الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 274659
تحميل: 4796


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274659 / تحميل: 4796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

الأمور في القضايا الاقتصادية دون إعطاء اي دور للإنسان ، ولكن برغم ذلك فإنّه لا يمكن غضّ النظر عن اهمية القضايا الاقتصادية ودورها في المجتمعات ، والآيات السابقة تشير إلى هذه الحقيقة ، والملاحظ انّ يوسف ركّز من بين جميع مناصب الدولة على منصب الاشراف على الخزانة ، وذلك لعلمه انّه إذا نجح في ترتيب اقتصاد مصر ، فإنّه يتمكّن من إصلاح كثير من المفاسد الاجتماعية ، كما انّ تنفيذه للعدالة الاقتصادية يؤدّي الى سيطرته على سائر دوائر الدولة وجعلها تحت امرته.

وقد اهتمّت الرّوايات الاسلامية بهذا الموضوع اهتماما كبيرا ، فمثلا نرى في الرّواية المعروفة المروية عن امير المؤمنين عليعليه‌السلام انّه جعل (قوام الدين والدنيا) في ركنين : أحدهما القضايا الاقتصادية وما يقوم عليه معاش الناس ، والرّكن الآخر هو العلم والمعرفة.

وبرغم انّ المسلمين قد أهملوا هذا الجانب من الحياة الفردية والاجتماعية الذي اهتمّ به الإسلام كثيرا وتأخّروا عن اعداء الإسلام في هذا الجانب ، الّا انّ يقظة المجتمعات الاسلامية المتزايدة وتوجّههم نحو الإسلام يزيد الأمل في النفوس بأن تزيد من نشاطها الاقتصادي وتعتبره عبادة اسلامية كبرى ، وتقوم ببناء نظام اقتصادي مدروس وفق خطط محكمة لكي تعود إليهم قوّتهم ونشاطهم.

وهنا نقطة اخرى يجب التنبيه عليها ، وهي انّنا نلاحظ انّ يوسفعليه‌السلام يخاطب الملك ويقول له :( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وهذه اشارة الى اهميّة عنصر الادارة الى جانب عنصر الامانة وانّ توفّر عنصر الامانة والتقوى فقط في شخص لا يؤهّله لان يتصدّى لأحد المناصب الاجتماعية الحسّاسة ، بل لا بدّ من اجتماع ذلك العامل مع العلم والتخصّص والقدرة على الادارة ، لكونه قرن ال (عليم) مع ال (حفيظ) وكثيرا ما نشاهد الإضرار الناتجة عن سوء الادارة لا تقلّ بل تزيد على

٢٤١

الخسائر الناتجة عن الخيانة!

فهذه التعليمات الاسلامية صريحة في اهميّة جانب الادارة والقدرة عليها ، ومع ذلك نرى تهاون بعض المسلمين بهذا الجانب ، فالمهمّ لديهم هو نصب الأشخاص الذين يطمئنون الى تقواهم وأمانتهم لادارة الأمور ، مع انّ السيرة النبوية الشريفةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك سيرة عليعليه‌السلام ترشدان الى انّهما كانا يهتمّان اهتماما كبيرا بالجانب الاداري والقدرة على الادارة مع اهتمامهم بأمانة الشخص وسلوكه الحسن.

3 ـ الرّقابة على الاستهلاك

الملاحظ في القضايا الاقتصادية انّه قد لا تكون (زيادة الانتاج) بمكان من الاهميّة بقدر اهميّة (الرقابة على الاستهلاك) ومن هنا نشاهد انّ يوسف في ايّام حكومته ، حاول ـ بشدّة ـ ان يسيطر على الاستهلاك الداخلي في سنوات الوفرة لكي يتمكّن من الاحتفاظ بجزء كبير من المنتوجات الزراعية لسنوات القحط والمجاعة القادمة ، وفي الحقيقة انّ زيادة الانتاج والرقابة متلازمان لا يفترقان ، فالزيادة في الانتاج لا تثمر الّا إذا أعقبتها رقابة صحيحة ، كما انّ الرقابة تكون اكثر فائدة إذا أعقبتها زيادة في الانتاج.

