الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261067 / تحميل: 6477
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تساق الإماء، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟! فمهلاً مهلاً! أنسيت قول الله عزّ وجلّ:( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) ؟

أمن العدل يابن الطُلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوهنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المنازل والمناهل(٢) ، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدَّنيّ والشريف، ليس معهنّ من رجالهنّ وليّ، ولا من حماتهنّ حميّ؟!

وكيف تُرتجى مراقبة مَنْ لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟! وكيف لا يُستبطأ في بُغضنا أهل البيت مَنْ نظر إلينا بالشنف(٣) والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثمّ تقول غير مُتأثّم ولا مستعظم:

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٧٨.

(٢) المناهل: جمع منهل، وهو موضع الشرب من العيون، والمراد من يسكن فيها. المعاقل: سكنة الحصون.

(٣) الشنف: البغض والعداء.

٣٠١

لأهَلّوا واستهلّوا فرحاً = ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَلْ

منتحياً على ثنايا أبي عبد الله (عليه السّلام) سيد شباب أهل الجنّة تنكتها بمخصرتك!

وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرّيّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب؟! وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم! فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شُللت وبُكمتَ ولم تكن قلتَ ما قلتَ، وفعلتَ ما فعلتَ. اللّهمّ خُذ بحقّنا، وانتقم ممّن ظلمنا، واحلل غضبك بمَنْ سفك دماءنا وقتل حماتنا.

فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك، ولا حززتَ إلاّ لحمك، ولتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيّته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، وحيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم،( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) .

وحسبك الله حاكماً، وبمحمّد (صلّى الله عليه وآله) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَنْ سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً!

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٣.

٣٠٢

ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النُجباء بحزب الشيطان الطلقاء! فهذه الأيدي تنطف(١) من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل(٢) ، وتعفّرها اُمّهات الفراعل(٣) . ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، وما ربّك بظلاّم للعبيد، فإلى الله المشتكى، وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحونّ ذكرنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فنداً، وأيّامك إلاّ عدداً، وجمعك إلاّ بدداً، يوم ينادي المناد: ألا لعنة الله على الظالمين.

فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن

____________________

(١) تنطف: أي تستوفي من دمائنا.

(٢) العواسل: جمع عاسل، وهو الذئب.

(٣) الفراعل: جمع فرعل، وهو ولد الضبع.

٣٠٣

علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل(١) .

وهذا الخطاب من متمّمات النهضة الحسينيّة، ومن روائع الخطب الثورية في الإسلام؛ فقد دمّرت فيه عقيلة بني هاشم وفخر النساء جبروت الاُموي الظالم يزيد، وألحقت به وبمَنْ مكّنه من رقاب المسلمين العار والخزي، وعرّفته عظمة الاُسرة النبويّة التي لا تنحني جباهها أمام الطغاة والظالمين.

وعلّق الإمام الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله: أتستطيع ريشة أعظم مصوّر وأبدع ممثل أن يمثّل لك حال يزيد وشموخه بأنفه، وزهوه بعطفه، وسروره وجذله باتّساق الاُمور، وانتظام الملك، ولذّة الفتح والظفر، والتشفّي والانتقام بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل؟!

وهل في القدرة والإمكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجّة والبيان والتقريع والتأنيب، ويبلغ ما بلغته (سلام الله عليها) بتلك الكلمات، وهي على الحال الذي عرفت، ثمّ لم تقتنع منه بذلك حتّى أرادت أن تمثّل له وللحاضرين عنده ذلّة الباطل، وعزّة الحقّ، وعدم الاكتراث واللامبالاة بالقوم والسلطة والهيبة والرهبة؟! أرادت أن تعرّفه خسّة طبعه، وضعة مقداره، وشناعة فعله، ولؤم فرعه وأصله(٢) .

ويقول المرحوم الفكيكي: تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة وأساليب الفصاحة وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة وقوّة الاحتجاج وحجّة المعارضة، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة! بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنّة في الحشا والمهج في مواطن القتال ومجالات النزال.

وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف

____________________

(١) أعلام النساء ٢ / ٥٠٤، بلاغات النساء / ٢١، حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٧٨ - ٣٨٠.

(٢) السياسة الحسينيّة / ٣٠.

٣٠٤

الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني اُميّة وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.

ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال، وفي كلّ ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة(١) .

محتويات الخطاب

وحلّلنا محتويات خطاب العقيلة في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، وننقله لما فيه من مزيد الفائدة، وهذا نصّه: وكان هذا الخطاب العظيم امتداداً لثورة كربلاء، وتجسيداً رائعاً لقيمها الكريمة وأهدافها السامية، وقد حفل بما يلي:

أولاً: إنّها دلّلت على غرور الطاغية وطيشه؛ فقد حسب أنّه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكريّة التي ملأت البيداء، وسدّت آفاق السماء، إلاّ أنّه انتصار مؤقّت. ومن طيشه أنّه حسب أنّ ما أحرزه من الانتصار كان لكرامته عند الله تعالى، وهوان لأهل البيت (عليهم السّلام)، ولم يعلم أنّ الله إنّما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً، ولهم في الآخرة عذاب أليم.

ثانياً: إنّها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي، فلم يرعَ فيهم قرابتهم لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو الذي منَّ عليهم يوم فتح مكة فكان أبوه وجدّه من الطلقاء، فلم يشكر للنبي (صلّى الله عليه وآله) هذه اليد، وكافئه بأسوأ ما تكون المكافئة.

ثالثاً: إنّ ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فإنّه مدفوع بذلك؛

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٨١.

٣٠٥

بحكم نشأته ومواريثه، فجدّته هند هي التي لاكت كبد سيّد الشهداء حمزة، وجدّه أبو سفيان العدوّ الأول للإسلام، وأبوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين، وانتهك جميع ما حرّمه الله، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.

رابعاً: إنّها أنكرت عليه ما تمثّل به من الشعر الذي تمنّى فيه حضور شيوخه الكفرة من الاُمويِّين؛ ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (صلّى الله عليه وآله) بإبادته لأبنائه، إلاّ أنّه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.

خامساً: إنّ الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلاّ دمه، ولم يفرِ إلاّ جلده؛ فإنّ تلك النفوس الزكية حيّة وخالدة، وقد تلفّعت بالكرامة، وبلغت قمّة الشرف، وإنّه هو الذي باء بالخزي والخسران.

سادساً: إنّما عرضت إلى مَنْ مكّن الطاغية من رقاب المسلمين، فهو المسؤول عمّا اقترفه من الجرائم والموبقات، وقد قصدت (سلام الله عليها) مغزى بعيداً يفهمه كلّ مَنْ تأمّل فيه.

