الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260712 / تحميل: 6468
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

في بحار الأنوار: ٩٨/١٦٨:

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: إذا أتيت القبر بدأت فأثنيت على الله عز وجل، وصليت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتهدت في ذلك إن شاء الله، ثم تقول: سلامُ الله وسلام ملائكته فيما تروح وتغدو...

**

المسألة السادسة: من هم المتوسل بهم عند المسلمين

يكاد يكون التوسل والاستشفاع في مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، محصوراً روايةً وعملاً بمحمد وآله المعصومين، صلى الله عليه وعليهم.

ولم أجد في سيرة أئمتناعليهم‌السلام ، ولا في سلوك المتشرعين من أصحابهم وشيعتهم ذكراً للتوسل بأحد غير المعصومينعليهم‌السلام ! وإن وجد فهو توسلٌ بهم تبعاً للمعصومين أو في موارد خاصة.

نعم ورد في عدد من الأدعية عن أهل البيتعليهم‌السلام تعليم التوسل بالملائكة المقربين والأنبياء السابقين، وكتب الله المنزلة، وعباده الصالحين، والأعمال الصالحة..

ففي مصباح المتهجد/٣٥٨:

اللهم إني أتقرب اليك بجودك وكرمك، وأتشفع اليك بمحمد عبدك ورسولك، وأتوسل اليك بملائكتك المقربين، وأنبيائك المرسلين، أن تقيلني عثرتي، وتستر علي ذنوبي، وتغفرها لي، وتقبلني بقضاء حاجتي، ولا تعذبني بقبيح كان مني.

يا أهل التقوى وأهل المغفرة، يا بر ياكريم، أنت أبر بي من أبي وأمي، ومن نفسي، ومن الناس أجمعين، بي اليك فاقة وفقر، وأنت غني عني...

وفي مصباح المتهجد/٣٠٢:

روى ابراهيم بن عمر الصنعاني، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: للأمر المخوف العظيم

٢٨١

تصلي ركعتين، وهي التي كانت الزهراءعليها‌السلام تصليها، تقرأ في الأولى الحمد، وقل هو الله أحد خمسين مرة، وفي الثانية مثل ذلك، فإذا سلمت صليت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ترفع يديك وتقول:

اللهم إني أتوجه بهم اليك وأتوسل اليك بحقهم العظيم الذي لا يعلم كنهه سواك وبحق من حقه عندك عظيم، وبأسمائك الحسنى وكلماتك التامات، التي أمرتني أن أدعوك بها.

وأسألك باسمك العظيم الذي أمرت ابراهيمعليه‌السلام أن يدعو به الطير فأجابته.

وباسمك العظيم الذي قلت للنار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم فكانت.

وبأحب أسمائك اليك، وأشرفها عندك، وأعظمها لديك، وأسرعها إجابة، وأنجحها طلبة، وبما أنت أهله ومستحقه ومستوجبه...

وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم أجمعين من التوراة والانجيل والقرآن العظيم، من أولها الى آخرها، فإن فيها اسمك الأعظم. وبما فيها من أسمائك العظمى أتقرب اليك.

التوسل بغير المعصومين عند السنيين

سيرة أئمة المذاهب السنية وسلوك أتباعهم حافلةٌ بالتوسل بمن يعتقدون صلاحه من شيوخ العلم والتصوف.

وحتى الحنابلة الذين يدعي ابن تيمية الانتساب اليهم ويشن باسمهم حملة ضد التوسل والاستشفاع ويكفر بهم المسلمين.. يعتقدون بالتوسل!!

فقد ثبت عن إمامهم أحمد وكبار متقدميهم ومتأخريهم، أنهم كانوا يزورون القبور ويتوسلون الى الله تعالى بأصحابها!!

وقد بنوا على قبر أحمد بن حنبل مسجداً وقبة! وجعلوه مزاراً يصلون عنده ويتمسحون به ويتوسلون به!!

٢٨٢

ففي وفيات الأعيان لابن خلكان: ١/٦٤:

أحمد بن حنبل... توفي ضحوة الجمعه لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.. ودفن بمقبرة باب حرب، وباب حرب منسوب الى حرب بن عبد الله أحد أصحاب أبي جعفر المنصور، والى حرب هذا تنسب المحلة المعروفة بالحربية، وقبر أحمد بن حنبل مشهور بها يزار.

وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي/٤٥٤:

حدثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربي وكان شيخاً صالحاً قال: كان قد جاء في بعض السنين مطرٌ كثير جداً قبل دخول رمضان بأيام، فنمت ليلة في رمضان فأريت في منامي كأني قد جئت على عادتي الى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزور، فرأيت قبره قد التصق بالأرض حتى بقي بينه وبين الأرض مقدار ساف أو سافين، فقلت: إنما تم هذا علي قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث!

فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحق عز وجل، لأنه عز وجل قد زارني!! فسألته عن سر زيارته إياي في كل عام فقال عز وجل: يا أحمد، لأنك نصر ت كلامي فهو ينشر ويتلى في المحاريب.فأقبلت على لحده أقبله ثم قلت: يا سيدي ما السر في أنه لا يقبل قبر إلا قبرك؟ فقال لي: يا بني، ليس هذا كرامة لي، ولكن هذا كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لأن معي شعرات من شعره!!

ألا ومن يحبني يزورني في شهر رمضان! قال ذلك مرتين!!

وفي طبقات الحنابلة لأبي يعلى: ٢/١٨٦:

سمعت رزق الله يقول: زرت قبر الإمام أحمد صحبة القاضي الشريف أبو علي فرأيته يقبل رجل القبر! فقلت له: في هذا أثر؟

قال لي: أحمد في نفسي شيء عظيم، وما أظن أن الله تعالى يؤاخذني بهذا!!

وفي تاريخ بغداد للخطيب: ٤/٤٢٣:

عن أبي الفرج الهندباني يقول: كنت أزور قبر أحمد بن حنبل فتركته مدة، فرأيت

٢٨٣

في المنام قائلاً يقول لي: لم تركت زيارة إمام السنة!!

ورواه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد/٤٨١

وفي رحلة ابن بطوطة: ١/٢٢٠:

قبور الخلفاء ببغداد وقبور بعض العلماء والصالحين بها... وبقرب الرصافة قبر الإمام أبي حنيفة، وعليه قبة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يطعم الطعام فيها ماعدا هذه الزاوية.

وبالقرب منها قبر الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ولا قبة عليه.. ويذكر أنها بنيت على قبره مراراً فتهدمت بقدرة الله تعالى.

وقبره عند أهل بغداد معظم، وأكثرهم على مذهبه، وبالقرب منه قبر أبي بكر الشبلي من أئمة المتصوفة.

وفي تاريخ الإسلام للذهبي: ٣٨/٢٣:

في عام ٥٥٤ غرقت مقبرة الإمام أحمد وخرجت الموتى على وجه الماء وكانت آية عجيبة.

وفي عمدة القاري للعيني: ٥ جزء ٩/٢٤١:

سعيد العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل.. أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي ( ص ) وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك.

قال فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية، فصار يتعجب من ذلك ويقول: عجبت! أحمد عندي جليل، يقول هذا الكلام!

وأي عجب.. وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الذي غسله به!!

وفي تاريخ الإسلام للذهبي: ١٤/٣٣٥:

وقال ابن خزيمة: هل كان ابن حنبل إلا غلاماً من غلمان الشافعي؟

٢٨٤

وفي الاعتصام للشاطبي: ١/٢٢٦:

والجواب عن هذا ( قول أحمد بن حنبل ) أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب.. وقد كان ( ابن حنبل ) يميل الى نفي القياس، ولذلك قال: مازلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا، حتى جاء الشافعي فخرج بيننا..

