الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 608
المشاهدات: 238632
تحميل: 5250


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 238632 / تحميل: 5250
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 6

مؤلف:
العربية

والعجيب أنّ عددا من «خيوط العنكبوت» المنسوجة على مدخل الغار كانت سببا لانحراف فكر الأعداء الألداء ، وأن يعودوا قافلين آيسين بعد وصولهم إلى هذا الغار ، وأن يسلم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كيدهم.

فحيث أنّ بإمكان الله أن يغيّر مسير التأريخ ، ببضعة خيوط من نسيج العنكبوت ، فأية حاجة بهذا أو ذاك ليبدي كلّ معاذيره!!

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه الأوامر هي لتكامل المسلمين أنفسهم ، لا لرفع الحاجة لدى الله سبحانه وتعقيبا على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعا مرّة أخرى ـ دعوة عامّة ـ نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه:( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ) .

«الخفاف» جمع الخفيف ، «الثقال» جمع الثقيل ، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإنسان. أي انفروا في أية حالة كنتم شبابا أم شيوخا ، متزوجين أم غير متزوجين ، تعولون أحدا أم لا تعولون ، أغنياء أم فقراء ، مبتلين بشيء أم غير مبتلين ، أصحاب تجارة أو زراعة أم لستم من أولئك!

فكيف ما كنتم فعليكم أن تستجيبوا لدعوة الداعي إلى الجهاد ، وأن تنصرفوا عن أيّ عمل شغلتم به ، وتنهضوا مسرعين إلى ساحات القتال ، وفي أيديكم السلاح.

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ هاتين الكلمتين تعنيان مثلا واحدا ممّا ذكرنا آنفا ، لا دليل عليه أبدا ، بل إنّ كل واحد ممّا ذكرناه مصداق جلي لمفهومها الوسيع.

ثمّ تضيف الآية قائلة :( وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) أي جهادا مطلقا عاما من جميع الجهات ، لأنّهم كانوا يواجهون عدوّا قويّا مستكبرا ، ولا يتحقق النصر إلّا بأن يجاهدوا بكل ما وسعهم من المال والأنفس.

ولئلا يتوهّم أحد أنّ هذه التضحية يريدها الله لنفسه ولا تنفع أصحابها ، فإنّ الآية تضيف قائلة :( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

٦١

أي إن كنتم تعلمون بأنّ الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم.

ولو كنتم تعلمون بأنّ أية أمّة في العالم لن تصل بدون الجهاد إلى الحرية الواقعية والعدالة.

ولو كنتم تعلمون بأنّ سبيل الوصول إلى مرضاة الله والسعادة الأبدية وأنواع النعم والمواهب الإلهية ، كل ذلك إنّما هو في هذه النهضة المقدسة العامّة والتضحية المطلقة.

ثمّ يتناول القرآن ضعاف الإيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال ، فيخاطب النّبي مبيّنا واقعهم فيقول :( لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ ) (1) ( وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ) (2)

والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية ، بل( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ) . فعدم ذهابنا إلى ساحات القتال إنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا!!( يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

فهم قادرون على الذهاب إلى ساحات القتال ، لكن حيث أن السفر ذو مشقة ، ويواجهون صعوبة وحرجا ، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل.

ولم يكن هذا الأمر منحصرا بغزوة تبوك وعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الإنتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى ، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل ، لينالوا ثمرات جهود الآخرين في انتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد!

غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين!! كما يزعمون ، حين يواجهون

__________________

(1) العرض ما يعرض ويزول عاجلا ولا دوام له ، ويطلق عادة على مواهب الدنيا المادية ، والقاصد معناه السهل. لأنّه في الأصل من قصد ، والناس يسعون في قصدهم إلى المسائل السهلة.

(2) الشقة تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب.

٦٢

الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية.

