الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 274611
تحميل: 4796


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274611 / تحميل: 4796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

5 ـ التوسّل جائز :

يستفاد من الآيات ـ آنفة الذكر ـ انّ طلب الاستغفار من الآخرين غير مناف للتوحيد ، بل هو سبيل الى الوصول الى لطف الله سبحانه ، والّا فكيف كان يمكن ليعقوب ان يستجيب لطلب ابنائه في ان يستغفر لهم وان يجيبهم بالإيجاب على توسّلهم به.

وهذا الأمر يدلّ على ان التوسّل بأولياء الله جائز على الإجمال ، والأشخاص الذين يرون ذلك مخالفا لاصل التوحيد غافلون عن نصوص القرآن ، او انّ التعصّب المقيت يحجب ابصارهم عن تلك النصوص.

6 ـ نهاية الليلة السوداء

انّ الدرس الكبير الذي نستلهمه من الآيات المتقدّمة هو انّه مهما كانت المشاكل والحوادث صعبة وعسيرة ، ومهما كانت الأسباب والعلل الظاهرية غير تامّة ومحدودة ، ومهما كان النصر او الفرج بطيئا (او غير متحقّق فعلا) فإنّ ايّا من أولئك لا يمنع من الرجاء والأمل بلطف الله ، فالله الذي أعاد البصر برائحة القميص ونقل رائحة ذلك القميص من مسافة بعيدة ، وردّ العزيز المفتقد بعد سنين طويلة ، قادر على ان يضمّد القلوب المجروحة من الفراق ، وان يشفي آلام النفوس.

اجل انّنا نجد الدرس التوحيدي الكبير ينطوي في هذا القصص والتاريخ ، وهو انّه لا شيء على الله بعزيز ولا عسير ، بل يهون كلّ شيء بأمره وارادته.

( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

* * *

٣٠١

الآيات

( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) )

التّفسير

عاقبة امر يوسف وأبيه واخوته :

مع وصول القافلة التي تحمل أعظم بشارة من مصر الى كنعان ، وعودة البصر

٣٠٢

الى يعقوب ، ارتفعت اهازيج في كنعان. فالبيت الذي لم يخلع اهله عنهم ثياب الحزن والاسى لسنين عديدة ، أصبح غارقا في السرور والحبور ، فلم يكتموا رضاهم عن هذه النعم الالهيّة ابدا.

والآن ينبغي على اهل هذا البيت ـ وفقا لوصيّة يوسف ـ ان يتحرّكوا ويتّجهوا نحو مصر ، وتهيّأت مقدّمات السفر من جميع النواحي ، وركب يعقوب راحلته وشفتاه رطبتان بذكر الله وتمجيده ، وقد منحه عشق يوسف قوّة وعزما الى درجة وكأنّه عاد شابا من جديد.

وهذا السفر على خلاف الاسفار السابقة ـ التي كانت مقرونة لدى اخوة يوسف بالقلق والحزن ـ كان خاليا من ايّة شائبة من شوائب الهمّ والغمّ. وحتّى لو كان السفر بنفسه متعبا ، فهذا التعب لم يكن شيئا ذا بال قبال ما يهدفون اليه في مسيرهم هذا.

كانوا يطوون الليالي والايّام ببطء ، لانّ الشوق كان يحيل كلّ دقيقة الى يوم او سنة ، ولكن انتهى كلّ شيء ولاحت معالم مصر وأبنيتها من بعيد بمزارعها الخضر وأشجارها الباسقة السامقة وعماراتها الجميلة.

الّا انّ القرآن الكريم ـ كعادته دائما ـ حذف هذه المقدّمات التي يمكن ان تدرك بأدنى تفكّر وتأمّل ، فقال في هذا الشأن :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) .

وكلمة «آوى» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني في الأصل انضمام شيء الى شيء آخر ، وضمّ يوسف أبويه اليه كناية عن احتضانهما ومعانقتهما.

