الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 274701
تحميل: 4796


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274701 / تحميل: 4796
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

مقرّها في عنان السّماء ، وهذه الاغصان والفروع تشقّ الهواء وتصعد فيه عاليا( وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) .

ومن الواضح انّ الاغصان كلّما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوّث والغبار وتصبح ثمارها نظيفة ، وتستفيد اكثر من نور الشمس والهواء الطلق ، فتكون ثمارها طيّبة جدّا(1) .

6 ـ هذه الشجرة كثيرة الثمر لا كالأشجار الذابلة العديمة الثمر ، ولذلك فهي كثيرة العطاء( تُؤْتِي أُكُلَها ) .

7 ـ وثمارها ليست فصلية ، بل في كلّ فصل وزمان ، فإذا أردنا ان نمدّ يدنا الى أغصانها في اي وقت لم نرجع خائبين( كُلَّ حِينٍ ) .

8 ـ انّ إنتاجها من الثمار يكون وفق قوانين الخلقة والسنن الالهيّة وليس بدون حساب( بِإِذْنِ رَبِّها ) .

والآن يجب ان نفتّش ، اين نجد هذه الخصائص والبركات؟ نجدها بالتأكيد في كلمة التوحيد ومحتواها ، وفي الإنسان الموحّد ذي المعرفة ، وفي البرامج الحيّة النظيفة ، وجميعها نامية ومتحرّكة ولها اصول ثابتة ومحكمة وفروع كثيرة وعالية بعيدة عن التلوّث بالادران الجسديّة والدنيوية ، وكلّها مثمرة وفيّاضة.

وما من احد يأتي إليها ويمدّ يده الى فروعها الّا ويستفيد من ثمارها اللذيذة العطرة ، وتتحقّق فيه الخصال المذكورة ، فعواصف الاحداث الصعبة والمشاكل الكبيرة لا تزحزحه من مكانه ، ولا يتحدد ، وافق تفكيره في هذه الدنيا الصغيرة ، بل يشقّ حجب الزمان والمكان ويسير نحو المطلق اللامتناهي.

سلوكهم وبرامجهم ليست تابعة للهوى والهوس ، بل طبقا للأوامر الالهيّة

__________________

(1) ويظهر هذا الأمر بشكل واضح في ثمار الأشجار ، فثمار الاغصان العالية تكون انضج وأطيب طعما من ثمار الاغصان الواطئة.

٥٠١

وبإذن ربّهم ، وهذا هو مصدر الحركة والنمو في حركتهم.

الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيّبة ، وحياتهم اصل البركة ، دعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم وحتّى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

نعم( وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وهناك سؤال مطروح بين المفسّرين وهو : هل لوجود هذه الشجرة وصفاتها واقع خارجي؟

يعتقد البعض بوجودها وهي النخلة ، ولذلك اضطروا الى ان يفسّروا( كُلَّ حِينٍ ) بستّة أشهر.

ولكن لا حاجة الى الإصرار في وجود مثل هذه الشجرة ، بل هناك تشبيهات كثيرة وليس لها وجود خارجي أصلا.

وعلى ايّة حال ، فالهدف من التشبيه هو تجسيم الحقائق والمسائل العقليّة وصبّها في قالب الحواس ، وهذه الأمثال ليس فيها اي إبهام ، بل هي مقبولة ومؤثّرة وجذّابة.

وفي عين الحال هناك أشجارا في هذه الدنيا ثمارها لا تنقطع على طول السنة ، وقد رأينا بعض الأشجار في المناطق الحارّة وكانت مثمرة وفي نفس الوقت لها ازهار جديدة للثمار المقبلة!

وبما انّ احد أفضل الطرق لتوضيح المسائل هو الاستفادة من طريق المقابلة والمقايسة ، فقد جعلت النقطة المقابلة للشجرة الطيّبة ، الشجرة الخبيثة( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) .

والكلمة «الخبيثة» هي كلمة الكفر والشرك ، وهي القول السيء والرديء ، وهي البرنامج الضالّ والمنحرف ، والناس الخبثاء ، والخلاصة : هي كلّ خبيث ونجس.

٥٠٢

ومن البديهي انّ مثل هذه الشجرة ليس لها اصل ، ولا نمو ولا تكامل ولا ثمار ولا ظلّ ولا ثبات ولا استقرار ، بل هي قطعة خشبيّة لا تصلح الّا للاشتعال بل اكثر من ذلك هي قاطعة للطريق وتزاحم السائرين وأحيانا تؤذي الناس!

