الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 608

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260146 / تحميل: 6427
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٦

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) )

التّفسير

شرك أهل الكتاب :

كان الكلام في الآيات المتقدمة بعد الحديث عن المشركين وإلغاء عهودهم وضرورة إزالة دينهم ومعتقداتهم الوثنية يشير بعد ذلك إلى أهل الكتاب وقد حدد الإسلام لهم شروطا ليعيشوا بسلام مع المسلمين ، فإنّ لم يفوا بها كان على المسلمين أن يقاتلوهم.

وفي الآيات محل البحث بيان لوجه الشبه بين أهل الكتاب والمشركين ، ولا

٥

سيما اليهود والنصارى منهم ، ليتّضح أنّه لو كان بعض التشدد في معاملتهم ، فإنّما هو لانحرافهم عن التوحيد ، وميلهم إلى نوع من الشرك في العقيدة ، ونوع من الشرك في العبادة.

فتقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ من هو عزير؟!

«عزير» في لغة العرب هو «عزرا» في لغة اليهود ، ولمّا كانت العرب تغيّر في بعض الكلمات التي تردها من لغات أجنبية وتجري على لسانها ، وذلك كما هي الحال في إظهار المحبّة خاصّة فتصغر الكلمة ، فصغرت عزرا إلى عزير ، كما بدلت كلمة يسوع العبرية إلى عيسى في العربية ، ويوحنا إلى يحيى.(١)

وعلى كان حال ، فإن عزيرا ـ أو عزرا ـ له مكانة خاصّة في تاريخ اليهود ، حتى أن بعضهم زعم أنّه واضع حجر الأساس لأمّة اليهود باني مجدهم وفي الواقع فإنّ له خدمة كبرى لدينهم ، لأنّ بخت نصر ملك بابل دمر اليهود تدميرا في واقعته المشهورة ، وجعل مدنهم ، تحت سيطرة جنوده فأبادوها ، وهدموا معابدهم ، وأحرقوا توراتهم ، وقتلوا رجالهم ، وسبوا نساءهم ، وأسروا أطفالهم ، وجيء بهم إلى بابل فمكثوا هناك حوالي قرن.

ولما فتح كورش ملك فارس بابل جاءه عزرا ، وكان من أكابر اليهود ، فاستشفعه

__________________

(١) المراد من التصغير عادة هو بيان كون الشيء صغيرا في قبال شيء آخر كبير ، مثل رجيل المصغر عن رجل ، لكن للتصغير أغراضا بلاغية منها إظهار المحبّة وغيرها ، كما في اظهار الرجل محبته لولده فيصغّر اسمه.

٦

في اليهود فشفّعه فيهم ، فرجعوا إلى ديارهم وكتب لهم التّوراة ـ ممّا بقي في ذهنه من أسلافه اليهود وما كانوا قد حدّثوا به ـ من جديد.

ولذلك فهم يحترمونه أيما احترام ، ويعدّونه منقذهم ومحيي شريعتهم.(١)

وكان هذا الأمر سببا أن تلقبه جماعة منهم بـ «ابن الله» غير أنّه يستفاد من بعض الرّوايات ـ كما في الإحتجاج للطبرسي ـ أنّهم أطلقوا هذا اللقب احتراما له لا على نحو الحقيقة.

ولكنّنا نقرأ في الرّواية ذاتها أنّ النّبي سألهم بما مؤدّاه (إذا كنتم تجلّون عزيرا وتكرمونه لخدماته العظمى وتطلقون عليه هذا الاسم ، فعلام لا تسمّون موسى وهو أعظم عندكم من عزير بهذا الاسم؟ فلم يجدوا للمسألة جوابا وأطرقوا برؤوسهم)(٢) .

ومهما يكن من أمر فهذه التسمية كانت أكبر من موضوع الإجلال والاحترام في أذهان جماعة منهم ، وما هو مألوف عند العامّة أنّهم يحملون هذا المفهوم على حقيقته ، ويزعمون أنّه ابن الله حقّا ، لأنّه خلصهم من الدمار والضياع ورفع رؤوسهم بكتابة التوراة من جديد.

وبالطبع فهذا الإعتقاد لم يكن سائدا عند جميع اليهود ، إلّا أنّه يستفاد أنّ هذا التصّور أو الإعتقاد كان سائدا عند جماعة منهم ، ولا سيما في عصر النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والدليل على ذلك أنّ أحدا من كتب التاريخ ، لم يذكر بأنّهم عند ما سمعوا الآية آنفة الذكر احتجوا على النّبي أو أنكروا هذا القول «ولو كان لبان».

وممّا قلناه يمكن الإجابة على السؤال التّالي : أنّه ليس بين اليهود في عصرنا الحاضر من يدعي أنّ عزيرا ابن الله ولا من يعتقد بهذا الإعتقاد ، فعلام نسب القرآن هذا القول إليهم؟!

__________________

(١) يراجع في هذا الشأن الميزان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣ ، والمنار ، ج ١٠ ، ص ٣٢٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ٦ ، ص ٢٠٥ ، حديث طويل نقلنا خلاصته معنا لا نصا ، وإذا أردتم المزيد راجعوا المصدر المذكور.

٧

وتوضيح ذلك ، أنّه لا يلزم أن يكون لجميع اليهود مثل هذا الإعتقاد ، إذ يكفي هذا القدر المسلم به ، وهو أنّه في عصر نزول الآيات على النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في اليهود من يعتقد بهذا الإعتقاد ، والدليل على ذلك كما نوّهنا ، هو أنّه لم ينكر أيّ منهم ذلك على النّبي والشيء الوحيد الذي صدر منهم ـ وفقا لبعض الرّوايات ـ أنّهم قالوا : إنّ هذا اللقب «ابن الله» إنّما هو لاحترام عزير ، وقد عجزوا عن جواب لمّا سألهم وأشكل عليهم : لم لا تجعلون هذا اللقب إذا لنبيّكم موسىعليه‌السلام ؟!

