الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261083 / تحميل: 6477
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وإذا كان معاوية لم يستطيع أن يجرأ على قتل أبي ذر أو التآمر عليه ـ خوفا من إنكار عامّة الناس ـ فهل يعدّ ذلك احتراما لأبي ذر من قبل معاوية؟!

ومن عجائب هذه القصّة ـ أيضا ـ أن المدافعين عن الخليفة الثّالث يقولون : إن تبعيد أبي ذر كان بحكم قانون [تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة؟] لأنّه وإن كان لوجود أبي ذر في المدينة مصلحة كبيرة ، وكان الناس يستفيدون من علمه ، إلّا أنّ عثمان كان يرى أن بقاءه في المدينة يجر المفسدة ـ لطريقة تفكيره ـ ويحدث انعطافا شديدا لا يمكن تحمله ، فلأجل ذلك أغضى عثمان عن المصلحة في وجوده وأخرجه الى الرّبذة دفعا للمفسدة ولما كان كل من أبي ذر وعثمان مجتهدا ، فلا يمكن توجيه النقد أو الإشكال أو أي شيء آخر إليه.(١)

ونحن بدورنا نتساءل : آية مفسدة كانت تترتب على وجود أبي ذر في المدينة؟!

ترى هل في إعادة الناس الى سنة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفسدة؟!

ولم لا يشكل أبو ذر رضى الله عنه على الخليفة الأوّل ولا الثّاني اللذين لم يفعلا ما فعله عثمان في أموال المسلمين «وبيت المال»؟!

وهل في إعادة الناس الى المناهج المالية التي كانت في صدر الإسلام مفسدة؟!

وهل في نفي أبي ذر وقطع لسان الحق مصلحة؟!

ألم تؤد أعمال عثمان واستمراره بإنفاق بيت المال الى أن أصبح ضحية لكل ذلك؟! ألم يكن ذلك مفسدة وتركه مصلحة؟!

ولكن ما عسى أن نفعل ، فإذا دخل التعصب من باب فرّ المنطق من بابآخر!! على كل حال ، فإنّ سيرة هذا الصحابي الجليل لا تخفى على أي محقق

__________________

(١) راجع المنار ، ج ١٠ ، ص ٤٠٧.

٤١

منصف ، ولا مجال لتبرئة الخليفة الثّالث ممّا نال من أبي ذر من الأذى أبدا ، والمنطق الحق يدين أعمال عثمان.

جزاء من يكنز!

في الآية التّالية إشارة الى واحد ممّا يحيق بمثل هؤلاء ممّن يكنز المال في العالم الآخر ، إذ تقول الآية :( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) .

ويخاطبهم ملائكة العذاب وهم في هذا الحال :( هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) .

وهذه الآية توكّد مرّة أخرى هذه الحقيقة ، وهي أنّ أعمال الإنسان لا تمضي سدى ، بل تبقى وتتجسّد له يوم القيامة ، وتكون مدعاة سروره أو مدعاة شقائه.

وهناك كلام بين المفسّرين في سبب ذكر الجباه والظهور والجنوب وحدها من بين سائر أعضاء الجسم.

غير أنّه روي عن أبي ذرّ رضى الله عنه أنّه كان يقول : «حتى يتردد الحرّ في أجوافهم»

أي أن الحرارة المحرقة التي تمس هذه الأعضاء الثلاثة تنفذ الى سائر الجسم وتستوعبه كلّه.

كما قيل : إنّ الوجه في ذكر هذه الأعضاء الثلاثة دون غيرها ، هو أنّ أصحاب المال حين كان يأتيهم المحروم أو الفقير ، كان ردّ فعلهم يظهر على جباههم أحيانا ، فيظهرون عدم الاعتناء بهم ، وتارة ينحرفون عنهم ، وتارة يديرون ظهورهم لهم ، فهذه الأعضاء الثلاثة تكوى في نار جهنم ، بما حمي عليه من الذهب أو الفضة وما كنزوه دون أن ينفقوه في سبيل الله.

ومن نافلة القول أن نشير الى لطيفة بلاغية ، في الآية محل البحث وهي التعبير بـ «يوم يحمى عليها» أي يحمى على الذهب والفضة ، والتعبير المطّرد أن يقال : يوم

٤٢

تحمى الفضة أو يحمى الذهب ، لا أنّه يحمى عليه ، كما يقال مثلا : يحمى الحديد في النّار.

ولعل هذا العبير يشير الى إحراق الذهب والفضة الى درجة قصوى بحيث توضع النّار عليها. إذ أن جعل الفضة والذهب على النّار لا يكفي لأن تكون محرقة «للغاية».

فالقرآن لا يقول : يوم تحمى في نار جهنم ، بل يقول : يحمى عليها ، أي توضع النّار عليها لتكون في أسفل النّار كيما تشتد حرارتها وهذا التعبير الحيّ يجسّد شدة عذاب أولي الثروة الذين يكنزونها في يوم القيامة.

* * *

٤٣

الآيتان

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧) )

التّفسير

وقف القتال «الإجباري» :

لما كانت هذه السورة تتناول أبحاثا مفصلة حول قتال المشركين ، فالآيتان ـ محل البحث ـ تشيران الى أحد مقرّرات الحرب والجهاد في الإسلام ، وهو احترام الأشهر الحرم.

فتقول الأولى :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ

٤٤

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

والتعبير بـ «كتاب الله» يمكن أن يكون إشارة الى القرآن المجيد أو سائر الكتب السماوية ، إلّا أنّه بملاحظة جملة( يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) يبدو أنّ المعنى الأكثر مناسبة هو كتاب الخلق وعالم الوجود.

وعلى كل حال ، فمنذ ذلك اليوم الذي استقرت عليه المجموعة الشمسية بنظامها الخاص حدثت السنين والأشهر ، فالسنة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس دورة كاملة والشهر دوران القمر حول الأرض دورة كاملة.

وهذا في الحقيقة تقويم طبيعي قيّم غير قابل للتغيير حيث يمنح حياة الناس جميعا نظاما طبيعيا ، وينظّم على وجه الدقة حسابهم التأريخي ، وتلك نعمة عظمى من نعم الله للبشر كما بيّنا تفصيل ذلك في ذيل الآية (١٨٩) من سورة البقرة :( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ ) .

ثمّ تضيف الآية ـ آنفة الذكر ـ معقّبة :( مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ) .

يرى بعض المفسّرين أنّ تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان من عهد «إبراهيم الخليلعليه‌السلام » ، وكان نافذ حتى في زمان الجاهلية على أنّه سنة متّبعة إلّا أنّ عرب الجاهلية كانوا يغيرون هذا الأشهر أحيانا تبعا لميولهم وأهوائهم ، إلّا أن الإسلام أقرّ حرمتها على حالها ولم يغيّرها ، وثلاثة من الأشهر متوالية وتسمى بالأشهر السرد وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم. وشهر منها منفصل عنها ، وهو رجب ويسمى بالشهر الفرد.

وينبغي التنويه على أنّ تحريم هذه الأشهر إنّما يكون نافذ المفعول إذا لم يبدأ العدو بقتال المسلمين فيها ، أمّا لو فعل فلا شك في وجوب قتاله على المسلمين لأنّ احترام الشهر الحرام لم ينتقض من قبلهم ، بل انتقض من قبل العدوّ «وقد بيّنا تفصيل ذلك ذيل الآية (١٩٤) من سورة البقرة».