ومن الطريف انّ القرآن الكريم فصل الحديث في وصف الشجرة الطيّبة بينما اكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة( اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) ، وهذا نوع من لطافة البيان ان يتابع الإنسان جميع خصوصيات ذكر «المحبوب» بينما يمرّ بسرعة في جملة واحدة بذكر «المبغوض»!

ومرّة اخرى نجد المفسّرين اختلفوا في تفسير الشجرة الخبيثة ، وهل لها واقع خارجي؟

قال البعض : انّها شجرة «الحنظل» والتي لها ثمار مرّة ورديئة.

واعتقد آخرون انّها «الكشوت» وهي نوع من الاعشاب المعقّدة التي تنبت في الصحراء ولها اشواك قصيرة تلتفّ حولها وليس لها جذر ولا أوراق.

وكما قلنا في تفسير الشجرة الطيّبة ، ليس من اللازم ان يكون للشجرة الخبيثة وجود خارجي في جميع صفاتها ، بل الهدف هو تجسيم الوجه الحقيقي لكلمة الشرك والبرامج المنحرفة والناس الخبثاء ، وهؤلاء كالشجرة الخبيثة ليس لها ثمار ولا فائدة الّا المتاعب والمشاكل. مضافا الى انّ الأشجار والنّباتات الخبيثة التي قلعتها الأعاصير ليست قليلة.

وبما انّ الآيات السابقة جسّدت حال الايمان والكفر ، الطيّب والخبيث من خلال مثالين صريحين ، فإنّ الآية الاخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي ، يقول تعالى :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) لانّ ايمانهم لم يكن ايمانا سطحيا وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة ، بل كانت شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء ، وبما انّ ليس هناك من لا يحتاج الى اللطف الالهي ، وبعبارة اخرى : كلّ المواهب تعود لذاته المقدّسة ، فالمؤمنون

٥٠٣

المخلصون الثابتون بالاستناد الى اللطف الالهي يستقيمون كالجبال في مقابل ايّة حادثة. والله تعالى يحفظهم من الزلّات التي تعتريهم في حياتهم. ومن الشياطين الذين يوسوسون لهم زخرف الحياة ليزلّوهم عن الطريق.

وكذلك فالله تعالى يثبّتهم امام القوى الجهنّمية للظالمين القساة ، الذين يسعون لاخضاعهم بأنواع التهديد والوعيد.

ومن الطريف انّ هذا الحفظ والتثبّت الإلهيين يستوعبان كلّ حياتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة ، فهنا يثبّتون بالايمان ويبرؤون من الذنوب ، وهناك يخلدون في النعيم المقيم.

ثمّ يشير الى النقطة المقابلة لهم( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) .

قلنا مرارا : انّ الهداية والضلال التي تنسب الى اللهعزوجل لا تتحقّقان الّا بأن يرفع الإنسان القدم الاوّل لها ، فاللهعزوجل عند ما يسلب المواهب والنعم من العبد او يمنحها له يكون ذلك بسبب استحقاقه او عدم استحقاقه.

ووصف «الظالمين» بعد جملة «يُضِلُّ اللهُ » أفضل قرينة لهذا الموضوع ، يعني ما دام الإنسان غير ملوّث بالظلم لا تسلب الهداية منه ، امّا إذا تلوّث بالظلم وعمّت وجوده الذنوب ، فسوف يخرج من قلبه نور الهداية الالهيّة ، وهذه عين الارادة الحرّة. وبالطبع إذا غيّر مسيره بسرعة فطريق النجاة مفتوح له ، ولكن إذا استحكم الذنب فإنّ طريق العودة يكون صعبا جدّا.

* * *

بحوث

1 ـ هل القصد من الآخرة في الآية هو القبر؟

نقرا في روايات متعدّدة انّ الله يثبت الإنسان على خطّ الايمان عند ما يواجه اسئلة الملائكة في القبر ، وهذا معنى الآية( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ

٥٠٤

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) .

ولقد وردت كلمة «القبر» بصراحة في بعض هذه الرّوايات(1) .

ولكن هناك رواية شريفة عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عمّا هو عليه ، فيأبى اللهعزوجل له ذلك ، وهو قول اللهعزوجل :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) (2) .

