الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 274614
تحميل: 4796


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274614 / تحميل: 4796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

الطواغيت ، كما يشمل الأعمال الأقل اجراما منها مثل بخس الناس أشياءهم ، ويشمل كذلك اي خروج عن حالة الاعتدال كما أشرنا اليه سابقا. وبالنظر الى انّ العقوبة يجب ان تكون مطابقة للجريمة يتّضح لنا انّ كلّ مجموعة من هؤلاء المفسدين لها عقوبة معيّنة وجزاء خاص.

ونرى في الآية (33) من سورة المائدة التي ذكرت «الفساد في الأرض مع محاربة الله ورسوله» انّ هناك اربع عقوبات ويجب على الحاكم الشرعي ان يختار العقوبة المناسبة على مقدار الجريمة (القتل ـ الصلب ـ قطع الايدي والأرجل ـ النفي) كما بيّن فقهاؤنا في كتبهم شروط وحدود المفسد في الأرض وعقوباته(1) .

ولأجل ان نجتثّ هذه المفاسد ، يجب ان نستخدم الوسائل الكافية في كلّ مرحلة من مراحلها ، ففي المرحلة الاولى نستخدم أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق النصائح والتذكير ، ولكن إذا ما استوجب الأمر نستعمل الشدّة حتّى لو ادّى ذلك الى القتال.

وبالاضافة الى ما أشرنا اليه ، فإنّ الجملة( وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ) ترشدنا الى هذه الحقيقة في حياة المجتمع الانساني ، وهي انّ الفساد الاجتماعي لا يبقى في مكان معيّن ولا يمكن حصره في منطقة معيّنة ، بل ينتشر بين اوساط المجتمع وفي كافّة بقاع الأرض ويسري من مجموعة الى اخرى.

ويستفاد من الآيات القرآنية انّ واحدة من اهداف بعثة الأنبياء هو إنهاء حالة الفساد في الأرض (في معناه الواسع) كما نقرا في سورة هود الآية (88) قول النّبي شعيبعليه‌السلام ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) .

__________________

(1) ونحن أشرنا اليه بشكل مفصّل في ذيل الآية (33) من سورة المائدة.

٤٠١

2 ـ الرزق بيد الله سبحانه وتعالى ولكن ...!

لا نستفيد من الآية أعلاه فقط أنّ الرزق في زيادته ونقصانه بيد الله ، بل نستفيد من آيات أخر انّ الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء وينقصه لمن يشاء ، ولكن ليس كما يعتقده بعض الجهلاء من عدم الكسب والجلوس في زاوية البيت حتّى يبعث الله لهم الرزق ، ان هؤلاء الافراد ـ الذين يعتبر تفكيرهم السلبي ذريعة لمن يقول بأنّ الدين افيون الشعوب ـ قد غفلوا عن نقطتين اساسيتين هما :

اوّلا : انّ الارادة والمشيئة الالهيّة التي اشارت إليها الآيات القرآنية ليست مسألة اعتباطية وغير محسوبة ، بل ـ وكما قلنا سابقا ـ انّ المشيئة الالهيّة غير منفصلة عن حكمته جلّ وعلا وتدخل فيها الاستعدادات والتوفيقات.

ثانيا : انّ هذه المسألة لا تعني نفي الأسباب ، لانّ عالم الأسباب هو عالم الوجود ، وهذه العوالم وجدت بإرادة الله وهي غير منفصلة عن المشيئة التشريعيّة.

وبعبارة اخرى : انّ ارادة الله في مجال بسط الرزق نقصه مشروطة بشرائط تتحكّم في حياة الناس ، فالسعي والإخلاص والإيثار ، وبعكس ذلك الكسل والبخل وسوء النيّة ، لها دور فعّال وكبير ، ولهذا السبب نرى القرآن الكريم يشير مرارا الى انّ الإنسان رهين بسعيه وارادته وعمله ، وما يستفيده من حياته انّما هو بمقدار هذا السعي والاجتهاد( لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) .

ولهذا فإنّ هناك بابا في السعي لتحصيل الرزق يذكره المحدّثون في موسوعاتهم الحديثة «كوسائل الشيعة» في باب التجارة ، ويوردون أحاديث كثيرة في هذا المجال ، كما انّ هناك أبوابا اخرى تذمّ البطالة والكسل ، ومن جملتها الحديث المرويّ عن الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : «انّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر»(1) .