ثمّ تضيف الآية مؤكّدة :( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) .

٤٥

ويستفاد من بعض الرّوايات أن تحريم القتال في هذه الأشهر الحرم ، كان مشرّعا في الديانة اليهودية والمسيحية وسائر الشرائع السماوية ، إضافة الى شريعة إبراهيم الخليلعليه‌السلام . ولعلّ التعبير ب( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة الى هذه اللّطيفة ، أي أنّ هذا التحريم كان في أوّل الأمر على شكل قانون ثابت : ثمّ تقول الآية :( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) .

إلّا أنّه لمّا كان تحريم هذه الأشهر قد يتخذ ذريعة من قبل العدو لمهاجمة المسلمين فيها، فقد عقبت الآية بالقول :( وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) فبالرغم من أنّ هؤلاء مشركين والشرك أساس التشتت والتفرقة ، إلّا أنّهم يقاتلونكم في صف واحد ، «افة» فينبغي عليكم أن تقاتلوهم كافة ، فذلك منكم أجدر لأنّكم موحّدون فلا بدّ من توحيد كلمتكم أمام عدوكم ولتكونوا كالبنيان المرصوص.

وتختتم الآية بالقول :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) .

وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ إشارة الى إحدى السنن الخاطئة في الجاهلية ، وهي سنة النسيء «تغيير الأشهر الحرم» إذ تقول الآية :( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ففي أحد الأعوام يقرّرون حليّة الشهر الحرام ويحرمون أحد الأشهر الحلال للمحافظة على العدد أربعة( يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ) !

فهؤلاء يضيعون بتصرفهم هذا فلسفة تحريم الأشهر ، ويتلاعبون بحكم الله بحسب ما تمليه عليهم أهواؤهم ، والعجيب أنّهم يرضون عن عملهم ، وفعلهم هذا كما تقول الآية :( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ) .

فهم يغيرون الأشهر الحرم ويبدلونها ، ويعدّون ذلك تدبيرا لحياتهم ومعاشهم ، أو يتصوّرون أنّ طول فترة إيقاف القتال يقلل من حماس المقاتلين فلا بدّ من إثارة الحرب

٤٦

فالله سبحانه إذا علم أن في عباده من ليس أهلا للهداية والتوفيق ، خلاه ونفسه :( وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ فلسفة الأشهر الحرم!

كان تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة أحد الطرق لإيقاف الحروب الطويلة الأمد ووسيلة للدعوة نحو الصلح والدعة ، لأنّ المحاربين إذا وضعوا أسلحتهم في هذه الأشهر الأربعة ، وأخمدت نيران الحرب ووجدت الفرصة للتفكير ، فمن غير المستبعد أن تنتهي الحرب ويحل السّلام محلّه ، لأنّ الشروع المجدد بعد إيقاف القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة ، ولا ننسى أن المقاتلين في حرب فيتنام خلال العشرين سنة من الحرب كانوا يواجهون صعوبة كبيرة لإيقاف القتال خلال أربع وعشرين ساعة لبداية العام الميلادي الجديد، إلّا أنّ الإسلام جعل لأتباعه قرارا بإيقاف القتال خلال أربعة أشهر ، وهذا الأمر بنفسه يدل على روح السّلام في الإسلام والمطالبة بالصلح.

إلّا أنّ العدو إذا أراد أن يستغلّ هذا القانون الإسلامي ، وأن ينتهك حرمة هذه الأشهر فعلى المسلمين أن يواجهوه بالمثل.

٢ ـ مفهوم النسيء وفلسفته في الجاهليّة

«النسيء» على وزن «الكثير» من مادة «نسأ» ومعناها التأخير ويمكن أن تكون هذه الكلمة اسم مصدر أو مصدرا ، وتطلق على ما يؤجل من إعطاء المال أو قبضه.

وكان عرب الجاهلية يؤخرون بعض الأشهر الحرم ، فمثلا كانوا ينتخبون شهر

٤٧

«صفر» بدل شهر محرم في عام فيحرمونه ، كما حدث لأحد زعماء قبيلة بني كنانة ، إذ خطب في اجتماع كبير نسبيّا في موسم الحج بمنى وقال : إنّني أخرت المحرم هذا العام وانتخبت شهر صفر مكانه.

وقد روي عن ابن عباس : إنّ أوّل من سنّ هذه السنّة هو عمرو بن لحي ، وقال بعضهم : بل هو قلمس «من بني كنانة».

وفلسفة هذا العمل «التأخير والنسيء» في عقيدتهم أن توالي ثلاثة أشهر حرم تباعا كذي القعدة وذي الحجة والمحرم يسبب إضعاف معنويات المحاربين ، لأنّ عرب الجاهلية كانوا يتوقون الى الإغارة وسفك الدماء والحرب ، وأساسا فإنّ الحرب والإغارة وما شاكلهما كان يمثل جزءا من حياتهم ، وكان من الصعب عليهم أن يتحملوا ثلاثة أشهر حرم (يتوقف فيها القتال) لذا فقد كانوا يسعون لفصل شهر المحرم عن هذه الأشهر (أو يؤخروه)!

كما يرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أنّ ذا الحجة قد يقع في الصيف أحيانا ، ممّا يسبب عليهم ، حرجا في موضوع الحج ، ونعرف أن الحج لم يكن مسألة عبادية عند العرب فحسب ، بل كان موسما كبيرا منذ زمن إبراهيم الخليلعليه‌السلام يجتمع فيه خلق كبير ، وتقام فيه الأسواق التجارية والاقتصادية والمحافل الشعرية والخطابية ، ويفيدون منها فوائد عامّة ، لذلك كانوا يبدلون شهر ذي الحجة حسب ميولهم ويجعلون مكانه شهرا آخر طيب الأجواء لطيف الهواء.

وربّما كانت كلا الغايتين صحيحتين.

وعلى كل حال ، كان هذا العمل باعثا على إشعال نار الحرب أكثر فأكثر ، وأن تسحق الغاية من الأشهر الحرم ، وأن يتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء المنافع المادية.

وقد عدّ القرآن هذا العمل زيادة في الكفر ، لأنّهم إضافة إلى شركهم وكفرهم الاعتقادي فإنّهم بسحقهم هذا الدستور كانوا يرتكبون كفرا عمليا ، ولا سيما أنّهم

٤٨

كانوا يرتكبون مخالفتين في آن واحد إذ كانوا يحرّمون ما أحل الله ويحلّون ما حرّم الله.

٣ ـ وحدة الكلمة مقابل العدو

إنّ القرآن يعلمنا في الآيتين آنفتي الذكر أن نقف صفا واحدا بوجه العدو عند الحرب ، ويستفاد من هذا النص القرآني أنّه ينبغي التنسيق حتى في المواجهات السياسية والثقافية ، والاقتصادية والعسكرية فنحن نكتسب القوة في ظل هذه الوحدة التي تنتهل من روح الإسلام وهذا الأمر قد جعل في طي النسيان وكان مدعاة الى انحطاط المسلمين وتأخرهم.

٤ ـ كيف يزيّن للناس سوء أعمالهم؟!