وعلى كل حال فمتى ما نسب قول أو اعتقاد إلى قوم ما ، فلا يلزم أن يكون الجميع قد اتفّقوا على ذلك ، بل يكفي أن يكون فيهم جماعة ملحوظة تذهب إلى ذلك.

٢ ـ لم يكن المسيح ابن الله

لا ريب أن المسيحيين يعتقدون أن عيسى هو الابن الحقيقي لله ، ولا يطلقون هذا الاسم إكراما وتشريفا له ، بل على نحو المعنى الواقعي له ، وهم يصرّحون في كتبهم أن إطلاق هذا الاسم على غير المسيح بالمعنى الواقعي غير جائز ، ولا شك أنّ هذا من بدع النصارى ، والمسيح لم يدّع مثل هذا الادعاء أبدا ، وإنّما كان يقول : بأنّه عبدّ لله ، ولا معنى أساسا لأن ننسب علاقة الأبوة والبنوة الخاصّة بعالم المادة وعالم الممكنات بين الله وعباده أبدا.

٣ ـ اقتباس هذه الخرافات

يقول القرآن المجيد في الآية محل البحث : أنّهم ـ أي اليهود والنصارى ـ يضاهئون ـ أي يشبهون بانحرافاتهم ـ الذين كفروا والمشركين.

وهذا التعبير يشير إلى أنّهم مقلّدون إذ كانوا يعتقدون بأنّ بعض الآلهة هو إله الأب ، وبعضها إله الابن ، وحتى أنّ بعضهم كان يعتقد بأنّ هناك إله الأم ، وإله الزوج ،

٨

وقد لوحظت مثل هذه الأفكار في جذور عقائد المشركين في الهند أو الصين أو مصر القديمة ثمّ تسرّبت إلى اليهود والنصارى.

وفي العصر الحاضر خطر عند بعض المحقّقين أن يوازن ويقارن بين ما في العهدين «التوراة والإنجيل وما يرتبط بهما» وبين عقائد البوذيين والبرهمائيين ، فاستنتجوا أن كثيرا من معارف الإنجيل والتوراة تتطابق مع خرافات البوذيين والبرهمائيين تطابقا ملحوظا ، حتى أنّ بعض الحكايات والقصص الموجودة في الإنجيل هي الحكايات والقصص ذاتها الموجودة في الديانة البوذائية والبرهمائية.

وإذا كان المفكرون توصّلوا اليوم إلى مثل هذه الحقيقة ، فإنّ القرآن أشار إليها قبل أربعة عشر قرنا في الآية محل البحث.

٤ ـ ما هو معنى( قاتَلَهُمُ اللهُ )

جملة وإن كان معناها في الأصل أنّ الله مقاتل إيّاهم وما إلى ذلك ، لكن كما يقول الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن ابن عباس ، إن هذه الجملة كناية عن اللعنة أي أنّ الله أبعدهم عن رحمته ، فهو دعاء عليهم.

وفي الآية التالية إشارة إلى شركهم العملي في قبال الشرك الاعتقادي ، أو بعبارة أخرى إشارة إلى شركهم في العبادة ، إذ تقول الآية :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) .

«الأحبار» جمع حبر ، ومعناه العالم ، و «الرهبان» جمع راهب وتطلق على من ترك دنياه وسكن الدير وأكبّ على العبادة.

وممّا لا شك فيه أنّ اليهود والنصارى لم يسجدوا لأحبارهم ورهبانهم ، ولم يصلوا ولم يصوموا لهم ، ولم يعبدوهم أبدا ، لكن لما كانوا منقادين لهم بالطاعة دون قيد أو شرط ، بحيث كانوا يعتقدون بوجوب تنفيذ حتى الأحكام المخالفة لحكم

٩

الله من قبلهم ، فالقرآن عبّر عن هذا التقليد الأعمى بالعبادة.

وهذا المعنى وارد في رواية عن الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إذا قالا : «أمّا والله ما صاموا لهم ولا صلّوا ، ولكنّهم أحلّوا لهم حراما وحرّموا عليهم حلالا ، فاتبعوهم وعبدوهم من حيث لا يشعرون».(١)

وفي حديث آخر ، أنّ عديّ بن حاتم قال : وفدت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان في رقبتي صليب من الذّهب ، فقال ليصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عدي ألق هذا الصنم عن رقبتك ، ففعلت ذلك ، ثمّ دنوت منه فسمعته يتلو الآية( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) فلمّا أتم الآية قلت له : نحن لا نتّخذ أئمتنا أربابا أبدا ، فقال : «ألم يحرموا حلال الله ويحلّوا حرامه فتتبعوهم؟ فقلت : بلى ، فقال : فهذه عبادتهم».(٢)

والدليل على هذا الموضوع واضح ، لأنّ التقنين خاص بالله ، وليس لأحد سواه أن يحل أو يحرم للناس ، أو يجعل قانونا ، والشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يفعله هو اكتشاف قوانين الله وتطبيقها على مصاديقها.

فبناء على ذلك لو أقدم أحد على وضع قانون يخالف قانون الله ، وقبله إنسان آخر دون قيد أو اعتراض او استفسار فقد عبد غير الله ، وهذا بنفسه نوع من أنواع الشرك العملي ، وبتعبير آخر : هو عبادة غير الله.

ويظهر من القرائن أنّ اليهود والنصارى يرون مثل هذا الإختيار لزعمائهم ، بحيث لهم أن يغيّروا ما يرونه صالحا بحسب نظرهم ، وما يزال بعض المسيحيين يطلب العفو من القسيس فيقول له القسّ ، عفوت عنك! وكان ـ منذ زمن ـ موضوع صكوك الغفران رائجا.

وهناك لطيفة أخرى ينبغي الالتفات إليها ، وهي أنّه لما كانت عبادة المسيحيين لرهبانهم تختلف عن عبادة اليهود لأحبارهم ، فالمسيحيون يرون المسيح ابن الله

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية ونور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢٠٩.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية.