وعن الامام الصادقعليه‌السلام «لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ آباءنا كانوا

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلّد 12 ، صفحة 37.

٤٠٢

يركضون فيها ويطلبونها»(1) .

وعن الامام الباقرعليه‌السلام قال : «انّي لابغض الرجل ان يكون كسلانا عن امر دنياه ، ومن كسل عن امر دنياه فهو عن امر آخرته أكسل»(2) .

وعن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام «انّ الله تعالى ليبغض العبد النوّام ، انّ الله ليبغض العبد الفارغ»(3) .

* * *

__________________

(1) وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 37 و 38.

(2) وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 38.

(3) وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 37 و 38.

٤٠٣

الآيات

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) )

التّفسير

الا بذكر الله تطمئنّ القلوب :

في سورة الرعد ـ كما أشرنا سابقا ـ بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد والنبوّة ، فالآية الاولى من هذه المجموعة تبحث مرّة اخرى في دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبيّن واحدا من اعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

جملة «يقول» فعل مضارع للدلالة على انّ هذا العذر كان يجري على ألسنتهم كثيرا ، رغم ما يرونه من معجزات الرّسول (فعلى كلّ نبي ان يظهر المعجزة كدليل على صدقه) ومع ذلك كانوا يحتجّون عليه ولا يؤمنون بالمعاجز

٤٠٤

السابقة ، ويطلبون منه معاجز جديدة تلائم افكارهم.

وبعبارة اخرى إنّ هؤلاء وجميع المنكرين لدعوة الحقّ كانوا دائما يطلبون «المعاجز الاقتراحية» ، ويتوقّعون من النّبي ان يجلس في زاوية الدار ويظهر لكلّ واحد منهم المعجزة التي يقترحها ، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها!.

في الوقت الذي نرى فيه انّ الوظيفة الرئيسيّة للأنبياء هي التبليغ والإرشاد والإنذار وهداية الناس ، وامّا المعجزة فهي امر استثنائي وتكون بأمر من الله لا من الرّسول ، ولكن نحن نقرا في كثير من الآيات القرآنية انّ هذه المجموعة المعاندة لا تأخذ هذه الحقيقة بنظر الاعتبار ، وكانت تؤذي الأنبياء دائما بهذه الطلبات. ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول :( قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) .

وهذه اشارة الى انّ العيب ليس من ناحية الاعجاز ، لانّ الأنبياء قد أظهروا كثيرا من المعاجز ، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصّب والجهل والذنوب التي تصدّ عن الايمان.

ولأجل ذلك يجب ان ترجعوا الى الله وتنيبوا اليه وترفعوا عن عيونكم وافكاركم ستار الجهل والغرور كي يتّضح لكم نور الحقّ المبين.

تشير الآية الثانية بشكل رائع الى تفسير( مَنْ أَنابَ ) حيث يقول تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ) . ثمّ يذكر القاعدة العامّة والأصل الثابت حيث يقول تعالى :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) .

وتبحث الآية الاخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول :( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) .

كثير من المفسّرين قالوا : انّ كلمة «طوبى» مؤنّث «أطيب» ، وبما انّ المتعلّق محذوف فإنّ للكلمة مفهوما واسعا وغير محدود ، ونتيجة طوبى لهم هو ان تكون لهم أفضل الأشياء : أفضل الحياة والمعيشة ، وأفضل النعم والراحة ، وأفضل

٤٠٥

الألطاف الالهيّة ، وكلّ ذلك نتيجة الايمان والعمل الصالح لأولئك الراسخين في عقيدتهم والمخلصين في عملهم.

وما ذكره جمع من المفسّرين في معنى هذه الكلمة وأوصلها صاحب مجمع البيان الى عشرة معاني ، فانّها في الحقيقة تصبّ كلّها في هذا المعنى الواسع والشامل الذي ذكرناه.

ونقرا في روايات متعدّدة انّ «طوبى» شجرة أصلها في بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او الامام عليعليه‌السلام في الجنّة ، وتنتشر أغصانها على رؤوس جميع المؤمنين وعلى دورهم ، ولعلّ هذا تجسيما لقيادتهم وإمامتهم والصلات القويّة التي تربط بين هؤلاء القادة وأصحابهم ، وتكون ثمرتها كلّ هذه النعم المختلفة.

