الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 261203 / تحميل: 6486
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

مِنْكُمْ ) (١) .

ثمّ تشير الآية إلى سبب ذلك فتقول :( إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ) .

فنيّاتكم غير خالصة ، وأعمالكم غير طاهرة ، وقلوبكم مظلمة ، وإنّما يتقبل الله العمل الطاهر من الورع التقي.

وواضح أنّ المراد من الفسق هنا ليس هو الذنب البسيط والمألوف ، لأنّه قد يرتكب الإنسان ذنبا وهو في الوقت ذاته قد يكون مخلصا في أعماله ، بل المراد منه الكفر والنفاق ، أو تلوّث الإنفاق بالرياء والتظاهر.

كما لا يمنع أن يكون الفسق ـ في التعبير آنفا ـ في مفهومه الواسع شاملا للمعنيين، كما ستوضح الآية التالية ذلك.

وفي الآية التالية يوضح القرآن مرّة أخرى السبب في عدم قبول نفقاتهم فيقول :( وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ) .

والقرآن يعوّل كثيرا على أنّ قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإيمان ، حتى أنّه لو قام الإنسان بعمل صالح وهو مؤمن ، ثمّ كفر بعد ذلك فإنّ الكفر يحبط عمله ولا يكون له أي أثر «بحثنا في هذا المجال في المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل».

وبعد أن أشار القرآن إلى عدم قبول نفقاتهم ، يشير إلى حالهم في العبادات فيقول:وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) كما أنّهم( وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ) .

وفي الحقيقة أنّ نفقاتهم لا تقبل لسببين :

الأوّل : هو أنّهم( كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ) .

والثّاني : أنّهم إنما ينفقون عن كره وإجبار.

كما أن صلواتهم لا تقبل لسببين أيضا :

الأوّل : لأنّهم( كَفَرُوا بِاللهِ ) .

__________________

(١) جملة «أنفقوا» وإن كانت في صورة الأمر ، إلّا أن فيها مفهوم الشرط ، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم.

٨١

والثّاني : أنّهم( لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى ) ! العبارات المتقدمة في الوقت الذي تبيّن حال المنافقين في عدم النفع من أعمالهم ، فهي في الحقيقة تبيّن علامة أخرى من علائمهم في الوقت ذاته ، وهي أن المؤمنين الواقعيين يمكن معرفتهم من نشاطهم عند أداء العبادة ، ورغبتهم في الأعمال الصالحة التي تتجلى فيهم بإخلاصهم.

كما يمكن معرفة حال المنافقين عن طريق كيفية أعمالهم ، لأنّهم يؤدّون أعمالهم عادة دون رغبة ومكرهين ، فكأنّما يساقون إلى عمل الخير سوقا.

وبديهي أنّ أعمال الطائفة الأولى (المؤمنين) لما كانت تصدر عن قلوب تعشق الله مقرونة بالتحرق واللهفة ، فإنّ جميع الآداب ومقرراتها مرعية فيها. إلّا أنّ الطائفة الثّانية لما كانت أعمالها تصدر عن إكراه وعدم رغبة ، فهي ناقصّة لا روح فيها ، وهكذا تكون البواعث المختلفة في أعمال الطائفتين تظفي على الأعمال شكلين مختلفين.

وفي آخر الآية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب نحو النّبي قائلا :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ) .

فهي وإن كانت نعمة بحسب الظاهر ، إلّا أنّه( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) .

وفي الواقع فإنّهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد ، أي القوة الاقتصادية والإنسانية :

فالأوّل : إنّ مثل هؤلاء الأبناء لا يكونون صالحين عادة ، ومثل هذه الأموال لا بركة فيها ، فيكونان مدعاة قلقهم وألمهم في الحياة الدنيا ، إذ عليهم أن يسعوا ليل نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم ، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإثمّ والحرام.

٨٢

والثّاني : لما كانوا بهذه الأموال والأولاد متعلقين ، ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد فليس من الهيّن أن يغمضوا عن هذه الأموال والذّرية، ويخرجون من هذه الدنيا ـ بحال مزرية وفي حال الكفر.

فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والاطمئنان والدعة إذا كانا طاهرين طيبين وإلّا فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.

* * *

ملاحظتان

١ ـ يسأل بعضهم : إنّ الآية الأولى ـ من الآيات محل البحث ـ تقول :( أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ) مع أن الآية الأخرى تقول بصراحة :( وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ ) .

ترى ألا توجد منافاة بين هذين التعبيرين؟!

لكن مع قليل من الدقة يتّضح الجواب على هذا السؤال ، وهو أن بداية الآية الأولى في صورة القضية الشرطية ، أي لو أنفقتم طوعا أو كرها فعلى آية حال لن تتقبل منكم. ونعرف أن القضية الشرطية لا تدل على وجود الشرط ، أي على فرض أن ينفقوا طوعا واختيارا فإنفاقهم لا فائدة فيه ، لأنّهم غير مؤمنين.

إلّا أنّ ذيل الآية الأخرى بيان قضية خارجيّة ، وهي أنّهم ينفقون عن إكراه دائما.

٢ ـ والدرس الذي نستفيده من الآيات الآنفة ، هو أنّه لا ينبغي الانخداع بصلاة الناس وصيامهم ، لأنّ المنافقين يؤدون ذلك أيضا ، كما أنّهم ينفقون بحسب الظاهر في سبيل الله. بل ينبغي تمييز الصلاة والإنفاق بدافع النفاق من غيرهما عن أعمال

٨٣

المؤمنين البنّاءة والهادفة ، ويمكن معرفة ذلك بالتدقيق والإمعان في النظر ، ونقرأ في الحديث : «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فإنّ ذلك شيء اعتاده ، ولو تركه استوحش ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته».

* * *

٨٤

الآيتان

( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) )

التّفسير

علامة أخرى للمنافقين :

ترسم الآيتان أعلاه حالة أخرى من أعمال المنافقين بجلاء ، إذ تقول الآية الأولى :( وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) ومن شدّة خوفهم وفرقهم يخفون كفرهم ويظهرون الإيمان.

و «يفرقون» من مادة «الفرق» على زنة «الشفق» ومعناه شدّة الخوف.

يقول «الراغب» في «المفردات» إن الفرق في الأصل معناه التفرّق والتشتت ، فكأنّهم لشدّة خوفهم تكاد قلوبهم أن تتفرق وتتلاشى.

وفي الواقع أنّ مثل هؤلاء لما فقدوا ما يركنون إليه في أعماقهم ، فهم في هلع واضطراب عظيم دائم ، ولا يمكنهم أن يكشفوا عمّا في باطنهم لما هم عليه من الهلع والفزع ، وحيث أنّهم لا يخافون الله «لعدم إيمانهم به» ، فهم يخافون من كل شيء غيره ، ويعيشون في استيحاش دائم ، غير أنّ المؤمنين الصادقين ينعمون في

٨٥

ظل الإيمان بالهدوء والاطمئنان.

والآية التالية تصوّر شدّة عداوة المنافقين للمؤمنين ونفورهم منهم ، في عبارة موجزة إلّا أنّها في غاية المتانة والبلاغة ، إذ تقول :( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) .

«الملجأ» معناه معروف ، وهو ما يأوي إليه الخائف عادة ، كالقلاع والكهوف وأضرابهما.

و «المغارات» جمع مغارة.

و «المدّخل» هو الطريق الخفي تحت الأرض ، كالنقب مثلا.

و «يجمحون» مأخوذ من الجماح ، ومعناه الحركة السريعة والشديدة التي لا يتأتى لأيّ شيء أن يصدها ، كحركة الخيول المسرعة الجامحة التي لا تطاوع أصحابها ، ولذلك سمّي الجواد الذي لا يطاوع صاحبه جموحا أو جامحا.

وعلى كل حال ، فهذه الآية واحدة من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها القرآن في وصف المنافقين ، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إخوانهم المؤمنين ، بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين ، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض ، لولّوا إليه وهم يجمحون ، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم من القبيلة والأموال والثروة ، كل ذلك يضطرهم إلى البقاء على رغم أنوفهم.