١٠

واقعا واليهود يطيعون أحبارهم دون قيد أو شرط ، لذا فإنّ الآية أشارت إلى عبادة كل منهما، فقالت :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ثمّ فصلت المسيح على حدة فقالت :( وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) .

وهذا التعبير يدلّ على منتهى الدقة في القرآن.

وفي ختام الآية تأكيد على هذه المسألة ، وهي أن جميع هذه العبادات للبشر بدعة ، وهي من العبادات الموضوعة( وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

درس تعليمي :

إنّ القرآن المجيد يعلّم أتباعه في الآية ـ محل البحث ـ درسا قيّما جدّا ، ويبيّن واحدا من أبرز مفاهيم التوحيد فيها ، إذ يقول : لا يحقّ لأيّ مسلم طاعة إنسان آخر دون قيد أو شرط ، لأنّ هذا الأمر مساو لعبادته ، وجميع الطاعات يحب أن تكون في إطار طاعة الله ، وإنّما يصح اتباع الإنسان نظيره متى كانت قوانينه غير مخالفة لقوانين الله ، أيّا كان ذلك الإنسان وفي أية مكانة أو منزلة. لأنّ الطاعة بلا قيد أو شرط مساوية للعبادة ، أو هي شكل من أشكال الشرك والعبودية ، إلّا أنّه يا للأسف ـ بلي المسلمون ـ لبعد المسافة الزمنية ـ بالابتعاد عن تعاليم هذا الدستور الإسلامي المهم ، وإقامه الأصنام البشرية ، فتفرقوا وتغلب عليهم المستعمرون والمستثمرون ، وإذا لم تتكسر هذه الأصنام البشرية فلا ينبغي أن ننتظر زوال هذه البلايا وسدّ الثغرات.

وأساسا فإنّ هذا النوع من الشرك أو العبادة الوثنية أخطر بكثير من عبادة الأصنام والأحجار في زمان الجاهلية ، والسجود لها ، لأنّ تلك الأصنام والأحجار ليس فيها روح حتى تستعمر عبدتها ، إلّا أنّ الأصنام البشرية وبسبب غرورهم وعدوانهم يجرّون أتباعهم إلى الوبال والذلة والشقاء والانحطاط.

١١

وفي الآية الثّالثة من الآيات محل البحث تشبيه طريف لسعي اليهود والنصارى ، أو سعي جميع مخالفي الإسلام حتى المشركين ، وجدّهم واجتهادهم المستمر «العقيم» الذي لا يعود عليهم بالنفع أبدا ، إذ تقول الآية :( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ شبّه الدين ـ دين الله ـ في هذه الآية وفي القرآن وتعاليم الإسلام بالنور ، ونحن نعرف أن النّور أساس الحياة والحركة والنمو والعمران على الأرض ومنشأ كل جمال.

والإسلام دين يحرّك كل مجتمع إنساني نحو التكامل ، وهو أساس كل خير وبركة.

كما شبّه اجتهاد الكافر بالنفخ بالأفواه وكم هو مثير للضحك أن يحاول الإنسان إطفاء نور عظيم كنور الشمس

بنفخة؟ ولا تعبير أبلغ من تعبير القرآن لتجسيد هذه المحاولات اليائسة ، وفي الواقع فإنّ محاولات مخلوق ضعيف إزاء قدرة الله التي لا نهاية لها ، لا تكون أحسن حالا ممّا ذكرته الآية.

٢ ـ ورد موضوع محاولة إطفاء نور الله في القرآن في موردين : أحدهما في الآية محل البحث ، والآخر في الآية (٨) من سورة الصف ، وفي الآيتين انتقاد للكفار ومحاولات أعداء الله اليائسة ، إلّا أن بين تعبيري الآيتين تفاوتا يسيرا ، إذ جاء التعبير في الآية محل البحث( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا ) إلّا أن الآية (٨) من سورة الصف جاء فيها التعبير( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا ) .

وممّا لا شك فيه أن هذا التفاوت أو الاختلاف اليسير في التعبير القرآني لغاية بلاغية.

١٢

يقول الراغب في مفرداته موضحا الفرق بين( أَنْ يُطْفِؤُا ) و( لِيُطْفِؤُا ) : إنّ الآية الأولى تشير إلى محاولة إطفاء نور الله بدون مقدمات ، أمّا الآية الأخرى فتشير إلى محاولة إطفائه بالتوسل بالأسباب والمقدمات ، فالقرآن يريد أن يقول : سواء توسّلوا بالأسباب أم لم يتوسلوا فلن يفلحوا أبدا ، وعاقبتهم الهزيمة والخسران.

٣ ـ كلمة «يأبى» مأخوذة من الإباء ، ومعناه شدة الامتناع وعدم المطاوعة ، وهذا التعبير يثبت إرادة الله ومشيئته الحتمية لإكمال دينه وازدهاره كما أنّ التعبير مدعاة لاطمئنان جميع المسلمين ، إن كانوا مسلمين حقّا! أنّ مستقبل دينهم لا بأس عليه ، بل هو مؤيد بأمر الله.

المستقبل للإسلام :

الآية الأخيرة من الآيات ـ محل البحث ـ في نهاية المطاف تزف البشرى للمسلمين باستيعاب الإسلام العالم بأسره ، وتكمل ما أشارت إليه ـ آنفا ـ أن أعداء الإسلام لن يفلحوا في محاولاتهم ومناوآتهم بوجه الإسلام أبدا ، وتقول بصراحة :( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) والمقصود من الهدى هو الدلائل الواضحة ، والبراهين اللائحة الجليّة التي وجدت في الدين الإسلامي.

وأمّا المراد من دين الحق ، فهو هذا الدين الذي أصوله حقّة وفروعه حقّة أيضا ، وكل ما فيه من تاريخ وبراهين ونتائج حق ، ولا شك أن الدين الذي محتواه حق ، ودلائله وبراهينه حقّة ، وتأريخه حق جلي ، لا بدّ أن يظهر على جميع الأديان.