(وإذا ما رأينا انّ طوبى جاءت مؤنثّة لاطيب الذي هو مذكّر ، فإنّ ذلك بسبب انّها صفة للحياة والمعيشة او النعمة وكلّ هذه مؤنثة).

* * *

بحوث

1 ـ كيف يطمئن القلب بذكر الله؟

انّ الاضطراب والقلق من اكبر المصاعب في حياة الناس ، والنتائج الحاصلة منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان ، والاطمئنان واحد من اهمّ اهتمامات البشر ، وإذا حاولنا ان نجمع سعي وجهاد الانسانية على طول التاريخ في بحثهم للحصول على الاطمئنان بالطرق الصحيحة غير الصحيحة ، فسوف تتكوّن لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.

يقول بعض العلماء : عند ظهور بعض الأمراض المعدية ـ كالطاعون ـ فإنّ من بين العشرة الافراد الذين يموتون بسبب المرض ـ ظاهرا ـ أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف ، وعدّة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة. وبشكل

٤٠٦

عام «الاطمئنان» و «الاضطراب» لهما دور مهمّ في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الانسانية ، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها ، ولهذا السبب الّفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلّص منه ، وكيفيّة الحصول على الراحة ، والتاريخ الانساني مليء بالمواقف مؤسفة لتحصيل الراحة ، وكيف انّ الإنسان يتشبّث بكلّ وسيلة غير مشروعة كأنواع الاعتياد على المواد المخدّرة لنيل الاطمئنان النفسي.

ولكن القرآن الكريم يبيّن اقصر الطرق من خلال جملة قصيرة ولكنّها كبيرة المعنى حيث يقول :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) !

ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والاضطراب لا بدّ من ملاحظة ما يلي :

اوّلا : يحدث الاضطراب مرّة بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل المظلم ، فيحتمل زوال النعمة ، او الأسر على يد الأعداء ، او الضعف والمرض ، فكلّ هذه تؤلم الإنسان ، لكن الايمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم ، الله الذي تكفّل برحمة عباده هذا الايمان يستطيع ان يمحو آثار القلق والاضطراب ويمنحه الاطمئنان في مقابل هذه الاحداث ويؤكّد له انّك لست وحيدا ، بل لك ربّ قادر رحيم.

ثانيا : ومرّة يشغل فكر الإنسان ماضيه الأسود فيمسي قلقا بسبب الذنوب التي ارتكبها وبسبب التقصير والزلّات ، ولكن بالنظر الى انّ الله غفّار الذنوب وقابل التوبة وغفور رحيم ، فإنّ هذه الصفات تمنح الإنسان الثقة وتجعله اكثر اطمئنانا وتقول له : اعتذر الى الله من سوالف أعمالك السيّئة واتّجه اليه بالنيّة الصادقة.

ثالثا : ضعف الإنسان في مقابل العوامل الطبيعيّة ، او مقابل كثرة الأعداء يؤكّد في نفسه حالة القلق وانّه كيف يمكن مواجهة هؤلاء القوم في ساحة الجهاد او في

٤٠٧

الميادين الاخرى؟

ولكنّه إذا تذكّر الله ، واستند الى قدرته ورحمته هذه القدرة المطلقة التي لا يمكن ان تقف امامها ايّة قدرة اخرى ، سوف يطمئنّ قلبه ، ويقول في نفسه : نعم انّني لست وحيدا ، بل في ظلّ القدرة الالهيّة المطلقة!

فالمواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال ، في الماضي او الحاضر ، وشجاعتهم النادرة حتّى في المنازلة الفردية لهم ، كلّها تبيّن حالة الاطمئنان التي تنشأ في ظلّ الايمان.

نحن نشاهد او نسمع انّ احد الضبّاط المؤمنين فقد بصره مثلا او اصابته جراحات كثيرة بعد قتال شديد مع اعداء الإسلام ولكن عند ما يتحدّث كأنّه لم يكن به شيء ، وهذه نتيجة الاستقرار والطمأنينة في ظلّ الايمان بالله.