إنّ فطرة الإنسان إذا كانت نقيّة تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة ، إلّا أنّه حين يذنب الإنسان ويخطو في طريق الآثام فإنّه يفقد هذا الإحساس «بتمييز الصالح من الطالح» تدريجا.

ومتى ما واصل الإقدام على السيئات ، تبدو له سيئاته وكأنّها أمر حسن وتتزين له ، وهذ ما أشارت إليه آيات القرآن ـ في هذا المورد ـ وفي موارد أخرى.

وقد ينسب تزيين الأعمال السيئة للشيطان ، كما في الآية (٦٣) من سورة النحل( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) وقد يسند الفعل الى ما لم يسمّ فاعله ويبنى للمجهول كما في الآي محل بحثنا ، وقد يكون الفاعل وسوسة الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء. وقد ينسب الى الشركاء أي الأصنام ، كما في الآية (١٣٧) من سورة الأنعام ، وقد ينسب تزيين الأعمال السيئة الى الله ، كما في الآية (٤) من سورة النمل( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ ) .

وقد قلنا مرارا : إنّ نسبة مثل هذه الأمور الى الله مع أنّها تخصّ عمل الإنسان

٤٩

نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله ، فهو مسبب الأسباب. وقلنا بأن مثل هذه النسبة لا تنافي مسألة الإختيار وحرية إرادة الإنسان.

* * *

٥٠

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) )

سبب النّزول

جاء عن ابن عباس وآخرين أنّ الآيتين ـ محل البحث ـ نزلتا في معركة تبوك حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائدا من الطائف الى المدينة ، وهو يهيئ الناس ويعبؤهم لمواجهة الروم.

وقد ورد في الرّوايات الإسلاميّة أنّ النّبي لم يكن يبيّن أهدافه وإقدامه على المعارك للمسلمين قبل المعركة لئلا تقع الأسرار العسكرية بيد أعداء الإسلام ، أنّه في معركة تبوك ، لما كانت المسألة لها شكل آخر ، فقد بيّن كل شيء للمسلمين بصراحة ، وأنّهم سيواجهون الروم ، لأنّ مواجهة امبراطورية الروم لم تكن مواجهة بسيطة كمواجهة مشركي مكّة أو يهود خيبر ، وينبغي على المسلمين أن يكونوا في

٥١

منتهى الاستعداد وبناء الشخصية أضف الى كل ذلك أنّ المسافة بين المدينة وأرض الروم كانت بعيدة غاية البعد ، وكان الوقت صيفا قائظا ، وهو أوان اقتطاف الثمار وحصد الحبوب والغلات.

هذه الأمور اجتمعت بعضها الى بعض فصعب على المسلمين الخروج للقتال.

حتى أنّ بعضهم تردد في استجابته لدعوة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فالآيتان ـ محل البحث ـ نزلتا في هذا الظرف ، وأنذرتا المسلمين بلهجة صارمة لمواجهة هذه المعركة الحاسمة.(١)

* * *

التّفسير

التّحرك نحو سوح الجهاد مرّة أخرى

كما أشرنا آنفا في شأن نزول الآتين ، فإنّهما نزلتا في غزوة «تبوك».

وتبوك منطقة بين المدينة والشام ، وتعدّ الآن من حدود الحجاز ، وكانت آنئذ على مقربة من أرض الروم الشرقية المتسلطة على الشامات.(٢)

وقد حدثت هذه الواقعة في السنة التاسعة للهجرة ، أي بعد سنة من فتح مكّة تقريبا.

وبما أن المواجهة في هذا الميدان كانت مواجهة لإحدى الدول الكبرى في ذلك العصر، لا مواجهة لإحدى القبائل العربية ، فقد كان جماعة من المسلمين قلقين مشفقين من المساهمة والحضور في هذه المواجهة ، ولذلك فقد كانت الأرضية مهيأة لوساوس المنافقين وبذر السموم ، فلم يألوا جهدا في إضعاف

__________________

(١) ذكر شأن النّزول هذا جماعة من المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في تفسيره الكبير ، والآلوسي في روح المعاني.

(٢) الفاصلة بين تبوك والمدينة ٦١٠ كم والفاصلة بينها وبين الشام ٦٩٢ كم.

٥٢

المعنويات وإحباط المؤمنين أبدا. فقد كان الموسم موسم اقتطاف الثمار وجمع المحاصيل الزراعية ، وكان هذا الموسم للمزارعين يعدّ فصلا مصيريا ، إذ فيه رفاه سنتهم هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، فإنّ بعد المسافة وحرارة الجوّ ـ كما أشرنا آنفا ـ كلّ ذلك كان من العوامل المثبطة للمسلمين في حركتهم نحو مواجهة الأعداء.

فنزل الوحي ليشدّ من أزر الناس ، والآيات تترى الواحدة بعد الأخرى لإزالة الموانع والأسباب المثبطة.

ففي الآية الأولى ـ من الآيتين محل البحث ـ يدعو القرآن المسلمين الى الجهاد بلسان الترغيب تارة وبالعتاب تارة أخرى وبالتهديد ثالثة فهو يدعوهم ويهيؤهم الى الجهاد ، ويدخل إليهم من كل باب.

إذ تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ) .

«اثّاقلتم» فعل مشتق من الثقل ، ومعناه واضح إذ هو خلاف «الخفيف» وجملة «اثاقلتم» كناية عن الرغبة في البقاء في الوطن وعدم التحرك نحو سوح الجهاد ، أو الرغبة في عالم المادة واللصوق بزخارفها والانشداد نحو الدنيا ، وعلى كل حال فالآية تخاطب من كان كذلك من المسلمين ـ ضعاف الإيمان ـ لا جميعهم ، ولا المسلمين الصادقين وعاشقي الجهاد في سبيل الله.

ثمّ تقول الآية مخاطبة إيّاهم بلهجة الملامة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

فكيف يتسنى للإنسان العاقل أن يساوم مساومة الخسران ، وكيف يعوّض متاعا غاليا لا يزول بمتاع زائل لا يعد شيئا؟!

ثمّ تتجاوز الآية مرحلة الملامة والعتاب الى لهجة أشدّ وأسلوب تهديديّ جديد ، فتقول :( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

٥٣

فإذا كنتم تتصورون أنّكم إذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب الى سوح الجهاد ، فإنّ عجلة الإسلام ستتوقف وينطفئ نور الإسلام ، فأنتم في غاية الخطأ والله غني عنكم( وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) قوما أفضل منكم من كل جهة ، لا من حيث الشخصيّة فحسب ، بل من حيث الإيمان والإرادة والشهامة والاستجابة والطاعة( وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً ) .

وهذه حقيقة وليست ضربا من الخيال أو أمنية بعيدة المدى ، فالله عزيز حكيم( وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ في الآيتين آنفتي الذكر تأكيد على الجهاد من سبعة وجوه :

الأوّل : أنّها تخاطب المؤمنين( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) .

الثّاني : أنّها تأمر بالتحرك نحو ميدان الجهاد( انْفِرُوا ) .

الثّالث : أنّها عبرت عن الجهاد ب( فِي سَبِيلِ اللهِ ) .

الرّابع : الاستفهام الإنكاري في تبديل الدنيا بالآخرة( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) ؟

الخامس : التهديد بالعذاب الأليم.

