الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261096 / تحميل: 6479
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يسبقوه إلى أهله، فجعل يقول: يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم(١) .

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطو خطوات قصيرة، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته، وتفاقمت جرائم قريش نحوه، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه، بإنهاء حياته وإطفاء نوره، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً، ويسلّموا له سيفاً صارماً، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد، حتى يموت، فيستريحوا منه، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً، ولا يقدر بنو هاشم، على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم، وصدّهم عن ذلك، وخيّب حيلتهم، وأخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المكيدة الداهمة، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج، وبايعوه، ووعدوه بالنصر، والمؤازرة والحراسة.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن غادر مكة، وترك قومه، إلّا أنّ قومه لم يتركوه، بل أجّجوا نار الشحناء عليه، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية، وحملات طاحنة، وبذلت قريش آخر ما في وسعها، ورمت كل ما في كنانتها، وبالغت في تقويض الإسلام، وهدم بنائه، إلى أن دخل العام السادس، من الهجرة، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية، انقلب الى فتح مبين للإسلام، فانتهز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١، ص ٣٢١ المقصود: هوجمتم من قبل العدو.

٤١

بل إلى رؤساء العرب، وشيوخ القبائل، والاساقفة، والمرازبة، والعمال، يدعوهم إلى دين الإسلام، الذي هو دين السلام، ورسالته من الله وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته، عالمية لا تحدد بحد، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

١. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة، لاُنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس »(١) .

٢. وكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم الله الرحمن الرحيم، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين »(٢) .

وما ذكرناه نماذج من رسائله، وكتاباته الإبلاغية، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم، وإلى الناس كلهم، من غير فرق بين اللون والجنس، والعنصر والوطن، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة، ووجود الانسان، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكافح كل مبدأ يضاد دينه، وكل رساله تغاير رسالته، وقد جرى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة حياته الرسالية، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد: « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

__________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢، ص ٢٩٥، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، ص ٦١ وغيرهما.

(٢) السيره الحلبية، ج ٢، ص ٢٧٥، مسند أحمد، ج ١، ص ٢٦٣ وغيرهما.

٤٢

فقد قال الله تعالى في سورة ص ٨٧ ـ ٨٨:( إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس ٦٩ ـ ٧٠:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ *لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان ١:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ: ٢٨.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف ١٥٨.

وقال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران: ٨٥.

وقال سبحانه:( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء: ١٢٥.

وقال سبحانه:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة: ٢٩ ـ ٣٣(١) .

__________________

(١) الدعوة إلى الإسلام، ص ٣٤.

٤٣

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم، فنبهتهم من رقدتهم، وانهضتهم من كبوتهم، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته، وخاضع لرسالته، ومؤمن بما أتاه، إلى معظّم لرسله، ومجيز لهم، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ: أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس: يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده ساحراً ضالاّ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً، أظهر فيه إسلامه، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه، فأبى فأمر بقتله، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير، وأساقفة نجران، ولبّاه عمّال كسرى باليمن، واقيال

٤٤

حضرموت، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة، كتابه المعروف، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بلغه موته(١) .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لفّ لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان، فأبى أن يكون تابعاً للعرب، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى، فمزّق كتاب الرسول، وأرسل إلى باذان، عامله باليمن، وكتب إليه: « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به »(٢) .

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها، أتينا بها بصورة مصغّرة، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته، وأثنائها ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص، أو اُمّة معيّنة، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

__________________

(١) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».

(٢) الكامل، ج ٢، ص ٨١، السيرة الحلبية، ج ٣، ص ٢٧٨، إلى غير ذلك.

٤٥

الأوّل: إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين، وأنّه بشير ونذير للناس كافة، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه، من غير فرق بين شخص وشخص، أو عنصر وآخر، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

١.( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

٣.( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).

٤.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).

٥.( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).

٦.( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

ـ أي كل من بلغه القرآن، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.

