الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261048 / تحميل: 6476
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

المظلم وهدوئه يهيء الروح والجسد المتعبين للعمل والحركة من جديد.

نعم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) أولئك الذين يسمعون ويدركون ، وبعد إدراك الحقيقة يتبعونها ويسيرون على نهجها.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ الهدوء والسكون النفسي الذي هو الهدف من خلق الليل بات من المسلمات العلمية بعد أن أثبته العلم اليوم ، فإنّ حجب الظلام ليست وسيلة إجبارية لإيقاف النشاطات اليومية وحسب ، بل لها أثر مباشر على السلسلة العصبية وعضلات الإنسان وسائر الحيوانات فتجعلهم في حالة استراحة ونوم وسكون ، وما أجهل بعض الناس الذين يحيون الليل بالملذات والرغبات ، ويقضون النهار ـ وخاصّة الفجر المنشط ـ في النوم ، ولهذا السبب فإنّ أعصابهم متوترة وغير متزنة دائما.

٢ ـ إذا علمنا أنّ الإبصار بمعنى النظر ، فإنّ معنى جملة :( وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) سيصبح : إنّ الله قد جعل النهار ناظرا ، في حين أنّ النهار مبصر لا مبصر! إن هذا تشبيه ومجاز من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب ، كما يقولون في شأن الليل : ليل نائم ، في حين أنّ الليل لا ينام ، بل هو سبب لأنّ ينام الناس.

٣ ـ إنّ الآيات أعلاه تدين الظن والوهم مرّة أخرى وتردّه ، لكن لما كان الكلام عن أوهام عبدة الأوثان الخرافية التي لا أساس لها ، فإنّ الظّن هنا لا يعني الظّن العقلائي المدروس الذي يعتبر حجة في بعض الموارد ، مثل شهادة الشهود وظاهر الألفاظ والإقرارات والمكاتبات ، وبناء على هذه فإنّ الآيات أعلاه لا يمكن أن تكون دليلا على عدم حجية الظن.

* * *

٤٠١

الآيات

( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) )

التّفسير

تستمر هذه الآيات ـ أيضا ـ في بحثها مع المشركين ، وتذكر واحدة من أكاذيب واتهامات هؤلاء لساحة الله المقدسة ، فتقول أوّلا :( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) .

إنّ هذا الكلام قاله المسيحيون في حق المسيحعليه‌السلام ، ثمّ عبدة الأوثان في عصر الجاهلية في حق الملائكة ، حيث كانوا يظنون أنّها بنات الله ، وقاله اليهود في شأن عزير. ويجيبهم القرآن بطريقين :

الأوّل : إنّ الله سبحانه منزّه عن كل عيب ونقص ، وهو مستغن عن كل شيء :( سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ ) وهذا إشارة إلى أنّ الحاجة إلى الولد ، إمّا للحاجة الجسمية إلى قوته ومساعدته ، أو للحاجة الروحية والعاطفية ، ولما كان الله سبحانه منزّه عن كل

٤٠٢

عيب ونقص وحاجة ، فلا يمكن أن يتخذ لنفسه ولدا.

( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) ومع هذا الحال فأي معنى لأن يتخذ لنفسه ولدا ليطمئنه ويهدئه ، أو يعينه ويساعده.

ممّا يلفت النظر أنّ الآية عبّرت هنا ب (اتخذ) وهذا يوحي أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لم يلد ذلك الولد ، بل يقولون : إنّ الله قد اختار بعض الموجودات كولد له ، تماما مثل أولئك الذين لا يولد لهم ولد ، ويتبنون طفلا من دور الحضانة وأمثالها.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء الجاهلين وقصيري النظر وقعوا في اشتباه المقارنة بين الخالق والمخلوق ، وكانوا يقيسون ذات الله الصمدية على وجودهم المحدود المحتاج.

والجواب الثّاني الذي يذكره القرآن لهؤلاء هو : إنّ من يدعي شيئا يجب عليه أن يقيم دليلا على مدعاه :( إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي إنّكم على فرض عدم قبولكم للدليل الأوّل الواضح ، فإنّكم لا تستطيعون أن تنكروا هذه الحقيقة ، وهي أن ادعاءكم وقولكم تهمة وقول بغير علم.

وتعيد الآية التّالية عاقبة الافتراء على الله المشؤومة. فتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) .

وعلى فرض أن هؤلاء يستطيعون بافتراءاتهم وأكاذيبهم أن ينالوا المال والمقام لعدّة أيّام، فإنّ ذلك( مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ) .

الواقع أنّ هذه الآية والتي قبلها ذكرتا نوعين من العقاب لهؤلاء الكذابين الذين نسبوا إلى الله تهمة اتّخاذ الولد :

الأوّل : إنّ هذا الكذب والافتراء لا يمكن أن يكون أساسا لفلاح ونجاح هؤلاء أبدا ، ولا يوصلهم إلى هدفهم مطلقا ، بل إنّهم يصبحون حيارى تائهين تحيط

٤٠٣

التعاسة والشقاء والهزيمة بأطرافهم.

الثّاني : على فرض أنّهم استطاعوا أن يستغفلوا الناس ويخدعوهم بهذه الكلمات لعدة أيّام ، ويصلوا عن طريق الديانة الوثنية إلى رفاه وعيش رغيد ، إلّا أنّ هذا التمتع لا دوام ولا بقاء له ، والعذاب الإلهي الخالد في انتظارهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ إنّ كلمة «سلطان» تعني هنا الدليل ، وهذه الكلمة أعمق وأبلغ من كلمة الدليل ، لأنّ الدليل بمعنى الدلالة والإرشاد أمّا السلطان فهو الشيء الذي يسلط الإنسان على الطرف المقابل ، ويناسب موارد البحث والجدال والنقاش ، وهو إشارة إلى الدليل القاطع القوي.

٢ ـ «المتاع» يعني الشيء الذي يستفيد منه الإنسان ويتمتع به ، ومفهومه واسع جدا يشمل كل لوازم ووسائل الحياة والمواهب المادية. يقول الراغب في المفردات : كلما ينتفع به على وجه ما ، فهو متاع ومتعة.

٣ ـ إنّ التعبير ب (نذيقهم) الذي ورد في شأن العذاب الإلهي يشير إلى أنّ هذا العذاب الذي سينال هؤلاء بدرجة من الشدّة بحيث كأنّهم يذوقونه بألسنتهم وأفواههم ، وهذا التعبير أبلغ جدا من المشاهدة ، بل وحتى من لمس العذاب.

* * *

٤٠٤

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) )

التّفسير

جانب من جهاد نوح :

الآيات أعلاه بداية لبيان قسم من تأريخ الأنبياء وقصص وحوادث الأمم الماضية لتوعية وإيقاظ المشركين والفئات المخالفة ، فيأمر الله نبيّه أن يتابع حديثه السابق مع المشركين بشرح تأريخ الماضين ليكون عبرة لهم.