السّادس : الاستبدال بالمخاطبين( قَوْماً ) غيرهم.

السّابع : أنّ الله على كل شيء قدير ولا يضره شيئا وإنّما يعود الضرر على المتخلفين.

٢ ـ يستفاد من الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ أن تعلق قلوب المجاهدين بالحياة الدنيا يضعف همتهم في أمر الجهاد ، فالمجاهدون ينبغي أن يكونوا معرضين عن الدنيا ، زهّادا غير مكترثين بزخارفها وزبارجها.

٥٤

ونقرأ دعاء للإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام لأهل الثغور وحماة الحدود ، إذ تقول : «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة وامح عن قلوبهم خطرات المال الفتون».

ولو عرفنا قيمة الدنيا وحالها شأن الآخرة ودوامها معرفة حقّة ، لوجدنا أنّ الدنيا زهيدة بالمقارنة والموازنة مع الآخرة الى درجة أنّها لا تحسب شيئا ونقرأ حديثا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصدد يقول فيه : «والله ما الدنيا في الآخرة إلّا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثمّ يرفعا فينظر بم ترجع»!

٣ ـ هناك كلام بين المفسّرين في المراد من قوله تعالى :( يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) الوارد في الآي محل البحث فمن هم هؤلاء؟!

قال بعضهم : هم الفرس وقال آخرون : بل هم أهل اليمن. ولكلّ منهم أثره في تقدم الإسلام. وقال آخرون : إنّ المراد بالنص السابق هم أولئك القوم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتقبلوا الإسلام ، بعد أن نزلت الآيتان آنفتا الذكر.

* * *

٥٥

الآية

( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) )

التّفسير

المدد الإلهي للرّسول في أشد اللحظات :

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن موضوع الجهاد ومواجهة العدوّ ، وكما أشرنا فقد جاء الكلام عن الجهاد مؤكّدا بعدّة طرق ، من ضمنها أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّكم إذا تقاعستم من الجهاد ونصرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فستذهب دعوته والإسلام أدراج الرياح.

فالآية محل البحث تعقّب على ما سبق لتقول :( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ ) .(١)

__________________

(١) في هذه الجملة حذف من الناحية الأدبية ، وكانت الجملة في الأصل : إن لا تنصروه ينصره الله. لأنّ الفعل الماضي

٥٦

وكان ذلك عند ما تآمر مشركو مكّة على اغتيال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقتله ، وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية (٣٠) من سورة الأنفال بالتفصيل ، حيث قرّروا بعد مداولات كثيرة أن يختاروا من كل قبيلة من قبائل العرب رجلا مسلّحا ويحاصروا دار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا ، وأن يهجموا عليه الغداة ويحملوا عليه حملة رجل واحد فيقطعوه بسيوفهم.

ولكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اطّلع ـ بأمر الله ـ على هذه المكيدة ، فتهيأ للخروج من (مكّة) والهجرة إلى (المدينة) إلّا أنّه توجه نحو (غار ثور) الذي يقع جنوب مكّة وفي الجهة المخالفة لجادة المدينة واختبأ فيه ، وكان معه (أبو بكر) في هجرته هذه.

وقد سعى الأعداء سعيا حثيثا للعثور على النّبي ، إلّا أنّهم عادوا آيسين ، وبعد ثلاثة أيّام من اختباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصاحبه في الغار واطمئنانه من رجوع العدوّ توجه ليلا نحو المدينة (في غير الطريق المطرّق) وبعد بضعة أيّام وصلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة سالما ، وبدأت مرحلة جديدة من تأريخ الإسلام هناك.

فالآية آنفة الذكر تشير إلى أشدّ اللحظات حرجا في هذا السفر التاريخي ، فتقول :( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وبالطبع فإنّهم لم يريدوا إخراجه بل أرادوا قتله ، لكن لما كانت نتيجة المؤامرة خروج النّبي من مكّة فرارا منهم ، فقد نسبت الآية إخراجه إليهم.

ثمّ تقول : كان ذلك في حال هو( ثانِيَ اثْنَيْنِ ) .

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إلّا رجل واحد ، وهو أبو بكر( إِذْ هُما فِي الْغارِ ) أي غار ثور ، فاضطرب أبو بكر وحزن فأخذ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسرّي عنه ، وكما تقول الآية :( إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ) .

__________________

الذي يدل (مفهومه) على وقوعه في الماضي أيضا ، لا يمكن أن يقع جزاء للشرط إلّا أن يكون الفعل الماضي بمعنى المضارع!

٥٧

ولعل هذه الجنود الغيبيّة هي الملائكة التي حفظت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الشاق المخيف ، أو الملائكة التي نصرته في معركتي بدر وحنين وأضرابهما.

( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا ) .

وهي إشارة إلى أنّ مؤامراتهم قد باءت بالخيبة والفشل وحبطت أعمالهم وآراؤهم ، وشعّ نور الله في كل مكان ، وكان الإنتصار في كل موطن حليف محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم لا يكون الأمر كذلك( وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ؟

فبعزته وقدرته نصر نبيّه ، وبحكمته أرشده سبل الخير والتوفيق والنجاح.

قصّة صاحب النّبي في الغار :

هناك كلام طويل بين مفسّري الشيعة وأهل السنة في شأن صحبة أبي بكر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره وهجرته ، وما جاءت من إشارات مغلقة في شأنه في الآية آنفا. فمنهم من أفرط ، ومنهم من فرّط.

فالفخر الرازي في تفسيره سعى بتعصبه الخاص أن يستنبط من هذه الآية اثنتى عشرة فضيلة! لأبي بكر ، ومن أجل تكثير عدد فضائله أخذ يفصّل ويسهّب بشكل يطول البحث فيه ممّا يتلف علينا الوقت الكثير.

وعلى العكس من الفخر الرازي هناك من يصرّ على استنباط صفات ذميمة لأبي بكر من سياق الآية.

وينبغي أن نعرف ـ أوّلا ـ هل تدل كلمة «الصاحب» على الفضيلة؟ والظاهر أنّها ليست كذلك ، لأنّ الصاحب في اللغة تدلّ على الجليس أو الملازم للمسافر بشكل مطلق ، سواء كان صالحا أم طالحا ، كما نقرأ في الآية (٣٧) من سورة الكهف عن محاورة رجلين فيما بينهما ، أحدهما مؤمن والآخر كافر( قالَ لَهُ صاحِبُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ) ؟!

كما يصرّ بعضهم على أنّ مرجع الضمير من «عليه» في قوله تعالىفَأَنْزَلَ اللهُ

٥٨

سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) يعود على أبي بكر ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن بحاجة إلى السكينة ، فنزول السكينة إذن كان على صاحبه ، أي أبي بكر.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى الجملة التي تليها( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ) ومع ملاحظة اتحاد المرجع في الضمائر ، يتّضح أن الضمير في «عليه» يعود على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، ومن الخطأ أن نتصور بأنّ السكينة إنّما هي خاصّة في مواطن الحزن والأسى ، بل ورد في القرآن ـ كثيرا ـ التعبير بنزول السكينة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك حين يواجه الشدائد والصعاب ، ومن ذلك ما جاء في الآية (٢٦) من هذه السورة أيضا في شأن معركة حنين( ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) .