انّ السياسة الاقتصادية التي انتهجها يوسفعليه‌السلام في مصر أظهرت انّ الخطّة الاقتصادية الصحيحة والمتطورة مع الزمن لا يمكن ان تقتصر على متطلّبات الجيل الحاضر ، بل لا بدّ وان تراعي مصالح الأجيال القادمة ، لانّ التفكير بالمصالح المستعجلة للجيل الحاضر والتغاضي عن مصالح الأجيال القادمة ـ كما لو استهلكنا جميع ثروات الأرض ـ تعتبر غاية الانانية وحبّ الذات ، إذ انّ الأجيال القادمة هم في الواقع إخوتنا وأبناؤنا فلا بدّ من التفكير في مصالحهم وعدم التفريط بها.

٢٤٢

والملفت للنظر انّه يستفاد من بعض الرّوايات الواردة كما ورد عن الامام علي بن موسى الرّضاعليهما‌السلام «واقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع سنين المخصبة فكبسه في الخزائن ، فلمّا مضت تلك السنون وأقبلت المجدية اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم الّا صار في مملكة يوسف ، وباعهم في السنة الثّانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر الا صار في ملكة يوسف ، وباعهم في السنة الثّالثة بالدّواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الرّابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر ومن حولها عبد ولا امة الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة الخامسة بالدّور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السّادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة الّا صار في ملكية يوسف ، وباعهم في السنة السّابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ الّا صار عبد يوسف ، فملك احرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال النّاس : ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا ، ثمّ قال يوسف للملك : ايّها الملك ما ترى فيما خولني ربّي من ملك مصر وأهلها اشر علينا برأيك ، فإنّي لم أصلحهم لافسدهم ، ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكن الله نجاهم على يدي ، قال له الملك : الرّاي رأيك ، قال يوسف : انّي اشهد الله وأشهدك ايّها الملك انّي اعتقت اهل مصر كلّهم ، ورددت إليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت إليك ايّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الّا بسيرتي ولا تحكم الّا بحكمي قال له الملك : انّ ذلك لشرفي وفخري لا أسير الّا بسيرتك ولا احكم الّا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ، ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما

٢٤٣

يرام ، وانا اشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له ، وأنت رسوله فأقم على ما وليتك فإنّك لدينا مكين أمين»(1) .

4 ـ مدح النفس

لا شكّ في انّ مدح الإنسان نفسه يعدّ من الأمور القبيحة ، ولكن ليست هذه قاعدة عامّة ، بل قد تقتضي الأمور بأن يقوم الإنسان بعرض نفسه على المجتمع والإعلان عن خبراته وتجاربه ، لكي يتعرّف عليه الناس ويستفيدوا من خبراته ولا يبقى كنزا مستورا.

وقد مرّ علينا في الآيات السابقة انّ يوسف حينما تولّى مسئولية الاشراف على خزائن مصر وصف نفسه بأنّه :( حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ، وكان هذا الوصف من يوسف لنفسه ضروريا وذلك حتّى يعرف شعب مصر ومليكها انّه يمتلك الصفات اللازمة التي تؤهله للتصدّي لهذا المنصب.

ومن هنا نقرا في تفسير العياشي نقلا عن الامام الصّادقعليه‌السلام انّه حينما سئل عن الحكم الشرعي لمدح الإنسان نفسه؟ أجابعليه‌السلام «نعم إذا اضطرّ اليه ، امّا سمعت قول يوسف اجعلني على خزائن الأرض انّي حفيظ عليم ، وقول العبد الصالح : وانا لكم ناصح أمين»(2) .

ومن هنا يتّضح لنا جليّا فلسفة مدح الامام عليعليه‌السلام نفسه في بعض الخطب ، فمثلا يقول في خطبة الشقشقية واصفا نفسه : (... انّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى ينحدر عنّي السيل ولا يرقى اليّ الطير ...) فمثل هذه الأوصاف هي في الواقع لأجل إيقاظ الغافلين وإرشادهم الى الاستفادة من هذا المنهل العذب في سبيل الوصول الى سعادة الفرد والمجتمع.

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلّد الثّالث ، صفحة 244 ، تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 435.