رابعا : ومن جانب آخر يمكن ان يكون اصل المشقّة هي التي تؤذي الإنسان ، كالاحساس بتفاهة الحياة او اللاهدفية في الحياة ، ولكن المؤمن بالله الذي يعتقد انّ الهدف من الحياة هو السير نحو التكامل المعنوي والمادّي ، ويرى انّ كلّ الحوادث تصبّ في هذا الإطار ، سوف لا يحسّ باللاهدفيّة ولا يضطرب في المسيرة.

خامسا : ومن العوامل الاخرى انّ الإنسان مرّة يتحمّل كثيرا من المتاعب للوصول الى الهدف ، ولكن لا يرى من يقيّم اعماله ويشكر له هذا السعي ، وهذه العملية تؤلمه كثيرا فيعيش حالة من الاضطراب والقلق ، وامّا إذا علم انّ هناك من يعلم بهذا السعي ويشكره عليه ويثيبه ، فليس للاضطراب والقلق هنا محل من الاعراب.

سادسا : سوء الظنّ عامل آخر من عوامل الاضطراب والذي يصبّ كثيرا من الناس في حياتهم ويبعث فيهم الألم والهمّ ، ولكنّ الايمان بالله ولطفه المطلق وحسن الظنّ به التي هي من وظائف الفرد المؤمن سوف تزيل عنه حالة العذاب

٤٠٨

والقلق وتحلّ محلّها حالة الاطمئنان والاستقرار.

سابعا : الهوى وحبّ الدنيا من اهمّ عوامل القلق والاضطراب ، وقد تصل الحالة في عدم الحصول على لون خاص في الملبس ، او اي شيء آخر من مظاهر الحياة البرّاقة ان يعيش الإنسان حالة من القلق قد تستمر ايّاما وشهورا.

ولكن الايمان بالله والتزام المؤمن بالزهد والاقتصاد وعدم الاستئسار في مخالب الحياة المادية ومظاهرها البرّاقة ينهي حالة الاضطراب هذه ، وكما قال الامام عليعليه‌السلام : «دنياكم هذه أهون عندي من ورقة في فمّ جرادة تقضمها» فمن كانت له مثل هذه الرؤية كيف يمكن ان تحدث عنده حالة الخوف والقلق نتيجة لعدم الحصول على شيء من وسائل الحياة الماديّة او فقدانها؟!

ثامنا : من العوامل المهمّة الاخرى الخوف من الموت ، وبما انّ الموت لا يحصل فقط في السنّ المتأخّرة ، بل في كافّة السنين وخصوصا أثناء المرض والحروب ، والعوامل الاخرى فالقلق يستوعب كافّة الافراد. ولكن إذا اعتقدنا انّ الموت يعني الفناء ونهاية كلّ شيء (كما يعتقده المادّيون) فإنّ الاضطراب والقلق في محلّه ، ولا بدّ ان يخاف الإنسان من هذا الموت الذي ينهي عنده كلّ الآمال والاماني والطموحات. ولكن الايمان بالله يمنحنا الثقة بأنّ الموت هو باب لحياة أوسع وأفضل من هذه الحياة ، وبرزخ يمرّ منه الإنسان الى دار فضاؤها رحب ، فلا معنى للقلق حينئذ ، بل انّ مثل هذا الموت ـ إذا ما كان في سبيل الله يكون محبوبا ومطلوبا.

انّ عوامل الاضطراب لا تنحصر بهذه العوامل ، فهناك عوامل كثيرة اخرى ، ولكن كلّ مصادرها تعود الى ما ذكرناه أعلاه.

وعند ما رأينا انّ كلّ هذه العوامل تذوب وتضمحلّ في مقابل الايمان بالله سوف نصدّق انّه( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (1) .

__________________

(1) للاستفادة اكثر راجع كتاب (طرق التغلّب على الاضطراب والقلق).