في البداية تطرقت إلى قصّة نوح ، فقالت :( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا

٤٠٥

قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) ولهذا فإنّي لا أخاف غيره. ثمّ تضيف :( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ) أي ادعوا أصنامكم أيضا لتعينكم في المشورة ، حتى لا يبقى شيء خافيا على أحد ولا يتعرض منكم الى الهم والغم أحد( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ) بل اتّخذوا قراركم في شأني بكل وضوح.

«غمّة» من مادة غم ، وهي تعني خفاء الشيء وتغطيته ، وإنّما يقولون للحزن : غمّ أيضا لأنّه يغطي قلب الإنسان.

ثمّ يقول :( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (١) .

إنّ نوحا رسول الله الكبير صمد مقابل أعدائه الأقوياء المعاندين وواجههم بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا معه ، وكان يستهزئ بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم ، وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إلى أفكارهم.

وإذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة في الوقت الذي كان يعيش فيه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظروفا تشبه ظروف نوح ، وكان المؤمنون قلّة ، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنّبي ـ أيضا ـ نفس هذا الدرس بأنّ لا يهتم بقدرة العدو ، بل يسير ويتقدم بكل حزم وجرأة وشجاعة ، لأنّ الله يسنده وينصره ، ولا تستطيع أية قوّة أن تقف في مقابل قدرته.

__________________

(١) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو جزاء شرط جملة( إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ) ؟ ومن بين الاحتمالات التي طرحوها يبدو للنظر أن اثنين منها هما الأقرب : الأوّل : إنّ جملة( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) هي جزاء الشرط ، وإن جملة :( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) جملة معترضة فصلت بين الشرط والجزاء.

الثّاني : إنّ الجزاء محذوف والجمل التالية تدل على ذلك ، والتقدير هكذا : فافعلوا ما تريدون فإنّي متوكل على الله. في الواقع ، إنّ جملة : ( فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ ) من قبيل العلة حلت محل المعلول ، و (شركاءكم) في الجملة التالية إشارة إلى الأصنام ، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبر جيدا).

٤٠٦

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعا من الإعجاز ، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإمكانيات الظاهرية فإنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة ، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي ، وهذا لا يمكن قبوله إلّا عن طريق الإعجاز ، إلّا أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم ، بل إنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم ، فكان هذا عاملا مهمّا في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين ، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.

وذكرت الآية التّالية بيانا آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته ، هناك حيث تقول :( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ (١) إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) ، فإنّي أعمل له ، ولا أريد الأجر إلّا منه( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

إنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم ، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعا من التعلق النفسي الذي يؤدي الى عرقلة أساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة ، ومن الطبيعي عن ذلك أن يقلّ تأثير دعوتهم وإبلاغهم ، ولهذا السبب فإنّ الطريق الصحيح في الدعوة إلى الإسلام أن يعتمد المبلّغون والداعون في إدارة أمورهم المعاشية على بيت المال فقط ، لا بالاحتجاج إلى الناس!

وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح ، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة :( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ) (٢) ولم ننقذهم وحسب ، بل

__________________

(١) جواب هذا الشرط محذوف أيضا ، وتقديره : فإن توليتم فلا تضروني ، أو : فإن توليتم فأنتم وشأنكم.

(٢) «الفلك» بمعنى السفينة ، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإنّها تطلق على المفرد والجمع.

٤٠٧

وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) .

وفي النهاية توجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) .

* * *

٤٠٨

الآية

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) )

التّفسير

الرّسل بعد نوح :

بعد انتهاء البحث الإجمالي حول قصّة نوح ، أشارت هذه الآية إلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسىعليهما‌السلام لهداية الناس كإبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسفعليهم‌السلام ، فقالت :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإعجاز والبرامج البناءة ، إلّا أنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين ، كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضا ولم يؤمنوا بهم( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب( كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) .

* * *

٤٠٩

ملاحظتان

١ ـ جملة :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) تشير إلى أنّ فئة من بين الأمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح ، واستمروا في الثبات على موقفهم ، ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر ، وبناء على هذا فإن الجملة المذكورة تشير إلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين (وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد).

وقد احتمل أيضا في معنى هذه الآية أنّها تشير إلى جماعتين مختلفتين ، إحداهما كانت في زمن نوح وكذّبت دعوته ، والأخرى هم الذين جاؤوا بعد أولئك وسلكوا طريقهم في إنكار وتكذيب الأنبياء ، وبناء على هذا ، فإنّ معنى الجملة يصبح : إنّ المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإيمان بالشيء الذي امتنع الماضون عن الإيمان به.

طبعا ، بملاحظة أنّ مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان ، سيقوى هذا الاحتمال في تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين مرجع الضمائر في الجملة ، وهي واو الجمع في كانوا ، وليؤمنوا ، وكذبوا.

٢ ـ من الواضح أنّ جملة :( كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) لا تدل على الجبر ، وقد أخفي تفسير ذلك فيها ، لأنّها تقول : إنّنا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئا ، وبناء على هذا فإنّ الاعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء ، وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجيا حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق ، ووصل الأمر بهم إلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم ، بحيث لا يذعنون ولا يسلّمون أمام أية حقيقة(١) .

* * *

__________________

(١) ذكرنا تفصيل هذا المطلب في المجلد الأوّل ذيل الآية (٧) من سورة البقرة.

٤١٠

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) )

التّفسير

جانب من جهاد موسى وهارون :

لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة كنماذج حيّة ، وبدأ الحديث أوّلا عن نوحعليه‌السلام ، ثمّ عن الأنبياء بعد نوح ، ووصل الدور في هذه الآيات إلى موسى وهارونعليهما‌السلام ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه ، فتقول الآية الأولى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا ) (١) .

__________________

(١) المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.

٤١١

«الملأ» كما أشرنا إلى ذلك سابقا تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول شخص ما.

ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إلى فرعون وملئه فقط ، في حين أنّ موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إسرائيل ، وعلّة ذلك أنّ مقدرات المجتمع في يد الهيئة الحاكمة ، وبناء على هذا فإنّ أي برنامج إصلاحي وثوري يجب أن يستهدف هؤلاء أوّلا ، كما تقول ذلك الآية (١٢) من سورة التوبة :( فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) .

إلّا أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى ، وعن التسليم في مقابل الحق :( فَاسْتَكْبَرُوا ) ونظرا للتكبر والاستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإنّهم لم يلتفتوا إلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى ، وأصرّوا واستمروا في إجرامهم :( وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ ) .

وتتحدث الآية التّالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون ، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإنكار والتكذيب والافتراء واتهامهما بسوء النية ، وابطال سنن الأجداد، والإخلال بالنظام الاجتماعي ، كما يقول القرآن :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة ، ومعجزاته الباهرة من جهة أخرى ، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة ، دفعت الفراعنة إلى التفكير في حل لهذه المسألة ، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر ، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إلّا ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم ، خاصّة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّ موسىعليه‌السلام نهض للدفاع عن نفسه ، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء

٤١٢

وأبطل تهمتهم ، ففي البداية :( قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا ) (١) .

صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذا وتأثيرا ، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على إدراكات الناس ونفسياتهم ، إلّا أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماما عن المعجزة التي هي حق ، إذا لا يمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة ، فإنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها ، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة ، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.

إضافة إلى أنّه :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ) وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الإثنين وافتراق أحدهما عن الآخر ، أمّا هنا فإنّ الدليل يستعين لإثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.

إنّ السحرة ، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الانحراف والإغفال ، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح ، يستغفلون الناس ويخادعونهم ، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق ، حريصون على هداية الناس ، مطهرون ، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأمور المادية.

إن السحرة لا يرون وجه الفلاح مطلقا ، ولا يعملون إلّا من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية ، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإصلاح المجتمع الإنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.

ثمّ يستمر فرعون وملؤه في رمي موسىعليه‌السلام بسيل الاتهامات الصريحة ، حيث( قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) . الواقع ، أنهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون ،

__________________

(١) الواقع ، أنّ للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام ، وكانت في الأصل هكذا : أتقولون للحق لما جاءكم سحر ، أسحر هذا.

٤١٣

بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.

ثمّ استمروا في هذا التشويه ، وقالوا بأن دعوتكم إلى دين الله ما هي إلّا كذب محض ، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس :( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ ) .

في الحقيقة ، إنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائما من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم ، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.

( وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ) لأنا على علم بنواياكم وخططكم الهدامة.

وكانت هذه هي المرحلة الأولى من المواجهة السلبية مع موسى.

* * *

٤١٤

الآيات

( وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) )

التّفسير

المرحلة الثّانية :

تفصل هذه الآيات مرحلة أخرى من المجابهة ، وتتحدث عن إجراءات فرعون العملية ضد موسى وأخيه هارون.

فعند ما لا حظ فرعون قسما من معجزات موسى ، كاليد البيضاء والحية العظيمة ، ورأى أنّ ادعاء موسى ليس واهيا بدون دليل وبرهان ، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيرا ، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن :( وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) فقد كان يعلم أنّ كل عمل يجب أن يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.

هل إنّ فرعون كان حقيقة في شك من أحقّية دعوة موسى ، وكان يريد أن

٤١٥

يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنّه كان يعلم أنّه مرسل من الله ، إلّا أنّه كان يظن أنّه يستطيع بواسطة ضجّة السحرة وغوغائهم أن يهدئ الناس ، ويمنع مؤقتا خطر نفوذ موسى في الأفكار العامّة ، ويقول للناس بأنّه إن جاء بعمل خارق للعادة فإنّنا غير عاجزين عن القيام بمثله ، وإذا شاءت إرادتنا الملوكية ذلك ، فإنّ مثل هذا الشيء سهل يسير بالنسبة لنا!

ويبدو أنّ الاحتمال الثّاني أقرب ، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصّة موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها ، وأنّه هبّ لمجابهة موسى عن وعي ودراية.

على كل حال :( فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) .

جملة( أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ) تعني في الأصل : ألقوا كل ما تستطيعون إلقاءه ، وهذا إشارة إلى الحبال والعصي الخاصّة التي كان جوفها خاليا ، وصبت فيه مواد كيماوية خاصّة بحيث أنّها تتحرك وتتقلب إذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء ، ففي الآية (٤٣) ـ (٤٤) من سورة الشعراء نقرأ :( قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) . ولكن من الطبيعي أنّها تتضمن هذا المعنى أيضا بأنّ أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.

على كل حال ، فإنّ هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة ، وألقوا كل ما أتوا به ـ معهم في وسط الحلبة :( فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ ) فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين ، و( إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .

في الواقع ، إنّ كل إنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى قبل انتصار موسى على السحرة ، وهي أنّ عمل السحرة لا يقوم على أساس من

٤١٦

الحق. لأنّه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور ، فأي شخص لم يكن يعلم أنّ فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحا وإلهيا؟ كلّا مطلقا ، وبناء على هذا كان من الواضح أنّ الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.

هل أنّ التعبير بـ «سيبطله» دليل على أنّ السحر حقيقة واقعية ، إلّا أنّ الله يبطله؟ أم أنّ المقصود من الجملة هو أنّ الله يكشف كون السحر باطلا؟

إنّ الآية (١١٦) من سورة الأعراف تقول : إنّ سحر السحرة قد أثر في أعين الناس فخوفوهم به :( فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ) وهذا التعبير لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعا من الحركات الواقعية في تلك الحبال والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى اللغوي للسحر ، وخاصّة بالاستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام المختلفة ، إلّا أنّ من المسلّم به أنّ هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حيّة كما ظهرت أمام أعين الناس ، كما قال القرآن في سورة طه الآية (٦٦) :( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) . بناء على هذا ، فإنّ بعض تأثير السحر واقعي ، والبعض الآخر وهم وخيال.

وفي الآية الأخيرة ، إنّ موسى قال لهؤلاء : إنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتما. لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع ، ومعجزات أنبيائه القاهرة ، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإن كره المجرمون ذلك :( وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .

والمراد من «كلماته» إمّا وعد الله بنصرة الرسل وإحقاق الحق ، أو معجزاته القاهرة القوية(١) .

* * *

__________________

(١) لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة ، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (١١٣) وما بعدها من سورة الأعراف من المجلد الخامس ، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأوّل ذيل الآية (١٠٢) سورة البقرة ، فراجع.

٤١٧

الآيات

( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) )

التّفسير

المرحلة الثّالثة :

عكست هذه الآيات مرحلة أخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون ، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول :( فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) .

إنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة ، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية ، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الأمر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة :( عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي

٤١٨

الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإلى من يعود ضمير( مِنْ قَوْمِهِ ) إلى موسى أم فرعون؟

فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفرا قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون ، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها ، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير ب( ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.

إلّا أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إسرائيل ، والضمير يعود إلى موسى ، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله ، وحسب قواعد اللغة والنحو فإنّ الضمير يجب أن يرجع إليه.

ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية ، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول :( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ ) أي إنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».

الإشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير ، هو أنّ جميع بني إسرائيل قد آمنوا بموسى ، لا جماعة منهم.

إلّا أنّ هذا الإيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة ، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إليها ، فإضافة إلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة ، فإنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى ، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأمور المادية التي تدعو الكبار إلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأخرى ، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها ، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.

بناء على هذا ، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إلى موسى ، وتعبير «الذريّة» يناسب هذا المعنى جدّا.

٤١٩

هذا إضافة إلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك ، وكانوا ضعفاء وعاجزين ، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول : اذهب وادع الأولاد ، بالرغم من أنهم قد يكونون كبارا ، وإذا لم نتفق وهذا المعنى للآية ، فإنّ الاحتمال الأوّل يبقى على قوته.