(2) تفسير نور الثّقلين ، ج 2 ، ص 433.

٢٤٤

5 ـ افضليّة الجزاء المعنوي على سواه

برغم انّ كثيرا من المؤمنين الخيرين يلقون في هذه الدنيا جزاء اعمالهم الخيرة ، كما هو الحال بالنسبة ليوسف حيث جوزي جزاء حسنا ، لعفافه وتقواه وصبره على البلاء ، إذ لو كان آثما لما اعتلى هذا المنصب ، ولكن هذا لا يعني انّ على الإنسان ان ينتظر الجزاء في هذه الدنيا ويتوهّم انّ الجزاء يجب ان يكون ماديّا وملموسا وفي هذه الدنيا ويرى تأخير الجزاء ظلما في حقّه ، لكن هذا التصوّر بعيد عن الواقع ، لانّ الجزاء الأوفى هو ما يوافي الإنسان في حياته القادمة.

ولعلّ لدفع هذا التوهّم الخاطئ وانّ ما جوزي به يوسف هو الجزاء الأوفى ، يقول القرآن الكريم( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

6 ـ الدفاع عن المسجونين

برغم انّ السجن لم يكن دائما محلا للأخيار ، بل يستضيف تارة الابرياء وتارة المجرمين ، لكنّ القواعد الانسانية تستوجب التعامل الحسن مع السجناء ، حتّى ولو كانوا مجرمين.

وقد يتصوّر البعض أنّ الدفاع عن المسجونين من مبتكرات العصر الحديث ، لكن المتتبّع للتاريخ الاسلامي يرى انّه منذ الايّام الاولى لقيام دولة الإسلام كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤكّد ويوصي على التعامل الحسن مع الأسرى والمسجونين ـ كما قرانا جميعا وصيّة عليعليه‌السلام في حقّ المجرم الذي قام باغتياله (وهو عبد الرّحمن بن ملجم المرادي) حيث امر ان يرفق به وحتّى انّهعليه‌السلام بعث اليه من اللبن الذي كان يشربه وعند ما أرادوا قتله قال : ضربة بضربة.

كما انّ يوسف حينما كان في السجن كان يعدّ أخا حميما وصديقا وفيّا ومستشارا أمينا لجميع نزلاء السجن ، وحينما خرج من السجن ـ امر ان يكتب ـ

٢٤٥

لجلب انتباه العالمين ـ على بابه «هذا قبور الاحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء»(1) .

واظهر لهم بهذا الدعاء عطفه ومحبّته حيث قال : «اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار ، ولا تعم عليهم الاخبار»(2) .

والطريف انّنا نقرا في سياق الحديث السابق انّه : «فذلك يكون اصحاب السجن اعرف الناس بالاخبار في كلّ بلدة».

وقد مرّت علينا هذه التجربة في ايّام السجن ، حيث كانت تصلنا الاخبار وبصورة منتظمة ـ الّا في بعض الحالات النادرة ـ وعن طرق خفيّة لا يكشفها السجّانون ، وكثيرا ما كان الذي يدخل الى السجن يطّلع على بعض الاخبار التي لم يكن قد سمعها عند ما كان في الخارج ، والحديث عن هذا الموضوع طويل وقد يخرجنا عن هدف هذا الكتاب.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 432.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 432.

٢٤٦

الآيات

( وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) )

التّفسير

اقتراح جديد من يوسف لإخوته :

وكما كان متوقّعا ، فقد تحسّنت الزراعة في مصر خلال سبع سنوات متتالية وذلك على اثر توالي الأمطار ووفرة ماء النيل وكثرته ، ويوسف الذي كان مسئولا عن الشؤون الاقتصادية في مصر ومشرفا على خزائنها ، امر ببناء المخازن الكبيرة والصغيرة التي تستوعب الكميّات الكبيرة من المواد الغذائية

٢٤٧

وتحفظها عن الفساد ، وقد اجبر أبناء الشعب على ان يبيعوا للدولة الفائض عن حاجتهم من الانتاج الزراعي ، وهكذا امتلأت المخازن بالمنتوجات الزراعية والاستهلاكية ومرّت سبع سنوات من الرخاء والوفرة ، وبدا القحط والجفاف يظهر وجهه الكريه ، ومنعت السّماء قطرها ، فلم تينع ثمرة ، ولم تحمل نخلة.