كما نقرأ في الآية (٢٦) من سورة الفتح أيضا( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) مع أنّه لم يرد في الجمل والتعابير المتقدمة على هاتين الجملتين أي شيء من الحزن وما إلى ذلك ، وإنّما ورد التعبير عن مواجهة الصعاب والتواء الحوادث وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يدلّ أن نزول السكينة إنّما يكون عند الشدائد ، وممّا لا ريب فيه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يواجه اللحظات الصعبة وهو في (غار ثور)!

والأعجب من كل ما تقدم أن بعضا قال : بأنّ التعبير( وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ) يعود على أبي بكر. مع أنّ جميع المحاور في هذه الآية تدور حول نصرة الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقرآن يريد أن يكشف أنّ النّبي ليس وحده ، وإذا لم ينصره أحد من أصحابه وجماعته ، فإنّ الله سينصره. فكيف يمكن لأحد أن يترك الشخص الذي تدور حوله بحوث الآية ، ويتّجه نحو شخص ثانوي وتبعي في منظور الآية؟! وهذا يدلّ على أن التعصب بلغ حدّا بأصحابه ، بحيث منعهم حتى من الالتفات إلى معنى الآية.

* * *

٥٩

الآيتان

( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) )

التّفسير

الكسالى الطّامعون :

قلنا : إنّ معركة تبوك كانت لها حالة استثنائية ، وكانت مقترنة بمقدمات معقّدة وغامضة تماما ، ومن هنا فإن عددا من ضعاف الإيمان أو المنافقين أخذ «يتعلّل» في الاعتذار عن المساهمة في هذه المعركة. وقد وردت في الآيات المتقدمات ملامة للمؤمنين من قبل الله سبحانه لتباطؤهم في نصرة نبيّهم عند صدور الأمر بالجهاد ، وعدم الإسراع إلى ساحة الحرب وأكّدت بأنّ الأمر بالجهاد لصالحكم ، وإلّا فإنّ بإمكان الله أن يهيئ جنودا مؤمنين شجعانا مكان الكسالى الذين لاحظ لهم في الثبات والإرادة ، بل حتى مع عدمهم فهو قادر على أن يحفظ نبيّه ، كما حفظه «ليلة المبيت» ، وفي «غار ثور».

٦٠

والعجيب أنّ عددا من «خيوط العنكبوت» المنسوجة على مدخل الغار كانت سببا لانحراف فكر الأعداء الألداء ، وأن يعودوا قافلين آيسين بعد وصولهم إلى هذا الغار ، وأن يسلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كيدهم.

فحيث أنّ بإمكان الله أن يغيّر مسير التأريخ ، ببضعة خيوط من نسيج العنكبوت ، فأية حاجة بهذا أو ذاك ليبدي كلّ معاذيره!!

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه الأوامر هي لتكامل المسلمين أنفسهم ، لا لرفع الحاجة لدى الله سبحانه وتعقيبا على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعا مرّة أخرى ـ دعوة عامّة ـ نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه:( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ) .

«الخفاف» جمع الخفيف ، «الثقال» جمع الثقيل ، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإنسان. أي انفروا في أية حالة كنتم شبابا أم شيوخا ، متزوجين أم غير متزوجين ، تعولون أحدا أم لا تعولون ، أغنياء أم فقراء ، مبتلين بشيء أم غير مبتلين ، أصحاب تجارة أو زراعة أم لستم من أولئك!

فكيف ما كنتم فعليكم أن تستجيبوا لدعوة الداعي إلى الجهاد ، وأن تنصرفوا عن أيّ عمل شغلتم به ، وتنهضوا مسرعين إلى ساحات القتال ، وفي أيديكم السلاح.

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ هاتين الكلمتين تعنيان مثلا واحدا ممّا ذكرنا آنفا ، لا دليل عليه أبدا ، بل إنّ كل واحد ممّا ذكرناه مصداق جلي لمفهومها الوسيع.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) أي جهادا مطلقا عاما من جميع الجهات ، لأنّهم كانوا يواجهون عدوّا قويّا مستكبرا ، ولا يتحقق النصر إلّا بأن يجاهدوا بكل ما وسعهم من المال والأنفس.

ولئلا يتوهّم أحد أنّ هذه التضحية يريدها الله لنفسه ولا تنفع أصحابها ، فإنّ الآية تضيف قائلة :( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

٦١

أي إن كنتم تعلمون بأنّ الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم.

ولو كنتم تعلمون بأنّ أية أمّة في العالم لن تصل بدون الجهاد إلى الحرية الواقعية والعدالة.

ولو كنتم تعلمون بأنّ سبيل الوصول إلى مرضاة الله والسعادة الأبدية وأنواع النعم والمواهب الإلهية ، كل ذلك إنّما هو في هذه النهضة المقدسة العامّة والتضحية المطلقة.

ثمّ يتناول القرآن ضعاف الإيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال ، فيخاطب النّبي مبيّنا واقعهم فيقول :( لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ ) (1) ( وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ) (2)

والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية ، بل( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ) . فعدم ذهابنا إلى ساحات القتال إنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا!!( يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

فهم قادرون على الذهاب إلى ساحات القتال ، لكن حيث أن السفر ذو مشقة ، ويواجهون صعوبة وحرجا ، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل.

ولم يكن هذا الأمر منحصرا بغزوة تبوك وعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الإنتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى ، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل ، لينالوا ثمرات جهود الآخرين في انتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد!

غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين!! كما يزعمون ، حين يواجهون

__________________

(1) العرض ما يعرض ويزول عاجلا ولا دوام له ، ويطلق عادة على مواهب الدنيا المادية ، والقاصد معناه السهل. لأنّه في الأصل من قصد ، والناس يسعون في قصدهم إلى المسائل السهلة.

(2) الشقة تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب.

٦٢

الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية.

كأن يقول أحدهم : إنّي مريض ، ويقول الآخر : إنى مبتلى بطفلي ، ويقول الثّالث :

زوجي مقرب وعلى وشك الولادة ، ويقول الرّابع : يا ليتني كنت معكم لو لا ضعف في عينيّ لا أبصر بهما ، ويقول الخامس : أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على أثركم ، وهكذا

إلّا أنّ على القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر ، وإذا لم يكونوا أهلا للإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

* * *

٦٣

الآيات

( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) )

التّفسير

التعرّف على المنافقين!

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة ـ حتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهم ـ استأذنوا النّبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك ، فأذن لهم النّبي بالانصراف.

فالله سبحانه يعتّب على النّبي في الآية الأولى من الآيات محل البحث فيقول :( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) .

وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب الله نبيّه المشفوع بالعفو عنه ، أهو دليل على أن إذن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مخالفة ، أم هو من باب ترك الأولى ، أم

٦٤

لا هذا ولا ذاك؟!

وقد جنح البعض إلى الإفراط إلى درجة أنّهم أساؤوا إلى مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وساحته المقدّسة ، وزعموا أن الآيات المذكورة أنفا دليل على إمكان صدور العصيان والذنب من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يراعوا ـ على الأقل ـ الأدب الذي رعاه الله العظيم في تعبيره عن نبيّه الكريم ، إذ بدأ بالعفو ثمّ ثنى بالعتاب والمؤاخذة ، فوقعوا في ضلال عجيب.