وأخيرا تحقّقت احلى سويعات الحياة ليعقوب ، وفي هذا اللقاء والوصال الذي تمّ بين يعقوب ويوسف بعد سنين من الفراق ، مرّت على يعقوب ويوسف لحظات لا يعلم الله عواطفها في تلك اللحظات الحلوة ، وايّة دموع انسكبت من عينيهما من الفرح.

٣٠٣

وعندها التفت يوسف الى اخوته وأبويه و( قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) لانّ مصر أصبحت تحت حكم يوسف في امن وأمان واطمئنان.

ويستشفّ من هذه الجملة انّ يوسف كان قد خرج الى خارج بوّابة المدينة لاستقبال والديه واخوته ، ولعلّ التعبير ب( دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ) يحتمل ان يكون يوسف قد أمر أن تنصب الخيام هناك «خارج المدينة» وان تهيأ مقدّمات الاستقبال لأبويه واخوته.

فلمّا دخلوا القصر أكرمهم يوسفعليه‌السلام ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) .

وكانت هذه العظمة من النعمة الالهيّة واللطف والموهبة التي منّ الله بها على يوسف قد ادهشت اخوة يوسف وأبويه فذهلوا جميعا( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) .

وعندها التفت يوسف الى أبيه( وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ ) .

الم يكن انّي رأيت احد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين؟! فانظر يأبت كما كنت تتوقّع من عاقبة امري( قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ) ( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ) .

الطريف هنا انّ يوسف تكلّم هنا عن سجنه في مصر من بين جميع مشاكله ولم يتكلّم على الجبّ مراعاة لإخوته.

ثمّ أضاف يوسف قائلا :( وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) .

ومرّة اخرى يظهر هنا يوسف مثلا آخر من سعة صدره وعظمته ، ودون ان يقول : من هو المقصّر ، وانّما يقول بصورة مجملة انّ الشيطان تدخّل فنزغ بيني وبين اخوتي ، فهو لا يريد ان يتشكّى من اخطاء اخوته السالفة.

والتعبير عن ارض كنعان بالبدو تعبير طريف وكاشف عن مدى الاختلاف بين تمدّن مصر وتخلّف كنعان «حضاريّا».

وأخير يقول يوسف : انّ جميع هذه المواهب هي من قبل الله ، ولم لا تكون

٣٠٤

كذلك فـ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ ) .

فيتولّى امور عباده بالتيسير والتدبير وهو يعلم من هو المحتاج ومن هو الجدير بالاستجابة( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .

ثمّ يلتفت يوسف نحو مالك الملك الحقيقي وولي النعمة الدائمة فيقول شاكرا راجيا :( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

وهذا العلم البسيط بحسب الظاهر «تأويل الأحاديث» كم كان له من اثر عظيم في تغيير حياتي وحياة جماعة آخرين من عبادك ، وما أعظم بركة العلم! فأنت يا ربّ :( فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

ولذلك فقد خضعت واستسلمت قبال قدرتك جميع الأشياء.

ربّاه :( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .

اي انّني لا اطلب دوام الملك وبقاء الحكم والحياة الماديّة منك يا ربّ ، لانّ هذه الأمور جميعها فانية وليس فيها سوى البريق الجذّاب. بل اطلب منك يا ربّ ان تكون عاقبة امري على خير ، وان اقضي حياتي وأموت مؤمنا في سبيلك مسلّما لارادتك ، وان أكون في صفوف الصالحين. فهذه الأمور هي المهمّة لديّ فحسب.

* * *

بحوث

1 ـ هل السجود لغير الله جائز؟!

كما بيّنا في الجزء الاوّل من هذا التّفسير عند بحثنا في شأن سجود الملائكة لآدم ، فقلنا : انّ السجود بمعنى العبادة يختص بالله تعالى ولا تجوز العبادة لاي احد في ايّ مذهب الّا لله سبحانه وهذا هو المراد من توحيد العبادة الذي هو قسم مهمّ من التوحيد الذي دعا اليه جميع الأنبياء.

