الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260518 / تحميل: 6460
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

المبحث الخامس

كيف نؤمن بأنّ المهديّ قد وُجد؟

١٠١

١٠٢

ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول:

هب أنّ فرضيّة القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل، وإمامة مبكّرة، وغيبة صامتة، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً.

فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهديّ؟ وهل تكفي بضع روايات تُنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (ص)، للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر، على الرغم ممّا في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي (ع) وجوداً تاريخياً حقّاً، وليس مجرد افتراض توفّرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس؟ (1)

والجواب: إنّ فكرة المهديّ بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الأفضل، قد جاءت في أحاديث الرسول الأعظم عموماً، وفي روايات أئمّة أهل البيت

____________________

(1) هذه التساؤلات يطرحها السيد الشهيد (ص) بصفتها من الإشكالات التي أثيرت وتُثار عادةً حول المهديّ (ع)، وهي أقصى ما يُثار في هذا الصدد، حتى أنّ بعض الكتّاب المعاصرين قد أثاروها أخيراً مدفوعين بدوافع غير علمية، مصحوبة تلك الإثارة بضجيج مكثّف، ومحاولات بائسة من الوهابية لترويجها وتبنّيها، ولا تخفى الدوافع بعد ذلك على أحد. وقد أجاب الإمام الشهيد بجواب علمي لمَن يريد الحقيقة. راجع ما كتبناه في المقدمة أيضاً.

(2) يلاحظ كتاب (المهديّ) للسيد (العم) الصدر قدّس الله روحه الزكية. (الشهيد الصدر).

راجع: ما أثبته الشيخ العبّاد في مجلد الجامعة الإسلامية / العدد 3 سنة 1969.

وراجع: المهديّ الموعود المنتظر / الشيخ نجم الدين العسكري.

١٠٣

خصوصاً، وأُكّدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشكّ، وقد أُحصي أربعمِئة حديث عن النبيّ (ص) من طرق إخواننا أهل السنّة (1) ، كما أُحصي مجموع الأخبار الواردة في الإمام المهديّ من طرق الشيعة والسنّة، فكان أكثر من ستة آلاف رواية (2) ، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفّر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية، التي لا يشكّ فيها مسلم عادة.

وأمّا تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر (عليه الصلاة والسلام)، فهذا ما توجد مبرّرات كافية وواضحة للاقتناع به.

ويمكن تلخيص هذه المبرّرات في دليلين:

أحدهما إسلامي

والآخر علمي

فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر.

وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهديّ ليس مجرّد أُسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.

أمّا الدليل الإسلامي:

فيتمثّل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (ص) (3) والأئمّة من أهل

____________________

(1) يلاحظ كتاب (المهديّ) للسيد (العم) الصدر قدّس الله روحه الزكية. (الشهيد الصدر).

راجع: ما أثبته الشيخ العبّاد في مجلة الجامعة الإسلامية / العدد 3 سنة 1969.

وراجع: المهديّ الموعود المنتظر / الشيخ نجم الدين العسكري.

(2) يلاحظ كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، للشيخ لطف الله الصافي. (الشهيد الصدر).

(3) راجع: معجم أحاديث الإمام المهديّ / مؤسّسة المعارف الإسلاميّة / الجزء الأَوّل - أحاديث النبيّ.

١٠٤

البيت (ع)، والتي تدلُّ على تعيين المهديّ (ع)، وكونه من أهل البيت (1) :

ومن وُلد فاطمة (2)

ومن ذرية الحسين (3)

وأنّه التاسع من وُلد الحسين (4)

____________________

(1) أخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حمّاد في الفتن، عن علي (ع) قال: (قال رسول الله (ص): (المهديّ منّا أهل البيت يُصلحه الله في ليلة) .

راجع: الحاوي للفتاوي / السيوطي 2: 213 و 215 وفيه، أيضاً: أخرج أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود، عن عليّ، عن النبيّ (ص) قال: (لو لم يبقَ من الدهر إلاّ يومٌ، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً)، و راجع: صحيح سنن المصطفى 2: 207، وسنن ابن ماجة 2: 1367 / 4085.

وراجع: معجم أحاديث المهديّ 1: 147 وما بعدها، إذ ينقل أحاديث كثيرة عن الصحاح والمسانيد في هذا المعنى. موسوعة الإمام المهديّ / ترتيب مهدي فقيه إيماني، الجزء الأَوّل، وفيها نسخة مصوّرة عن محاضرة الشيخ العبّاد حول ما جاء من الأحاديث والآثار في المهديّ (ع).

(2) الحاوي للفتاوي / السيوطي جلال الدين 2: 214، قال: وأخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: (المهديّ من عترتي من وُلد فاطمة) . راجع صحيح سُنن المصطفى لأبي داود 2: 208.

(3) حديث المهديّ من ذرية الحسين (ع)، كما في المصادر الآتية على ما نقل في معجم أحاديث المهديّ وهي: الأربعون حديثاً لأبي نعيم الأصفهاني كما في عقد الدرر للمقدسي الشافعي، وأخرجه الطبراني في الأوسط على ما في المنار المنيف لابن القيّم، وفي السيرة الحلبية 1: 193، وفي القول المختصر لابن حجر. راجع منتخب الأثر للشيخ لطف الله الصافي في ما نقله من كتب الشيعة، وراجع توهين الرواية التي تقول بأنّه من وُلد الإمام الحسن (ع)، كتاب السيد العميدي (دفاع عن الكافي 1: 296).

(4) راجع الرواية التي تنص على أنّه التاسع من وُلد الحسين (ع) في: ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي: ص 492، وفي مقتل الإمام الحسين للخوارزمي 1: 196، وفي فرائد السمطين للجويني الشافعي 2: 310 - 315 الأحاديث من 561 - 569، وراجع منتخب الأثر للعلاّمة الشيخ الصافي إذ خرّجها من طرق الفريقين (دفاع عن الكافي 1: 294).

١٠٥

وأنّ الخلفاء اثنا عشر (1) :

فإنّ هذه الروايات تحدّد تلك الفكرة العامة، وتشخّصها في الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار، على الرغم من تحفّظ الأئمّة (ع) واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام؛ وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته (2) .

وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها، بل هناك إضافةً إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحّتها، فالحديث النبوي الشريف عن الأئمّة أو الخلفاء أو الأمراء بعده، وأنّهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً - على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصى بعض المؤلّفين رواياته فبلغت أكثر من مئتين وسبعين روايةً (3) مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة، بما في ذلك البخاري (4) ومسلم (5) والترمذي (6) وأبي داود (7)

____________________

(1) حديث (الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش) أو (لا يزال هذا الدين قائماً ما وليه اثنا عشر، كلهم من قريش) .

هذا الحديث متواتر، روته الصحاح والمسانيد بطرق متعدّدة وإن اختلف في متنه قليلاً.

