوانات فتجعلهم في حالة استراحة ونوم وسكون ، وما أجهل بعض الناس الذين يحيون الليل بالملذات والرغبات ، ويقضون النهار ـ وخاصّة الفجر المنشط ـ في النوم ، ولهذا السبب فإنّ أعصابهم متوترة وغير متزنة دائما.

2 ـ إذا علمنا أنّ الإبصار بمعنى النظر ، فإنّ معنى جملة :( وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) سيصبح : إنّ الله قد جعل النهار ناظرا ، في حين أنّ النهار مبصر لا مبصر! إن هذا تشبيه ومجاز من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب ، كما يقولون في شأن الليل : ليل نائم ، في حين أنّ الليل لا ينام ، بل هو سبب لأنّ ينام الناس.

3 ـ إنّ الآيات أعلاه تدين الظن والوهم مرّة أخرى وتردّه ، لكن لما كان الكلام عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها ، فإنّ الظّن هنا لا يعني الظّن العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد ، مثل شهادة الشهود وظاهر الألفاظ والإقرارات والمكاتبات ، وبناء على هذه فإنّ الآيات أعلاه لا يمكن أن تكون دليلا على عدم حجية الظن.

* * *

٤٠١

الآيات

( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) )

التّفسير

تستمر هذه الآيات ـ أيضا ـ في بحثها مع المشركين ، وتذكر واحدة من أكاذيب واتهامات هؤلاء لساحة الله المقدسة ، فتقول أوّلا :( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) .

إنّ هذا الكلام قاله المسيحيون في حق المسيحعليه‌السلام ، ثمّ عبدة الأوثان في عصر الجاهلية في حق الملائكة ، حيث كانوا يظنون أنّها بنات الله ، وقاله اليهود في شأن عزير. ويجيبهم القرآن بطريقين :

الأوّل : إنّ الله سبحانه منزّه عن كل عيب ونقص ، وهو مستغن عن كل شيء :( سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ ) وهذا إشارة إلى أنّ الحاجة إلى الولد ، إمّا للحاجة الجسمية إلى قوته ومساعدته ، أو للحاجة الروحية والعاطفية ، ولما كان الله سبحانه منزّه عن كل

٤٠٢

عيب ونقص وحاجة ، فلا يمكن أن يتخذ لنفسه ولدا.

( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) ومع هذا الحال فأي معنى لأن يتخذ لنفسه ولدا ليطمئنه ويهدئه ، أو يعينه ويساعده.

ممّا يلفت النظر أنّ الآية عبّرت هنا ب (اتخذ) وهذا يوحي أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لم يلد ذلك الولد ، بل يقولون : إنّ الله قد اختار بعض الموجودات كولد له ، تماما مثل أولئك الذين لا يولد لهم ولد ، ويتبنون طفلا من دور الحضانة وأمثالها.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء الجاهلين وقصيري النظر وقعوا في اشتباه المقارنة بين الخالق والمخلوق ، وكانوا يقيسون ذات الله الصمدية على وجودهم المحدود المحتاج.

والجواب الثّاني الذي يذكره القرآن لهؤلاء هو : إنّ من يدعي شيئا يجب عليه أن يقيم دليلا على مدعاه :( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي إنّكم على فرض عدم قبولكم للدليل الأوّل الواضح ، فإنّكم لا تستطيعون أن تنكروا هذه الحقيقة ، وهي أن ادعاءكم وقولكم تهمة وقول بغير علم.

وتعيد الآية التّالية عاقبة الافتراء على الله المشؤومة. فتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) .

وعلى فرض أن هؤلاء يستطيعون بافتراءاتهم وأكاذيبهم أن ينالوا المال والمقام لعدّة أيّام، فإنّ ذلك( مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) .

الواقع أنّ هذه الآية والتي قبلها ذكرتا نوعين من العقاب لهؤلاء الكذابين الذين نسبوا إلى الله تهمة اتّخاذ الولد :

الأوّل : إنّ هذا الكذب والافتراء لا يمكن أن يكون أساسا لفلاح ونجاح هؤلاء أبدا ، ولا يوصلهم إلى هدفهم مطلقا ، بل إنّهم يصبحون حيارى تائهين تحيط

٤٠٣

التعاسة والشقاء والهزيمة بأطرافهم.

