الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260112 / تحميل: 6425
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لتشخيص تلك الذنوب، الامور التالية:

١ - كل ذنب وعد الله سبحانه وتعالى له في القرآن الكريم عذاباً.

٢ - كل ذنب عين له الشارع المقدس حداً معيناً (كشارب الخمر والزاني، والسارق، وامثالها، فحدودها الجلد والقتل والرجم) وقد حذر عنه القرآن الكريم.

٣ - كل ذنب يدل على الاستهانة بالدين والامبالاة به.

٤ - كل ذنب ثبتت حرمته وانه ذنب كبير بالأدلة القاطعة.

٥ - كل ذنب هدّد له القرآن والسنة بالعذاب الشديد لمرتكبه(١) .

أما حول عدد الذنوب الكبيرة فبعضهم قال: سبعة والبعض الآخر قالوا: عشرة، واخرون: عشرون، والبعض: اربع وثلاثون وبعض: أربعون أو أكثر.

والجدير بالانتباه هو أنّ هذه الاختلافات في العدد قد جمعت واقتبست من الايات والروايات المختلفة، ولاجل ذلك لا تكون الذنوب الكبيرة في مستوى واحد.

____________________

(١) نقلاً من العلامة المجلسي في شرح اصول الكافي، والتي نقلها بدوره عن الشيخ البهائي، ترجمة (اصول الكافي ج٣ ص ٣٩٢).

٢١

الذنوب الكبيرة في نظر الامام الخميني (قدس سره).

جاء في كتاب تحرير الوسيلة للامام الخميني (قدس سره) حول الذنوب الكبيرة ما يلي:

١ - هي كل معصية توعد الله مرتكبها بنار جهنّم كما ورد في القرآن والروايات الاسلامية.

٢ - أو نهي عنها في الشريعة نهياً غليظاً.

٣ - او دل دليل على كونها اكبر من بعض الذنوب الكبيرة الاخرى او امثالها.

٤ - او حكم العقل بانها كبيرة.

٥ - ان يعد ذلك الذنب في ارتكاز المتشرعة من الذنوب الكبيرة.

٦ - او ورود النص من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) او الائمة (عليهم السلام) بكونها من الذنوب الكبيرة.

ثم قال: الذنوب الكبيرة كثيرة بعضها عبارة عن:

١ - اليأس من رحمة الله.

٢ - الأمن من مكره.

٣ - الكذب على الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصيائه.

٤ - قتل النفس التي حرمها الله الا بالحق.

٥ - عقوق الوالدين.

٦ - اكل مال اليتيم ظلماً.

٢٢

٧ - قذف المحصنة.

٨ - الفرار من الزحف.

٩ - قطيعة الرحم.

١٠ - السحر والشعبذة.

١١ - الزنا.

١٢ - اللواط.

١٣ - السرقة.

١٤ - اليمين الغموس.

١٥ - كتمان الشهادة في مورد تكون الشهادة عليه واجبة.

١٦ - شهادة الزور.

١٧ - نقض العهد.

١٨ - الحيف في الوصية.

١٩ - شرب الخمر.

٢٠ - الربا.

٢١ - أكل السحت.

٢٢ - القمار.

٢٣ - اكل الميتة والدم.

٢٤ - اكل لحم الخنزير.

٢٥ - ما أهلّ لغير الله من غير ضرورة.

٢٦ - البخس في المكيال والميزان.

٢٣

٢٧ - التعرب بعد الهجرة(١) .

٢٨ - معونة الظالمين.

٢٩ - الركون اليهم (يعني الظالمين).

٣٠ - حبس الحقوق من غير عذر.

٣١ - الكذب.

٣٢ - التكبر.

٣٣ - الاسراف والتبذير.

٣٤ - الخيانة.

٣٥ - الغيبة.

٣٦ - النميمة.

٣٧ - الاشتغال بالملاهي.

٣٨ - الاستخفاف بالحج.

٣٩ - ترك الصلاة.

٤٠ - منع الزكاة.

٤١ - الاصرار على الصغائر من الذنوب.

وأما الشرك بالله تعالى وانكار ما انزله ومحاربة اوليائه فهي من اكبر الكبائر(٢) .

____________________

(١) يعني أنّ الانسان كان في مكان محفوظ فيه دينه ويهاجر الى مكان يكون دينه في خطر فيسمى ذلك (التعرب).

(٢) تحرير الوسيلة ج ١ ص ٢٧٤، ٢٧٥.

٢٤

وطبقاً لما ورد في رسالة الامام الخميني (قدس سره) فانّ الذنوب الكبيرة كثيرة وما ذكر هو قسم منها. فمثلاً الاستهانة بالكعبة والقرآن والرسول والائمة الطاهرين (عليه السلام) او سبهم او البدعة و...... يعد من الذنوب الكبيرة.

تقسيم آخر للذنوب:

قال الامام علي (عليه السلام)(١) .

« إن الذنوب ثلاثة.... فذنب مغفور وذنب غير مغفور. وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه ».

قيل: يا امير المؤمنين (عليه السلام) فبينها لنا، قال (عليه السلام) نعم: أما الذنب المغفور فعبد عاقبه الله تعالى على ذنبه في الدنيا فالله أحكم وأكرم ان يعاقب عبده مرتيّن، وأما الذنب الذي لا يغفر فظلم العباد بعضهم لبعض، إن الله تبارك وتعالى اذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال: وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفّ بكّف، ولو مسحة بكف ونطحةٍ ما بين الشاة القرناء الى الشاة الجماء، فيقتض الله للعباد بعضهم من بعض، حتى لا يبقى لأحدٍ عند أحد مظلمة، ثم يبعثهم الله الى الحساب، وأم الذنب الثالث فذنب سترة الله على عبده ورزقه التوبة فأصبح خاشعاً من ذنبه، راجياً لربه فنحن له كما هو لنفسه نرجو له الرحمة ونخاف عليه العقاب.

____________________

(١) بحار الانوار ج ٦ ص ٢٩ - ٣٠.

٢٥

الموارد التي تبدل الذنب الصغير

الى ذنبٍ كبير

يستفاد من بعض الروايات والآيات القرآنية بان هناك ذنوباً صغيرة تتبدل الى ذنوبه كبيرة وتتلبس باحكامها.

١ - الاصرار على الذنب الصغير:

إنّ ممارسة الذنب الصغير لعدة مرات يعد ذنباً كبيراً واذا لم يبادر المرتكب للذنب الى التوبة والاستغفار يحسب اصراراً على المعصية.

فمثلاً لو نسج الخيط مع الشعر لصار حبلاً قوياً فعندها لا يكون خيطاً ولا شعراً بل هو حبل قوي. ففي سورة آل عمران (الآية ١٣٥) نقرأ:

(.... ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون).

٢٦

قال الامام الباقر (عليه السلام) في شرح هذه الآية:

« الاصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله فلا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الاصرار »(١) .

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« إياك والاصرار فأنه من أكبر الكبائر واعظم الجرائم »(٢) .

لا تغفلوا عن الذنوب الصغيرة:

قال الامام الصادق (عليه السلام):

ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرضٍ قرعاء فقال لاصحابه: ائتوا بحطبٍ، فقالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال (صلى الله عليه وسلم): فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فان لكلّ شيء طالباً ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمامٍ مبين »(٣) .