٧.( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).

٨.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) ( النساء ـ ١٧٠ ).

٩.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

١٠.( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ ١٣٨ ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها، صريحة في أنّ هتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يختص باُمّة دون اُمّة، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني: إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، وهذا دليل

٤٦

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة، ودونك نماذج من هذا القسم.

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ ٢١ ).

٢.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة ـ ١٦٨ ) إلى غير ذلك

فترى أنّه يخاطب الناس، ويقول: يا أيّها الناس تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً، ورسالته طائفية، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة(١) .

الثالث: إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه، من غير تقييد بلون، أو عنصر، أو شعب أرض خاصة، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد، ودونك نماذج من هذا القسم :

١.( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران ـ ٩٧ ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه، عرباً كانوا، أم غير عرب ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص ١١٣.

٤٧

فلم يقل: لله على الاُمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

٢.( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج ـ ٢٥ ).

٣.( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان ـ ٦ ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة(١) .

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص، بل تعم كل من تظلّه السماء، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

٢.( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ( البقرة ـ ١٨٥ ).

٣.( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر: ٢٧ ).

٤.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم، لا للعرب خاصة، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة: ٣ ) وما المراد من ال‍:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

__________________

(١) راجع المكاسب، ص ٣٨، للشيخ الأعظم الأنصاري.

٤٨

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟(١) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث، وتهدف إلى أمر واحد: وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية، غير محدودة بحد، فلا يحدها قطر، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ(٢) .

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام، وبفكرته الكلية، عن الكون والحياة والإنسان، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق، في مختلف الأبواب والفصول، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع، ولا تأخذ غيره دعامة، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلّا لنفس الأمر.

وإن شئت فقل: إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده، إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده، في عامة أقطار الأرض جميعاً، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فلا وجه

__________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ٢٨٤.

(٢) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

٤٩

لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو بشعب دون شعب.(١)

ولا يجد الباحث ـ مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سعة نطاقه، وبحثه في شتى الجهات، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي، أو صبغة طائفية، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية، أو ظروف محلية، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وصار النافع منها ضاراً، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل، ونضعها على طاولة الحساب، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع: فقبل كل شيء، لاحظ كتاب الله العزيز، ومعجزة الإسلام الخالدة، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته، وساد العداء والتنازع بين الناس، وكان نظام الغاب وحده، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه، فهل نرى آية من آياته الباهرة، أو قانوناً من قوانينه، أو حكمة من حكمه ومعارفه، أو سننه من سنة، أو فريضة من فرائضه تنفع في

__________________

(١) سوف نرجع إليه في ختام البحث، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

٥٠

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة، أو فريته الشانئة ؟: « الإسلام دين طائفي، أو مبدأ إصلاح إقليمي، لا يصلح لعامة المجتمعات، ولا يصلح لعامة القارات، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية، والكنوز العلمية، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها، أو شبهها.

فلو أراد ذلك، فتلك فرية بيّنة، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه، وتخضع لشيء دون الخالق، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك، ومصائد الضلال، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم، أو حيوان لا يدفع عن نفسه، أو انسان محتاج مثله، أو غيرها من الأرباب الكاذبة، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره، وبعبارة صحيحة: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

٥١

وغيرها، قوانين إقليمية، لا تصلح إلّا لظروف خاصة، ولا تفيد إلّا في شبه الجزيرة العربية، ولا يسعد بها إلّا انسانها، دون اناس المناطق الاُخرى، إلّا أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا، والإصلاح بين الناس، وأداء الأمانة، وحسن السلوك معهم، والتعاون والاحسان، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله، أو تأسّست بعده، فأمر بالصدق وأداء الأمانة، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس، والعفو والغفران والقرى والضيافة، والتواضع، والشكر والتوكل، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال، والبهتان والغضب، والاثرة، والحسد، والغش والبغي والخمر والميسر، والجبن والغيبة والكذب، والاستكبار والرياء، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب، ودفع مفاسدها، وقصرها على مافيه من الخير للبشر، وايثار السلم على الحرب، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة، وأحلّ البيع وحرّم الربا، ونهى عن الغش والتطفيف، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

٥٢

١.( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل ـ ٩٠ ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

٢. هلاّ كان منه قوله سبحانه( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء ـ ٥٨ ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم، وقال:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ ٧٥ ).