الثّاني : على فرض أنّهم استطاعوا أن يستغفلوا الناس ويخدعوهم بهذه الكلمات لعدة أيّام ، ويصلوا عن طريق الديانة الوثنية إلى رفاه وعيش رغيد ، إلّا أنّ هذا التمتع لا دوام ولا بقاء له ، والعذاب الإلهي الخالد في انتظارهم.

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ كلمة «سلطان» تعني هنا الدليل ، وهذه الكلمة أعمق وأبلغ من كلمة الدليل ، لأنّ الدليل بمعنى الدلالة والإرشاد أمّا السلطان فهو الشيء الذي يسلط الإنسان على الطرف المقابل ، ويناسب موارد البحث والجدال والنقاش ، وهو إشارة إلى الدليل القاطع القوي.

2 ـ «المتاع» يعني الشيء الذي يستفيد منه الإنسان ويتمتع به ، ومفهومه واسع جدا يشمل كل لوازم ووسائل الحياة والمواهب المادية. يقول الراغب في المفردات : كلما ينتفع به على وجه ما ، فهو متاع ومتعة.

3 ـ إنّ التعبير ب (نذيقهم) الذي ورد في شأن العذاب الإلهي يشير إلى أنّ هذا العذاب الذي سينال هؤلاء بدرجة من الشدّة بحيث كأنّهم يذوقونه بألسنتهم وأفواههم ، وهذا التعبير أبلغ جدا من المشاهدة ، بل وحتى من لمس العذاب.

* * *

٤٠٤

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) )

التّفسير

جانب من جهاد نوح :

الآيات أعلاه بداية لبيان قسم من تأريخ الأنبياء وقصص وحوادث الأمم الماضية لتوعية وإيقاظ المشركين والفئات المخالفة ، فيأمر الله نبيّه أن يتابع حديثه السابق مع المشركين بشرح تأريخ الماضين ليكون عبرة لهم.

في البداية تطرقت إلى قصّة نوح ، فقالت :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا

٤٠٥

قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) ولهذا فإنّي لا أخاف غيره. ثمّ تضيف :( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ) أي ادعوا أصنامكم أيضا لتعينكم في المشورة ، حتى لا يبقى شيء خافيا على أحد ولا يتعرض منكم الى الهم والغم أحد( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) بل اتّخذوا قراركم في شأني بكل وضوح.

«غمّة» من مادة غم ، وهي تعني خفاء الشيء وتغطيته ، وإنّما يقولون للحزن : غمّ أيضا لأنّه يغطي قلب الإنسان.

ثمّ يقول :( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (1) .

إنّ نوحا رسول الله الكبير صمد مقابل أعدائه الأقوياء المعاندين وواجههم بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا معه ، وكان يستهزئ بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم ، وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إلى أفكارهم.

وإذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة في الوقت الذي كان يعيش فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظروفا تشبه ظروف نوح ، وكان المؤمنون قلّة ، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنّبي ـ أيضا ـ نفس هذا الدرس بأنّ لا يهتم بقدرة العدو ، بل يسير ويتقدم بكل حزم وجرأة وشجاعة ، لأنّ الله يسنده وينصره ، ولا تستطيع أية قوّة أن تقف في مقابل قدرته.

__________________

(1) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو جزاء شرط جملة( إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) ؟ ومن بين الاحتمالات التي طرحوها يبدو للنظر أن اثنين منها هما الأقرب : الأوّل : إنّ جملة( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) هي جزاء الشرط ، وإن جملة :( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) جملة معترضة فصلت بين الشرط والجزاء.

الثّاني : إنّ الجزاء محذوف والجمل التالية تدل على ذلك ، والتقدير هكذا : فافعلوا ما تريدون فإنّي متوكل على الله. في الواقع ، إنّ جملة : ( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) من قبيل العلة حلت محل المعلول ، و (شركاءكم) في الجملة التالية إشارة إلى الأصنام ، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبر جيدا).

٤٠٦

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعا من الإعجاز ، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإمكانيات الظاهرية فإنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة ، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي ، وهذا لا يمكن قبوله إلّا عن طريق الإعجاز ، إلّا أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم ، بل إنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم ، فكان هذا عاملا مهمّا في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين ، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.