اشارة الى قوله تعالى في سورة يس الآية ١٢:

(ونكتب ما قدموا...).

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٨.

(٢) غرر الحكم ج ١ ص ١٥١.

(٣) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٨.

٢٧

قال الامام الصادق (عليه السلام):

« لا صغيرة مع الاصرار ».

٢ - الاستهانة بالذنب:

الاستهانة بالذنب تعدّ من الذنوب الكبيرة، ولا يضاح الموضوع نضرب مثالاً:

اذا ضرب أحد غيره بحجرٍ كبير على رأسه ثم ندم على عمله واعتذر، فمن الممكن ان يصفح عنه. ولكن اذا ضرب احد الآخر بحجرٍ صغير جداً ولم يعتذر منه زاعماً أنها هفوة طفيفة ولم تكن شيئاً مهماً، فطبيعي أن لا يصفح عنه المضروب، لانها نابعة من روحه المتبكرة واستهانته بذنبه.

قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام).

« من الذنوب التي لا تغفر: ليتيني لم أواخذ الاّ بهذا »(١) .

لان الذنب المشار اليه في الرواية قد استهين به.

قال الامام علي (عليه السلام).

« أشد الذنوب ما استهان به صاحبه »(٢) .

نقل زيد الشحام عن الامام الصادق (عليه السلام) انه قال:

« اتقوا المحقرات من الذنوب فانها لا تغفر ».

____________________

(١) بحار الانوار: ج ٧٣، ص ٣٥٥.

(٢) نهج البلاغة الحكمة ٣٤٨ غرر الحكم ج ١ ص ١٩٣.

٢٨

قلت: وما المحقرات؟ قال الامام الصادق (عليه السلام):

« الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك »(١) .

٤ - وجاء في الصحيفة السجادية عن الامام السجاد (عليه السلام) في ضمن الدعاء انه يقول:

« اللهم اعوذ بك من... الاصرار على المآثم واستصغار المعصية واستكبار الطاعة ومباهاة المكثرين والازراء بالمقلين وسوء الولاية لمن تحت ايدينا وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا... »(٢) .

٣ - الابتهاج عند ممارسة الذنب:

الاحساس باللذة والفرح عند اقتراف الذنب هو احد الاسباب التي تحول الذنب الى كبير ويوجب العذاب الاليم لصاحب الذنب. وفي هذا المورد توجد عدة روايات.

قال الامام علي (عليه السلام):

« شر الاشرار من تبهج بالشر »(٣) .

وقال ايضاً:

« من تلذذ بمعاصي الله ذلّ »(٤) .

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٨٧.

(٢) الدعاء الثامن من الصحيفة السجادية.

(٣) الغرر ص ١٣٠.

(٤) غرر الحكم ج ١ ص ٤٤٦.

٢٩

قال الامام السجاد (عليه السلام):

« اياك وابتهاج الذنب فانه اعظم من ركوبه »(١) .

وقال الامام السجاد (عليه السلام) في حديث آخر:

« حلاوة المعصية يفسدها اليم العقوبة »(٢) .

وله في حديث آخر:

« لا خير في لذة من بعدها النار »(٣) .

وقال الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« من أذنب ذنباً وهو ضاحك دخل النار وهو باك »(٤) .

٤ - اقتراف الذنب عند الطغيان:

والسبب الاخر الذي يبدل الذنب الصغير الى كبير هو صدوره عن الطغيان والعصيان كما ورد في الآيات التالية من سورة النازعات الآية ٣٧ الى ٣٩.

(وأمّا من طغى - وآثر الحياة الدّنيا فإنّ الجحيم هي المأوى).

____________________

(١) بحار الانوار ج ٧٨ ص ١٥٩.

(٢) بحار الانوار ج ٧٨ ص ١٥٩.

(٣) بحار الانوار ج ٧٨ ص ١٥٩.

(٤) مشكاة الانوار ص ٣٩٤ - وسائل الشيعه ج ١١ ص ٢٦٨.

٣٠

٥ - الغرور عند ارخاء الستر الالهي للانسان المذنب وامهاله:

من الموارد التي تحول الذنب الصغير كبيراً هو ان المذنب يخالج تفكيره أن عدم مجازاة الله سبحانه وتعالى السريعة له تدل على رضى الله عنه وحبه له كما جاء في الآية ٨ من سورة المجادلة:

(ويقولون في أنفسهم لولا يعذّبنا الله بما نقول حسبهم جهنّم يصلونها فبئس المصير).

فالوعيد بعذاب جهنم لهؤلاء الاشخاص دليل على ان ذنب هؤلاء المغرورين بعدم مجازاة الله السريعة لهم هي من الذنوب الكبيرة.

٦ - التجاهر بالذنب:

إنّ اعلان الذنب والتجاهر به أمام الناس يبدل الذنب الصغير الى ذنبٍ كبير. وهذا التجاهر تعبير عن ان صفة التجرّو على الاوامر الالهية وعدم الالتزام بها هي صفة المذنبين، ويعبّر ايضا عن تلوث المجتمع لكون الذنب فيه متفشياً وطبيعياً.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

« إياك والمجاهرة بالفجور فانه من اشد المآثم »(١) .

وقال الامام الرضا (عليه السلام):

« المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة

____________________

(١) غرر الحكم ج ١ ص ١٥١.

٣١

مخذولّ »(١) .

٧ - ذنب الاشخاص ذوي المركز الاجتماعي المرموق:

هناك أشخاص لهم مكانة اجتماعية مرموقة بين الناس، فما يقترفونه من الذنوب له حكمّ خاص يختلف تماماً عن عامة الناس لذا يحكم على ذنوبهم الصغيرة بكونها كبيرة لوجود بعدين.

١ - بعد فردي.

٢ - بعد اجتماعي.

إنّ ذنب الاشخاص المتميزين المرموقين في البعد الاجتماعي يعد ذنباً كبيراً وان كان صغيراً لانه يوفر الارضية لانحراف واغواء جمعٍ كثيرٍ من الناس مما يؤدي الى الاستهانة بالدين.

كما يقولون: « الملح يرجى لإصلاح ما فسد فكيف الحال اذا الملح فسد؟!! »، ولنضرب المثال الآتي:

لو وضع شخص أمي ماءً قذراً في اناء واعطاه لآخر فشربه فاصابه المرض، في هذه الحالة لا يعاقب الأمي لأن الثاني كان عالماً فلماذا شرب الماء؟

ومثله اذا كان شخص يصنع « المرطبات » بالفستق وماء الورد والحليب ويقدمه الى المشتري بشكلٍ جميل وجذاب فاذا أكل أحدً من تلك « المرطبات » فتسمم عوقب ذلك البائع لجذبه المشترين

____________________

(١) مشكاة الانوار: ص ٣٩٤ - اصول الكافي ج ٢ ص ٤٢٨.

٣٢

واغرائهم بلون المرطبات المعروضة وجهلهم بتسمّمها.

وعلى هذا المعيار تأتي المحاسبة الالهية للشخصيات المرموقة في المجتمع مختلفةً عن محاسبة الآخرين.

