الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 274652
تحميل: 4796


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274652 / تحميل: 4796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب ، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإخلال بالنظام الاجتماعي واماتة الفضائل الخلقية واشاعة الانحراف ، ومن هنا نجد في الرّوايات أحيانا مقارنة الدرهم الربوي المرتبط ـ بالطبع ـ بالمسائل الاقتصادية بالزنا الذي هو تلوّث جنسي(1) .

ثمّ يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما في الواقع ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين.

الاوّل : قوله :( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) اي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات.

والثّاني : قوله :( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) اي ارجعوا اليه.

والواقع انّ الاستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس ، والتوبة عودة الى الله الكمال المطلق.

واعلموا انّه مهما يكن الذنب عظيما والوزر ثقيلا فإنّ طريق العودة اليه تعالى مفتوح وذلك لانّ( رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) .

وكلمة «الودود» صيغة مبالغة مشتقّة من الود ومعناه المحبّة ، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة «رحيم» اشارة الى انّ الله يلتفت بحكم رحمته الى المذنبين التائبين ، بل هو اضافة الى ذلك يحبّهم كثيرا لانّ رحمته ومحبته هما الدافع لقبول الاستغفار وتوبة العباد.

* * *

__________________

(1) ينبغي ذكر هذه المسألة ايضا وهي انّ جملة( لا يَجْرِمَنَّكُمْ ) ذات احتمالين :

الاوّل : بمعنى لا يحملنكم ، ففي هذه الصورة تكون على النحو التالي لا يجرمن فعل و (شقاقي) فاعله ، و «كم» الضمير المتصل بالفعل مفعول به اوّل و( أَنْ يُصِيبَكُمْ ) مصدر مؤول مفعول ثان فيكون معنى الآية : يا قوم لا يحملنكم شقاقي (مخالفتكم اياي) ان يصيبكم مصير كمصير قوم نوح وأمثالهم من الأقوام المذكورين.

الاحتمال الثّاني : انّ( لا يَجْرِمَنَّكُمْ ) اي لا يجرنكم الى الذنب والاجرام ، ففي هذه الصورة تكون الجملة على النحو التالي ، و «لا يجرمن» فعل و «شقاقي» فاعله و «كم» مفعوله و «انى يصيبكم» نتيجته ، ويكون معنى الآية كما ذكرناه في المتن.

٤١

الآيات

( قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) )

التّفسير

التّهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه :

انّ شعيبا هذا النّبي العظيم الذي لقّب بخطيب الأنبياء(1) لخطبة المعروفة والواضحة ، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة المادّية والمعنوية لهذه الجماعة ، واصل محاججته لقومه بالصبر والاناة والقلب المحترق ، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟! لقد أجابوه بأربع جمل كلّها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم :

__________________

(1) سفينة البحار ، مادة : شعيب.

٤٢

فأوّلها : انّهم قالوا :( يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ) فكلامك أساسا ليس فيه اوّل ولا آخر ، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس لديك شيء نجعله ملاكا لعملنا ، فلا ترهق نفسك اكثر! وامض الى قوم غيرنا

والثّانية : قولهم( وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً ) فإذا كنت تتصور انّك تستطيع اثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوّة فأنت غارق في الوهم.

والثّالثة : هي انّه لا تظنّ انّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفا منك ومن بأسك ، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك( وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ) !

والطريف انّهم عبّروا عن قبيلة شعيب : بـ «الرّهط» وهذه الكلمة تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة الى سبعة ، او عشرة ، او على قول. وهو الحدّ الأكثر ـ تطلق على أربعين نفرا.

وهم يشيرون بذلك الى انّ قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا ، ولكن تمنعنا امور اخرى ، وهذا يشبه قول القائل : لو لا هؤلاء الاربعة من قومك وأسرتك لأعطيناك جزاءك بيدك. في حين انّ قومه وأسرته ليسوا بأربعة ، بل المراد بيان هذه المسألة ، وهي انّهم لا اهمية لقدرتهم في نظر القائل.

وقولهم الأخير :( وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ) فمهما كانت منزلتك في عشيرتك ، ومهما كنت كبيرا في قبيلتك الّا انّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.

ولكنّ شعيبا دون ان يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجبا وقال :( يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ) أفتذروني من اجل رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة انفار ولا ينالني منكم سوء ، فلم لا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن ان نقارن عدّة افراد بعظمة الله

٤٣

سبحانه وأنتم لم تهابوه وتوقّروه( وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) (1) .