نعم، اختلفوا في تأويله واضطربوا. راجع: صحيح البخاري 9: 101 كتاب الأحكام / باب الاستخلاف. وصحيح مسلم 2: 119 كتاب الإمارة. مسند أحمد 5: 90، 93، 97.

(2) راجع الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر: ص 272 وما بعدها.

(3) راجع التاج الجامع للأصول 3: 40، قال: رواه الشيخان والترمذي، وراجع في تحقيق الحديث وطرقه وأسانيده كتاب الإمام المهديّ (ع) / عليّ محمد عليّ دخيل.

(4) صحيح البخاري / المجلد الثالث / 9: 101، كتاب الأحكام / باب الاستخلاف. طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت.

(5) و (6) و (7) راجع: التاج الجامع للأصول 3: 40، قال تعقيباً على الحديث: رواه الشيخان والترمذي، وفي الهامش قال: رواه أبو داود في كتاب المهدي بلفظ: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفةً...) ، وراجع سنن أبي داود 2: 207.

١٠٦

ومسند أحمد (1) ومستدرك الحاكم على الصحيحين (2) ، ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكريّ، وفي ذلك مغزىً كبير ; لأنّه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سُجّل عن النبيّ (ص)، قبل أن يتحقّق مضمونه، وتكتمل فكرة الأئمّة الاثني عشر فعلاً، وهذا يعني أنّه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث، متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاساً له ; لأنّ الأحاديث المزيّفة التي تُنسب إلى النبيّ (ص) - وهي انعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً - لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكّل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي، على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمّة الاثني عشر، وضُبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع، وإنّما هو تعبير عن حقيقة ربانية، نطق بها مَن لا ينطق عن هوى (3) ، فقال: (إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر) (4) ، وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام عليّ وانتهاءً بالمهديّ ; ليكون التطبيق الوحيد المعقول (5) لذلك الحديث النبوي الشريف.

____________________

(1) مسند الإمام أحمد 5: 93، 100.

(2) المستدرك على الصحيحين 3: 618.

(3) إشارة إلى قوله تعالى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) النجم: 3 - 4.

(4) تقدّم تخريج الحديث.

(5) اضطرب العلماء في تأويله بعد إطباقهم على صحته، وما أوردوه من مصاديق لا يمكن قبولها، بل أنّ بعضها غير معقول تماماً، كإدخالهم يزيد بن معاوية المجاهر بالفسق، المحكوم بالمروق والكفر، أو مَن هو على شاكلته. راجع ما نقله السيد ثامر العميدي من أقوالهم، وقد ناقش هذه القضية مناقشةً وافيةً وعلمية، وأبطل تأويلاتهم بما لا مزيد عليه في دفاع عن الكافي 1: 540 وما بعدها.

١٠٧

وأمّا الدليل العلميّ:

فهو يتكوّن من تجربة عاشتها أمّة من الناس فترة امتدّت سبعين سنة تقريباً، وهي فترة الغيبة الصغرى.

ولتوضيح ذلك نمهّد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى (1) .

إنّ الغيبة الصغرى تعبّر عن المرحلة الأُولى من إمامة القائد المنتظر (عليه الصلاة والسلام)، فقد قُدّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام، ويظلُّ بعيداً باسمه عن الأحداث، وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئةً حقّقت صدمةً كبيرة، للقواعد الشعبية للإمامة في الأمّة الإسلامية ; لأنّ هذه القواعد كانت معتادةً على الاتّصال بالإمام في كلّ عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأةً، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية، سبّبت هذه الغيبة (2) المفاجئة - الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كلّه ويشتّت شمله - فكان لابدّ من تمهيد لهذه الغيبة ; لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى، التي اختفى فيها الإمام المهديّ عن المسرح العام، غير أنّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوّابه، والثقات من أصحابه، الذين يشكّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي (3) .

وقد شَغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة،

____________________

(1) راجع: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر، فقد توسّع في بحثها.

(2) إشارة إلى الغيبة الكبرى.

(3) راجع: تبصرة الولي فيمَن رأى القائم المهديّ / السيد هاشم البحراني. ودفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 1: 568 وما بعدها.

١٠٨

ممّن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها.

وهم كما يلي:

1 - عثمان بن سعيد العمريّ.

2 - محمد بن عثمان بن سعيد العمريّ.

3 - أبو القاسم الحسين بن روح.

4 - أبو الحسن عليّ بن محمد السمريّ.

وقد مارس هؤلاء الأربعة (1) مهامّ النيابة بالترتيب المذكور، وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهديّ (ع).

وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته شفهيةً أحياناً وتحريريّة (2) في كثير من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها، العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتّصالات غير المباشرة، ولاحظت أنّ كلّ التوقعيات والرسائل، كانت ترد من الإمام المهديّ (ع) بخطّ واحد وسليقة واحدة (3) ، طيلة نيابة النوّاب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً، وكان السمّريّ هو آخر النوّاب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنوّاب معيّنين، وابتداء الغيبة الكبرى، التي لا يوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق

____________________

(1) راجع ترجمة هؤلاء الأربعة في كتاب الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر، الفصل الثالث: ص 395 وما بعدها، نشر دار التعارف للمطبوعات / بيروت 1980.

(2) وهذه تُعرف بالتوقيعات، وهي الأجوبة التحريريّة والشفويّة التي نُقلت عن الإمام المهديّ (ع). راجع: الاحتجاج / الطبرسي 2: 523 وما بعدها.

(3) ممّا استقر في الأوساط الأدبية، وعند نقّاد الأدب قديماً وحديثاً، أنّ الأسلوب هو الرجل، وهذه المقولة صحيحة. ومن هنا رأينا وسمعنا أنّ كثيراً من الأدباء وقارئي الأدب، يميّزون بمجرّد قراءة النصّ شعريّاً كان أم نثريّاً أنّه لفلان، وما ذلك إلاّ لأنّ الأسلوب هو الرجل، وأنّ لكلّ كاتب سمةً وطابعاً خاصّاً في كتابته يمكن تمييزه من غيره، هذا فضلاً على تميّز خطّه الشريف من غيره من الخطوط.

١٠٩

مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنوّاب معيّنين، وابتداء الغيبة الكبرى، التي لا يوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى، عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمتها ; لأنّها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية، عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبّل فكرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحوّلت النيابة من أفراد منصوصين (1) إلى خطّ عام (2) ، وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين، تبعاً لتحوّل الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى.

والآن بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدّم؛ لكي تدرك بوضوح أنّ المهديّ حقيقة عاشتها أمّة من الناس، وعبّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم من الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدة تلاعباً في الكلام، أو تحايلاً في التصرف، أو تهافتاً في النقل.