وهكذا أصاب عامّة الشعب الضيق وقلّت منتوجاتهم الزراعية ، لكنّهم كانوا على علم بخزائن الدولة وامتلائها بالمواد الغذائية ، وساعدهم يوسف حيث استطاع ـ بخطّة محكمة ومنظّمة مع الأخذ بعين الاعتبار الحاجات المتزايدة ، في السنين القادمة ـ ان يرفع الضيق عن الشعب بأن باع لهم المنتوجات الزراعية مراعيا في ذلك العدالة بينهم.

وهذا القحط والجفاف لم يكن مقتصرا على مصر وحدها ، بل شمل البلدان المحيطة بها ايضا ، ومنهم شعب فلسطين وارض كنعان المتاخمة لمصر والواقعة على حدودها في الشمال الشرقي ، وكانت عائلة يوسف تسكن هناك وقد تأثّرت بالجفاف. واشتدّ بهم الضيق ، بحيث اضطرّ يعقوب ان يرسل جميع أولاده ـ ما عدا بنيامين الذي أبقاه عنده بعد غياب يوسف ـ الى مصر ، حيث سافروا مع قافلة كانت تسير الى مصر ووصلوا إليها ـ كما قيل ـ بعد 18 يوما.

وتذكر المصادر التاريخيّة انّ الأجانب عند دخولهم الى الاراضي المصرية كانوا ملزمين بتسجيل اسمائهم في قوائم معيّنة لكي تعرض على يوسف ، ومن هنا فحينما عرض الموظفون تقريرا على يوسف عن القافلة الفلسطينية وطلبهم للحصول على المؤن والحبوب راى يوسف أسماء اخوته بينهم وعرفهم وامر بإحضارهم اليه ، دون ان يتعرّف احد على حقيقتهم وانّهم اخوته يقول القرآن الكريم :( وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) وكان طبيعيّا ان لا يتعرّف اخوة يوسف عليه لانّه في جانب كان قد مضى على فراقهم ايّاه منذ ان أودعوه الجبّ وخرج منه ودخل الى مصر ما يقرب

٢٤٨

من أربعين سنة ، ومن جهة اخرى كان لا يخطر ببالهم انّ أخوهم صار عزيزا لمصر ، وحتّى لو رأوا الشبه بين العزيز وبين أخيهم لحملوه على الصدفة.

اضافة الى هذا فإنّ ملابس يوسف تختلف عن السابق ، ومن الصعب عليهم معرفة يوسف وهو في ملابس اهل مصر ، كما انّ احتمال بقاء يوسف على قيد الحياة بعد هذه المدّة كان ضعيفا عندهم ، وعلى ايّة حال فإنّ اخوة يوسف قد اشتروا ما طلبوه من الحبوب ودفعوا ثمنه بالأموال او الكندر او الاحذية او بسائر ما جلبوه معهم من كنعان الى مصر.

امّا يوسف فإنّه قد رحّب بإخوته ولاطفهم وفتح باب الحديث معهم ، قالوا : نحن عشرة اخوة من أولاد يعقوب ، ويعقوب هو ابن ابراهيم الخليل نبي الله العظيم ، وأبونا ايضا من أنبياء الله العظام ، وقد كبر سنّه والمّ به حزن عميق ملك عليه وجوده.

فسألهم يوسف : لماذا هذا الغمّ والحزن؟

قالوا : كان له ولد أصغر من جميع اخوته وكان يحبّه كثيرا ، فخرج معنا يوما للنزهة والتفرّج والصيد وغفلنا عنه فأكله الذئب ، ومنذ ذلك اليوم وأبونا يبكي لفراقه.