وفي الغدير للأميني: ٥/١٩٤:

قال ابن حجر في ( الخيرات الحسان ) في مناقب الإمام أبي حنيفة في الفصل الخامس والعشرين: إن الإمام الشافعي أيام كان هو ببغداد كان يتوسل بالامام أبي حنيفة ويجيء الى ضريحه يزوره فيسلم عليه، ثم يتوسل الى الله تعالى به في قضاء حاجاته، وقال: قد ثبت أن الإمام أحمد توسل بالامام الشافعي حتى تعجب ابنه عبد الله بن الإمام أحمد، فقال له أبوه: إن الشافعي كالشمس للناس وكالعافية للبدن. ولما بلغ الإمام الشافعي: أن أهل المغرب يتوسلون بالامام مالك لم ينكر عليهم.

وفي الغدير: ٥/١٩٨:

قال ابن الجوزي في المنتظم: ١٠/٢٨٣:

وفي أوائل جمادي الآخرة سنة ٥٧٤ تقدم أمير المؤمنين بعمل لوح ينصب علي قبر الإمام أحمد بن حنبل، فعمل ونقضت السترة جميعها وبنيت بآجر مقطوع جديدة، وبني له جانبان، ووقع اللوح الجديد وفي رأسه مكتوب: هذا ما أمر بعمله سيدنا ومولانا المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين.

وفي وسطه: هذا قبر تاج السنة وحيد الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيبانيرحمه‌الله . وقد كتب تاريخ وفاته وآية الكرسي حول ذلك.

ووعدت بالجلوس في جامع المنصور، فتكلمت يوم الاثنين سادس عشر جمادي الأولى، فبات في الجامع خلق كثير وختمت ختمات، واجتمع للمجلس

٢٨٥

بكرة ما حزر بمائة ألف، وتاب خلق كثير وقطعت شعور، ثم نزلت فمضيت الى زيارة قبر أحمد، فتبعني من حزر بخمسة آلاف.

وفي الغدير للأميني: ٥/١٩٩:

الحافظ ابن عساكر في تاريخه: ٢/٤٦:

عن أبي بكر بن أنزويه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أحمد بن حنبل، فقلت: يا رسول الله من هذا؟

فقال: هذا أحمد ولي الله وولي رسول الله على الحقيقة، وأنفق على الحديث ألف دينار.

ثم قال: من يزوره غفر الله له، ومن يبغض أحمد فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله.

وفي النهاية لابن كثير: ١٢/٣٢٣:

وفي صفر سنة ٥٤٢ رأى رجل في المنام قائلاً يقول له: من زار أحمد بن حنبل غفر له. قال: فلم يبق خاصٌ ولا عامٌ إلا زاره وعقدت يومئذٍ ثم مجلساً، فاجتمع فيه ألوفٌ من الناس!!

التوسل الواسع في صلاة الاستسقاء

ورد عندنا وعندهم الحث على التوسل في صلاة الاستسقاء بالأخيار والضعفاء والمرضى، ومن ذلك:ما قاله النووي في المجموع: ٥/٦٦:

قال في الأم: ولا آمر باخراج البهائم. وقال أبو اسحق: استحب اخراج البهائم، لعل الله تعالى يرحمها، لما روي أن سليمان صلى الله عليه وسلم خرج ليستسقي فرأى نملة تستسقي، فقال ارجعوا فإن الله تعالى سقاكم بغيركم.

ويكره إخراج الكفار للاستسقاء لأنهم أعداء الله فلا يجوز أن يتوسل بهم اليه، فإن حضروا وتميزوا لم يمنعوا، لأنهم جاؤوا في طلب الرزق.

٢٨٦

وقال في: ٥/٧٠:

يستحب أن يستسقى بالخيار من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأهل الصلاح من غيرهم، وبالشيوخ والضعفاء والصبيان والعجائز وغير ذوات الهيئات من النساء، ودليله ما ذكره المصنف.

وأيضاً ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ .

قال القاضي حسين والروياني والرافعي وآخرون من أصحابنا: ويستحب أن يذكر كل واحد من القوم في نفسه ما فعله من الطاعة الجليلة، ويتشفع به ويتوسل.

واستدلوا بحديث ابن عمر في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين أووا الى غار فأطبقت عليهم صخرة، فتوسل كل واحد بصالح عمله، فأزال الله عنهم بسؤال كل واحد ثلثاً من الصخرة وخرجوا يمشون. انتهى.

فهذه فتاوى من فقهاء المذاهب الأربعة، تنص على التوسل بالصالحين والضعفاء والمرضى والأعمال والحيوانات، وتنص على أنه توسل واستشفاع، وهو أوسع من التوسل المتبادر الى أذهاننا بالنبي وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم.

المسألة السابعة: التوسل العملي بالأعمال الصالحة

في بحار الأنوار: ٧٤/٣٩٨:

عن أمالي المفيد، عن أحمد بن الوليد، عن أبيه، عن الصفار، عن ابن عيسى، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

أفضل ما توسل به المتوسلون الايمان بالله، ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فانها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها من فرائض

٢٨٧

الله، وصيام شهر رمضان فإنه جنة من عذاب الله، وحج البيت فإنه ميقات للدين ومدحضة للذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة للمال ومنسأة للاجل، والصدقة في السر فإنها تذهب الخطيئة وتطفيء غضب الرب، وصنايع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء، وتقي مصارع الهوان.ومثله في: ٩٣/١٧٧

ونحوه في: ٧٤/٢٨٩، عن تحف العقول، قال: خطبتهعليه‌السلام المعروفة بالديباج:

الحمد لله فاطر الخلق، وخالق الاصباح، ومنشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا الَه إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله عباد الله، إن أفضل ماتوسل به المتوسلون الى الله جل ذكره: الايمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله... الحديث، كما تقدم بتفاوت.

ورواه في: ٧١/٤١٠، عن علل الشرائع عن أبي، عن سعد، عن ابراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي، عن حماد عن ابراهيم بن عمر، رفعه الى أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: إن أفضل ما توسل به المتوسلون...

ورواه في: ٦٢/٣٨٦، عن أمالي المفيد، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، بتفاوت وزيادة في آخره، قال ( ألا فاصدقوا فإن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب الايمان، ألا وإن الصادق على شفا منجاة وكرامة، ألا وإن الكاذب على شفا مخزاة وهلكة، ألا وقولوا خيراً تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وأدوا الأمانة الى من ائتمنكم، وصلوا من قطعكم، وعودوا بالفضل عليهم. انتهى.

ولكن التوسل بالأعمال الصالحة لا ينفي التوسل بالنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد ثبت أنه لا يقبل عملٌ لمسلم إلا بولايتهم، وأنه لا يرفع دعاء إلا بالصلاة عليهم، وهو التوسل بهم! وقد روي ذلك عندنا في مصادر الجميع!

٢٨٨

الفصل الثاني

التوسل الى الله في مصادر السنيين

١ - تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التوسل به الى الله تعالى

روى الترمذي: ٥/٢٢٩ برقم ٣٦٤٩:

حدثنا محمود بن غيلان، أخبرنا عثمان بن عمر، أخبرنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدع الله أن يعافيني.

قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك.

قال: فادعه.

قال فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعوه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد إني توجهت بك الى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في.

هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي. انتهى.

٢٨٩

ورواه ابن ماجة في: ١/٤٤١، وقال: قال أبو اسحاق هذا حديث صحيح. انتهى.

ورواه أحمد: ٤/١٣٨، بروايتين.

ورواه الحاكم في المستدرك: ١/٣١٣، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.

ورواه في: ١/٥١٩، بسندين آخرين، وقال بعدهما: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

ورواه في: ١/٥٢٦، وقال: تابعه شبيب بن سعيد الحبطي عن روح بن القاسم زيادات في المتن والاسناد والقول...

وقال أيضاً: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، وإنما قدمت حديث عون بن عمارة لأن من رسمنا أن نقدم العالي من الأسانيد.

ورواه الطبراني في كتاب الدعاء/٣٢٠، وما بعدها بعدة طرق، وكذا في المعجم الكبير: ٩/ ٣١، والصغير: ١/١٨٣، وصححه.

ورواه في مجمع الزوائد: ٢/٢٧٩، وقال:

قلت: روى الترمذي وابن ماجة طرفاً من آخره خالياً عن القصة، وقد قال الطبراني عقبه: والحديث صحيح، بعد ذكر طرقه التي روى بها.

ورواه في كنز العمال: ٢/١٨١، و٦/٥٢١ ( ت، هـ، ك، عن عثمان بن حنيف ). ( حم ت: حسن صحيح غريب هك وابن السني عن عثمان بن حنيف ) ورواه ابن خزيمة في صحيحه: ٢/٢٢٥ وروى الطبراني تطبيق عثمان بن حنيف للحديث بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما سيأتي.

وفي السنن الكبرى للنسائي: ٦/١٦٨:

أخبرنا محمد بن معمر قال، حدثنا حبان قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا جعفر عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف أن رجلاً أعمي أتى النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أعمى، فادع الله أن يشفيني، قال بل أدعك، قال: أدع الله لي مرتين أو ثلاثاً.

٢٩٠

قال: توضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك الى الله أن يقضي حاجتي، أو حاجتي الى فلان، أو حاجتي في كذا وكذا. اللهم شفع في نبيي وشفعني في نفسي. انتهى.

ثم رواه النسائي بروايتين أخريتين.

٢ - توسل عمر بن الخطاب بالعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

روى الحاكم في المستدرك: ٣/٣٣٤:

أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، ثنا الحسن بن علي بن نصر، ثنا الزبير بن بكار، حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء المدني، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه قال: استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم هذا عم نبيك العباس نتوجه اليك به فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله. قال فخطب عمر الناس فقال:

أيها الناس إن رسول الله كان يرى للعباس مايرى الولد لوالده، يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله في عمه العباس، واتخذوه وسيلة الى الله عز وجل فيما نزل بكم! انتهى. وروته عامة مصادرهم.

٣ - توسل الناس في المحشر واستشفاعهم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

روى ذلك البخاري في عدة مواضع، في صحيحه: ٥/١٤٧:

عن أنسرضي‌الله‌عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا الى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله الى أهل الأرض، فيأتونه فيقول لست هناكم...

٢٩١

ائتوا ابراهيم... ائتوا موسى... ائتوا عيسى... ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ماتقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن... الخ.

ونحوه بتفاوت في: ٧ /٢٠٣، و: ٨/١٧٢ و١٨٣، وروته عامة مصادرهم.

٤ - ما ورد عندهم من الدعاء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالوسيلة

قال البخاري في صحيحه: ١/١٥٢:

عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته.. حلَّت له شفاعتي يوم القيامة.

ورواه البخاري في: ٥/٢٢٨، وابن ماجة: ١/٢٣٩، وأبو داود: ١/ ١٢٩، والنسائي: ٢/٢٧، والترمذي: ١/ ١٣٦، والبيهقي في السنن: ١/٤١٠، والهيثمي في الزوائد: ١/٣٣٣ و: ١٠/١١٢، وفي كنز العمال: ٢/٨٠ و: ٧/٦٩٨ و٧٠٣... وغيرها.

هذه هي صيغة البخاري، التي لم يرو في صحيحه غيرها، وهي تريد الايحاء بأن الدعاء بالوسيلة دعاءٌ مستقل يستحب أن يدعو به المسلمون عند سماع الأذان، ولا علاقة لها بصيغة الصلاة على النبي، ولا علاقة لها بآله!!

وقد تبع البخاري محدثون آخرون كما رأيت، ثم تبعهم الفقهاء فأفتوا بهذا الدعاء فصار سنةً للسنيين في عملهم ومساجدهم!

ولكن وردت لهذا الدعاء صيغةٌ أخرى صحيحةٌ عندهم أيضاً، تقول إن هذا الدعاء جزءٌ من صيغة الصلاة على النبي التي علمها للمسلمين، وأمرهم أن يصلوا على آله معه، وأن يختموها بالدعاء له بالوسيلة!!

وفي بعضها أن الدعاء بالوسيلة مقدمةٌ للصلاة عليه وآله!

فلماذا صار دعاء الوسيلة عندهم دعاءً مستقلاً للرسول وحده، بدون آله!!

السبب عندهم: أن الصلاة على آل النبي معه والدعاء لهم معه، أمرٌ ثقيلٌ على

٢٩٢

الخلافة القرشية، التي فرضت عليهم العزل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لذلك اختار الرواة بدله الدعاء للنبي بالوسيلة، وجعلوه أمراً مستقلاً خاصاً بالنبي دون آله، مماشاةً للخلافة القرشية!!

والطريف أنهم رووه عن جابر بن عبد الله الأنصاريرحمه‌الله ، المعروف بأحاديثه القوية في وجوب ولاية أهل البيتعليهم‌السلام ، حتى أنهم رووا عنه أنه كان في زمن معاوية يتوكأ على عصاه ويدور في سكك المدينة ويبلغ المسلمين ما قاله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في من أبغض عليا وأهل البيت النبوي الطاهرين!

ويلاحظ أن الذي رواه عن جابر عند البخاري هو محمد بن المنكدر، المبغض لأهل البيتعليهم‌السلام !!

ولك أن تقارن بين رواية البخاري، وبين رواية مسلم وغيره لهذا الدعاء!!

قال مسلم في صحيحه: ٢/٤:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاةً صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة!

ورواه النسائي: ٢/٢٥، وأبو داود: ١/١٢٨، والترمذي: ٥/٢٤٧، والبيهقي سننه: ١/٤٠٩، والهيثمي في مجمع الزوائد: ١/٣٣٢.

ورواه أحمد: ٢/١٦٧، ونحوه في: ٢/٢٦٥، وقال ( من صلى عليَّ ليس في البخاري )!!

وأفتى به النووي في المجموع: ٣/١١٦:

وقدمه في تلخيص الحبير: ٣ /٢٠٣، على رواية البخاري فقال:

( قوله ) من المحبوبات أن يصلي المؤذن وسامعه على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان ويقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً

٢٩٣

الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته. أخرجه مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، الحديث.

وأخرج البخاري وأصحاب السنن من حديث جابر مرفوعاً من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة.. الحديث، لكن ليس فيه والدرجة الرفيعة. انتهى.

وقال السيوطي في الدر المنثور: ٥/٢١٩:

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعودرضي‌الله‌عنه قال: قلنا يا رسول الله قد عرفنا كيف السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟

قال قولوا: اللهم صل على محمد، وأبلغه درجة الوسيلة من الجنة. اللهم اجعل في المصطفين محبته، وفي المقربين مودته، وفي عليين ذكره وداره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد. انتهى.