والإنصاف أنّه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى ظاهر الآية لا يدلّ على ذلك ، لأنّ جميع القرائن تثبت أن النّبي سواء أذن لهم أم لم يأذن ، فإنّهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك ، وعلى فرض مساهمتهم فيها لم يحلّوا مشكلة من أمر المسلمين ، بل يزيدون الطين بلة ، كما سنقرأ في الآيات التالية قوله تعالى :( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ) .

فبناء على ذلك فإنّ المسلمين لم يفقدوا أيّة مصلحة بإذن النّبي لأولئك بالانصراف ، غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون ، غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجبا لارتكاب ذنب أو عصيان.

وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركا للأولى فحسب ، بمعنى أنّ إذن النّبي لهم في تلك الظروف ، وبما أظهره أولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم ، وإن لم يكن أمرا سيئا ، إلّا أن ترك الإذن كان أفضل منه ، لتعرف هذه الجماعة بسرعة.

كما يحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفا إنّما هو على سبيل الكناية ، ولم يكن في الأمر حتى «ترك الأولى» بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام.

ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالما يريد أن يلطم وجه ابنك ، إلّا أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون

٦٥

راضيا عن سلوكه هذا ، بل وتشعر بالسرور الباطني ، إلّا أنّك ولإثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك : لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟ وهدفك من هذا البيان إنّما هو إثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه ، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قبلك؟

وهناك شبهة أخرى في تفسير الآية ، وهي أنّه : ألم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف المنافقين حتى يقول له الله سبحانه :( لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) ؟

والجواب على هذا السؤال ، هو :

أوّلا : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري ، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات ، بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و (المعتادة).

ثانيا : لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب ، بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعا حالهم ، وإن كان الخطاب موجّها للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يتناول القرآن أحد علامات المؤمنين والمنافقين ، فيقول :( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) .

بل ينهضون مسرعين دون سأم أو ملل عند صدور الأمر بالجهاد ويدعوهم الإيمان بالله واليوم الآخر ومسئولياتهم وإيمانهم بمحكمة القيامة ، كلّ ذلك يدعوهم إلى هذا الطريق ويوصد بوجوههم الأعذار والحجج الواهية( وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) .

ثمّ يضيف القرآن :( إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

ويعقّب مؤكّدا عدم إيمانهم بالقول :( وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) .

وبالرّغم من أنّ الصفات الواردة في الآيات آنفا جاءت بصيغة الفعل المضارع ،

٦٦

إلّا أنّ المراد منها بيان صفات المؤمنين وصفات المنافقين وأحوالهم ، ولا فرق بين الماضي والحال والاستقبال في ذلك.

وعلى كل حال فإن المؤمنين ـ بسبب إيمانهم ـ لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح ، فمقصدهم معلوم وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبدا.

أمّا المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم ، فهم مترددون حائرون ذاهلون ، ويبحثون دائما عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم.

وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب ، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدّعين الكاذبين بهاتين الصفتين.

فالمؤمن شجاع ذو إرادة وتصميم وخطى واثقة ، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائما.

* * *

٦٧

الآيات

( وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) )

التّفسير

عدم وجودهم أفضل :

في الآية الأولى ـ من الآيات أعلاه ـ بيان لعلامة أخرى من علائم كذبهم ، وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفا ، إذ جاء فيها( وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) فالآية محل البحث تقول :( وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ) . ولم ينتظروا الإذن لهم ،( وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ (1) وَقِيلَ اقْعُدُوا

__________________

(1) ثبطهم مشتق من التثبيط ويعني الوقوف بوجه العمل المزمع إجراؤه بوجه من الوجوه.

٦٨

مَعَ الْقاعِدِينَ ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد بـ «قيل اقعدوا» فمن هو القائل؟! أهو الله سبحانه ، أم النّبي ، أم باطنهم؟!

الظاهر أنّه أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم ، وإنّه مقتضى عقيدتهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة ، وكثيرا ما يرى أن مقتضى الحال يظهرونه في هيئة الأمر أو النهي. ويستفاد من الآية محل البحث أنّ لكلّ عمل ونيّة اقتضاء يبتلى به الإنسان شاء أم أبى ، وليس لكلّ أحد قابلية السير في سبيل الله وتحمّل الأعباء الكبرى ، بل هو توفيق من قبل الله يوليه من يجد فيه طهارة النيّة والاستعداد والإخلاص.

وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب ، بل لعله مدعاة للسرور ، لأنّهم لا ينفعونكم فحسب ، بل سيكونون بنفاقهم ومعنوياتهم المتزلزلة وانحرافهم الأخلاقي مصدرا لمشاكل أخرى جديدة.

والآية في الحقيقة تعطي درسا للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكميتهم وعددهم ، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة ، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل.

وتقول الآية :( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ) أي إلى تبوك للقتال( ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ) .

«الخبال» بمعنى الاضطراب والتردد.

والخبل على زنة «الأجل» معناه الجنون.

والخبل على زنة «الطبل» معناه فساد الأعضاء.

فبناء على ذلك فإنّ حضورهم بتلك الروحيّة الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإسلام.

وتضيف الآية قائلة :( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ) (1)

__________________

(1) أوضعوا من مادة الإيضاع ومعناه ، الإسراع في الحركة ، ومعناه هنا الإسراع في النفوذ بين صفوف المقاتلين ، والفتنة هنا بمعنى التفرقة واختلاف الكلمة.

٦٩

ثمّ تنذر المسلمين من المتأثرين بهم في صفوف المسلمين( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) .

«السمّاع» تطلق على من يسمع كثيرا دون تروّ أو تدقيق ، فيصدّق كل كلام يسمعه.

فبناء على ذلك فإنّ وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبت مثل هؤلاء الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب. كما يرد هذا الاحتمال ، وهو أنّ المراد من السمّاع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسّس بين المسلمين ويجمع الأخبار للمنافقين.

وتختتم الآية بالقول :( وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إنذار للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هؤلاء المنافقين لم يبادروا لأوّل مرّة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم ، بل ينبغي أن تتذكر ـ يا رسول الله ـ أنّ هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الأمور وهم يتربصون الفرص الآن لينالوا مناهم( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ) .

وهذه الآية تشير إلى ما جرى في معركة أحد حيث رجع عبد الله بن أبي وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق ، أو أنّها تشير إلى مؤامرات المنافقين عامّة التي كانوا يكيدونها للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو للمسلمين ، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها على صفحاته!

( وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ) وخطّطوا للإيقاع بالمسلمين ، أو لمنعهم من الجهاد بين يديك، إلّا أن كل تلك المؤامرات لم تفلح ، وإنما رقموا على الماء ورشقوا سهامهم على الحجر( حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ ) .

غير أن مشيئة العباد وإرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة الله وإرادته ، فقد شاء الله أن ينصرك وأن يبلغ رسالتك إلى أصقاع المعمورة ، ويزيل العراقيل والموانع عن

٧٠

منهاجك ، وقد فعل.