سابعاً: إنّها أظهرت سموّ مكانتها وخطر شأنها؛ فقد كلّمت الطاغية بكلام الأمير والحاكم؛ فاستهانت به، واستصغرت قدره، وتعالت عن حواره، وترفّعت عن مخاطبته، ولم تحفل بسلطانه. لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألمّ بها من المصائب أعظم قوّة وأشدّ بأساً منه.

ثامناً: إنّها عرضت إلى أنّ يزيد مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت (عليهم السّلام)، فإنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأنّهم مع الحقّ، والحقّ لا بدّ أن ينتصر. وفعلاً فقد انتصر الإمام الحسين (عليه السّلام)، وتحوّلت مأساته إلى مجد لا يبلغه أيّ إنسان كان، فأيّ نصر أحقّ بالبقاء وأجدر بالخلود من النصر الذي أحرزه الإمام (عليه السّلام)؟

هذا قليل من كثير ممّا جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان، وهي إحدى الضربات التي أدّت إلى

٣٠٦

انهيار الحكم الاُموي(١) .

جواب يزيد (لعنه الله)

ولم يستطع الطاغية الجواب على خطاب العقيلة (عليها السّلام)؛ فقد انهار كبرياؤه وغروره، وتمثّل ببيت من الشعر وهو:

يا صيحةً تُحمدُ من صوائحْ = ما أهون الموت على النوائحِ

ولا توجد أيّة مناسبة بين ذلك الخطاب الثوري الذي أبرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد وجرّدته من جميع القيم والمبادئ الإنسانيّة، وبين هذا البيت من الشعر الذي حكى أنّ الصيحة تحمد من الصوائح، وأنّ النوح يهون على النائحات، فأيّ ربط موضوعي بين الأمرين.

اضطراب الطاغية (لعنه الله)

وتلبّدت الأجواء السياسيّة على الطاغية، وحار في أمره؛ فقد فضحته العقيلة بخطابها الخالد، وجرّدته من السلطة الشرعيّة، وأخذت الأوساط الشعبيّة في دمشق تتحدّاه وتنقم عليه جريمته النكراء بإبادته لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ فأخذ يلتمس له المعاذير، فقال لأهل الشام: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل، وما الذي أوقعه فيما وقع؟

- لا.

- يزعم أن أباه خير من أبي، واُمّه فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي، وأنّه

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٨٢ - ٣٨٣.

٣٠٧

خير منّي وأحقّ بهذا الأمر.

فأمّا قوله: أبوه خير من أبي؛ فقد حاجّ أبي أباه إلى الله عزّ وجلّ، وعلم الناس أيّهما حكم له؛ وأمّا قوله: اُمّه خير من اُمّي، فلعمري إنّ فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خير من اُمي؛ وأمّا قوله: جدّه خير من جدّي، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر وهو يرى أنّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فينا عدلاً ولا ندّاً، ولكنّه إنّما أتى من قلّة فقهه، ولم يقرأ قوله تعالى:( وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ) (١) .

لقد حسب الخبيث أنّ منطق الفضل عند الله تعالى إنّما هو الظفر بالملك والسلطان، فراح يبني تفوّقه على الإمام (عليه السّلام) بذلك، ولم يعلم أنّ الله تعالى لا يرى للملك أيّ قيمة؛ فإنّه يهبه للبرّ والفاجر.

لقد تخبّط الطاغية وراح يبني مجده الكاذب على تغلّبه وقهره لسبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد خاب فكره وضلّ سعيه؛ فقد انتصر الإمام (عليه السّلام) في ثورته انتصاراً لم يحرزه أيّ فاتح على وجه الأرض، فها هي الدنيا تعجّ بذكره، وها هو حرمه يطوف به المسلمون كما يطوفون ببيت الله تعالى، وليس هناك ضريح على وجه الأرض أعزّ ولا أرفع من ضريح أبي الأحرار، فكان حقّاً هذا هو النصر والفتح.

العقيلة (عليها السّلام) مع الشامي ويزيد (لعنه الله)

ونظر شخص من أهل الشام إلى السيدة الزكية فاطمة بنت الإمام الحسين (عليه السّلام) فقال ليزيد: هب لي هذه الجارية لتكون خادمة عندي.

وقد ظنّ أنّها من الخوارج فيحق له أن تكون خادمة عنده، ولمّا سمعت العلوية ذلك سرت الرعدة بأوصالها، وأخذت بثياب عمّتها مستجيرة بها، فانبرت العقيلة (عليها السّلام) وصاحت بالرجل:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٦، سورة البقرة / ٢٤٧.

٣٠٨

كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا لأميرك.

واستشاط الطاغية غضباً من استهانة العقيلة به وتحدّيها لشأنه، فقال لها: كذبت، إنّ ذلك لي، ولو شئت لفعلت.

فنهرته العقيلة (عليها السّلام) ووجّهت له سهاماً من منطقها الفياض قائلة: كلاّ والله ما جعل لك ذلك، إلاّ أن تخرج من ملّتنا، وتدين بغير ديننا.

وفقد الطاغية إهابه؛ فقد أهانته أمام الطغمة من أهل الشام، فصاح بالحوراء: إياي تستقبلين بهذا! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.

ولم تحفل العقيلة (عليها السّلام) بسلطانه ولا بقدرته على البطش والانتقام، فردّت عليه بثقة: بدين الله ودين أبي وجدّي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً.

وأزاحت العقيلة بهذا الكلام الذي هو أشدّ من الصاعقة الستار الذي تستّر به الطاغية من أنّ الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السّلام) من الخوارج؛ فقد استبان لأهل الشام أنّهم ذرّية رسول الله، وأنّ يزيد كاذب بادّعائه.

وصاح الرجس الخبيث بالعقيلة: كذبتِ يا عدوّة الله.

ولم تجد العقيلة (عليها السّلام) جواباً تحسم به مهاترات الطاغية، غير أن قالت: أنت أمير مسلّط، تشتم ظلماً، وتقهر بسلطانك.

وتهافت غضب الطاغية وأطرق برأسه إلى الأرض، فأعاد الشامي كلامه إلى يزيد طالباً منه أن تكون بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خادمة عنده، فصاح به يزيد: وهب الله لك حتفاً قاضياً(١) .

لقد احتفظت عقيلة الوحي بقواها الذاتية، وإرادتها الواعية الصلبة التي

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٥.