فقد نصت هذه الأحاديث الصحيحة عندهم على أن الدعاء لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالوسيلة إنما هو جزءٌ من صيغة الصلاة الشرعية عليه، صلى الله عليه وعليهم، فهل يعقل أن يكون أمر باضافة آله معه في الصلاة عليه، ثم أفرد نفسه عنهم في الدعاء!!

وبذلك يترحج أن يكون أصل النص النبوي لهذا الدعاء ما روته مصادرنا، وفيه ذكر أهل بيته معه، كما سيأتي.

ماهي الوسيلة التي ورد الدعاء بها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

ذكرت بعض المصادر السنية أنها درجةٌ ومنزلةٌ في الجنة، تكون لشخص واحد من الخلق، ولذا طلب من المسلمين أن يدعوا له ليكون هو ذلك الشخص.

٢٩٤

ولكن ذلك يشبه كلام التوراة، فكأن درجة الوسيلة موضوع قرعة أو مسابقة بين الأنبياء ولم يعلم صاحبها بعد! فالرسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجو أمته أن يدعوا له أن تكون له!

قال مسلم في صحيحه: ٢/٤:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ فانه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرآ، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لاتنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة! انتهى.

ورواه أبو داود: ١/ ١٢٨، والترمذي: ٥ /٢٤٧، والبيهقي في السنن: ١/٤٠٩ وأحمد: ٢/١٦٧ و١٦٨، وفي: ٢/٢٦٥ و٣٦٥، عن أبي هريرة، والترمذي: ٥/٤٦ ٢، عن كعب عن أبي هريرة. وفي مجمع الزوائد: ١/٣٣٢، عن أبي سعيد الخدري، وأبى هريرة، وفي كنز العمال: ٢/ ٧٩ و١٣٤ و: ٧/٦٩٨ و٧٠٠ و: ١٤/ ٤٠٠ و: ١/٤٨٩ و٤٩٤ و٤٩٧، وفردوس الأخبار: ٥/١٤٧

بينما روت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام أن أمر الوسيلة مفروغٌ عنه، وهي أعلى مساكن الفردوس، وأنها للنبي وآله، الى جانب مساكن ابراهيم وآله صلى الله عليهم.

ووافقتها بعض مصادر السنيين:

فقد روى ابن مردويه كما في كنز العمال: ١٢/ ١٠٣ و: ١٣/٦٣٩:

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة.

قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك فيها؟

قال: علي وفاطمة والحسن والحسين. انتهى.

وهذه هي الصيغة المعقولة لحديث الوسيلة والدعاء بها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .. ولكن ذلك ليس في مصلحة الخلافة القرشية!! ولذا تركوا هذه الصيغة ورووا غيرها!!

٢٩٥

أحاديث تفسر الوسيلة في مصادرنا

قال الصدوق في معاني الأخبار/١١٦:

١١٦ - حدثنا أبيرضي‌الله‌عنه قال: حدثنا سعد بن عبدالله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدثنا العباس بن معروف، عن عبدالله بن المغيرة قال: حدثنا أبوحفص العبدي قال: حدثنا أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا سألتم الله لي فسلوه الوسيلة.

فسألنا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوسيلة؟

فقال: هي درجتي في الجنة، وهي ألف مرقاة، ما بين المرقاة الى المرقاة حضر الفرس الجواد شهراً، وهي ما بين مرقاة جوهر الى مرقاة زبرجد، الى مرقاة ياقوت، الى مرقاة ذهب، الى مرقاة فضة.

فيؤتى بها يوم القيامة حتى تنصب مع درجة النبيين، فهي في درجة النبيين كالقمر بين الكواكب، فلا يبقى يومئذ نبي ولا صديق ولا شهيد إلا قال طوبى لمن كانت هذه الدرجة درجته. فيأتي النداء من عند الله عز وجل يسمع النبيين وجميع الخلق: هذه درجة محمد.

فأقبل أنا يومئذ متزراً بريطة من نور، عليّ تاج الملك، واكليل الكرامة، وعلي بن أبي طالب أمامي، وبيده لوائي وهو لواء الحمد، مكتوب عليه ( لا الَه إلا الله، المفلحون هم الفائزون بالله ). فإذا مررنا بالنبيين قالوا: هذان ملكان مقربان لم نعرفهما ولم نرهما. وإذا مررنا بالملائكة قالوا: نبيين مرسلين، حتى أعلو الدرجة وعلي يتبعني، حتى إذا صرت في أعلى درجة منها وعلي أسفل مني بدرجة، فلا يبقى يومئذ نبي ولا صديق ولا شهيد إلا قال: طوبى لهذين العبدين ما أكرمهما على الله تعالى!

فيأتي النداء من قبل الله عز وجل يسمع النبيين والصديقين والشهداء والمؤمنين: هذا حبيبي محمد وهذا وليي علي، طوبى لمن أحبه، وويل لمن أبغضه وكذب عليه. فلا يبقى يومئذ أحدٌ أحبك يا علي إلا استروح الى هذا الكلام، وابياضَّ وجهه

٢٩٦

وفرح قلبه، ولا يبقى أحدٌ ممن عاداك أو نصب لك حرباً أوجحد لك حقاً، إلا اسود وجهه واضطربت قدماه.

فبينا أنا كذلك إذا ملكان قد أقبلا إليّ، أما أحدهما فرضوان خازن الجنة، وأما الآخر فمالك خازن النار، فيدنو رضوان فيقول: السلام عليك يا أحمد.

فأقول: السلام عليك أيها الملك، من أنت؟ فما أحسن وجهك الطيب وأطيب ريحك!

فيقول: أنا رضوان خازن الجنة، وهذه مفاتيح الجنة بعث بها اليك رب العزة فخذها يا أحمد.

فأقول: قد قبلت ذلك من ربي، فله الحمد على ما فضلني به، ادفعها الى أخي علي بن أبي طالب، فيدفع الى علي.

ثم يرجع رضوان فيدنو مالك فيقول: السلام عليك يا أحمد.

فأقول: عليك السلام أيها الملك، فما أقبح وجهك وأنكر رؤيتك، من أنت؟!

فيقول: أنا مالك خازن النار، وهذه مقاليد النار بعث بها اليك رب العزة فخذها يا أحمد.

فأقول: قد قبلت ذلك من ربي، فله الحمد على ما فضلني به، ادفعها الى أخي علي بن أبي طالب، فيدفعها اليه ثم يرجع مالك.

فيقبل علي ومعه مفاتيح الجنة ومقاليد النار، حتى يقف بحجزة جهنم وقد تطاير شررها وعلا زفيرها واشتد حرها، وعلي آخذٌ بزمامها فيقول له جهنم: جزني يا علي فقد أطفأ نورك لهبي، فيقول لها علي: قري يا جهنم: خذي هذا واتركي هذا! خذي عدوي واتركي وليي.

فَلَجهنم يومئذٍ أشد مطاوعة لعلي من غلام أحدكم لصاحبه، فإن شاء يذهبها يمنة، وإن شاء يذهبها يسرة، ولجهنم يومئذٍ أشد مطاوعة لعلي فيما يأمرها به من جميع الخلائق. انتهى.