كأن يقول أحدهم : إنّي مريض ، ويقول الآخر : إنى مبتلى بطفلي ، ويقول الثّالث :

زوجي مقرب وعلى وشك الولادة ، ويقول الرّابع : يا ليتني كنت معكم لو لا ضعف في عينيّ لا أبصر بهما ، ويقول الخامس : أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على أثركم ، وهكذا

إلّا أنّ على القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر ، وإذا لم يكونوا أهلا للإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

* * *

٦٣

الآيات

( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) )

التّفسير

التعرّف على المنافقين!

يستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة ـ حتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهم ـ استأذنوا النّبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك ، فأذن لهم النّبي بالانصراف.

فالله سبحانه يعتّب على النّبي في الآية الأولى من الآيات محل البحث فيقول :( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) .

وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب الله نبيّه المشفوع بالعفو عنه ، أهو دليل على أن إذن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مخالفة ، أم هو من باب ترك الأولى ، أم

٦٤

لا هذا ولا ذاك؟!

وقد جنح البعض إلى الإفراط إلى درجة أنّهم أساؤوا إلى مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وساحته المقدّسة ، وزعموا أن الآيات المذكورة أنفا دليل على إمكان صدور العصيان والذنب من قبل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يراعوا ـ على الأقل ـ الأدب الذي رعاه الله العظيم في تعبيره عن نبيّه الكريم ، إذ بدأ بالعفو ثمّ ثنى بالعتاب والمؤاخذة ، فوقعوا في ضلال عجيب.

والإنصاف أنّه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى ظاهر الآية لا يدلّ على ذلك ، لأنّ جميع القرائن تثبت أن النّبي سواء أذن لهم أم لم يأذن ، فإنّهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك ، وعلى فرض مساهمتهم فيها لم يحلّوا مشكلة من أمر المسلمين ، بل يزيدون الطين بلة ، كما سنقرأ في الآيات التالية قوله تعالى :( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ) .

فبناء على ذلك فإنّ المسلمين لم يفقدوا أيّة مصلحة بإذن النّبي لأولئك بالانصراف ، غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون ، غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجبا لارتكاب ذنب أو عصيان.

وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركا للأولى فحسب ، بمعنى أنّ إذن النّبي لهم في تلك الظروف ، وبما أظهره أولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم ، وإن لم يكن أمرا سيئا ، إلّا أن ترك الإذن كان أفضل منه ، لتعرف هذه الجماعة بسرعة.

كما يحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفا إنّما هو على سبيل الكناية ، ولم يكن في الأمر حتى «ترك الأولى» بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام.

ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالما يريد أن يلطم وجه ابنك ، إلّا أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون

٦٥

راضيا عن سلوكه هذا ، بل وتشعر بالسرور الباطني ، إلّا أنّك ولإثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك : لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟ وهدفك من هذا البيان إنّما هو إثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه ، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قبلك؟

وهناك شبهة أخرى في تفسير الآية ، وهي أنّه : ألم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف المنافقين حتى يقول له الله سبحانه :( لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) ؟

والجواب على هذا السؤال ، هو :

أوّلا : أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري ، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات ، بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و (المعتادة).

ثانيا : لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب ، بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعا حالهم ، وإن كان الخطاب موجّها للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يتناول القرآن أحد علامات المؤمنين والمنافقين ، فيقول :( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ) .

بل ينهضون مسرعين دون سأم أو ملل عند صدور الأمر بالجهاد ويدعوهم الإيمان بالله واليوم الآخر ومسئولياتهم وإيمانهم بمحكمة القيامة ، كلّ ذلك يدعوهم إلى هذا الطريق ويوصد بوجوههم الأعذار والحجج الواهية( وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) .

ثمّ يضيف القرآن :( إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) .

ويعقّب مؤكّدا عدم إيمانهم بالقول :( وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) .