وليس هذا إلّا لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

٣. أو ليس منه قوله سبحانه:( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه، فليس معنى هذا، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع، محصور في هذا النطاق، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية، والشخصية والاجتماعية من صدق، وعدل، وبر، وأمانة، وصلة رحم، ولين جانب، ووفاء عهد، ووعد، ورحمة للضعيف، ومساعدة للمحتاج، ونصرة للمظلوم، وصبر، ودعوة إلى الخير، وتواص بالحق، وعدم اللجاج فيه، والانفاق لله، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والتعاون على البر والتقوى، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

٥٣

كذب، وظلم، وبغي، واثم، وقتل نفس، وارتكاب فاحشة، وانتهاك عرض وافك وزور، وعربدة سكر، وإسراف وتبذير، وخيانة ونكث غدر، وخديعة، وقطع رحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وجبن، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب، وفظاظة خلق، ورياء ومكابرة وانتقام باغ، وتناقض بين القول والعمل وغرور، وصد عن الحق، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم »(١) ، « والمعجم المفهرس »(٢) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء(٣) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة، وفي حقب من الزمان والمكان، فلو كانت مختصة بإقليم خاص، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر، لا إلى الرقي والحضارة(٤) .

الدعوة إلى الفطرة، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فدعا إلى التوحيد المطلق، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة، ونشر العلم والحضارة

__________________

(١) تأليف المسيو جول لابوم، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة، حسب ما فهم منها، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.

(٢) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.

(٣) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.

(٤) نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة، تأكلها حثالات الأرض.

٥٤

وقضى على الرذائل والمنكرات، والشهوات الجامحة، والتقاليد البالية، والخرافات الكاذبة، والرهبانية المبتدعة، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول: « إنّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلّا بالتقوى، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات ـ ١٣ ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية، والزمالة البشرية، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها، أعني: وحدة الاُمّة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الاخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، بل وحدة اللغة

٥٥

الدينية(١) .

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة، الذروة من المجد والعظمة، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية، القاضية على كل نعرة طائفية، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

١. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّها الناس إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ألا إنّكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله، عبد إتّقاه »(٢) .

٢. « ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٣) .

٣. « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا، مثل أسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى »(٤) .

٤. « إنّما الناس رجلان: مؤمن تقي، كريم على الله; وفاجر شقي، هيّن على الله »(٥) .

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

__________________

(١) كل ذلك دليل على عالمية تشريعه، وسعة نطاق رسالته، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: روضة الكافي، ص ٢٤٨، سيرة ابن هشام ج ٢، ص ٤١٢، بحار الأنوار، ج ٢١، ص ١٠٥، والشرح الحديدي، ج ١٧، ص ٢٨١، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

٥٦

كان تفكيره تفكيراً غامضاً، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلّا لها، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلّا لتلك البلاد، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلّا للعرب دون غيرهم، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته، ألقت بمالها بين يديه، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلّا من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكّة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

٥٧

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلّا أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلّا لبلاد العرب، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ ٨٩ ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات »(١) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج ١، ص ١٦٧ ـ ١٧٠، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

٥٨

نظرة في الآيات

المشعرة بعدم العمومية

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.

١. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

١.( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ ٤٦ ).

٢.( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة ـ ٣ ).

٣.( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس ـ ٦ ).

٤.( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم ـ ٩٧ ).