نقل بعض المفسّرين انّه كان من عادة يوسف ان لا يعطي ولا يبيع لكلّ شخص الّا حمل بعير واحد ، وبما انّ اخوته كانوا عشرة فقد باع لهم 10 أحمال من الحبوب ، فقالوا : انّ لنا أبا شيخا كبيرا عاجزا عن السفر وأخا صغيرا يرعى شؤون الأب الكبير ، فطلبوا من العزيز ان يدفع إليهم حصّتهما ، فأمر يوسف ان يضاف الى حصصهم حملان آخران ، ثمّ توجّه إليهم مخاطبا ايّاهم وقال : انّي ارى في وجوهكم النبل والرفعة كما انّكم تتحلّون بأخلاق طيبة ، وقد ذكرتم انّ أباكم يحبّ أخاكم الصغير كثيرا ، فيتّضح انّه يمتلك صفات ومواهب عالية وفذّة ولهذا احبّ ان أراه اضافة الى هذا ، فإنّ الناس هنا قد أساءوا الظنّ بكم واتهموكم ،

٢٤٩

لانّكم من بلد اجنبي ، فأتوا بأخيكم الصغير في سفركم القادم لتثبتوا صدقكم ، وتدفعوا التّهمة عن أنفسكم.

وهنا يقول القرآن الكريم : انّه حينما جهّزهم يوسف بجهازهم وأرادوا الرحيل عن مصر( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) لكنّه ختم كلامه بتهديد مبطّن لهم ، وهو انّني سوف امنع عنكم المؤن والحبوب إذا لم تأتوني بأخيكم( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ ) ، وكان يوسف يحاول بشتّى الطرق ، تارة بالتهديد ، واخرى بالتحبّب ، ان يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده. وظهر من سياق الآيات.

أمران : انّ الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن ، واتّضح ايضا انّ يوسف كان يستقبل الضيوف ـ ومنهم اخوته ـ الذين كانوا يفدون الى مصر بحفاوة بالغة ويستظيفهم بأحسن وجه.

وأجاب اخوة يوسف على طلب أخيهم :( قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ) ويستفاد من قوله( إِنَّا لَفاعِلُونَ ) واجابتهم الصريحة لعزيز مصر ، انّهم كانوا مطمئنين الى قدرتهم على التأثير على أبيهم وأخذ الموافقة منه ، وكيف لا يكونون مطمئنين بقدرتهم على ذلك وهم الذين استطاعوا بإصرارهم والحاحهم ان يفرّقوا بين يوسف وأبيه؟!

وأخيرا امر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في رحالهم ـ جلبا لعواطفهم ـ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

* * *

٢٥٠

بحوث

1 ـ لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته

بالنسبة للآيات السابقة فإنّ اوّل ما يتبادر الى الذهن هو انّه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته ، حتّى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا الى أبيهم ويخبرونه عن مصير يوسف ، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟

ويمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع وبصورة اخرى ، وهو انّه حينما التقى يوسف بإخوته في مصر كان قد مرّ ثمان سنوات على تحريره من السجن ، حيث كان في السنة الاولى من سنوات القحط والجدب ، التي أعقبت سبع سنوات من الوفرة والرخاء ، وقام بخزن المنتوجات الزراعية ـ وفي السنة الثامنة او بعدها ـ جاء اخوة يوسف الى مصر لشراء الحبوب ، فلما ذا لم يحاول يوسف خلال هذه السنوات الثمان ان يبعث الى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله ويخرجه عن آلامه وينهي مرارته الطويلة؟

حاول جمع من المفسّرين ـ كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ـ الاجابة على هذا السؤال ، وذكروا له عدّة اجوبة ، ولعلّ أحسنها وأقربها هو انّ يوسف لم يكن مجازا من قبل الله سبحانه وتعالى في اخبار أبيه ، لانّ قصّة يوسف مع غضّ النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لاختبار يعقوب وحقلا لامتحانه ، فلا بدّ من ان يؤدّي يعقوب امتحانه ويجتاز فترة الاختبار قبل ان يسمح ليوسف بإخباره ، واضافة الى هذا فإنّ اسراع يوسف في اخبار اخوته قد يؤدّي الى عواقب غير محمودة ، مثلا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من انتقام يوسف منهم لما ارتكبوه سابقا في حقّه فلا يرجعوا اليه.