ذنب العلماء من وجهة نظر القرآن الكريم:

١ - في الآية ٤٤ ألى ٤٨ من سورة الحاقة نقرأ:

(ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل - لأخذنا منه باليمين - ثمّ لقطعنا منه الوتين - فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين).

لقد ظهر اشخاص كثيرون في التاريخ أظهروا البدع وتحريف الدين، ولم يخاطبهم الله بذلك الخطاب الشديد الوارد في الآية اعلاه. لكن لو فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك لعاقبه تعالى لاجل مقام العصمة والعلم والمعرفة التي يتصف بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا تأكيد على أن رفيع المنزلة اذا أذنب فذنبه ذنب كبير، وعلى هذا الاساس فانّ كل من يمتلك شخصية علمية او دينية وينتسب الى الشريعة والدين تكون مسؤوليته اكبر.

العالم غير الملتزم في القرآن الكريم:

شبه القرآن الكريم العالم الذي لا يعمل بما يعلم « بالكلب والحمار » فنرى في سورة الأعراف الآية ١٧٦ ما ورد في ذم العالم المذنب « بلعم بن باعوراء » قوله تعالى:

٣٣

(فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث).

وفي الآية ٥ من سورة الجمعة شبّه تعالى حال اللاهثين وراء حبّ الدنيا حيث قال:

(مثل الذّين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً).

وفي الآية ٣٠ من سورة الاحزاب نقرأ:

(يا نساء النّبي من يأت منكنّ بفاحشةٍ مبينةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين).

فنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لاجل منزلتهن العظيمة في المجتمع يضاعف لهن العذاب، وذكر الفاحشة المبينة في الآية الكريمة اشارة الى الاثر الاجتماعي الذي يتركه ذلك الذنب في المجتمع الذي لاجله تتضاعف العقوبة.

وعلى هذا الاساس جاء رجل الى الامام السجاد (عليه السلام) وقال له: انكم أهل بيتٍ مغفور له.

فاجابه الامام (عليه السلام):

« ليس كما تقول فللمحسن منا أجران وللمسيء يضاعف له العذاب »(١) ثم تلا الآية (٣٠ و ٣١) من سورة الاحزاب.

____________________

(١) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٤.

٣٤

ذنب الرؤساء من وجهة نظر الروايات:

١ - قال الامام الصادق (عليه السلام):

« يغفر للجاهل سبعون ذّنباً قبل ان يغفر للعالم ذنبّ واحد »(١) .

٢ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« إذا فسد العالم فسدت الأمة »(٢) .

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً:

« خواص امتي أربعة: الملوك و العلماء والعباد و التجار »(٣) .

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

« لا تصلح عوام امتي ما لم تصلح خواصها، فسأل سائل: من هو خواص امتك يا رسول الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): خواص امتي اربعة الملوك والعلماء والعباد والتجار، فسأل سائل آخر: كيف يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الملوك رعاة الامة فعندما يكونوا ذئاباً فكيف يرعى الرعيل من الشياه؟ والعلماء اطباء الناس فعندما يكون الطبيب مريضاً من يعالج المرضى؟ والعباد هداة الناس فعندما يكونون ضالين فمن يهدي الناس؟ والتجار امناء الناس فعندما يكون الامين خائناً

____________________

(١) اصول الكافي ج ١ ص ٤٧.

(٢) بحار ط بيروت ج ٧٤ ص ١٥٤.

(٣) المواعظ العددية ص ١٢٥.

٣٥

فمن يطمئن اليه؟ ».

٣ - وكذلك قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):

« ثلاث لا يكلمهم الله سبحانه يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولهم عذاب اليم:

شيخ زانٍ وملك جبار ومقل مختال »(١) .

٤ - وقال الامام الصادق (عليه السلام) لاحد اصحابه يدعى الشقراني:

« يا شقراني إنّ الحسن من كل احدٍ حسن وانه منك أحسن لمكانك منّا، وإنّ القبيح من كل احدٍ قبيح وإنه منك اقبح »(٢) .

٥ - قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« زلة العالم تفسد العوالم »(٣) .

وقال ايضاً سلام الله عليه:

« زلة العالم كانكسار السفينة تغرق وتغرق معها غيرها »(٤) .

ولذلك يعتبر ذنب المسؤولين والشخصيات والعلماء والمؤلفين والزعماء والسادات أكبر من غيرهم.

مفاتيح العيوب والذنوب:

كما أن للشيخوخة والكبر دور في تهيئة الارضية لهجوم

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٣١١.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٧٠٨.

(٣) غرر الحكم ج ١ ص ٤٢٦.

(٤) غرر الحكم ج ١ ص ٤٢٦.

٣٦

الامراض المختلفة على صاحبها، كذلك تكون العيوب مفتاحاً للذنوب.

١ - الحسد: يجبر الانسان على ارتكاب انواع الذنوب، مثل التخلف عن الاعمال والتهمة والكذب وسوء القصد و... و...

كما قال الامام الصادق (عليه السلام):

« إنّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب »(١) .

وعليه يسعى الانسان الحسود باي طريقة الى تحطيم رقيبه بأية وسيلة.

٢ - البخل والحرص: يعتبر البخل احد العيوب المؤدية الى ارتكاب الذنب، اذ هو مانع عن اعطاء الحقوق الشرعية، مثل الزكاة، والخمس، وعدم الانفاق في سبيل الله سبحانه، وغيرها من الذنوب، إضافة الى ذلك اشمئزاز الناس من البخيل مما يؤدي الى سوء الظن به وسبه.

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« البخل جامع لمساوىء العيوب وهو زمام يقاد به الى كل سوءٍ »(٢) .

وكذلك الحرص فهو باعث للذنوب، كنقص المكيال والاحتكار، والاجحاف في الاسعار، والرشوة والتملق مما يؤدي الى

____________________

(١) بحار ج ٧٣ ص ٢٥٥.

(٢) بحار ج ٧٣ ص ٣٠٧ - نهج البلاغة الحكمة ٣٧٠.

٣٧

قلة التقوى و ضعفها عند الحريص.

٣ - الكذب: يبرر الانسان الكاذب ذنوبه بانواع التبررات والحجج وتحت غطاء الكذب يقوم باقتراف مئات الذنوب.

قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام):

« جعلت الخبائث كلها في بيتٍ وجعل مفتاحها الكذب »(١) .

٤ - الغضب والاخلاق السيئة: الغضب عيب آخر للذنب يؤدي بصاحبه الى الفحشاء والغيبة والمعاداة وانواع السيئات.

قال الامام الحسن العسكري (عليه السلام):

« الغضب مفتاح كل شرٍّ »(٢) .

وهناك عيوب كثيرة تمهد الارضية الى اقتراف الذنوب الاخرى، كسوء الظن، وشرب الخمر، والعداء، والتكبر، و... ونكتفي بهذا المقدار لاجل الاختصار.

طريق آخر لمعرفة الذنوب:

ورد في القرآن الكريم ان هناك ثمانية عشر مجموعة اقترفوا ذنوباً مختلفة فاصبحوا عرضة للعن.

اللعن: ومعناه الطرد والابتعاد من رحمة الله سبحانه. وهو

____________________

(١) البحار ج ٧٢ ص ٢٦٢.

(٢) تحف العقول ص ٥٨١ - اصول الكافي ج ٢ ص ٣٠٣ عن الامام الصادق (عليه السلام).