٥٩

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم خاص، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

إنّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً: لا تخرج من حدّ الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً: إنّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار، ففي سورة يس التي ورد فيها:( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه:( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس ـ ٧٠ ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً:( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ( الكهف ـ ٤ ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا: اتّخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ الله اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا: بأنّ الله اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ ٤٥ ).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.

إنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل :( فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ) . ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم :( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

( وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأولى بأنّه من( الْمُسْرِفِينَ ) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم( الظَّالِمِينَ ) ، وفي آخر آية بأنّهم من( الْكافِرِينَ ) .

إنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأنّ الإنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإسراف أوّلا ، أي التعدي على الحدود ، ثمّ الظلم ، وينتهي عمله أخيرا إلى الكفر والإلحاد!

* * *

٤٢١

الآيات

( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) )

التّفسير

المرحلة الرّابعة : مرحلة البناء من أجل الثّورة :

شرحت هذه الآيات مرحلة أخرى من نهضة وثورة بني إسرائيل ضد الفراعنة.

فتقول أولا :( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني إسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

٤٢٢

ثمّ تطرقت إلى مسألة تربية النفس معنويا وروحيا ، فقالت :( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت :( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) .

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة ، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي ، ولا برنامجا معنويا بنّاء ، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.

لذلك فإنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إسرائيل ، وخاصّة في الجانب الروحي :

١ ـ الاهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن ، وعزل مساكنهم عن الفراعنة ، وكان لهذا العمل عدّة فوائد :

إحداها : أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.

والأخرى : أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إلى حياة مستقلة.

والثّالثة : أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.

٢ ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل ، وإطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنى ثانوي لهذه الكلمة(١) .

وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إسرائيل بشكل فاعل ، واستطاعوا بذلك

__________________

(١) بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل ، بل فسروها بنفس معناها ، اي قبلة الصلاة ، ويعتبرون جملة : (وأقيموا الصلاة) شاهدا على ذلك ، إلّا أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي ، إضافة إلى أن إرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إشكال فيه أيضا ، كما مر علينا نظير هذا مرارا.

٤٢٣

وضع المسائل الاجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق ، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية ، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.

٣ ـ التوجه إلى العبادة ، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإنسان من عبودية العباد ، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات ، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب ، وتحيي فيه الشعور بالاعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإنسان.

٤ ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائدا ـ بأن يطهّر روح بني إسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي ، ولطف الله ورحمته.

الملفت للنظر أنّ بني إسرائيل من أولاد يعقوب ، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعا، وقد حكم هو واخوته مصر سنين طويلة ، وسعوا في عمران هذا الوطن ، إلّا أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إلى مثل هذا الوضع المأساوي. إنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد ، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.

ثمّ أشارت إلى إحدى علل طغيان فرعون وأزلامه ، فتقول على لسان موسى :( وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) .

إنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة ، أي إنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إضلال الناس شاؤوا أم أبوا ، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئا غير هذا ، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإلهية توقظ الناس وتوحدهم وبذلك

٤٢٤

لا يبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم ، فلا يجدوا بدّا من معارضة الأنبياء.

ثمّ يطلب موسىعليه‌السلام من الله طلبا فيقول :( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ) .

«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفا وحجرا بعد هذه اللعنة ، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماما وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثمّ أضافت( وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ) اي : اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضا لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء ، وسينفتح أمامنا طريق الثورة ، وتوجيه الضربة النهائية لهؤلاء.

اللهم إن كنت قد طلبت ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعا من روح الانتقام والحقد ، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإيمان أبدا :( فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) ومن الطبيعي أنّ الإيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريبا ـ لا ينفع هؤلاء أيضا.

ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه : الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إسرائيل( قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما ) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل ، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين ، بل استمرا في برنامجكما الثوري( وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

* * *

٤٢٥

الآيات

( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) )

التّفسير

الفصل الأخير من المجابهة مع الظّالمين :

هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة ، لكنّها دقيقة وواضحة ـ كما هو دأب القرآن ـ وتركت المطالب الأخرى تفهم من الجمل السابقة واللاحقة.