٣٠٥

فبناء على هذا لم يكن يوسف وهو نبيّ الله يسمح لأحد ان يسجد له ويعبده من دون الله ، ولا النّبي العظيم يعقوب كان يقدّم على مثل هذا الأمر ، ولا القرآن الكريم كان يعبّر عنه بأنّه عمل جدير او على الأقل عمل مجاز.

فبناء على ذلك فإنّ السجود المشار اليه في الآية ـ محلّ البحث ـ امّا انّه كان «سجدة الشكر» لله تعالى الذي اولى يوسف هذه المواهب والمقام العظيم ، وفرّج عن آل يعقوب كربهم وأزال عنهم همومهم ، وهذا السجود في الوقت الذي كان لله ، بما انّه كان من اجل عظمة موهبة يوسف ، فإنّه كان يعتبر تعظيما وتكريما ليوسف ايضا ، ومن هذا المنطلق فإنّ الضمير في (له) الذي يعود على يوسف قطعا ينسجم وهذا المعنى تماما.

او انّ المراد من السجود هو مفهومه الواسع ، اي الخضوع والتواضع ، لانّ السجدة ـ او السجود ـ لا يأتي اي منهما بمعناه المعروف دائما ، بل ربّما يرد بمعنى الخضوع والتواضع أحيانا ، فلذا قال بعض المفسّرين : انّ التحيّة او التواضع المتداول آنئذ كان الانحناء والتعظيم ، وانّ المراد من السجود في الآية هو هذا المعنى.

الّا انّه مع الالتفات الى جملة «خرّوا» التي يعني مفهومها الهويّ نحو الأرض فإنّه لا يستفاد من السجود في الآية الانحناء والخضوع (هنا).

وقال بعض المفسّرين العظام : انّ سجود يعقوب واخوة يوسف وامّهم كان لله سبحانه ، الّا انّ يوسف كان ـ بمثابة الكعبة ـ قبلة لهم ، ولهذا جاء في بعض تعابير العرب قولهم : فلان صلّى للقبلة(1) .

الّا انّ المعنى الاوّل يبدو اقرب للنظر ، وخاصّة انّ بعض الرّوايات الواردة عن اهل البيتعليهم‌السلام تقول : «كان سجودهم لله ، او عبادة لله»(2) .

__________________

(1) راجع تفسير الميزان ، وتفسير الفخر الرازي ذيل الآية محل البحث.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 467.

٣٠٦

كما جاء في بعض الرّوايات انّ سجودهم كان طاعة لله وتحيّة ليوسف(1) .

كما انّ السجود لآدم كان سجودا لله العظيم الذي خلق مثل هذا الخلق البديع ، وهو في الوقت الذي يعدّ عبادة لله فهو دليل على احترام آدم وعظمته.

وهذا الأمر يشبه تماما ان يؤدّي رجل ـ مثلا ـ عملا مهمّا عظيما ، فنسجد نحن لله الذي خلق مثل هذا الإنسان ، فهذا السجود هو لله كما انّه في الوقت ذاته يعدّ احتراما وتعظيما للرجل ايضا.

2 ـ وساوس الشيطان :

انّ جملة( نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) مع ملاحظة انّ نزغ بمعنى الدخول في امرّ ما بقصد الفساد او الإفساد تدلّ على انّ لوساوس الشيطان في مثل هذه الحوادث أثرا مهمّا دائما ، الّا انّنا نوّهنا من قبل بأنّ هذه الوساوس لوحدها لا تعمل شيئا ، فالمصمّم الأخير هو الإنسان نفسه ، بل هو الذي يفتح أبواب قلبه للشيطان ويسمح له بالدخول.

فبناء على ذلك فليس في الآية ـ محلّ البحث ـ امر خلاف اصل حريّة الارادة أساسا. غاية ما في الأمر انّ يوسفعليه‌السلام بما لديه من حلم وسعة صدر لم يرغب ان يحرج اخوته ويزيد في خجلهم ، فهم كانوا خجلين الى درجة كافية ، ولهذا لم يشر الى المصمّم النهائي وانّما ذكر وساوس الشيطان التي تعدّ العالم الثانوي فحسب.