وبالرّغم من أنّ الصفات الواردة في الآيات آنفا جاءت بصيغة الفعل المضارع ،

٦٦

إلّا أنّ المراد منها بيان صفات المؤمنين وصفات المنافقين وأحوالهم ، ولا فرق بين الماضي والحال والاستقبال في ذلك.

وعلى كل حال فإن المؤمنين ـ بسبب إيمانهم ـ لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح ، فمقصدهم معلوم وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبدا.

أمّا المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم ، فهم مترددون حائرون ذاهلون ، ويبحثون دائما عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم.

وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب ، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدّعين الكاذبين بهاتين الصفتين.

فالمؤمن شجاع ذو إرادة وتصميم وخطى واثقة ، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائما.

* * *

٦٧

الآيات

( وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) )

التّفسير

عدم وجودهم أفضل :

في الآية الأولى ـ من الآيات أعلاه ـ بيان لعلامة أخرى من علائم كذبهم ، وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفا ، إذ جاء فيها( وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) فالآية محل البحث تقول :( وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ) . ولم ينتظروا الإذن لهم ،( وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ (1) وَقِيلَ اقْعُدُوا

__________________

(1) ثبطهم مشتق من التثبيط ويعني الوقوف بوجه العمل المزمع إجراؤه بوجه من الوجوه.

٦٨

مَعَ الْقاعِدِينَ ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد بـ «قيل اقعدوا» فمن هو القائل؟! أهو الله سبحانه ، أم النّبي ، أم باطنهم؟!

الظاهر أنّه أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم ، وإنّه مقتضى عقيدتهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة ، وكثيرا ما يرى أن مقتضى الحال يظهرونه في هيئة الأمر أو النهي. ويستفاد من الآية محل البحث أنّ لكلّ عمل ونيّة اقتضاء يبتلى به الإنسان شاء أم أبى ، وليس لكلّ أحد قابلية السير في سبيل الله وتحمّل الأعباء الكبرى ، بل هو توفيق من قبل الله يوليه من يجد فيه طهارة النيّة والاستعداد والإخلاص.

وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب ، بل لعله مدعاة للسرور ، لأنّهم لا ينفعونكم فحسب ، بل سيكونون بنفاقهم ومعنوياتهم المتزلزلة وانحرافهم الأخلاقي مصدرا لمشاكل أخرى جديدة.

والآية في الحقيقة تعطي درسا للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكميتهم وعددهم ، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قلّة ، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل.

وتقول الآية :( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ) أي إلى تبوك للقتال( ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً ) .

«الخبال» بمعنى الاضطراب والتردد.

والخبل على زنة «الأجل» معناه الجنون.

والخبل على زنة «الطبل» معناه فساد الأعضاء.

فبناء على ذلك فإنّ حضورهم بتلك الروحيّة الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإسلام.

وتضيف الآية قائلة :( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ) (1)

__________________

(1) أوضعوا من مادة الإيضاع ومعناه ، الإسراع في الحركة ، ومعناه هنا الإسراع في النفوذ بين صفوف المقاتلين ، والفتنة هنا بمعنى التفرقة واختلاف الكلمة.

٦٩

ثمّ تنذر المسلمين من المتأثرين بهم في صفوف المسلمين( وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) .

«السمّاع» تطلق على من يسمع كثيرا دون تروّ أو تدقيق ، فيصدّق كل كلام يسمعه.

فبناء على ذلك فإنّ وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبت مثل هؤلاء الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب. كما يرد هذا الاحتمال ، وهو أنّ المراد من السمّاع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسّس بين المسلمين ويجمع الأخبار للمنافقين.

وتختتم الآية بالقول :( وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إنذار للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ هؤلاء المنافقين لم يبادروا لأوّل مرّة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم ، بل ينبغي أن تتذكر ـ يا رسول الله ـ أنّ هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الأمور وهم يتربصون الفرص الآن لينالوا مناهم( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ) .