٢٩٧

ورواه في روضة الواعظين/١١٣، وبشارة المصطفى/٢١، وتفسير القمي: ٢/٣٢٤، وفي آخره ( وذلك أن علياً يومئذٍ قسيم الجنة والنار ) وفي بصائر الدرجات/٤١٦:

خطبة الوسيلة من كتاب الكافي

روى الكلينيرحمه‌الله خطبة عظيمة خطبها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، تسمى خطبة الوسيلة، تتضمن تفصيلات عن درجة الوسيلة في الجنة لمحمد وآله صلى الله عليه وعليهم.

ونظراً لأهميتها وفوائدها أوردنا منها أكثر من محل الشاهد.

قالرحمه‌الله في الكافي: ٨/١٨:

خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهي خطبة الوسيلة:

محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن علي بن عكاية التميمي، عن الحسين بن النضر الفهري، عن أبي عمرو الأوزاعي، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد قال: دخلت على أبي جعفر فقلت: يا بن رسول الله قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها!

فقال: يا جابر ألم أقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا، ومن أي جهة تفرقوا؟ قلت: بلى يا ابن رسول الله.

قال: فلا تختلف إذا اختلفوا يا جابر، إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أيامه، يا جابر إسمع وع.

قلت: إذا شئت.

قال: اسمع وع وبلغ حيث انتهت بك راحلتك: إن أمير المؤمنين خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيام من وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك حين فرغ من جمع القرآن، وتأليفه فقال:

الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجوده، وحجب العقول أن تتخيل ذاته، لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لا يتفاوت في ذاته، ولا يتبعض بتجزئة

٢٩٨

العدد في كماله، فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن، ويكون فيها لا على وجه الممازجة، وعلمها لا بأداة، لا يكون العلم إلا بها، وليس بينه وبين معلومه علمٌ غيره به كان عالماً بمعلومه.

إن قيل كانَ، فعلى تأويل أزلية الوجود، وإن قيل لم يزل، فعلى تأويل نفي العدم.

فسبحانه وتعالى عن قول من عبد سواه، واتخذ إلَها غيره علواً كبيرا.

نحمده بالحمد الذي ارتضاه من خلقه، وأوجب قبوله على نفسه، وأشهد أن لا الَه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شهادتان ترفعان القول وتضاعفان العمل، خف ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه، وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار، والجواز على الصراط، وبالشهادة تدخلون الجنة وبالصلاة تنالون الرحمة.

أكثروا من الصلاة على نبيكم: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.

أيها الناس: إنه لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجع من التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا وقاية أمنع من السلامة، ولا مال أذهب بالفاقة من الرضى بالقناعة، ولا كنز أغنى من القنوع ومن أقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة، وتبوء خفض الدعة.

والرغبة مفتاح التعب، والاحتكار مطية النصب، والحسد آفة الدين، والحرص داع الى التقحم في الذنوب، وهو داع للحرمان، والبغي سائق الى الحين، والشره جامع لمساوي العيوب.

رب طمع خائب وأمل كاذب، ورجاء يؤدي الى الحرمان، وتجارة تؤول الى الخسران.

ألا ومن تورط في الأمور غير ناظر في العواقب، فقد تعرض لمفضحات النوائب، وبئست القلادة قلادة الذنب للمؤمن.

٢٩٩

أيها الناس: إنه لا كنز أنفع من العلم، ولا عز أرفع من الحلم، ولا حسب أبلغ من الأدب، ولا نصب أوضع من الغضب، ولا جمال أزين من العقل، ولا سوءة أسوأ من الكذ ب، ولا حافظ أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.

أيها الناس: إنه من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي زلته استعظم زلل غيره، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط الأنذال حقر، ومن حمل ما لا يطيق عجز.

أيها الناس: إنه لا مال أعود من العقل، ولا فقر أشد من الجهل، ولا واعظ أبلغ من النصح، ولا عقل كالتدبير، ولا عبادة كالتفكر، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا وحشة أشد من العجب، ولا ورع كالكف عن المحارم، ولا حلم كالصبر والصمت.

أيها الناس: في الانسان عشر خصال يظهرها لسانه: شاهدٌ يخبر عن الضمير، حاكمٌ يفصل بين الخطاب، وناطقٌ يرد به الجواب، وشافعٌ يدرك به الحاجة، وواصفٌ يعرف به الأشياء، وأميرٌ يأمر بالحسن، وواعظٌ ينهى عن القبيح، ومعزٌ تسكن به الأحزان، وحاضرٌ تجلى به الضغائن، ومونقٌ تلتذ به الأسماع.

أيها الناس: إنه لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل. واعلموا أيها الناس إنه من لم يملك لسانه يندم، ومن لا يعلم يجهل، ومن لا يتحلم لا يحلم، ومن لا يرتدع لا يعقل، ومن لا يعقل يهن، ومن يهن لا يوقر، ومن لا يوقر يتوبخ، ومن يكتسب مالاً من غير حقه يصرفه في غير أجره، ومن لا يدع وهو محمود يدع وهو مذموم، ومن لم يعط قاعداً منع قائماً، ومن يطلب العز بغير حق يذل، ومن يغلب بالجور يغلب، ومن عاند الحق لزمه الوهن، ومن تفقه وقر، ومن تكبر حقر، ومن لا يحسن لا يحمد.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الآيات

( قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) )

التّفسير

الموعظة والنصيحة :

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الإيمان يجب أن يكون اختياريا لا بالجبر والإكراه ، ولهذا فإن الآية الأولى هنا ترشد الناس إلى الإيمان الاختياري ، وتخاطب النّبي فتقول :( قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ؟

إن كل هذه النجوم اللامعة والكواكب السماوية المختلفة التي يدور كل منها في مداره ، وهذه المنظومات الكبيرة والمجرات العملاقة ، وهذا النظام الدقيق الحاكم على كل تلك الكواكب ، وكذلك هذه الكرة الأرضية بكل عجائبها واسرارها ، وكل هذه الكائنات الحية المتنوعة المختلفة تدل بالتمعن في دقائق صنعها والتدبّر في

٤٤١

نظامها على المبدأ الأزلي للعالم. وستتعرفون أكثر على خالق هذه الكائنات.

إنّ هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإرادة ، فهي تقول : إنّ الإيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة ، أي إنّ هذا الأمر في اختياركم.

ثمّ تضيف أنّه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالّة على الحق ، فلا داعي للعجب من عدم إيمان البعض ، لأنّ الآيات والدلالات والإنذارات تنفع الذين لهم الاستعداد لتقبل الحق ، أمّا هؤلاء فإنّه( وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) (١) .

إنّ هذه الجملة إشارة إلى الحقيقة التي قرأناها مرارا في القرآن ، وهي أن الدلائل وكلمات الحق والمواعظ لا تكفي لوحدها ، بل إنّ الأرضية المستعدة شرط أيضا في حصول النتيجة.

ثمّ تقول ـ بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والاستفهام ـ : هل ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون إلّا أن يروا مصيرا كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين السابقين الذين عمهم العقاب الإلهي. مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشدّاد وأعوانهم وأنصارهم؟!( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

وتحذرهم الآية أخيرا فتقول : يا أيّها النّبي( قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق ، ونحن بانتظار المصير المشؤوم الذي ستلاقونه ، مصير المتكبرين الماضين.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الاستفهام في جملة( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ ) استفهام إنكاري ، أي إنّ هؤلاء بطبيعة سلوكهم هذا لا يمكن أن ينتظروا إلّا حلول مصير مشؤوم

__________________

(١) نذر جمع نذير ، أي المنذر ، وهو كناية عن الأنبياء والقادة الإلهيين ، أو هي جمع إنذار ، بمعنى تحذير وتهديد الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإلهيين.