إلّا أنّ ما يهمنا هنا أن نعرف أنّ مدلول الآيات آنفة الذكر لا يختص بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزمانه ، ففي كل جيل وكل عصر جماعة من المنافقين تحاول أن تنثر سموم التفرقة في اللحظات الحسّاسة والمصيرية ، ليحبطوا روح الوحدة ويثيروا الشكوك والتردد في أفكار الناس ، غير أنّ المجتمع إذا كان واعيا فهو منتصر بأمر الله ووعده الذي وعد أولياءه ، وهو ـ سبحانه ـ الذي يذر ما يرقم المنافقون ومخططاتهم سدى ، شريطة أن يجاهد أولياؤه في سبيله مخلصين ، وأن يراقبوا بحذر أعداءهم المتوغلين بينهم.

* * *

٧١

الآية

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) )

سبب النزول

قال جماعة من المفسّرين : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعبّئ المسلمين ويهيؤهم لمعركة تبوك ويدعوهم للتحرك نحوها ، فبينا هو على مثل هذه الحال إذا برجل من رؤساء طائفة «بني سلمة» يدعى «جدّ بن قيس» وكان في صفوف المنافقين ، فجاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستأذنا أن لا يشهد المعركة ، متذرعا بأنّ فيه شبقا إلى النساء ، وإذا ما وقعت عيناه على بنات الروم فربّما سيهيم ولها بهنّ وينسحب من المعركة!! فأذن له النّبي بالانصراف.

فنزلت الآية أعلاه معنفة ذلك الشخص!

فالتفت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني سلمة وقال : من كبيركم؟ فقالوا : جدّ بن قيس ، إلّا أنّه رجل بخيل وجبان ، فقال : وأي شيء أبشع من البخل؟ ثمّ قال : إن كبيركم ذلك الشاب الوضيء الوجه بشر بن براء «وكان رجلا سخيا سمحا بشوشا».

٧٢

التّفسير

المنافقون المتذرّعون :

يكشف شأن النزول المذكور أن الإنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل المسؤولية يسعى للتذرّع بشتى الحيل ، كما تذرع المنافق جد بن قيس لعدم المشاركة في المعركة وميدان الجهاد ، بأنّه ربّما تأسره الوجوه النضرة من بنات الروم وتختطف قلبه ، فينسحب من المعركة ويقع في إشكال شرعي!!

ويذكرني قول جد بن قيس بكلام بعض الضالعين في ركاب الطاغوت ، إذ كان يقول: إذا لم نضغط على الناس فإنّ ما نتسلمه من الراتب والحقوق المالية مشكل شرعا. فمن أجل التخلص من هذا الإشكال الشرعي لا بدّ من إيذاء الناس وظلمهم!.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليردّ على مثل هذه الذرائع المفضوحة قائلا :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ) بالنساء والفتيات الروميات الجميلات.

كما ويحتمل في شأن نزول الآية أن جد بن قيس كان يتذرع ببقاء امرأته وأطفاله وأمواله بلا حام ولا كفيل بعده ليتخلّص من الجهاد.

ولكن القرآن يقول مجيبا عليه وأمثاله :( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

أي أنّ أمثال أولئك الذين تذرّعوا بحجّة الخوف من الذنب ـ هم الآن واقعون فيه فعلا ، وأن جهنم محيطة بهم ، لأنّهم تركوا ما أمرهم الله ورسوله به وراء ظهورهم وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!!

* * *

٧٣

ملاحظتان

1 ـ إن أحد طرق معرفة جماعة المنافقين في كل مجتمع ، هو التدقيق في أسلوب استدلالهم وأعذارهم التي يذكرونها ليتركوا ما عليهم من الوظائف ، فهذه الأعذار تكشف ـ بجلاء ـ ما يدور في خلدهم وباطنهم. فهم غالبا ما يتشبثون بسلسلة من الموضوعات الجزئية والمضحكة أحيانا بدلا من الاهتمام بالمواضيع المهمّة ، ويستعملون المصطلحات الشرعية لإغفال المؤمنين ويتذرّعون بالاحكام الشرعية وأوامر الله ورسوله ، في حين غارقون في دوّامة الخطايا ، جادّون في عداوتهم للرسول ودينه القويم.

2 ـ للمفسّرين أقوال مختلف في تفسير جملة( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) فقال بعضهم : هذه العبارة كناية عن إحاطة عوامل ورودهم إلى جهنم بهم ، أي أن ذنوبهم تحيط بهم!

وقال بعضهم : إنّ هذا التعبير من قبيل الحوادث الحتمية المستقبلية التي تذكر بصيغة الفعل الماضي أو الحال ، أي أن جهنم ستحيط بهم بشكل قاطع.

كما ويحتمل أن نفسر الجملة بمعناها الحقيقي ، وهو أن جهنم موجودة فعلا ، وهي عبارة عن باطن هذه الدنيا ، فالكفار قابعون في وسط جهنّم في حياتهم الدنيوية وإن لم يصدر الأمر بتأثيرها ، كما أن الجنّة موجودة في هذه الدنيا أيضا وتحيط بالجميع ، غاية ما في الأمر لما كان أهل الجنّة جديرين بها فسيكونون مرتبطين بها ؛ وأهل النّار جديرون بالنّار فهم من أهلها أيضا.

* * *

٧٤

الآيات

( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) )

التّفسير

في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إشارة إلى إحدى صفات المنافقين وعلاماتهم وبهذا تتابع البحث الذي يتناول صفات المنافقين في ذيل الآيات المتقدمة والآيات اللاحقة.

تقول الآيات أوّلا :( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ) .

سواء كانت هذه الحسنة انتصارا على العدوّ ، أو الغنائم التي تنالونها في المعارك أو أيّ تقدّم آخر.

وهذه المساءة دليل على العداوة الباطنيّة وفقدان الإيمان. فكيف يمكن لمن له

٧٥

أدنى إيمان أن يسوءه انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أي مؤمن آخر؟!

ولكنّهم على خلاف هذه الحال عند الشدّة والخطب :( وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ) .

هؤلاء المنافقون عمي القلوب ينتهزون أيّة فرصة لصالحهم ومنافعهم ، ويزعمون أن ما نالوه كان بتدبيرهم وعقلهم ، إذ لم نساهم في المعركة الفلانية ولم نقع في أيّ مأزق!! كما أبتلي به الآخرون الذين لم يكن لهم نصيب من التعقل والتدبر ، وبهذه المزاعم يعودون إلى أوكارهم وهم يكادون أن يطيروا فرحا.

ولكنك ـ يا رسول الله ـ عليك أن تردّ عليهم بجواب منطقيّ متين وذلك :

أوّلا :( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا ) أجل فلا يريد بنا إلّا الخير والصلاح :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

فهم يعشقون الله فحسب ، ومنه يطلبون المدد والعون ، ويتوكلون عليه ويلتجئون إليه عند الخطوب.

وهذا خطأ كبير أبتلي به المنافقون ، إذ يتخيّلون أنّهم بعقولهم القاصرة وفكرهم المحدود يستطيعون أن يواجهوا جميع المشكلات والحوادث ، وأن يكونوا في غنىّ عن رحمة الله ولطفه!! إنّهم لا يعلمون أن جميع وجودهم لا يعدو ورقة يابسة في مهبّ العاصفة. أو كقطرة ماء في صحراء محرقة في يوم قائظ فلو لا لطف الله ومدده فما عسى أن يفعل الإنسان الضعيف أمام الشدائد والخطوب؟!