إضافة إلى أن الذرية وإن كانت تطلق عادة على الأولاد ، إلّا أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.

والملاحظة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هنا ، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة( أَنْ يَفْتِنَهُمْ ) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإرعاب والتعذيب ، أو بمعنى آخر إيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.

على كل حال ، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم :( وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ) .

إنّ حقيقة التوكل هي إلقاء العمل والتصرف في الأمور على كاهل الوكيل ، وليس معنى التوكل أن يترك الإنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول : إنّ الله معتمدي وكفى ، بل معناه أن يبذل قصارى جهده ، فإذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه ، فلا يدع للخوف طريقا إلى نفسه ، بل يصمد أمامها بالتوكل والاعتماد على لطف الله والاستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية ، ويستمر في جهاده المتواصل ، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإنّه لا يرى نفسه مستغنيا عن الله ، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.

هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإيمان والإسلام ، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء ، وكل عسير مقابل إرادته سهل

٤٢٠

وقال الصادقعليه‌السلام : « أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب فجعل لكل شيء سبباً ، وجعل لكل سبب شرحاً ، وجعل لكل شرح علماً ، وجعل لكل علم باباً ناطقاً ، عرفه من عرفه وجهله من جهله ، ذاك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن »(1) .

ومع هذا الاعتراف فليس النبي والإمام من أسباب الخلق والتدبير ، وإنما هم وسائط بين الخالق والخلق في إبلاغ الاحكام وإرشاد العباد ، وسائر الفيوض المعنوية من الهداية الظاهرية والباطنية.

فان قلت : قد تواترت الروايات بأنه لولا الحجّة لساخت الارض بأهلها ، وقد عقد الكليني في كتاب الحجة باباً لذلك وقال : « إن الارض لا تخلو من حجة » وأورد فيه روايات تبلغ ثلاث عشرة رواية(2) .

قلت : لا إشكال في صحة هذه الروايات ، ولكنها لا تهدف إلى كون النبي والإمام من الاسباب والمدبّرات التي نزل به الذكر الحكيم ، ونطق به الحديث الصحيح ، وإنما تهدف إلى أحد أمرين :

الأول : إن النبي والإمام غاية لخلق العالم ، ولولا تلك الغاية لما خلق الله العالم ، بل كان خلقه أمراً لغواً.

وبعبارة اُخرى إن العالم خلق لتكوّن الانسان الكامل فيه ، ومن أوضح مصاديقه هو النبي والإمام ، ومن المعلوم أن فقدان الغاية يوجب فقدان ذيها ، ولأجل ذلك يصحّ أن يقال : إن الانسان الكامل يكون من بسببه الوجود سببية غائية ، لا منه الوجود سببية فاعلية معطية له فهو سبب غائي لا علة فاعلية ، فاحفظ ذلك فانه ينفعك.

الثاني : إن الحجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله ،

__________________

1 ـ الكافي : 1 / 183 ، كتاب الحجة ، الحديث 7.

2 ـ الكافي : 1 / 178.

٤٢١

وأنه لولاه لما عرف الحق من الباطل ، وقد جرت مشيئته الحكيمة على أن يهديهم إلى سبل الرشاد بعد خلقهم ولا يتركهم سدى. قال سبحانه :( وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في اُمّها رسولاً ) القصص : 59.

وإلى كلا الوجهين تصريحات في روايات الباب. أما الأول ، فعن أبي حمزة قال : « قلت لأبي عبدالله أتبقى الارض بغير إمام؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ». وأما الثاني ، فعن أبي بصير ، عن أحدهماعليهما‌السلام قال : « إن الله لم يدع الأرض بغير عالم ، ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(1) .

ولشيخنا العلاّمة المجلسي كلام في التفويض ننقله بنصّه قال :

« وأما التفويض فيطلق على معان بعضها منفي عنهمعليهم‌السلام وبعضها مثبت لهم.

الأول : التفويض في الخلق والرزق والتربية والاماتة والاحياء ، فان قوماً قالوا : إن الله تعالى خلقهم وفوَّض اليهم أمر الخلق ، فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون ، وهذا الكلام يحتمل وجهين :

أحدهما أن يقال : إنهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقة ، وهذا كفر صريح دلّت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما : أن الله تعالى يفعل ذلك مقارناً لارادتهم كشقّ القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حيّة وغير ذلك من المعجزات ، فان جميع ذلك إنما تحصل بقدرته تعالى مقارناً لارادتهم لظهور صدقهم ، فلا يأبى العقل عن أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ، ثم خلق

__________________

1 ـ الكافي : 1 / 178 ، الحديث 5 و 10 وغيرهما من الروايات.

٤٢٢

كل شيء مقارناً لارادتهم ومشيّتهم.

وهذا وان كان العقل لا يعارضه كفاحاً ، لكن الأخبار السالفة تمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً بل صراحاً ، مع أن القول به قول بما لا يعلم ، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم.

وما ورد من الأخبار الدالة على ذلك كخطبة البيان وأمثالها ، فلم يوجد إلا في كتب الغلاة وأشباههم ، مع أنه يحتمل أن يكون المراد كونهم علّة غائية لايجاد جميع المكونات ، وأنه تعالى جعلهم مطاعين في الأرضين والسماوات ، ويطيعهم بإذن الله تعالى كل شيء حتى الجمادات ، وأنهم إذا شاءُوا أمراً لا يرد الله مشيئتهم ولكنهم لا يشاءُون إلا أن يشاء الله.

وأما ما ورد من الأخبار في نزول الملائكة والروح لكل أمر اليهم ، وأنه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلا بدأ بهم ، فليس ذلك لمدخليتهم في ذلك ولا الاستشارة بهم ، بل له الخلق والأمر تعالى شأنه ، وليس ذلك إلا لتشريفهم وإكرامهم وإظهار رفعة مقامهم »(1) .

وما ذكره هو الحقّ ، إلا أن ظواهر الآيات والروايات في المعاجز على خلاف ما اختاره ، لظهورها في كون المعجزات مستندة اليهم أنفسهم بإذن الله. قال سبحانه :( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ) المائدة : 110. فان الخطابات دليل على أنهمعليهم‌السلام قائمون بها باذن الله. وللبحث مجال آخر.

الثاني : تفويض الحلال والحرام اليهم ، أي فوض اليهم أن يحللوا ما شاءُوا ويحرموا أيضاً ما شاءُوا ، وهذا أيضاً ضروري البطلان ، فان النبي ليس

__________________

1 ـ بحار الانوار : 25 / 347.