وهذه الآية تشير إلى ما جرى في معركة أحد حيث رجع عبد الله بن أبي وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق ، أو أنّها تشير إلى مؤامرات المنافقين عامّة التي كانوا يكيدونها للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو للمسلمين ، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها على صفحاته!

( وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ ) وخطّطوا للإيقاع بالمسلمين ، أو لمنعهم من الجهاد بين يديك، إلّا أن كل تلك المؤامرات لم تفلح ، وإنما رقموا على الماء ورشقوا سهامهم على الحجر( حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ ) .

غير أن مشيئة العباد وإرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة الله وإرادته ، فقد شاء الله أن ينصرك وأن يبلغ رسالتك إلى أصقاع المعمورة ، ويزيل العراقيل والموانع عن

٧٠

منهاجك ، وقد فعل.

إلّا أنّ ما يهمنا هنا أن نعرف أنّ مدلول الآيات آنفة الذكر لا يختص بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزمانه ، ففي كل جيل وكل عصر جماعة من المنافقين تحاول أن تنثر سموم التفرقة في اللحظات الحسّاسة والمصيرية ، ليحبطوا روح الوحدة ويثيروا الشكوك والتردد في أفكار الناس ، غير أنّ المجتمع إذا كان واعيا فهو منتصر بأمر الله ووعده الذي وعد أولياءه ، وهو ـ سبحانه ـ الذي يذر ما يرقم المنافقون ومخططاتهم سدى ، شريطة أن يجاهد أولياؤه في سبيله مخلصين ، وأن يراقبوا بحذر أعداءهم المتوغلين بينهم.

* * *

٧١

الآية

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) )

سبب النزول

قال جماعة من المفسّرين : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعبّئ المسلمين ويهيؤهم لمعركة تبوك ويدعوهم للتحرك نحوها ، فبينا هو على مثل هذه الحال إذا برجل من رؤساء طائفة «بني سلمة» يدعى «جدّ بن قيس» وكان في صفوف المنافقين ، فجاء إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستأذنا أن لا يشهد المعركة ، متذرعا بأنّ فيه شبقا إلى النساء ، وإذا ما وقعت عيناه على بنات الروم فربّما سيهيم ولها بهنّ وينسحب من المعركة!! فأذن له النّبي بالانصراف.

فنزلت الآية أعلاه معنفة ذلك الشخص!

فالتفت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني سلمة وقال : من كبيركم؟ فقالوا : جدّ بن قيس ، إلّا أنّه رجل بخيل وجبان ، فقال : وأي شيء أبشع من البخل؟ ثمّ قال : إن كبيركم ذلك الشاب الوضيء الوجه بشر بن براء «وكان رجلا سخيا سمحا بشوشا».

٧٢

التّفسير

المنافقون المتذرّعون :

يكشف شأن النزول المذكور أن الإنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل المسؤولية يسعى للتذرّع بشتى الحيل ، كما تذرع المنافق جد بن قيس لعدم المشاركة في المعركة وميدان الجهاد ، بأنّه ربّما تأسره الوجوه النضرة من بنات الروم وتختطف قلبه ، فينسحب من المعركة ويقع في إشكال شرعي!!

ويذكرني قول جد بن قيس بكلام بعض الضالعين في ركاب الطاغوت ، إذ كان يقول: إذا لم نضغط على الناس فإنّ ما نتسلمه من الراتب والحقوق المالية مشكل شرعا. فمن أجل التخلص من هذا الإشكال الشرعي لا بدّ من إيذاء الناس وظلمهم!.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليردّ على مثل هذه الذرائع المفضوحة قائلا :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ) بالنساء والفتيات الروميات الجميلات.

كما ويحتمل في شأن نزول الآية أن جد بن قيس كان يتذرع ببقاء امرأته وأطفاله وأمواله بلا حام ولا كفيل بعده ليتخلّص من الجهاد.