* * *

٨٦

الآيتان

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) )

سبب النّزول

جاء في تفسير «الدر المنثور» عن «صحيح البخاري» و «النسائي» وجماعة آخرين ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مشغولا بتقسيم الأموال (من الغنائم أو ما شاكلها) ، وإذا برجل من بني تميم يدعى ذو الخويصرة ـ وهو حرقوص بن زهير ـ يأتي فيقول له : يا رسول الله ، اعدل. فقال رسول الله : «ويلك من يعدل إذا لم أعدل!» فصاح عمر : يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه. فقال رسول الله : «دعه فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلواتهم وصومهم مع صومه ، يمرقون من دين كما يمرق السهم من الرميّة ...».(١)

فنزلت الآيتان عندئذ ونصحت مثل هؤلاء الناس ووعظتهم.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٢٧.

٨٧

التّفسير

الأنانيون السفهاء :

في الآية الأولى أعلاه إشارة إلى حالة أخرى من حالات المنافقين ، وهي أنّهم لا يرضون أبدا بنصيبهم ، ويرجون أن ينالوا من بيت المال أو المنافع العامّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، سواء كانوا مستحقين أم غير مستحقين ، فصداقتهم وعداوتهم تدوران حول محور المنافع سلبا وإيجابا.

فمتى ملئت جيوبهم رضوا (عن صاحبهم) ومتى ما أعطوا حقّهم وروعي العدل في إيتاء الآخرين حقوقهم سخطوا عليه ، فهم لا يعرفون للحق والعدالة مفهوما «في قاموسهم» وإذا كان في قاموسهم مفهوم للحق أو العدل ، فهو على أساس أن من يعطيهم أكثر فهو عادل ، ومن يأخذ حق الآخرين منهم فهو ظالم!!

وبتعبير آخر : إنّهم يفقدون الشخصية الاجتماعية ، ويتمسكون بالشخصية الفردية والمنافع الخاصّة ، وينظرون للأشياء جميعا من هذه الزّاوية (المشار إليها آنفا).

لذا فإنّ الآية تقول :( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) لكنّهم في الحقيقة ينظرون إلى منافعهم الخاصّة( فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ) .

فهؤلاء يرون أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير منصف ولا عادل!! ويتهمونه في تقسيمه المال!.

( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ ) .

ترى ألا يوجد أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؟! وهل الناس جميعا قانعون بحقّهم المشروع! فمن أعطاهم حقهم حسبوه عادلا؟!

ممّا لا ريب فيه أنّ الجواب على السؤال الآنف بالنفي ، ومع كل الأسف فما

٨٨

يزال الكثيرون يقيسون العدل ويزنون الحق بمعيار المنافع الشخصيّة ولا يقنعون بحقوقهم!! ولو قدّر لأحد أن يوصل إلى جميع الناس حقوقهم المشروعة ولا سيما المحرومين منهم ـ لتعالى صراخهم وعويلهم!!

فبناء على ذلك ، لا داعي لأن نقلب ونتصفح سجل التاريخ لمعرفة المنافقين.

فبنظرة واحدة إلى من حولنا ، بل بنظرة إلى أنفسنا ، نستطيع أن نميز حالنا من حال الآخرين!

اللهم ، أحي فينا روح الإيمان ، وأمت في أنفسنا النفاق وأفكار الشيطان.

* * *

٨٩

الآية

( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) )

التّفسير

موارد صرف الزكاة ودقائقها :

في تاريخ صدر الإسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح ، إحداهما في مكّة ، حيث كان هدف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر التعاليم الإسلامية. والثّانية في المدينة ، حيث أقدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تشكيل حكومة إسلاميّة أجرى من خلالها الأحكام والتعاليم الإسلامية.

وممّا لا شك فيه أنّ أوّل وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت المال ، إذ عن طريقه تؤمّن حاجات الدولة الاقتصادية ، وهي حاجات طبيعية توجد في كل دولة بدون استثناء ، ومن هنا كان إيجاد بيت المال من أوائل أعمال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، وتشكل الزكاة أحد موارده ، وعلى المشهور فإنّ هذا الحكم شرّع في السنة الثّانية للهجرة النبوية.

٩٠

وكما سنشير ـ بعد حين ـ إلى إرادة الله وحكمه ، فإنّ حكم الزكاة قد نزل من قبل في مكّة ، لكن لا على نحو وجوب جمعها في بيت المال ، بل كان الناس يؤدونها ذاتيا ، أمّا في المدينة فإنّ قانون جباية الزكاة وجمعها في بيت المال قد صدر من الله تعالى في الآية (١٠٣) من سورة التوبة.

إنّ الآية التي نبحثها ، والتي نزلت يقينا بعد آية وجوب الزكاة ـ وإن لم يسبق لها ذكر في القرآن الكريم ـ تبيّن الموارد المختلفة التي تصرف فيها الزكاة. وممّا يلفت النظر أن الآية بدأت بكلمة (إنّما) الدالّة على الحصر ، وهي توحي بأنّ بعض الأفراد الأنانيين أو المغفلين كانوا يطمعون في أن يحصلوا على نصيب من الزكاة بدون أي وجه لاستحقاقهم لها ، لكن كلمة (إنّما) ردّت أيديهم في أفواهم. وهذا المعنى تبيّنه الآيتان اللتان سبقت هذه الآية ، حيث ذكرت أنّ هؤلاء كانوا يعترضون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم إعطائهم شيئا من الزكاة ، ويرضون عنه إذا أعطاهم شيئا منها.

وعلى أي حال ، فإنّ الآية قد بيّنت ـ بوضوح ـ الموارد الحقيقة التي تصرف فيها الزّكاة ، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزّكاة في ثمانية أصناف :

١ ـ الفقراء.

٢ ـ المساكين : وسيأتي البحث في نهاية تفسير الآية عن الفرق بين الفقير والمسكين.

٣ ـ العاملين عليها : وهم الذين يسعون في جباية الزكاة ، وإدارة بيت المال ، وما يعطى لهم هو في الواقع بمنزلة أجرة عملهم ، ولهذا لا يشترط فيهم الفقر على أي حال.

٤ ـ المؤلفة قلوبهم : وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي من أجل النهوض بالأهداف الإسلامية وتحقيقها ، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة بذل المال لهم ، والاستفادة منهم في الدفاع عن الإسلام وتحكيم دولته ، وإعلاء

٩١

كلمته. وسيأتي توضيح أوسع حول هذا القسم.

٥ ـ في الرقاب : وهذا يعني أن قسما من الزكاة يخصّص لمحاربة العبودية والرق وإنهاء هذه الحالة غير الإنسانية ، وكما قلنا في محله فإنّ برنامج الإسلام في معالجة مسألة الرقيق هو اتباع نظام (التحرير التدريجي) الذي ينتهي إلى تحرير جميع العبيد بدون مواجهة ردود فعل اجتماعية غير متوقعة ، ويشكّل تخصيص قسم من الزكاة لهذا الموضوع جانبا من هذا البرنامج المتكامل.

٦ ـ الغارمون : وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم ، ولم يكن هذا العجز نتيجة لتقصيرهم.

٧ ـ في سبيل الله : والمراد منه ـ كما سنشير إليه في آخر تفسير الآية ـ جميع السبل التي تؤدي إلى تقوية ونشر الدين الإلهي ، وهي أعم من مسألة الجهاد والتبليغ وأمثالها.

٨ ـ ابن السبيل : وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما ، وليس معهم من الزاد والراحلة ما يوصلهم إلى بلدانهم أو إلى الجهة التي يقصدونها ، حتى ولو لم يكونوا فقراء في واقعهم ، لكنّهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو قلّة أموالهم أو لأسباب أخر ، ومثل هؤلاء يجب أن يعطوا من الزكاة ما يوصلهم إلى مقصدهم أو بلدهم.

وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة ، ولذلك قال سبحانه :( فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) ولا شك أنّ هذه الفريضة قد حسبت بصورة دقيقة جدّا ، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع ، لأنّ( اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

* * *

٩٢

بحوث

وهنا أمور ينبغي ملاحظتها :

١ ـ الفرق بين الفقير والمسكين

هناك بحث بين المفسّرين في مفهومي الفقير والمسكين ، هل أنّ مفهومهما واحد ، وتكرار اللفظين معا في الآية من باب التأكيد فتصبح موارد صرف الزكاة سبعة لا ثمانية ، أم أنّهما لهما معنيان مختلفان؟

أغلب المفسّرين والفقهاء قالوا بالثّاني ، لكن وقع البحث حتى بين أنصار هذا القول في تفسير وتحديد مفهوم كل من الكلمتين ، والذي يبدو أقرب للنظر ، أنّ( الْفَقِيرَ ) هو الشخص الذي يعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنّه يعمل ويكتسب ، لكنّه لا يسأل أحدا مطلقا رغم حاجته لعفته وعزّة نفسه ، أمّا المسكين فهو أشد حاجة من الفقير ، وهو العاجز عن العمل ، فهو مضطر لأنّ يستعطي الناس ويسألهم. والدليل على ذلك أنّ الأصل اللغوي لكلمة مسكين مأخوذ من مادة السكون ، لأنّ المسكين لشدة فقره كأنّه سكن وأخلد إلى الأرض.

ثمّ إنّ ملاحظة استعمال الكلمتين في مواضع متعددة من القرآن يؤيد هذا الرأي ، فمثلا : نقرأ في الآية (١٦) من سورة البلد :( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) وفي الآية (٨) من سورة النساء :( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ) ويفهم من هذا التعبير أنّ المراد بالمساكين هم الذين يسألون ويستعطون إذا حضروا مثل هذه المواضع.

وفي الآية (٢٤) من سورة القلم نقرأ :( أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) وهي إشارة إلى السائلين.

وكذلك التعبير ب (إطعام مسكين) أو (طعام مسكين) ، فإنّه يوحي بأنّ المساكين هم الجياع الذين يحتاجون إلى الطعام ، في حين أنّنا نستطيع أن نفهم بوضوح ـ من خلال بعض الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة الفقير ـ أنّ المراد من الفقراء هم

٩٣

أفراد محتاجون للمال لكنّهم لحفظ ماء الوجه ولعزة أنفسهم لا يسألون الناس مطلقا ، كما تبين ذلك الآية (٢٧٣) من سورة البقرة :( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ ) .

وبعد كل هذا ففي رواية رواها محمّد بن مسلم عن الإمام الصادق أو الإمام الباقرعليهما‌السلام ، أنّه سأله عن الفقير والمسكين فقال : «الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل»(١) . وبهذا المضمون وردت رواية عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام ، وكلتاهما صريحتان في المعنى السابق.

ونذكّر هنا بأنّ قسما من القرائن قد يظهر منه أحيانا خلاف ما قلناه ، إلّا أنّنا إذا نظرنا إلى مجموع القرائن اتّضح أن الحق ما قلناه.

٢ ـ هل يجب تقسيم الزّكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية؟

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء متساوية ، وصرف كل جزء في مورده الخاص إلّا أن يكون مقدار الزكاة من القلّة بحيث لا يمكن تقسيمه إلى ثمانية أقسام.

أمّا الأكثرية الساحقة من الفقهاء فقد ذهبوا إلى أن ذكر الأصناف الثمانية في الآية يبيّن جواز صرف الزكاة في هذه الموارد ، لا أنّه يجب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء. والسيرة الثابتة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تؤيّد هذا المعنى ، إضافة إلى أنّ الزكاة إحدى الضرائب الإسلامية ، والحكومة الإسلامية هي المسؤولة عن جبايتها من الناس ، والهدف من تشريعها هو تأمين الحاجات المختلفة للمجتمع الإسلامي.

أمّا كيفية صرف الزكاة في هذه الموارد الثمانية ، فإنّه يرتبط بالضرورات الاجتماعية من وجه ، وبرأي ووجهة نظر الحكومة الإسلامية من جهة أخرى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ١٤٤ ، باب ١ من أبواب مستحقي الزكاة ، حديث ٢.

٩٤

٣ ـ متى شرعت الزّكاة؟

يستفاد من الآيات القرآنية المختلفة ـ ومن جملتها الآية (١٥٦) من سورة الأعراف ، والآية (٣) من سورة النمل ، والآية (٤) من سورة لقمان ، والآية (٧) من سورة فصلت ، وكلها سور مكّية ـ أن حكم وجوب الزكاة نزل في مكّة ، وكان المسلمون ملزمين بأدائها كواجب شرعي ، لكن لما قدم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة وأسس الدولة الإسلامية ، وكان لا بدّ من إيجاد بيت المال ، أمره الله سبحانه بأن يأخذ الزكاة من الناس بنفسه ـ لا أنهم يصرفون الزكاة بأنفسهم حسب ما يرونه ـ فنزلت الآية (١٠٣) من سورة التوبة :( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) .

والمشهور أنّ ذلك انّ في السنة الثّانية للهجرة ، ثمّ بيّنت الآية التي نبحثها ـ الآية (٦٠) من سورة التوبة ـ موارد صرف الزكاة بصورة دقيقة. ولا ينبغي التعجب من أن تشريع أخذ الزكاة في الآية (١٠٣) ، وبيان موارد صرفها ـ والذي يقال أنّه نزل في السنة التاسعة للهجرة ـ في الآية (٦٠) ، لأنا نعلم أن آيات القرآن لم تجمع وترتب حسب تأريخ نزولها ، بل بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أمر بوضع كل آية في مكانها المناسب.

٤ ـ من هم المقصودون ب( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ؟

الذي يفهم من تعبير( الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) أن أحد موارد صرف الزكاة هم الأفراد الذين يراد استمالتهم وجلب محبّتهم بالزكاة ، لكن هل المراد منهم الكفار الذين يمكن الاستعانة بهم في أمر الجهاد ببذل الزكاة لهم ، أم يدخل معهم المسلمون ضعيفو الإيمان؟

وكما قلنا في المباحث الفقهية ، فإنّ لهذه الآية ، وكذلك للروايات الواردة في هذا الموضوع مفهوما واسعا ، ولهذا فإنّها تشمل كل من يمكن استمالته من أجل نفع وتحكيم الإسلام ، ولا دليل على تخصيصها بالكفار.

٩٥

٥ ـ دور الزّكاة في الإسلام

إذا علمنا أنّ الإسلام يظهر على أنّه مذهب أخلاقي أو فلسفي أو عقائدي بحت ، بل ظهر إلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية والمعنوية في الحياة ، وكذلك إذا علمنا أن تشكيل وتأسيس الدولة الإسلامية قد لازم ظهور الإسلام منذ عصر النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا علمنا أن الإسلام يهتم اهتماما خاصّا بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أنّ دور بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده ، من أهم الأدوار.

لا شك أن في كل مجتمع أفرادا عاجزين عن العمل ، مرضى ، يتامى ، معوقين ، وأمثالهم ، وهؤلاء يحتاجون حتما إلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم.

وكذلك يحتاج هذا المجتمع إلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه ، أمّا مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإنّ الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إليهم. وكذلك العاملون في الدولة الإسلامية ، الحكام والقضاة ، وسائل الإعلام والمراكز الدينية وغيرها ، فكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى ميزانية خاصّة ومبالغ طائلة لا يمكن تهيئتها دون أن يكون هناك نظام مالي محكم منظم.

وعلى هذا الأساس أولى الإسلام الزكاة ـ التي تعتبر في الحقيقة نوعا من الضرائب على الإنتاج والأرباح ، وعلى الأموال الراكدة ـ اهتماما خاصا ، حتى أنّه اعتبرها من أهم العبادات ، وقد ذكرت ـ جنبا إلى جنب ـ مع الصلاة في كثير من الموارد ، بل إنّه اعتبرها شرطا لقبول الصلاة.

وأكثر من هذا أننا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الدولة الإسلامية إذا طلبت الزكاة من شخص أو أشخاص وامتنع هؤلاء من ذلك فسوف يحكم بارتدادهم ، وإذا لم تنفع النصيحة معهم ولم يؤثر الموعظة فيهم ، فإنّ الاستعانة بالقوّة العسكرية لمقابلتهم أمر جائز.