2 ـ

٤٢٣

شارعاً للاحكام ، بل مبين وناقل له ، وليس شأنه في المقام إلا شأن ناقل الفتيا بالنسبة إلى المقلدين ، قال سبحانه :( قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن اُبدّله من تلقائ نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) يونس : 15. وقال سبحانه :( واتّبع ما يوحى إليك من ربّك إن الله كان بما تعملون خبيراً ) الاحزاب : 2. وقال سبحانه :( اتّبع ما اُوحي اليك من ربّك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ) الانعام : 106. وهذه الآيات والروايات المتضافرة ، تفيد بوضوح أن النبي لم يكن شارعاً بل كان ناقلاً ومبيناً لما اُوحي اليه ، فلم يكن له إلا تحليل ما أحلّ او تحريم ما حرم الله ، وقد نقل سيدنا الاستاذ الأكبر ـ دام ظله ـ أن الصدوق قد عدَّ إطلاق لفظ الشارع على النبي الأكرم من الغلوّ في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم عقد الكليني في كتاب الحجّة من اصول الكافي باباً أسماه « التفويض إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الائمةعليهم‌السلام فى أمر الدين » فربما يتبادر منه إلى الذهن أن النبي قد شرع بعض الاحكام. فروى بسند صحيح عن الامام الصادقعليه‌السلام يقول : « إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه ، فلما أكمل له الأدب ، قال : إنك لعلى خلق عظيم ثمَّ فوض اليه أمر الدين والاُمة ليسوس عباده فقال عز وجل :( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مسدّداً موفقاً مؤيداً بروح القدس لا يزل ولا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ، ثم إن الله عزَّ وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، عشر ركعات فأضاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الركعتين ، ركعتين وإلى المغرب ركعة ، فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر ، فأجاز الله عز وجل له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ، ثم سن رسول الله النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة ، فأجاز الله عز وجل له ذلك ، والفريضة والنافلة

٤٢٤

إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر ، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صوم شعبان ، وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة ، فأجاز الله عز وجل له ذلك وحرم الله عز وجل الخمر بعينها ، وحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المسكر من كلّ شراب فأجاز الله له ذلك كله الخ »(1) .

اقول : إن مضمون الروايات يوجه بوجهين :

الأول : إن الله سبحانه علم الرسول مصالح الاحكام ومفاسدها ، وأوقفه على ملاكاتها ومناطاتها ، ولما كانت الاحكام تابعة لمصالح ومفاسد كاملة في متعلقاتها ، وكان النبي بتعليم منه سبحانه واقفاً على المصالح والمفاسد على اختلاف درجاتها ومراتبها ، كان له أن ينصّ على أحكامه سبحانه من طريق الوقوف على عللها وملاكاتها ، ولا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه من طريق التعرّف على عللها بأقصر من الطرق الاخر التي يقف بها النبي على حلاله وحرامه ، وإلى هذا يشير الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله : « عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل »(2) غير أن اهتداءهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الاحكام وتنصيصه بها من هذا الطريق ، قليل جدّاً لا تتجاوز عمّا ذكرناه إلا بقليل ، وبذلك يعلم حال الأئمة المعصومينعليهم‌السلام في هذا المورد.

الثاني : إن عمل الرسول لم يكن في هاتيك الموارد سوى مجرَّد طلب ، وقد أنفذ الله طلبه ، لا أنه قام بنفسه بتشريع وتقنين ، ويشير إلى ذلك بقوله : « فأجاز الله عز وجل له ذلك ».

ولو أن النبي كان يمتلك زمام التشريع وكان قد فوّض اليه أمر التقنين على

__________________

1 ـ الكافي : 1 / 266 ، الحديث 4 ، وقد ذكر بعض الاجلة موارد اخر من هذا القبيل.

2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 234 ، طبعة عبده.

٤٢٥

نحو ما تفيده كلمة التفويض ، لما احتاج إلى إذنه وإجازته المجددة ، ولما كان للجملة المذكورة أي معنى ، فالحاصل أن ما صدر من النبي لم يكن بصورة التشريع القطعي ، بل كان دعاء وطلباً من الله سبحانه لما وقف على مصالح في ما دعاه وقد استجاب دعاءه كما يفيده قوله في الحديث « فأجاز الله عز وجل له ذلك ».

قال العلاّمة المجلسي : « التفويض في أمر الدين يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الله تعالى فوض إلى النبي والأئمة عموماً أن يحلوا ما شاءُوا ويحرّموا ما شاءُوا من غير وحي وإلهام ، أو يغيروا ما اُوحي اليهم بآرائهم ، وهذا باطل لا يقول به عاقل ، فان النبي كان ينتظر الوحي أياماً كثيرة لجواب سائل ، ولا يجيبه من عنده وقد قال تعالى( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) النجم : 4.

وثانيهما : أنه تعالى لما أكمل نبيه بحيث لم يكن يختار من الاُمور شيئاً إلا ما يوافق الحق والصواب ، ولا يخطر بباله ما يخالف مشيئته تعالى في كل باب ، فوض اليه تعيين بعض الامور كالزيادة في الصلاة وتعيين النوافل في الصلاة والصوم ، وطعمة الجدّ وغير ذلك ممّا مضى وسيأتي ، اظهاراً لشرفه وكرامته عنده ، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي ، ولم يكن الاختيار إلا بالالهام ، ثم كان يؤكد ما اختاره بالوحي ، ولا فساد في ذلك عقلاً ، وقد دلت النصوص المستفيضة عليه ممّا تقدم في هذا الباب وفي أبواب فضائل نبينا من المجلد السادس.

ولعلّ الصدوقرحمه‌الله أيضاً إنما نفى المعنى الأول ، حيث قال في الفقيه : « وقد فوض الله عز وجل إلى نبيه أمر دينه ، ولم يفوض اليه تعدّي حدوده » وأيضاً هورحمه‌الله قد روى كثيرا من أخبار التفويض في كتبه ولم يتعرض لتأويلها.

٤٢٦

الثالث : تفويض بيان العلوم والاحكام ، وهذا مما لا شك ولا شبهة فيه ، قال سبحانه :( ونزَّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) النحل : 89. وقال سبحانه :( وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل اليهم ) النحل : 44. وهذه الآية تفيد أن من شؤون النبي مضافاً إلى التلاوة هو تبيين ما نزل اليه من الآيات الحكيمة.

والآيات والاحاديث في ذلك كثيرة جدّاً. قال الباقرعليه‌السلام مخاطباً لجابر : « يا جابر لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا ، كنا من الهالكين ، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم » وفي رواية « ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله واصول علم عندنا نتوارثها كابراً عن كابر ».

وفي رواية محمد بن شريح عن الصادقعليه‌السلام : « والله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ولكن نقول ما قال ربّنا ».

وفي رواية عنه : « مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله. لسنا نقول برأينا من شيء »(3) إلى غير ذلك من الاحاديث المفيدة أن أحاديثهم مأخوذة عن نبيّهم.

غير أنهمعليهم‌السلام يبيّنون الاحكام حسب اختلاف عقول الناس ، ويفتون حسب المصالح ، فتارة يبيّنون الاحكام الواقعية ، واُخرى الاحكام الواقعية الثانوية حسب مصالح المكلفين كما هو معلوم من افتائهم بالتقية.