ولكن القرآن يقول مجيبا عليه وأمثاله :( أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

أي أنّ أمثال أولئك الذين تذرّعوا بحجّة الخوف من الذنب ـ هم الآن واقعون فيه فعلا ، وأن جهنم محيطة بهم ، لأنّهم تركوا ما أمرهم الله ورسوله به وراء ظهورهم وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!!

* * *

٧٣

ملاحظتان

1 ـ إن أحد طرق معرفة جماعة المنافقين في كل مجتمع ، هو التدقيق في أسلوب استدلالهم وأعذارهم التي يذكرونها ليتركوا ما عليهم من الوظائف ، فهذه الأعذار تكشف ـ بجلاء ـ ما يدور في خلدهم وباطنهم. فهم غالبا ما يتشبثون بسلسلة من الموضوعات الجزئية والمضحكة أحيانا بدلا من الاهتمام بالمواضيع المهمّة ، ويستعملون المصطلحات الشرعية لإغفال المؤمنين ويتذرّعون بالاحكام الشرعية وأوامر الله ورسوله ، في حين غارقون في دوّامة الخطايا ، جادّون في عداوتهم للرسول ودينه القويم.

2 ـ للمفسّرين أقوال مختلف في تفسير جملة( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) فقال بعضهم : هذه العبارة كناية عن إحاطة عوامل ورودهم إلى جهنم بهم ، أي أن ذنوبهم تحيط بهم!

وقال بعضهم : إنّ هذا التعبير من قبيل الحوادث الحتمية المستقبلية التي تذكر بصيغة الفعل الماضي أو الحال ، أي أن جهنم ستحيط بهم بشكل قاطع.

كما ويحتمل أن نفسر الجملة بمعناها الحقيقي ، وهو أن جهنم موجودة فعلا ، وهي عبارة عن باطن هذه الدنيا ، فالكفار قابعون في وسط جهنّم في حياتهم الدنيوية وإن لم يصدر الأمر بتأثيرها ، كما أن الجنّة موجودة في هذه الدنيا أيضا وتحيط بالجميع ، غاية ما في الأمر لما كان أهل الجنّة جديرين بها فسيكونون مرتبطين بها ؛ وأهل النّار جديرون بالنّار فهم من أهلها أيضا.

* * *

٧٤

الآيات

( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) )

التّفسير

في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إشارة إلى إحدى صفات المنافقين وعلاماتهم وبهذا تتابع البحث الذي يتناول صفات المنافقين في ذيل الآيات المتقدمة والآيات اللاحقة.

تقول الآيات أوّلا :( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ) .

سواء كانت هذه الحسنة انتصارا على العدوّ ، أو الغنائم التي تنالونها في المعارك أو أيّ تقدّم آخر.

وهذه المساءة دليل على العداوة الباطنيّة وفقدان الإيمان. فكيف يمكن لمن له

٧٥

أدنى إيمان أن يسوءه انتصار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أي مؤمن آخر؟!

ولكنّهم على خلاف هذه الحال عند الشدّة والخطب :( وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ) .

هؤلاء المنافقون عمي القلوب ينتهزون أيّة فرصة لصالحهم ومنافعهم ، ويزعمون أن ما نالوه كان بتدبيرهم وعقلهم ، إذ لم نساهم في المعركة الفلانية ولم نقع في أيّ مأزق!! كما أبتلي به الآخرون الذين لم يكن لهم نصيب من التعقل والتدبر ، وبهذه المزاعم يعودون إلى أوكارهم وهم يكادون أن يطيروا فرحا.

ولكنك ـ يا رسول الله ـ عليك أن تردّ عليهم بجواب منطقيّ متين وذلك :

أوّلا :( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا ) أجل فلا يريد بنا إلّا الخير والصلاح :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

فهم يعشقون الله فحسب ، ومنه يطلبون المدد والعون ، ويتوكلون عليه ويلتجئون إليه عند الخطوب.