٣٨

مقرون بالغضب وبالرغم من ان رحمة الله الواسعة شملت كل شيء إلاّ أنّ اولئك الملعونين لا تشملهم الرحمة وجاء في الآية ١٥٢ من سورة الاعراف:

(ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ).

والانسان بمحض إرادته قد تبوّأ مكاناً استحق به اللعن، فمثله كمثل الكرة المغلقة في وسط المحيط لا تصل اليها قطرة من بحر الرحمة الواسعة.

الملعونون في القرآن عبارة عن الكفار والمشركين، واليهود المعاندين والمصرّين على انكارالحق ومساندتهم لاصحاب الاوثان، المرتدون، والمحتالون المعارضون للقوانين الالهية ناقضوا المواثيق الكاتمون للحق، وزعماء الكفر لافسادهم في الارض، والمنافقون المتملقون الذين آذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والظالمون، والقاتلون بغير حق، وابليس، والقاذفون للمحصنات الطاهرات، والمخالفون للقادة الصالحين، والذين يفسدون في الارض واصحاب القلوب الخبيثة والكاذبون.

وجاء في الروايات الاسلامية ان اللعن جعل للذين اتصفوا بالصفات التالية:

قال الامام الصادق (عليه السلام) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

« خمسة لعنتهم وكلّ نبي مجاب: الزائد في كتاب الله والتارك لسنتي، والكذب بقدر الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله،

٣٩

والمتسأثر بالفيء المستحل له »(١) ، ومن دعا الى فعل الخير وهو تاركه او من حذّر الآخرين من ارتكاب الذنوب وهو فاعله.

ولمعرفة الذنوب اكثر هناك حديث مشهور يشير الى وجود جنود للعقل وللجهل وهو دليل جيد لمعرفة هذا الموضوع، ففي البداية نقول:

جنود العقل والجهل:

« عن سماعة بن مهران قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل، فقال ابو عبد الله (عليه السلام): اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلاّ ما عرّفتنا، فقال ابو عبدالله (عليه السلام): ان الله عزّ وجلً خلق العقل وهو اول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له: ادبر فادبر، ثم قال له: اقبل فأقبل؛ فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي، فقال: ثم خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانياً، فقال له: أدبر فادبر؛ ثم قال له: اقبل، فلم يقبل، فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً فلمّا رأى الجهل ما اكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة، فقال الجهل: يا رب هذا خلق مثلي خلقته وكرّمته وقوّيته وأنا

____________________

(١) اصول الكافي: ج ٢، ٢٩٣ - وسائل ج ١١ ص ٢٧١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

في الأمر لما كان هؤلاء المصلحون ورجال الدين يقضون أوقاتهم في خدمة الإسلام والمسلمين ، فينبغي أن تؤمن حاجاتهم المادية بطريق صحيح ، وأن يقوم صندوق الإعانة وبيت مال المسلمين بتكفّل هذه الجماعة ، فإنّ واحدا من أغراض إنشاء بيت المال في الإسلام هو هذا الغرض ، أي ليصرف على رجال الدين المنشغلين بالإصلاح والتبليغ.

٣ ـ الذنب وهلاك المجتمعات

كما نرى أيضا ـ في الآيات المتقدمة ـ أنّ القرآن يقيم رابطة بين المسائل المعنوية والماديّة ، فيعدّ الاستغفار من الذنب والتوبة إلى الله أساس العمران والخصب والخضرة والنضرة وزيادة في القوة والاقتدار.

هذه الحقيقة نلمسها في كثير من آيات القرآن الكريم ، من هذه الآيات ما ورد في سورة نوح على لسان هذا النّبي العظيم لقومه ، حيث تقول الآيات( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً ) (١) .

الطريف هنا أنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الربيع بن صبيح : قال : كنت عند الحسن بن عليعليهما‌السلام فجاءه رجل وشكاله من الجدب والقحط ، فقال له الحسنعليه‌السلام :استغفر الله ، فجاءه آخر فشكا له من الفقر ، فقال : استغفر الله ، فجاءه ثالث وقال له :ادع لي أن يرزقني الله ولدا ، فقال الحسنعليه‌السلام : استغفر الله ، يقول الربيع بن صبيح:فتعجبت وقلت له : ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلّا أمرته بالاستغفار والتوبة إلى الله فأجابه : «إنّ ما قلته لم يكن من نفسي ، وإنّما استفدت ذلك من كلام الله الذي يحكيه

__________________

(١) سورة نوح ، الآيات ٩ ـ ١٢.

٥٦١

عن لسان نبيّه نوح» ، ثمّ تلا الآيات المتقدمة.(١)

بعض الأشخاص اعتادوا على المرور بهذه المسائل مرور الكرام بأن يقيمون ارتباطا معنويا وعلاقة «غير معروفة» بين هذه الأمور ويريحون أنفسهم من كل تحليل. ولكن إذا دققنا النظر أكثر نجد بين هذه الأمور علائق متقاربة تشد المسائل المادية بالمعنوية في المجتمع كالخيط الذي يربط بين قطع القماش مثلا.

فأيّ مجتمع يكون ملوّثا بالذنب والخيانة والنفاق والسرقة والظلم والكسل وأمثال ذلك، ثمّ يكون هذا المجتمع عامرا كثيرا البركات!؟

وأي مجتمع ينزع عنه روح التعاون ويلجأ إلى الحرب والنزاع وسفك الدماء ، ثمّ تكون أرضه خصبة خضراء ، ويكون مرفها في وضعه الاقتصادي أيضا؟!

وأي مجتمع يغرق أفراده في دوامة الهوى والميول النفسيّة ، ثمّ في الوقت ذاته يكون قويّا راسخ القدم ويثبت أمام عدوّه؟!

ينبغي القول بصراحة أنّه ما من مسألة أخلاقية إلّا ولها أثر مفيد ونافع في حياة الناس الماديّة ، ولا يوجد اعتقاد وإيمان صحيح إلّا وكان لهما نصيب في بناء مجتمع عامر حرّ مستقلّ وقوي الافراد الذين يفصلون المسائل الأخلاقية والإيمان بالدين والتوحيد عن المسائل الماديّة لا يعرفون المسائل المعنوية حقّا ولا المسائل الماديّة.

وإذا كان الدين عبارة عن سلسلة من التشريعات والآداب الظاهرية والخالية من المحتوى بين الناس ، فمن البديهي أن لا يكون له تأثير في النظام المادي.

ولكن حين تكون الإعتقادات المعنوية والروحانيّة نافذة في روح الإنسان إلى درجة تظهر آثارها على يده ورجله ولسانه وأذنه وعينه وجميع ذرات وجوده ، فإنّ الآثار البنّاءة لهذه الإعتقادات في المجتمع لا تخفى على أحد.

وقد لا نستطيع إدراك علاقة الاستغفار بنزول البركات المادية جيدا ، ولكن

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٣٦١.

٥٦٢

دون شك فإنّ قسما كبيرا منها يمكن أن ندركه!