فهل تتصور - بربّك - أنّ بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتّفقون عليها، ويظلّون يتعاملون على أساسها، وكأنّها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم، دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشكّ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميّزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنّهم يحسّونها ويعيشون معها؟!

لقد قيل قديماً: إنّ حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً، أنّ من

____________________

(1) إشارة إلى النوّاب الأربعة المذكورين.

(2) وهو ما اصطلح عليه (بالمرجعيّة الدينيّة)، ويلاحظ هنا الصفات التي يرى الإمام الشهيد لزوم توفّرها في المرجعيّة.

١١٠

المستحيل عمليّاً بحساب الاحتمالات، أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكلّ هذه المدّة، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثمّ تكسب ثقة جميع مَن حولها.

وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى، يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعيّ، والتسليم بالإمام القائد بولادته (1) وحياته وغيبته، وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح، ولم يكشف نفسه لأحد (2) .

____________________

(1) إنّ اتّصال الإمام القائد المهديّ بقواعده الشيعيّة عن طريق نوّابه ووكلائه، أو بأساليب أخرى متنوّعة واقع تاريخي موضوعي، ليس من سبيل إلى إنكاره، كما في السفارة، فضلاً عن الدلائل الأخرى الكثيرة المستندة إلى إخبار مَن يجب تصديقه، ثمّ هو مقتضى الأحاديث المتواترة، كحديث: (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية)، وغير ذلك. إنّ كلّ ذلك مجموعاً - وهو محل اتّفاق أكثر طوائف الملّة الإسلامية - يدحض وبشكل قاطع ما يثيره المتشكّكون، حول وجود الإمام، واستمرار حياته المباركة الشريفة، راجع: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر: ص 566. وراجع ما أثبتناه في المقدمة: ص 15 وما بعدها.

(2) ورد التوقيع الشريف عن الإمام القائد المهديّ (ع)، بعدم إمكان رؤيته بشكل صريح بعد وقوع الغيبة الكبرى، وهذا محل اتّفاق علماء الإمامية. وراجع مناقشة المسألة في: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر: ص 639 وما بعدها.

١١١

١١٢

المبحث السادس

لماذا لم يظهر القائد إذن؟

١١٣

١١٤

لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة؟

وإذا كان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى، أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذ أبسط وأيسر، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى، تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قويّة، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله، قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك، من خلال التطوّر العلمي والصناعي؟

والجواب:

أنّ كلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية، لا يتأتّى لها أن تحقّق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف.

وتتميّز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجّرها السماء على الأرض، بأنّها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية (1) ; لأنّ الرسالة التي تعتمدها

____________________

(1) على الرغم من الأهمية التي يعطيها الشهيد الصدر (ره) هنا للظروف الموضوعية ; ودور نضوجها أو إنضاجها في نجاح الثورات - وهذا فهم عميق لأثر العالم الاجتماعي والنفسيّ - إلاّ أنّ الشهيد الصدر (ره) يعرض نظريةً جديدة في فهم عملية التغيير الاجتماعي، الذي تحدثه السماء من خلال الرسالات السماوية، فهي في جانبها الرسالي ترتبط بقانونها الخاص، ولكن في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية، وترتبط بها توقيتاً ونجاحاً، وأعني بالظروف الموضوعية: الحالة السياسية، والحالة الاجتماعية للأمّة، والواقع الدولي المعاصر، ومدى قدرة الأمّة في إمكاناتها الذاتية واستعدادها النفسي.

١١٥

عملية التغيير هنا ربّانيّة، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية، ولكنّها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية، ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف؛ ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية، حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبيّ محمد (ص) ; لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخّرها، على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك.

والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلّبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية.

فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها - مثلاً - لينين في روسيا بنجاح، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الأُولى، وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة، من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلّل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو كان قد اتّفق له أي حادث يعيقه، لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح.

وقد جرت سُنة الله تعالى - التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الربّاني - على التقيّد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية، التي تحقّق المناخ المناسب والجو العام لإنجاج عملية التغيير، ومن هنا لم يأتِ الإسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمرّ قروناً من الزمن.

١١٦

فعلى الرغم من قدرة الله - سبحانه وتعالى - على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربّانية، وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب ; لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان، يفرض على العمل التغييري الربّاني، أن يكون طبيعيّاً وموضوعيّاً من هذه الناحية، وهذا لا يمنع من تدخّل الله - سبحانه وتعالى - أحياناً فيما يخصّ بعض التفاصيل، التي لا تكوّن المناخ المناسب، وإنّما قد يتطلّبها أحياناً التحرّك ضمن ذلك المناخ المناسب، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية، التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة، وإذا بنار نمرود تُصبح برداً وسلاماً على إبراهيم (1) ، وإذا بيد اليهوديّ الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبيّ (ص) تُشلّ وتفقد قدرتها على الحركة (2) ، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيّمات الكفّار والمشركين، الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق، وتبعث في نفوسهم الرعب (3) ، إلاّ أنّ هذا كلّه لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة، بعد أن كان الجو المناسب والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم، قد تكوّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.

وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهديّ (ع)، لنجد أنّ عملية التغيير التي أُعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى، بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها، ومن هنا كان من الطبيعي أن تُوقّت وفقاً لذلك. ومن المعلوم أنّ المهديّ لم يكن قد أَعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود،

____________________

(1) إشارة إلى قوله تعالى: ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ) الأنبياء: 68 - 70.

(2) راجع الرواية في تفسير ابن كثير 2: 33، وراجع: البحار / المجلسي 18: 47 و 52 و 60، 75، باب معجزات النبيّ (ص).

(3) تاريخ الطبري 2: 244 حوادث السنة الخامسة من الهجرة.

١١٧

ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك ; لأنّ رسالته التي ادّخر لها من قِبل الله - سبحانه وتعالى - هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية كلّ البشريّة، من ظلمات الجور إلى نور العدل (1)، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلاّ لتمّت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنّما تتطلّب مناخاً عالمياً مناسباً، وجوّاً عاماً مساعداً، يحقّق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.

فمن الناحية البشرية، يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد، عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكوّن ويترسّخ من خلال التجارب الحضارية المتنوّعة، التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى، مدركاً حاجته إلى العون، متلفّتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول.

ومن الناحية المادية، يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة - في عصر كعصر الغيبة الصغرى - على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كلّه، وذلك بما تحقّقه من تقريب المسافات، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي؛ لممارسة توعية لشعوب العالم، وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة.

وأمّا ما أُشير إليه في السؤال، من تنامي القوى والأداة العسكرية التي يُواجهها القائد في اليوم الموعود كلّما أُجّل ظهوره، فهذا صحيح، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل

____________________

(1) كما هو نصّ الحديث النبويّ الشريف: (لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل الله ذلك اليوم؛ حتى يبعث رجلاً منّي أو من أهل بيتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً) .