٤٠٩

2 ـ الطمأنينة والخوف من الله

طرح بعض المفسّرين هنا هذا السؤال ، وخلاصته : نحن قرانا في الآية أعلاه( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ومن جانب آخر فإنّ الآية 2 من سورة الأنفال تقول :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) فهل انّ هاتين الآيتين متناقضتين؟

الجواب : انّ الطمأنينة المحمودة هي ما كانت في مقابل العوامل المادية التي تقلق الإنسان ـ كما أشرنا اليه سابقا ـ ولكن المؤمنين لا بدّ وان يكونوا قلقين في مقابل مسئولياتهم ، وبعبارة اخرى : انّ المؤمنين لا يشكون من الاضطراب المدمّر الذي يشكّل غالبية أشكال القلق والاضطرابات ، ولكن القلق البنّاء الذي يحسّ به الإنسان تجاه مسئولياته امام الله فهو المطلوب ولا بدّ منه ، وهذا هو الخوف من الله(1) .

3 ـ ما هو ذكر الله ، وكيف يتمّ؟

«الذكر» كما يقول الراغب في مفرداته : حفظ المعاني والعلوم ، ويستعمل الحفظ للبدء به ، بينما الذكر للاستمرار فيه ، ويأتي في معنى آخر هو ذكر الشيء باللسان او القلب ، لذلك قالوا : انّ الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكلّ واحد منها على نوعين : بعد النسيان او بدونه.

وعلى ايّة حال ليس المقصود من الذكر ـ في الآية أعلاه ـ هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره ، بل المقصود هو التوجّه القلبي له وادراك علمه وبأنّه الحاضر والناظر ، وهذا التوجّه هو مبدا الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير ، وهو سدّ منيع عن الذنوب ، فهذا هو الذكر الذي له كلّ هذه الآثار والبركات كما اشارت اليه عدّة من الرّوايات.

__________________

(1) وقد أشرنا الى هذه المسألة من تفسير الأمثل ذيل الآية (2) من سورة الأنفال.

٤١٠

فمن وصايا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام يقول له : «يا علي ، ثلاث لا تطيقها هذه الامّة : المواساة للأخ في ماله ، وانصاف الناس من نفسه ، وذكر الله على كلّ حال ، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر ، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف اللهعزوجل عنده وتركه»(1) .

وقال الامام عليعليه‌السلام : «الذكر ذكران : ذكر اللهعزوجل عند المصيبة ، وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرّم الله عليك فيكون حاجزا»(2) .

ولهذا السبب اعتبرت بعض الرّوايات الذكر وقاية ووسيلة دفاعية ، كما ورد عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب أصحابه يوما فقال لهم : اتّخذوا جننا ، فقالوا يا رسول الله امن عدو وقد أظلنا؟ قال : لا ، ولكن من النار ، قولوا : سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر»(3) .

وإذا ما رأينا انّ بعض الرّوايات تتحدّث عن «ذكر الله» انّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك لانّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكّر الناس بالله تعالى ، وقد روي عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) قال : «بمحمّد تطمئن القلوب وهو ذكر الله وحجابه».

* * *

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، صفحة 484.

(2) المصدر السّابق.

(3) المصدر السّابق.

٤١١

الآيات

( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) )

اسباب النّزول

قال بعض المفسّرين : انّ الآية الاولى نزلت في صلح الحديبيّة في السنة السادسة للهجرة ، وذلك عند ما أرادوا كتابة معاهدة الصلح ، قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي

٤١٢

عليه‌السلام : «اكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم ...» قال سهيل بن عمرو ومعه المشركون : نحن لا نعرف الرّحمان! وانّما هناك رحمان واحد في اليمامة «وكان قصدهم مسيلمة الكذّاب» بل اكتب «باسمك اللهم» كما كانوا يكتبونه في الجاهلية ، ثمّ قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : «اكتب : هذا ما اتّفق عليه محمّد رسول الله ...» فقال المشركون : إذا كنت رسول الله فإنّه لظلم كبير ان نقاتلك ونمنعك من الحجّ ، ولكن اكتب : هذا ما اتّفق عليه محمّد بن عبد الله! وفي هذه الأثناء غضب صحابة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : دعنا نقاتل هؤلاء المشركين ، ولكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا ، اكتب كما يشاءون» وفي هذه الأثناء نزلت الآية أعلاه ، وهي توبّخ المشركين على عنادهم ومخالفتهم في اسم الرّحمن الذي هو واحد من صفات الله جلّ وعلا.

هذا السبب في النّزول يمكن ان يكون صحيحا في حالة اعتقادنا بأنّ السورة مدنيّة حتّى توافق حادثة صلح الحديبيّة ، ولكنّ المشهور انّها مكيّة. الّا إذا اعتبرنا انّ سبب النّزول هو ردّ على المشركين كما في الآية (60) من سورة الفرقان( اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ) .