٩٦

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من منع قيراطا من الزكاة فليس هو بمؤمن ، ولا مسلم ، ولا كرامة».(١)

وممّا يلفت النظر أنّ الرّوايات قد أظهرت أن تعين الزكاة بهذا المقدار يبيّن دقة حسابات الإسلام ، فإنّ المسلمين جميعا لو أدّوا زكاة أموالهم بصورة دقيقة وكاملة فسوف لن يبقى فقير أو محروم في كافة أنحاء البلاد الإسلامية. ففي رواية عن الصادقعليه‌السلام : «ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا وإن الناس ما افتقروا ، ولا احتاجوا ، ولا جاعوا ، ولا عروا إلّا بذنوب الأغنياء»(٢) .

وكذلك يفهم من الرّوايات أنّ أداء الزكاة سبب لحفظ أصل الملك والأموال وتحكيم أسسها ، بحيث أنّ الناس إذا أهملوا تطبيق هذا الأصل الإسلامي المهم فإنّ الفاصلة والتفاوت بين الطبقات سيصل إلى حد يعرض أموال الأغنياء إلى الخطر.

في حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : «حصّنوا أموالكم بالزكاة»(٣) . وبهذا المضمون نقلت روايات أخرى عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام .

ولمزيد الاطلاع على هذه الأحاديث راجع الأبواب : الأوّل والثّالث والرّابع والخامس من أبواب الزكاة من المجلد السّادس من وسائل الشيعة.

٦ ـ ما الفرق بين العطف بـ «اللام أو في»؟

النقطة الأخيرة التي ينبغي الالتفات إليها ، هي أنّ في الآية التي نبحثها أربعة أقسام ذكرت معطوفة على حرف اللام :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٠ ، باب ٤ ، حديث ٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٤ ، باب ١ من أبواب الزكاة حديث ٦.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٦ ، باب ١ ، من أبواب الزكاة ، حديث ١١.

٩٧

وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) ، وهذا التعبير عادة يفيد الملكية. أمّا الأقسام الأربعة الأخرى فقد سبقها حرف (في) :( وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ، وهذا التعبير عادة يستعمل لبيان مورد الصرف(١) .

هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في سبب اختلاف التعبير ، فالبعض يعتقد أن الأصناف الأربعة الأولى يملكون الزكاة ، أمّا الأصناف الأربعة الأخرى فإنّهم لا يملكونها ، بل إن الزكاة يجوز أن تصرف فيهم.

والبعض الآخر يعتقد أن الاختلاف في التعبير يشير إلى مسألة أخرى ، وهي أنّ الطائفة الثّانية أكثر استحقاقا للزكاة ، لأن كلمة (في) لبيان الظرفية ، لهذا فإن هذه المجموعة الرباعية تمثل محتوى ومصرف الزكاة ، والزكاة ووعاء لها ، في حين أن المجموعة الأولى ليست كذلك.

لكننا نحتمل ونرجح احتمالا آخر ، وهو أن الستة أقسام ـ وهم : الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل ـ التي لم تذكر قبلها (في) متساوون وقد عطفت على بعضها البعض ، أمّا القسمان الآخران ـ وهما في الرقاب وفي سبيل الله ـ اللذان بيّنتهما (في) فإنّ لهما وضعا خاصا ، وربّما كان السبب في اختلاف التعبير من جهة إمكان تملك الزكاة من قبل الأصناف الستة ، ويمكن أداء الزكاة إليهم (حتى المدينين والعاجزين عن أداء ديونهم ، لكن بشرط الاطمئنان إلى أنّ هؤلاء يصرفونها في سداد ديونهم).

أمّا الصنفان الآخران فلا يملكون الزكاة ، ولا يمكن دفع الزكاة إليهم ، بل تصرف في جهتهم ، فمثلا يجب الشراء العبيد وتحريرهم عن طريق الزكاة ، ومن الواضح أنّهم لا يملكون الزكاة في هذه الحالة ، بل صرفت الزكاة في جهة

__________________

(١) ينبغي الانتباه إلى أن (في) قد ذكرت صريحا في موردين ، وعطف على مجرور (في) في موردين ، كما أن اللام قد ذكرت في مورد واحد ، وعطف الباقي عليها.

٩٨

تحريرهم. وكذلك الحال بالنسبة إلى الموارد التي تندرج تحت عنوان (في سبيل الله) كنفقات الجهاد ، وإعداد الأسلحة ، أو بناء المساجد والمراكز الدينية ، وأمثال هذه المفردات لا تملك الزكاة بل أنّها مورد لصرف الزكاة.

وعلى أي حال ، فإنّ التفاوت الاختلاف في التعبير يوضح الدقة المتناهية في التعبيرات القرآنية.

* * *

٩٩

الآية

( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) )

سبب النّزول

هذا حسن لا قبيح!

ذكرت عدّة أسباب متباينة لنزول الآية المذكورة ومنها أنّ الآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يذكرون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوء ، فنهاهم أحدهم وقال : لا تتحدثوا بهذا الحديث لئلا يصل إلى سمع محمّد فيذكرنا بسوء ويؤلب الناس علينا.

فقال له أحدهم ـ واسمه جلاس ـ : لا يهمنا ذلك ، فنحن نقول ما نريد ، وإذا بلغه ما نقول سنحضر عنده وننكر ما قلناه ، وسيقبل ذلك منا فإنّه سريع التصديق لما يقال له ، ويقبل كل ما يقال من كل أحد ، فهو أذن ، فنزلت الآية وأجابتهم.

التّفسير

تتحدّث الآية ـ كما يفهم من مضمونها ـ عن فرد أو أفراد كانوا يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلامهم ويقولون أنّه أذن ويصدّق كل ما يقال له سريعا( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

غلبة الغريزة على العلم:

ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف!

ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الارتشاء وأكل أموال الناس بالباطل، وإثبات فساد ذلك من الناحية الاجتماعية والقضائية والاقتصادية والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق، لا يتورعون من أخذ الرشوة، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد!

ما أكثر المتمدّنين الذي يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم، ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي، ولكنهم لا يستطيعون الامتناع عن شربها حتى ليلة واحدة!

ولهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء الذين لا يطبّقون علمهم، وينقادون لأهوائهم... منها:

1 - قوله ( ص): (العلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فقد هلك) (1) .

2 - وقد ورد أيضاً: (أوحى الله إلى داود: لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدنيا، فأولئك قطاع الطريق على عبادي) (2) .

3 - قال رسول الله ( ص): يا أبا ذر، إن شر الناس عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه) (3) .

____________________

(1) لئالي الأخبار ص 192.

(2) لئالي الأخبار ص 192.

(3) لئالي الأخبار.

٣٦١

4 - وفي حديث آخر: (أشد الناس عذاباً في القيامة، عالم لم يعمل بعلمه، ولم ينفعه علمه) (1) .

إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يوماً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية... وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتفاع مستوى الثقافة عاجز بوحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الإنسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الإنسانية. ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا!

(إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد اضمحلال بعض القيود والموانع الاجتماعية؛ تثبت أنه وإن كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويوجدون المدنيات المختلفة، لكنهم ليسوا متمدنين).

(هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الاجتماعية فقط) (2) .

الهمجية في لباس التمدُّن:

لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والإنسانية قبل الحرب العالمية. ولكنه عندما اندلعت نيران الحرب انفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة... وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية - أي لباسه الواقعي - فقد استولت سحب الإجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والانتقام محل الضحكات المصطنعة في وجوه الجماهير المتمدنة!

(النفي، والقتل العام للمدنيين، ومعسكرات العمل الإجباري ( التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب

____________________

(1) مجموعات ورام ج 1|220.

(2) إنديشه هاي فرويد ص 116.

٣٦٢

والقمع والإرهاب) والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل... كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب. ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية، وهكذا اختفت مظاهر احترام الحياة والمثل الإنسانية، والقيم الأخلاقية في كل مكان) (1) .