لقد شاهدنا في مواجهات المسلمين الثائرين مع الكفار في هذا العصر والزمن ـ جيدا ـ أنّ الإعتقادات الإسلامية والقوى الأخلاقية والمعنوية استطاعت أن تنتصر على أحدث الأسلحة المعاصرة وأقوى الجيوش والقدرات الاستعمارية ، وإن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أثر العقائد الدينية الإيجابية والمعنوية إلى أقصى حدّ في المسائل الاجتماعيّة والسياسيّة.

٤ ـ ما المراد من قوله تعالى :( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) .

إنّ الظاهر من هذه الآية أنّ الله سبحانه يزيدكم من خلال الاستغفار قوة بالإضافة إلى قوتكم ، يشير بعض المفسّرين إليه أنّ المراد من هذه القوّة هي القوّة الإنسانيّة كما مرّ ذلك في سورة نوح :( وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ) ومنهم من قال : إنّها القوى المادية تضاف إلى القوّة المعنويّة. ولكنّ تعبير الآية مطلق وهو يشمل أي زيادة في القوى المادية والمعنويّة ، ولا يعارض أيّا من التفاسير ، بل يحتضنها جميعا

* * *

٥٦٣

الآيات

( قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) )

التّفسير

قوّة المنطق :

والآن لننظر ماذا كان ردّ فعل القوم المعاندين والمغرورين ـ قوم عاد ـ مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إليهم :( قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ) أي لم تأتنا بدليل مقنع لنا( وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) الذي تدعونا به إلى عبادة الله

٥٦٤

وترك الأوثان( وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ) .

وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية ، أنّك يا هود مجنون و( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) ولا شكّ أنّ هودا ـ كأي نبي من الأنبياء ـ أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجز أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته ، ولكنّهم لغرورهم ـ مثل سائر الأقوام ـ أنكروا معارجه وعدوّها سحرا وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث الاتفاقية التي لا يمكن أن تكون دليلا على المطلوب.

وأساسا ، فإنّ نفي عبادة الأوثان لا يحتاج إلى دليل ، ومن يكن له أقل شعور وعقل ـ ويترك المخاصمة ـ يدرك هذا الأمر جيدا ، ولو فرضنا أنّ ذلك يحتاج إلى دليل ، فهل يحتاج إلى معجزة بعد الدلائل العقلية والمنطقية ..؟!

وبتعبير آخر فإنّ ما جاء في دعوة هود ـ في الآيات المتقدمة ـ هو الدعوة إلى الله الواحد الأحد ، والتوبة إليه والاستغفار من الذنوب ، ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان ، كل هذه المسائل يمكن إثباتها بالدليل العقلي.

فعلى هذا ، إنّ كان المقصود من قولهم :( ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ ) هو نفي الدليل العقلي، فكلامهم هذا غير صحيح قطعا. وإذا كان المقصود هو نفي المعجزة ، فإنّ هذا الادعاء لا يحتاج إلى معجزة. وعلى كل حال فإنّ قولهم :( وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ) دليل على لجاجتهم ، لأنّ الإنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق من أيّ كان.

وخصوصا هذه الجملة( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) فإنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم ، وخرافة عبادة الأصنام!

فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إلى حماية من الإنسان نفسه ، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإنسان العاقل؟! أضف إلى ذلك ، ما دليلهم على جنون هود إلّا أنّه كسر طوق «السنة المتبعة

٥٦٥

عندهم» وكان معارضا للسنن والآداب الخرافية في محيطه ، فإذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعدّ جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين.

وليس هذا جديدا ، فالتاريخ السالف والمعاصر مليء بنسبة الجنون إلى الأشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للاستعمار ، والنافضين أثواب الأسر.

على كل حال ، فإنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين ردا مقرونا بالمنطق ، من منطلق القوّة أيضا يقول القرآن في جواب هود لهم( قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) .

يشير بذلك إلى أنّ الأصنام إذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علنا فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر بي؟

ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء ، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء ، فإذا كنتم قادرين( فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) .

فأنا لا ترد عني كثرتكم ولا أعدها شيئا ، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبدا ، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات ، إلّا أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات ، و( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ) .

وهذا دليل على أنّني لا أقول إلّا الحق والصدق ، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر ، فلو فكرتم جيدا لكان هذا وحده معجزا حيث ينهض إنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب ، لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم ، ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه! ثمّ يضيف : لستم وحدكم في قبضة الله ، فإنّه( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) ، فما لم يأذن به الله ، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئا.

ولكن اعلموا أيضا أنّ ربّي القدير ليس كالاشخاص المتقدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق ، بل هو الله

٥٦٦

الذي لا يفعل إلّا الحكمة والعدل( إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

* * *

ملاحظتان

الأولى : إنّ «الناصية» في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة ، وهي مشتقة من «نصا» ومعناها الاتصال والارتباط ، وأخذ بناصية فلان «كناية عن القهر والتسلط عليه» فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه :( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ) إشارة إلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء بحيث لا شيء في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة ، لأنّ من أحكم الإمساك على شعر مقدم الرأس من الإنسان أو أي حيوان آخر ، فإنّه يسلب منه القدرة على المقاومة عادة.

والغرض من هذه العبارة أنّ المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين الباحثين عن السلطة لا يتصوروا أنّه إذا أخلي لهم الميدان لعدّة أيّام فذلك دليل على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله ، فعليهم أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وأن ينزلوا من مركب غرورهم.

الثّانية : إنّ جملة( رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) من أروع التعابير في الحكاية عن قدرة الله المقترنة بعدله ، لأنّ المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون للحدود ، ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لهم فهو دائما على صراط مستقيم ، وجادة صافية ونظم وحساب ودقة!.

كما ينبغي الانتباه الى هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ كلام هودعليه‌السلام للمشركين كان يبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من لجاجتهم فإنّ القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته! فكما أن قوم هود خوّفوه بشدّة من آلهتهم و «أوثانهم» ، فإنّ هودا في المقابل أنذرهم بنحو أشدّ من قدرة الله

٥٦٧

القاهرة!

ثمّ أنّ هود قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ) .

إشارة إلى أن لا يتصوروا أنّ هودا سيتراجع إن لم يستجيبوا لدعوته ، فإنّه أدى واجبه ووظيفته ، وأداء الواجب انتصار بحدّ ذاته حتى لو لم تقبل دعوته ، وهذا درس لجميع القادة الحقيقيين وأئمة طريق الحق ألّا يحسّوا أبدا بالتعب والقلق من أعمالهم ، وإن لم يقبل الناس دعوتهم.

وكما هدد القوم هودا ، فإنّه هددهم بأشد من تهديدهم ، وقال : إن لم تستجيبوا لدعوتي فإنّ الله سيبيدكم في القريب العاجل( وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ) .

هذه سنة الله في خلقه وقانونه العام ، إنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدّعوة والهداية والنعم الأخرى التي أنعمها عليهم فإنّه سيبعدهم ويستخلف قوما لائقين بمكانهم( إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) .

فلا تفوته الفرصة ، ولا يهمل أنبياءه ومحبيه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء.

* * *

٥٦٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) )

التّفسير

اللعن الأبدي على القوم الظّالمين :

في آخر الآيات التي تتحدث عن قصّة قوم عاد ونبيّهم هود إشارة إلى العقاب الأليم للمعاندين ، فتقول الآيات :( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) وتوكّد أيضا نجاة المؤمنين( وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ) .

