الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 274603
تحميل: 4796


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274603 / تحميل: 4796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

جيل الشباب هذه المسالك المهلكة وفقد سلاح الايمان ومقدرته الجسدية ، فيجب ان يعلم عبوديته للأجانب حتمية.

3 ـ الحرية من أفضل النعم

من الطريف انّ الآية أعلاه بعد ان ذكرت «ايّام الله» اشارت بصراحة الى يوم واحد منها ، وهو يوم نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة( إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ) انّ تاريخ بني إسرائيل مليء بالايّام العظيمة التي وهبهم الله فيها النعم الكبيرة تحت ظلّ هداية موسى ، ولكن ذكر (يوم النجاة) في الآية أعلاه دليل على اهميّة الحرية والاستقلال في مصير الأمم.

نعم لا تستطيع اي امّة ان تظهر نبوغها واستعدادها الّا من خلال قطع التبعية للاجنبي والتحرّر من قبضة الاستعمار واسره. ولا يمكن ان ترفع قدما في سبيل الله الّا من خلال محاربة الشرك والظلم.

ولهذا السبب كان العمل الاوّل للقادة الإلهيين هو تحرير الشعوب من التبعيّة الفكرية والثقافية والسياسيّة والاقتصادية ، ثمّ العمل في إيجاد البرامج التوحيديّة والانسانيّة لهم.

4 ـ الشكر سبب لزيادة النعم والكفر سبب للفناء

ممّا لا شكّ فيه انّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة الى شكرنا في مقابل نعمه علينا ، وإذا أمرنا بالشكر فذاك لنستوجب نعمة اخرى وهي واحدة من المبادئ السامية في التربية.

المهمّ ان نعرف ما هي حقيقة الشكر؟ لكي يتّضح علاقته في زيادة النعمة من اين؟ وكيف تستطيع ان تكون عاملا مهمّا للتربية؟

انّ حقيقة الشكر ليس فقط ما يقوله الإنسان (الحمد لله) او الشكر اللفظي ، بل

٤٦١

هناك ثلاث مراحل للشكر :

الاولى : يجب ان نعلم من هو الواهب للنعم؟ هذا العلم والايمان الركن الاوّل للشكر.

والثّانية : الشكر باللسان.

والثّالثة : وهي الاهمّ الشكر العملي ، اي ان نعلم الهدف من منحنا للنعمة ، وفي ايّ مورد نصرفها ، والّا كفرنا بها ، كما قال العظماء : (الشكر صرف العبد جميع ما أنعمه الله تعالى فيما خلق لأجله).

لماذا أعطانا الله تعالى العين؟ ولماذا وهبنا السمع والنطق؟ فهل كان السبب غير ان نرى عظمته في هذا العالم ، ونتعرّف على الحياة؟

وبهذه الوسائل نخطو الى التكامل ، ندرك الحقّ وندافع عنه ونحارب الباطل ، فإذا صرفنا النعم الالهيّة في هذا المسير كان ذلك هو الشكر العملي له ، وإذا أصبحت هذه الأدوات وسيلة للطغيان والغرور والغفلة والابتعاد عن الله فهذا هو عين الكفران!

يروى عن الامام الصادقعليه‌السلام انّه قال : «ادنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علّة يتعلّق القلب بها دون الله ، والرضا بما أعطاه ، وانّ لا تعصيه بنعمة وتخالفه بشيء من امره ونهيه بسبب من نعمته»(1) .

وهنا يتّضح انّ شكر العلم والمعرفة والفكر والمال والسلامة ، كلّ واحد منها من اي طريق يتمّ؟ وكيف يكون كفرانها؟

الحديث الوارد عن الامام الصادقعليه‌السلام دليل واضح على هذه التّفسيرات حيث يقول : «شكر النعمة اجتناب المحارم»(2) .

وتتّضح ايضا هذه العلاقة بين الشكر وزيادة النعمة ، لانّ الناس لو صرفوا

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، 710.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، 529.

٤٦٢

النعم الالهيّة في هدفها الحقيقي ، فسوف يثبتون عمليّا استحقاقهم لها وتكون سببا في زيادة الفيوضات الالهيّة عليهم.

من الثابت انّ هناك نوعين من الشكر ، (شكر تكويني) و (شكر تشريعي).