لقد كان فرويد ( وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإلهية) قبل الحرب يأمل بانتشار التعاليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة؛ حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها... إنه يقول:

(إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدّم خدمات مهمة إلى الإنسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الاجتماعية، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي) (2) .

إن فرويد يوصي بما يلي: (من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني، فيعود الناس على غض النظر عن هذه التسلية، ولأجل أن يثبتوا أمام الأخطار والصدمات معتمدين على أنفسهم فقط، عليهم أن يهجروا هذا الملجأ).

إنه يعتقد بأن: (الفرد يستطيع في هذه الصورة فقط أن يكون إنساناً راشداً، وسيبدأ الكفاح مع القوى الشريرة في الطبيعة) (3) .

____________________

(1) انديشه هاى فرويد ص 117.

(2) انديشه هاى فرويد ص 96.

(3) انديشه هاى فرويد ص 97.

٣٦٣

أوهام فرويدية:

كان فرويد يعتقد قبل بدء الحرب العالمية بارتفاع المستوى الأخلاقي للأمة في ظل المدنية، إنه كان يتصور أن الإنسان يستطيع في ظل المدنية الحديثة وأصول التربية المادية أن يصل إلى طريق الفضيلة القيم العليا، لكن اندلاع نيران الحرب والجرائم التي وقعت فيه هزت أفكار فرويد، وقلبت تفكيره رأساً على عقب، فاعترف بأوهامه السابقة وتفكيره الخاطئ... وراح يقول:

(ولقد أدت مشاهدة الأعمال التي نتصورها غير مطابقة للمدنية، وما نتج من هذه الأعمال الوحشية من نظرتنا إلى البشر على أنهم مجرمون إلى أن نغرق في الألم والتأثر واليأس. ولكن هذا لا يأس والألم ليسا وجيهين في الحقيقة، وذلك أنا نعتبر سكّان العالم لهذه الجهة منحطين، وقد كنا مخطئين في نظرتنا إليهم قبل الحرب على أنهم في مستوى أخلاقي ومعنوي أعلى مما هم عليه) (1) .

(بعد سرد هذا البيان الموجز الذي يوضح فرويد فيه ضرورة وقوف المدنية أمام الاعتداءات البشرية، يستنتج أن الجهود والمحاولات المبذولة في هذا السبيل لحد الآن لم تكن مثمرة كما ينبغي، ولا تزال الاعتداءات موجودة حلف أستار المجتمع).

(هناك كثير من المتمدنين الذين يستاءون من تصور ارتكاب القتل أو الاتصال الجنسي مع المحارم، ولكن هؤلاء أنفسهم لا يعرضون عن إرضاء جشعهم وحرصهم واعتدائهم وأطماعهم الجنسية).

(إنهم إذا استطاعوا الفرار من العقاب، فسيلحقون الأذى

____________________

(1) انديشه هاى فرويد ص 117.

٣٦٤

بالأفراد الآخرين عن طريق الكذب، والخداع، والفتراء، وما شاكل ذلك...) (1) .

(إن الحكومة تعتبر جميع الأمور المخالفة للعدالة والاعتداءات الأخرى التي لا يسمح بها في الأوقات الاعتيادية مباحة في حال الحرب. ولذلك فإن الحكومة لا تكتفي بالاستعانة بالمكر والحيلة المواجهة العدو فقط، بل لا تمانع من الكذب العمد. ولقد لوحظ أن الكذب والتزوير كانا رائجين في الحرب العالمية بصورة غير مألوفة قبلاً) (2) .

التمدن الفاقد للإيمان:

إن المدينة المادية وأساليب التعليم والتربية التي لا تستند إلى الإيمان تعجز عن أن تقاوم الغرائز عند طغيانها وتحمي البشرية من السقوط والانهيار.

إن الحرب العالمية كشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للمدنية بجرائمها التي تضمنتها والاعتداءات التي ارتكبت في أثنائها وأثبتت أن وراء ستار المدنية الزائفة هيكل موحش سفاك تهتز الإنسانية من تصوره، وتخجل أشد أمم العالم وحشية من سماعه.

إن أقوى وأسلم قوة تستطيع صد هجمات الغرائز والسيطرة عليها، وتتمكن من تلطيف حدة المشاعر... هي قوة الإيمان بالله. فالإيمان قادر على أن يقاوم كل الميول والرغبات اللامشروعة وينتصر عليها... القوة الإيمانية تحفظ الإنسان في أخطر لحظات الانحراف والانزلاق في الحياة وتمنع من سقوطه الإيمان بالله قوة لا تغلب ولا تدحر، وملجأ لا يتحطم (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى، لا انفصال لها).

إن أهم طابع يميز مدرسة التربية الإسلامية عن غيرها من الأساليب التربوية البشرية هو (الإيمان بالله).

____________________

(1) انديشه هاى فرويد ص 123.

(2) انديشه هاى فرويد ص 125.

٣٦٥

يشترك الإسلام وعلماء الأخلاق في دعوة الناس إلى الصلاح والاستقامة، لكن الفارق بينهما هو أن العلماء والقائمين على شئون التربية يهتمون قبل كل شيء بالسلوك الظاهري للأفراد، ويحاولون أن يربوا أفراداً مطيعين للقانون، ولا شأن لهم أو دخل في أسلوب تفكيرهم. أما الهدف من التربية في الإسلام فهو أن يتربى الأفراد، مضافاً إلى استقامة سلوكهم على التفكير السليم، وأن لا يحاولوا إلا الصلاح والخير.

النوايا الصالحة:

تهتم الدول المتمدنة والمدارس التربوية في العالم بالسلوك الصحيح للإنسان فقط. أما المذهب التربوي للإسلام فهو يهتم بالنوايا الصالحة والطاهرة للأفراد أكثر من أفعالهم الصالحة.

يقول الرسول الأعظم ( ص): (نية المؤمن خير من عمله) (1) .

وعن الإمام الصادق ( ع) ضمن حديث طويل: (والنية أفضل من العمل، ألا وإن النية هو العمل)، ثم تلا قوله عَزَّ وجَلَّ: ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ) يعني: (على نيته) (2) .

إن الفرد المنقاد للقانون والمطبق للتعاليم الأخلاقية يعد في الدول المتمدنة فرداً صالحاً ومواطناً شاعراً بمسؤوليته ولو كان شعوره الباطن منحرفاً وسيئاً، أما المذهب الإسلامي فيرى أن المسلم الواقعي والشاعر بمسؤوليته هو الذي يعتقد بأساس الإسلام وتعاليمه القانونية والأخلاقية بالدرجة الأولى، ويعتبر ذلك كله دستوراً إلهياً، ومنهجاً قويماً لسعادته ونجاته، ثم يطبق تلك التعاليم وينفذ تلك الأوامر بالدرجة الثانية.

يتحدث المدعي العام للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية - الذي يعد من الشخصيات العلمية البارزة هناك - عن هذا الموضوع فيقول:

____________________

(1) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج 2|84.

(2) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 1|6.

٣٦٦

(للقانون الأمريكي صلة محدودة بتطبيع الواجبات الأخلاقية. ففي الحقيقة يمكن أن يكون المواطن الأمريكي إنساناً منحطاً وفاسداً من الناحية الخلقية. في نفس الوقت يمكن أن يكون فرداً مطيعاً للقانون. ولكن الحال على عكس ذلك في القوانين الإسلامية التي تنبع من إرادة الله، الإرادة التي كشفت لرسوله محمد ( ص)، هذا القانون وهذه الإرادة الإلهية يعتبران جميع المؤمنين مجتمعاً واحداً حتى لو كانوا من قبائل وعشائر مختلفة وموجودين في بلدان متباعدة ومتفرقة. إن المؤمن ينظر إلى هذا العالم على أنه ممر يوصله إلى عالم أرقى وأفضل وأن القرآن قد نظم القواعد والقوانين وأساليب سلوك الأفراد بالنسبة إلى بعضهم البعض وبالنسبة إلى المجتمع بصورة عامة كي يضمن ذلك التحول السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر) (1) .