وهذا خطأ كبير أبتلي به المنافقون ، إذ يتخيّلون أنّهم بعقولهم القاصرة وفكرهم المحدود يستطيعون أن يواجهوا جميع المشكلات والحوادث ، وأن يكونوا في غنىّ عن رحمة الله ولطفه!! إنّهم لا يعلمون أن جميع وجودهم لا يعدو ورقة يابسة في مهبّ العاصفة. أو كقطرة ماء في صحراء محرقة في يوم قائظ فلو لا لطف الله ومدده فما عسى أن يفعل الإنسان الضعيف أمام الشدائد والخطوب؟!

ثانيا :( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) ؟!

فإمّا أن نبير الأعداء في ساحة الحرب ونبيدهم ونعود منتصرين ، أو نقتل فننهل ورد الشهادة العذب ، فكلاهما محبّب لنا ومصدر افتخارنا.

وهكذا يختلف حالنا عن حالكم ، فنحن نتوقع لكم مساءتين : إمّا أن تصيبكم سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإلهية سواء في الدنيا أو الآخرة ، أو يكون هلاككم على أيدينا:( وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ

٧٦

بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ) تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص شقاءكم وسوء عاقبتكم.

* * *

بحوث

1 ـ المقادير وسعي الإنسان

ممّا لا شك فيه أن مآلنا وعاقبة أمرنا ـ بأيدينا ـ ما دام الأمر يدور في دائرة سعينا وجدّنا ، والقرآن الكريم يصرّح بهذا الشأن أيضا ، كقوله تعالى :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (1) ، وكقوله تعالى :( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (2) وفي آيات أخر. بالرغم من أنّ الجد والسعي هما من السنن الإلهيّة وبأمره تعالى أيضا.

إلّا أنّه عند خروج الأمر عن دائرة سعينا وجدّنا ، فإنّ يد القدر هي التي تتحكم بمآلنا وعاقبة أمرنا ، وما هو جار بمقتضى قانون العليّة الذي ينتهي إلى مشيئة الله وعلمه وحكمته وهو مقدّر علينا ، فهو ما سيكون ويقع حينئذ. غاية ما في الأمر أن المؤمنين بالله وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته ، يفسّرون هذه المقادير بأنّها جارية وفقا «للنظام الأحسن» وما فيه مصلحة العباد ، وكلّ يبتلى بمقادير تناسبه حسب جدارته التي اكتسبها.

فالجماعة إذا كانوا من المنافقين الجبناء والكسالى والمتفرقين فهي محكومة بالفناء حتما. إلّا أنّ الجماعة المؤمنة الواعية المتّحدة المصمّمة ، ليس لها إلّا النصر والتوفيق مآلا.

فبناء على ذلك يتّضح أنّ الآيات آنفة الذكر لا تنافي أصل الحرية [حرية الإرادة والإختيار] وليست دليلا على العاقبة الجبرية للإنسان أو أن سعي الإنسان لا أثر له.

__________________

(1) سورة النّجم ، 39.

(2) المدثر ، 38.

٧٧

2 ـ لا وجود للهزيمة في قاموس المؤمنين

نواجه في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ منطقا محكما متينا يستبطن السّر الأساس لانتصارات المسلمين الأوائل جميعا ، ولو لم يكن للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعليم ودستور إلّا ما نجده في هذه الآية لكان كافيا لانتصار أتباعه ومقتفي منهاجه ، وهو أنّه لا مفهوم للهزيمة في صفحات أرواحهم فقد أثبتت الحوادث أنّهم منتصرون على كل حال ، منتصرون إن استشهدتم! منتصرون إن قتلتم أعداءكم!

وإنّ للمؤمنين مسلكين لا ثالث لهما ، في أيّ منهما ساروا وسلكوا وصلوا إلى هدفهم وغايتهم.

أحدها هو طريق الشهادة التي تمثل أوج الفخر للمؤمنين ، وأعظم موهبة يمكن أن تتصور للإنسان أن يبيع الله نفسه ، ويشتري الحياة الأبدية الخالدة وجوار الله ، والتنعم بما لا يمكن وصفه من النعم.