راجع: التاج الجامع للأصول / منصور علي ناصف 5: 360 الهامش، قال: رواه أبو داود والترمذي.

١١٨

المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كلّ تلك القوى والأدوات؟ وكم من مرة في التاريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأَوّل لمسة غازية ; لأنّه كان منهاراً قبل ذلك، وفاقداً الثقة بوجوده، والقناعة بكيانه، والاطمئنان إلى واقعه (1) .

____________________

(1) لقد شاهدنا في بداية التسعينات المصداق لهذه المقولة، التي أطلقها الشهيد الصدر (ره) استناداً إلى خبرته العميقة بالمجتمع البشري، فقد انهار الاتّحاد السوفيتي، وهو أحد القطبين اللذينِ كانا يهيمنان على العالم انهياراً سريعاً جداً، وبصورة أذهلت الجميع.

١١٩

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

ه ـ سفينة النجاة :

لا يمكن الخلاص من أي طوفان دون سفينة النجاة ، وليس شرطا أن تكون هذه السفينة من الخشب والحديد ، بل ما أحسن أن تكون هذه السفينة دينا يقوّم السلوك ويهب الحياة الطيبة ويقاوم أمام أمواج طوفان الانحراف الفكري ، ويوصل أتباعه إلى ساحل النجاة.

وعلى هذا الأساس وردت روايات كثيرة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مصادر الشيعة والسنة تعبر عن أهل بيته ـ وهم الأئمّة الطاهرون وحملة الإسلام ـ بأنّهم «سفينة النجاة».

يقول حنش بن المغيرة وأبو ذرّ آخذ بحلقة باب الكعبة وهو يقول : أنا أبو ذر الغفاري ، من لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا»(١) .

وفي بعض الرّوايات أضيف إليها هذا النص «ومن تخلف عنها غرق»(٢) أو «من تخلف عنها هلك»(٣) .

هذا الحديث الشريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن بصراحة أنّه حين يطغى الطوفان الفكري والعقائدي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي ، فإنّ طريق النجاة الوحيد هو الالتجاء إلى مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون المذهب التي اصطنعتها السلطات السابقة والتي لا علاقة لها بأهل البيتعليهم‌السلام .

* * *

__________________

(١) عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ٢١١.

(٢) المعجم الكبير بخط الحافظ الطبراني ، صفحة ٣٠ مخطوط.

(٣) المصدر نفسه عن جماعة من أهل السنة كابن المغازلي والخوارزمي ، الجزء التاسع من أحقاف الحق ، ص ٢٨٠ لمزيد الإيضاح جديدة.

٥٤١

الآية

( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) )

التّفسير

نهاية الحادث :

قرأنا في الآيات السابقة ـ إجمالا ـ أنّ الأمواج المتلاطمة الصاخبة من الماء أغرقت كل مكان حيث تصاعد منسوب الماء تدريجا ، أمّا المجرمون الجهلة فظنا منهم أنّه طوفان عادي فصعدوا إلى أعالي القمم والمرتفعات ، لكن الماء تجاوز تلك المرتفعات أيضا وخفي تحت الماء كل شيء ، وأخذت تلوح للعيون أجساد الطغاة الموتى وما بقي من البيوت ووسائل المعاش في ثنايا الأمواج على سطح الماء.

وكان نوحعليه‌السلام قد أودع زمام السفينة بيد الله سبحانه ، وكانت الأمواج تتقاذف السفينة في كل صوب ، وفي روايات استمرت هذه الحال ستة أشهر تماما (من بداية شهر رجب حتى نهاية شهر ذي الحجة) وعلى رواية (من عاشر شهر رجب

٥٤٢

حتى عاشر محرم) وطافت السفينة نقاطا متعددة من الأرض ، وطبقا لما جاء في بعض الرّوايات أنّها سارت على أرض مكّة وحول الكعبة.

وأخيرا صدر الأمر الإلهي بانتهاء العقاب وأن ترجع الأرض إلى حالتها الطبيعية ، والآية ـ محل البحث ـ تبيّن هذا الأمر وجزئياته ونتيجته في عبارات وجيزة جدّا ، وفي الوقت ذاته بليغة وأخّاذة ، وقد جاءت الآية في جمل ست :

١ ـ( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ) صدر الأمر للأرض أن تبلع الماء.

٢ ـ( وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ) وصدر الأمر للسماء أن لا تمطري.

٣ ـ( وَغِيضَ الْماءُ ) ونزل الماء في جوف الأرض.

٤ ـ( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) انتهى حكم الله.

٥ ـ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ ) واستقرت السفينة على طرف جبل الجودي.

٦ ـ( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) عندئذ لعن المجرمون بالدعاء عليهم أن يبتعدوا من رحمة الله.

كم هي رائعة هذه التعابير التي وردت في الآية المتقدمة ، وهي في الوقت ذاته وجيزة وتفور بالحياة والجمال الاخّاذ بحيث قال فيها طائفة من علماء العرب : إن هذه الآية تعدّ أفصح آيات القرآن وأبلغها وإن كانت آياته جميعا في غاية البلاغة والفصاحة.

الشاهد على هذا الكلام هو أنّنا نقرا في روايات التاريخ الإسلامي أنّ جماعة من كفار قريش نهضوا لمواجهة القرآن وليأتوا بمثل آياته ، فهيأ مريدوهم الطعام والشراب لهم لفترة أربعين يوما ، مثل لب الحنطة الخالص والخمر المعتق ولحم الغنم ـ لينسجوا براحة البال على منوال آيات القرآن شبيها لها ، ولكنّهم حين بلغوا هذه الآية ـ محل البعث ـ هزتهم بحيث نظر بعضهم إلى بعض وقال كل للآخر : هذا كلام لا يشبهه كلام آخر ، وهو أساسا لا يشبه كلام المخلوقين ، قالوا ذلك وانصرفوا

٥٤٣

عمّا اجتمعوا له من محاكاة القرآن آيسين(١) .

أين يقع الجودي؟

ذهب كثير من المفسّرين أنّ الجودي الذي استقرت عليه السفينة ـ كما مرّ ذكره في الآية ـ جبل معروف قرب الموصل(٢) وقال آخرون : هو جبل في حدود الشام أو شمال العراق أو قرب «آمد»

وفي كتاب الراغب الأصفهاني (المفردات) أنّه جبل بين الموصل والجزيرة ، وهي (جزيرة ابن عمر في شمال الموصل).

ولا يبعد أن تكون جميعها بمعنى واحد ، «فالموصل» و «الجزيرة» و «آمد» جميعها في الجزء الشمالي من العراق وقرب الشام.