قال العلاّمة المجلسيرحمه‌الله : « تفويض بيان العلوم والاحكام بما رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم ، أو بسبب التقية فيفتون بعض الناس بالواقع من الاحكام ، وبعضهم بالتقية ، ويبينون تفسير الآيات وتأويلها ، وبيان المعارف بحسب ما يحتمل عقل كل سائل ، ولهم أن يبيّنوا ولهم أن يسكتوا كما

__________________

1 ـ راجع جامع احاديث الشيعة : 1 / 17 ، المقدمة.

٤٢٧

ورد في أخبار كثيرة : « عليكم المسألة وليس علينا الجواب » كل ذلك بحسب ما يُريهم الله من مصالح الوقت كما ورد في خبر ابن أشيم وغيره ».

روى محمد بن سنان في تأويل قوله تعالى( لتحكم بين الناس بما أريك الله ) فقال :( إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أريك الله ) وهي جارية في الأوصياء(1) . ولعل تخصيصه بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليهم‌السلام ، لعدم تيسّر هذه التوسعة لسائر الانبياء والاوصياءعليهم‌السلام ، بل كانوا مكلفين بعدم التقية في بعض الموارد وإن أصابهم الضرر.

والتفويض بهذا المعنى أيضاً ثابت حق بالأخبار المستفيضة.

الرابع : تفويض سياسة الناس وتأديبهم اليهم ، فهم اُولوا الأمر وساسة العباد ـ كما في الزيارة الجامعة ـ واُمراء الناس ، فيجب طاعتهم في كل ما يأمرون به وينهون عنه قال سبحانه :( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) النساء : 64. وقال سبحانه :( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) النساء : 59. وقال سبحانه( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) النساء : 80. إلى غير ذلك من الآيات والروايات.

قال العلاّمة المجلسي : « تفويض اُمور الخلق اليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم ، وأمر الخلق باطاعتهم فيما أحبّوا وكرهوا ، وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما لم يعلموا ، وهذا حق لقوله تعالى :( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وغير ذلك من الآيات والاخبار ، وعليه يحمل قولهمعليهم‌السلام « نحن المحلّلون حلاله والمحرّمون حرامه » أي بيانهما علينا ويجب على الناس الرجوع فيهما الينا ».

__________________

1 ـ بصائر الدرجات : 114 ، ورواه في الاختصاص عن عبدالله بن مسكان. لاحظ البحار : 25 / 334.

٤٢٨

نعم وجوب اطاعة الرسول واُولي الأمر في طول اطاعته سبحانه فالله تعالى مطاع بالذات والرسول واُولوا الأمر مطاعون بالعرض وقد أوضحنا ذلك في « مفاهيم القرآن »(1) .

وهناك تفويضان آخران يظهر من العلاّمة المجلسيرحمه‌الله .

1 ـ الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة ، او بعلمهم ، او بما يلهمهم الله من الوقايع ومخّ الحق في كل واقعة ، وهذا أظهر محامل خبر ابن سنان وعليه أيضاً دلّت الاخبار.

2 ـ التفويض في العطاء ، فان الله تعالى خلق لهم الارض وما فيها ، وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا وغيرها ، فلهم أن يعطوا ما شاءُوا ويمنعوا ما شاءُوا ، كما مرّ في خبر الثمالي ، وإذا أحطت خبراً بما ذكرنا من معاني التفويض سهل عليك فهم الاخبار الواردة فيه ، وعرفت ضعف قول من نفى التفويض مطلقاً ولمّا يحط بمعانيه.

هذه هي المعاني المعقولة المتصورة من التفويض ، وأما تفسير التفويض بما عليه المعتزلة كما عن العلاّمة المامقاني(2) فخارج عن موضوع البحث ، فان التفويض بذلك المعنى يقابل الجبر.

فقدان الضابطة الواحدة في الغلو

المراجع إلى كلمات القدماء يجد أنهم يرمون كثيراً من الرواة بالغلوّ حسب ما اعتقد به في حق الائمة ، وان لم يكن غلوّاً في الواقع ، ويعجبني أن أنقل كلام الوحيد البهبهاني في هذا المقام ، والتأمل فيه يعطي أن كثيرا من هذه النسب لم يكن موجباً لضعف الراوي عندنا ، وان كان موجباً للضعف عند الناقل.

__________________

1 ـ لاحظ الجزء الأول : 530 ـ 532.

2 ـ مقباس الهداية : 148.

٤٢٩

قالقدس‌سره : « فاعلم أن الظاهر أن كثيراً من القدماء لا سيما القميين منهم ، والغضائري ، كانوا يعتقدون للائمةعليهم‌السلام منزلة خاصة من الرفعة والجلالة ، ومرتبة معينة من العصمة والكمال ، بحسب اجتهادهم ورأيهم وما كانوا يجوزون التعدي عنها ، يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً حسب معتقدهم ، حتى إنهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً ، بل ربما جعلوا مطلق التفويض اليهم ، او التفويض الذي اختلف فيه ، او المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم ، او الاغراق في شأنهم واجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص ، واظهار كثير قدرة لهم ، وذكر علمهم بمكنونات السماء والارض ، ( جعلوا كل ذلك ) ارتفاعاً مورثاً للتهمة به ، لا سيَّما بجهة أن الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلِّسين.

وبالجملة ، الظاهر أن القدماء كانوا مختلفين في المسائل الاصولية أيضاً ، فربّما كان شيء عند بعضهم فاسداً ، او كفراً ، او غلّواً ، او تفويضاً ، او جبراً ، او تشبيهاً ، او غير ذلك ، وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده او لا هذا ولا ذاك.

وربما كان منشأ جرحهم بالامور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم ـ كما أشرنا آنفاً ـ او ادّعاء أرباب المذاهب كونهم منهم ، او روايتهم عنه ، وربما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه ، إلى غير ذلك ، فعلى هذا ربّما يحصل التأمل في جرحهم بأمثال الاُمور المذكورة.

ومما ينبه بذلك على ما ذكرنا ملاحظة ما سيذكر في تراجم كثيرة مثل ترجمة إبراهيم بن هاشم وأحمد بن محمد بن نوح ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، ومحمد بن جعفر بن عوف ، وهشام بن الحكم ، والحسين بن شاذويه ، والحسين بن يزيد ، وسهل بن زياد ، وداود بن كثير ، ومحمد بن اورمة ، ونصر بن الصباح ، وإبراهيم بن عمر ، وداود بن القاسم ، ومحمد بن عيسى بن عبيد ، ومحمد بن سنان ، ومحمد بن علي الصيرفي ، ومفضل بن عمر ،

٤٣٠

وصالح بن عقبة ، ومعلى بن خنيس ، وجعفر بن محمد بن مالك ، واسحاق بن محمد البصري ، واسحاق بن الحسن ، وجعفر بن عيسى ، ويونس بن عبد الرحمن ، وعبد الكريم بن عمر ، وغير ذلك.