وفي الختام يقول لهم : لا تظنوا انّ الله غافل عنكم او انّه لا يرى اعمالكم ولا يسمع كلامكم ، بل( إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) .

انّ المتحدّث البليغ هو من يستطيع ان يعرّف موقفه من بين جميع المواقف الى الطرف المقابل ويشخصه من خلال أحاديثه.

فحيث انّ المشركين من قوم شعيب هددوه في آخر كلامهم بالرجم ، وابرزوا قوتهم امامه ، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي :( وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ (2) إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (3) . اي انتظروا لتنتصروا عليّ بقواكم وجماعتكم وأموالكم ، وانا منتظر ايضا ان يصيبكم الله بعذابه ويهلككم جميعا.

* * *

__________________

(1) هناك في اللغة العربية أسلوب يستعمل عند عدم الاعتناء بشيء ما وذلك على نحو الكناية فيقال مثلا «جعلته تحت قدمي» او يقال مثلا «جعلته دبر اذني» او «جعلته وراء ظهري» او «جعلته ظهريا» و «الظهر» على زنة «قهر» ، والياء بعده ياء النسبة وانّما كسرت الظاء فذلك لما يطرأ على الاسم المنسوب من تغيرات.

(2) المكانة : مصدر او اسم مصدر ومعناه القدرة على الشيء.

(3) الرقيب : معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وانّما سمّي بذلك لانّه يكون حافظا على رقبة شخص ما «كناية عن انّه مراقب على روحه» او يحرك الرقبة ليؤدي دور الرقابة والحفظ.

٤٤

الآيتان

( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) )

التّفسير

عاقبة المفسدين في مدين :

قرانا في قصص الأقوام السابقين مرارا ، انّ الأنبياء كانوا في المرحلة الاولى يدعونهم الى الله ولم يألوا جهدا في النصيحة والإبلاغ وبيان الحجّة ، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعة ينذرها نبيّها ويخوّفها من عذاب الله ، ليعود الى طريق الحق من فيه الاستعداد ولتتم الحجّة عليهم ، وفي المرحلة الثّالثة ، وبعد ان لم يغن اي شيء ممّا سبق ـ تبدا مرحلة التصفية وتطهير الأرض ، وينزل العقاب فيزيل الأشواك من الطريق.

وفي شأن قوم شعيب ـ اي اهل مدين ـ وصل الأمر الى المرحلة النهائية ايضا ، إذ يقول القرآن الكريم فيهم :( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا

٤٥

مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) .

«الصيحة» كما قلنا سابقا معناها في اللغة كل صوت عظيم ، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السّماوية ، هذه الصيحة يحتمل ان تكون صاعقة من السّماء او ما شابهها ، وكما بينا في قصّة ثمود «قوم هود» قد تبلغ الأمواج الصوتية حدّا بحيث تكون سببا لهلاك جماعة من الناس.

ثمّ يعقّب القرآن فيقول :( فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) اي : أجسادا هامدة بلا روح ، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر وهكذا طوي سجلّ وطومار حياتهم( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ) . وانطفأ بريق كل شيء ، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.

وكما كانت نهاية عاد وثمود ـ وقد حكى عنهما القرآن ـ فهو يقول عن نهاية مدين ايضا( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) .

وواضح انّ المقصود من كلمة «مدين» اهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين.

دروس تربوية في قصّة شعيب :

انّ أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للأقوام السابقة تستلهم منها الأجيال التي بعدها ، لانّ تجارب حياة أولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات السنين او مئات السنين ثمّ نقلت إلينا في عدّة صفحات من «التاريخ» وكل فرد منّا يستطيع ان يستلهم العبر في حياته.

قصّة هذا النّبي العظيم «شعيب» فيها دروس كثيرة ، ومن هذه الدروس ما يلي :

٤٦

1 ـ اهمية المسائل الاقتصادية

قرانا في هذه القصّة انّ شعيبا دعا قومه بعد التوحيد الى الحق والعدالة في الأمور المالية والتجارية ، وهذا نفسه يدل على انّ المسائل الاقتصادية في المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها. كما يدل على انّ الأنبياء لم يؤمروا بالمسائل الاخلاقية فحسب ، بل كانت دعوتهم تشكل «الإصلاح» إصلاح الوضع الاجتماعي غير الجيد ، وإصلاح الوضع الاقتصادي كذلك ، حيث كانت هذه الأمور من أهم الأمور ـ عند الأنبياء ـ بعد التوحيد.