العمل المستند إلى الإيمان:

يستند أساس السعادة الإنسانية في الإسلام إلى دعامتين، الأولى: الإيمان، والأخرى: العمل الصالح. ولقد ورد التصريح بهذا الموضوع في القرآن الكريم في موارد عديدة بصورة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ونظائرها. والنكتة التي تجلب الانتباه هنا هي أن الإيمان مقدم على العمل الصالح دائماً، ذلك أن الإسلام يرى أن الأعمال الصالحة يجب أن تستند إلى الاعتقاد الحقيقي، وتنبع من منبع الإيمان وهذا بنفسه هو أجلى صورة للمذهب الإسلامي بهذا الصدد فيما ذكرناه.

إن الأعمال الصالحة التي يكون لها منشأ روحاني وأساس إيماني ثابت في أعماق قلب صاحبها تشبه الشجرة النضرة التي تمتد جذورها في أعماق التربة، وتستمد حيويتها وطراوتها من الغذاء الذي تتناوله عن طريقها.

____________________

(1) مقدمة كتاب ( حقوق دار إسلام) ص ج.

٣٦٧

الرياء والتظاهر:

أما الأعمال الصالحة التي لا تملك أساساً إيماناً ثابتاً، بل يكون منشؤها هو الرياء والتظاهر أمام الناس، أو العادة الاجتماعية... لا تبقى ثابتة أبداً، بل هي معرضة للزوال أمام أبسط عامل مخالف.

إن الإحسان إلى الناس وإعانة الضعفاء من الأعمال الصالحة، فمن يقوم بهذا العم المقدس امتثالاً لأمر الله واحتراماً للإيمان، يعمل في كل مكان، وبلا أي منّة، بل يكون رائده الإخلاص وجلب رضى الله، دون النظر إلى مدح الناس وإطرائهم. أما الذي لا ينبع له إحسانه من رصيد إيماني، بل يكون دافعه إلى ذلك ظروف المحيط، والتظاهر أمام الناس، وانتشار أمره في الصحف والمجلات، فبمجرد أن تنتفي ظواهر الإطراء والمدح وتنقطع المجلات عن الحديث عنه، أو يجهل الناس إحسانه نجد أنه يتقاعس عن الإحسان، أو يتخلى عنه تماماً:

(يقول بعض الملحدين الذين يتميزون بصبغة أخلاقية: لما كانت المشكلة الأساسية هي إطاعة القوانين الأخلاقية، فإننا لو استطعنا تنفيذ هذه القوانين لأصبحنا في غنى عن الدين. هذا التفكير إنما هو علامة الجهل السيكولوجي. ذلك أن الإنسان يشكك دائماً في قيمة القواعد التي لا يعرف منشأها، مضافاً إلى أن سلوكاً كهذا دليل على عدم فهم المشكلة نفسها؛ لأن المقصود أن يتكامل الإنسان في باطنه أولاً كي يستطيع التفكير بصورة أخلاقية، ليس الهدف أن نحث الإنسان على أن يؤدي حركات أخلاقية. فما لم يكن سلوك كل فرد مرآة تعكس تكامله العميق الداخلي، فإن عملياته تعد سلسلة من التحديدات المتصنعة والمؤقتة التي تزول بأبسط مبرر. إن القواعد الأخلاقية إذا فرضت على الإنسان فرضاً فمهما كانت قيمتها العملية عالية، لكنها لا تستطيع أن تكافح الميول الحيوانية بصورة موفقة) (1) .

____________________

(1) سرنوشت بشر ص 216.

٣٦٨

(يرى بعض الكتّاب أنهم أجل من أن يحتاجوا إلى المقرّرات والأنظمة الدينية والأخلاقية، ولا يعتقدون بقيمتها المطلقة. إن سيطرة هؤلاء الأشخاص وانتشار آثارهم يمكن أن تكون هدامة. ولكن الغالبية منهم يغفلون عن هذه الحقيقة. إنهم يسندون أفكارهم إلى كلمات بعض الفلاسفة الكبار التي قرءوها بصورة سطحية أو لم يقرءوها أصلاً، فيرون أن (فولتير) و(داروين) كانا ملحدين والحال أن هذا مخالف للحقيقة.

ولإثبات هذا الادعاء ننقل نصاً لفولتير في موسوعته الفلسفية...).

الإيمان والقيام بالواجب:

إن المؤمنين بالله العظيم، والذين يعمر قلوبهم العشق الإلهي، يسعون في القيام بواجباتهم، والأعمال الصالحة بشوق ونشاط لا يتطرق الملل والكلل إليهما... ولا يتسرب إلى نفوسهم الرياء... إنهم يعملون لله وحده ولا ينتظرون الجزاء إلا من عظمته.

عن أبي عبد الله (ع) في قول الله عَزَّ وجَلَّ: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) . قال: (ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة: خشية الله والنية الصداقة والحسنة).

ما الذي نستنتجه مما مر؟ إن الإنسان الملحد وحش كاسر!

(إن بعض المهندسين الجاهلين للفلسفة ينكرون العلل الغائية، ولكن الفلاسفة الحقيقيين يذعنون لها. وكما يقول كاتب معروف: إن كتاب الدعاء هو الذي يعرف الله للأطفال، بينما يثبت (نيوتن) وجود الله للمثقفين).

(إن الإلحاد هو العيب المهم في عدة قليلة من الأذكياء والخرافة عيب الحمقى) (1) .

____________________

(1) سرنوشت بشر ص 156.

٣٦٩

الإيمان وتعديل الغرائز:

إن من أهم نتائج الإيمان الواقعي بالله، السيطرة على زمام الغرائز الثائرة، وضبط الرغبات اللامشروعة، فعندما يتحطم سد العقل والعلم والوجدان، ويفق مقاومته أمام الضربات القاصمة للغرائز، يثبت الإيمان بالله خشية الله، والنية الصادقة والحسنة. ثم قال:

(الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عَزَّ وجَلَّ) (1) .

في قوته رصيناً وطيد الأركان... ويمنع من إسراف الغرائز، ويحفظ صاحبه من السقوط الحتمي، وقد اعتبر ذلك من علائم المؤمن في الروايات الإسلامية.

عن أبي جعفر (ع) قال: (إنما المؤمن، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم سخطه من قول الحق، والذي إذا قدر لم يخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق) (2) .

لقد أشار هذا الحديث إلى ثلاثة ميول غريزية يعد كل منها مهواة سحيقة للإنسان. فما أكثر الناس الذين يرتكبون جنايات عظيمة استجابة لإحدى الرغبات النفسية. أما الرجال المؤمنون فإنهم يستطيعون في المواقع الحساسة بمساندة القوى المعنوية أن يحفظوا أنفسهم من التلوث والدنس.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) ضمن حديث طويل في بيان علائم المؤمن: (لا يحيف في حكمه ولا يجور في عمله، نفسه أصلب من الصلد، حياؤه يعلو شهوته، ووده يعلو حسده، وعفو يعلو حقده) (3) .

الإيمان والعزم:

يشير الإمام علي (ع) في هذه الجمل بعد الإشارة إلى الروح الصلبة والعزم الحديدي للمؤمنين، إلى أن غريزة الشهوة والحسد والانتقام مكبوتة في

____________________

(1) الكافي للكليني ج 2|16.

(2) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج 15|94.

(3) المصدر السابق ج 15|97.

٣٧٠

نفوس الأشخاص المؤمنين وأن القوة الإيمانية تمنع من إسراف الرغبات المضطربة وهيجانها أكثر من الحد المقرر.

عن أبي عبد الله (ع) قال: (ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على مَن تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة. ورجل قال بالحق في ما له وعليه) (1) .

في هذا الحديث يبين الإمام الصادق (عليه السلام) غلبة الإيمان على الميول النفسانية في ثلاثة أفراد.

وللرسول الأعظم (ص) بيان آخر يتضمن بعض صفات المؤمن فيقول: (... مشمولاً بحفظ الله، مؤيداً بتوفيق الله، لا يحيف على مَن يبغض، ولا يأثم في من يحب، لا يجوز، ولا يعتدي، لا يقبل الباطل من صديقة، ولا يرد الحق على عدوه) (2) .