وبمرور الزمان وتقدم العلم وسهولة الارتباطات ، فإن الواقع سيكشف وجهه ويطلعه من وراء سدل الإعلام المضللة ، وستزول كل العقبات والموانع والسدود

١٣

التي وضعت في طريق انتشار الإسلام.

وهكذا فإنّ دين الحق سيستوعب كل مكان ، ولا يحول بينه وبين تقدمه شيء أبدا ، لأنّ الحركات المضادة للإسلام حركات مخالفة لسير التأريخ وسنن الخلق.

* * *

بحوث

١ ـ المراد «الهدى ودين الحقّ»

هذا التعبير الوارد في الآية محل البحث :( أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ ) بمثابة الدليل على انتصار الإسلام وظهوره على جميع الأديان ، لأنّه لمّا كان محتوى دعوة النّبي الهداية ، والعقل يدل على ذلك في كل موطن ، ولما كانت أصوله وفروعه موافقة للحق ، ومع الحق ، وتسير في مسير الحق ، ولأجل الحق. فهذا الدين سينتصر على جميع الأديان طبعا.

وقد جاء عن أحد علماء الهند أنّه سبر فكره في مطالعة مختلف الأديان فترة من الزمن، وانتهى أمره إلى اختيار الدين الإسلامي من بين جميع أديان العالم ، ثمّ نشر كتابا بالإنجليزية اسمه «لم أسلمت؟» وبيّن فيه مزايا الدين الإسلامي على غيره من الأديان.

ومن أهم المسائل التي أثارت انتباهه ـ كما يقول ـ أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي له تأريخ ثابت محفوظ ويتعجّب كيف اختارت أوربا لها دينا ترى إنّ من جاء به أجلّ من الإنسان وتعدّه ربّها ، مع أن هذا الدين ليس له تاريخ دقيق.(١)

إنّ مطالعة آراء الذين اعتنقوا الإسلام دينا جديدا وعزفوا عن دينهم السابق ، تكشف أنّهم كانوا في منتهى البساطة والغفلة والتضليل ، بينما دلتّهم أصول الإسلام

__________________

(١) المنار ، ج ١٠ ، ص ٣٨٩.

١٤

وفروعه ذات الأدلّة المحكمة إلى الدين الإلهي البعيد عن الخرافات كلّها ، والذي يتجلى فيه نور الحق والهداية.

٢ ـ انتصار المنطق أم انتصر القوّة؟

هناك كلام بين المفسّرين في كيفية ظهور الدين الإسلامي على سائر الأديان ، وهذا الظهور أو الإنتصار في أيّ شكل هو؟

قال بعض المفسّرين : هذا الإنتصار انتصار منطقي استدلالي فحسب ، ويقولون بأن هذا الموضوع حاصل فعلا ، لأنّ الإسلام من حيث منطقه ودلائله لا يقاس به دين آخر.

غير أنّ التحقيق في موارد استعمال مادة «الإظهار» في قوله تعالى :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) يكشف أنّ هذه المادة غالبا ما تستعمل في القدرة الظاهرية والغلبة المادية ، كما جاء في قصّة أصحاب الكهف :( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) (١) وكما نقرأ في شأن المشركين( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ) (٢) .

فمن البديهي أنّ الغلبة في مثل هذه الموارد ليست غلبة منطقية ، بل هي غلبة عينية وفعلية ، وعلى كل حال فمن الأفضل والأكثر صحة أن نعتقد بأنّ هذا الظهور والغلب ظهور مطلق ـ من جميع الجوانب ـ لأنّه ينسجم ومفهوم الآية التي هي مطلقة من جميع الجهات أيضا ، فيكون المعنى أنّه سيأتي يوم ينتصر فيه الإسلام انتصارا منطقيا وانتصارا ظاهريا ، في امتداد سيطرته ونفوذه المطلق ، وحكومته العامّة على جميع الأديان ، وسيجعل جميع الأديان تحت شعاعه.

__________________

(١) الكهف ، ٢٠.

(٢) التوبة ، ٨.

١٥

٣ ـ القرآن وظهور المهدي

إنّ الآية ـ محل البحث ـ عينها وبالألفاظ ذاتها ، وردت في سورة الصف ، كما وردت في أخريات سورة الفتح باختلاف يسير.

والآية تخبر عن حدث مهمّ كبير استدعت أهميته هذه أن تتكرر الآية في القرآن ، وهذا الحدث الذي أخبرت عنه الآية هو استيعاب الإسلام للعالم بأسره.

وبالرغم من أن بعض المفسّرين فسر الإنتصار ـ في الآية محل البحث ـ انتصارا في منطقة معينة ومحدودة ، وقد حدث ذلك فعلا في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ما بعده من العصور للإسلام والمسلمين ، إلّا أنّه مع ملاحظة أن الآية مطلقة لا قيد فيها لا شرط ، فلا دليل على تحديد المعنى ، فمفهوم الآية انتصار الإسلام كليّا ـ ومن جميع الجهات ـ على جميع الأديان ، ومعنى هذا الكلام أنّ الإسلام سيهيمن على الكرة الأرضية عامّة ، وسينتصر على جميع العالم.

ولا شك أن هذا الأمر لم يتحقّق في الوقت الحاضر ، لكنّنا ندري أن هذا وعد من قبل الله حتمي وأنّه سيتحقق تدريجا ، فسرعة انتشار الإسلام وتقدمه في العالم ، والاعتراف الرسمي به من قبل الدول الأوروبية المختلفة ونفوذه السريع في أفريقيا وأمريكا ، وإعلان كثير من العلماء والمفكرين اعتناقهم الإسلام ، كل ذلك يشير إلى أنّ الإسلام أخذ باستيعاب العالم.

إلّا أنّه طبقا للرّوايات المختلفة الواردة في المصادر الإسلامية ، فإنّ هذا الموضوع إنّما يتحقق عند ظهور المهديعليه‌السلام فيجعل الإسلام عالميا.