2 ـ لا ينبغي التّضحية بالاصالة من اجل التعصب

كما قرانا في هذه القصّة فإنّ احد العوامل التي دعت الى سقوط هؤلاء في احضان الشقاء انّهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي ، في حين انّ الإنسان العاقل والواقعي ينبغي ان يتقبل الحق من كل احد حتى ولو كان من عدوّه.

3 ـ الصلاة تدعو الى التوحيد والتطهير

لقد سأل شعيبا قومه( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ) وان نترك الغش وعدم إيفاء الميزان حقّه. فلعلهم كانوا يتصورون متسائلين : انّ هذه الاذكار والادعية ما عسى ان تؤثر في هذه الأمور؟ على حين انّنا نعرف ان أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة وهذه الأمور ، فإذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي اي مع حضور الإنسان بجميع وجوده امام الله فإنّ هذا الحضور معراج التكامل وسلّم الصعود في تربية روحه ونفسه ، والمطهّر لصدإ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوّي ارادته ويجعل عزمه راسخا وينزع عنه غروره وكبرياءه.

٤٧

4 ـ النظرة الذاتيّة (الانانيّة) رمز للجمود !

لقد كان قوم شعيب ـ كما عرفنا في الآيات السابقة ـ افرادا انانيين و «ذاتيين» إذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم ، وانّ شعيبا يجهل الأمور!! وكانوا يسخرون منه ويعدّون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفا ، وهذه النظرة الضيقة والانانية صيّرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم الى هاوية الهلاك.

ليس الإنسان وحده ـ بل حتى الحيوان ـ إذا كان «انانيّا» ذا نظرة ضيقة فإنّه سيتوقف في الطريق!!

يقال انّ فارسا وصل الى نهر وأراد عبوره ولكنّه لاحظ بتعجب انّ الفرس غير مستعدّة ان تعبر النهر الصغير والقليل العمق ، وكلما الحّ على الفرس لكي تعبر لم يفلح ، فمرّ به رجل حكيم ، فقال له : حرّك ماء النهر ليذهب فإنّ المشكلة ستنحلّ. ففعل ذلك فعبرت الفرس النهر بكل هدوء!! فسأل الحكيم عن السرّ في ذلك ، فقال : حين كان الماء صافيا كانت صورة الفرس في الماء فلم يرق للفرس ان تطأ نفسها ، وحين اختلط الماء بالطين ذهبت الصورة ونسيت الفرس صورتها فعبرت بكل بساطة!

5 ـ تلازم الايمان والعمل

لا يزال الكثيرون يتصورون انه يمكن للمسلم ان يكون بالعقيدة وحدها مسلما حتى وان يقم بأيّ عمل ، وما يزال الكثيرون يريدون من الدين الّا يكون مانعا لرغباتهم وميولهم ، ويريدون ان يكونوا أحرارا بوجه مطلق.

قصّة شعيب تدلنا على انّ قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج ، لذلك كانوا يقولون له : نحن غير مستعدين ان نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام ، ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء.

لقد نسي أولئك انّ ثمرة شجرة الايمان ـ أساسا ـ هي العمل ، وكان نهج

٤٨

الأنبياء ان يصلحوا الانحرافات العمليّة للإنسان ويسددوا خطواته ، والّا فإنّ شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق الّا ان تحرق!

نحن اليوم ـ وللأسف ـ نرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من الفكر ، وهو انّ الإسلام عبارة عن عقائد جافّة لا تتعدّى حدود المسجد ، فما داموا في المسجد فهي معهم ، وإذا خرجوا ودّعوها فيه!! فلا تجد أثرا لاسلامهم في السوق او الادارات او المحيط.

انّ السير في كثير من الدول الاسلامية ـ حتى الدول التي كانت مركزا لانتشار الإسلام ـ يكشف لنا هذا الواقع المرير ، وهو انّ الإسلام منحصر في حفنة من «الاعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح» لا تجد فيها أثرا عن المعرفة والعدالة الاجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الاسلاميّة ولكن ـ لحسن الحظ ـ نرى في ضمن هذه الصحوة الاسلامية ولا سيما بين الشباب تحرّك نحو الإسلام الصحيح والممازجة بين الايمان والعمل ، فلا تكاد تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام «ما علاقة الإسلام بأعمالنا؟!» او انّ «الإسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش» وما الى ذلك.