وعلى ايّة حال ، وبغضّ النظر عن سبب النزول ، فإنّ الآية لها مفهوم واضح سوف نتطرّق اليه في تفسيرنا لها.

وقال بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الثّانية : انّها جواب لمجموعة من مشركي مكّة ، حيث كانوا جالسين خلف الكعبة وطلبوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاءهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «على امل هدايتهم» قالوا : إذا كنت تحبّ ان نكون من أصحابك فأبعد هذه الجبال قليلا الى الوراء حتّى تتّسع لنا الأرض! وشقّ الأرض لكي تتفجّر العيون والأنهار حتّى نغرس الأشجار ونقوم بالزراعة! الم تعتقد بأنّك لا تقلّ عن داود الذي سخّر الله له الجبال تسبح معه؟ او انّ تسخّر لنا الرّيح حتّى نسافر عليها الى الشام ونحلّ مشاكلنا التجارية وما نحتاج اليه ثمّ نعود في نفس

٤١٣

ذلك اليوم! كما كانت مسخّرة لسليمانعليه‌السلام ، الم تعتقد انّك لا تقلّ عن سليمان ، أو احيي لنا جدّك «قصي» او اي واحد من موتانا كي نسأله هل انّ ما تقوله حقّ ام باطل ، او ليس عيسى كان يحيي الموتى!

وفي هذه الأثناء نزلت الآية الثانية تذكرهم بأنّ كلّ ما يقولونه سببه الخصومة والعناد لا لكي يؤمنوا ، والّا فهناك معاجز كثيرة حصلت لهم.

التّفسير

لا امل في ايمان اهل العناد :

تبحث هذه الآيات مرّة ثانية مسألة النّبوة ، والآيات أعلاه تكشف عن قسم آخر من جدال المشركين في النبوّة وجواب القرآن عليهم فيقول الآية : كما انّنا أرسلنا رسلا الى الأقوام السالفة لهدايتهم :( كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ ) والهدف من ذلك( لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) . في الوقت الذي( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ) يكفرون بالله الذي عمّت رحمته كلّ مكان ، وشمل فيضه المؤمن والكافر.

ثمّ قل لهم : انّ الرّحمن الذي عمّ فضله هو ربّي( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ ) .

ثمّ يجيب أولئك الذين يتشبّثون دائما بالحجج الواهية فيقول : لو انّ الجبال تحرّكت من مكانها بواسطة القرآن :( وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى ) . فمع ذلك لا يؤمنون به.

ولكنّ كلّ هذه الأفعال بيد الله ويفعل ما يريد متى يشاء( بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً ) . ولكنّكم لا تطلبون الحقّ ، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي صدرت من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاف لايمانكم.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى

٤١٤

النَّاسَ جَمِيعاً ) (1) وهذه اشارة الى انّ الله سبحانه وتعالى يستطيع ان يجبر الناس وحتّى المعاندين على ان يؤمنوا ، لانّه القادر على كلّ شيء ، ولكنّه لا يفعل ذلك ابدا ، لانّ هذا الايمان الاجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي يحتاجه الإنسان في حياته.

ثمّ تضيف الآية( وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ ) وهذه مصائب تنزل عليهم بشكل ابتلاءات مختلفة او على شكل هجوم المسلمين عليهم. وهذه المصائب انّ لم تنزل في دارهم فهي( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ) لكي يعتبروا بها ويرجعوا الى الله جلّ وعلا.

وهذا الإنذار مستمر( حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ ) .

وهذا الوعد الأخير قد يشير الى الموت ، او الى يوم القيامة ، او على قول البعض الى فتح مكّة التي سحقت آخر معقل للعدو.

وعلى ايّة حال فالوعد الالهي اكيد :( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) .

الآية الاخيرة من هذه المجموعة تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول له : لست الوحيد من بين الأنبياء تعرّض لطلب المعاجز الاقتراحية والاستهزاء من الكفّار ، بل( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ) . ولكن لم نعاقب هؤلاء الكفّار فورا ، بل( فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) لكي يستيقظوا ويعودوا الى طريق الحقّ ، او نلقي عليهم الحجّة الكافية على الأقل. لانّ هؤلاء إذا كانوا مذنبين فإنّ لطف الله وكرمه وحكمته لا تتأثّر بأفعال هؤلاء.