ينقل العلامة الشيخ الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) الآية محل البحث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي ، فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

كما ورد في التّفسير ذاته عن النّبىّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا بر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام».

١٦

كما أن الشيخ الصدوق رضوان الله عليه روى عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية ـ في كتابه إكمال الدين ـ أنّه قال : «والله ما نزل تأويلها بعد ، ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم ، فإذا خرج القائم لم يبق كافر بالله العظيم».(١)

وهناك أحاديث أخرى بهذا المضمون وردت عن أئمة المسلمينعليهم‌السلام .

كما أنّ جماعة من المفسّرين ذكروا هذا التّفسير في ذيل الآية أيضا.

إلّا أنّ المدهش أن كاتب «المنار» هنا لم يكتف برفض هذا التّفسير المذكور آنفا ، بل ناقش الأحاديث في المهديعليه‌السلام ، وحاول أن ينكر بتعصبه الخاص جميع الأحاديث الواردة في شأنه ، ولم يأل جهدا في التذرع بما لديه من الحجج الواهية ليقول : إنّ هذه الأحاديث لا يمكن قبولها بحال ، ويزعم أنّ الإعتقاد بوجود المهدي من أفكار الشيعة ، ومعتقداتهم ، أو معتقدات من يميل إلى التشيّع.

ثمّ بعد هذا كلّه يرى صاحب «المنار» أنّ الإعتقاد بوجود المهدي مدعاة للتخلف والرّكود!

ومن هنا نرى أنّه لا بدّ أن نعالج ـ ولو باقتضاب ـ الرّوايات الواردة في شأن المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وآثار هذا الإعتقاد في تقدم المجتمع الإسلامي ، ومواجهة الظلم والفساد ، ليعلم أن التعصب إذا دخل من باب خرج العلم والمعرفة من باب آخر.

ومع أنّ صاحب المنار له باع طويلة في العلوم والمعارف الإسلامية ، إلّا أنّه لنقطة الضعف التي ابتلي بها «التعصب الشديد» يقلب بعض الحقائق الجليّة وينكرها تماما.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٢١١.

١٧

الرّوايات الإسلامية في المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف»

بالرّغم من كثرة الكتب المؤلفة من قبل علماء أهل السنة وعلماء الشيعة ، في شأن الأحاديث الواردة في المهديعليه‌السلام ونهضته الإصلاحية ، إلّا أنّنا نعتقد أنّ كل ذلك ليس بأبلغ ولا أوجز في الوقت ذاته ممّا كتبه علماء الحجاز من رسائل ردّا على السائلين في هذا المجال ، لذلك نرى من المناسب أن ننقل مضامين تلك الإجابات ومؤداها للقراء الكرام.

لكنّنا نذكر قبلا ، أنّ الرّوايات الواردة في المهدي «عجل الله فرجه الشريف» من الكثرة بحيث لا يستطيع أي محقق اسلامي ـ من أي مذهب كان ـ أن ينكر تواترها.

وقد كتبت حتى الآن كتب كثيرة في هذا الصدد ، وقد اتفق مؤلّفوها على صحة الأخبار الواردة في المصلح المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» ، إلّا أنّ أفرادا معدودين ـ كأحمد أمين المصري وابن خلدون ـ ومن تبعهما ، يشككون في صدور هذه الأحاديث عن نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرائن المتوفرة في أيدينا تدل على أن الباعث على ترددهم لم يكن لضعف في الأخبار ، بل كانوا يرون أن الرّوايات الواردة في المهديعليه‌السلام مشتملة على مسائل لا تكاد تصدّق بسهولة أو أنّهم لم يستطيعوا أن يميّزوا الأحاديث الصحيحة عن غيرها. او لم يجدوا تفسيرا لها.

وعلى كل حال يلزمنا قبل كلّ شيء أن نضع بين يدي القراء الكرام نص السّؤال والجواب الذي نشرته رابطة العالم الإسلامي والتي يقوم عليها أشدّ المتزمتين إفراطا ـ في المذاهب الإسلامية ـ أي الوهابيين ، ليتّضح أنّ مسألة ظهور المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» بين المسلمين تعتقد بها الأغلبية الساحقة منهم ، ونعتقد أن هذه الرسالة على وجازتها جمعت في طيّها الدلائل على ذلك بما ليس لكل أحد أن يتوفر له هذا الجمع ، وإذا كان الوهابيون المتعصبون قد أذعنوا لهذا الأمر ، فللسبب ذاته المشار إليه آنفا في الرسالة.

١٨

فقبل بضعة أعوام وجّه شخص من كينيا ـ يدعى أبا محمّد ـ سؤالا إلى رابطة العالم الإسلامي في شأن المهدي المنتظر «عجّل الله فرجه الشّريف».

فأجابه مدير الرّابطة ، محمّد صالح القزاز ، بردّ يتضمّن تصريحا بأنّ ابن تيميّة يؤمن بالأحاديث الواردة في شأن المهديّ أيضا ، وقد كتب هذه الرسالة خمسة علماء معروفين من أهل الحجاز جوابا على سؤال أبي محمّد الكيني.

وقد ورد في هذه الرسالة بعد ذكر اسم المهديعليه‌السلام ومحل ظهوره «مكّة» ما يلي :

«عند ظهوره يكون العالم مليئا بالفساد والكفر والجور ، فيملأ الله به «المهدي» العالم عدلا كما مليء ظلما وجورا ، وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر الذين أخبر عندهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب الصحاح.

والأحاديث المتعلقة بالمهديّ نقلها عدّة من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم : عثمان بن عفان ، علي بن أبي طالب ، طلحة بن عبيد الله ، عبد الرحمن بن عوف ، قرة بن أساس المزني ، عبد الله بن الحارث ، أبو هريرة ، حذيفة بن اليمان ، جابر بن عبد الله ، أبو أمامة ، جابر بن ماجد ، عبد الله بن عمر ، أنس بن مالك ، عمران بن الحصين ، وأم سلمة.