وقد اعتبر البعض (ما) جملة ( ما تُغْنِي الْآياتُ ) نافية ، والبعض جعلها بمعنى الاستفهام الإنكاري ، وهي واحدة من حيث النتيجة ، إلّا أنّ الظاهر أن (ما) نافية.

٤٤٢

مظلم.

كلمة (أيّام) وإن كانت في اللغة جمع يوم ، إلّا أنّها هنا تعني الحوادث المهلكة التي وقعت للأقوام والأمم السالفة.

ومن أجل أن لا يتوهم متوهم أنّ الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح ، تضيف الآية : إننا إذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة ، نقوم بانقاذ عبادنا الصالحين :( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) .

ثمّ تقول في النهاية : إنّ هذا ليس مختصا بالأمم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين ، بل( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) إنّ جملة( كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) كانت بهذا المعنى : كذلك ننج المؤمنين وكان ذلك حقّا علينا ، أي إنّ جملة (حقا علينا) جملة معترضة بين (كذلك) و (ننج المؤمنين). ويحتمل أيضا أن تكون (كذلك) متعلقة بالجملة السابقة ، أي جملة( نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ) .

٤٤٣

الآيات

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) )

التّفسير

الحزم في التّعامل مع المشركين :

هذه الآيات والآيات التي تليها ، هي آخر آيات هذه السورة ، وتتحدث جميعا حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إلى الحق ، وهي في الحقيقة فهرست أو خلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت

٤٤٤

مرارا في هذه السورة.

إنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحيانا أن من الممكن أن يلين النّبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئيا إلى جانب الإعتقاد بالله بنحو من الأنحاء.

إلّا أنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم أحلامهم هذه إلى الأبد ، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام ، ولا معبود إلّا الله، لا تزيد كلمة ولا تنقص أخرى.

ففي البداية يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب جميع الناس :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) ولا تكتفي الآية بنفي آلهة أولئك ، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول :( وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ) . ومن أجل تأكيد أكبر تضيف : أنّ هذه ليست إرادتي فقط ، بل( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

إنّ التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله ، أمّا لأنّ الإنسان إذا كان يشك في كل شيء فإنّه لا يستطيع أن يشك في الموت ، أو لأنّ هذه الآية أرادت أن تنبه هؤلاء إلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إليها في الآيات السابقة ، ولوحت بالتهديد بالغضب الإلهي.

وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة ، تطرقت إلى بيان دليل ذلك ، دليل من الفطرة. ودليل من العقل :( وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) وهنا أيضا لم يكتف بجانب الإثبات ، بل نفي الطرف المقابل لتأكيد الأمر ، فقالت الآية :( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

«الحنيف» ـ كما قلنا سابقا ـ تعني : الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الانحراف إلى جادة الصواب والاستقامة ، وبتعبير آخر : يغض الطرف عن المذاهب والأفكار المنحرفة ، ويتوجه إلى دين الله المستقيم ، ذلك الدين الموافق

٤٤٥

للفطرة موافقة كاملة ومستقيمة. وبناء على هذا فإنّ هذا التعبير يستبطن الإشارة إلى كون التوحيد فطريا في الأعماق ، لأنّ الانحراف شيء خلاف الفطرة ، (فتدبّر).

وبعد الإشارة إلى بطلان الشريك بالدليل الفطري ، تشير إلى دليل عقلي واضح ، فتقول :( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ) إذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.

أي عقل يسمح أن يتوجه الإنسان لعبادة أشياء وموجودات لا تضر ولا تنفع أبدا ، ولا يمكن أن يكون لها أدنى أثر في مصير الإنسان؟

وهنا أيضا لم تكتف الآية بجانب النفي ، بل إنّها توكّد إضافة إلى النفي على جانب الإثبات فتقول :( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ) ، وكذلك( وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) لأنّ عفوه ورحمته وسعت كل شيء( وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

٤٤٦

الآيتان

( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩) )

التّفسير

الكلمة الأخيرة :

هاتين الآيتين تضمّنت إحداهما موعظة ونصيحة لعامّة الناس ، واختصت الثّانية بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بيّنها الله سبحانه على مدى هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس.

فتقول أوّلا ، وكقانون عام :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) هذه التعليمات ، وهذا الكتاب السماوي ، وهذا الدين ، وهذا النّبي كلها حق ، والأدلّة على كونها حقّا واضحة ، وبملاحظة هذه الحقيقة :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ) .

أي إنّي لست مأمورا بإجباركم على قبول الحق ، لأن الإجبار على قبول

٤٤٧

الإيمان لا معنى له ، ولا أستطيع إذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإلهي ، بل إنّ واجبي ومسئوليتي هي الدعوة والإبلاغ والإرشاد والهداية والقيادة ، أمّا الباقي فيتعلق بكم ، وعليكم انتخاب طريقكم.

إنّ هذه الآية إضافة إلى أنّها توكّد مرّة أخرى مسألة الإختيار وحرية الإرادة ، فإنّها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإنسان نفسه بالدرجة الأولى ، كما أن مخالفته ستكون في ضرره.

إنّ توجيهات القادة الإلهيين والكتب السماوية ما هي في الواقع إلّا دروس لتربية وتكامل البشر ، فلا يزيد الالتزام بها شيئا على عظمة الله ، ولا تنقص مخالفتها من جلاله شيئا.

ثمّ تبيّن وظيفة وواجب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جملتين : الأولى( وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ ) فإنّ الله قد حدّد مسيرك من خلال الوحي ، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه قيد أنملة.

والثّانية : إنّه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة ، فلا تدع للخوف من سيل المشاكل إلى نفسك طريقا ، بل( وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) فإنّ أمره حق ، وحكمه عدل ، ووعده متحقق لا محالة.

إلهنا ومولانا : إنّك وعدت عبادك الذين يجاهدون في سبيلك بإخلاص ، والذين يصبرون ويستقيمون في سبيلك بالنصر.

اللهم وقد أحاطت بالمسلمين مشاكل لا تحصى ، ونحن عبيدك الذين لا نتوقف عن الجهاد والاستقامة بمنك وتوفيقك ، فاكشف عنا سحب المشاكل المظلمة بلطفك ، وأنر أبصارنا بنور الحق والعدالة آمين يا رب العالمين.

نهاية سورة يونس

* * *

٤٤٨

سورة هود

مكيّة

وعدد آياتها مائة وثلاث وعشرون آيات

٤٤٩
٤٥٠

«سورة هودعليه‌السلام »

محتوى هذه السّورة وفضيلتها!

المشهور بين المفسّرين أنّ هذه السورة بأكملها نزلت بمكّة وطبقا لما ورد في «تاريخ القرآن» أنّها السورة التاسعة والأربعون في ترتيب السور النازلة على المرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وطبقا لما صرّح به بعض المفسّرين ـ أيضا ـ فإنّ هذه السورة نزلت في السنوات الأخيرة التي قضاها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ، أي بعد وفاة عمّه «أبي طالبعليه‌السلام » وزوجته «خديجةعليها‌السلام » وبطبيعة الحال فإنّ هذه السورة جاءت في فترة من أشد الفترات صعوبة في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان يعاني فيها من ضغوط الأعداء وأراجيفهم الإعلامية الحاقدة المسمومة أكثر ممّا عاناه في السنوات السابقة.

ولذلك يلاحظ في بداية السورة تعابير فيها جانب من التسلية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمؤمنين.