«الشكر التكويني» هو ان يستفيد الكائن الحي من مواهبه في نموّه ورشده ، فمثلا يرى المزارع انّ القسم الفلاني من مزرعته تنمو فيه الأشجار بشكل جيد ، وكلّما يخدمها اكثر تنتج اكثر ، فهذا الأمر سوف يؤدّي الى ان يقوم المزارع على خدمة وتربية ذلك القسم بشكل اكبر ، ويوصي مساعديه بها ، لانّ الأشجار تناديه بلسان حالها : ايّها المزارع ، نحن لائقون مناسبون ، افض علينا من النعم ، وهو يجيبهم بالاثبات.

امّا إذا راى في قسم آخر أشجارا ذابلة ويابسة وليس لها ثمر ، فكفران النعمة من قبلها بهذه الصورة يسبّب عدم اعتناء المزارع بها ، وإذا استمرّ الوضع بهذا الحال سوف يقوم بقلعها.

وهذه الحالة موجودة في عالم الانسانيّة بهذا التفاوت ، وهو انّ الأشجار ليس لها الاختيار ، بل هي خاضعة للقوانين التكوينيّة ، امّا الإنسان فباستفادته في ارادته واختياره وتربيته التشريعيّة يستطيع ان يخطو في هذا المجال خطوات واثقة.

ولذلك فمن يستخدم نعمة القوّة في الظلم ، ينادي بلسان حاله : الهي ، انا غير لائق لهذه النعمة ، ومن يستخدمها لاقامة الحقّ والعدالة يقول بلسان حاله : الهي ، انا مناسب ولائق فزد نعمتك عليّ!

وهناك حقيقة غير قابلة ـ ايضا ـ للترديد ، وهي انّنا في كلّ مرحلة من مراحل الشكر الالهي ـ ان كان باللسان او العمل ـ سوف نحتاج الى شكر جديد لمواهب وعطايا جديدة ، ولذلك فلسنا قادرين ان نؤدّي حقّ الشكر ، كما نقرا في مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام : «كيف لي بتحصيل

٤٦٣

الشكر وشكري ايّاك يفتقر الى شكر ، فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك ان أقول لك الحمد»!

ولهذا فإنّ أعلى مراحل الشكر ان يظهر الإنسان عجزه امام شكر نعمائه تعالى ، كما

جاء في الحديث عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «فيما اوحى اللهعزوجل الى موسى : اشكرني حقّ شكري ، فقال : يا ربّ ، وكيف أشكرك حقّ شكرك ، وليس من شكر أشكرك به الّا وأنت أنعمت به عليّ؟ قال : يا موسى ، الآن شكرتني حين علمت انّ ذلك مني»(1) .

هناك عدّة نقاط في مجال شكر النعمة :

1 ـ قال الامام عليعليه‌السلام في احدى حكمه : «إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر»(2) .

2 ـ يجب الالتفات الى هذا الموضوع ، وهو انّ الشكر والحمد ليس كافيا في مقابل نعمائه تعالى ، بل يجب ان نشكر ـ كذلك ـ الأشخاص الذين كانوا وسيلة لهذه المواهب ونؤدّي حقوقهم من هذا الطريق ، ونشوّقهم اكثر بالخدمة في هذا السبيل ، كما نقرا في الحديث عن الامام علي بن الحسينعليه‌السلام قال : «وانّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور ، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة : أشكرت فلانا؟ فيقول : بل شكرتك يا ربّ ، فيقول : لم تشكرني إذ لم تشكره ، ثمّ قال : أشكركم لله أشكركم للناس»(3) .

3 ـ انّ الوعد في زيادة نعم الشاكرين لا ينحصر في النعم المادية فقط ، بل الشكر نفسه مصحوبا بالتوجّه الخاص لله والحبّ لساحته المقدّسة هو واحد من النعم الالهيّة الروحيّة الكبيرة ، والتي لها تأثير كبير في تربية نفوس الناس ،

__________________

(1) اصول الكافي ، المجلّد الرابع ، صفحة 80 باب الشكر.

(2) نهج البلاغة الكلمات القصار ، رقم 13.

(3) اصول الكافي ، الجزء الثّاني ـ ص 99 ـ ح 30.

٤٦٤

ودعوتهم لطاعة الأوامر الالهيّة ، بل الشكر ذاته طريق الى معرفة الله ، ولهذا السبب ورد عن علماء العقائد في علم الكلام انّ وجوب شكر المنعم طريق الى اثبات وجوب معرفة الله.

4 ـ انّ احياء روح الشكر في المجتمع وتقديمه الى مستحقّيه وتقديرهم وحمدهم وثنائهم على خدمتهم في طريق تحقيق الاهداف الاجتماعية بعلمهم ومعرفتهم وإيثارهم واستشهادهم ، هو عامل مهمّ في حركة ورقيّ المجتمع.