فهؤلاء عشرون راويا صحابيا رووا عن النّبي في المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» وغيرهم كثير أيضا ، وهناك أحاديث كثيرة عن الصحابة أنفسهم ورد فيها الكلام عن ظهور المهدي «عجّل الله فرجه الشّريف» ويمكن أن تضاف هذه الرّوايات إلى الرّوايات الواردة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ ذلك «أي الكلام في المهدي» لم يكن مسألة اجتهادية ليمكن الاجتهاد فيها ، فبناء على ذلك فإنّ الصحابة قد سمعوا هذا الموضوع من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ تضيف الرسالة :

إن الأحاديث آنفة الذكر المرويّة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مذكورة في كتب الحديث

١٩

والكتب الإسلامية الأخرى سواء منها السنن أو المعاجم أو المسانيد ، وكذلك شهادات الصحابة وأقوالهم التي هي بمثابة الحديث أيضا ، ومن الكتب التي وردت فيها الأحاديث في المهدي أو أقوال الصحابة هي : سنن أبي داود ، وسنن الترمذي ، وابن ماجه ، وابن عمرو الداني ، ومسند أحمد ، وابو يعلى ، والبزاز ، وصحيح الحاكم ، ومعجما الطبراني «الكبير والمتوسط» والروياني ، والدار قطني ، وأبو نعيم في أخبار المهدي ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ، وابن عساكر في تأريخ دمشق ، وغيرها.

وتضيف الرسالة : إنّ بعض العلماء المسلمين كتبوا في هذا الشأن كتبا خاصّة ، منهم: أبو نعيم في أخبار المهدي ، وابن حجر الهيثمي في «القول المختصر في علامات المهدي المنتظر» ، والشوكاني ، في «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح» وإدريس العراقي المغربي في كتاب المهدي ، وأبو العباس بن عبد المؤمن المغربي في كتاب «الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون».

وآخر من كتب في هذا الشأن بحثا مطوّلا ، وهو مدير الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة «في حلقات متعدّدة في مجلة الجامعة المذكورة».

ثمّ تضيف الرسالة أيضا ، إن جماعة من علماء الإسلام قديما وحديثا صرّحوا في كتبهم أن الأحاديث الواردة في المهدي تقرب من التواتر ولا يمكن إنكارها بأيّ وجه ، ومنهم.

السخاوي في «فتح المغيث» ومحمّد بن الحسن السفاويني في «شرح العقيدة» وأبو الحسن الأبري في «مناقب الشافعي» وابن تيمية في «فتاواه» والسيوطي في «الحاوي» وإدريس العراقي في كتابه «المهدي» والشوكاني في كتاب «التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر» ومحمّد جعفر الكناني في «نظم التناثر» وأبو العباس بن عبد المؤمن في «الوهم المكنون ...».

وتختم الرسالة بالقول بأن ابن خلدون وحده أنكر الأحاديث في المهدي ،

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

أيضاً حدث من الأحداث.(١)

ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار »: إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية.(٢)

أقول: إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :

الأوّل: حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد »، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية، لأنّ صرف القوىٰ المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.

الثاني: تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.

إنّ العلم الحديث وإن بادر إلىٰ مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلّا أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية، وإلىٰ ذلك تشير الآيات والروايات :

١.( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) .(٣)

٢.( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ) .(٤)

٣.( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ) .(٥)

__________________

١ و ٢. الله يتجلىٰ في عصر العلم: ٢٧ و ٨٥.

٣. النساء: ٧٨.

٤. آل عمران: ١٨٥.

٥. الأنبياء: ٣٤.

١٦١

وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.

قال الإمام عليٌّعليه‌السلام : « فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داودعليهما‌السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ».(١)

ويقول أيضاً في موضع آخر :« إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم: لِدُوا للموت ».(٢)

د. خوف الإنسان من الموت

للإنسان حسب فطرته، رغبة في الاستمرار في الحياة، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي، ولعلها دليل علىٰ أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.

والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.

بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :

فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسىٰ ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.

وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه، لأنّه هو الذي وقف علىٰ حقيقة الحياة الدنيا، وأنّ الموت ليس إلّا قنطرة إلى الحياة الأُخرىٰ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.

__________________

١. نهج البلاغة: الخطبة ١٨٢.

٢. نهج البلاغة: من كلماته القصار، برقم ١٣٢.

١٦٢

ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :

الأوّل: كون الموت خاتمة المطاف.

الثاني: الإيمان بالحشر والجزاء، وأنّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني، ويقول:( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (١) ، ويقول في سورة أُخرى:( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) .(٢)

وقد أشير في بعض الروايات إلىٰ سبب الخوف من الموت.

روى السكوني عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام أنّه قال: أتى النبي رجل فقال: مالي لا أحب الموت ؟ فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألك مال ؟ » قال: نعم. قال: « فقدمته ؟ »، قال: لا. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ثمّ لا تحب الموت ».(٣)

وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت، يقولعليه‌السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ».(٤)

وقالعليه‌السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ».(٥)

__________________

١. البقرة: ٩٤ ـ ٩٥.

٢. الجمعة: ٦ ـ ٧.

٣. البحار: ٦ / ١٢٧.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩، ط عبده.

٥. نهج البلاغة: قسم الحكم برقم ١٥٠.

١٦٣

وقال رجل للحسن بن عليّعليهما‌السلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال: « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ».(١)

قيل للإمام محمد بن عليّ بن موسى: : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال: « لأنّهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ».(٢)

والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى، ولذلك نرى أنّ علياًعليه‌السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه، ويقول: « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ».(٣)

وفي خطبة أُخرى يقولعليه‌السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ».(٤)

هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة، يقول سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ *لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ *لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلائِكَةُ هَٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) .(٥)

__________________

١. البحار: ٦ / ١٢٩.