الطريف هنا أنّ الآيات قبل أن تذكر عقاب الظلمة والكافرين ومجازاتهم ، بيّنت نجاة المؤمنين وخلاصهم ، لئلا يتصور أنّ العذاب الإلهي إذا نزل يحرق الأخضر واليابس معا لأنّ الله عادل وحكيم وحاشاه أن يعذب ولو رجلا مؤمنا بين جماعة كفرة يستحقون العذاب والعقاب.

لكن رحمة الله تنقل هؤلاء الأشخاص قبل نزول العذاب إلى محل آمن كما

٥٦٩

رأينا من قبل في قصّة نوح أنّه قبل شروع الطوفان كانت سفينة النجاة قد أعدّت للمؤمنين ، وقبل أن ينزل العذاب على قوم لوط ويدمر مدنهم خرج لوط وعدد معدود من أصحابه من المدينة ليلا بأمر الله.

وفي قوله تعالى :( نَجَّيْنا ) وتكرار هذه الكلمة في الآية مرّتين أقوال مختلفة للمفسّرين، فـ «نجينا» الأولى تعني خلاصهم من عذاب الدنيا و «نجّينا» الثّانية تعني نجاتهم في المرحلة المقبلة من عذاب الآخرة ، وينسجم هذا التعبير مع وصف العذاب بالغلظة أيضا.

ويشير بعض المفسرين إلى مسألة لطيفة هنا ، وهي أنّ الكلام لما كان على رحمة الله فمن غير المناسب أن تتكرر كلمة العذاب مباشرة ، فأين الرحمة من العذاب؟ لذلك تكررت كلمة «نجينا» لتفصل بين الرحمة والعذاب دون أن ينقص شيء من التأكيد على العذاب.

كما ينبغي الالتفات إلى هذه المسألة الدقيقة أيضا ، وهي أنّ آيات القرآن وصفت العذاب بالغليظ في أربعة موارد(١) .

وبملاحظة تلك الآية بدقّة نستنتج أنّ العذاب الغليظ مرتبط بالدار الأخرى ، وخصوصا الآيات التي جاءت في سورة ابراهيم وذكر فيها العذاب الغليظ ، فإنّها تصف بصراحة حال أهل جهنّم وأهوالها ، وهكذا أن يكون ، وذلك لأنّ عذاب الدنيا مهما كان شديدا فإنّه أخفّ من عذاب الآخرة!

وهناك تناسب ينبغي ملاحظته أيضا ، وهو أن قوم عاد ـ كما سيأتي بيان حالهم إن شاء الله ـ ورد ذكرهم في سورة القمر. والحاقة ، وكانوا قوما ذوي أبدان طوال خشنين ، فشبّهت أجسامهم بالنخل ، ولهذا السبب كانت لديهم عمارات عالية عظيمة ، بحيث نقرا في تاريخ ما قبل الإسلام أن العرب كانوا ينسبون البناءات الضخمة والعالية إلى عاد ويقولون مثلا : «هذا البناء عادي» لذلك كان عذابهم

__________________

(١) وهي في السور التالية : ١ ـ ابراهيم ، الآية ٧ ؛ ٢ ـ لقمان ، الآية ٣٤ ؛ ٣ ـ فصلت ، الآية ٥٠ ؛ ٤ ـ هود ، الآية ٥٦.

٥٧٠

مناسبا لهم لا في العالم الآخر بل في هذه الدنيا كان عذابهم خشنا وعقابهم صارما ، كما مرّ في تفسير السور الآنفة الذكر.

ثمّ تلخّص الآيات ذنوب قوم عاد في ثلاثة مواضيع :

الأوّل : بإنكارهم لآيات الله وعنادهم أيضا لم يتركوا دليلا واضحا وسندا بيّنا على صدق نبوة نبيّهم إلّا جحدوه( وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) .

والثّاني : إنّهم من الناحية العملية لم يتّبعوا أنبياء الله( وَعَصَوْا رُسُلَهُ ) وإنّما جاءت الرسل بصيغة الجمع ، إمّا لأن جميع دعوات الأنبياء هي نحو حقيقة واحدة وهي «التوحيد: وفروعه» فإنكار دعوة نبي واحد يعدّ إنكارا لجميع الأنبياء ، أو أن هودا دعاهم للإيمان بنبوة الأنبياء السابقين أيضا ،؟ وكانوا ينكرون ذلك.

والثّالث من الذنوب : إنهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) .

فأيّ ذنب أعظم من هذه الذنوب : ترك الإيمان ، ومخالفة الأنبياء ، والخضوع لطاعة كل جبار عنيد.

و «الجبار» يطلق على من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل ، وبتعبير آخر هو من يجبر سواه على أتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري.

و «العنيد» هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر ممّا ينبغي ، ولا يرضخ للحق أبدا. هاتان الصفتان تتجلّيان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان ، الذين لا يستمعون لكلام الحق أبدا ويعمدون الى من يخالفهم بانزال أشد انواع العقاب به بلا رحمة.

هنا يرد سؤال : إذا كان الجبار يعطي هذا المعنى فلما ذا ذكرت هذه الصفة لله ، كما في سورة الحشر الآية (٢٣) وسائر المصادر الإسلامية.

والجواب هو أنّ «الجبار» ـ كما أشرنا آنفا ـ مشتق إمّا من «الجبر» بمعنى القوّة

٥٧١

والقهر والغلبة ، أو من مادة «الجبران» ومعناه : إزالة النقص من شيء.

ولكن «الجبار» سواء كان بالمعني الأوّل أو الثّاني فهو يستعمل بشكليه ، وقد يراد به الذم إذا حاول الإنسان تجاوز النقص الذي فيه باستعلائه على الغير وتكبره وبالادعاءات الخاطئة ، أو أنّه يحاول أن يجبر غيره على أن يكون تحت طاعته ورغبته ، فيكون الأخير ذليلا لأمره.

هذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن الكريم ، وأحيانا تقترن معه صفات ذميمة أخرى ، كالآية المتقدمة التي اقترنت مع كلمة «عنيد» وفي الآية (٣٢) من سورة مريم نقرأ على لسان عيسى بن مريم رسول الله( وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) كما نقرأ على لسان بني إسرائيل في خطابهم لموسىعليه‌السلام في من سكن بيت المقدس من الظالمين حيث ورد في الآية (٢٢) من سورة المائدة( قالُوا (يا مُوسى) إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ) .

ولكن قد تأتي كلمة «الجبار» من هذين الجذرين «الجبر» و «الجبران» وهي بمعنى المدح ، وتطلق على من يسدّ حاجات الناس ويرفع نقصانهم ويربط العظام المتكسرة ، أو أن تكون له قدرة وافرة بحيث يكون الغير خاضعا لقدرته ، دون أن يظلم أحدا أو يستغل قدرته ليسيء الاستفادة منها ، ولذلك حين تكون كلمة الجبار بهذا المعنى فقد تقترن بصفات مدح أخرى ، كما نقرأ في سورة الحشر الآية (٢٣)( الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) وواضح أن صفات كالقدوس والسّلام والمؤمن لا تنسجم مع «الجبار» بمعنى الظالم أو «المتكبر» بمعنى من يرى نفسه أكبر من غيره ، وهذا التعبير يدل على أنّ المراد هنا من «الجبار» هو المعنى الثّاني.