__________________

(1) «ييأس» مأخوذة من مادّة اليأس ، ولكن يقول جمهور من المفسّرين : انّها جاءت هنا بمعنى العلم ، وامّا ما يقوله البعض [طبقا لما نقله الفخر الرّازي] ان «يئست» لا تأتي بمعنى «علمت» إطلاقا ، ويرى الرّاغب في مفرداته انّ اليأس هنا هو نفس معناه ، ولكن يحتاج لتحقّقه الى العلم بعدم تحقّق الموضوع ، وعلى هذا يكون ثبوت يأسهم يتوقّف على علمهم وتكون نتيجته انّ اليأس هنا ليس العلم بالوجود ، بل العلم بالعدم ، وهو مخالف لمفهوم الآية ، وعلى ذلك فالحقّ ما قاله جمهور المفسّرين ، وما ذكروه من شواهد في قول العرب على ذلك ، وقد ذكر الفخر الرّازي في تفسيره امثلة من هذه الشواهد [دقّقوا النظر].

٤١٥

وعلى ايّة حال فهذا التأخير ليس بمعنى نسيان العقاب ، بل( ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) وهذا المصير ينتظر قومك المعاندين ايضا.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا التركيز على كلمة «الرّحمان»؟

توضّح الآية أعلاه ، وما ذكرناه في اسباب النّزول ، انّ كفّار قريش لم يوافقوا على وصف الله بالرحمن ، وبما انّ ذلك لم يكن سائدا لديهم ، فانّهم كانوا يستهزئون به ، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة تصرّ وتؤكّد على ذلك ، لانّ في هذه الكلمة لطفا خاصّا ، ونحن نعلم انّ صفة الرّحمانية تعمّ وتشمل المؤمن والكافر ، الصديق والعدو ، في الوقت نفسه فانّ صفة الرّحيم خاصّة بعباده المؤمنين.

فكيف لا تؤمنون بالله الذي هو اصل اللطف والكرم حتّى شمل أعداءه بلطفه ورحمته ، فهذا منتهى الجهل.

2 ـ لماذا لم يستجب النّبي لمطاليبهم

ومرّة اخرى نواجه هنا ما يقوله البعض من انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن لديه معجزة غير القرآن الكريم ، ويستندون في ذلك الى الآية أعلاه وأمثالها ، لانّ ظاهر هذه الآيات انّ النّبي لم يستجب الى طلبهم في اظهار المعاجز المختلفة من قبيل تسيير الجبال او شقّ الأرض واظهار العيون واحياء الموتى والتكلّم معهم.

ولكن ـ كما قلنا مرارا ـ الاعجاز يتمّ لإظهار الحقيقة فقط ، ولأولئك الذين يطلبون الحقّ ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل سحر حتّى ينفّذ لهم كلّ ما يطلبونه منه او

٤١٦

يقترحونه عليه ثمّ بعد ذلك لا يقبلون منه.

إنّ مثل هذا الطلب للمعاجز (المعاجز الاقتراحية) كان يصدر ـ فقط ـ من الافراد المعاندين والجاهليين الذين لم يستجيبوا لايّ حقّ. والآيات أعلاه تشير الى ذلك بوضوح ، ففي الآية الاخيرة تتحدّث عن استهزائهم بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا يعني انّهم لم يطلبوا المعجزة من اجل الحقّ ، بل كان طلبهم استهزاء بالرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبالاضافة الى ما ذكرناه من اسباب النّزول في بداية التّفسير لهذه الآيات ، يمكن ان نستفيد من خلال طلبهم من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احياء واحد من أجدادهم لكي يسألوه : هل انّ ما تقوله حقّ ام باطل؟

فلو استجاب لهم النّبي هذا الطلب فما معنى سؤالهم انّ النّبي على حقّ ام باطل؟ وهذا يوضّح انّ هؤلاء هم افراد متعصّبون ومعاندون وهدفهم ليس البحث عن الحقيقة ، (ولنا توضيح آخر من هذا الموضوع في ذيل الآية 90 من سورة الاسراء).