وذكرت الآية التّالية بيانا آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته ، هناك حيث تقول :( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ (1) إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) ، فإنّي أعمل له ، ولا أريد الأجر إلّا منه( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

إنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم ، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعا من التعلق النفسي الذي يؤدي الى عرقلة أساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة ، ومن الطبيعي عن ذلك أن يقلّ تأثير دعوتهم وإبلاغهم ، ولهذا السبب فإنّ الطريق الصحيح في الدعوة إلى الإسلام أن يعتمد المبلّغون والداعون في إدارة أمورهم المعاشية على بيت المال فقط ، لا بالاحتجاج إلى الناس!

وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح ، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة :( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) (2) ولم ننقذهم وحسب ، بل

__________________

(1) جواب هذا الشرط محذوف أيضا ، وتقديره : فإن توليتم فلا تضروني ، أو : فإن توليتم فأنتم وشأنكم.

(2) «الفلك» بمعنى السفينة ، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإنّها تطلق على المفرد والجمع.

٤٠٧

وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) .

وفي النهاية توجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) .

* * *

٤٠٨

الآية

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) )

التّفسير

الرّسل بعد نوح :

بعد انتهاء البحث الإجمالي حول قصّة نوح ، أشارت هذه الآية إلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسىعليهما‌السلام لهداية الناس كإبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسفعليهم‌السلام ، فقالت :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإعجاز والبرامج البناءة ، إلّا أنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين ، كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضا ولم يؤمنوا بهم( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب( كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) .

* * *

٤٠٩

ملاحظتان

1 ـ جملة :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) تشير إلى أنّ فئة من بين الأمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح ، واستمروا في الثبات على موقفهم ، ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر ، وبناء على هذا فإن الجملة المذكورة تشير إلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين (وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد).

وقد احتمل أيضا في معنى هذه الآية أنّها تشير إلى جماعتين مختلفتين ، إحداهما كانت في زمن نوح وكذّبت دعوته ، والأخرى هم الذين جاؤوا بعد أولئك وسلكوا طريقهم في إنكار وتكذيب الأنبياء ، وبناء على هذا ، فإنّ معنى الجملة يصبح : إنّ المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإيمان بالشيء الذي امتنع الماضون عن الإيمان به.

طبعا ، بملاحظة أنّ مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان ، سيقوى هذا الاحتمال في تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين مرجع الضمائر في الجملة ، وهي واو الجمع في كانوا ، وليؤمنوا ، وكذبوا.

2 ـ من الواضح أنّ جملة :( كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) لا تدل على الجبر ، وقد أخفي تفسير ذلك فيها ، لأنّها تقول : إنّنا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئا ، وبناء على هذا فإنّ الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء ، وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجيا حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق ، ووصل الأمر بهم إلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم ، بحيث لا يذعنون ولا يسلّمون أمام أية حقيقة(1) .

* * *

__________________

(1) ذكرنا تفصيل هذا المطلب في المجلد الأوّل ذيل الآية (7) من سورة البقرة.

٤١٠

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) )

التّفسير

جانب من جهاد موسى وهارون :

لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة كنماذج حيّة ، وبدأ الحديث أوّلا عن نوحعليه‌السلام ، ثمّ عن الأنبياء بعد نوح ، ووصل الدور في هذه الآيات إلى موسى وهارونعليهما‌السلام ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه ، فتقول الآية الأولى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا ) (1) .

__________________

(1) المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.

٤١١

«الملأ» كما أشرنا إلى ذلك سابقا تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول شخص ما.

ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إلى فرعون وملئه فقط ، في حين أنّ موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إسرائيل ، وعلّة ذلك أنّ مقدرات المجتمع في يد الهيئة الحاكمة ، وبناء على هذا فإنّ أي برنامج إصلاحي وثوري يجب أن يستهدف هؤلاء أوّلا ، كما تقول ذلك الآية (12) من سورة التوبة :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) .