ثم اعلم أن ابن عيسى والغضائري ربما ينسبان الراوي إلى الكذب ووضع الحديث أيضاً ، بعد ما نسباه إلى الغلوّ ، وكأنه لروايته ما يدل عليه ، ولا يخفى ما فيه وربما كان غيرهما أيضاً كذلك فتأمل »(1) .

فيجب على العالم الباحث ، التحقيق في كثير من النسب المرميّ بها الاجلة ، لما عرفت من انه لم يكن في تلك الازمنة ضابطة واحدة ليتميز الغالي عن غيره.

قال العلاّمة المامقاني : « لا بدَّ من التأمل في جرحهم بأمثال هذه الاُمور ومن لحظ مواضع قدحهم في كثير من المشاهير كيونس بن عبد الرحمن ، ومحمد بن سنان ، والمفضل بن عمر وأمثالهم ، عرف الوجه في ذلك ، وكفاك شاهداً اخراج أحمد بن محمد بن عيسى ، أحمد بن محمد بن خالد البرقي من قم ، بل عن المجلسي الأول أنه أخرج جماعة من قم ، بل عن المحقق الشيخ محمد ابن صاحب المعالم ، أن أهل قم كانوا يخرجون الراوي بمجرد توهّم الريب فيه.

فاذا كانت هذه حالتهم وذا ديدنهم فكيف يعوَّل على جرحهم وقدحهم بمجرده ، بل لا بد من التروي والبحث عن سببه والحمل على الصحة مهما أمكن ، كيف لا ، ولو كان الاعتقاد بما ليس بضروري البطلان عن اجتهاد ، موجباً للقدح في الرجل ، للزم القدح في كثير من علمائنا المتقدمين ، لأن كلا منهم نسب اليه القول بما ظاهره مستنكر فاسد »(2) .

__________________

1 ـ الفوائد الرجالية : 38 ـ 39 المطبوعة بآخر رجال الخاقاني.

2 ـ مقباس الهداية : 49 للمامقاني.

٤٣١

وممّا يؤيد ذلك ما ذكره الوحيد البهبهان في ترجمة أحمد بن محمد بن نوح السيرافي قال : « إنه حكى في الخلاصة أن الشيخ كان يذهب إلى مذهب الوعيدية ( وهم الذين يكفّرون صاحب الكبيرة ويقولون بتخليده في النار ) ، وهو وشيخه المفيد إلى انه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد كما هو مذهب الجبائي ، والسيد المرتضى إلى مذهب البهشمية من ان إرادته عرض لا في محل ، والشيخ الجليل إبراهيم بن نوبخت إلى جواز اللّذة العقلية عليه سبحانه ، وأن ماهيته معلومة كوجوده وأن ماهيته الموجود ، والمخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة ، والصدوق وشيخه ابن الوليد والطبرسي إلى جواز السهو على النبي ، ومحمد بن عبدالله الاسدي إلى الجبر والتشبيه ، وغير ذلك ممّا يطول تعداده ، والحكم بعدم عدالة هؤلاء لا يلتزمه أحد يؤمن بالله ، والذي ظهر لي من كلمات أصحابنا المتقدمين ، وسيرة أساطين المحدثين ، أن المخالفة في غير الاُصول الخمسة لا يوجب الفسق ، إلا أن يستلزم انكار ضروري الدين كالتجسيم بالحقيقة لا بالتسمية ، وكذا القول بالرؤية بالانطباع او الانعكاس ، وأما القول بها لا معهما فلا ، لانه لا يبعد حملها على ارادة اليقين التام ، والانكشاف العلمي ، وأما تجويز السهو عليه وادراك اللذة العقلية عليه تعالى مع تفسيرها بارادة الكمال من حيث انه كمال فلا يوجب فسقاً.

ثم قال : ونسب ابن طاووس ونصير الدين المحقق الطوسي وابن فهد والشهيد الثاني وشيخنا البهائي وجدّي العلاّمة وغيرهم من الاجلة إلى التصوف ، وغير خفي أن ضرر التصوف إنما هو فساد الاعتقاد من القول بالحلول او الوحدة في الوجود او الاتحاد او فساد الاعمال المخالفة للشرع التي يرتكبها كثير من المتصوفة في مقام الرياضة او العبادة ، وغير خفي على المطلعين على أحوال هؤلاء الاجلة من كتبهم وغيرهم انهم منزهون من كلتا المفسدتين قطعاً ، ونسب جدي العالم الرباني والمقدس الصمداني مولانا محمد صالح المازندراني وغيره من الاجلة إلى القول باشتراك اللفظ ، وفيه أيضاً ما أشرنا اليه ونسب المحمدون الثلاثة والطبرسي إلى القول بتجويز السهو على

٤٣٢

النبي ، ونسب ابن الوليد والصدوق أيضاً منكر السهو إلى الغلوّ ، وبالجملة اكثر الاجلة ليسوا بخالصين عن امثال ما اشرنا اليه ، ومن هذا يظهر التأمل في ثبوت الغلوّ وفساد المذهب بمجرد رمي علماء الرجال من دون ظهور الحال »(1) .

ونحن بعد ما قرأنا ذلك انتقلنا إلى ما ذكره العلاّمة الزمخشري في حق نفسه حيث يقول :

تعجبت من هذا الزمان وأهله

فما أحد من اُلسن الناس يسلم(2)

والذي تبيَّن لنا من مراجعة هذه الكلم هو أن اكثر علماء الرجال ، او من كان ينقل عنه علماء الرجال لم يكن عندهم ضابطة خاصة لتضعيف الراوي من حيث العقيدة ، بل كلّما لم تنطبق عقيدة الراوي مع عقيدته رماه بالغلوّ والضعف في العقيدة ، وربما يكون نفس الرامي مخطئاً في اعتقاده بحيث لو وقفنا على عقيدته لحكمنا بخطئه ، أو وقف في كتاب الراوي على أخبار نقلها هو من غير اعتقاد بمضمونها فزعم الرامي أن المؤلف معتقد به ، إلى غير ذلك مما يورث سوء الظن ، مثل ما إذا ادّعى بعض أهل المذاهب الفاسدة أن الراوي منهم وليس هو منهم.

وجملة القول في ذلك ما ذكره المحقّق المامقاني حيث قال : « إن الرمي بما يتضمن عيباً ، فضلا عن فساد العقيدة مما لا ينبغي الأخذ به بمجرده إذ لعل الرامي قد اشتبه في اجتهاده ، أو عول على من يراه أهلاً في ذلك وكان مخطئاً في اعتقاده ، او وجد في كتابه أخباراً تدل على ذلك وهو بريء منه ولا يقول به ، أو ادعى بعض أهل تلك المذاهب الفاسدة أنه منهم وهو كاذب ، أو روى أخباراً ربما توهم من كان قاصراً أو ناقصاً في الادراك والعلم أن ذلك ارتفاع وغلوّ ، وليس كذلك ، او كان جملة من الاخبار يرويها ويحدث بها ويعترف

__________________

1 ـ تعليقة المحقق البهبهاني.

2 ـ الكشاف : 3 / 376 ، طبعة مصر.