الاطروحة التي نسمعها من بعض المنحرفين بقولهم : نحن نستوحي عقيدتنا من الإسلام واقتصادنا من ماركس ، هي شبيهة بطريقة تفكير قوم شعيب الضالين وهي محكومة مثلها ايضا ، ولكن هذا الانفصال او التفرقة بين العمل والايمان كان موجودا منذ القدم ولا يزال ، وينبغي ان نكافح مثل هذا التفكير!

6 ـ الملكية غير المحدودة أساس الفساد

لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون انّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قبل مالكيها ، ولذلك تعجبوا من شعيب وقالوا له : امثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا

٤٩

منها ، انّ هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع ، ام كان على نحو الاستهزاء ، يدلّ على انّهم كانوا يرون تحديد التصرّف بالمال دليلا على عدم العقل والدارية.

في حين انّهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا إذ لو كان الناس أحرارا في التصرّف بأموالهم لعمّ المجتمع الفساد والشقاء ، فيجب ان تكون الأمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس ، والّا فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد.

7 ـ هدف الأنبياء هو الإصلاح

لم يكن هذا الشعار :( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ) شعار شعيب فحسب ، بل هو شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين ، وانّ اعمالهم وأقوالهم شواهد على هذا الهدف. فهم لم يأتوا لاشعار الناس ، ولا لغفران الذنوب ، ولا لبيع الجنّة ، ولا لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس ، بل كان هدفهم الإصلاح بالمعنى المطلق والوسيع للكلمة الإصلاح في الفكر ، الإصلاح في الأخلاق ، الإصلاح في النظم الثقافية والاقتصادية والسياسيّة للمجتمع ، والإصلاح في جميع ابعاد المجتمع.

وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

* * *

٥٠

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) )

التّفسير

البطل المبارز لفرعون :

بعد انتهاء قصّة شعيب واهل مدين ، يشير القرآن الكريم الى زاوية من قصّة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصّة هي القصّة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة.

تحدث القرآن الكريم عن قصّة موسىعليه‌السلام وفرعون وبني إسرائيل اكثر من مائة مرّة.

وخصوصية قصّة موسىعليه‌السلام بالنسبة لقصص الأنبياء ـ كشعيب وصالح وهود ولوطعليهم‌السلام التي قرأناها في ما سبق ـ هي انّ أولئك الأنبياءعليهم‌السلام واجهوا الأقوام الضالين ، لكن موسىعليه‌السلام واجه اضافة الى ذلك حكومة «ديكتاتور» طاغ مستبدّ

٥١

هو فرعون الجبار.

وأساسا فإنّ الإصلاح ينبغي ان يبدأ من الأصل والمنبع ، وطالما هناك حكومات فاسدة فلن يبصر اي مجتمع وجه السعادة ، وعلى القادة الإلهيين في مثل هذه المجتمعات ان يدمروا مراكز الفساد قبل كل شيء.

ولكن ينبغي الالتفات الى انّنا نقرا في هذا القسم من قصّة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنّها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعا.

يقول القرآن الكريم اوّلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

«السلطان» بمعنى التسلّط ، يستعمل تارة في السلطة الظاهرية ، وأحيانا في السلطة المنطقية ، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقا للفرار.

ويبدو في الآية المتقدمة انّ «السلطان» استعمل في المعنى الثّاني ، والمراد بـ «الآيات» هي معاجز موسى الجليلة ، وللمفسرين احتمالات اخرى في هاتين الكلمتين.

وعلى كل حال فإنّ موسى أرسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي( إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) .

وكما قلنا مرارا فإنّ كلمة «الملا» تطلق على الذين يملا مظهرهم العيون بالرّغم من خلوّ المحتوى الداخلي ، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالبا على الوجوه والاشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة الّا انّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى ، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة لمنطقه الحق ومعجزاته( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) . ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس الى الحياة السعيدة او ضمان نجاتهم وتكاملهم :( وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) .

انّ هذا نجاح فرعون هذا لم يحصل بسهولة ، فقد استفاد من كل انواع السحر

٥٢

والخداع والتآمر والقوى لتقدم اهدافه وتحريك الناس ضد موسىعليه‌السلام ، ولم يترك في هذا السبيل ايّ نقطة نفسية بعيدة عن النظر ، فتارة كان يقول : انّ موسى( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ) .(1)

واخرى كان يقول :( إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ) .(2) فيحرك مشاعرهم واحاسيسهم المذهبيّة.