إن المؤمنين بخالق الكون هم الرجال الأحرار في العالم وليس للميول النفسانية والحقد والبغضاء طريق إلى نفوسهم، أو مكنة في الانحراف بهم عن السلوك الصحيح والطريق المستقيم.

الإيمان والهدوء النفسي:

إن الأثر الثاني للإيماني بالله يظهر في الهدوء النفسي. إن المؤمنين الحقيقيين مضافاً إلى قدرتهم على تعديل غرائزهم وشهواتهم بفضل الإيمان يقدرون على الاحتفاظ بشخصيتهم أمام هجوم الحوادث، وقبال الضربات الشديدة التي توردها المصائب وآلام الحياة عليهم فلا يصابون بأي اضطراب أو قلق تجاهها.

لقد حاصرت الحوادث والمفاجئات الطبيعية في العالم مثل الموت والمرض والزلزال والفيضان، وما شاكل ذلك، البشر من جهة، والإخفاقات وحالات

____________________

(1) وسائل الشيعة للحر العاملي ج 4|38.

(2) بحار الانوار للعلامة المجلسي ج 15|82.

٣٧١

الفشل والانهيار في الحياة من جهة أخرى... بحيث تلاقي جميع الطبقات الاجتماعية الأمرين من تلك المصائب والويلات.

وكما تخطو البشرية في مجالات المدنية، وتزداد مباهج الحياة يوماً بعد يوم وتفتح العلوم الطبيعية أبواباً جديدة للذة على العالم كلما تتعقد المشاكل الاجتماعية وتتحرك حوافز الحرص والجشع وتثور دوافع حب المال والجاه ويطول الأمل، ويشتد السعي وراء اللذة، وتكثر الرغبات النفسانية. ومن الطبيعي في حاله كهذه، أن تزداد الإخفاقات والانهيارات الروحية ويسود القلق والاضطراب على العام:

مرض القلق:

لقد أدى القلق والاضطراب النفسي إلى تحويل ثلة كبيرة من المتمدنين المعاصرين في العالم إلى مرضى، وهذا المرض المؤلم قد سلب راحة المصابين به من الرجال والنساء.

فنجد البعض منهم يستعينون للحصول على نوم بضع ساعات والاستراحة بأقراص مخدرة ومنومة. أما في اليقظة فصراع دائب مع الآلام الباطنية والقلق المستمر!

والبعض الآخر يلجئون لنسيان أنفسهم لبعض الوقت، والتخلص من شر القلق الداخلي إلى استعمال المشروبات الروحية والحشيشة، وبعملهم هذا يهدمون صرح سعادتهم وسلامتهم.

أما القسم الآخر فإنهم قد فقدوا القدرة على المقاومة بالتدريج على أثر الضغط الروحي المتواصل والقلق المستمر إلى حيث الإصابة بالأمراض النفسية أو الجنون، وقضاء ما تبقى من العمر في مستشفيات المجانين بأسوأ حال وأشنع صورة!

وهناك طائفة تأزمت حالتها تجاه المضايقات الروحية المستمرة إلى درجة أنها أفلتت عنان الاختيار من يدها، وأقدمت على الانتحار هرباً من القلق والألم، وبهذا الوضع المزري ينهون تلك السلسلة من الاضطرابات.

٣٧٢

لقد اهتم قسم كبير من علماء النفس في الآونة الأخيرة بمعالجة مرض القلق الهدام، وألفوا في ذلك الكتب المختلفة، وتوصلوا إلى معالجة المصابين به عن طريق الإيحاء، والتحليل النفسي، وحل العقد النفسية... إن ما لا شك فيه أنهم تحملوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل وتوصلوا إلى نتائج مفيدة... ولكن تلك النتائج ضئيلة، ولا يزال يتضاعف عدد المصابين بالأمراض النفسية يوماً بعد يوم.

إن الغارق في بحر القلق والاضطراب الشديد لا يجد من نفسه حافزاً لقراءة الكتب العلمية النفسية، ولا يملك القدرة على فهم تلك القواعد المجردة، كي يستطيع تنفيذ تلك الوصايا، وتخليص نفسه من القلق والاضطراب.

الإيمان وعلاج القلق:

هنا يظهر دور الإيمان الكبير في علاج مرض القلق. فإن المؤمنين يستدون إلى الله تعالى في مد الحياة وجزرها، ويستعينون بألطافه وعناياته باستمرار، ولذلك فهم يملكون أرواحاً قوية، ونفوساً تتحدى التحطيم، ولا يفشلون أمام تقلبات الحياة.

( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) . إن المؤمن لا يشعر بالصغار والذلة أبداً لأنه يجد أنه يستند إلى أعظم قوة في الوجود، ذلك هو الله تعالى: ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (2) .

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى: ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) قوله (ع): (هي الإيمان بالله وحده لا شريك له) (3) .

كما أن حديثاً آخر يستند هذا الموضوع، ذلك أن الراوي يقول: سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله عَزَّ وجَلَّ: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ

____________________

(1) سورة الأحقاف |13.

(2) سورة الرعد |28.

(3) الكافي ج 2|14.

٣٧٣

الْمُؤْمِنِينَ ) قال: (هو الإيمان). قال: قلت ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ؟ قال: (هو الإيمان). وعن قوله: ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ) ؟ قال: (هو الإيمان) (1) .

لقد ورد التعبير عن الهدوء النفسي، والارتياح الباطني عند المؤمنين في القرآن الكريم بعبارات مختلفة، ولقد قام النبي (ص) والأئمة (ص) والأئمة (ع) بتفسير ذلك كله بالإيمان... فالإيمان هو القوة الرصينة والقدرة التي لا تزلزل والتي إذا حلت في كل قلب، لم يصب ذلك القلب بقلق أصلاً، بل يستطيع أن يثبت في أحرج المواقف.

(يقول ويليام جيمس أبو علم النفس الحديث وأستاذ الفلسفة في جامعة (هارفرد): إن أشد العقاقير تأثيراً في رفع القلق هو الإيمان بالله والاعتقاد الديني) (2) ، (إن الإيمان هو أحد القوى البشرية التي يحيا الإنسان بمددها، وإن فقدانها الكامل يعني سقوط الإنسانية) (3) .

تشكل القيمة المعنوية للإيمان، وآثاره العجيبة في قلوب المؤمنين، فصلاً مستقلاً من فصول علم النفس الحديث في العالم، ذلك أن كثيراً من الأطباء النفسانيين يستفيدون من قوة الإيمان في حل أعقد العقد النفسية عند المصابين!

الإلحاد والقلق:

يعترف العلماء المعاصرون بأن قسماً مهماً من الاضطرابات الباطنية والأمراض النفسية والانتحارات منشؤها فقدان الإيمان. (في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ معدل الانتحار: عملية انتحار واحدة كل (35) دقيقة، ويصاب في كل دقيقتين شخص بالجنون. وإذا كان لهؤلاء نصيب من الهدوء

____________________

(1) الكافي ج 2|15.

(2) دع القلق وابدأ الحياة ص 159.

(3) نفس المصدر 155.

٣٧٤

والاطمئنان اللذين يبعثهما الدين والعبادة للإنسان، كان من الممكن أن يمنع ذلك من حدوث أكثر هذه الانتحارات والإصابات بالجنون).

(يقول الدكتور (كارل جونك) أشهر الأطباء النفسانيين في أحد كتبه: لقد راجعني في طي الثلاثين عاماً الأخيرة أناس من جميع الدول المتمدنة في العالم. وقد عالجت مئات المرضى، ولم يوجد بين جميع هؤلاء المرضى الذين كانوا يقضون النصف الثاني من حياتهم، أي الذين تزيد أعمارهم على الخمس والثلاثين سنة، لم يوجد بينهم واحد لم ترتبط مشكلته بوجدان عقيدة دينية في الحياة في نهاية الأمر. ولذا أستطيع القول بكل تأكيد: إن كلاً منهم كان قد تمرّض لفقدانه ما تهبه الأديان الحية في كل عصر لأتباعها، وإن الذين لم يسترجعوا عقائدهم الدينية لم يوفّقوا للعلاج أصلاً) (1) .