ففي المجتمع الفاقد للشكر والتقدير نجد القليل جدّا ممّن يريد الخدمة ، وعلى العكس فالمجتمع الذي يقيّم ويثني على خدمات الأشخاص ، يكون اكثر نشاطا وحيوية.

والالتفات الى هذه الحقيقة ادّى الى ان تقام في عصرنا مراسيم احتفال لتقدير وشكر الأساطين في الذكرى المئوية ، او الذكرى الالفية ، وضمن هذا الشكر لخدماتهم يدعى الناس الى الحركة والسعي بشكل اكبر.

احياء هذه الذكريات يساعد على ترشيد الإيثار والتفاني لدى الآخرين ، فيرتفع المستوى الثقافي والاخلاقي لدى الناس ، وبتعبير القرآن فإنّ شكر هذه النعمة سوف يبعث على الزيادة ، ومن دم شهيد واحد يبعث آلاف المجاهدين ، ويكون مصداقا حيّا ل( لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

* * *

٤٦٥

الآيات

( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) )

التّفسير

أفي الله شكّ؟

الآية الاولى من هذه المجموعة تؤيّد وتكمل البحث السابق في الشكر

٤٦٦

والكفران ، وذلك ضمن الكلام الذي نقل عن لسان موسىعليه‌السلام ( وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (1) .

انّ الشكر والايمان بالله ـ في الواقع ـ سبب في زيادة النعم والتكامل الانساني ، والّا فاللهعزوجل ليس بحاجة الى اي شيء ، ولو كفرت جميع الكائنات ولم تحمده لا تمسّ كبرياءه بأدنى ضرر ، لانّه حميد في ذاته.

ولو كان محتاجا لم يكن واجب الوجود ، وعلى هذا فمفهوم الغني هو اشتماله لجميع الكمالات ، وإذا كان كذلك فهو محمود في ذاته ، لانّ «الحميد» من استحقّ الحمد.

ثمّ يشرح مصير الفئات من الأقوام السابقة ضمن عدّة آيات ، الفئات التي كفرت بأنعم الله وخالفت الدعوة الالهيّة ، وهي تأكيد للآية السابقة يقول تعالى :( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

يمكن ان تكون هذه الجملة تعقيبا على كلام موسى ، او بيان مستقلّ يخاطب به المسلمين ، لكن النتيجة غير متفاوتة كثيرا ، ثمّ يضيف تعالى :( قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) فهؤلاء لم يطّلع على اخبارهم الّا الله( لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) (2) .

ممّا لا شكّ فيه انّ قسما من اخبار قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم قد وصلتنا ، ولكن لم يصلنا القسم الأكبر منها ولا يعلمها الّا الله ، فتاريخ الأقوام الماضية مليء بالاسرار والخصوصيّات بحيث لم يصل إلينا منها الّا القليل. ولكي يوضّح القرآن الكريم مصيرهم يقول :( جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ ) اي وضعوا أيديهم على أفواههم من التعجّب والإنكار( وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا

__________________

(1) «إِنْ تَكْفُرُوا » جملة شرطيّة تقديرها محذوف ، وجملة «انّ الله لغني حميد» تدلّ على ذلك وكان التقدير «ان تكفروا لا تضرّوا الله شيئا».

(2) جملة( لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ ) قد تكون معطوفة على ما قبلها والواو محذوفة ، وقد تكون جملة وصفية للجملة السابقة.

٤٦٧

بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) . لماذا؟ بسبب( وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) . ومعه كيف يمكننا ان نؤمن بما تدعونا اليه؟

ويرد هنا سؤال ، وهو انّهم أظهروا الكفر وعدم الايمان بالرّسول في البداية ، ولكن بعد ذلك أظهروا الشكّ والريب ، فكيف ينطبق الاثنان؟

الجواب : انّ بيان الشكّ والترديد ـ في الحقيقة ـ علّة لعدم الايمان ، لانّ الايمان بحاجة الى اليقين ، والشكّ مانع لذلك.

وبما انّ الآية السابقة بيّنت قول المشركين والكفّار في عدم ايمانهم بسبب شكّهم وترديدهم ، فالآية بعدها تنفي هذا الشكّ من خلال دليل واضح وعبارة قصيرة حيث يقول تعالى :( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

مع انّ «فاطر» من «فطر» وهي في الأصل بمعنى «شقّ» الّا انّه هنا كناية عن «الخلق» فالخالق هو الموجد للأشياء على أساس نظام دقيق ثمّ يحفظها ويحميها ، كأنّ ظلمة العدم شقّت بنور الوجود ، وكما يطلع الفجر من عتمة الليل ، وكما يتشقّق التمر من غلافه.