وقال آخرون : يحتمل أن يكون المقصود من الجودي كل جبل صلب أو أرض صلبة وقوية ، ومعنى الآية حسب هذا التّفسير أن السفينة استقرت على أرض صلبة غير رخوة لينزل ركابها على الأرض ، ولكن المشهور والمعروف هو المعنى الأوّل.

وفي كتاب «أعلام القرآن» تحقيق وتتبع حول جبل الجودي نورده بما يلي : «الجودي» اسم جبل استقرت سفينة نوح واستوت على قمته ، وقد ورد اسمه في الآية (٤٤) في سورة هود وهو قريب من المضمون الوارد في التوراة مع ما يتعلق به من أمور أخرى، وهناك ثلاثة أقوال بالنسبة إلى محل جبل الجودي :

١ ـ بناء على قول «الاصفهاني» فإنّ جبل الجودي في الجزيرة العربية ، وهو واحد من جبلين واقعين في منطقة نفوذ قبيلة (طيء).

٢ ـ إنّ الجودي هو سلسلة جبال «كاردين» الواقعة شمال شرقي جزيرة (ابن عم) في شرق دجلة قرب الموصل؟ ويسمّيها الأكراد (كاردو) بلهجتهم ، ويسميها

__________________

(١) راجع مجمع البيان ، ح ٥ ، ص ١٦٥ ، وروح المعاني ، ج ١٢ ، صفحة ٥٧.

(٢) راجع مجمع البيان ، وروح المعاني ، والقرطبي ، ذيل الآية محل البحث.

٥٤٤

اليونانيون (جوردي) ويسمّيها العرب «الجودي».

في «الترگوم» وهي الترجمة الكلدانية ل «التوراة» وكذلك الترجمة السريانية ل «التوراة» : إنّ المكان الذي استقرت عليه سفينة نوح هو قلعة جبل الأكراد ، أي «كاردين».

والجغرافيون العرب يطبقون الجودي المذكور في القرآن على هذه المنطقة ـ المشار إليها آنفا ـ ويقولون إنّ قطع السفينة كان موجودة على قمة هذا الجبل حتى زمان بني العباس وكان المشركون يزورونها في القصص البابلية قصّة شبيهة بطوفان نوحعليه‌السلام (ملحمة گيلگامش) ويمكن ـ إضافة إلى ذلك ـ احتمال طغيان دجلة في تلك الفترة ، وسكنة تلك المنطقة هم المبتلون بالطوفان.

وفي جبل الجودي كتيبة آشورية موسومة بكتيبة «ميسر» وقد لو حظ في هذه الكتيبة اسم «آرارتو».

٣ ـ وفي الترجمة الحالية ل «التوراة» : إن محل استقرار سفينة نوح في جبال «آرارات» وهو جبل «ماسيس» الواقع في «أرمنستان» وقد ضبط صاحب قاموس الكتاب المقدّس معناه الأولي ، فكان المعنى «ملعون» وقال : بناء على ما جاء في الرّوايات فإنّ سفينة نوح استقرّت على قمة هذا الجبل ، ويسميّه العرب بـ «الجودي» ويسمّيه الإيرانيون بـ «جبل نوح» ويسميه الأتراك بـ «كرداغ» بمعنى الجبل المنحدر ، وهو واقع قرب «أرس».

وحتى القرن الخامس لم يعرف الأرامنة جبلا في أرمنستان باسم جبل «الجودي» ولكن منذ ذلك الوقت تسرب هذا المفهوم الى علماء الأرمن وقد يكون السبب هو اشتباه المترجمين للتوراة الذين ترجموا جبل «الأكراد» إلى «أرارات» ولعل ممّا سوّغ هذا التصوّر أنّ الآشوريين أطلقوا على الجبال الواقعة شمال

٥٤٥

بحيرة «وان» وجنوبها اسم «آرارات» أو «آراتو».

يقال أنّ النّبي نوحا بنى مسجدا على قمة جبل الجودي بعد ما غاض الطوفان ، ويقول الأرامنة : إنّ في سفح جبل الجادي «الجودي» قرية تدعى ثمانين أو ثمان ، وهي أوّل محل نزل فيه أصحاب نوحعليه‌السلام (١) .

* * *

__________________

(١) أعلام القرآن للغزائلي ، ص ٢٨١.

٥٤٦

الآيات

( وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧) )

التّفسير

حادثة ابن نوح المؤلمة :

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ ابن نوح لم يسمع نصيحة والده وموعظته ، ولم يترك لجاجته وحماقته حتى النفس الأخير ، فكانت نهايته الغرق في أمواج الطوفان.

وهذه الآيات ـ محل البحث ـ تتحدث عن قسم آخر من هذه القصّة ، وهو أنّه حين رأى نوح ابنه تتقاذفه الأمواج ثارت فيه عاطفة الأبوّة وتذكر وعد الله في نجاة أهله فالتفت إلى ساحة الله مناديا( فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ) .

٥٤٧

وهذا الوعد هو ما أشارت إليه الآية (٤٠) من هذه السورة حيث يقول سبحانه:( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) .

فكان أن تصوّر نوح أن قوله تعالى :( إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) خاص بزوجته المشركة التي لم تؤمن به دون ابنه كنعان ، ولذلك خاطب نوح ربّ العزّة بهذا الكلام.

ولكنّه سمع الجواب مباشرة جواب يهزّ هزا كما أنّه يكشف عن حقيقة كبيرة حقيقة أنّ الرّباط الديني أسمى من رباط النسب والقرابة( قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) .

فهو فرد غير لائق ، حيث لا أثر لرباط القرابة بعد أن قطع رباط الدين.( فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ) .

فأحسّ نوح أنّ طلبه هذا من ساحة رحمة الله لم يكن صحيحا ، ولا ينبغي أن يتصور نجاة ولده ممّا وعد الله به في نجاة أهله ، لذلك توجه إلى الله معتذرا مستغفرا و( قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ لم كان ابن نوح «عملا غير صالح»؟!

يعتقد بعض المفسّرين أنّ في الآية إيجاز حذف ، وأصل الآية هكذا «إنّه ذو عمل غير صالح».

ولكن مع ملاحظة أنّ الإنسان قد يذوب في عمله إلى درجة كأنّه يصير بنفسه العمل ذاته ، وفي اللغات المختلفة يأتي مثل هذا التعبير على نحو المبالغة كأن يقال : إنّ فلانا هو كل العدل والسخاء ، أو إنّ فلانا هو السرقة والفساد فكأنّه غاص في

٥٤٨

العمل حتى صار هو العمل بذاته.

فابن نوح كان كذلك ، فقد جالس رفقاء السوء وغاص في أعمالهم السيئة وأفكارهم المنحرفة ، بحيث كأنّ وجوده تبدل إلى عمل غير صالح!

فعلى هذا وإن كان التعبير المقدم موجزا ومختصرا جدا ، إلّا أنّه يعبّر عن حقيقة مهمّة في ابن نوح!.