2 ـ لماذا ارجع يوسف الأموال الى اخوته

السؤال الذي يطرح نفسه هو انّه لماذا امر يوسف ان تردّ اموال اخوته التي

٢٥١

دفعوها ثمنا للحبوب ، وتوضع في رحالهم؟

وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بإجابات عديدة ، ومنهم الرازي في تفسيره حيث ذكر عشرة اجوبة ، لكن بعضها بعيد عن الواقع ، ولعلّ ملاحظة الآيات السابقة تكفي في الاجابة عن السؤال ، لانّ الآية الشريفة تقول :( لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) فإنّ يوسف كان يقصد من وراء هذا العمل ، انّ اخوته بعد رجوعهم الى الوطن حينما يجدون أموالهم قد خبّئت في متاعهم ، سوف يقفون على كرم عزيز مصر (يوسف) وجلالة قدره ، اكثر ممّا شاهدوه ، وسوف يطمئن يعقوب بنوايا عزيز مصر ويعطي الاذن بسفر بنيامين ، ويكون السبب والدافع في سفرهم الى مصر مرّة اخرى وباطمئنان اكثر مستصحبين معهم أخاهم الصغير.

3 ـ كيف وهب يوسف الى اخوته اموال بيت المال؟

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو انّه كيف وهب يوسف الأموال من بيت المال لإخوته دون اي تعويض؟

يمكن الاجابة على هذا السؤال بطريقتين :

الاوّل : انّ بيت المال في مصر كان يحتوي على حصّة معيّنة من الأموال تصرف في شؤون المستضعفين (ومثل هذه الحصّة موجودة دائما) وبما انّ اخوة يوسف كانوا في تلك الفترة من المستضعفين ، استغلّ يوسف هذه الفرصة واستفاد من هذه الحصّة لمساعدة إخوته : (كما كان يستفيد منها في مساعدة سائر المستضعفين) ومن المعلوم انّ الحدود المصطنعة بين الدولة لم تكن حائلا دون مساعدة مستضعفي سائر البلدان من هذه الحصّة.

الثّاني : انّ المناصب العالية في الدولة ـ كمنصب يوسف ـ تتضمّن عادة على

٢٥٢

امتيازات وحقوق معيّنة ، ومن اقلّ هذه الحقوق هو ان يهيئ لنفسه ولعائلته المحتاجة ولمن يقرب اليه كأبيه واخوته مستلزمات العيش الكريم ، وقد استفاد يوسف من هذا الحقّ في إعطاء الأموال لإخوته.

* * *

٢٥٣

الآيات

( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) )

التّفسير

موافقة يعقوب :

رجع اخوة يوسف الى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين ، لكنّهم كانوا يفكّرون بمصيرهم في المستقبل وانّه لو رفض الأب ولم يوافق على سفر أخيهم الصغير (بنيامين) فإنّ عزيز مصر سوف لن يستقبلهم ، كما انّه لا يعطيهم

٢٥٤

حصّتهم من الحبوب والمؤن.

ومن هنا يقول القرآن :( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ) ولا سبيل لنا للحصول عليه الّا ان ترسل معنا أخانا( فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ ) وكن على يقين من انّنا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الآخرين( وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

امّا الأب الشيخ الكبير الذي لم يمح صورة (يوسف) عن ذاكرته مرّ السنين فإنّه حينما سمع هذا الكلام استولى عليه الخوف وقال لهم معاتبا :( هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) فكيف تتوقّعون منّي ان اطمئن بكم والبّي طلبكم واوافق على سفر ولدي وفلذّة كبدي معكم الى بلاد بعيدة ، ولا زلت اذكر تخلفّكم في المرّة السابقة عن عهدكم ، ثمّ أضاف( فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) هذه العبارة لعلّها اشارة الى ما تحدّثت به نفس يعقوب من انّه يصعب عليّ ان اوافق على سفر بنيامين معكم وقد عرفت سوءكم في المرّة السابقة ، لكن حتّى لو وافقت على ذلك فإنّني اتّكل على الله سبحانه وتعالى الذي هو ارحم الراحمين واطلب رعايته وحفظه منه لا منكم.