ولعلّ «فاطر» تشير الى تشقّق المادّة الاوّلية للعالم. كما نقرأ في العلوم الحديثة انّ مجموع مادّة العالم كانت واحدة مترابطة ثمّ انشقّت الى كراة مختلفة.

وعلى ايّة حال ، فالقرآن الكريم هنا ـ كما في اغلب الموارد الاخرى ـ يستند لاثبات وجود الخالق وصفاته الى نظام الوجود وخلق السّماوات والأرض ، ونحن نعلم انّه ليس هناك أوضح من هذا الدليل لمعرفة الله ، لانّ هذا النظام العجيب مليء بالاسرار في كلّ زواياه ، وينادي بلسان حاله : ليس هناك من له القدرة على هذه الهندسة الّا القادر الحكيم والعالم المطلق ، ولهذا السبب فكلّما تقدّمت العلوم ظهرت اسرار تدلّ على الخالق اكثر من السابق وتقرّبنا من الله في كلّ لحظة.

وما اكثر العجائب في القرآن؟ فكلّ بحوث معرفة الله والتوحيد ـ والتي

٤٦٨

وردت بصيغة الاستفهام الانكاري ـ اشارت إليها هذه العبارة :( أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وهذه العبارة إذا أردنا تجزئتها وتحليلها بشكل موسّع لا تكفيها آلاف الكتب.

انّ مطالعتنا لاسرار الوجود ونظام الخلقة لا تهدينا الى وجود الله فحسب ، بل الى صفاته الكمالية ايضا كعلمه وقدرته وحكمته.

ثمّ يجيب القرآن الكريم على ثاني اعتراض للمخالفين ، وهو اعتراضهم على مسألة الرسالة (لانّ شكّهم كان في الله وفي دعوة الرّسول) ويقول انّ من المسلّم انّ الله القادر والحكيم لا يترك عباده بدون قائد ، بل انّه بإرسال الرسل :( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) (1) .

وزيادة على ذلك فإنّه( وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) كيما تسلكوا سبيل التكامل وتستفيدوا من موهبة الحياة بأقصى ما يمكنكم.

انّ غاية دعوة الأنبياء أمران : أحدهما غفران الذنوب ، بمعنى تطهير الروح والجسم والمحيط الانساني ، والثّاني استمرار الحياة الى الوقت المعلوم ، والاثنان علّة ومعلول ، فالمجتمع الذي يستمرّ في وجوده هو المجتمع النقي من الظلم والذنوب.

ففي طول التاريخ أبيدت مجتمعات كثيرة بسبب الظلم والذنوب واتّباع الهوى ، وبتعبير القرآن لم يصلوا( إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

روي في حديث جامع عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «من يموت بالذّنوب اكثر ممّن يموت بالآجال ، ومن يعيش بالإحسان اكثر ممّن يعيش بالأعمال»(2) .

__________________

(1) هناك جدل بين المفسّرين في معنى «من» ، فقال بعضهم بالتبعيض ، اي يغفر قسما من ذنوبكم ، وهذا الاحتمال ضعيف لانّ الايمان يؤدّي الى غفران الذنوب كلّها (الإسلام يجب ما قبله) واحتمل البعض الآخر انّ «من» بدل ، فيكون معنى الجملة يدعوكم ليغفر ذنوبكم بدل الايمان ، وقال آخرون : انّ «من» هنا زائدة للتأكيد ، ومعناه : انّ الله تعالى يدعوكم للايمان ليغفر لكم ذنوبكم ، وهذا التّفسير نراه اقرب الى الصحّة.

(2) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ص 488.

٤٦٩

وعن الامام الصادق ايضا : «انّ الرجل يذنب فيحرم صلاة الليل ، وانّ العمل السيء اسرع في صاحبه من السكّين في اللحم»(1) .

ونستفيد من هذه الآية ـ ضمنيا ـ انّ الايمان بدعوة الأنبياء والعمل بأحكامها يأخذ طابع الأجل المعلّق ، وتستمرّ حياة الإنسان الى «اجل مسمّى» (لانّنا نعلم انّ للإنسان نوعين من الآجال ، اجل محتوم ويكون بانتهاء الحياة في جسم الإنسان ، وأجل معلّق ويكون بفناء الإنسان على اثر عوامل وموانع في وسط العمر ، وهذا غالبا ما يكون بسبب اللامبالاة وارتكاب الذنوب ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (2) من سورة الانعام).