أي لو كان هذا الظلم والانحراف والفساد في وجود ابن نوح سطحيّا لكانت الشفاعة في حقّه ممكنة ، ولكنّه أصبح غارقا في الفساد والانحراف ، فليس للشفاعة هنا محلّ ، فدع الكلام فيه يا نوح!

وما يراه بعض المفسّرين من أن كنعان لم يكن ابن نوح حقيقة ، أو أنّه كان ابنا غير شرعي ، أو أنّه ابن شرعي من زوجته عن رجل آخر ، بعيد عن الصواب لأنّ قوله :( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) في الواقع علة لقوله :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) أي إنّما نقول لك إنّه ليس من أهلك فلأنّه انفصل عنك بعمله وإن كان الرباط النسبي لا يزال قائما

٢ ـ دائرة الوعد الإلهي

مع ملاحظة ما ورد في الآيات المتقدمة من خطاب نوح لربّه وما أجابه الله به ، ينقدح هذا السؤال وهو : كيف لم يلتفت نوح إلى أنّ ابنه كنعان كان خارج دائرة الوعد الالهي؟

ويمكن الإجابة على هذا السؤال ـ كما أشرنا آنفا ـ أنّ هذا الابن لم تكن له طريقة واحدة معروفة ، فتارة تراه مع المؤمنين وأخرى مع الكفار ، ممّا يوهم أنّه مؤمن. بالإضافة إلى الإحساس بالمسؤولية الكبرى التي كان نوح يجدها في نفسه بالنسبة إلى ولده ، كذلك المحبّة والعلاقة الطبيعية التي يجدها كل أب بالنسبة لابنه ، والأنبياء غير مستثنين من هذا القانون ، كل ذلك كان سببا في أن يطلب نوح من

٥٤٩

ربّه هذا الطلب

ولكن بمجرّد أن اطّلع على واقع الأمر ، أسف على طلبه فورا واعتذر إلى الله راجيا عفوه ـ وإن لم يكن صدر منه ذنب ـ لأنّ موقع النّبي يقتضي منه أن يراقب كلامه وتصرفاته، فكان الأولى عليه الترك ، ومن هنا فقد سأل الله العفو والمغفرة ومن هنا يتّضح الجواب على سؤال : هل يذنب الأنبياء حتى يطلبوا العفو والمغفرة؟

٣ ـ هناك حيث تنقطع العلائق

تعكس الآيات الآنفة درسا من أنجع الدروس الإنسانية والتربوية ضمن بيان قصّة نوح درسا لا مفهوم له في المذاهب المادية لكنّه أصل أساس في المذهب الإلهي والمعنوي.

فالعلائق المادية «النسب ، القرابة ، الصداقة ، المرافقة» تخضع دائما في المذاهب السماوية إلى العلائق المعنوية.

وفي المذاهب السماوي لا مفهوم للعلاقة النسبية والقرابة مقابل الرابطة المذهبية.

هناك حيث تتحقق العلاقة الدينية ، كسلمان الفارسي الذي لا هو من أهل بيت النّبي ولا من قريش ولا من أهل مكّة ، بل لم يكن أساسا من العرب ، ولكنّه طبقا لما ورد في الحديث الشريف المعروف «سلمان منّا أهل البيت»كان يعدّ من أسرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّ الابن الواقعي والمباشر للنّبي ـ كابن نوح ـ يطرد على أثر قطع علاقته الدينية، ويقال في شأنه لأبيه نوح :( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) .

قد تكون هذه المسألة المهمّة عسيرة الفهم لمن يعيش في دائرة التفكير المادي لكنّها حقيقة من صميم الأديان السماوية جميعا.

٥٥٠

وعلى هذا الأساس نجد أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام تتحدث عن بعض الشيعة الذين يحملون اسم التشيّع إلّا أنّه لا يوجد فيهم علائم من تعليمات أهل البيتعليهم‌السلام بنفس الطريقة التي تقدمت في الآيات الآنفة في القرآن الكريم حيث نقل عن علي بن موسىعليه‌السلام أنّه سأل بعض أصحابه يوما : كيف يفسر الناس هذه الآية( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ) فأجابه أحد الحاضرين : إنّهم يعتقدون أن كنعان لم يكن الابن الحقيقي لنوح ، فقال الإمام : «كلّا لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله نفاه عن أبيه ، كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا»(١) .

٤ ـ المسلمون المطرودون

ومن المناسب أن نستلهم من الآية فنشير إلى قسم من الأحاديث الإسلامية التي ترى طوائف كثيرة من المسلمين ، أو أتباع أهل البيتعليهم‌السلام في الظاهر مطرودين وخارجين عن صف المؤمنين والشيعة :

١ ـ فقد ورد عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من غش مسلما فليس منّا»(٢) .

٢ ـ كما روي عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «ليس بولي لي من أكل مال مؤمن حرام»(٣) .

٣ ـ ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا ومن أكرمه النّاس اتقاء شره فليس منّي».

٤ ـ وروي عن الإمام علي أنّه قال : «ليس من شيعتنا من يظلم الناس».

٥ ـ وقال الإمام الكاظمعليه‌السلام : «ليس منّا من لم يحاسب نفسه كل يوم»(٤) .

٦ ـ ويقول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآية المتقدمة.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣١٨.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٥٣.

(٤) بحار الأنوار ، الطبعة القديمة ج ١٥ قسم الأخلاق.

٥٥١

بمسلم»(١) .

٧ ـ وقال الإمام الباقرعليه‌السلام لأحد أصحابه وكان يدعى «جابرا» : «واعلم يا جابر بأنك لا تكون لنا وليّا حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا : إنّك رجل سوء ، لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح ، لم يسرك ذلك ، ولكن أعرض نفسك على كتاب الله»(٢) .

هذه الأحاديث تضع علامة «البطلان» على تصورات من يقنع بالاسم فحسب ولكنّهم لا يعيرون أهمية للعمل بالتكليف ، أو للروابط الايمانية ، وتثبت بوضوح أنّ الأصل في مذهب القادة الرّبانيين والأساس هو الإيمان بالعقيدة والعمل بمناهجهم ، وينبغي أن يقاس كل شخص بهذا المقياس.

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٦٤.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٩١.

٥٥٢

الآيتان

( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) )

التّفسير

هبوط نوح بسلام :

هاتان الآيتان هما نهاية الآيات التي تتحدث عمّا جاء في نوح وقصّته المليئة بالدروس والعبر في سورة هود ، وفيهما إشارة إلى هبوط نوحعليه‌السلام من سفينته وعودة الحياة والعيش الطبيعي على الأرض.

يقول القرآن في الآية الأولى من هاتين الآيتين :( قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ) .