٣٠٩

ورثتها من جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقابلت الطاغية بهذا الكلام المشرّف الذي حقّقت به أعظم الانتصار.

يقول بعض الكتاب: وقد حقّقت زينب (سلام الله عليها) - وهي في ضعفها واستكانتها - أوّل نصر حاسم على الطغاة وهم في سلطانهم وقوّتهم؛ فقد أفحمته المرّة بعد المرّة، وقد أظهرت للملأ جهله، كما كشفت عن قلّة فقهه في شؤون الدين؛ فإنّ نساء المسلمين لا يصحّ مطلقاً اعتبارهنَّ سبايا ومعاملتهنَّ معاملة السبي في الحروب(١) .

وأكبر الظنّ أن كلام الشامي كان فاتحة انتقاد ليزيد، وبداية لتسرّب الوعي عند الشاميّين؛ وآية ذلك أنّه لم يكن الشامي بليداً إلى هذا الحدّ؛ فقد كان يكفيه ردّ الحوراء عليه وعلى يزيد، ومقابلتها ليزيد بالعنف الذي أخرجته من ربقة الإسلام إن استجاب لطلب الشامي، وهذا ممّا يشعر أنّ طلبه كان مقصوداً لأجل فضح يزيد.

النياحة على الحسين (عليه السّلام)

وطلبنَ عقائل الوحي من الطاغية أن يفرد لهنَ بيتاً ليقمنَ فيه مأتماً على سيّد الشهداء (عليه السّلام)؛ فقد نخز الحزن قلوبهنَّ، فلم يكن بالمستطاع أن يبدينَ ما ألمّ بهنّ من عظيم الأسى؛ خوفاً من الجلاوزة الجفاة الذين جهدوا على منعهنَّ من البكاء على أبي عبد الله (عليه السّلام).

يقول الإمام زين العابدين (عليه السّلام):«كلّما دمعت عين واحد منّا قرعوا رأسه بالرمح» .

واستجاب يزيد لذلك، فأفرد لهنَّ بيتاً، فلم تبقَ هاشمية ولا قرشيّة إلاّ لبسنَ السواد حزناً على الحسين (عليه السّلام). وخلدنَ بنات الرسالة إلى النياحة سبعة أيام، وهنّ يندبنَ سيّد الشهداء (عليه السّلام) بأقسى ما تكون الندبة، وينحنَ على الكواكب من نجوم آل عبد المطلب،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٩٠.

٣١٠

وقد اهتزت الأرض من كثرة نياحهنَّ وبكائهنَّ(١) .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ما عانته سيدة النساء زينب (عليها السّلام) من المصائب في دمشق.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٣٩٢.

٣١١

٣١٢

إلى يثرب

ولم تمكث سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) زمناً كثيراً في دمشق؛ فقد خشي الطاغية من وقوع الفتنة ووقوع ما لا تحمد عقباه؛ فقد أحدث خطاب العقيلة زينب (عليها السّلام) وخطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) انقلاباً فكرياً في جميع الأوساط الشعبيّة والأندية العامة، وأخذ الناس يتحدّثون عن زيف وكذب الدعاية الاُمويّة من أنّ السبايا من الخوارج، وإنّما هم من صميم الاُسرة النبويّة.

وقد جوبه يزيد بالنقد حتّى في مجلسه، ونقم عليه القريب والبعيد، وقد رأى الطاغية أن يسرع في ترحيل مخدّرات الرسالة إلى يثرب ليتخلّص ممّا هو فيه، وقبل ترحيلهم أمر بأنطاع من الأبريسم ففرشت في مجلسه، وصبّ عليها أموالاً كثيرة وقدّمها لآل البيت (عليهم السّلام)؛ لتكون دية لقتلاهم وعوضاً لأموالهم التي نُهبت في كربلاء، وقال لهم: خذوا هذا المال عوض ما أصابكم.

والتاعت مخدّرات الرسالة، فانبرت إليه العقيلة اُمّ كلثوم - وأكبر الظنّ أنّها زينب (عليها السّلام) - فصاحت به: ما أقلّ حياءك وأصلف وجهك! تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم!

وقالت السيدة سكينة: والله، ما رأيت أقسى قلباً من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شرّاً منه،

٣١٣

ولا أجفا منه!(١) .

وباء الطاغية بالفشل؛ فقد حسب أنّ أهل البيت (عليهم السّلام) تغريهم المادة، ولم يعلم أنّهم من صنائع الله؛ فقد أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

السفر إلى يثرب

وعهد الطاغية إلى النعمان بن بشير أن يصحب ودائع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب ويقوم برعايتهنَّ(٢) ، كما أمر بإخراجهنّ ليلاً من دمشق؛ خوفاً من الفتنة واضطراب الرأي العام(٣) .

وصول النبأ إلى يثرب

وانتهى نبأ الكارثة الكبرى بمقتل سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى يثرب قبل وصول السبايا إليها، وقد حمل النبأ عبد الملك السلمي إليها بأمر من ابن مرجانة، وقد وافى به عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة، فاهتزّ فرحاً وسروراً، وقال: واعية بواعية عثمان(٤) .

وأمر بإذاعة ذلك بين الناس، فهرعوا وقد علاهم البكاء نحو الجامع النبوي،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٤١٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٠٠.

(٣)(٤) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٤١٦.

٣١٤

وأسرع الأشدق إلى الجامع فاعتلى أعواد المنبر، وأظهر أحقاده وسروره بمقتل سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فقال: أيّها الناس، إنّها لدمة بلدمة، وصدمة بصدمة، كم خطبة بعد خطبة، حكمة بالغة فما تُغني النذر، لقد كان يسبّنا ونمدحه، ويقطعنا ونصله، كعادتنا وعادته، ولكن كيف نصنع بمَنْ سلّ سيفه علينا يريد قتلنا إلاّ أن ندفعه عن أنفسنا؟

وقطع عليه عبد الله بن السائب خطابه، فقال له: لو كانت فاطمة حيّة ورأت رأس الحسين لبكت عليه.

وكان هذا أوّل نقد يُجابه به حاكم المدينة، فصاح به: نحن أحقّ بفاطمة منك؛ أبوها عمّنا، وزوجها أخونا، واُمّها ابنتنا، ولو كانت فاطمة حيّة لبكت عليه، وما لامت مَنْ قتله(١) . لقد زعم الأشدق أنّ سيدة النساء فاطمة (عليها السّلام) لو [رأت] رأس عزيزها لما لامت قاتله، ولباركته؛ لأنّ في ذلك دعماً لحكم الاُمويِّين، وتشييداً لعروشهم، وبسطاً لسلطانهم الذي حمل جميع الاتجاهات الجاهليّة.