3 ـ الأمن نعمة الله الكبرى؟

لقد أشار يوسف الى مسألة الأمن من بين جميع المواهب والنعم بمصر ، وقال لأبويه واخوته( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) وهذا الأمر يدلّ على انّ

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 468.

٣٠٧

نعمة الأمن أساس جميع النعم ، والحقّ انّها كذلك ، لانّه متى ذهبت نعمة الأمن ، فإنّ سائر مسائل الرفاه والمواهب المادية والمعنوية يحدق بها الخطر.

ففي جوّ او محيط غير آمن ، ليس بالمقدور اطاعة الله فيه ولا الحياة الحرّة الكريمة ، كما ليس بمقدور الإنسان ان يفكّر تفكيرا مطمئنا هادئا ، ولا السعي والجدّ والجهاد نحو تحقّق الاهداف الاجتماعية ايضا.

وهذه الجملة لعلّها اشارة الى هذه اللطيفة ، وهي انّ يوسف يريد ان يقول : انّ ارض مصر في عهدي وحكومتي ليست هي تلك الأرض في عهد الفراعنة وحكمهم ، فأولئك الظالمون المستكبرون المستثمرون الانانيون ولّوا ومضوا كما مضى ذلك التعذيب والأذى ، فالجوّ جو آمن تماما.

4 ـ اهميّة مقام العلم :

ومرّة اخرى يعوّل يوسفعليه‌السلام في انتهاء عمله وامره على مسألة علم تعبير الرؤيا ، ويجعل هذا العلم البسيط ـ ظاهرا ـ الى جانب تلك الحكومة العظمى ومن دون منازع ، وهذا يكشف عن تأكيده على اهميّة العلم مهما كان بسيطا ، فيقول :( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) .

5 ـ حسن العاقبة :

قد يتقلّب الإنسان في طول عمره في اشكال مختلفة متعدّدة ، الّا انّ من المسلّم به انّ الصفحات الاخيرة من حياته اهمّ من جميع ما مضى عليه ، لانّ سجل عمره ينتهي بانتهائها ويتعلّق الحكم النهائي ، لذا فإنّ الرجال المؤمنين يطلبون من الله دائما ان تكون هذه الصفحات من العمر مشرقة نيّرة ، وان يختم لهم بالخير.

ونجد يوسفعليه‌السلام يطلب من الله ـ هنا ـ هذا الأمر نفسه فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً

٣٠٨

وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .

وليس معنى هذا الكلام طلب الموت من الله ، كما تصوّره ابن عبّاس فقال : لم يطلب احد من الأنبياء الموت من الله الّا يوسف ، فعند ما توفّرت له اسباب حكومته تأجّج العشق (والتعلّق بالله) في نفسه فتمنّى لقاء الله.

بل طلب يوسف انّما كان الشرط والحالة فحسب ، اي انّه طلب ان يكون عند الوفاة مؤمنا مسلما ، وقد كان ابراهيم ويعقوب يوصيان أبناءهما بهذه الوصيّة ايضا بقولهما لهم :( فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) .(1) وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى.

6 ـ هل جاءت امّ يوسف الى مصر

يستفاد من ظاهر الآيات ـ آنفة الذكر ـ بصورة جيّدة انّ امّ يوسف كانت يومئذ حيّة ، وقد جاءت مع يعقوب وابنائها الى مصر ، وسجدت شاكرة هذه النعمة. الّا انّ بعض المفسّرين يصرّون على انّ امّ يوسف «راحيل» كانت قد انتقلت من الدنيا يومئذ ، وانّما التي جاءت الى مصر خالته التي تعدّ بمثابة امّه.