ولكن حيث أنّ البعض فسّروا «الجبار» ببعض معانيه دون الالتفات إلى معانيه المتعددة في اللغة ، تصوّروا أنّ استعمال هذا اللفظ غير صحيح في شأن الله ، وكذلك في ما يخصّ لفظ «المتكبر» ولكن بالرجوع إلى جذورهما اللغوية الأصيلة يرتفع

٥٧٢

الإشكال(١) .

وفي الآية الأخيرة التي تنتهي بها قصّة «هود» وقومه «عاد» بيان لنتيجة أعمالهم السيئة والباطلة حيث تقول الآية :( وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ) وبعد الموت لا يبقى إلّا خزيهم والصيت السيء( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ) يقال لهم( أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ ) .

وكان يكفي تعريف هذه الجماعة بلفظ «عاد» ولكن بعد ذكر عاد جاء لفظ «قوم هود» أيضا لتؤكّد عليهم أوّلا ، ولتشير الى أنّهم القوم الذين آذوا نبيهم الناصح لهم ثانيا ، ولذلك فقد أبعدهم الله عن رحمته.

* * *

بحثان

١ ـ قوم عاد من منظار التاريخ

بالرغم من أنّ بعض المؤرّخين الغربيين كـ «أسبرينكل» أرادوا أن ينكروا قصّة «عاد» من الناحية التاريخية ، وربّما كان ذلك بسبب عدم توفر ذكر لهم في غير الآثار الإسلامية ، ولم يجدوها في كتب العهد القديم «التوراة» ولكن هناك وثائق ـ تشير إلى قصّة عاد ـ مشهورة إجمالا بين العرب في زمن الجاهلية ، وقد ذكرهم شعراء العرب قبل الإسلام ، وحتى في العصر الجاهلي كانوا يطلقون لفظ «العاديّ» على البناء العالي والقوي نسبة إلى عاد.

ويعتقد بعض المؤرّخين أنّ لفظ «عاد» يطلق على قبيلتين :

إحداهما : قبيلة كانت تقطن الحجاز قبل التاريخ ثمّ زالت وزالت آثارها أيضا ،

__________________

(١) يراجع في هذا الصدد تاج العروس للزبيدي والمفردات للراغب مادة (جبر) و (كبر) ومجمع البيان وتفسير البيان ذيل الآية محل البحث وآيات سورة الحشر الأخيرة.

٥٧٣

ولم ينقل التاريخ البشري عنها إلّا أساطير لا يطمأنّ إلى صحتها. والتعبير الوارد في القرآن «عادا الأولى» إشارة إلى هذه القبيلة.

ولكن في زمن التاريخ ـ ومن المحتمل أن يكون في حدود ٧٠٠ سنة قبل ميلاد المسيح ـ وجد قوم آخرون باسم «عاد» قطنوا الأحقاف أو اليمن أيضا. وكان أولئك طوالا جساما أقوياء مقتدرين ، ولذلك كانوا يعدون من مثيري الحروب.

كما أنّهم كانوا من الناحية الحضارية متمدنين ، إذ كانت لهم مدن عامرة وأراضي خصبة خضراء وغابات نضرة ، كما وصفوا في القرآن( ... الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) .

ولذلك يقول بعض المؤرّخين «المستشرقين» : إنّ «عادا» كانت تقطن في حدود «برهوت» إحدى نواحي حضر موت اليمن ، وعلى أثر البراكين وجبال النّار التي حولها دمرت الكثير من قراهم ومدنهم وتفرقت بقاياهم.

على كل حال فإنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في نعم وترف ، ولكن كما هي طريقة أغلب المتنعمين الغافلين والسكارى من أثر النعمة استغلّوا قدرتهم لظلم الآخرين واستثمارهم واستعمارهم واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، وأقروا عبادة الأوثان.

وحين دعاهم نبيّهم هودعليه‌السلام بكلّ ما أوتي من جهد وجدّ ليضيء أفكارهم بنصحه ومواعظه ، ويتمّ الحجّة عليهم ، لم يكتفوا بإهمال هذه الدعوة فحسب ، بل نهضوا لإسكات هذا الصوت النيّر لهذا النّبي العظيم فمرّة نسبوه إلى السفاهة والجنون ، ومرّة هددوه بغضب آلهتهم ، ولكنّه وقف صامدا أمامهم كالجبل لا يخشى غضب هؤلاء القوم المغرورين الأقوياء ، حتى استطاع أن يكتسب منهم جماعة تقدّر بأربعة آلاف وطهّر قلوبهم ودعاهم إلى منهاجه وعقيدته ، لكن بقي الآخرون مصرّين على عنادهم ولجاجتهم.

٥٧٤

وأخيرا ـ كما سيأتي في سورة الذاريات والحاقة والقمر ـ غمرهم إعصار شديد لمدّة سبعة ليال وستة أيّام جسوما فأتى على قصورهم فدمّرها وعلى أجسادهم فجعلها كأوراق الخريف وفرقها تفريقا ، ولكن هود كان قد أبعد المؤمنين عن هؤلاء ونجّاهم من العذاب ، وأصبحت حياة أولئك القوم ومصيرهم درسا كبيرا وعبرة لكل الجبابرة والأنانيين(١) .

٢ ـ اللعن الدائم الأبدي على «عاد» :

هذا التعبير وما شابهه ورد في آيات متعددة من القرآن الكريم في شأن أمم مختلفة ، حيث يقول الله سبحانه بعد ذكر أحوالهم ، كما في سورة هود الآية ٦٨ :( أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ) وفي آية أخرى (٨٩) هود( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) وفي سورة المؤمنون، الآية (٤١)( فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وفي آية أخرى (٤٤) المؤمنون( فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) وكما قرأنا في قصّة نوح من قبل في هود الآية (٤٤)( وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

ففي جميع هذه الآيات جاء اللعن شعارا لمن أذنبوا ذنبا عظيما ، ويدور هذا اللعن مدار بعدهم عن رحمة الله.

وغالبا ما يطلق اليوم مثل هذا الشعار على المستعمرين والمستكبرين والظالمين ، غاية ما في الأمر أن هذا الشعار القرآني أخّاذ وطريف إلى درجة أنّه غير ناظر إلى بعد واحد فحسب. لأنّنا حين نقول مثلا :( بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فإنّ هذا التعبير يشمل الابتعاد عن رحمة الله ، والابتعاد عن السعادة ، وعن كل خير وبركة ونعمة ، وعن كونهم عبادا لله ، طبعا ابتعادهم عن الخير والسعادة هو انعكاس

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير مجمع البيان ، وكتاب أعلام القرآن.

٥٧٥

لابتعادهم في نفوسهم وأرواحهم ومحيط عملهم عن الله وخلق الله ، لأنّ كل فكرة وعمل له أثر في الدار الآخرة يشابه ذلك العمل تماما ولذلك فإنّ ابتعادهم هذا في هذه الدنيا أساس ابتعادهم في الآخرة عن رحمة الله وعفوه ومواهبه السنيّة(١) .