٤٢٦

فتقول أوّلا : إنّنا جاوزنا ببني إسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة ، وعند ما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء :( وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ ) إلّا أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إسرائيل :( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ) .

«البغي» يعني الظلم ، «والعدو» بمعنى التعدي ، أي إنّ هؤلاء إنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم ، أي على بني إسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعا ، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى ، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى ، إلّا أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.

أمّا كيفية عبور بني إسرائيل للبحر ، وأي إعجاز وقع في ذلك الحين ، فإنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (٦٣) من سورة الشعراء ، إن شاء الله تعالى.

على كل حال ، فإنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق ، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به ، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان :( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) فلست مؤمنا بقلبي فقط ، بل إنّي من المسلمين عمليا:( وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

ولما تحققت تنبؤات موسىعليه‌السلام الواحدة تلو الأخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته ، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول : آمنت أنّه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل!

إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت ، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة ، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله ، ولهذا فإنّ الله سبحانه خاطبه

٤٢٧

فقال :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) .

وقد قرأنا سابقا في الآية (١٨) من سورة النساء :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضا في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم ، مثل :

أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

لكن( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين ، وآية للفئات المستضعفة.

هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا ، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح ، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّا بحيث أنّ الكثير لو لا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق ، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة ، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

اللطيف هنا ، أنّ البدن في اللغة ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ يعني الجسد العظيم ـ وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلئ الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!

إلّا أنّ البعض الآخر قالوا : إنّ أحد معاني البدن هو الدرع ، وهذا إشارة إلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه ، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.

هذه النقطة أيضا تستحق الانتباه ، وهي أنهم استفادوا من جملة «ننجيك» أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة «النجوة» تعني المكان المرتفع والأرض العالية.

٤٢٨

والنقطة الأخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة :( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ) قد بدأت بفاء التفريع ، ومن الممكن أن يكون ذلك إشارة إلى أن إيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح ، حتى لا يكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!

ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء ، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينها حيث حفظوه فيما بعد بالمومياء ، أم لا؟

لا يمكننا اثبات ذلك ، إلّا أنّ تعبير( لِمَنْ خَلْفَكَ ) يقوي هذا الاحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان ، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة ، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الأجيال في المستقبل (فتدبر جيدا).

ويقول في نهاية الآية : إنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله ، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإنّ الكثير معرضون عنها( وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ ) .

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إسرائيل ، والرجوع إلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة ، فتقول :( وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) .

إنّ التعبير ب( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إسرائيل وأرجعهم إلى الوطن الموعود ، أو أنّ( مُبَوَّأَ صِدْقٍ ) إشارة إلى طهارة وقدسية هذه الأرض ، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.

وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر ، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (٢٥) ـ (٢٨) :( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) .

٤٢٩

وقد جاء هذا المضمون في الآية (٥٧) ـ (٥٩) من سورة الشعراء ، ونقرأ في آخرها :( وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إلى الشام ، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة ، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلّا أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة( فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ ) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى ، وأدلة صدق دعوته ، إلّا( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) وإذا لم يتذوقوا طعم عقاب الاختلاف اليوم ، فسيذوقونه غدا.

وقد احتمل ـ أيضا ـ في تفسير هذه الآية ، أن يكن المراد من الاختلاف هو الاختلاف بين بني إسرائيل واليهود المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبول دعوته ، أي إنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية ، فإنّهم اختلفوا ، فآمن بعضهم ، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته ، وإنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.

إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.

كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إسرائيل المليء بالعبر ، والذي بيّن ضمن آيات في هذه السورة ، وما أشبه حال أولئك بمسلمي اليوم ، فإنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إعجازية ، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أولئك المتجبرين ، إلّا أنّهم وللأسف الشديد ، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإسلام في جميع أرجاء العالم ، فإنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإيجاد النفاق والاختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر! اللهم نجّنا من كفران النعمة هذا.