ونقرا في سفر التكوين من التوراة ـ الفصل 35 الجملة 18 ـ انّ راحيل بعد ان ولدت بنيامين رحلت عن الدنيا. وجاء في بعض الرّوايات عن (وهب بن منبه) و (كعب الأحبار) هذا المعنى ذاته ايضا ، ويبدو انّه مأخوذ من التوراة.

وعلى اي حال ، فليس بوسعنا ان نغضي عن ظاهر آيات القرآن التي تقول : انّ امّ يوسف كانت حيّة آنئذ ، ونؤول ذلك ونوجّهه دون اي دليل.

7 ـ عدم ذكر القصّة للأب :

نقرا في رواية عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قالعليه‌السلام : «قال يعقوب ليوسف :

__________________

(1) البقرة ، 132.

٣٠٩

يا بني حدّثني كيف صنع بك إخوتك؟!

قال : يا أبت دعني.

فقال : أقسمت عليك الّا اخبرتني!

فقال له : اخذوني واقعدوني على راس الجبّ ، ثمّ قالوا لي : انزع قميصك ، فقلت لهم انّي اسألكم بوجه أبي يعقوب ان لا تنزعوا قميصي ولا تبدوا عورتي ، فرفع فلان السكّين عليّ ، وقال : انزل.

فصاح يعقوب فسقط مغشيّا عليه ثمّ أفاق ، فقال له : يا بني كيف صنعوا بك؟! فقال يوسف : انّي اسألك بإله ابراهيم وإسماعيل وإسحاق الّا اعفيتني.

قال : فتركه» إلخ(1) .

وهذا الأمر يدلّ على انّ يوسف لم يرغب بأيّ وجه ابدا ان يعيد في ذهنه او في ذهن أبيه الماضي المرير ، بالرغم من انّ رغبة يعقوب في التقصّي عن الأمر لم تدعه يستقرّ.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 5 ، ص 265.

٣١٠

الآيات

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) )

التّفسير

الأدعياء مشركون غالبا!

بعد ما انتهت قصّة يوسفعليه‌السلام بكلّ دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخيّة انتقل الكلام الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول القرآن الكريم :( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ ) .

٣١١

انّ هذه المعلومات الدقيقة لا يعلمها الّا الله ، او واحد من الذين كانوا حاضرين هناك ، وبما انّك لم تكن حاضرا لديهم فالوحي الالهي فقط هو الذي جاءك بهذه الاخبار.

ومن هنا يتّضح انّ قصّة يوسف بما انّها وردت في التوراة فأهل الحجاز عندهم معلومات تقريبيّة عنها ، ولكن كلّ هذه الحوادث لم تطرح بهذه الدقّة في جزئياتها ابدا ، وحتّى في المحافل الخاصّة السابقة لم تكن تعرف بدون اضافة وخرافة.

وعلى اي حال كان لزاما على الناس ان يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الالهيّة ، وان يتراجعوا عن طريق الغيّ ، ولكن يا ايّها النّبي :( وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) .

انّ الوصف ب (الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّ يؤمن الناس ، ولكن ما الفائدة ، فإصراره وشوقه لم يكونا كافيين ، فمن شرط الايمان الاستعداد والقابلية في نفس الشخص.

انّ أبناء يعقوبعليه‌السلام كانوا يعيشون في بيت الوحي والنبوّة ، ومع ذلك نرى كيف عصفت بهم الأهواء حتّى كادوا ان يقتلوا أخاهم ، فكيف نتوقّع من جميع الناس ان يتغلّبوا على أهوائهم وشهواتهم مرّة واحدة وبشكل جماعي ويؤمنوا بالله؟

وهذه الآية بالاضافة الى ما ذكرنا هي تسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لا ييأس ابدا من إصرارهم على الكفر والذنوب ولا يستوحش الطريق لقلّة أصحابه ، كما نقرا في آيات اخرى من القرآن الكريم الكهف (6) :( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) وقوله تعالى :( وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ) فهؤلاء في الواقع ليس لهم اي عذر او مبرّر لعدم قبول الدعوة بالاضافة الى ما اتّضح من علامات الحقّ انّك لم تسألهم اجرا حتّى يكون مبرّرا لمخالفتك :

٣١٢

( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) .