إنّ سيدة النساء لو كانت حيّة ورأت فلذة كبدها في عرصات كربلاء وهو يعاني من الخطوب والكوارث التي لم تجرِ على أيّ إنسان منذ خلق الله الأرض لذابت نفسها حسرات. وقد روى عليّ (عليه السّلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:«تُحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم ولدها، فتتعلّق بقائمة من قوائم العرش، فتقول: يا عدل، احكم بيني وبين قاتل ولدي. فيحكم

____________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) - المقرّم / ٤١٧.

٣١٥

لابنتي وربّ [الكعبة] (*) » (١) .

ويقول الشاعر:

لا بدّ أن تردَ القيامةَ فاطمٌ = وقميصها بدمِ الحسينِ ملطّخُ

فجيعة بني هاشم

وفُجع الهاشميون بقتل زعيمهم، وعلا الصراخ والعويل من بيوتهم، وخرجت السيدة زينب بنت عقيل ناشرة شعرها وهي تصيح: وا محمداه! وا حسيناه! وا إخوتاه! وا اُهيلاه! وجعلت تخاطب المسلمين قائلة:

ماذا تقولونَ إذ قالَ النبي لكمْ = ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأُممِ

بعترتي و بأهلي بعدَ مفتقدي = منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ

ما كانَ هذا جزائي إذ نصحتُ لكمْ = أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فأجابها أبو الأسود وهو غارق في البكاء يقول:( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، وعلاه الجزع وراح يقول:

أقولُ وزادني حنقاً وغيظاً = أزالَ اللهُ ملكَ بني زيادِ

وأبعدهم كما بعدوا وخافوا = كما بعدت ثمودُ وقومُ عادِ

ولا رجعت ركائبهم إليهمْ = إذا وقفت إلى يومَ التنادِ(٢)

____________________

(*) وردت المفردة هنا (وربِّ الجنة)، وهي مخالفة لجميع ما أوردته المصادر الاُخرى التي ذكرت ما أثبتناه، ولعله من خطأ النساخ.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

(١) الصراط السوي في مناقب آل النبي (صلّى الله عليه وآله) / ٩٣.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٩٩، المعجم الكبير - الطبراني ١ / ١٤٠.

٣١٦

مأتم عبد الله بن جعفر

وأقام عبد الله بن جعفر زوج العقيلة زينب (عليها السّلام) مأتماً على ابن عمّه سيّد شباب أهل الجنّة، وجعل الناس يفدون عليه زرافات ووحداناً وهم يعزّونه بمصابه الأليم، وكان عنده بعض مواليه يُسمّى أبا السلاسل، فأراد أن يتقرّب إليه؛ لأنّ عبد الله قد استشهد ولداه مع الإمام الحسين (عليه السّلام)، فقال: ماذا لقينا من الحسين؟!

ولمّا سمع ابن جعفر مقالته حذفه بنعله، وقال له: يابن اللخناء، تقول ذلك في الحسين! والله لو شهدته لأحببت أن لا اُفارقه حتّى اُقتل معه، والله إنّه لما يُسخى بنفسي عن ولدي، ويهونّ عليّ المصاب بهما أنّهما اُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسين له صابرين معه.

وأقبل على حضّار مجلسه فقال لهم: الحمد لله، لقد عزّ عليّ المصاب بمصرع الحسين أن لا أكون واسيته بنفسي، فقد واساه ولداي(١) .

رأس الإمام (عليه السّلام) في المدينة

وأرسل الطاغية يزيد رأس ريحانة رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة إلى المدينة المنوّرة؛ لإشاعة الرعب والخوف والقضاء على كلّ حركة ضدّه، وجيء بالرأس الشريف إلى عمرو بن سعيد الأشدق حاكم المدينة، فأنكر ذلك وقال: وددت والله أنّ أمير المؤمنين لم يبعث إلينا برأسه.

وكان في مجلسه الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم، فهزأ منه وقال:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٧.

٣١٧

بئس ما قلت! هاته.

وأخذ مروان رأس الإمام وهو جذلان مسرور، وجعل يهزّ أعطافه بشراً وسروراً، ويقول بشماتة:

يا حبّذا بردُكَ في اليدينِ = ولونُكَ الأزهرُ في الخدينِ

وجيء برأس الإمام (عليه السّلام) فنصب في جامع الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وهرعنّ نساء آل أبي طالب إلى القبر الشريف بلوعة وبكاء، فقال مروان:

عجّت نساءُ بني زبيد عجةً = كعجيجِ نسوتنا غداةَ الأرنبِ

وجعل مروان يبدي سروره، وهو يقول: والله لكأنّي أنظر إلى أيام عثمان(١) . ثمّ التفت إلى قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) فخاطبه: يا محمّد، يوم بيوم بدر(٢) .

لقد ظهرت الأحقاد الاُمويّة بهذا الشكل الذي ينمّ عن جاهليّتهم وكفرهم، وأنّهم لم يؤمنوا بالإسلام طرفة عين.

السبايا في كربلاء

وطلب سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) من الوفد الموكّل بحراستهم أن يعرّج بهم إلى كربلاء ليجدّدوا عهداً بقبر سيد الشهداء، ولبّى الوفد طلبتهم فانعطفوا بهم إلى كربلاء، وحينما انتهوا إليها استقبلنَ السيدات قبر الإمام أبي عبد الله بالصراخ والعويل، وسالت الدموع منهنَّ كلّ مسيل، وقضينَ ثلاثة أيام في كربلاء، ولم تهدأ لهنَّ عبرة

____________________

(١) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان ٥ / ١٠١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٢.

٣١٨

حتى بُحّت أصواتهنَّ، وتفّتت قلوبهنَّ، وخاف الإمام زين العابدين (عليه السّلام) على عمّته زينب (عليها السّلام) وباقي العلويات من الهلاك، فأمرهنَّ بالسفر إلى يثرب، فغادرنَ كربلاء بين صراخ وعويل(١) .

إلى يثرب

واتّجه موكب أُسارى أهل البيت (عليهم السّلام) إلى يثرب، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء، وقد غامت عيون بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالدموع وهنَّ ينحنَ ويندبنَ قتلاهنّ، ويذكرنَ بمزيد من اللوعة ما جرى عليهنَّ من الذلّ.

وكانت يثرب قبل قدوم السبايا إليها ترفل في ثياب الحزن على اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد توفّيت بعد قتل الحسين (عليه السّلام) بشهر كمداً وحزناً عليه(٢) .