ومع كلّ ذلك لم يقبل الكفّار المعاندون دعوة الحقّ المصحوبة بوضوح منطق التوحيد ، ومن خلال بيانهم المشوب بالعناد وعدم التسليم كانوا يجيبون الأنبياء بهذا القول :( قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) علاوة على ذلك( تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) واكثر من ذلك( فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

وقد ذكرنا مرارا (كما صرّح القرآن بذلك) انّ كون الأنبياء بشرا ليس مانعا لنبوّتهم ، بل هو مكمّل لها ، ولكن أولئك الأقوام يوردون هذه الحجّة دليلا لانكار الرسالة ، والهدف ـ غالبا ـ هو التبرير والعناد.

وكذلك الحال في الاستنان بسنّة الأجداد ، فإنّها وبالنظر الى هذه الحقيقة وهي انّ معرفة الأجيال القادمة اكثر من الماضين ، لا تعدو سوى خرافة وجهل.

ويتّضح من هنا انّ طلبهم لم يكن لاقامة البرهان الواضح ، بل لهروبهم من الحقيقة ، لانّ القرآن الكريم ـ كما قرانا مرارا ـ انّ هؤلاء المعاندين أنكروا الآيات الواضحة والدلائل البيّنة ، وكانوا يقترحون في كلّ مرّة معجزة ودليلا للتهرّب من الأمر الواقع.

وعلى كلّ حال نقرا في الآيات القادمة كيف أجابهم الأنبياء.

* * *

__________________

(1) سفينة البحار ، المجلّد الاوّل ، ص 488.

٤٧٠

الآيتان

( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) )

التّفسير

التوكّل على الله وحده :

نقرا في هاتين الآيتين جواب الرسل على حجج المخالفين المعاندين ، واعتراضهم على بشرية الرسل ، فكان جوابهم :( قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) يعني لو افترضنا انّ الله تعالى أرسل لكم ملائكة بدل البشر ، فهي لا تمتلك شيئا لذاتها ، فكلّ المواهب ومن جملتها موهبة الرسالة والقيادة هي من عند الله ، فالذي يستطيع ان يهب الملائكة هذا المقام قادر ان يعطيها للإنسان.

وبديهي انّ هذه المنح من قبل الله ليست بدون حساب ، وقد قلنا مرارا : انّ

٤٧١

المشيئة الالهيّة تساير حكمته تعالى ، فعند ما نسمع قول القائل : «انّ الله إذا أراد بعبد خيرا ...» يكون المراد العبد المستعدّ لهذه الموهبة. ومن المعلوم انّ مقام الرسالة موهبة الهيّة ، ونحن نرى انّ الأنبياء بالاضافة الى الرسالة الالهيّة لهم استعداد واهلية لتحمّلها.

ثمّ يجيب على السؤال الثّالث دون ان يجيب على الثاني ، وكأنّ الاعتراض الثّاني الذي هو الاستنان بسنّة الأجداد ليس له اي اهميّة وفارغ من المحتوى بحيث انّ ايّ انسان عاقل ـ بأقلّ تأمّل ـ يفهم جوابه ، بالاضافة الى انّ القرآن الكريم قد أجاب عنه في آيات أخر.

وجواب السؤال الثّالث هو انّ عملنا ليس الإتيان بالمعاجز ، فنحن لا نجلس في مكان ونلبّي لكم المعاجز الاقتراحية وكلّ ما سوّلت لكم أنفسكم ، بل( ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ومع ذلك فإنّ كلّ نبي كان يظهر لقومه المعاجز بمقدار كاف بدون ان يطلبها الناس منه ، وذلك لكي يثبت الأنبياء احقّيتهم ولتكون المعاجز سندا لصدقهم ، مع انّ مطالعة دعوتهم وحدها اكبر اعجاز لهم ، ولكن المعترضين غالبا لم يصغوا لذلك ، وهم يقترحون كلّ يوم شيئا جديدا ، فإن لم يستجب لهم الرّسول ، يقيموا الدنيا ويقعدوها. ولكي يردّ الرسل على تهديداتهم المختلفة يقولون :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وبعد ذلك استدلّ الأنبياء على مسألة التوكّل حيث قالوا :( وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا ) فالذي منحنا أفضل المواهب ، يعني موهبة الهداية الى طرق السعادة ، سوف يقوم بحمايتنا في مقابل اي هجوم او مشكلة تعترضنا.

ثمّ أضافوا : انّ ملاذنا هو الله ، ملاذ لا يقهر وهو فوق كلّ شيء :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) وأخيرا انهوا كلامهم بهذه الجملة :( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .

* * *

٤٧٢

ملاحظات

1 ـ ما هو معنى التوكّل؟

قرانا في الآية الاولى( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) وفي الآية الثانية( فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) وكأنّ الجملة الثانية تشير الى مرحلة أوسع واعمّ من الجملة الاولى ، يعني انّ توكّل المؤمنون ممّا لا شكّ فيه ـ لانّ الايمان بالله غير منفصل عن الايمان بقدرته وحمايته والتوكّل عليه ـ بل حتّى غير المؤمنين ملجأهم الى الله ولا يجدون سبيلا غيره ، لانّ غيره فاقد للأشياء ، وكلّ ما في الوجود ملك لذاته المقدّسة ، ولذلك يجب ان يجعلوه وليّا لهم ، ويطلبوا منه ان يهديهم توكّلهم هذا للايمان بالله.

2 ـ المعاجز بيد الله تعالى

أجابت الآيات أعلاه ـ بشكل واضح ـ الأشخاص الذين كانوا ينكرون اعجاز الرسل. او ينكرون معاجز رسول الإسلام غير القرآن ، وتعلّمنا هذه الآيات انّ الرسل لم يقولوا ابدا : نحن لا نأتي بالمعاجز ، بل انّ الأوامر الالهيّة كانت تمنعهم من ذلك ، لانّ الاعجاز بيده وفي اختياره ، وكلّ ما يراه مصلحة يأمرنا به.

3 ـ ما هي حقيقة وفلسفة التوكّل؟

«التوكّل» في الأصل من «الوكالة» وكما قال الراغب : التوكيل ان تعتمد على غيرك وتجعله نائبا عنك. ونحن نعلم انّ الوكيل الصالح له اربع خصال رئيسيّة : العلم الكافي ، والامانة ، والقدرة ، والمبالغة في رعاية مصلحة موكّله. فانتخاب الوكيل المحامي يتمّ في الأعمال التي لا يستطيع الإنسان نفسه ان يدافع عنها ، فيستفيد من مساعدة قوّة الآخرين في حلّ مشاكله.

وعلى ذلك فالتوكّل على الله يتمّ في حالة عدم استطاعة الإنسان من حلّ

٤٧٣

المشاكل الحياتية وفي مقابل الأعداء وإصرار المخالفين ، وأحيانا في الطرق المسدودة التي تواجهه في مسيرة اهدافه. ولذلك فهو يستند الى الله جلّ وعلا ويستمر في سعيه ، بل حتّى لو كان مستطيعا في أداء اعماله ، فيجب ان يعلم انّ الله هو المؤثّر الاصلي ، لانّ الله تعالى في نظر المؤمن هو منبع لكلّ القدرات.

والنقطة التي تقابل التوكّل على الله هي التوكّل على غيره ، يعني الاتّكالية في الحياة والتبعية للآخرين ، وعدم الاستقلاليّة ، يقول علماء الأخلاق : التوكّل الثمرة المباشرة لتوحيد افعال الله ، لانّه ـ وكما قلنا ـ من وجهة نظر المؤمن يرتبط كلّ ما في الكون بالنهاية بذات الله المقدّسة ، ولذلك فالموحّد يرى انّ جميع اسباب القدرة والنصر من عند الله.

فلسفة التوكّل

نستفيد ممّا ذكرناه انّه :

اوّلا : انّ الإنسان سوف تزداد مقاومته للمشاكل الصعبة لتوكّله على الله الذي هو منبع جميع القدرات والاستطاعات.

ولهذا السبب فعند ما انهزم المسلمون في «احد» يقول تعالى :( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .(1)

وهناك نماذج اخرى للمقاومة والثبات في ظلّ التوكّل ، ومن جملتها الآية 122 من آل عمران يقول تعالى :( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .

وفي الآية (12) من سورة ابراهيم يقول تعالى :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا ) .

__________________

(1) آل عمران ، 173.

٤٧٤

وفي الآية (159) آل عمران( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) .

وكذلك يقول القرآن الكريم :( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .(1)

نستفيد من مجموع هذه الآيات انّ القصد من التوكّل ان لا يحسّ الإنسان بالضعف في مقابل المشكلات العظيمة ، بل بتوكّله على قدرة الله المطلقة يرى نفسه فاتحا ومنتصرا ، وبهذا الترتيب فالتوكّل عامل من عوامل القوّة واستمداد الطاقة وسبب في زيادة المقاومة والثبات. وإذا كان التوكّل يعني الجلوس في زاوية ووضع احدى اليدين على الاخرى ، فلا معنى لأن يذكره القرآن بالنسبة للمجاهدين وأمثالهم.