واكثر المفسّرين يميلون الى هذا التّفسير ، طبقا لما نقله المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ولعلّ ذلك يعود الى انّ الآخرة ليست محلا للأعمال ولا للانحراف ، بل هي محلّ الحصول على النتائج فحسب ولكن عند وقوع الموت وحتّى في البرزخ (الذي هو عالم بين الدنيا والآخرة) قد تحصل بعض الهفوات ، فهنا يكون اللطف الالهي عاملا في حفظ وثبات الإنسان.

2 ـ دور الثبات والاستقامة

من بين جميع الصفات التي ذكرتها الآيات أعلاه للشجرة الطيّبة والخبيثة ، وردت مسألة الثبات وعدم الثبات بشكل اكثر ، وحتّى في بيان ثمار هذه الشجرة يقول تعالى :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) وبهذا الترتيب تتّضح لنا اهميّة الثبات ودوره في حياة الإنسان.

فكثير من الأشخاص من ذوي القابليات المتوسطة ، الّا انّهم ينالون انتصارات كبيرة في حياتهم ، ثمّ إذا حقّقنا في الأمر لم نجد دليلا الّا الثبات والاستقامة لديهم.

ومن جهة اجتماعية لا يتحقّق اي تقدّم في البرامج الّا في ظلّ الثبات ، ولهذا السبب نجد المخرّبين يسعون في تدمير الاستقامة ، ولا نعرف المؤمنين الصادقين

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، صفحة 540 ـ 541.

(2) المصدر السابق.

٥٠٥

الّا من خلال استقامتهم وثباتهم في مقابل الحوادث الصعبة.

3 ـ الشجرة الطيّبة والخبيثة في الرّوايات الاسلامية

كما قلنا أعلاه فإنّ كلمة «الطيّبة» و «الخبيثة» التي شبّهت الشجرتان بها ، لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ شخص وبرنامج ومبدا وفكر وعلم وقول وعمل ، ولكن وردت في بعض الرّوايات في موارد خاصّة ولكن لا تنحصر بها.

ومن جملتها ما ورد في الكافي عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) قال : «رسول الله أصلها وامير المؤمنين فرعها ، والائمّة من ذرّيتهما أغصانها ، وعلم الائمّة ثمرها ، وشيعتهم المؤمنون ورقها ، هل فيها فضل؟» (اي هل يبقى شيء) قال قلت : لا والله ، قال : «والله انّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها ، وانّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها»(1) .

وعنه ايضاعليه‌السلام حينما سأله سائل عن معنى الآية( تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) قال : «ذاك علم الائمّة يأتيكم كلّ عام من كلّ المناطق»(2) .

وفي رواية اخرى : «الشجرة الطيّبة رسول الله وعلي وفاطمة وبنوها ، والشجرة الخبيثة بنو اميّة»(3) .

وفي بعضها الآخر فسّرت الشجرة الطيّبة بالنخل والخبيثة بالحنظلة.

وعلى ايّة حال ليس هناك من تضادّ بين هذه التفاسير ، بل بينها وبين ما قلناه أعلاه ترابط وتنسبق ، لانّها مصاديقها.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 535.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٥٠٦

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) )

التّفسير

نهاية كفران النعم :

الخطاب في هذه الآيات موجّه للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في الحقيقة عرض لواحد من موارد «الشجرة الخبيثة».

يقول تعالى اوّلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا ) الى نهاية الآية. هؤلاء هم جذور الشّجرة الخبيثة وقادة الكفر والانحراف ، لديهم أفضل نعمة وهو رسول الله ، وباستطاعتهم ان يستفيدوا منه في الطريق الى السعادة ، الّا انّ تعصّبهم الأعمى وعنادهم وحقدهم صارت سببا في تركهم هذه النعمة الكبيرة ، ولم يقتصروا على تركها فحسب. بل اضلّوا قومهم ايضا ممّا جعلهم يسلكون هذا السلوك.

مع انّ بعض المفسّرين الكبار عند متابعتهم للروايات الاسلامية فسّروا ـ

٥٠٧

أحيانا ـ هذه النعمة بوجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحيانا أخرى بالأئمةعليهم‌السلام ، وفسّروا الكافرين بهذه النعمة «بني اميّة» و «بني المغيرة» مرّة ، ومرّة اخرى جميع الكفّار الذين عاصروا عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن من المسلّم به انّ للآية مفهوما أوسع من هذا ، وليس مختصّا بمجموعة معيّنة ، بل تشمل جميع الافراد الذين يكفرون بالنعم الالهيّة.

وتثبّت الآية ضمنا هذه الحقيقة ، وهي انّ الاستفادة من وجود القادة العظام تعود لنفس الإنسان ، كما انّ الكفر بهذه النعمة العظيمة يؤدّي الى الهلاك والبوار.