نعي بشر للإمام (عليه السّلام)

ولمّا وصل الإمام زين العابدين (عليه السّلام) بالقرب من المدينة نزل وضرب فسطاطه، وأنزل العلويات، وكان معه بشر بن حذلم، فقال له:«يا بشر، رحم الله أباك لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟» .

- بلى يابن رسول الله.

-«فادخل المدينة وانع أبا عبد الله» .

وانطلق بشر إلى المدينة، فلمّا انتهى إلى الجامع النبوي رفع صوته مشفوعاً بالبكاء قائلاً:

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٤٢٢.

(٢) اللهوف / ١١٦.

٣١٩

يا أهلَ يثربَ لا مقامَ لكم بها = قُتلَ الحسينُ فأدمعي مدرارُ

ألجسمُ منهُ بكربلاء مُضرّجٌ = و الرأسُ منهُ على القناةِ يُدارُ

وهرعت الجماهير نحو الجامع النبوي وهي ما بين نائح وصائح تنتظر من بشر المزيد من الأنباء، وأحاطوا به قائلين: ما النبأ؟

- هذا علي بن الحسين مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم، وأنا رسوله إليكم اُعرّفكم مكانه.

وعجّت الجماهير بالبكاء، ومضوا مسرعين لاستقبال آل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي برّ بدينهم ودنياهم، وساد البكاء وارتفعت أصوات النساء بالعويل، وأحطنَ بالعلويات، كما أحاط الرجال بالإمام زين العابدين (عليه السّلام) وهم غارقون بالبكاء، فكان ذلك اليوم كاليوم الذي مات فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

خطاب الإمام زين العابدين (عليه السّلام)

وخطب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) خطبة مؤثرة تحدّث فيها عمّا جرى على آل البيت (عليهم السّلام) من القتل والتنكيل والسبي والذلّ، ولم يكن باستطاعة الإمام (عليه السّلام) أن يقوم خطيباً؛ فقد أحاطت به الأمراض والآلام، فاستدعى له بكرسي فجلس عليه، ثمّ قال:«الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السموات العُلا، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الاُمور، وفجائع الدهور، وألم الفواجع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة، الفادحة الجائحة.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

ه ـ سفينة النجاة :

لا يمكن الخلاص من أي طوفان دون سفينة النجاة ، وليس شرطا أن تكون هذه السفينة من الخشب والحديد ، بل ما أحسن أن تكون هذه السفينة دينا يقوّم السلوك ويهب الحياة الطيبة ويقاوم أمام أمواج طوفان الانحراف الفكري ، ويوصل أتباعه إلى ساحل النجاة.

وعلى هذا الأساس وردت روايات كثيرة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مصادر الشيعة والسنة تعبر عن أهل بيته ـ وهم الأئمّة الطاهرون وحملة الإسلام ـ بأنّهم «سفينة النجاة».

يقول حنش بن المغيرة وأبو ذرّ آخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول : أنا أبو ذر الغفاري ، من لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا»(١) .

وفي بعض الرّوايات أضيف إليها هذا النص «ومن تخلف عنها غرق»(٢) أو «من تخلف عنها هلك»(٣) .

هذا الحديث الشريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن بصراحة أنّه حين يطغى الطوفان الفكري والعقائدي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، فإنّ طريق النجاة الوحيد هو الالتجاء إلى مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون المذهب التي اصطنعتها السلطات السابقة والتي لا علاقة لها بأهل البيتعليهم‌السلام .

* * *

__________________

(١) عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ٢١١.

(٢) المعجم الكبير بخط الحافظ الطبراني ، صفحة ٣٠ مخطوط.

(٣) المصدر نفسه عن جماعة من أهل السنة كابن المغازلي والخوارزمي ، الجزء التاسع من أحقاف الحق ، ص ٢٨٠ لمزيد الإيضاح جديدة.

٥٤١

الآية

( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) )

التّفسير

نهاية الحادث :

قرأنا في الآيات السابقة ـ إجمالا ـ أنّ الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجا ، أمّا المجرمون الجهلة فظنا منهم أنّه طوفان عادي فصعدوا إلى أعالي القمم والمرتفعات ، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضا وخفي تحت الماء كل شيء ، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.

وكان نوحعليه‌السلام قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه ، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب ، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماما (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب

٥٤٢

حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطا متعددة من الأرض ، وطبقا لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة.

وأخيرا صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها الطبيعية ، والآية ـ محل البحث ـ تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّا ، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة ، وقد جاءت الآية في جمل ست :

١ ـ( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ) صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.

٢ ـ( وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ) وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.

٣ ـ( وَغِيضَ الْماءُ ) ونزل الماء في جوف الأرض.

٤ ـ( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) انتهى حكم الله.

٥ ـ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ ) واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.

٦ ـ( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) عندئذ لعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.

كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة ، وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخّاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب : إن هذه الآية تعدّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعا في غاية البلاغة والفصاحة.

الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقرا في روايات التاريخ الإسلامي أنّ جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته ، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوما ، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم ـ لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيها لها ، ولكنّهم حين بلغوا هذه الآية ـ محل البعث ـ هزتهم بحيث نظر بعضهم إلى بعض وقال كل للآخر : هذا كلام لا يشبهه كلام آخر ، وهو أساسا لا يشبه كلام المخلوقين ، قالوا ذلك وانصرفوا

٥٤٣

عمّا اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين(١) .

أين يقع الجودي؟

ذهب كثير من المفسّرين أنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة ـ كما مرّ ذكره في الآية ـ جبل معروف قرب الموصل(٢) وقال آخرون : هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب «آمد»

وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنّه جبل بين الموصل والجزيرة ، وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل).

ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد ، «فالموصل» و «الجزيرة» و «آمد» جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.

وقال آخرون : يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية ، ومعنى الآية حسب هذا التّفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض ، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأوّل.

وفي كتاب «أعلام القرآن» تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي : «الجودي» اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته ، وقد ورد اسمه في الآية (٤٤) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما يتعلق به من أمور أخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي :

١ ـ بناء على قول «الاصفهاني» فإنّ جبل الجودي في الجزيرة العربية ، وهو واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طيء).

٢ ـ إنّ الجودي هو سلسلة جبال «كاردين» الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن عم) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسمّيها الأكراد (كاردو) بلهجتهم ، ويسميها

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ح ٥ ، ص ١٦٥ ، وروح المعاني ، ج ١٢ ، صفحة ٥٧.

(٢) راجع مجمع البيان ، وروح المعاني ، والقرطبي ، ذيل الآية محل البحث.