٤٣٣

بمضامينها ويصدق بها من غير تحاش بها واتّقاء من غيره من أهل زمانه ، بل يتجاهر بما لا تتحمّلها أغلب العقول فلذا رمى »(1) .

فتلخص أن تضعيف الراوي من جانب العقيدة لا يتمّ إلا بثبوت أمرين :

الأول : أن يثبت أن النظرية مما توجب الفسق.

الثاني : أن يثبت أن الراوي كان معتقداً بها.

وأنى لنا باثبات الأمرين.

أما الأول ، فلوجود الخلاف في كثير من المسائل العقيدية حتى مثل سهو النبي في جانب التفريط او نسبة التفويض في بعض معانيها في جانب الافراط ، فان بعض هذه المسائل وان صارت من عقائد الشيعة الضرورية بحيث يعرفها العالي والداني ، غير أنها لم تكن بهذه المثابة في العصور الغابرة.

وأما الثاني ، فان إثباته في غاية الاشكال ، خصوصاً بالنظر إلى بعض الاعمال التي كان يقوم بها بعض الرواة في حق بعض ، من الاخراج والتشديد بمجرد النقل عن الضعفاء وان كان ثقة في نفسه ، او لبعض الوجوه المحتملة التي ذكرها العلاّمة المامقاني ، وما لم يثبت الامران لا يعتني بهذه التضعيفات الراجعة إلى جانب العقيدة.

تضعيف الراوي من حيث العمل

قد عرفت في صدر البحث أن تضعيف الراوي يرجع إلى أحد الأمرين : إما تضعيف في العقيدة او تضعيف في جانب العمل ، وقد وقفت على التضعيف من الجانب الأول وحان الوقت أن نبحث في الضعف من الجانب الثاني.

فنقول : إن تضعيف الراوي من جانب العمل على قسمين : تارة يرجع

__________________

1 ـ مقباس الهداية : 150.

٤٣٤

إلى عمله غير المرتبط بنقله وحديثه ، كما إذا ارتكب بعض الكبائر وأصرَّ بالصغائر ولم يكن مرتبطاً بالحديث ، واُخرى يكون مربوطاً بالحديث ويعرف ذلك بملاحظة الكلمات الواردة في حقه. منها قولهم : مضطرب الحديث ومختلط الحديث ، وليس بنقيّ الحديث ، يعرف حديثه وينكر ، غمز عليه في حديثه ، او في بعض حديثه ، وليس حديثه بذاك النقي ، وهل هذه الألفاظ قادحة في العدالة او لا ، قال المحقّق البهبهاني : إن هذه الالفاظ وأمثالها ليست بظاهرة في القدح في العدالة لورود هذه الالفاظ في حق أحمد بن محمد بن خالد وأحمد بن عمر(1) .

تمَّ الكلام حول فرق الشيعة التي ربما يوجب الانتماء إلى بعضها تضعيف الراوي وعدم الاعتماد على نقله. بقيت هناك فوائد رجالية لا تجتمع تحت عنوان واحد ، نبحث عنها في الخاتمة ـ إن شاء الله ـ.

__________________

1 ـ الفوائد الرجالية : 43 ، الفائدة الثانية.

٤٣٥
٤٣٦

خاتمة في فوائد رجالية

٤٣٧
٤٣٨

ان هناك فوائد رجالية متفرقة لا تدخل تحت ضابطة واحدة وقد ذكرها الرجاليون في كتبهم ونحن نكتفي بما هو الاهمّ من تلك الفوائد ، التي لا غنى للمستنبط عن الاطلاع عليها.

ولأجل تسهيل الأمر نأتي بكل واحدة منها تحت فائدة خاصة ، عسى أن ينتفع بها القارئ الكريم ، بفضله ومنه سبحانه.

الفائدة الأولى

روى أصحابنا في كتب الاخبار عن رجال يذكرون تارة كناهم أو ألقابهم ، واخرى ما اشتهروا به ، وثالثة اسماءهم غير المعروفة عند الاكثر. فيعسر تحصيل اسمائهم ومعرفة حالهم. لأن الغالب في كتب الفهرست والرجال سرد الرواة بأسمائهم المشهورة ، وعدم الاعتناء بما وقع في اسناد الروايات ، كما هو الحال في رجال النجاشي مثلا. ولا يخفى أن كل من له كنية او لقب ، لا يصحّ التعبير عنه بكنيته او لقبه إلا إذا كان مشتهراً بواحد منهما بحيث كان عنوانه في الكنى صحيحاً كأبي جميلة وأبي المغرا وغيرهم. وقد جمع العلاّمة في خاتمة الخلاصة(1) وابن داود في خاتمة القسم الأول من الرجال(2) أكثر

__________________

1 ـ الخلاصة : الفائدة الأولى صفحة 269 ـ 271.

2 ـ الرجال لابن داود : الفصل 5 ، الصفحة 212 ـ 214.

٤٣٩

المشهورين بالكنى ، فذكر اسماءهم ليعلم المراد بهم إذا وردوا في الاخبار(1) ونحن نأتي بالاهم منهم مع ذكر أشخاص اُخر لم يذكروا في الكتابين مرتبين على حروف التهجي ، مبتدئين بالكنى فالالقاب.

1 ـ أبو أحمد الازدي هو محمد بن أبي عمير.

2 ـ أبو أيوب الانصاري ، اسمه خالد بن زيد.

3 ـ ابو أيوب الخراز ( بالراء المهملة قبل الالف والمعجمة بعدها ) هو إبراهيم بن عيسى. وقيل عثمان(2) .

4 ـ أبو بكر الحضرمي ، اسمه عبدالله بن محمد. قال العلاّمة : « أخذت ذلك من كتاب من لا يحضره الفقيه ».

5 ـ أبو البلاد ، اسمه يحيى بن سليم.

6 ـ أبو جعفر ، روى الشيخ وغيره في كثير من الاخبار عن « سعد بن عبدالله ، عن أبي جعفر ». والمراد بأبي جعفر هنا هو أحمد بن محمد بن عيسى(3) .

7 ـ ابو جعفر الاحول ، هو محمد بن النعمان يلقب بـ « مؤمن الطاق ».

8 ـ أبو جعفر الزيّات ، اسمه محمد بن الحسين بن أبي الخطاب الهمداني.

__________________

1 ـ والجدير بالذكر ان هذا الباب غير باب الكنى الذي يعنون فيه الرجل بالكنية ويذكر حاله كما ذكر في قاموس الرجال : 11 / 171 ـ 172 ، واضاف ان المتأخرين خلطوا بين الامرين ولم يفرقوا بين البابين.

2 ـ هذا هو المذكور في رجال النجاشي. لكن ابن داود ذكره بعنوان إبراهيم بن زياد نقلا عن الشيخ والرجال : 31 ، الرقم 19 من القسم الأول ).

3 ـ الخلاصة : 271 ، الفائدة الثانية. الرجال لابن داود : 307 ـ منتقى الجمان : 1 / 37 ، ذيل الفائدة السادسة.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608