وهذه الدعوة عامّة للجميع ، ومائدة واسعة للعام والخاص وكلّ البشرية.

( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ) .

فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كلّ يوم! تشرق الشمس عند الصباح لتنشر أشعتها الذهبية على الجبال والوديان والصحاري والبحار ، وتغرب عند المساء ويعمّ الليل بستاره المظلم كلّ مكان.

انّ اسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان ، وهدير المياه ، وحركة النسيم ، وكلّ هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث ان لم يتدبّر احد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.

كثيرة هي الدلائل التي نعتبرها صغيرة وغير مهمّة ، فنحن نمرّ عليها كلّ يوم ولا نعير لها اهميّة ، وفجأة يظهر عالم ذو بصيرة فيكتشف بعد دراسة أشهر وسنين اسرار هذه الدلائل ويذهل العالم بها.

المهمّ ان نعلم انّ كلّ ما في العالم ليس زخرفا وبدون فائدة ، لانّها من مخلوقات الله الذي لا نهاية لعلمه ولا حدّ لحكمته. وانّما الساذج والزخرف فهم أولئك الذين يعتقدون بأنّ العالم وجود عبث وليس له غاية وفائدة. ولهذا فلا تعجب لعدم ايمانهم بالآيات المنزلة عليك ، لانّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ) .

قد يتصوّر هؤلاء انّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالبا ما توجد جذور الشرك في افكارهم وأقوالهم وضمائرهم.

ليس الايمان هو الاعتقاد بوجود الله فقط ، فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى الله ، فتكون أقواله واعماله وكلّ أفعاله خاضعة له. ولا يعترف بغير قانون الله ، ولا يضع طوق العبوديّة في رقبته لغيره ، ويمتثل بقلبه

٣١٣

وروحه لكلّ الأوامر الالهيّة ولو كانت مخالفة لهواه ، ويقدّم دائما الإله على الهوى ، هذا هو الايمان الخالص من الشرك في العقيدة والقول والعمل ، فلو حسبنا حسابا دقيقا في هذا المجال لوجدنا انّ الموحّدين الصادقين والمخلصين قليلون جدّا.

ولهذا السبب نقرا في الرّوايات الاسلامية ما جاء عن الامام الصادقعليه‌السلام «الشرك أخفى من دبيب النحل»(1) .

أو نقرا : «انّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم : «اذهبوا الى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء»(2) .

ونقل عن الامام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية أعلاه حيث يقول «شرك طاعة وليس شرك عبادة ، والمعاصي التي يرتكبون وهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره»(3) .

وفي بعض الرّوايات نقرا انّ المقصود من (شرك النعمة) بهذا المعنى انّ الله يهب الإنسان شيئا فيقول : انّ فلانا قد جاءني به فلو لم يكن فلان لكنت من الهالكين! وكانت حياتي هباء منثورا ، فهنا قد اعتبر الشريك مع الله الشخص الذي جرت على يده نعمة الله!

الخلاصة : انّ ما يفهم من الشرك ليس الكفر وانكار الإله وعبادة الأصنام فقط ، كما جاء في حديث عن الامام الرضاعليه‌السلام «شرك لا يبلغ به الكفر» ولكن الشرك بمعناه الواسع يشمل جميع هذه الأمور.

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة 697.

(2) في ظلال القرآن ، المجلّد الخامس ، صفحة 53.

(3) نور الثقلين ، ج 2 ، صفحة 275 ـ اصول الكافي ، المجلّد الثّاني ، صفحة 292.

٣١٤

وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم أولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة مرّ الكرام ويشركون في اعمالهم حيث يقول :( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

«الغاشية» : الغطاء او الستار ، ويقال للثوب الكبير الذي يغطّي سرج الجواد. ومعناه هنا البلاء والجزاء الذي يعمّ المفسدين(1) .

«والساعة» : القيامة ، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.