وأحيانا كان يتهم موسى ، واخرى كان يهدّده ، وأحيانا يبرز قوّته وشوكته بوجه الناس في مصر ، او يدعي الدهاء في قيادته بما يضمن الخير والصلاح لهم.

ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يرى فرعون هناك :( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) وبدلا من ان ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم الى جهنم( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) فبدلا من ان يسكن عطش اتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلا من الارواء يزيدهم ظمأ الى ظمأ.

مع ملاحظة انّ «الورود» في الأصل معناه التحرّك نحو الماء والاقتراب منه ، ولكن الكلمة أطلقت لتشمل الدخول على كل شيء وتوسّع مفهومها.

و «الورد» هو الماء يرده الإنسان ، وقد يأتي بمعنى الورود ايضا.

و «المورود» هو الماء الذي يورد عليه ، فـ «هم» اسم مفعول ، فعلى هذا يكون معنى الجملة بئس الورد والمورود(3) على النحو التالي : النّار بئس ماؤها ماء حين يورد عليه.

ويلزم ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ العالم بعد الموت ـ كما قلنا سابقا ـ

__________________

(1) الأعراف ، 110.

(2) غافر ، 26.

(3) هذا الجملة من حيث التركيب النحوي يكون اعرابها كالتالي : «بئس» من افعال الذم ، وفاعله «الورد» و «المورود» صفة ، والمخصوص بالذم «النار» التي حذفت من الجملة ، واحتمل البعض انّ المخصوص بالذم هو كلمة «المورود» فعلى هذا لم يحذف من الجملة شيء ، الّا انّ الاوّل أقوى كما يبدو.

٥٣

عالم «تتجسم فيه اعمالنا وأفعالنا» الدنيوية بمقياس واسع ، فالشقاء والسعادة في ذلك العالم نتيجة اعمالنا في هذه الدنيا ، فالأشخاص الذين كانوا في هذه الدنيا قادة الصلاح يقودون الناس الى الجنّة والسعادة في ذلك العالم ، والذين كانوا قادة للظالمين والضالين واهل النّار يسوقونهم الى جهنم يتقدمونهم هناك!

ثمّ يقول القرآن :( وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ) . فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ ابدا على انّهم قوم ضالون وجبابرة ، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النّار لهم عطاء وجزاء و( بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) (1) .

و «الرفد» في الأصل معناه الاعانة على القيام بعمل معين ، وإذا أرادوا ان يسندوا شيئا الى شيء آخر عبروا عن ذلك بالرفد ، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لانّه اعانة من قبل المعطي الى المعطى له!

* * *

__________________

(1) اعراب هذه الجملة كإعراب أختها السابقة.

٥٤

الآيات

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) )

التّفسير

في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين ولمحات من تأريخ أنبيائهم ، وكل واحد منهم يكشف للإنسان قسما جديرا بالنظر من حياته المليئة بالحوادث ويحمل بين جنبيه دروسا من العبرة للإنسان.

وهنا اشارة الى جميع تلك القصص ، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة لما مرّ من الحوادث والأنباء حيث يقول :( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ ) .

٥٥

وكلمة «قائم» تشير الى المدن والعمارات التي لا تزال باقية من الأقوام السابقين ، كأرض مصر التي كانت مكان الفراعنة ولا تزال آثار أولئك الظالمين باقية بعد الغرق ، فالحدائق والبساتين وكثير من العمارات المذهلة قائمة بعدهم.

وكلمة «حصيد» معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل ، وفي هذه الكلمة اشارة الى بعض الاراضي البائرة ، كأرض قوم نوح وارض قوم لوط ، حيث انّ واحدة منهما دمرها الغرق والثانية أمطرت بالحجارة.

( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) حيث ركنوا ولجأوا الى الأصنام والآلهة «المزعومة»( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) بل زادوهم ضررا وخسرانا( وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) (1) .

( وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ) فلا يدعها على حالها و( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .

هذا قانون الهي عام ومنهج دائم ، فما من قوم او امّة من الناس يتجاوزون حدود الله ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم ، الّا أخذهم الله أخذا شديدا واعتصرتهم قبضة العذاب.

هذه الحقيقة تؤكّد انّ المنهاج السابق منهاج عمومي وسنّة دائمة ، وتستفاد من آيات القرآن بصورة جيدة ، وهي في الواقع إنذار لأهل العالم جميعا : ان لا تظنوا انّكم مستثنون من هذا القانون ، او انّ هذا الحكم مخصوص بالاقوام السابقين.