إيمان الأنبياء:

إن أجلى مثال للإيمان وآثاره العجيبة يمكن مشاهدته في تاريخ الأنبياء. إنهم قاموا في ظروف شديدة ومعقدة جداً، مليئة بالأخطار والمشاكل، وكانوا يتعرّضون للموت في كل لحظة، ولكنهم استمروا على بث دعوتهم بلا أي اضطراب أو قلق؛ ذلك أنهم كانوا مؤمنين بالله وكانوا يرون أنفسهم في حماه وتحت كنفه.

ولقد تعلم اتباع الأنبياء دروس الهدوء النفسي من قادتهم فراحوا في ظل إيمانهم بالله أقوياء إلى درجة أنهم لم يتزعزعوا أمام الحوادث والمصائب التي يلاقونها، فلا يقعون فريسة القلق والاضطراب... كان نظرهم متجهاً في الحرب والسلم، في الفقر والغنى، في الموت والمرض... وفي كل الحالات، إلى الله تعالى، متطلّعين إلى رحمته وكرمه.

وعلى سبيل المثال نذكر قصة هذه المرأة المسلمة:

____________________

(1) دع القلق وابدأ الحياة ص 154.

٣٧٥

(خرجت مع صديق لي بالبادية فاضللنا الطريق، فإذا رأينا في يمين الطريق خيمة فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ردت علينا السلام، فقالت: من أنتم؟ قلنا: ضالين قصدناكم لنأنس بكم. فقالت: أديروا وجوهكم حتى أعمل من حقكم شيئاً، ففعلنا، فقالت: أجلسوا حتى يجيء ابني، وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر. فرفعتها مرة، فقالت: أسأل الله بركة المقبل. وقالت: أما الناقة فناقة ابني، وأما الراكب فليس هو. فلما ورد الراكب عليها قال: يا أم عقيل عظم الله أجرك بسبب عقيل، قالت: ويحك مات عقيل؟ قال: نعم. قالت: بما مات؟ قال: ازدحمته الناقة وألقته في البئر. فقالت له: أنزل وخذ زمام القوم. فقربت إليه كبشاً فذبحه وصنعت لنا طعاماً، فشرعنا في أكل الطعام ونتعجّب من صبرها. فلما فرغنا خرجتْ إلينا وقالت: أيها القوم أفيكم من يحسن في كتاب الله شيئاً؟ قلت: بلى! قالت: اقرأ عليّ آيات أتسلى بها من موت الولد. قلتُ: الله عَزَّ وجَلَّ يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ... *... الْمُهْتَدُونَ ) ، قالت: الله! هذه الآية في كتاب الله هكذا؟ قلت: أي والله، إن هذه الآية في كتاب الله هكذا، فقالت: السلام عليكم فقامت وصلت ركعات، ثم قالت: اللَّهُم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني به) (1) .

أي قوة غير الإيمان بالله قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثكلى بهذه السرعة والسلامة؟! أي قدرة غير الاعتقاد الديني تستطيع إطفاء لهب الحزن والويل من روح أم أصيبت بموت ولدها الشاب، بهذه الفورية؟!

إحياء الفطرة الأولى:

نعود فنلخّص ما ذكرناه فيما سبق، وهو أن الإيمان بالله إحياء لأولى القوى الفطرية عند الإنسان... إن الإيمان بالله كفيل بتنفيذ أوامر الوجدان الأخلاقي... وهو أعظم ملجأ للإنسان، وأكبر عامل للهدوء النفسي

____________________

(1) لئالي الأخبار ص 305 الطبعة الحديثة.

٣٧٦

واطمئنان الخاطر... وبصورة موجزة، فهو أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي اهتم بها الأنبياء في دعوتهم.

إن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو الله تعالى، ويلقنه درس الإيمان به بلسان ساذج بسيط. إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة الله الواسعة اتباعاً لمنهج القرآن الكريم، ويبذر في نفسه بذور الأمل، ويفهمه أن اليأس من روح الله ذنب عظيم.

يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان، فالله قادر على حل مشاكله وتيسير أموره. فإن رفعنا يد الحاجة نحوه، ساعدنا على مهمتنا.

على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الإنسانية هو جلب رضى الله، وإن رضى الله يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلينا، عن طريق نبيه العظيم، إن الصدق والأمانة يسبّبان رضى الله، والخيانة تسبّب غضبه.

يجب على المربي أن يوقظ الإحساس بالمسئولية أمام الله في الطفل منذ الطفولة، ويحثه على الشعور بواجبه، وإشعاره بالأسلوب البسيط: أن الله يراقبك في كل حال، ويطلع على أفعالك الصالحة والطالحة، ولا يخفى شيء على الله... إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك.

إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الإيمانية عند الطفل، ويربونه مؤمناً منذ الصغر، فإنهم يصبون ركائز سعادته بذلك من جهة، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أخرى.

٣٧٧

٣٧٨

المحاضرة الخامسة عشرة:

التربية في ظل العدل والحرية

قال الله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (1) .

حب الكمال:

من الأمور الفطرية عند الإنسان، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل: غريزة التفوق، وحب الكمال. إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل إنسان، وعلى المربي القدير أن يستغل هذه الثروة النفسية، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس، فيسوق الطفل إلى طريق الترقّي والتعالي.

لقد ورد بهذا الصدد حديث عن الإمام الحسن (ع): أنه دعا بنيه وبني أخيه، فقال: (إنكم صغار قوم، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلّموا العلم... فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته) (2) .

وفي هذا الحديث نجد أن الإمام الحسن (عليه السلام)، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على اكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك يستفيد من حب الذات والترقي عندهم - وهو أمر فطري - من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة، ويفهمهم أن تحصيل العلم في اليوم، سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد.

____________________

(1) سورة آل عمران |159.

(2) بحار الأنوار ج 1|110.

٣٧٩

إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التعليم والتربية في العصر الحديث، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبناءها على تحصيل العلوم بهذا الأسلوب، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فإن الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي فيما بعد، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعقيب.

التكامل في ظل الحرية:

والنكتة الجديرة بالملاحظة هي أن الإرضاء الصحيح لغريزة حب التفوق والوصول إلى الكمال الحقيقي يمكن أن يتحقق في ظل الحرية والعوامل المساعدة فقط، وبدونها لا يكون نيل الكمال الواقعي ميسراً وبعبارة أوضح: إن الإنسان يستطيع السعي وراء الكمال وإرضاء الميول الباطنية بالنسبة إلى بلوغ طريق التعالي في الصورة التي يكون طريق التقدم مفتوحاً أمامه، ولا تعتاقه العوارض والموانع، فما أكثر الثروات النفسية التي ظلت عاطلة وفاقدة للأثر، لعدم حصولها على العوامل المساعدة، وما أكثر الأشخاص الذين يصطدمون في طريق إحياء استعداداتهم الفطرية بالموانع الطبيعية أو الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية ويقفون عندها محرومين من السير في مدارج الكمال والرقي!

إن زهرة صغيرة إذا لاقت عوامل مساعدة وجواً طليقاً وغذاء كافياً، تتفتح أكمامها ويفوح عطرها... وكذلك تكون الاستعدادات الداخلية عند الإنسان فإنها تزدهر وتنمو في الظروف المساعدة، وتعود عليه بالفوائد العديدة.

إن من أهم شروط التعالي والتكامل للأطفال والكبار هو كون الجو الذي يعيشون فيه حراً، ذلك أنه عندما يكفهر وجه المجتمع بالظلم والتجاوز ويسود الاستبداد والضغط الشديد... وحين يحل اليأس محل الأمل، والظلم محل العدل، والاستهتار والفوضى بدل القانون، والخوف بدل الهدوء... فمن المحتم أن ينقطع السبيل إلى التكامل في ذلك المجتمع.

والذين يعيشون في أمثال هذه المجتمعات لا يقدرون على إخراج استعداداتهم الخفية وذخائرهم المعنوية من مرحلة القوة إلى حيز الوجود

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608