* * *

٤٣٠

الآيات

( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) )

التّفسير

لا تدع للشك طريقا إلى نفسك!

لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأمم السابقة ، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحة ذلك ، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال ، وليسألوهم عن ذلك ، لأنّ كثيرا من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.

إلّا أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء ، خاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ) ( فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ) ليثبت عن هذا الطريق بأنّه( لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) .

٤٣١

ويحتمل أيضا أنّ الآية أعلاه تطرح بحثا جديدا ومستقلا في صدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتعلم المخالفين أنّهم إن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإنجيل.

ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير(١) يؤيد هذا المعنى ، وهو أن جمعا من كفار قريش كانوا يقولون : إنّ هذا القرآن لم ينزل من الله ، بل إنّ الشيطان يلقيه على محمّد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد ، فأجابهم بهذه الآية.

هل كان النّبي شاكّا؟!

يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أنّ هذه الآيات تحكي عن أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شاكّا في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه ، وأنّ الله سبحانه قد أزال شكّه عن الطريق أعلاه.

ولكن واقع الأمر أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدة ـ كما تحكي آيات القرآن هذا المعنى ـ ومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا المورد. إضافة إلى أنّ هذا الأسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج في العرف ، وهذا هو المراد من المثل المعروف : إيّاك أعني واسمعي يا جارة ، وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد.

إضافة إلى أن ذكر الجملة الشرطية لا يدل دائما على احتمال وجود الشرط ، بل هو للتأكيد على مسأله ما أحيانا ، أو لبيان قانون كلي عام ، فنقرأ مثلا في الآية (٢٣) من سورة الإسراء :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) وينبغي الانتباه إلى أنّ المخاطب في الآية هو النّبي ظاهرا ، إلّا أنّه لما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أباه قبل ولادته وأمّه في

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ، الجزء ٦ ، ص ٢٢٧ ذيل الآية.

٤٣٢

طفولته ، فإنّ من الواضح أنّ احترام الوالدين طرح هنا كقانون عام بالرغم من أن المخاطب ظاهرا هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وكذلك نقرأ في سورة الطلاق :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) وهذا التعبير لا يدل على أن النّبي قد طلق امرأة في حياته ، بل هو بيان قانون عام ، والبديع في هذا التعبير أنّ المخاطب في بداية الجملة هو النّبي ، وفي نهايتها كل الناس.

ومن جملة القرائن التي تؤيد أنّ المقصود الأساس في الآية هم المشركون والكافرون ، الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء.

ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح ، عند ما يسأله الله يوم القيامة :( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ؟ فإنّه ينكر هذه المسألة بصراحة ، ويضيف :( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) سورة المائدة من الآية (١١٦).

ثمّ تضيف الآية التّالية :( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) من بعد ما اتّضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.

إنّ الآية السابقة تقول بأنّك إن كنت في شك فاسأل أولئك المطلعين العالمين ، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك ، وإلّا فإنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلّا الخسران.

إنّ هذه الآية قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآية السابقة هم عموم الناس بالرغم من أن الخطاب موجه إلى شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ من البديهي أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يكذب الآيات الإلهية مطلقا ، بل كان المدافع المستميت الصلب عن دينه.

ثمّ أنّها تخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إيمانهم ، فإنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية ، وتوغلوا في طريق الباطل إلى الحد الذي فقدوا معه الضمير الإنساني الحي تماما ، وتحولوا إلى

٤٣٣

موجودات لا يمكن اختراقها ، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التعبير :( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وحتى إذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإنّهم لا يؤمنون :( وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ) ولا أثر لإيمانهم في ذلك الوقت.