٥٤٤

اليونانيون (جوردي) ويسمّيها العرب «الجودي».

في «الترگوم» وهي الترجمة الكلدانية ل «التوراة» وكذلك الترجمة السريانية ل «التوراة» : إنّ المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد ، أي «كاردين».

والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة ـ المشار إليها آنفا ـ ويقولون إنّ قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها في القصص البابلية قصّة شبيهة بطوفان نوحعليه‌السلام (ملحمة گيلگامش) ويمكن ـ إضافة إلى ذلك ـ احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة ، وسكنة تلك المنطقة هم المبتلون بالطوفان.

وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة «ميسر» وقد لو حظ في هذه الكتيبة اسم «آرارتو».

٣ ـ وفي الترجمة الحالية ل «التوراة» : إن محل استقرار سفينة نوح في جبال «آرارات» وهو جبل «ماسيس» الواقع في «أرمنستان» وقد ضبط صاحب قاموس الكتاب المقدّس معناه الأولي ، فكان المعنى «ملعون» وقال : بناء على ما جاء في الرّوايات فإنّ سفينة نوح استقرّت على قمة هذا الجبل ، ويسميّه العرب بـ «الجودي» ويسمّيه الإيرانيون بـ «جبل نوح» ويسميه الأتراك بـ «كرداغ» بمعنى الجبل المنحدر ، وهو واقع قرب «أرس».

وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل «الجودي» ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم الى علماء الأرمن وقد يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل «الأكراد» إلى «أرارات» ولعل ممّا سوّغ هذا التصوّر أنّ الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال

٥٤٥

بحيرة «وان» وجنوبها اسم «آرارات» أو «آراتو».

يقال أنّ النّبي نوحا بنى مسجدا على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان ، ويقول الأرامنة : إنّ في سفح جبل الجادي «الجودي» قرية تدعى ثمانين أو ثمان ، وهي أوّل محل نزل فيه أصحاب نوحعليه‌السلام (١) .

* * *

__________________

(١) أعلام القرآن للغزائلي ، ص ٢٨١.

٥٤٦

الآيات

( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) )

التّفسير

حادثة ابن نوح المؤلمة :

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته ، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير ، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان.

وهذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم آخر من هذه القصّة ، وهو أنّه حين رأى نوح ابنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله مناديا( فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ) .

٥٤٧

وهذا الوعد هو ما أشارت إليه الآية (٤٠) من هذه السورة حيث يقول سبحانه:( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

فكان أن تصوّر نوح أن قوله تعالى :( إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان ، ولذلك خاطب نوح ربّ العزّة بهذا الكلام.

ولكنّه سمع الجواب مباشرة جواب يهزّ هزا كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة( قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) .

فهو فرد غير لائق ، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين.( فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

فأحسّ نوح أنّ طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحا ، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده ممّا وعد الله به في نجاة أهله ، لذلك توجه إلى الله معتذرا مستغفرا و( قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ لم كان ابن نوح «عملا غير صالح»؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ في الآية إيجاز حذف ، وأصل الآية هكذا «إنّه ذو عمل غير صالح».

ولكن مع ملاحظة أنّ الإنسان قد يذوب في عمله إلى درجة كأنّه يصير بنفسه العمل ذاته ، وفي اللغات المختلفة يأتي مثل هذا التعبير على نحو المبالغة كأن يقال : إنّ فلانا هو كل العدل والسخاء ، أو إنّ فلانا هو السرقة والفساد فكأنّه غاص في

٥٤٨

العمل حتى صار هو العمل بذاته.

فابن نوح كان كذلك ، فقد جالس رفقاء السوء وغاص في أعمالهم السيئة وأفكارهم المنحرفة ، بحيث كأنّ وجوده تبدل إلى عمل غير صالح!

فعلى هذا وإن كان التعبير المقدم موجزا ومختصرا جدا ، إلّا أنّه يعبّر عن حقيقة مهمّة في ابن نوح!.

أي لو كان هذا الظلم والانحراف والفساد في وجود ابن نوح سطحيّا لكانت الشفاعة في حقّه ممكنة ، ولكنّه أصبح غارقا في الفساد والانحراف ، فليس للشفاعة هنا محلّ ، فدع الكلام فيه يا نوح!

وما يراه بعض المفسّرين من أن كنعان لم يكن ابن نوح حقيقة ، أو أنّه كان ابنا غير شرعي ، أو أنّه ابن شرعي من زوجته عن رجل آخر ، بعيد عن الصواب لأنّ قوله :( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) في الواقع علة لقوله :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي إنّما نقول لك إنّه ليس من أهلك فلأنّه انفصل عنك بعمله وإن كان الرباط النسبي لا يزال قائما

٢ ـ دائرة الوعد الإلهي

مع ملاحظة ما ورد في الآيات المتقدمة من خطاب نوح لربّه وما أجابه الله به ، ينقدح هذا السؤال وهو : كيف لم يلتفت نوح إلى أنّ ابنه كنعان كان خارج دائرة الوعد الالهي؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال ـ كما أشرنا آنفا ـ أنّ هذا الابن لم تكن له طريقة واحدة معروفة ، فتارة تراه مع المؤمنين وأخرى مع الكفار ، ممّا يوهم أنّه مؤمن. بالإضافة إلى الإحساس بالمسؤولية الكبرى التي كان نوح يجدها في نفسه بالنسبة إلى ولده ، كذلك المحبّة والعلاقة الطبيعية التي يجدها كل أب بالنسبة لابنه ، والأنبياء غير مستثنين من هذا القانون ، كل ذلك كان سببا في أن يطلب نوح من

٥٤٩

ربّه هذا الطلب

ولكن بمجرّد أن اطّلع على واقع الأمر ، أسف على طلبه فورا واعتذر إلى الله راجيا عفوه ـ وإن لم يكن صدر منه ذنب ـ لأنّ موقع النّبي يقتضي منه أن يراقب كلامه وتصرفاته، فكان الأولى عليه الترك ، ومن هنا فقد سأل الله العفو والمغفرة ومن هنا يتّضح الجواب على سؤال : هل يذنب الأنبياء حتى يطلبوا العفو والمغفرة؟

٣ ـ هناك حيث تنقطع العلائق

تعكس الآيات الآنفة درسا من أنجع الدروس الإنسانية والتربوية ضمن بيان قصّة نوح درسا لا مفهوم له في المذاهب المادية لكنّه أصل أساس في المذهب الإلهي والمعنوي.