٢. معاني الأخبار: ٢٠٩.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥.

٤. نهج البلاغة: الخطبة ٥٥.

٥. الأنبياء: ١٠١ ـ ١٠٣.

١٦٤

ه‍. أقسام الموت في القرآن الكريم

إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة، فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج، وهذا نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال مع العسر.

نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.

وقد أشار الإمام الثامنعليه‌السلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف والوجل :

١. الولادة ٢. الموت ٣. البعث.

ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد أنّ الله سبحانه وعد يحيىعليه‌السلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف، قال سبحانه:( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) .(١)

إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :

١. الموت العسير واليسير

إنّ حقيقة الموت ترجع ـ في الواقع ـ إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً للذنوب يقول سبحانه:( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ) .(٢)

__________________

١. مريم: ١٥.

٢. ق: ١٩.

١٦٥

وفي آية أُخرى:( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) .(١)

وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون بالسلام، يقول سبحانه:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) .(٢)

وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة، بقوله:( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .(٣)

وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى من يبشر بالسوء والخير، شائع في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

يقول الإمام الحسنعليه‌السلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد ».(٤)

وقال الإمام عليّ بن الحسينعليهما‌السلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب وآنس المنازل ; وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ».(٥)

إلى غير ذلك من الروايات.


__________________

١. محمد: ٢٧.

٢. النحل: ٣٢.

٣. الفجر: ٢٧ ـ ٢٨.

٤. البحار: ٦ / ١٥٤.

٥. البحار: ٦ / ١٥٥.

١٦٦

٢. موت البدن والقلب

قد ينسب الموت إلى البدن، وأُخرى إلى القلب، فإذا انقطعت علاقة الروح بالبدن فهذا موت البدن، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء، ولذلك يعد سبحانه الفئة المعاندة للإسلام أمواتاً، ويقول:( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَىٰ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (١) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.

ويقول سبحانه:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) .(٢)

والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف، فإذا أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس، فليس هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.

ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً، كما يصف الشهادة في ميادين الجهاد حياة، ويقولعليه‌السلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ».(٣)

لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية المعتدين، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ، بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في

__________________

١. الروم: ٥٢.

٢. الأنعام: ١٢٢.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ٥١.

١٦٧

ساحات الوغىٰ ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم ونواميسهم.

ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي استولت الأنانية عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً، إذ لا يشعر بأي مسؤولية حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء ».(١)

ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب: « يرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ».(٢)

٣. موت الإنسان والمجتمع

يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة، وأُخرى بالريعان والنضج، وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.

فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة، فإذا اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلىٰ مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف، وهكذا المجتمع.

وهناك تقسيم آخر وهو :

إنّ الإنسان من حين ولادته إلىٰ أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته

__________________

١. نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم ٣٧٤.

٢. نهج البلاغة: الخطبة ٢٣٠.

١٦٨

شيئاً فشيئاً، فإذا اشتدّت قواه، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها، وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ أجله.

فالمرحلة الأُولىٰ: مرحلة التكوين، والثانية: مرحلة الهجوم، والثالثة: مرحلة التدافع ; والرابعة: مرحلة الانقراض، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.

فالحضارات الإنسانية، مرَّت بتلك المراحل إلىٰ أن اضمحلّت واندثرت.

يقول سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (١) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.

عوامل أُفول الحضارات

إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.

نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً، يقول سبحانه:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .(٢)

إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها، وهذا بمرور الزمان يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلىٰ عصيان عام

__________________

١. الأعراف: ٣٤.

٢. الأعراف: ٩٦.

١٦٩

يؤدي إلىٰ سقوط الحضارة، يقول سبحانه:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (١) ، ويقول في آية أُخرى:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) .(٢)

فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من أسباب انهيار الحضارات وزوالها، ووجهه واضح، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال بالباطل والغش والسرقة، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها، ومعه تنفصم عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.

نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع، وإن لم نقف على الصلة بينها، فقد ورد في الحديث: انّه إذا كثر الزنا، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.

وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.

٤. الموت المشرّف

إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته، وهذا كالموت في سبيل طلب العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء أحياءً لا أمواتاً ويقول:( وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) .(٣)

__________________

١. هود: ١١٧.

٢. الإسراء: ١٦ ـ ١٧.

٣. البقرة: ١٥٤.

١٧٠

كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند الله، يقول سبحانه:( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ) .(١)

و. الموت والأجل المحتوم

القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّىٰ، ويقول:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) .(٢)

كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّىٰ، يقول:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (٣) . إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل المطلق والمسمّى.

وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين، ولكن الذي نفهمه من الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنىٰ قابليته لأن ينتهي إليه، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد، وهذا كالإنسان فله استعداد أن يحيىٰ ١٢٠ سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك، فالمقدّر لكلّ شيء حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء، فهو يختلف، فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق، وأُخرىٰ يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية مناسبة.

وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد، ولكنّه

__________________

١. النساء: ١٠٠.

٢. الأنعام: ٢.

٣. فاطر: ١٣.

١٧١

ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد، كما أنّه ربما يجتازه لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.

ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه

الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر، فيرى الإنسان المحتضر مصيره بأُمِّ عينيه، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة وصدور رحبة، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم، ولات حين مناص، فلا تنفع الندامة لأنّ الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة، وهذا غير متحقق في حال الاحتضار، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.

وبعبارة أُخرى: التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب الطريق الحقّ باختياره، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره، ولذلك يقول سبحانه:( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ) (١) وفي آية أُخرى:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاًّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) .(٢)

إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار، قال سبحانه:( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ

__________________

١. النساء: ١٨.

٢. المؤمنون: ٩٩ ـ ١٠٠.