ثمّ انّ القرآن الكريم يفسّر دار البوار بقوله تعالى :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ ) (1) .

ثمّ يشير في الآية الاخرى الى واحدة من أسوإ انواع كفران النعم( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) لكي يستفيدوا عدّة ايّام من حياتهم الماديّة ومن رئاستهم وحكومتهم في ظلّ الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحقّ.

ايّها النّبي( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) .

فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة ، ومع ذلك فانّها تعدّ حياة لذيذة وسعيدة بالنسبة للنهاية التي تنتظرهم ، كما نقرا في آية اخرى( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) .(2) .

* * *

بحوث

1 ـ يقال في العبارات الدارجة : انّ الشخص الفلاني كفر بنعمة الله ، ولكن الآية أعلاه تقول :( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) انّ هذا التعبير الخاص يدلّ على

__________________

(1) «يصلون» من «الصلي» بمعنى الاشتعال والاحتراق بالنار.

(2) الزمر ، 8.

٥٠٨

احد أمرين :

الف : المراد من تبديل «النعمة» الى «كفران» هو عدم شكرهم لهذه النعم ، فبدّلوا الشكر بالكفران (في الحقيقة كلمة الشكر مقدّرة ، ففي التقدير : الذين بدّلوا شكر نعمة الله كفرا).

ب : ـ انّ المقصود هو تبديلهم نفس «النعمة» «كفرا» ، وفي الحقيقة فإنّ النعم الالهيّة وسائل ، وطريقة استعمالها مرتبطة بإرادة الإنسان ، فمثلما يمكن ان نستفيد منها في طريق السعادة والايمان والعمل الصالح ، يمكن ان نستعملها كذلك في مسير الكفر والظلم والفساد ، فهي كالمواد الاوّلية التي يمكن بمساعدتها الحصول على انواع مختلفة من الانتاج ، الّا انّها خلقت في الأصل للخير والسعادة.

2 ـ ليس «كفران النعم» عدم الشكر اللساني فقط ، بل كلّ استفادة غير صحيحة ومنحرفة للنعم ، تلك هي حقيقة الكفران ، وامّا عدم الشكر باللسان ففي الدرجة الثانية ، وكما قلنا سابقا فإنّ شكر النعمة تعني صرفها في الهدف الذي خلقت من اجله ، والشكر عليها باللسان يأتي في الدرجة الثانية ، فإذا قلنا آلاف المرّات : الحمد لله ، ولكنّنا اسأنا عمليّا الاستفادة من النعم ، فذلك كفران للنعم.

وفي عصرنا الحاضر أفضل نموذج لتبديل النعم بالكفران هو استخدام الإنسان لمواهب الطبيعة بفكره ومهارته التي منحها الله للإنسان لخدمة منافعه الخاصّة. فالاكتشافات العلميّة والخبرات الصناعية غيّرت وجه العالم ورفعت عن كاهل الإنسان عبئا ثقيلا ووضعته على عجلات المعامل. فالمواهب والنعم الالهيّة اكثر من اي زمن آخر ، ووسائل نشر المعارف وانتشار العلوم ومعرفة جميع اخبار العالم متوفّرة في ايدي الجميع ، فيجب على الناس في هذا العصر ان يكونوا سعداء من الناحية الماديّة والمعنوية.

ولكن بسبب تبديل النعم الالهيّة الكبيرة الى كفران ، وصرف القوى الطبيعيّة

٥٠٩

في طريق الظلم والطغيان واستخدام الاختراعات والاكتشافات في طريق الاهداف المخربة بحيث انّ كلّ تطور صناعي يستخدم اوّلا في عمليات التدمير.

وخلاصة القول : انّ عدم الشكر هذا والذي هو بعيد عن التعاليم الصالحة للأنبياء ادّى الى ان يجرّوا قومهم ومجتمعهم الى دار البوار.

ودار البوار هذه هي مجموعة من الحروب الاقليميّة والعالميّة بكلّ آثارها التخريبيّة ، وكذلك عدم الأمن والظلم والفساد والاستعمار حيث يبتلي بها في النهاية المؤسّسون لها ايضا ، كما رأينا في السابق ونراه اليوم.

وما الطف تصوير القرآن حيث جعل مصير كلّ الأقوام والأمم التي كفرت بأنعم الله الى دار البوار.