ويشكل القسم المهم والعمدة من آيات هذه السورة قصص الأنبياء الماضين وخاصّة قصّة نوح النّبيعليه‌السلام الذي انتصر بالفئة القليلة التي معه على الأعداء الكثيرين.

إنّ سرد هذه القصص فيه تسلية لخاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين معه وهم أمام الكم الهائل من الأعداء ، كما أنّ فيه درسا لمخالفيهم من الأعداء.

٤٥١

وعلى كل حال. فإنّ آيات هذه السورة ـ كسائر السور المكية ـ تتناول أصول «المعارف الإسلامية» ولا سيّما المواجهة مع الشرك وعبادة الأصنام ، ومسألة المعاد والعالم بعد الموت ، وصدق دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يبدو فيها تهديدا ضمنيا للأعداء ، وأمرا بالاستقامة للمؤمنين.

في هذه السورة ـ إضافة إلى قصّة نوح النّبي وجهاده العنيف التي ذكرت بتفصيل ـ إشارة إلى قصص الأنبياء هود وصالح وإبراهيم ولوط وموسى ومواقفهم الشجاعة بوجه الشرك والكفر والانحراف والظلم

شيبتني سورة هود!

إنّ آيات هذه السورة تقرر أن على المسلمين أن لا يتركوا السوح والميادين ـ في الحرب والسلم ـ لكثرة الأعداء ومواجهاتهم الحادة بل عليهم أن يواصلوا مسيرتهم ويستقيموا أكثر فأكثر ويوما بعد يوم

وعلى هذا فإنّنا نقرا في حديث معروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «شيبتني سورة هود»(١)

وفي حديث آخر أنّه حين لاحظ أصحاب النّبي آثار الشيب قبل أوانه على محيّاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : يا رسول الله ، تعجّل الشيب عليك. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «شيبتني سورة هود والواقعة»(٢) .

وفي روايات أخرى أضيف أيضا سورة المرسلات وسورة النبأ( عَمَّ يَتَساءَلُونَ ) وسورة التكوير وغيرها إلى هاتين السورتين.

ونقل عن ابن عباس في تفسير الحديث الشريف ـ آنف الذكر ـ أنّه ما نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية كان أشدّ عليه ولا أشق من آية( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٣٣٤.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية (١١٨) من تفسير سورة هود.

٤٥٢

مَعَكَ ) .

كما نقل عن بعض المفسّرين أنّ أحد العلماء رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فسأله عن سبب ما نقل عنه من قوله : «شيبتني سورة هود» أهو ما سلف من الأمم السابقة وهلاكها؟ فبيّن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن سببه آية( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) (١)

وعلى كل حال فإنّ هذه السورة ـ بالإضافة إلى هذه الآية ـ فيها آيات مؤثّرة أخرى تتعلق بيوم القيامة والمحاسبة في محكمة العدل الإلهي ، وآيات تتعلق بما ناله الأقوام السابقون من جزاء ، وما جاء مع بعضها من أوامر في الوقوف بوجه الفساد بحيث يحمل جميعها طابع المسؤولية فلا عجب إذا أن يشيب الإنسان عند ما يفكر في مثل هذه المسؤوليات مسألة دقيقة أخرى ينبغي الالتفات إليها في هذا المجال ، وهي أنّ كثيرا من هذه الآيات توكّد ما ورد في السورة السابقة ـ أي سورة يونس ـ وأوائلها بوجه خاص يشبه أوائل تلك السورة ومضامينها توكّد تلك المضامين.

التّأثير المعنوي لهذه السّورة :

أمّا بالنسبة لفضيلة هذه السورة ، فقد ورد في حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ هذه السورة أعطي من الأجر والثواب بعدد من صدّق هودا والأنبياءعليهم‌السلام ومن كذب بهم وكان يوم القيامة في درجة الشهداء وحوسب حسابا يسيرا»(٢) .

ومن الوضوح بمكان أنّ مجرّد التلاوة لا يعطي هذا الأثر ، وإنّما يكون هذا الأثر إذا كانت تلاوة هذه السورة مقرونة بالتفكر والعمل بعدها. وهذا هو الذي يقرّب الإنسان إلى المؤمنين السالفين ويبعده عن الذين أنكروا على الأنبياء وجحدوا دعواتهم ، وعلى هذا الأساس يثاب بعددهم ويعطي أجر كل واحد منهم ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

(٢) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

٤٥٣

ويكون هدفه كهدف شهداء تلك الأمم السالفة فلا مجال للتعجب من أن ينال درجاتهم ويحاسب حسابا يسيرا وينقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من كتب هذه السورة على رق ظبي ويأخذها معه أعطاه الله قوّة ، ومن يحارب معه لنصر عليهم وغلبهم وكلّ من رآه يخاف منه»(١) .

ولعل بعضا ممن يطلب الراحة وينظر الى الأمور بسطحيّة يتصوّر في قراءته لمثل هذه الأحاديث أنّ الإنسان يمكن أن يصل إلى مثل هذه الأهداف بمجرّد وجود الكتابة أو الرسم القرآني معه ، ولكنّه جلي وواضح أنّ المقصود بذلك العمل على طبق ما في السورة ، وأن يتخذها منهجا لحياته وأن يقرأها دائما ويمضي على العمل بها بحذافيرها ولا شك أنّ مثل هذا العمل تتحقق فيه مثل هذه الآثار أيضا ، لأنّ هذه السورة تأمر بالاستقامة والوقوف بوجه الفساد والانسجام مع الأهداف ، وتحتوي على التجارب السابقة من تأريخ الأمم السالفة التي يوجد في كلّ واحد منها درس من الإنتصار على العدوّ.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٠٦.

٤٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) )

التّفسير

الأصول الاربعة في دعوة الأنبياء :

تبدأ هذه السورة ـ كما في بداية السورة السابقة وسائر سور القرآن ـ ببيان أهمية الكتاب العزيز المنزل من السماء ، ليلتفت الناس إلى محتوياته أكثر ويتفكروا فيه بنظرة أدق.

وذكر الحروف المقطعة( الر ) ـ نفسه ـ دليل على أهمية هذا الكتاب السماوي العزيز الذي يتشكل من حروف بسيطة معروفة للجميع مثل الألف واللام والراء

٤٥٥

( الر ) (١) مع ما فيه من عظمة وإعجاز بالغين ، ثمّ يبيّن بعد هذه الحروف المقطعة واحدة من خصائص القرآن الكريم في جملتين.

أوّلا : إنّ جميع آياته متقنة ومحكمة( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ) .

وثانيا : إنّ تفصيل حاجات الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ـ مادية كانت أو معنوية ـ مبيّن فيها أيضا( ثُمَّ فُصِّلَتْ ) .

هذا الكتاب العظيم مع هذه الخصيصة ، من أين أنزل ، وكيف؟! أنزل من عند ربّ حكيم وخبير( مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) .

فبمقتضى حكمته أحكمت آيات القرآن ، وبمقتضى أنّه خبير مطلع بيّن آيات القرآن في مجالات مختلفة طبقا لحاجات الإنسان ، لأنّ من لم يطلع على تمام جزئيات الحاجات الروحية والجسمية للإنسان لا يستطيع أن يصدر احكاما جديرة بالتكامل.

الواقع ، إنّ كل واحدة من صفات القرآن التي جاءت في هذه الآية تسترفد من واحدة من صفات الله فاستحكام القرآن من حكمته ، وشرحه وتفصيله من خبرته.