إلّا أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى ، وعن التسليم في مقابل الحق :( فَاسْتَكْبَرُوا ) ونظرا للتكبر والاستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإنّهم لم يلتفتوا إلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى ، وأصرّوا واستمروا في إجرامهم :( وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وتتحدث الآية التّالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون ، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإنكار والتكذيب والافتراء واتهامهما بسوء النية ، وابطال سنن الأجداد، والإخلال بالنظام الاجتماعي ، كما يقول القرآن :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة ، ومعجزاته الباهرة من جهة أخرى ، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة ، دفعت الفراعنة إلى التفكير في حل لهذه المسألة ، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر ، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إلّا ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم ، خاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّ موسىعليه‌السلام نهض للدفاع عن نفسه ، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء

٤١٢

وأبطل تهمتهم ، ففي البداية :( قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ) (1) .

صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذا وتأثيرا ، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على إدراكات الناس ونفسياتهم ، إلّا أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماما عن المعجزة التي هي حق ، إذا لا يمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة ، فإنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها ، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة ، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.

إضافة إلى أنّه :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الإثنين وافتراق أحدهما عن الآخر ، أمّا هنا فإنّ الدليل يستعين لإثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.

إنّ السحرة ، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الانحراف والإغفال ، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح ، يستغفلون الناس ويخادعونهم ، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق ، حريصون على هداية الناس ، مطهرون ، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأمور المادية.

إن السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقا ، ولا يعملون إلّا من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية ، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإصلاح المجتمع الإنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.

ثمّ يستمر فرعون وملؤه في رمي موسىعليه‌السلام بسيل الاتهامات الصريحة ، حيث( قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) . الواقع ، أنهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون ،

__________________

(1) الواقع ، أنّ للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام ، وكانت في الأصل هكذا : أتقولون للحق لما جاءكم سحر ، أسحر هذا.

٤١٣

بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.

ثمّ استمروا في هذا التشويه ، وقالوا بأن دعوتكم إلى دين الله ما هي إلّا كذب محض ، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس :( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ) .

في الحقيقة ، إنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائما من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم ، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.

( وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ) لأنا على علم بنواياكم وخططكم الهدامة.

وكانت هذه هي المرحلة الأولى من المواجهة السلبية مع موسى.

* * *

٤١٤

الآيات

( وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) )

التّفسير

المرحلة الثّانية :

تفصل هذه الآيات مرحلة أخرى من المجابهة ، وتتحدث عن إجراءات فرعون العملية ضد موسى وأخيه هارون.

فعند ما لا حظ فرعون قسما من معجزات موسى ، كاليد البيضاء والحية العظيمة ، ورأى أنّ ادعاء موسى ليس واهيا بدون دليل وبرهان ، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيرا ، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن :( وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) فقد كان يعلم أنّ كل عمل يجب أن يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.

هل إنّ فرعون كان حقيقة في شك من أحقّية دعوة موسى ، وكان يريد أن

٤١٥

يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنّه كان يعلم أنّه مرسل من الله ، إلّا أنّه كان يظن أنّه يستطيع بواسطة ضجّة السحرة وغوغائهم أن يهدئ الناس ، ويمنع مؤقتا خطر نفوذ موسى في الأفكار العامّة ، ويقول للناس بأنّه إن جاء بعمل خارق للعادة فإنّنا غير عاجزين عن القيام بمثله ، وإذا شاءت إرادتنا الملوكية ذلك ، فإنّ مثل هذا الشيء سهل يسير بالنسبة لنا!

ويبدو أنّ الاحتمال الثّاني أقرب ، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصّة موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها ، وأنّه هبّ لمجابهة موسى عن وعي ودراية.

على كل حال :( فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) .

جملة( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) تعني في الأصل : ألقوا كل ما تستطيعون إلقاءه ، وهذا إشارة إلى الحبال والعصي الخاصّة التي كان جوفها خاليا ، وصبت فيه مواد كيماوية خاصّة بحيث أنّها تتحرك وتتقلب إذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء ، ففي الآية (43) ـ (44) من سورة الشعراء نقرأ :( قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) . ولكن من الطبيعي أنّها تتضمن هذا المعنى أيضا بأنّ أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة ، وألقوا كل ما أتوا به ـ معهم في وسط الحلبة :( فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ) فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين ، و( إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

في الواقع ، إنّ كل إنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى قبل انتصار موسى على السحرة ، وهي أنّ عمل السحرة لا يقوم على أساس من

٤١٦

الحق. لأنّه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور ، فأي شخص لم يكن يعلم أنّ فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحا وإلهيا؟ كلّا مطلقا ، وبناء على هذا كان من الواضح أنّ الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.