وإذا اعتقد البعض انّ التوكّل لا ينسجم مع التوجه الى العلل والأسباب والعوامل الطبيعيّة ، فهو في خطأ كبير ، لانّ فصل العوامل الطبيعيّة عن الارادة الالهيّة يعتبر شركا بالله ، او ليست هذه العوامل تسير بأوامر ومشيئة الله؟

نعم إذا اعتقدنا انّ العوامل مستقلّة عن ارادته فهي لا تتناسب مع روح التوكّل. فهل من الصحيح ان نفسّر التوكّل بهذا التّفسير ، مع انّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو راس المتوكّلين لم يغفل من استخدام الخطط الصحيحة والاستفادة من الفرص المتاحة وانواع الوسائل والأسباب الظاهرية لتحقيق اهدافه ، انّ هذا يثبت انّ التوكّل ليس له مفهوم سلبي.

ثانيا : انّ التوكّل ينجّي الإنسان من التبعية التي هي اصل الذلّ والعبودية ، ويمنحه الحرية والاعتماد على النفس.

«التوكّل» و «القناعة» لهما جذور مشتركة ، وفلسفتهما متشابهة ، وفي نفس الوقت متفاوتة ، ولا بأس هنا ان نذكر عدّة روايات في مجال التوكّل وأصله

__________________

(1) النحل ، 99.

٤٧٥

وجذوره : عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ الغنا والعزّ يجولان ، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»(1) وقد عرّف الامام التوكّل بأنّه موطن العزّة وعدم الحاجة للآخرين.

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سألت جبرئيل : ما هو التوكّل؟ قال : (العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، واستعمال اليأس من الخلق فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله ولم يطمع في احد سوى الله فهذا هو التوكّل)(2) .

وسئل الامام الرضاعليه‌السلام : ما حدّ التوكّل؟ فقال : «ان لا تخاف مع الله أحدا»(3) .

* * *

__________________

(1) اصول الكافي ، المجلّد الثّاني ، باب التفويض الى الله والتوكّل عليه حديث ـ 3.

(2) بحار الأنوار ، ج 15 القسم الثّاني في الأخلاق ، ص 14 الطبعة القديمة.

(3) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، ص 682.

٤٧٦

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) )

التّفسير

خطط الجبّارين المعاندين ومصيرهم!

عند ما يعلم الظالمون بضعف منطقهم وعقيدتهم ، يتركون الاستدلال ، ويلجأون الى القوّة والعنف ، ونقرا هنا انّ الأقوام الكافرة العنيدة عند ما سمعوا منطق الأنبياء المتين والواضح قالوا لرسلهم :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) وكأنّ هؤلاء القوم يعتبرون جميع ما

٤٧٧

في الأرض ملكهم ، حتّى انّهم لم يمنحوا لرسلهم حقوق المواطنة ، ولذلك يقولون «أرضنا». وفي الحقيقة فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرض وكلّ مواهبها للصالحين ، وهؤلاء الجبابرة في الواقع ليس لهم اي حقّ فيها.

وقد يتوهّم البعض انّ جملة( لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) اشارة الى انّ الأنبياء السابقين كانوا من أنصار عبادة الأصنام ، مع انّ الحقيقة ليست كذلك ، لانّهم ـ وبصرف النظر عن كونهم معصومين حتّى قبل نبوّتهم ـ فعقلهم ودرايتهم كان اكبر من ان يفعلوا هذا العمل غير الحكيم ، فيسجدوا امام الأحجار والأخشاب.

ويمكن ان يكون هذا التعبير بسبب انّ الأنبياء قبل بعثهم لم يؤمروا بالتبليغ ، فسكوتهم أوجد هذا الوهم بأنّهم من المشركين.

بالاضافة الى انّ الخطاب وان كان موجّها للرسل ، الّا انّه في الواقع يشمل حتّى الاصحاب ، ونعلم انّهم كانوا مع المشركين من قبل ، فنظر المشركين كان منصرفا الى الاصحاب فقط ، وتعبير «لتعودنّ» من باب التغليب (يعني حكم الاكثرية يسري على العموم).

وهناك جواب آخر لهذا الوهم وهو انّ «عود» إذا عدّيت بـ «الى» يكون معناها الرجوع ، وإذا عديت بـ «في» فتفيد تغيير الحال لذلك فمعنى الآية( لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) يكون مفهومها ان تغيّروا من حالكم وتدخلوا في ملّتنا ، وقد اختار هذا المعنى العلّامة الطباطبائي في الميزان ، ولكن عند مراجعتنا لبعض الآيات ومنها( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ) تبيّن ان «عود» حتّى لو عدّيت بـ «في» فمعناها الرجوع ايضا (فتدبّر).