والطبع فإنّ الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب ، ووصفت القرية او المدينة بأنّها «ظالمة» مع انّ الوصف ينبغي ان يكون لساكنيها ، فكأنما هناك مسألة دقيقة وهي انّ اهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم الى درجة حتى كأنّ المدينة لها أصبحت مغموسة في الظلم ايضا.

__________________

(1) «التتبيب» مشتق من مادة «تبّ» ومعناه الاستمرار في الضرر ، وقد يأتي بمعنى الهلاك ايضا.

٥٦

وحيث انّ هذا قانون كلّي وعام فإنّ القرآن يقول مباشرة( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ) .

لانّ الدنيا لا تعدّ شيئا إزاء الآخرة ، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها ، والعالم الآخر أوسع ـ من جميع النواحي ـ من هذه الدنيا. فالمؤمنين بيوم القيامة يعتبرون لدى مشاهدة واحد من هذه المثل والنماذج في الدنيا ، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية اشارة الى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) .

هي اشارة الى انّ القوانين والسنن الالهية كما هي عامّة في هذا العالم ، فإنّ اجتماع الناس في تلك المحكمة الالهية ايضا عام ، وسيكون في زمان واحد ويوم مشهود للجميع يحضره الناس كلّهم ويرونه.

من الطريف هنا انّ الآية تقول( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) ولم تقل «مجموع فيه الناس» وهذا التعبير اشارة الى انّ يوم القيامة ليس ظرفا لاجتماع الناس فحسب ، بل هو هدف يمضي اليه الناس في مسيرهم التكاملي.

ونقرا في الآية (9) من سورة التغابن( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) .

وبما انّ البعض قد يتوهم انّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن اجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله ، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة :( وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ) .

وذلك ايضا لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الاختبار والتعلم ، وليتجلى آخر منهج للأنبياء وتظهر آخر حلقة للتكامل الذي يمكن لهذا العالم ان يستوعبها ثمّ تكون النهاية.

والتعبير بكلمة «معدود» اشارة الى قرب يوم القيامة ، لانّ كل شيء يقع تحت

٥٧

العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

والخلاصة انّ تأخير ذلك اليوم لا ينبغي ان يغترّ به الظالمون ، لانّ يوم القيامة وان تأخر فهو آت لا محالة ، وانّ التعبير بتأخره ايضا غير صحيح.

* * *

٥٨

الآيات

( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) )

التّفسير

السّعادة الشّقاوة :

أشير في الآيات المتقدّمة الى مسألة القيامة واجتماع الناس كلّهم في تلك المحكمة العظيمة وهذه الآيات ـ محل البحث ـ بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم ، إذ تقول الآيات اوّلا :( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .

قد يتصور أحيانا انّ هذه الآية الدالة على تكلّم الناس في ذلك اليوم بإذن الله ، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقا ، كالآية (65) من سورة يس

٥٩

( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ، وكالآية (35) من سورة المرسلات حيث نقرا :( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) .

ولهذا السبب قال بعض المفسّرين الكبار : انّ التكلم هناك «يوم القيامة» لا مفهوم له أساسا. لانّ التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم ، ولو كان لدينا احساس نستطيع ان نطّلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة الى التكلم ابدا.

فعلى هذا لمّا كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف «يوم القيامة» على حالة «الظهور والبروز» فلا معنى للتكلم أصلا.

وببيان آخر : انّ الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل ، وعلى هذا فلا معنى هناك لاختيار الإنسان وتكلمه حسب رغبته وارادته ، بل هو الإنسان وعمله وما يتعلق به ، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وارادة وحاكيا عمّا في ضميره كما في الدنيا ، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الانعكاس عن اعماله التي تظهر جليّة ذلك اليوم. اي انّ الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا بحيث يستطيع الإنسان على حسب ميله ان يتكلم صادقا او كاذبا.

وعلى كل حال فإنّ ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب الى الشهود ، ولا شبه له بهذه الدنيا.

ولكن هذا الاستنتاج من الآية المتقدّمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأخرى في القرآن ، لأنّ القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة والجبابرة وأتباعهم ، والشيطان والمنخدعين به ، وأهل النّار وأهل الجنّة ، بحيث يدل على انّ هناك كلاما كالكلام في هذه الدنيا أيضا.

حتى انّ بعض الآيات يستفاد منها انّ قسما من المجرمين يكذبون في ردهم على بعض الاسئلة ، كما هو مذكور في سورة الانعام الآيات (22) الى (24) حيث تقول الآيات( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ

٦٠