والآخر هو الإنتصار على العدوّ وتدمير قواه الشيطانية ، وتطهير البيئة والمحيط الإنساني من لوث الظالمين والمنحرفين الضالين ، وهذا بنفسه فيض ولطف كبير وفخرمسلّم به.

فالجندي الذي يدخل ساحة المعركة بهذه الروحية والمعنوية لا يفكر بالفرار والإدبار أبدا ، ولا يخاف من أي أحد ولا من أي شيء ، فالخوف والاستيحاش والاضطراب والتردد ليس لها طريق إلى قلبه ووجوده. والجيش الذي يتألف من جنود بهذه الروحية لا يعرف الهزيمة إطلاقا.

ولا يحصل الإنسان على هذه المعنويات العالية إلّا عن طريق اعتماد التعليمات الاسلامية ، فلو أنّ هذه التعليمات تجلّت مرّة أخرى في نفوس المسلمين بالتربية السليمة والتعليم الصحيح لأمكن جبران كل اشكال التخلف الذي أصاب المسلمين.

أولئك الذين يطالعون ويدرسون أسباب تقدّم المسلمين الأوائل وانتصارهم ،

٧٨

وأسباب تأخرهم في الوقت الحاضر ، ويعدّون الأمر أحجية ولغزا لا ينحلّ ، من الأفضل لهم أن يأتوا ويفكروا في هذه الآية ليتّضح لهم الجواب على ما يرد في خواطرهم.

ممّا ينبغي الالتفات إليه آنفة الذكر عند ما تتحدث عن هزيمتي المنافقين واندحارهم ، تبيّن ذلك بتفصيل( وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا ) إلّا أنّها تمرّ على بيان انتصار المؤمنين بإجمال ، فكأنّ المسألة من الوضوح بمكان حتى أنّها لا تحتاج إلى بيان وشرح ، وهذه لطيفة بلاغيّة تناولتها الآية الكريمة.

3 ـ صفات المنافقين

نؤكّد مرّة أخرى على أنّه لا ينبغي أن نقرأ هذه الآيات ونعدّ موضوعها مسألة تاريخية ترتبط بما سبق ، بل علينا أن نعتبرها درسا ليومنا وأمسنا وغدنا ، ولجميع الناس. فليس من مجتمع يخلو من مجموعة منافقين ، قلّت أو كثرت ، وصفاتهم على شاكلة واحدة تقريبا.

فالمنافقون عادة أناس جهلة أنانيون متكبرون ، يزعمون بأنّهم يتمتّعون بقسط وافر واف من العقل والدراية! إنّهم في عذاب وحسرة ما دام الناس في راحة وسرور ويفرحون عند ما تحلّ بهم كارثة!.

إنّهم يتخبطون في دوامة من الوهم والشك والحيرة ، ولذلك فهم يخطون تارة نحو الأمام ، وأخرى إلى الوراء!!

وعلى خلافهم المؤمنون ، فهم يشاركون الناس في السراء والضرّاء ، ولا يزعمون أنّهم أولو علم ودراية ، ولا يستغنون عن رحمة الله ولطفه ، وقلوبهم تعشق الله ولا تخاف في سبيله من سواه!

* * *

٧٩

الآيات

( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) )

التّفسير

تشير هذه الآيات إلى قسم آخر من علامات المنافقين وعواقب أعمالهم ونتائجها ، وتبيّن بوضوح كيف أن أعمالهم لا أثر لها ولا قيمة ، ولا تعود عليهم بأيّ نفع.

ولما كان ـ من بين الأعمال الصالحة ـ الإنفاق في سبيل الله «الزكاة بمعناها الواسع» والصلاة «وهي العلاقة بين الخلق والخالق» ـ لهما موقع خاص ، فقد اهتمّت الآيات بهذين القسمين اهتماما خاصا!

تخاطب الآيات النّبي الكريم فتقول :( قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ

٨٠