لا شك أنّ الطوفان كان قد دمر كل آثار الحياة فالأراضي العامرة والمراتع الخضر والغابات النضرة كلّها أبيدت ، فالحالة كانت تنذر بأزمة خانقة لنوح وأصحابه بالنسبة للمعاش والغذاء ، لكن الله سبحانه طمأن هذه الجماعة المؤمنة

٥٥٣

إزاء البركات الإلهية والسلامة وأن كل ذلك سيكون مهيّأ وموفّرا لهم فلا ينبغي الحزن على شيء مضافا إلى ذلك فقد يأتي الحزن والخوف من شيء آخر وهو الخوف على السلامة والصحة بسبب المستنقعات والمياه الآسنة الباقية من آثار الطوفان التي تهدد حياتهم بالخطر، فالله سبحانه يطمئن نوحا وأصحابه أيضا أنّه لا خطر يهددهم ، وأن الذي أرسل الطوفان لهلاك الطغاة قادر على أن يوفر محيطا سالما مليئا بالخيرات والبركات للمؤمنين كذلك.

هذه الجملة القصيرة تشعرنا وتفهمنا أن القرآن يهتم بالمسائل الدقيقة للغاية ، ويعكسها في عبارات مضغوطة شائقة وأخّاذة!.

كلمة «أمم» هي جمع «أمة» وهذا التعبير يدل على أن مع نوح طوائف من عباد الله وخلقه ، كما يدل هذا التعبير على أنّ الأفراد الذين هم مع نوح كل منهم سيكون سببا لوجود قبيلة وأمّة كبيرة ، أو أنّه فعلا كان مع نوح أفراد من قبائل وأمم متعددة فيشكل مجموعهم أمما أيضا ويرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أن الأمم التي كانت مع نوح تشمل مجموعة الحيوانات المتعددة ، لأنّ القرآن أطلق لفظ الأمّة عليها أيضا في مكان آخر من آياته ، فنحن نقرأ في سورة الأنعام الآية (٣٨)( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) .

فيتّضح بهذا أنّ نوحا وأصحابه هبطوا إلى الأرض بسلام ليجدوا بركات الله وليطمئنوا بالحياة الهانئة ، كذلك الحال بالنسبة إلى الحيوانات التي كانت معهم في السفينة وهبطت إلى الأرض ، فإنّ لطف الله شملها جميعا كذلك.

ثمّ يضيف القرآن مخاطبا نوحا أنّه ستعقب الأمم التي معك أمم من نسلها ، ولكن هذه الأمم ستغتر وتغفل عن نعم الله فتنال جزاءها من الله( وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

٥٥٤

فعلى هذا ليس انتخاب الأصلح من الناس أو إصلاح الناس عن طريق الطوفان هو آخر الانتخاب وآخر الإصلاح ، بل ستبلغ مرحلة جديدة من بني آدم أيضا يصلون بها الذروة من الرشد والتكامل ، ولكن الناس قد يسيئون الاستفادة من حرية الإرادة ويستخدمونها في طريق الشرّ والفساد ، فينالون جزاءهم في هذه الدنيا كما ينالون العذاب في الأخرى.

الطريف في الآية أنّها تقول( سَنُمَتِّعُهُمْ ) ثمّ تتحدث عن العذاب مباشرة. وفي ذلك إشارة إلى أن الاستمتاع ينبغي أن يكون مدعاة للشكر والثناء على نعم الله وطاعته ، ولكن غالبا ما يزيد المتنعمين طغيانا وكفرا ويقطعون العلاقة بينهم وبين الله.

وينقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية أنّ بعض المفسّرين يقول في قوله: «نمتعهم» إلخ : هلك المستمتعون في الدنيا لأنّ الجهل يغلب عليهم والغفلة فلا يتفكرون إلّا في الدنيا وعمارتها وملذاتها.

هذا الواقع يرى جيدا في الدول المتنعمة والمتموّلة في هذا العالم ، حيث يغوص أهلوها بالفساد فلا يفكرون في المستضعفين ـ فحسب ـ ، بل نراهم يوما بعد آخر يحاولون الكيد بهم وإراقة دمائهم أكثر فأكثر ، لذلك كثيرا ما يتفق أن ينزل الله عليهم الحروب والحوادث الأليمة التي تسلب النعم مؤقتا لعلهم يفيقون من غفلتهم.

وفي آخر آية تختم بها قصّة نوح ـ في هذه السورة ـ إشارة كلية عامّة إلى ما حدث في عهد نوح فتقول :( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ) .

فالخطاب هنا للنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد عليه أن يصبر ويستقيم كما صبر واستقام نوحعليه‌السلام عند ما واجه المشاكل ، وهكذا تكون عاقبة الصبر النصر( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) .

٥٥٥

الآية الأخيرة تشير إلى عدّة مسائل :

١ ـ إنّ بيان قصص الأنبياءعليهم‌السلام ـ بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف الخرافة ـ ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب ، وإلّا فإنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل ، وكلما عدنا إلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر.

فعلى هذا ، يعتبر بيان حال الأنبياء الماضين والأقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخز الخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والإسلام والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ يستفاد من هذه الآية ـ خلافا لما يتصوره البعض ـ أنّ الأنبياء كانوا يعلمون الغيب عن طريق تعليم الله وبالمقدار الذي كان يريده الله لهم ، لا أنّهم يعلمون الغيب من أنفسهم ، وإذا وجدنا في بعض الآيات ما ينفي العلم الغيبي عنهم ، فهو إشارة إلى أنّ علمهم ليس ذاتيا ، بل هو من الله.

٣ ـ وهذه الآية توضح حقيقة أخرى ، وهي أنّ بيان قصص الأنبياء والأقوام الماضين في القرآن ليس درسا للمسلمين فحسب ، بل هو إضافة إلى ذلك تسلية لخاطر النّبي وطمأنة لقلبه ، لأنّه بشر أيضا ، وينبغي أن يتلقى الدروس من الأديان الالهية ويتهيأ لمواجهة الطاغوت في عصره ، وأن لا يكترث بهموم المشاكل في طريقه.

أي كما واجه نوح المشاكل بصبر واستقامة لسنين طوال ليهدي قومه إلى الإيمان ، فعليك يا نبي الإسلام أن لا تدع الصبر والاستقامة على كل حال! والآن نودع قصّة نوح بكل ما تحمل من عبر وأعاجيب ، ونتوجه إلى نبي عظيم آخر وهو هود الذي سمّيت هذه السورة باسمه.

* * *

٥٥٦

الآيات

( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) )

التّفسير

محطّم الأصنام الشّجاع :

كما أشرنا آنفا ، فإنّ قصص خمسة أنبياء عظام وما واجهوه من شدائد وصعاب في دعواتهم والنتائج المترتبة عليها مبين في هذه السورة. وفي الآيات السابقة كان الكلام حول نوحعليه‌السلام وأمّا الآن فالحديث عن هودعليه‌السلام .