وفي بيان ما هو الفرق بين( أُحْكِمَتْ ) و( فُصِّلَتْ ) بحث المفسّرون كثيرا وأبدوا احتمالات عديدة وأقرب هذه الاحتمالات ـ بحسب مفهوم الآية آنفة الذكر ـ هو أنّ الجملة الأولى تعني أنّ القرآن مجموعة واحدة مترابطة كالبنيان المرصوص الثابت ، كما تدل على أنّه نازل من إله فرد ، ولهذا فلا يوجد أي تضادّ في آياته ، ولا يرى بينها أي اختلاف.

والجملة الثّانية إشارة إلى أنّ هذا الكتاب في عين وحدته فيه شعب وفروع متعددة تستوفي جميع حاجات الإنسان الرّوحيّة والمادية ، فهو في عين وحدته

__________________

(١) شرحنا هذا المعنى وسائر التفاسير التي ذكرت للحروف المقطعة في القرآن في بداية سورة البقرة وآل عمران والأعراف.

٤٥٦

كثير ، وفي عين كثرته واحد!

وفي الآية التالية يبيّن أهم ما يحتويه القرآن وما هو أساسه وهو التوحيد والوقوف بوجه الشرك( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) (١) وهذا أوّل تفصيل لمحتوى هذا الكتاب العظيم.

والثّاني من محتويات الدعوة السماوية :( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) نذير لكم من الظلم والفساد والشرك والكفر ، وأحذركم من عنادكم وعقاب الله لكم!

وثالث ما في منهج دعوتي إليكم هو أن تستغفروا من ذنوبكم وتطهروا أنفسكم من الأدران :( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) .

ورابعها هو أن تعودوا إلى الله بالتوبة ، وأن تتصفوا ـ بعد غسل الذنوب والتطهر في ظل الاستغفار ـ بصفات الله ، فإنّ العودة إليه تعالى لا تعني إلّا الاقتباس من صفاته( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) .

في الواقع إنّ أربع مراحل من مراحل الدعوة المهمّة نحو الحق سبحانه بيّنت في أربع جمل وفي أربعة أقسام ، فقسمان يتضمنان الجانب «العقيدي» والأساسي. وقسمان يتضمنان الجانب «العملي» والفوقاني.

فقبول أصل التوحيد ومحاربة الشرك ، وقبول رسالة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصلان اعتقاديان ، والتطهّر من الذنوب والتخلّق بالصفات الإلهية ـ اللذان يحملان معنى البناء بتمام معناه ـ أمران عمليان حضّ عليهما القرآن ، وإذا تأملنا بدقّة في الآيات الكريمة وجدنا أن جميع محتوى القرآن يتلخص في هذه الأصول الأربعة

هذا هو الفهرس لجميع محتوى القرآن ، ولجميع محتوى هذه السورة أيضا.

ثمّ تبيّن الآيات النتائج العملية لموافقة هذه الأصول الأربعة أو مخالفتها بالنحو

__________________

(١) في جملة( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) احتمالان : الأوّل : إنّه على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما أشرنا إليه ـ والتقدير : دعوتي وأمري إلّا تعبدوا إلّا الله. والثّاني : أنّه كلام الله ، والتقدير : آمركم ألّا تعبدوا إلّا الله ، ولكن جملة( إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) تنسجم مع المعنى الأوّل.

٤٥٧

التالي( يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً ) فإذا عملنا بهذه الأصول فإنّ الله سبحانه يهبنا حياة سعيدة إلى نهاية العمر ، وفوق كل ذلك فإنّ كلا يعطى بمقدار عمله ولا يهمل التفاوت والتفاضل بين الناس في كيفية العمل بهذه الأصول( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ) وأمّا في صورة المخالفة والعناد فتقول الآية :( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ) حين تمثلون للوقوف في محكمة العدل الإلهي.

واعلموا أنّ( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ ) كائنا من كنتم ، وفي أي محل ومقام أنتم ، وهذه الجملة تشير إلى الأصل الخامس من الأصول التفصيليّة للقرآن وهي مسألة «المعاد والبعث» ولكن لا تتصوروا ـ أبدا ـ أن قدرتكم تعدّ شيئا تجاه قدرة الله ، أو أنّكم تستطيعون الفرار من أمره ومحكمة عدله ولا تتصوروا ـ أيضا ـ أنّه لا يستطيع أن يجمع عظامكم النخرة بعد الموت ويكسوها ثوبا جديدا من الحياة( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

علاقة الدين بالدنيا :

ما يزال الكثير يظنون أن التدين هو العمل لعمارة الآخرة والسعادة بعد الموت ، وأنّ الأعمال الصالحة هي الزاد والمتاع للدار الآخرة ولا يكترثون أبدا بأثر الدين الأصيل في الحياة الدنيا على حين أن الدين الصحيح في الوقت الذي يعمر الدار الآخرة يعمر «الدنيا» أيضا وطبيعي إذا لم يكن للدين أي تأثير على هذه الحياة الدنيا فلا تأثير له في الحياة الأخرى أيضا.

والقرآن الكريم يتعرض لهذا الموضوع بصراحة في آيات كثيرة ، وربّما يتناول أحيانا الجزئيات من هذه المسائل ، كما ورد في سورة نوحعليه‌السلام على لسان هذا النّبي العظيم مخاطبا قومه( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (١) .

__________________

(١) سورة نوح ، ٩ ـ ١١.

٤٥٨

ويفهم البعض أنّ صلة هذه المواهب المادية في الدنيا مع الاستغفار والتطهر من الذنوب معنوية وغير معروفة ، في حين أنّه لا دليل على ذلك ، بل الصلة بينهما ظاهرة معروفة.

فأي أحد لا يعلم أن الكذب والسرقة والفساد تهدم العلاقات الاجتماعية؟

وأي أحد لا يعلم أن الظلم والتبعيض والإجحاف تجعل من حياة الناس جحيما وتكدر صفوهم؟! وأيّ أحد يشك في حقيقة أن قبول أصل التوحيد وتكوين مجتمع توحيدي على أساس قيادة الأنبياء ، وتطهير المجتمع من الذنوب والآثام ، والتحلّي بالقيم الإنسانية ـ وهي الأصول الأربعة ذاتها التي أشير إليها في الآيات المتقدّمة ـ يسير بالمجتمع البشري نحو هدف تكاملي أفضل ، ويخلق محيطا آمنا عامرا بالصفاء والحرية والصلاح؟

وعلى هذا الأساس نقرأ بعد هذه الأصول الأربعة في الآيات المتقدمة قوله تعالى :( يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

* * *

٤٥٩

الآية

( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) )

التّفسير

اختلف بعض المفسّرين في شأن نزول الآية ، فقيل أنّها نزلت في أحد المنافقين واسمه «الأخنس بن شريق» الذي كان ذا لسان ذلق ومظهر جميل ، وكان يبدي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحب ظاهرا لكنّه كان يخفي العداوة والبغضاء في الباطن.

كما نقل عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام أنّها نزلت في جماعة من المشركين ، حيث كانوا حين يمرون بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يطأطئون برؤوسهم ويستغشون ثيابهم لئلا يراهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن الآية تشير ـ على العموم ـ إلى أحد الأساليب الحمقاء التي كان يتبعها أعداء الإسلام والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بالاستفادة من طريقة النفاق والابتعاد عن الحق ، فكانوا يحاولون أن يخفوا حقيقتهم وماهيتهم عن الأنظار لئلا يسمعوا قول الحق.

لذلك فإنّ الآية تقول :( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ) .

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608