3 ـ «أنداد» جمع «ندّ» بمعنى «المثل» ولكن الراغب في مفرداته والزبيدي في تاج العروس قالا : انّ «الندّ» يقال للشيء الذي يشابه الشيء الآخر جوهريا ، و «المثل» يطلق على كلّ شيء شبيه لشيء ، ولذلك فالندّ له معنى اعمق وادقّ من المثل.

وطبقا لهذا المعنى نستفيد من الآية أعلاه انّ ائمّة الكفر كانوا يسعون لان يجعلوا لله شركاء ويشبهوهم في جوهر ذاتهم باللهعزوجل ، لكي يضلّوا الناس عن عبادة الله ويحصلوا على مقاصدهم الشريرة.

فتارة يقرّبون لهؤلاء الشركاء القرابين ، واخرى يجعلون قسما من النعم الالهيّة (كبعض الانعام) مخصوصة للأصنام ، ويعتقدون أحيانا بعبادتها. واوقح من ذلك كلّه كانوا يقولون أثناء حجّهم في عصر الجاهلية : (لبّيك لا شريك لك ـ الا شريك هو لك ـ تملكه وما ملك)(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية أعلاه.

٥١٠

الآيات

( قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) )

التّفسير

عظمة الإنسان من وجهة نظر القرآن :

تعقيبا للآيات السابقة في الحديث عن برنامج المشركين والذين كفروا بأنعم الله وكون مصيرهم الى دار البوار ، تتحدّث هذه الآيات عن برنامج عباد الله المخلصين والنعم النازلة عليهم ، يقول تعالى :( قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا

٥١١

الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) قبل ان يأتي ذلك اليوم الذي لا يستطيع فيه الإنسان من التخلّص من العذاب بشراء السعادة والنعيم الخالد ، ولا تنفع الصداقة حينئذ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ) .

ثمّ تتطرّق الآية الى معرفة الله عن طريق نعمه ، معرفة تؤدّي الى احياء ذكره في القلوب ، وتحثّ الإنسان على تعظيمه في مقابل لطفه وقدرته ، لانّ من الأمور الفطرية ان يشعر الإنسان في قلبه بالحبّ والودّ لمن أعانه واحسن اليه.

ويبيّن هذا الموضوع من خلال عدّة آيات( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) .

ثمّ انّه( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ) سواء من جهة موادّها الاوّلية المتوفّرة في الطبيعة ، او من جهة القوّة المحرّكة لها وهي الرياح التي تهب على البحار والمحيطات بصورة منتظمة لتسيير هذه السفن فتنقل الإنسان وما يحتاج اليه من منطقة الى اخرى بيسر وسهولة :( لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) .

( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ) كي تسقوا من مائها زروعكم ، وتشربوا أنتم وانعامكم ، وفي كثير من الأحيان تكون طريقا للسفن والقوارب ، وتستفيدون منها في صيد الأسماك.

وليست موجودات الأرض ـ فقط ـ مسخّرة لكم ، بل( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) (1) .

وليست مخلوقات العالم بذاتها فقط ، بل حتّى الحالات العرضية لها هي في خدمتكم :( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) من احتياجاتكم البدنيّة والاجتماعية وجميع وسائل السعادة والرفاه( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) لانّ النعم المادية والمعنوية للخالق شملت جميع وجودكم

__________________

(1) «دائبين» من مادّة «الدؤوب» بمعنى ادامة العمل طبقا للسنّة الثابتة ، وبما انّ الشمس والقمر مستمرّان بشكل ثابت من ملايين السنين ، وما لها من فوائد عظيمة للكائنات ، لا نجد هناك عبارة لهما أفضل من دائبين.

٥١٢

وهي غير قابلة للاحصاء ، وعلاوة على ذلك فإنّ ما تعلمونه من النعم بالنسبة لما تجهلونه كقطرة في مقابل البحر.

وعلى الرغم من كلّ هذه الألطاف والنعم ف( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) .

فلو كان الإنسان يستفيد من هذه النعم بشكلها الصحيح لاستطاع ان يجعل الدنيا حديقة غنّاء ولنفّذ مشروع المدينة الفاضلة ، ولكن بسبب عدم الاستفادة الصحيحة لها أصبحت حياته مظلمة ، واهدافه غير سامية ، فتراكمت عليه المشاكل والصعاب وقيّدته بالسلاسل والأغلال.