ثانيا :( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) ؟!

فإمّا أن نبير الأعداء في ساحة الحرب ونبيدهم ونعود منتصرين ، أو نقتل فننهل ورد الشهادة العذب ، فكلاهما محبّب لنا ومصدر افتخارنا.

وهكذا يختلف حالنا عن حالكم ، فنحن نتوقع لكم مساءتين : إمّا أن تصيبكم سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإلهية سواء في الدنيا أو الآخرة ، أو يكون هلاككم على أيدينا:( وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ

٧٦

بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص شقاءكم وسوء عاقبتكم.

* * *

بحوث

1 ـ المقادير وسعي الإنسان

ممّا لا شك فيه أن مآلنا وعاقبة أمرنا ـ بأيدينا ـ ما دام الأمر يدور في دائرة سعينا وجدّنا ، والقرآن الكريم يصرّح بهذا الشأن أيضا ، كقوله تعالى :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (1) ، وكقوله تعالى :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) وفي آيات أخر. بالرغم من أنّ الجد والسعي هما من السنن الإلهيّة وبأمره تعالى أيضا.

إلّا أنّه عند خروج الأمر عن دائرة سعينا وجدّنا ، فإنّ يد القدر هي التي تتحكم بمآلنا وعاقبة أمرنا ، وما هو جار بمقتضى قانون العليّة الذي ينتهي إلى مشيئة الله وعلمه وحكمته وهو مقدّر علينا ، فهو ما سيكون ويقع حينئذ. غاية ما في الأمر أن المؤمنين بالله وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته ، يفسّرون هذه المقادير بأنّها جارية وفقا «للنظام الأحسن» وما فيه مصلحة العباد ، وكلّ يبتلى بمقادير تناسبه حسب جدارته التي اكتسبها.

فالجماعة إذا كانوا من المنافقين الجبناء والكسالى والمتفرقين فهي محكومة بالفناء حتما. إلّا أنّ الجماعة المؤمنة الواعية المتّحدة المصمّمة ، ليس لها إلّا النصر والتوفيق مآلا.

فبناء على ذلك يتّضح أنّ الآيات آنفة الذكر لا تنافي أصل الحرية [حرية الإرادة والإختيار] وليست دليلا على العاقبة الجبرية للإنسان أو أن سعي الإنسان لا أثر له.

__________________

(1) سورة النّجم ، 39.

(2) المدثر ، 38.

٧٧

2 ـ لا وجود للهزيمة في قاموس المؤمنين

نواجه في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ منطقا محكما متينا يستبطن السّر الأساس لانتصارات المسلمين الأوائل جميعا ، ولو لم يكن للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعليم ودستور إلّا ما نجده في هذه الآية لكان كافيا لانتصار أتباعه ومقتفي منهاجه ، وهو أنّه لا مفهوم للهزيمة في صفحات أرواحهم فقد أثبتت الحوادث أنّهم منتصرون على كل حال ، منتصرون إن استشهدتم! منتصرون إن قتلتم أعداءكم!

وإنّ للمؤمنين مسلكين لا ثالث لهما ، في أيّ منهما ساروا وسلكوا وصلوا إلى هدفهم وغايتهم.

أحدها هو طريق الشهادة التي تمثل أوج الفخر للمؤمنين ، وأعظم موهبة يمكن أن تتصور للإنسان أن يبيع الله نفسه ، ويشتري الحياة الأبدية الخالدة وجوار الله ، والتنعم بما لا يمكن وصفه من النعم.

والآخر هو الإنتصار على العدوّ وتدمير قواه الشيطانية ، وتطهير البيئة والمحيط الإنساني من لوث الظالمين والمنحرفين الضالين ، وهذا بنفسه فيض ولطف كبير وفخرمسلّم به.

فالجندي الذي يدخل ساحة المعركة بهذه الروحية والمعنوية لا يفكر بالفرار والإدبار أبدا ، ولا يخاف من أي أحد ولا من أي شيء ، فالخوف والاستيحاش والاضطراب والتردد ليس لها طريق إلى قلبه ووجوده. والجيش الذي يتألف من جنود بهذه الروحية لا يعرف الهزيمة إطلاقا.

ولا يحصل الإنسان على هذه المعنويات العالية إلّا عن طريق اعتماد التعليمات الاسلامية ، فلو أنّ هذه التعليمات تجلّت مرّة أخرى في نفوس المسلمين بالتربية السليمة والتعليم الصحيح لأمكن جبران كل اشكال التخلف الذي أصاب المسلمين.

أولئك الذين يطالعون ويدرسون أسباب تقدّم المسلمين الأوائل وانتصارهم ،

٧٨

وأسباب تأخرهم في الوقت الحاضر ، ويعدّون الأمر أحجية ولغزا لا ينحلّ ، من الأفضل لهم أن يأتوا ويفكروا في هذه الآية ليتّضح لهم الجواب على ما يرد في خواطرهم.

ممّا ينبغي الالتفات إليه آنفة الذكر عند ما تتحدث عن هزيمتي المنافقين واندحارهم ، تبيّن ذلك بتفصيل( وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا ) إلّا أنّها تمرّ على بيان انتصار المؤمنين بإجمال ، فكأنّ المسألة من الوضوح بمكان حتى أنّها لا تحتاج إلى بيان وشرح ، وهذه لطيفة بلاغيّة تناولتها الآية الكريمة.

3 ـ صفات المنافقين

نؤكّد مرّة أخرى على أنّه لا ينبغي أن نقرأ هذه الآيات ونعدّ موضوعها مسألة تاريخية ترتبط بما سبق ، بل علينا أن نعتبرها درسا ليومنا وأمسنا وغدنا ، ولجميع الناس. فليس من مجتمع يخلو من مجموعة منافقين ، قلّت أو كثرت ، وصفاتهم على شاكلة واحدة تقريبا.

فالمنافقون عادة أناس جهلة أنانيون متكبرون ، يزعمون بأنّهم يتمتّعون بقسط وافر واف من العقل والدراية! إنّهم في عذاب وحسرة ما دام الناس في راحة وسرور ويفرحون عند ما تحلّ بهم كارثة!.

إنّهم يتخبطون في دوامة من الوهم والشك والحيرة ، ولذلك فهم يخطون تارة نحو الأمام ، وأخرى إلى الوراء!!

وعلى خلافهم المؤمنون ، فهم يشاركون الناس في السراء والضرّاء ، ولا يزعمون أنّهم أولو علم ودراية ، ولا يستغنون عن رحمة الله ولطفه ، وقلوبهم تعشق الله ولا تخاف في سبيله من سواه!

* * *

٧٩

الآيات

( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) )

التّفسير

تشير هذه الآيات إلى قسم آخر من علامات المنافقين وعواقب أعمالهم ونتائجها ، وتبيّن بوضوح كيف أن أعمالهم لا أثر لها ولا قيمة ، ولا تعود عليهم بأيّ نفع.

ولما كان ـ من بين الأعمال الصالحة ـ الإنفاق في سبيل الله «الزكاة بمعناها الواسع» والصلاة «وهي العلاقة بين الخلق والخالق» ـ لهما موقع خاص ، فقد اهتمّت الآيات بهذين القسمين اهتماما خاصا!

تخاطب الآيات النّبي الكريم فتقول :( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608