الآية السابقة لا تدلّ على الموافقة القطعيّة وقبوله لطلبهم ، وانّما هي مجرّد احتمال منه حيث انّ الآيات القادمة تظهر انّ يعقوب لم يكن قد وافق على طلبهم الّا بعد ان أخذ منهم العهود والمواثيق ، والاحتمال الآخر هو انّ هذه الآية لعلّها اشارة الى يوسف ، حيث كان يعلم انّه على قيد الحياة (وسوف نقرا في الآيات القادمة انّه كان على يقين بحياة يوسف) فدعا له بالحفظ.

ثمّ انّ الاخوة حينما عادوا من مصر( وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) فشاهدوا انّ هذا الأمر هو برهان قاطع على صحّة طلبهم ، فجاءوا الى أبيهم و( قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا ) وهل هناك فضل وكرم اكثر من هذا ان يقوم حاكم اجنبي وفي ظروف القحط والجفاف ،

٢٥٥

بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثمّ يردّ إلينا ما دفعناه ثمنا له؟!

ثمّ انّه ردّ بضاعتنا علينا بشكل خفي بحيث لا يستثير فينا الخجل ـ أليس هذا غاية الجود والكرم؟! فيا أبانا ليس هناك مجال للتأخير ـ ابعث معنا أخانا لكي نسافر ونشتري الطعام( وَنَمِيرُ أَهْلَنا ) وسوف نكون جادّين في حفظ أخينا( وَنَحْفَظُ أَخانا ) ، وهكذا نتمكّن من ان نشتري كيل بعير من الحبوب( وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ) وانّنا على يقين في انّ سماحة العزيز وكرمه ـ سوف يسهّلان حصوله و( ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) .

وفي كلّ الأحوال ـ رفض يعقوب إرسال ابنه بنيامين معهم ، ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطرّ الى التنازل على مطلبهم ولم ير بدّا من القبول ، ولكنّهوافق بشرط :( قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) ، والمقصود من قوله( مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ) هو العهد واليمين المتضمّن لاسم الله سبحانه وتعالى ، وامّا جملة( إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ ) فهي في الواقع بمعنى ـ الّا إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث ، ولعلّها اشارة الى حوادث الموت او غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان وتقصم ظهره وتجعله عاجزا.

وذكر هذا الاستثناء دليل بارز على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته ، فإنّه برغم حبّه الشديد لولده بنيامين لكنّه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم : انّكم مسئولون عن سلامة ولدي العزيز وانّي سوف اطلبه منكم الّا ان تغلبكم الحوادث القاهرة ، فحينئذ لا حرج عليكم.

وعلى كلّ حال فقد وافق اخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم ، وحينما أعطوه العهد والمواثيق المغلّظة قال يعقوب :( فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ ) .

* * *

٢٥٦

بحوث

1 ـ بالنسبة للآيات السابقة فإنّ اوّل ما يتبادر الى الذهن ، هو انّه كيف وافق يعقوب على سفر بنيامين مع اخوته برغم ما اظهروه في المرّة السابقة من سوء المعاملة مع يوسف ، اضافة الى هذا فإنّنا نعلم انّهم كانوا يبطنون الحقد والحسد لبنيامين ـ وان كان اخفّ من حقدهم وحسدهم على يوسف ـ حيث وردت في الآيات الافتتاحية لهذه السورة قوله تعالى :( إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ) اي انّ يوسف وأخاه احبّ الى أبينا برغم ما نملكه نحن من قوّة وكثرة.

لكن تظهر الاجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا انّه قد مضى ثلاثون الى أربعين سنة على حادثة يوسف ، وقد صار اخوة يوسف الشبّان كهولا ، ومن الطبيعي انّهم نضجوا اكثر من السابق ، كما وقفوا على الآثار السلبية والسيّئة لما فعلوه مع يوسف ، سواء في داخل اسرتهم ام في وجدانهم ، حيث أثبتت لهم تجارب السنين السالفة انّ فقد يوسف كان لا يزيد حبّ أبيهم لهم ، بل ازداد نفوره منهم وخلق لهم مشاكل جديدة.

اضافة الى هذه الأمور فإنّ يعقوب لم يواجه طلبا للخروج الى التنزّه والصيد ، بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة ، وهي اعداد الطعام لعائلة كبيرة وفي سنوات القحط والمجاعة.