* * *

بحوث

1 ـ الصلة بالخالق والصلة بالخلق

نواجه في هذه الآيات مرّة اخرى وفي تنظيم برنامج المؤمنين الصادقين مسألة «الصلاة» و «الإنفاق» ، وفي البداية قد يطرح هذا السؤال ، وهو : كيف أشار القرآن الكريم لهاتين المسألتين من بين جميع البرامج العمليّة للإسلام؟ العلّة في ذلك انّ للإسلام ابعاد مختلفة يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط : علاقة الإنسان بربّه ، وعلاقته بخلق الله ، وعلاقته بنفسه ، وهذا القسم الأخير في الحقيقة نتيجة للقسم الاوّل والثاني ، فالصلاة والإنفاق كلّ واحدة منهما رمز للعلاقة الاولى والثانية.

والصلاة مظهر لصلة الإنسان بربّه وهذه الصلة تظهر في الصلاة بشكل أوضح من اي عمل آخر ، والإنفاق رمز للصلة بين المخلوقين ، فالرزق في مفهومه الواسع يشمل كلّ نعمة مادية ومعنوية.

وبالنظر الى انّ هذه السورة مكّية ، وأثناء نزولها لم يكن حكم الزكاة نازلا بعد ، لا نستطيع القول : انّ هذا الإنفاق مرتبط بالزكاة ، بل له معنى واسع بحيث

٥١٣

يشمل حتّى الزكاة بعد نزولها.

وعلى ايّة حال إذا تأصّل الايمان فسوف يتجلّى بالعمل فيقرب الإنسان الى ربّه من جانب ، الى عباده من جانب آخر.

2 ـ لماذا السرّ والعلانية؟

نقرا مرارا في آيات القرآن انّ المؤمنين ينفقون او يتصدّقون في السرّ والعلانية ، وبهذا الترتيب فإنّه تعالى مع ذكره للإنفاق يذكر كيفيّة الإنفاق ، لانّه يكون مرّة في السرّ اكثر تأثيرا وكرامة ، ويكون مرّة اخرى في الجهر سببا في تشجيع الآخرين واقتدائهم في اقامة الشعائر الدينيّة.

ولو قامت حرب بين دولة اسلامية واخرى كافرة لرأينا الناس المؤمنين يحملون كلّ يوم مقادير كبيرة من التبرعات الى المناطق المنكوبة لمساعدة المتضرّرين بالحرب ، او الجرحى والمعوّقين او المقاتلين ، ومن المعلوم انّ نشر اخبار هذه التبرّعات مفيد جدّا ولتكون دليلا على مواساتهم ، ودعمهم لمقاتليهم ، وإحياء لروح الانسانيّة في عامّة الناس ، وتشجيعا للذين تخلّفوا عن هذه القافلة لكي يوصلوا أنفسهم بها ، ومن البديهي انّ الإنفاق هنا في العلانية اكثر تأثيرا.

ويقول بعض المفسّرين : انّ الفرق بين الانفاقين هو انّ الإنفاق العلني مرتبط بالواجبات ، فلا يخشى عليه من الرياء ، لان العمل بالواجبات لازم للجميع ولا داعي لاخفائه ، وامّا الإنفاق المستحبّ ـ ولانّه زائد عن الوظيفة الواجبة ـ فمن الممكن ان تتخلّله حالة من التظاهر والرياء ولذلك كان إخفاؤه أفضل.

ولكن الظاهر انّ هذا التّفسير ليس أصلا كلّيا على حدة. بل هو فرع من التّفسير الاوّل.

٥١٤

3 ـ يوم لا بيع فيه ولا خلال

من المعلوم انّ يوم القيامة هو يوم استلام النتائج ومتابعة جزاء الأعمال ، وبهذا الترتيب لا يستطيع احد هناك ان ينجو من العذاب بفدية ، حتّى لو افترضنا انّه ينفق جميع ما في الأرض فإنّه لا يمكن ان يمحو ذرّة من جزاء اعماله ، لانّ صحيفته في «دار العمل» اي الدنيا مليئة بالاخطاء والذنوب وهناك «دار الحساب».

وكذلك لا تستطيع العلاقة المادية للصداقة مع اي شخص كان ان تنجيه من العذاب ، وبعبارة اخرى : انّ الإنسان غالبا ما يلجأ الى المال او الواسطة (الرشوة ، العلاقات) في نجاته من المصاعب في هذه الدنيا ، فإذا كان تصوّرهم انّ الآخرة كذلك فهذا دليل وهمّهم وجهلهم.