ويحتمل ان تكون كناية عن الوقائع العظيمة التي تحدث قبل يوم القيامة مثل الزلازل والعواصف والصواعق ، او اشارة الى ساعة الموت ، ولكن التّفسير الاوّل اقرب الى المعنى كما نرى.

* * *

__________________

(1) غاشية مؤنثة لانّها صفة «للعقوبة» التي هي مقدّرة.

٣١٥

الآيات

( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) )

التّفسير

اصدق الدروس والعبر :

في الآية الاولى من هذه المجموعة يتلقّى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأوامر لتحديد الطريق

٣١٦

والمنهج الذي يتّبعه ، فيقول القرآن الكريم :( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ ) ثمّ يضيف :( عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) .

وهذه الجملة توضّح انّ كلّ فرد مسلم مقتد بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له نفس الدور في الدعوة الى الحقّ ، ولا بدّ من دعوة الآخرين الى الله ، من خلال أفعالهم وأقوالهم ، وكذلك تؤكّد هذه الجملة على انّ القائد يجب ان تكون له بصيرة ومعرفة كافية ، والّا فإنّ دعوته ليست الى الحقّ ، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم :( وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

فهو يؤكّد على نزاهة الخالق الذي يدعو اليه وكماله المطلق الخالي من النقصان وانّه لا يتّخذ معه شريكا.

هذه في الواقع من خصائص القائد الصادق ، ان يعلن بصراحة عن اهدافه وخططه ، وان يسير هو والتابعين له على منهج واضح وسليم ، لا ان تسودهم هالة من الإبهام في الهدف والطريقة. او ان يسير كلّ واحد منهم في جهة معيّنة.

فواحدة من الطرق التي نتعرّف بها على القيادات الصادقة من الكاذبة هو انّ القيادة الصادقة تتميّز بصراحة القول ووضوح الطريق امّا الاخرى فهي لكي تحاول التغطية على سلوكها وتلتجئ الى الحديث المبهم والمتعدّد الجوانب.

انّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلّقة بيوسف تشير الى انّ طريقة ومنهج النّبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النّبي. فهو كان يدعو الى «الله الواحد القهّار» حتّى في زوايا السجن ، امّا غيره فكان يدعو الى اسماء انتقلت اليه بسبب التقليد من جاهل الى جاهل آخر. امّا سيرة الأنبياء والرسل كلّها واحدة.

وبما انّ الأقوام الضالّة والجاهلة كانت دائما تثير هذا الاعتراض على الأنبياء وهو انّكم بشر؟! ولماذا لا تكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما انّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الاعتراض بالنسبة الى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته العامّة ، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الاعتراض فيقول :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ

٣١٧

قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) .

هؤلاء الرّسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى ، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم واحتياجاتهم ومشاكلهم.

فالوصف هنا ب( مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) بالاضافة الى ما تشمله القرية في اللغة من معنى المدينة او الرّيف في مقابل «البدو» التي تطلق على اهل الصحراء ، فإنّها قد تشير الى انّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء ـ كما صرّح بذلك بعض المفسّرين ـ لانّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلّباتها.

صحيح انّ اكثر سكّان ارض الحجاز كانوا من البدو ، ولكن الرّسول من اهل مكّة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّا ، وصحيح ايضا انّ مدينة كنعان لو قيست بأرض مصر التي كان يوسف يحكم فيها لكانت صغيرة وغير مهمّة ولذلك كان يعبّر عنها بالبدو. ولكن نحن نعلم انّ يعقوب وأبناءه لم يكونوا من اهل البادية ابدا ، فهم كانوا يعيشون في هذه المدينة الصغيرة كنعان.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم : إذا ما أراد هؤلاء ان يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة الى الله فإنّ عليهم ان يسيروا ليروا آثار السابقين :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

انّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الالهي ، أفضل درس لهم ، درس حي وملموس للجميع.( وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

لماذا؟ لانّ الدنيا دار مليئة بالمصائب والآلام وغير باقية ، امّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.

( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ ) .

٣١٨

تشير هذه الآية الى ادقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فنقول : انّ الأنبياء يواجهون دائما مقاومة عنيفة من قبل اقوامهم وطواغيت زمانهم حتّى يصل الحال بالأنبياء الى اليأس الى حدّ يظنّون انّ اتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة الى الحقّ ، وفي هذه الأثناء حيث انقطع أملهم في كلّ شيء أتاهم نصرنا. وفي نهايتها تشير الى عاقبة المجرمين( وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) .

فهذه سنّة الله في الذين اصرّوا على اعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم ، فهم وبعد إتمام الحجّة عليهم ينالهم العذاب الالهي فلا تستطيع اي قوّة ان تردّه.

في تفسير هذه الجملة من الآية :( ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ومن المقصود بها ، هناك عدّة آراء للمفسّرين :

1 ـ انّ كثيرا من علماء التّفسير يرون ما قلناه سابقا ، وخلاصته : انّ عمل الأنبياء يصل الى درجة يعتقدون فيها انّ كلّ الناس سوف يكذبوهم ، حتّى تلك المجموعة التي تظهر ايمانها ولكنّها غير راسخة في عقيدتها.

2 ـ ويحتمل في تفسير الآية انّ فاعل «ظنّوا» هم المؤمنون ، وانّ المشاكل والاضطرابات تصل الى حدّ بأن يسوء ظنّهم بما وعدهم الأنبياء من النصر ويخيل إليهم انّه خلاف الواقع؟ وليس بعيدا سوء الظنّ هذا من الافراد الذين آمنوا حديثا.

3 ـ وبعض آخر اعطى تفسيرا ثالثا للآية ، وخلاصته : انّ الأنبياء ـ بدون شكّ ـ كانوا بشرا ، فحين يزلزلوا زلزالا شديدا وتبدوا جميع الأبواب امامهم موصدة ظاهرا ، ولا يرى في الأفق فرج ، والحوادث المتتالية تعصف بهم ، وصرخات المؤمنين الذين نفذ صبرهم تصل الى اسماعهم ، نعم في هذه الحالة وبمقتضى الطبع البشري قد يتبادر الى أذهانهم انّ الوعد بالنصر بعيد عن الصحّة! او انّ النصر الموعود له شروطه التي لم تتحقّق بعد ، ولكن سرعان ما يتغلّبون

٣١٩

على هذه الأفكار ويبعدونها عن أذهانهم ويشع في قلوبهم بصيص الأمل ، ومن ثمّ تتّضح لهم بشائر النصر.

وشاهدهم على هذا التّفسير الآية (214) سورة البقرة :( ... حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ) .

ولكن مجموعة اخرى من المفسّرين أمثال العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان و «الرّازي» في تفسيره الكبير ، بعد ما ذكروا هذا الاحتمال قالوا ببطلانه لانّه حتّى هذا المقدار من التوهّم ليس من مقام الأنبياء ، وعلى ايّة حال فالأصحّ هو التّفسير الاوّل.

وآخر آية من هذه السورة ذات محتوى شامل وجامع لكلّ الأبحاث التي ذكرناها في هذه السورة ، وهي :( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

فهي مرآة يستطيعون من خلالها ان يروا عوامل النصر والهزيمة ، الهناء والحرمان ، السعادة والشقاء ، العزّ والذلّة ، والخلاصة كلّ ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة. وهي مرآة لكلّ تجارب المجتمعات السابقة والرّجال العظام. ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كلّ البشر. ولكن اولي الألباب وذوي البصائر فقط باستطاعتهم ان يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه :( ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) .

فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التأريخ الصحيح للأمم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء ، بل انّ الكتب السّماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدّقه وتؤيّده وبالاضافة الى ذلك ففي هذه الآيات كلّ ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله :( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ) .

ولهذا السبب فهي( وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) فالظاهر من الآية أعلاه

٣٢٠