فمجموع هذه الأمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده والموافقة على سفر بنيامين ولكنّه أخذ منهم العهود والمواثيق على ان يرجعوه سالما.

2 ـ السؤال الآخر الذي نواجهه هنا هو انّه هل الحلف وأخذ العهد والمواثيق منهم كان كافيا لكي يوافق يعقوب على سفر بنيامين معهم؟

الجواب : انّه من الطبيعي انّ مجرّد الحلف واليمين لم يكن كافيا لذلك ، ولكن في هذه المرّة كانت الشواهد والقرائن تدلّ على انّ هناك حقيقة واضحة قد برزت

٢٥٧

الى الوجود ، وهي خالية عن محاولات الخداع والتضليل (كما هو الحال في المرّة السابقة) ففي مثل هذه الصورة لا سبيل لتأكيد هذه الحقيقة وجعلها اقرب الى التنفيذ سوى العهد واليمين ، مثل ما نشاهده في هذه الايّام من تحليف الزعماء السياسيين كرئيس الجمهورية او نوّاب البرلمان ، حيث يحلفون بالوفاء للدستور والعمل على طبقه وذلك بعد ان انتخبهم الشعب من خلال انتخابات حرّة ونزيهة.

* * *

٢٥٨

الآيتان

( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) )

التّفسير

وأخيرا توجّه اخوة يوسف صوب مصر للمرّة الثانية بعد اذن أبيهم وموافقته على اصطحاب أخيهم الصغير معهم ، وحينما أرادوا الخروج ودعهم أبوهم موصيا ايّاهم بقوله :( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ) ثمّ أضاف : انّه ليس في مقدوري ان امنع ما قد قدّر لكم في علم الله سبحانه وتعالى( وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) ولكن هناك بعض الأمور التي يمكن للإنسان ان يجتنب عنها حيث لم يثبت في حقّها القدر الالهي

٢٥٩

المحتوم ، وما أسديته لكم من النصيحة هو في الواقع لدفع هذه الأمور الطارئة والتي بإمكان الإنسان ان يدفعها عن نفسه ثمّ قال : أخيرا( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

لا شكّ في انّ عاصمة مصر في تلك الايّام شأنها شأن جميع البلدان ، كانت تمتلك سورا عاليا وأبوابا متعدّدة وكان يعقوب قد نصح أولاده بأن يتفرّقوا الى جماعات صغيرة ، وتدخل كلّ جماعة من باب واحد ، لكن الآية السابقة لم تبيّن لنا فلسفة هذه النصيحة.

ذهب جمع من المفسّرين الى انّ سبب هذه النصيحة هو انّ اخوة يوسف كانوا يتمتّعون بقسط وافر من الجمال (وان لم يكونوا كيوسف لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا اخوته) وبأجسام قويّة رشيقة ، وكان الأب الحنون في قلق شديد من انّ الفات نظر الناس الى هذه المجموعة المكوّنة من 11 شخصا ويدلّ سيماهم على انّهم غرباء وانّهم ليسوا من اهل مصر ، فيصيبهم الحسد من تلك العيون الفاحصة.

ثمّ بعد هذا التّفسير ـ دخل المفسّرون في بحث طويل ونقاش مستمر حول موضوع تأثير العين في حياة الإنسان واستدلّوا على ذلك بشواهد عديدة من الرّوايات والتاريخ. ونحن بحول الله وقوّته سوف نبحث عن هذا الموضوع عند حديثنا عن قوله تعالى :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ) .(1) ونثبت انّه برغم الخرافات الكثيرة التي لفّها العوام حوله الّا انّ مقدارا من هذا الأمر له حقيقة موضوعية حيث ثبت علميا انّ أمواج سيّالة تخرج من العين وتمتلك بعض المواصفات المغناطيسيّة.

وهناك سبب آخر ذكره المفسّرون وهو انّ دخول هذه المجموعة الى مصر بوجوههم المشرقة وأجسامهم الرشيقة القويمة والسير في شوارعها ، قد يثير

__________________

(1) سورة ن والقلم ، 25.

٢٦٠