فالعلائق المادية «النسب ، القرابة ، الصداقة ، المرافقة» تخضع دائما في المذاهب السماوية إلى العلائق المعنوية.

وفي المذاهب السماوي لا مفهوم للعلاقة النسبية والقرابة مقابل الرابطة المذهبية.

هناك حيث تتحقق العلاقة الدينية ، كسلمان الفارسي الذي لا هو من أهل بيت النّبي ولا من قريش ولا من أهل مكّة ، بل لم يكن أساسا من العرب ، ولكنّه طبقا لما ورد في الحديث الشريف المعروف «سلمان منّا أهل البيت»كان يعدّ من أسرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّ الابن الواقعي والمباشر للنّبي ـ كابن نوح ـ يطرد على أثر قطع علاقته الدينية، ويقال في شأنه لأبيه نوح :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) .

قد تكون هذه المسألة المهمّة عسيرة الفهم لمن يعيش في دائرة التفكير المادي لكنّها حقيقة من صميم الأديان السماوية جميعا.

٥٥٠

وعلى هذا الأساس نجد أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام تتحدث عن بعض الشيعة الذين يحملون اسم التشيّع إلّا أنّه لا يوجد فيهم علائم من تعليمات أهل البيتعليهم‌السلام بنفس الطريقة التي تقدمت في الآيات الآنفة في القرآن الكريم حيث نقل عن علي بن موسىعليه‌السلام أنّه سأل بعض أصحابه يوما : كيف يفسر الناس هذه الآية( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) فأجابه أحد الحاضرين : إنّهم يعتقدون أن كنعان لم يكن الابن الحقيقي لنوح ، فقال الإمام : «كلّا لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله نفاه عن أبيه ، كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا»(١) .

٤ ـ المسلمون المطرودون

ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين ، أو أتباع أهل البيتعليهم‌السلام في الظاهر مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة :

١ ـ فقد ورد عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من غش مسلما فليس منّا»(٢) .

٢ ـ كما روي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حرام»(٣) .

٣ ـ ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا ومن أكرمه النّاس اتقاء شره فليس منّي».

٤ ـ وروي عن الإمام علي أنّه قال : «ليس من شيعتنا من يظلم الناس».

٥ ـ وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم»(٤) .

٦ ـ ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآية المتقدمة.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣١٨.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٥٣.

(٤) بحار الأنوار ، الطبعة القديمة ج ١٥ قسم الأخلاق.

٥٥١

بمسلم»(١) .

٧ ـ وقال الإمام الباقرعليه‌السلام لأحد أصحابه وكان يدعى «جابرا» : «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنّك رجل سوء ، لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح ، لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب الله»(٢) .

هذه الأحاديث تضع علامة «البطلان» على تصورات من يقنع بالاسم فحسب ولكنّهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف ، أو للروابط الايمانية ، وتثبت بوضوح أنّ الأصل في مذهب القادة الرّبانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل بمناهجهم ، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس.

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٦٤.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٩١.

٥٥٢

الآيتان

( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) )

التّفسير

هبوط نوح بسلام :

هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصّته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود ، وفيهما إشارة إلى هبوط نوحعليه‌السلام من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض.

يقول القرآن في الآية الأولى من هاتين الآيتين :( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) .

لا شك أنّ الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة فالأراضي العامرة والمراتع الخضر والغابات النضرة كلّها أبيدت ، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء ، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة

٥٥٣

إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيّأ وموفّرا لهم فلا ينبغي الحزن على شيء مضافا إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر، فالله سبحانه يطمئن نوحا وأصحابه أيضا أنّه لا خطر يهددهم ، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطا سالما مليئا بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك.

هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية ، ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخّاذة!.

كلمة «أمم» هي جمع «أمة» وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد الله وخلقه ، كما يدل هذا التعبير على أنّ الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون سببا لوجود قبيلة وأمّة كبيرة ، أو أنّه فعلا كان مع نوح أفراد من قبائل وأمم متعددة فيشكل مجموعهم أمما أيضا ويرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أن الأمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة الحيوانات المتعددة ، لأنّ القرآن أطلق لفظ الأمّة عليها أيضا في مكان آخر من آياته ، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (٣٨)( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) .

فيتّضح بهذا أنّ نوحا وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة ، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض ، فإنّ لطف الله شملها جميعا كذلك.

ثمّ يضيف القرآن مخاطبا نوحا أنّه ستعقب الأمم التي معك أمم من نسلها ، ولكن هذه الأمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

٥٥٤

فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق الطوفان هو آخر الانتخاب وآخر الإصلاح ، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم أيضا يصلون بها الذروة من الرشد والتكامل ، ولكن الناس قد يسيئون الاستفادة من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشرّ والفساد ، فينالون جزاءهم في هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأخرى.

الطريف في الآية أنّها تقول( سَنُمَتِّعُهُمْ ) ثمّ تتحدث عن العذاب مباشرة. وفي ذلك إشارة إلى أن الاستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله وطاعته ، ولكن غالبا ما يزيد المتنعمين طغيانا وكفرا ويقطعون العلاقة بينهم وبين الله.

وينقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أنّ بعض المفسّرين يقول في قوله: «نمتعهم» إلخ : هلك المستمتعون في الدنيا لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكرون إلّا في الدنيا وعمارتها وملذاتها.

هذا الواقع يرى جيدا في الدول المتنعمة والمتموّلة في هذا العالم ، حيث يغوص أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين ـ فحسب ـ ، بل نراهم يوما بعد آخر يحاولون الكيد بهم وإراقة دمائهم أكثر فأكثر ، لذلك كثيرا ما يتفق أن ينزل الله عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتا لعلهم يفيقون من غفلتهم.

وفي آخر آية تختم بها قصّة نوح ـ في هذه السورة ـ إشارة كلية عامّة إلى ما حدث في عهد نوح فتقول :( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ) .

فالخطاب هنا للنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد عليه أن يصبر ويستقيم كما صبر واستقام نوحعليه‌السلام عند ما واجه المشاكل ، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) .

٥٥٥

الآية الأخيرة تشير إلى عدّة مسائل :

١ ـ إنّ بيان قصص الأنبياءعليهم‌السلام ـ بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف الخرافة ـ ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب ، وإلّا فإنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل ، وكلما عدنا إلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر.