١٧٢

الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إلّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ *آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ ) .(١)

وليست هذه خصيصة فرعون فحسب، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعدما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .(٢)

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع العذاب حين الموت ويقول: « فهو يعضُّ يده ندامة علىٰ ما أضمر له عند الموت من أمره ».(٣)

وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على عدم سعة رحمته، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف الذنوب الذي يلازم الاختيار، وهذا غير متحقّق حين الموت.

ح. الوصية في حال الموت

يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق لا سيما إذا حضره الموت، يقول سبحانه:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ ) .(٤)

__________________

١. يونس: ٩٠ ـ ٩١.

٢. غافر: ٨٤ ـ ٨٥.

٣. نهج البلاغة: الخطبة ١٠٩.

٤. البقرة: ١٨٠.

١٧٣

ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية والأَولىٰ أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً، قال عليٌّعليه‌السلام : « ما ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه ».(١)

ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان، قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ) .(٢)

فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن، و إلّا فليشهد من غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من نحلته من يُشهده علىٰ وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم، وما هذا إلّا لأجل أن يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ الوصية.

ط. جهل الإنسان بموته

إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها، ولو سلب عنه ذلك الحب لأُطفئت جذوة حياته، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته، كما أنّ اليأس من الحياة ظلام دامس لها; روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجرة ».(٣)

ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولىٰ عليه الحزن واليأس قبل أن يموت بسنين، وربما يموت قبل أجله المقرر، ولذلك يعد الجهل بزمان موته

__________________

١. وسائل الشيعة: ١٣، كتاب الوصايا، باب ١، حديث ٧.

٢. المائدة: ١٠٦.

٣. سفينة البحار: مادة أمل.

١٧٤

من علل بقاء حياته ونشاطه، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس إلّا في موارد خاصة لملاكات كذلك.

على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً، فانّ الرجوع إلى الله سبحانه والتوبة من المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل إطفاء مصباح حياته.

نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم أنّه سيعيش عمراً طويلاً، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً، فيقترف المعاصي في شبابه علىٰ أمل أن يتوب منها في هرمه، ولكنه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.

ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال:( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .(١)

ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده، وهو يلازم جهل الإنسان بموته لانحصار علمه بالله سبحانه.

ي. الموت والملائكة الموكّلون

إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في الله سبحانه، وأنّه لا مدبّر إلّا هو ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه، كما يقول:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .(٢)

__________________

١. لقمان: ٣٤.

٢. الأعراف: ٥٤.

١٧٥

ولكن الإيمان بحصر التدبير في الله لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر الكون، بأمر من الله سبحانه، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير الله سبحانه، ولأجل ذلك ينسب الله تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول:( اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (١) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك الموت أُخرى، ويقول:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ) (٢) ويقول سبحانه:( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) .(٣)

فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة، تارة إلى الله، وأُخرى إلى الملائكة، وثالثة إلى ملك الموت، فالفعل واحد والفواعل متعددة، لأنّ فعل الجميع هو فعل الله سبحانه بالتسبيب.

وترى نظير ذلك في قوله سبحانه:( وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (٤) حيث ينسب الكتابة إلى الله، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل، ويقول:( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) .(٥)

وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة، يقول سبحانه:( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (٦) ، ويقول:( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (٧) .

ويقول أيضاً:( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (٨) .

__________________

١. الزمر: ٤٢.

٢. النحل: ٢٨.

٣. السجدة: ١١.

٤. النساء: ٨١.

٥. الزخرف: ٨٠.

٦. التوبة: ١١٦.

٧. النجم: ٤٤.

٨. الواقعة: ٦٠.

١٧٦

إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه، وفي الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره، ويقول:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) .(١)

نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين، وما هذا إلّا لأنّ عملهم عمله سبحانه.

نعم الذي لا يمكن أن ينكر أنّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.

















__________________

١. الأنعام: ٦١.

١٧٧





الفصل الثالث عشر :

القبر وعالم البرزخ

إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية، وهو منزل ضيق للغاية، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرىٰ، وهذا أمر ملموس، يشير إليه قوله سبحانه:( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (١) .

ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور، بل ببدن يناسب تلك النشأة، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ، وقد صرح به الذكر الحكيم، يقول تعالى:( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (٢) ، فقوله:( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم، بشهادة قوله سبحانه:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) .(٣)

__________________

١. عبس: ٢١.

٢. المؤمنون: ١٠٠.

٣. الكهف: ٧٩.

١٧٨

والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل، يقول تعالىٰ:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ) (١) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ، لأجل الفصل بين الحياتين علىٰ وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.

والآيات الدالة عليه كثيرة.

منها: ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت، وقد مرّ ما يدل على ذلك.

ومنها: ما دلت على حياة الشهداء، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم الله سبحانه.

ومنها: ما ورد في حقّ آل فرعون، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً، ويوم القيامة يدخلون النار، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوحعليه‌السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.

وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.

قال سبحانه:( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) .(٢)

فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين، فالإماتة الأُولىٰ في النشأة الدنيا، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.

يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلّا مَن شَاءَ اللهُ ) .(٣) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ، وليس هو إلّا الحياة البرزخية، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة

__________________

١. الرحمن: ٢٠.

٢. غافر: ١١.

٣. الزمر: ٦٨.

١٧٩

في عالم البرزخ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) .(١)

ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين، نقول :

الإماتة الأُولىٰ عند حلول أجله القطعي.

والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.

والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.

وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.

وقد ذكر لهاتين الإماتتين، وهذين الإحياءين، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.

الحياة البرزخية في الروايات

وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر علىٰ هذا الحديث.

روى أبو بصير، قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن أرواح المؤمنين، فقال: « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين، فقال: « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ».(٢)

__________________

١. يس: ٥١.

٢. بحار الأنوار: ٦ / ٢٦٩، الحديث ١٢٢ و ١٢٦ وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلّامة المجلسي
حديثين.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608