ومن هنا يتّضح انّ نفي وجود الخلّة والصداقة في هذه الآية لا يتنافى مع صداقة المؤمنين بعضهم لبعض في الآخرة والتي اشارت إليها بعض الآيات ، لانّها صداقة مودّة معنوية في ظلّ الايمان.

وامّا مسألة «الشفاعة» فقد قلنا كرارا انّها تخلو من اي مفهوم مادّي ، بل بالنظر الى ما صرّحت به بعض الآيات فإنّها في ظلّ العلاقات المعنوية وصلاحية البعض بسبب اعمال الخير (وقد شرحنا هذا الموضوع في ذيل الآية 254 من سورة البقرة).

4 ـ كلّ الموجودات تحت امرة الإنسان!

نواجه في هذه الآيات مرّة اخرى تسخير مختلف الموجودات في الأرض والسّماء للإنسان ، وقد قسمت الى ستّة اقسام : تسخير الفلك ، والأنهار ، والشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار. ونرى انّ قسما من هذه المسخّرات من السّماء ، وقسما آخر من الأرض ، وقسما ثالثا من الظواهر بين الاثنين (الليل

٥١٥

والنهار).

وقلنا سابقا ، ونكرّر هنا للتذكرة : انّ الإنسان من وجهة نظر القرآن له من العظمة بحيث سخّر الله له جميع ما في الوجود ، امّا ان يكون زمام أمورها بيده او تتحرّك ضمن منافعه ، وعلى ايّة حال فهذه العظمة جعلته من اشرف الموجودات.

«فالشمس» : تسطع له بالنّور ، وتعطيه الحرارة ، وتساعد على نمو النباتات له ، وتطهّر محيطه من الأمراض ، وتخلق له البهجة والسرور ، وتعلّمه الحياة.

وامّا «القمر» : فمصباح في ليله المظلم ، ومفكرة طبيعيّة دائمة ، ومن آثاره تتكوّن ظاهرة الجزر والمدّ لتحلّ كثيرا من مشاكله ، فتسقي الأشجار (بسبب ارتفاع منسوب المياه في الأنهار المجاورة للبحار) وتتحرّك مياه البحار الراكدة كي لا تتعفّن ، وليدخل الاوكسجين فيها بسبب الأمواج ليكون تحت تصرّف الكائنات الحيّة.

«الرياح» : تؤدّي الى حركة السفن في المحيطات حيث تشكّل اكبر واسطة نقل وفي أوسع طريق للإنسان ، بحيث تستطيع ـ أحيانا ـ ان تدفع سفينة بحجم مدينة صغيرة بكامل افرادها وتنقلها في المحيطات.

«الأنهار» : تجري في خدمة الإنسان ، تسقي زرعه ، وتروي مواشيه ، وتجعل محيطة ذا طراوة ، وتربّي له الأسماك لتغذيته.

«ظلام الليل» : حيث هو سكن للإنسان ، ويمنحه الطمأنينة والراحة ، ويخفّف من حرارة الجو الملتهبة في النهار.

وأخيرا «ضياء النهار» : يدعوه الى الحركة والسعي ، ويخلق له الدفء والحرارة.

والخلاصة : انّ كلّ ما على الأرض وحولها لنفع الإنسان ، وبيان هذه النعم وشرحها يمنح الإنسان شخصية جديدة ، وتفهمه عظمة مقامه وتبعث فيه الاحساس بالشكر اكثر.

٥١٦

ونستفيد ايضا من هذا البيان انّ للتسخير في لغة القرآن معنيان :

الاوّل : التسخير لخدمة الإنسان وتحقيق منافعه ومصالحه (كتسخير الشمس والقمر).

والثّاني : التسخير الذي يكون زمام أموره بيد الإنسان (كتسخير الفلك والبحار).

وامّا ما اعتقده البعض من انّ هذه الآيات اشارة الى تسخير الإنسان للقمر وغيره في عصرنا الحاضر فإنّنا لا نراه صحيحا ، لانّ هناك بعض الآيات تقول :( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (1) ، فلا يستطيع الإنسان ان يصل الى جميع الكرات السّماوية بتاتا.

نعم هناك بعض الآيات قد تشير الى هذا النوع من التسخير ، وسوف نبحث هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الرحمن (وسبق لنا بحث في تسخير الموجودات للإنسان في ذيل الآية (2) من سورة الرعد).