* * *

__________________

(١) إنّ كلمة «بعدا» من الناحية النحوية مفعول مطلق للجملة المقدّرة (المحذوفة) «أبعدهم الله» وعلى القاعدة ينبغي أن يكون هذا المفعول المطلق للجملة المقدرة (إبعادا ، لا بعدا) لأنّه مصدر «أبعد» لكن قد يأتي المصدر الثّلاثي مكان الرباعي كما في قوله تعالى :( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) .

٥٧٦

الآية

( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) )

التّفسير

قصّة ثمود :

انتهت قصّة «عاد قوم هود» بجميع دروسها بشكل مضغوط ، وجاء الدور الآن لثمود «قوم صالح» وهم الذين عاشوا في وادي القرى بين المدينة والشام ، حسب ما تنقله التواريخ عنهم.

ونرى هنا أيضا أنّ القرآن حين يتحدث عن نبيهم «صالح» يذكره على أنّه أخوهم ، وأي تعبير أروع وأجمل منه حيث بيّنا قسما من محتواه في الآيات المتقدمة ، أخ محترق القلب ودود مشفق ليس له هدف إلّا الخير لجماعته( وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ) .

ونجد أيضا أنّ منهج الأنبياء جميعا يبدأ بمنهج التوحيد ونفي أي نوع من أنواع الشرك وعبادة الأوثان التي هي أساس جميع المتاعب( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما

٥٧٧

لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

ولكي يحرك إحساسهم بمعرفة الحق أشار إلى عدد من نعم الله المهمّة التي استوعبت جميع وجودهم فقال :( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) .

فأين هذه الأرض والتراب الذي لا قيمة له ، وأين هذا الوجود العالي والخلقة البديعة؟ ترى هل يجيز العقل أن يترك الإنسان خالقه العظيم الذي لديه هذه القدرة العظيمة وهو واهب هذه النعم ، ثمّ يمضي إلى عبادة الأوثان التي تثير السخرية.

ثمّ يذكّر هؤلاء المعاندين بعد أن أشار إلى نعمة الخلقة بنعم أخرى موجودة في الأرض حيث قال :( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) .

وأصل «الاستعمار» و «الإعمار» في اللغة يعني تفويض عمارة الأرض لأي كان، وطبيعي أنّ لازم ذلك يجعل الوسائل والأسباب في اختيار من يفوّض إليه ذلك تحت تصرفه!

هذا ما قاله أرباب اللغة ، كالراغب في المفردات ، وكثير من المفسّرين في تفسير الآية المتقدمة.

ويرد احتمال آخر ، وهو أنّ الله منحكم عمرا طويلا في هذه الأرض ، وبديهي أنّ المعنى الأوّل وبملاحظة مصادر اللغة هو الأقرب والأصح كما يبدو.

وعلى كل حال فهذا الموضوع يصدق بمعنييه في ثمود ، حيث كانت لديهم أراض خصبة وخضراء ومزارع كثيرة الخيرات والبركات ، وكانوا يبذلون في الزراعة ابتكارات وقدرات واسعة ، وإلى ذلك كله كانت أعمارهم مديدة وأجسامهم قويّة وكانوا متطورين في بناء المساكن والبيوت ، كما يقول القرآن الكريم :( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) (١) .

الطريف هنا أنّ القرآن لم يقل : إنّ الله عمر الأرض وجعلها تحت تصرفكم ،

__________________

(١) سورة الحجر ، ٨٢.

٥٧٨

وإنّما قال : وفوّض إليكم إعمار الأرض( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) وهي إشارة إلى أنّ الوسائل معدّة فيها لكل شيء وعليكم إعمارها بالعمل والسعي المتواصل والسيطرة على مصادر الخيرات فيها. وبدون ذلك لا حظّ لكم في الحياة الكريمة.

كما يستفاد ضمنا أنّه ينبغي من أجل الإعمار أن يعطي المجال لأمّة معينة في العمل ، وتجعل الأسباب والوسائل اللازمة تحت تصرفها وفي اختيارها.

فإذا كان الأمر كذلك( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) لدعواتكم.

الاستعمار في القرآن وفي عصرنا الحاضر :

لا حظنا في الآيات المتقدمة أنّ نبي الله «صالحا» من أجل هداية وتربية قومه الضالين «ثمود» ذكرهم بعظيم خلق الله لهم من التراب وتفويض إعمار الأرض إليهم إذ قال :( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) .

لكن هذه الكلمة مع جمالها الخاص وجذابيتها التي تعني العمران وتفويض الإختيارات وإعداد الوسائل اللازمة وتهيأتها ، تبدّلت هذه الكلمة في عصرنا إلى درجة أنّها مسخت وأصبحت تعطي معنى معاكسا لمفهوم القرآن تماما.

وليست كلمة الاستعمار وحدها انتهت إلى هذا المصير المشؤوم ، فهناك كلمات كثيرة في العربية وفي لغات أخرى مسخت وحرّفت وتبدّلت وانقلبت رأسا على عقب ، مثل كلمات «الحضارة» و «الثقافة» و «الحرية» وفي ظلال هذه التحريفات تأخذ هذه الكلمات وأمثالها طريقها إلى التغرّب والبعد عن معناها ، وتتحول لعبادة المادة وأسر الناس وإنكار الحقائق والتوغل في كل أنواع الفساد وما إلى ذلك.

وعلى كل حال ، فإنّ معنى «الاستعمار» في عصرنا ومفهومه الواقعي هو «استيلاء الدول العظمى السياسية والصناعية على الأمم المستضعفة قليلة القدرة ، بحيث تكون نتيجة هذا «الاستيلاء» وهذه «الغارة» امتصاص دمائهم وسلب

٥٧٩

خيراتهم ومصادرة حياتهم.

هذا الاستعمار الذي له أوجه شؤم مختلفة ، يتجسم مرّة بشكل «ثقافي» وأخرى بوجه «فكري» وثالثة بوجه «اقتصادي» ورابعة بوجه «سياسي» وقد يبدو بوجه «عسكري» أيضا ، وهو الذي بدل دنيانا وجعلها سوداء مظلمة ، فالأقلية في هذه الدنيا لديهم كل شيء ، والأكثرية العظمى فاقدة لكل شيء هذا الاستعمار هو السبب في الحروب والدمار والانحرافات والفساد والتسابق التسليحي الذي يقصم الظهر.

القرآن استعمل لهذا المفهوم مفردة «الاستضعاف» التي تنطبق تماما على هذا المعنى أي «جعل الشيء ضعيفا» بالمعنى الواسع والشامل للكلمة ، جعل الفكر ضعيفا ، وجعل الإقتصاد ضعيفا ، وجعل السياسة ضعيفة إلخ

وقد اتسع مجال الاستعمار إلى درجة بحيث أصبحت كلمة الاستعمار «استعمارية» أيضا ، وذلك لأنّ مفهومها اللغوي قد انقلب رأسا على عقب تماما.

وعلى كل حال ، فإن الاستعمار من القصص الطويلة المثيرة للحزن والألم ، بحيث يمكن أن يقال أنّه يستوعب تاريخ البشرية أجمع وإن تغيّر وجهه دائما ، ولكن من غير المعلوم أنّه متى يزول من المجتمعات الإنسانية ، وتقوم حياة البشر على أساس التعاون والاحترام المتبادل بين الناس والمساعدة ليتقدم الواحد بعد الآخر في جميع المجالات ...؟!

* * *

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608