3 ـ ما هي القارعة؟

«القارعة» مأخوذة من مادّة «قرع» بمعنى طرق ، وعلى ذلك تكون القارعة بمعنى الطارقة ، وتشير هنا الى الاحداث التي تقرع الإنسان وتنذره وإذا كان مستعدّا للنهوض أيقظته.

وفي الحقيقة انّ للقارعة معنى واسعا ، فهي تشمل كلّ مصيبة ومشكلة وحادثة تحيط بالإنسان.

ولذلك يعتقد بعض المفسّرين انّها تعني الحروب والجفاف والقتل والأسر ، ويرى آخرون انّها تشير الى الحروب التي كانت تقع في صدر الإسلام تحت

٤١٧

عنوان «السرية» التي لم يكن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشترك فيها ، بل كان يأمر أصحابه بها ، ولكن معنى القارعة يشمل جميع هذه الاحداث.

ومن الطريف انّ الآيات أعلاه تشير الى انّ الحوادث هذه امّا ان تنزّل عليهم او تقع قريبا من دارهم ، وهذا يعني : إذا لم تصيبهم هذه الحوادث في دارهم ، فانّها سوف تقع قريبة منهم ، فهل لا تكفي هذه الحوادث لايقاظهم؟

* * *

٤١٨

الآيتان

( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (34) )

التّفسير

كيف تجعلون الأصنام شركاء مع الله؟!

نعود مرّة اخرى في هذه الآيات الى البحث حول التوحيد والشرك ، وهي تخاطب الناس من خلال دليل واضح حيث يقول تعالى :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (1) وهذه الجملة تريد ان تقول بوضوح انّ الله سبحانه وتعالى وكأنّه واقف على راس كلّ شخص ويعلم بما يفعلونه ويجازي عليه وبيده تدبير الأمور ، ولذلك فإنّ كلمة «قائم» لها معنى واسع يشمل كلّ هذه الأمور ، مع انّ

__________________

(1) الجملة أعلاه مبتدا لخبر محذوف تقديره( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) كمن ليس كذلك.

٤١٩

مجموعة من المفسّرين يرى لها ابعادا خاصّة.

ولإتمام البحث السابق ، ومقدّمة للبحث الآتي ، يقول تعالى :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ ) .

ثمّ يجيبهم بلا فاصلة وبعدّة طرق : يقول اوّلا :( قُلْ سَمُّوهُمْ ) .

والمقصود من تسميتهم هو امّا ان يكونوا ليست لهم ايّة قيمة بحيث لا تستطيعون تسميتهم ، فكيف تجعلون هذه الموجودات التي لا تستحق حتّى الأسماء والتي لا قيمة لها ، في عداد الخالق القادر المتعال؟

او يكون المقصود : بيّنوا صفاتهم لكي نرى هل يستحقّون العبادة ، فنحن نقول في صفات الله جلّ وعلا بأنّه الخالق ، والرازق ، والمحيي والعالم والقادر ، فهل تستطيعون ان تمنحوا هذه الصفات للأصنام؟! او بالعكس إذا أردنا تسميتها نقول بأنّها أحجار وأخشاب ساكنة وفاقدة للعقل والشعور ، ومحتاجة لمن يعبدها ، وخلاصة القول انّها فاقدة لكلّ شيء! فكيف نجعلها سواء مع الله؟ أفلا تعقلون؟!

او يكون المقصود : عدّوا لنا اعمالهم ، فهل كشفوا الضرّ لأحد او منحوا الخير لأحد؟ وهل حلّوا العقد والمشاكل؟! ومع هذا الوضع فأي عقل يجيز لكم ان تجعلوهم قرناء مع الله جلّ وعلا وهو مصدر الخير والبركة والنافع والضارّ والمثيب والمعاقب!.

طبعا لا مانع من ان تجتمع كلّ هذه المعاني في جملة( سَمُّوهُمْ ) !

ويقول ثانيا :( أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ ) .

وهذا التعبير في الحقيقة أفضل أسلوب للجواب على حديثهم الواهي ، وكمثال على ذلك يقول لك احد الأشخاص : انّ فلانا كان ضيفا عندكم البارحة ، فتقول له : هل تخبرني عن ضيف لا علم لي به؟! يعني هل من الممكن ان أحدا

٤٢٠