ثمّ يضيف القرآن الكريم لتسلية قلوب الأنبياء( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) فلا تخافوا من وعيدهم ، ولا تظهروا الضعف في ارادتكم.

وبما انّ الظالمين كانوا يهدّدون الأنبياء بالتبعيد عن أرضهم ، فإنّ الله في مقابل ذلك كان يعد الأنبياء( وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) ولكن هذا النصر

٤٧٨

والتوفيق لا يناله الّا( ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ ) فلطفه ومنّه ليس بدون حساب ودليل ، ولا يناله الّا من احسّ بمسؤوليته في مقابل العدل الالهي ، لا الظالمين والمعاندين لطريق الحقّ.

وحين انقطعت الأسباب بالأنبياء من كلّ جانب ، وادّوا جميع وظائفهم في قومهم ، فآمن منهم من آمن ، وبقي على الكفر من بقي ، وبلغ ظلم الظالمين مداه ، في هذه الأثناء طلبوا النصر من الله تعالى( وَاسْتَفْتَحُوا ) وقد استجاب اللهعزوجل دعاء المجاهدين المخلصين( وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) .

«خاب» من الخيبة بمعنى فقدان المطلوب.

و «جبّار» بمعنى المتكبّر هنا ، ورد في الحديث انّ امراة جاءت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها بشيء ، فلم تطعه فقال النّبي : دعوها فإنّها جبّارة(1) .

وتطلق هذه الكلمة أحيانا على الله جلّ وعلا فتعطي معنى آخر ، وهو (جبر وإصلاح من هو بحاجة الى الإصلاح) او بمعنى (المتسلّط على كلّ شيء)(2) .

و «العنيد» في الأصل من «العند» على وزن (رند) بمعنى الاتّجاه ، وجاءت هنا بمعنى الانحراف عن طريق الحقّ.

ولذلك نقرا في رواية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كلّ جبّار عنيد من ابى ان يقول لا اله الّا الله».(3)

وعن الامام الباقرعليه‌السلام قال : «العنيد المعرض عن الحقّ».(4)

ومن الطريف انّ «جبّار» تشير الى صفة نفسانية بمعنى روح العصيان ، و «عنيد» تشير الى آثار تلك الصفة في افعال الإنسان حيث تصرفه عن طريق الحقّ. ثمّ يبيّن نتيجة عمل الجبّارين في الآخرة ضمن آيتين في خمسة مواضع :

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية.

(2) للتوضيح اكثر راجع تفسير الآية (43) من سورة المائدة من تفسيرنا هذا.

(3) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 532.

(4) المصدر السابق.

٤٧٩

1 ـ على اثر هذه الخيبة ، او انّ مثل هذا الشخص :( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ) .

مع انّ كلمة «وراء» بمعنى «الخلف» في مقابل امام ، الّا انّها في هذه الموارد تعني نتيجة وعاقبة العمل.

2 ـ امّا في جهنّم فإنّه( وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) .

«الصديد» القيح المتجمّع بين اللحم والجلد ، وهو بيان للماء المتعفّن الكريه الذي يسقونه.

3 ـ فهذا المجرم المذنب عند ما يرى نفسه في مقابل هذا الشراب( يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ) يسيغه : من اساغة ، وهي وضع الشراب في الحلق.

4 ـ ووسائل التعذيب كثيرة بحيث( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ) . حتّى يذوق وبال عمله وسيّئاته.

5 ـ وقد يتصوّر ان ليس هناك عقابا اكثر من ذلك ، ولكن( وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ ) .

وبهذا الترتيب فإنّ كلّ ما يخطر في ذهن الإنسان وما لا يخطر من شدّة العقاب هو في انتظار هؤلاء الظالمين والجبّارين والمذنبين ، أسوؤها الشراب المتعفّن الكريه ، والعقوبات المختلفة من كلّ طرف ، وفي نفس الوقت عدم الموت ، بل الاستمرار في الحياة وادامة العذاب.

ولكن لا يتصوّر انّ هذا العقاب غير عادل ، لانّه ـ وكما قلنا مرارا ـ النتيجة الطبيعيّة لعمل الإنسان ، بل تجسيم أفعالهم في الآخرة ، فكلّ عمل يجسّم بشكل مناسب ، وإذا ما شاهدنا جنايات بعض المجرمين في عصرنا او في التاريخ القديم لقلنا : حتّى هذه العقوبات قليلة.

* * *

٤٨٠