جميع هؤلاء الأنبياء جمعهم هدف واحد ومنطق واحد ، وجميعهم نهضوا لإنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر ، ولدعوتهم إلى التوحيد بجميع أبعاده.

وكان شعارهم جميعا الإيمان والإخلاص والجد والمثابرة والاستقامة في سبيل الله ، وكان رد الفعل من أقوامهم الخشونة والإرهاب والضغوط

٥٥٧

يقول سبحانه في الآية الأولى من هذه القصّة( وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً ) ونلاحظ في الآية أنّها وصفت هودا بكونه «أخاهم».

وهذا التعبير جار في لغة العرب. حيث يطلقون كلمة أخ على جميع أفراد القبيلة لانتسابهم إلى أصل واحد

فمثلا يقولون في الأسدي «أخو أسد» وفي الرجل من قبيلة مذحج «أخو مذحج».

أو أنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ معاملة هود لهم كانت أخوية بالرغم من كونه نبيّا ، وهذه الحالة هي صفة الأنبياء جميعا ، فهم لا يعاملون الناس من منطق الزعامة والقيادة أو معاملة أب لأبنائه ، بل من منطلق أنّهم إخوة لهم

معاملة خالية من أية شائبة واي امتياز أو استعلاء.

كان أوّل دعوة هود ـ كما هو الحال في دعوة الأنبياء جميعا ـ توحيد الله ونفي الشرك عنه( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ) .

فهذه الأصنام ليست شركاءه ، ولا منشأ الخير أو الشرّ ، ولا يصدر منها أي عمل ، وأي افتراء أعظم وأكبر من نسبتكم كل هذا المقام والتقدير لهذه الموجودات «الأصنام» التي لا قيمة لها إطلاقا.

ثمّ يضيف هود قائلا لقومه : لا تتصوروا أن دعوتي لكم من أجل المادة ، فأنا لا أريد منكم أي أجر( يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ) فأجري وحده على من فطرني ووهبني الروح وأنا مدين له بكل شيء ، فهو الخالق والرازق( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ) .

وأساسا فإنّي في كل خطوة أخطوها لسعادتكم ، إنّما أفعل ذلك طاعة لأمره ، ولذلك ينبغي طلب الأجر منه وحده لا منكم ، وإضافة إلى ذلك فهل لديكم شيء من عندكم ، فكل ما هو لديكم منه سبحانه( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

ثمّ شرع هود ببيان الأجر المادي للإيمان لغرض التشويق والاستفادة من

٥٥٨

جميع الوسائل الممكنة لإيقاظ روح الحق في قومه الظالين فبيّن أن هذا الأجر المادي مشروط بالايمان فيقول :( وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) فإذا فعلتم ذلك فإنّه( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) (١) لئلا تصاب مزارعكم بقلة الماء أو القحط ، بل تظل خضراء مثمرة دائما ، وزيادة على ذلك فإنّ الله بسبب تقواكم وابتعادكم عن الذنوب والتوجه إليه يرعاكم( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) .

فلا تتصوروا أنّ الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبدا ، بل إنّ قواكم الجسميّة ستزداد بالاستفادة من القوّة المعنوية وبهذا الدعم المهم ستقدرون على عمارة المجتمع وبناء حضارة كبيرة وأمّة مقتدرة تتمتع باقتصاد قوي وشعب حر مستقل ، فعلى هذا إيّاكم والابتعاد عن طريق الحق( وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ التوحيد أساس دعوة الأنبياء :

يبين تاريخ الأنبياء أنّهم بدأوا دعوتهم جميعا من التوحيد ونفي الشرك ونفي عبادة الأصنام أيّا كانت ، والواقع فإنّ أي إصلاح في المجتمعات الإنسانية لا يتيسر بغير هذه الدعوة ، لأنّ وحدة المجتمع والتعاون والإيثار كلها أمور تسترفد من منبع واحد وهو توحيد المعبود.

وأمّا الشرك فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية وما إلى ذلك وارتباط هذه المفاهيم بالشرك وعبادة الأصنام بالمفهوم الواسع غير خاف على

__________________

(١) «المدرار» كما وضحنا سابقا مشتق من «درّ» وهو انصباب حليب الأثداء ، ثمّ استعمل في انصباب المطر ، والطريق في الآية أنّها لا تعبر بـ «ينزل المطر من السماء» بل قالت :( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) بمعنى أنّ المطر يهطل إلى درجة غزيرة حتى كأنّ السماء تهطل ، وملاحظة أنّ مدرارا صيغة مبالغة أيضا فيستفاد غاية التوكيد من هذه الجملة.

٥٥٩

أحد! الشخص الذي يدور حول نفسه ـ أو يجرّ النّار إلى قرصه ـ يرى نفسه فحسب ، ولهذا فهو مشرك ، لأنّ التوحيد يذيب «الانا» والذات الفردية في محيط اجتماعي واسع عريض ، والموحّد لا يرى شيئا سوى واحد كبير ، أي أن جميع المجتمع الإنساني عباد الله!

والأشخاص الذين يطلبون الاستعلاء مشركون من نوع آخر ، فهم في صراع مع أبناء جلدتهم ويرون منافعهم منفصلة عن منافع الآخرين ، فهذا التجزؤ أو «هذه الازدواجية» ليس إلّا شركا في أوجه مختلفة.

من هنا بدأ الأنبياء في سبيل إصلاح المجتمع بالدعوة الى توحيد المعبود «الله» ، ثمّ توحيد الكلمة ، وتوحيد العمل ، وتوحيد المجتمع.

٢ ـ قادة الحق لا يطلبون أجرا من أتباعهم.

إنّ الزعيم الواقعي يمكنه أن يكون في مأمن من أي اتهام ويواصل طريقه في غاية الحرية في صورة ما لو لم تكن له حاجة مادّية ، فبذلك يستطيع أن يصحح كل انحراف في أتباعه ، وإلّا فإنّ الحاجة الماديّة بالنسبة لهذا المصلح ستكون غلّا تصفّد به يداه ورجلاه وقفلا على لسانه وفكره.

ومن هذا الطريق طريق الحاجة الماديّة يدخل المنحرفون لممارسة ضغوطهم عليه عن طريق قطع المساعدات المادية أو عن طريق الإغراء بزيادة المساعدات ، ومهما يكن الزعيم والقائد نقيا صافيا ومخلصا فهو انسان ـ أيضا ـ ومن الممكن أن تزل قدماه ولهذا السبب نقرأ في الآيات الآنفة ـ وآيات أخرى من القرآن ـ أنّ الأنبياء يعلنون بصراحة في بداية دعوتهم أنّه ليست لهم حاجة مادية ولا ينتظرون من أتباعهم الأجر.

وهذا دستور لجميع القادة ولا سيما القادة الروحانيين ورجال الدين ، غاية ما

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608