إنّ الآيات الأولى من الآيات مورد البحث تدعو عامّة الناس إلى المطالعة والتحقيق والسؤال من أهل العلم ، ثمّ طلبت منهم أن ينصروا الحق ويدافعوا عنه بعد أن اتّضح لهم. إلّا أنّ الآيات الأخيرة تقول : لا تتوقّع أن يؤمن كل هؤلاء ، لأنّ البعض قد فسد قلبه بحيث لا يمكن إصلاحه ، فلا يثبطك عدم ايمانهم عن مواصلة الطريق. ولا تتعب نفسك في سبيل هدايتهم ، بل توجه إلى الأكثرية من الناس ممّن لهم أهلية الهداية.

وكما كررنا مرارا ، فإنّ التعبيرات التي تشابه هذه الآية السابقة ليست دليلا على الجبر أبدا ، بل هي من قبيل ذكر آثار عمل الإنسان ، لكن لما كان أثر كل شيء بأمر الله ، فإنّ هذه الأمور تنسب إلى الله أحيانا.

ويبدو أنّ ذكر هذه النقطة مهم أيضا ، وهي أنّنا قرأنا في بعض الآيات السابقة في شأن فرعون أنّه قد أظهر الإيمان بعد نزول العذاب والوقوع في قبضة الطوفان ، إلّا أن مثل هذا الإيمان لما كان يتصف بالاضطرار لم ينفعه. إلّا أنّ هذه الآيات تقول إنّ هذا لم يكن أسلوب وطريق فرعون وحده ، بل هو طريق كل العنودين الأنانيين المستكبرين المسودّه قلوبهم الذين وصلوا إلى قمة الطغيان ولديهم نفس هذه الحالة ، فإنّ هؤلاء أيضا لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، ذلك الإيمان العديم الأثر بالنسبة لهؤلاء.

* * *

٤٣٤

الآية

( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) )

التّفسير

الامّة التي آمنت في الوقت المناسب!

تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة ، والأقوام السابقة بصورة عامّة ، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإيمان بالله في وقت الإختيار والسلامة ، إلّا أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإلهي أظهروا الإيمان الذي لم يكن نافعا لهم آنذاك.

وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام ، فتقول :( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها ) . ثمّ استثنت قوم يونس فقالت :( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) أي إلى آخر عمرهم.

إنّ كلمة «لو لا» تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين ، ولذلك تمّ الاستثناء منها بواسطة «إلّا» وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة : لم يؤمن أي من الأقوام والأمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله

٤٣٥

بصورة جماعية إلّا قوم يونس.

إلّا أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة «لو لا» لم تأت بمعنى النفي ، بل أتت دائما بمعنى التحضيض ـ ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض ـ إلّا أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفيا ، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ «إلّا».

وعلى كل حال ، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضا ، إلّا أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة ، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإلهي الحتمي ، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإلهي بالعذاب الحتمي ، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإيمان ، إلّا أنّ إيمانهم ـ وللسبب الذي قلناه سابقا ـ لم يكن له أثر ولا نفع.

قصّة إيمان قوم يونس :

كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ ، أنّه عند ما يئس يونس من إيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق ، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم ، في حين أنّ عالما كان معهم أيضا اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم ، وأن يستمر في إرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.

يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم ، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم ، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد ، إلّا أنّ علاماته قد شرعت في الظهور ، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء ، وأظهروا الإيمان والتوبة ، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأمهات والأولاد ، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثر.

إلّا أنّ هذه التوبة والإيمان والرجوع إلى الله ، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن

٤٣٦

وعي مقترن بالإخلاص قد أثر أثره ، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها. ولمّا رجع يونس إلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.

وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (١٣٤ ـ ١٤٨) من سورة الصافات ، إن شاء الله تعالى.

والجدير بالذكر ، إنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإلهي ، الحتمي ، وإلّا لم تقبل توبتهم ، بل كانت تأتيهم الإنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي ، وقد كان مقدارها كافيا للتوعية ، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإنذارات مرارا ـ كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها ـ إلّا أنّهم لم يعبئوا بها مطلقا ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الابتلاءات ليؤمنوا ، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقا.