هل أنّ التعبير بـ «سيبطله» دليل على أنّ السحر حقيقة واقعية ، إلّا أنّ الله يبطله؟ أم أنّ المقصود من الجملة هو أنّ الله يكشف كون السحر باطلا؟

إنّ الآية (116) من سورة الأعراف تقول : إنّ سحر السحرة قد أثر في أعين الناس فخوفوهم به :( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) وهذا التعبير لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعا من الحركات الواقعية في تلك الحبال والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى اللغوي للسحر ، وخاصّة بالاستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام المختلفة ، إلّا أنّ من المسلّم به أنّ هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حيّة كما ظهرت أمام أعين الناس ، كما قال القرآن في سورة طه الآية (66) :( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) . بناء على هذا ، فإنّ بعض تأثير السحر واقعي ، والبعض الآخر وهم وخيال.

وفي الآية الأخيرة ، إنّ موسى قال لهؤلاء : إنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتما. لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع ، ومعجزات أنبيائه القاهرة ، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإن كره المجرمون ذلك :( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .

والمراد من «كلماته» إمّا وعد الله بنصرة الرسل وإحقاق الحق ، أو معجزاته القاهرة القوية(1) .

* * *

__________________

(1) لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة ، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (113) وما بعدها من سورة الأعراف من المجلد الخامس ، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأوّل ذيل الآية (102) سورة البقرة ، فراجع.

٤١٧

الآيات

( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) )

التّفسير

المرحلة الثّالثة :

عكست هذه الآيات مرحلة أخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون ، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول :( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) .

إنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة ، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية ، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الأمر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة :( عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي

٤١٨

الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإلى من يعود ضمير( مِنْ قَوْمِهِ ) إلى موسى أم فرعون؟

فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفرا قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون ، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها ، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير ب( ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.

إلّا أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إسرائيل ، والضمير يعود إلى موسى ، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله ، وحسب قواعد اللغة والنحو فإنّ الضمير يجب أن يرجع إليه.

ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية ، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول :( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ ) أي إنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».

الإشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير ، هو أنّ جميع بني إسرائيل قد آمنوا بموسى ، لا جماعة منهم.

إلّا أنّ هذا الإيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة ، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إليها ، فإضافة إلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة ، فإنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى ، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأمور المادية التي تدعو الكبار إلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأخرى ، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها ، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.

بناء على هذا ، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إلى موسى ، وتعبير «الذريّة» يناسب هذا المعنى جدّا.

٤١٩

هذا إضافة إلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك ، وكانوا ضعفاء وعاجزين ، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول : اذهب وادع الأولاد ، بالرغم من أنهم قد يكونون كبارا ، وإذا لم نتفق وهذا المعنى للآية ، فإنّ الاحتمال الأوّل يبقى على قوته.

إضافة إلى أن الذرية وإن كانت تطلق عادة على الأولاد ، إلّا أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.

والملاحظة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة( أَنْ يَفْتِنَهُمْ ) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإرعاب والتعذيب ، أو بمعنى آخر إيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.

على كل حال ، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم :( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) .

إنّ حقيقة التوكل هي إلقاء العمل والتصرف في الأمور على كاهل الوكيل ، وليس معنى التوكل أن يترك الإنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول : إنّ الله معتمدي وكفى ، بل معناه أن يبذل قصارى جهده ، فإذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه ، فلا يدع للخوف طريقا إلى نفسه ، بل يصمد أمامها بالتوكل والاعتماد على لطف الله والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية ، ويستمر في جهاده المتواصل ، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإنّه لا يرى نفسه مستغنيا عن الله ، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.

هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإيمان والإسلام ، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء ، وكل عسير مقابل إرادته سهل

٤٢٠