فعلى هذا ، يعتبر بيان حال الأنبياء الماضين والأقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخز الخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والإسلام والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ يستفاد من هذه الآية ـ خلافا لما يتصوره البعض ـ أنّ الأنبياء كانوا يعلمون الغيب عن طريق تعليم الله وبالمقدار الذي كان يريده الله لهم ، لا أنّهم يعلمون الغيب من أنفسهم ، وإذا وجدنا في بعض الآيات ما ينفي العلم الغيبي عنهم ، فهو إشارة إلى أنّ علمهم ليس ذاتيا ، بل هو من الله.

٣ ـ وهذه الآية توضح حقيقة أخرى ، وهي أنّ بيان قصص الأنبياء والأقوام الماضين في القرآن ليس درسا للمسلمين فحسب ، بل هو إضافة إلى ذلك تسلية لخاطر النّبي وطمأنة لقلبه ، لأنّه بشر أيضا ، وينبغي أن يتلقى الدروس من الأديان الالهية ويتهيأ لمواجهة الطاغوت في عصره ، وأن لا يكترث بهموم المشاكل في طريقه.

أي كما واجه نوح المشاكل بصبر واستقامة لسنين طوال ليهدي قومه إلى الإيمان ، فعليك يا نبي الإسلام أن لا تدع الصبر والاستقامة على كل حال! والآن نودع قصّة نوح بكل ما تحمل من عبر وأعاجيب ، ونتوجه إلى نبي عظيم آخر وهو هود الذي سمّيت هذه السورة باسمه.

* * *

٥٥٦

الآيات

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) )

التّفسير

محطّم الأصنام الشّجاع :

كما أشرنا آنفا ، فإنّ قصص خمسة أنبياء عظام وما واجهوه من شدائد وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات السابقة كان الكلام حول نوحعليه‌السلام وأمّا الآن فالحديث عن هودعليه‌السلام .

جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد ، وجميعهم نهضوا لإنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر ، ولدعوتهم إلى التوحيد بجميع أبعاده.

وكان شعارهم جميعا الإيمان والإخلاص والجد والمثابرة والاستقامة في سبيل الله ، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والإرهاب والضغوط

٥٥٧

يقول سبحانه في الآية الأولى من هذه القصّة( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هودا بكونه «أخاهم».

وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إلى أصل واحد

فمثلا يقولون في الأسدي «أخو أسد» وفي الرجل من قبيلة مذحج «أخو مذحج».

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّا ، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعا ، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه ، بل من منطلق أنّهم إخوة لهم

معاملة خالية من أية شائبة واي امتياز أو استعلاء.

كان أوّل دعوة هود ـ كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعا ـ توحيد الله ونفي الشرك عنه( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) .

فهذه الأصنام ليست شركاءه ، ولا منشأ الخير أو الشرّ ، ولا يصدر منها أي عمل ، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إطلاقا.

ثمّ يضيف هود قائلا لقومه : لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة ، فأنا لا أريد منكم أي أجر( يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء ، فهو الخالق والرازق( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) .

وأساسا فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم ، إنّما أفعل ذلك طاعة لأمره ، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم ، وإضافة إلى ذلك فهل لديكم شيء من عندكم ، فكل ما هو لديكم منه سبحانه( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

ثمّ شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والاستفادة من

٥٥٨

جميع الوسائل الممكنة لإيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول :( وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فإذا فعلتم ذلك فإنّه( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) (١) لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط ، بل تظل خضراء مثمرة دائما ، وزيادة على ذلك فإنّ الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إليه يرعاكم( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) .

فلا تتصوروا أنّ الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبدا ، بل إنّ قواكم الجسميّة ستزداد بالاستفادة من القوّة المعنوية وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأمّة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل ، فعلى هذا إيّاكم والابتعاد عن طريق الحق( وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ التوحيد أساس دعوة الأنبياء :

يبين تاريخ الأنبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعا من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أيّا كانت ، والواقع فإنّ أي إصلاح في المجتمعات الإنسانية لا يتيسر بغير هذه الدعوة ، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإيثار كلها أمور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود.

وأمّا الشرك فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية وما إلى ذلك وارتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على

__________________

(١) «المدرار» كما وضحنا سابقا مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء ، ثمّ استعمل في انصباب المطر ، والطريق في الآية أنّها لا تعبر بـ «ينزل المطر من السماء» بل قالت :( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) بمعنى أنّ المطر يهطل إلى درجة غزيرة حتى كأنّ السماء تهطل ، وملاحظة أنّ مدرارا صيغة مبالغة أيضا فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.

٥٥٩

أحد! الشخص الذي يدور حول نفسه ـ أو يجرّ النّار إلى قرصه ـ يرى نفسه فحسب ، ولهذا فهو مشرك ، لأنّ التوحيد يذيب «الانا» والذات الفردية في محيط اجتماعي واسع عريض ، والموحّد لا يرى شيئا سوى واحد كبير ، أي أن جميع المجتمع الإنساني عباد الله!

والأشخاص الذين يطلبون الاستعلاء مشركون من نوع آخر ، فهم في صراع مع أبناء جلدتهم ويرون منافعهم منفصلة عن منافع الآخرين ، فهذا التجزؤ أو «هذه الازدواجية» ليس إلّا شركا في أوجه مختلفة.

من هنا بدأ الأنبياء في سبيل إصلاح المجتمع بالدعوة الى توحيد المعبود «الله» ، ثمّ توحيد الكلمة ، وتوحيد العمل ، وتوحيد المجتمع.

٢ ـ قادة الحق لا يطلبون أجرا من أتباعهم.

إنّ الزعيم الواقعي يمكنه أن يكون في مأمن من أي اتهام ويواصل طريقه في غاية الحرية في صورة ما لو لم تكن له حاجة مادّية ، فبذلك يستطيع أن يصحح كل انحراف في أتباعه ، وإلّا فإنّ الحاجة الماديّة بالنسبة لهذا المصلح ستكون غلّا تصفّد به يداه ورجلاه وقفلا على لسانه وفكره.

ومن هذا الطريق طريق الحاجة الماديّة يدخل المنحرفون لممارسة ضغوطهم عليه عن طريق قطع المساعدات المادية أو عن طريق الإغراء بزيادة المساعدات ، ومهما يكن الزعيم والقائد نقيا صافيا ومخلصا فهو انسان ـ أيضا ـ ومن الممكن أن تزل قدماه ولهذا السبب نقرأ في الآيات الآنفة ـ وآيات أخرى من القرآن ـ أنّ الأنبياء يعلنون بصراحة في بداية دعوتهم أنّه ليست لهم حاجة مادية ولا ينتظرون من أتباعهم الأجر.

وهذا دستور لجميع القادة ولا سيما القادة الروحانيين ورجال الدين ، غاية ما

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608