ثمّ إنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأمّة ، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر ، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإحساس بالمسؤولية.

* * *

٤٣٧

الآيتان

( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) )

التّفسير

لا خير في الإيمان الإجباري :

لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإيمان الاضطراري لا يجدي نفعا أبدا ، ولهذا فإنّ الآية الأولى من هذه الآيات تقول :( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ) وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألما لعدم إيمان جماعة من هؤلاء ، فإنّ من مستلزمات أصل حرية الإرادة والإختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون ، وإذا كان الأمر كذلك( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ؟

إنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإسلام بصورة مكررة ، حيث يقولون : إنّ الإسلام دين السيف ، وقد فرض بالقوّة والإجبار على شعوب العالم ، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأخرى ـ بأنّ الإيمان الإجباري لا قيمة له ، والدين والإيمان شيء ينبع عادة من أعماق

٤٣٨

الروح ، لا من الخارج وبواسطة السيف ، خاصّة وأنّها حذرت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إكراه وإجبار الناس على الإيمان والإسلام.

الآية التّالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ البشر وإن كانوا أحرارا في اختيارهم ، إلّا أنّه( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) ولهذا فإنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل ، ولم يكونوا مستعدين للاستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم ، وسوف لا يوفقون للإيمان وهم على هذا الحال ، إذ( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ من الممكن أن يتصور في البداية أنّ هناك تنافيا وتضادا بين الآية الأولى والثّانية، إذ أنّ الآية الأولى تقول : إنّ الله لا يجبر أحدا على الإيمان ، في حين أن الآية الثّانية تقول : إنّ أحدا لا يمكن أن يؤمن حتى يأذن الله!

إلّا أنّ التنبه إلى نكتة واحدة يرفع هذا التضاد الظاهري ، وهي أنّنا نعتقد بأنّ الجبر غير صحيح ، كما أنّ التفويض غير صحيح أيضا ، أي أن الناس ليسوا مجبورين تماما على أعمالهم ، ولا هم متروكون وأنفسهم يعملون ما يشاءون ، بل إنّهم في الوقت الذي يكونون فيه أحرارا في الإرادة ، فإنّهم في حاجة للمعونة الالهية ، لأنّ الله سبحانه هو الذي يعطيهم حرية الإرادة ، فالعقل والوجدان الطاهر هما من مواهبه وعطاياه ، وإرشاد الأنبياء وهداية الكتب السماوية من جانبه أيضا ، وبناء على هذا ففي عين حرية الإرادة والإختيار ، فإنّ منبع هذه الهبة وما ينتج عنها من جانب الله سبحانه. دققوا ذلك.

٢ ـ إنّ آخر جملة من الآية الأخيرة ، أي( وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) لا ينبغي أن تفسر بمعنى الجبر مطلقا ، لأنّ جملة( لا يَعْقِلُونَ ) دليل على

٤٣٩

اختيار هؤلاء ، أي أنّ هؤلاء الأفراد قد امتنعوا من التفكير والتدبر أوّلا. فاتلوا في النهاية بهذا العقاب ، الذي هو الرجس وقذارة الشك والتردد وظلمة القلب والخطأ في التفكير الذي سلط على هؤلاء حتى سلبت منهم القدرة على الإيمان ، إلّا أنّه ينبغي الانتباه إلى أنّ مقدمات العذاب قد هيأها هؤلاء بأنفسهم ، وفي مثل هذه الأحوال فإنّ الله تعالى لا يأذن في إيمان هؤلاء.

وبتعبير آخر ، فإنّ هذه الجملة تشير إلى أنّ إذن الله وأمره ليس أمرا اعتباطيا غير مدروس ومحسوب ، بل إنّه يشمل أولئك الذين لهم أهلية الإيمان ، أمّا غير اللائقين فإنّهم سيحرمون منه.

* * *

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608