5 ـ دائبين

قلنا انّ «دائب» من مادّة «الدؤوب» بمعنى استمرار العمل طبقا للعادة والسنّة ، فالشمس لا تدور حول الأرض ، بل الأرض تدور حول الشمس ، ونحن نظنّ انّ الشمس تدور حولنا ، وهذه الحركة ليست المقصودة في معنى «دائب» بل الاستمرار في انجاز العمل يدخل في مفهوم الدؤوب ، ونحن نعلم انّ الشمس والقمر لهما برنامج في انبعاث النّور وما يتبعه من توقّف الحياة على الأرض عليه بشكل مستمر وفي غاية من الدقّة (وهناك حركات اخرى للشمس كما يقوله العلماء ، منها الحركة حول نفسها ، وحركتها مع المجموعة الشمسية).

__________________

(1) الجاثية ، 13.

٥١٧

6 ـ هل يعطينا الله كلّ ما نطلب منه؟

قرانا في الآيات أعلاه انّ اللهعزوجل لطف بكم وأعطاكم من كلّ ما سألتموه («من» في الآية تبعيضيّة) وذلك بسبب انّ كثيرا ممّا يطلبه الإنسان من ربّه قد يعود عليه بالضرر والهلاك ، ولكنّ الله حكيم وعالم ورحيم فلا يستجيب لمثل هذه الطلبات ، وفي المقابل نرى في اكثر الأحيان انّ الإنسان لا يطلب شيئا بلسانه ، ولكن يتمنّاه بفطرته ووجدانه فيستجيب الله له ، وليس هناك مانع من ان يكون السؤال في جملة( ما سَأَلْتُمُوهُ ) شاملا للسؤال باللسان والسؤال بالفطرة والوجدان.

7 ـ لماذا لا تحصى نعماؤه؟

نعم الله ـ في الحقيقة ـ تعمّ كلّ وجودنا ، وإذا ما طالعنا الكتب المختلفة في العلوم الطبيعيّة والانسانيّة والنفسيّة وأمثالها فسوف نرى الى اي مدى تتّسع أطراف هذه النعم ، وفي الحقيقة انّ لكلّ نفس يتنفّسه الإنسان نعمتان ، ولكلّ نعمة شكر واجب.

واكثر من ذلك فنحن نعلم بأنّ متوسّط عدد الخلايا الحيّة في جسم الإنسان نحو العشرة ملايين ميليارد ، وكلّ مجموعة تشكّل قسما فعّالا في الجسم ، وهذا العدد كبير جدّا بحيث لو أردنا إحصاءه نحتاج الى مئات السنين!

فهذا قسم من نعمه علينا ، ولذلك ـ حقّا ـ لا نستطيع عدّ نعمه ،( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) .

ويوجد في دم الإنسان مجموعتان من الكريّات (وهي خلايا صغيرة سابحة في الدم ولها وظائف حياتية مهمّة) ملايين من «الكريّات الحمراء» وظيفتها إيصال الاوكسجين لأجل الاحتراق وصنع خلايا الجسم ، وملايين من «الكريات البيض» وظيفتها حفظ سلامة الإنسان مقابل هجوم المكروبات ، والعجيب انّ

٥١٨

هذه الكريات في حالة حركة مستمرّة لخدمة الإنسان.

فهل نستطيع في هذه الأحوال ان نحصي نعمه تعالى غير المتناهية؟!

8 ـ أسفا انّ الإنسان ظلوم وكفّار

توصّلنا في البحوث السابقة الى هذه الحقيقة ، وهي انّ الله سخّر للإنسان جميع الموجودات ، وهيّأ له كلّ هذه النعم بحيث سدّ جميع احتياجاته ، ولكن الإنسان بسبب ابتعاده عن نور الايمان والتربية ، نراه يخطو في طريق الظلم والطغيان ويكفر بالنعم.

ويسعى المحتكرون في احتكار النعم الالهيّة الواسعة والسيطرة على منابعها الحياتية ، مع انّهم لا يستهلكون الّا الشيء القليل ويحرمون الآخرين منها ، ويظهر هذا الظلم بأشكال مختلفة من السيطرة على الشعوب الضعيفة واستعمارها والتجاوز على حقوق الآخرين ، فيعرّض الإنسان حياته الهادئة الى الهلاك ، يخلق الحروب ، ويسفك الدماء ، ويقضي على الأموال والأنفس.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن الكريم يناديه : ايّها الإنسان ، كلّ شيء بالقدر الكافي تحت تصرّفك ، بشرط ان لا تكون ظلوما كفّارا ، عليك ان تقنع بحقّك ولا تتجاوز على حقوق الآخرين.

* * *

٥١٩

الآيات

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) )

٥٢٠