الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237448 / تحميل: 7580
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٣ ـ العبادة والتكامل

وكما هو معلوم فإنّ الإنسان قد بدأ انطلاقته في الحياة من نقطة العدم ولا يزال يسير نحو المطلق ، ولن تتوقف عجلة تكامله (ما دام مداوما على الطريق) كما أنّه يمتلك مقومات السير ويمتاز بقابلية فائقة واستعداد كامل في طلبه للتكامل ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ـ تعتبر العبادة مدرسة عالية للتربية ، لأنّها توقظ عقل الإنسان ، وتوجه فكره نحو المطلق ، وتغسل غبار الذنوب والغفلة من قلبه وروحه ، وتنمي فيه الصفات الإنسانية الرفيعة ، وتقوي إيمانه وتجعله أكثر وعيا واكبر مسئولية.

فلا يمكن للإنسان الواقعي أن يستغني عن هذه المدرسة الراقية ، أمّا الذين يعتقدون بأنّ الإنسان قد يصل إلى درجة معينة لا يحتاج عندها إلى العبادة ، فأولئك إمّا أنّهم يعتبرون عملية تكامل الإنسان محدودة وتنتهي بحدّ معين ، أو أنّهم لم يدركوا معنى العبادة حقّا.

وللعلّامة الطّباطبائيرحمه‌الله في تفسير الميزان بيان بهذا الشأن ، إليك ملخصه ، (إن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية ، وكذلك الإنسان له غاية تكاملية لا ينالها إلّا بالاجتماع المدني ، ولهذا فهو اجتماعي بالطبع ، وإن تحقق هذا الاجتماع فسيحتاج أفراد المجتمع إلى أحكام وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات أمورهم ، وترتفع بهذا اختلافاتهم الضرورية ، ويقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له ، ويحوز بها سعادته وكماله الوجودية.

وبعبارة أخرى : إن كان المجتمع الإنساني صالحا أمكن لأفراده الوصول إلى هدفهم النهائي في الكمال ، وإن فسد المجتمع تخلف أفراده عن هذا التكامل.

وإنّ هذه الأحكام والقوانين سواء كانت اجتماعية أو عبادية ، لا تكون مؤثرة إلّا إذا أخذت من طريق النّبوة والوحي السماوي لا غير.

١٢١

ونعلم أيضا أنّ الأحكام العبادية تشكل جزءا من هذا التكامل الفردي والاجتماعي.

وبهذا يتبيّن أنّ التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية ، وأن تجويز ارتفاع التكليف ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام والقوانين ، وهذا يوجب فساد المجتمع!

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الأعمال الصالحة والعبادات منبع للملكات النفسانية الفاضلة فإذا أديت هذه الأعمال بقدر كاف ، وقويت تلك الملكات الفاضلة في نفس الإنسان ، فستكون نفسها منبعا جديدا لأعمال صالحة أكثر وطاعات وعبادات أفضل.

ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف هو تكميل الإنسان فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى ، وما ذلك إلّا مغالطة ليس أكثر ، لأنّ الإنسان لو تخلف عن التكليف الإلهي فإنّ المجتمع سيسير نحو الفساد فورا ، فكيف يتسنى للفرد الكامل أن يعيش في هكذا مجتمع!

وكذلك فرضية تخلف الإنسان عند امتلاكه الملكات الفاضلة عن العبادات وطاعة الله، فإنّها تعني تخلف هذه الملكات عن آثارها(١) ـ فتأمل.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٩٩.

١٢٢

سورة النّحل

مكّية

وعدد آياتها مائة وثمان وعشرون آية

١٢٣
١٢٤

«سورة النحل »

محتويات السّورة :

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ قسما من آيات هذه السورة مكيّة ، وقسمها الآخر آيات مدنيّة ، في حين يعتبر بعضهم أنّ آياتها مكية على الإطلاق. وعند ملاحظة طبيعة السورة المكية والمدنية يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أكثر صوابا ، ويعزز ذلك ما تبحثه الآية (٤١)( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) ، والآية (١١٠)( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ) حيث أنّها تناولت بوضوح موضوع الهجرة والجهاد معا وكما هو بيّن فإنّ الموضوعين يتناسبان مع الحوادث التي جرت بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة.

وإذا اعتبرنا الهجرة المشار إليها في الآية (٤١) هي هجرة المسلمين الأولى حين هاجر جمع منهم من مكّة إلى الحبشة برئاسة جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ، فيستبعد أن تكون الهجرة والجهاد المشار إليهما في الآية (١١٠) الهجرة الأولى ، ولا تنطبق الآية المباركة إلّا على هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة.

بالإضافة إلى أنّ الآية (١٢٦)( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قد نزلت في غزوة أحد التي وقعت بعد الهجرة الثّانية ، وهذا معروف عند المفسّرين.

وقال بعض المفسّرين : إنّ الآيات الأربعين الأوّل من السورة نزلت في مكّة وبقية الآيات نزلت في المدينة ، في حين يعتبر البعض الآخر منهم جميع آياتها

١٢٥

مكّية سوى الآيات المتعلقة بغزوة أحد (الآيات الثلاثة الأخيرة).

فالمتيقن بخصوص السورة أنّ آياتها مكّية ومدينة ، إلّا أنّه لا يمكن تشخيص ما هو مكي أو مدني بالدقة الكافية سوى الموارد المذكورة.

وعلى أية حال ، فمن خلال ملاحظة السورة يبدو لنا أنّ بحوثها تتناول ما تتناوله الآيات المكّية تارة مثل : التوحيد ، المعاد ، محاربة الشرك وعبادة الأصنام ، وتارة أخرى ما تتناوله الآيات المدينة مثل : الأحكام الاجتماعية ومسائل الجهاد والهجرة.

ويمكننا إجمال محتويات السورة المسبوكة بعناية وإحكام بما يلي :

١ ـ ذكر النعم الإلهية ، وتفصيلها بما يثير دافع الشكر عند كل ذي حس حي ، ليقترب الإنسان من خالق هذه النعم وواهبها.

ومن النعم المذكورة في السورة : نعمة المطر ، نور الشمس ، أنواع النباتات والثمار ، المواد الغذائية الأخرى ، الحيوانات الداجنة بما تقدمه من خدمات ومنافع للإنسان ، مستلزمات وسائل الحياة وحتى نعمة الولد والزوجة ، وبعبارة شاملة (أنواع الطيبات).

ولهذا أطلق البعض عليها (سورة النعم).

وعرفت بسورة النحل لورود تلك الإشارة القصيرة ذات المعاني الجليلة والعجيبة للنحل، ضمن ما ذكر من النعم الإلهية الواسعة ، وبخصوص اعتبار النحل مصدرا لغذاء مهم من أغذية الإنسان ، وباعتبار حياة هذه الحشرة تعبير ناطق لتوحيد الله.

٢ ـ الحديث عن أدلة التوحيد ، عظمة ما خلق الخالق ، المعاد ، إنذار المشركين والمجرمين.

٣ ـ تناول الأحكام الإسلامية المختلفة ، من قبيل : الأمر بالعدل والإحسان ، الهجرة والجهاد ، النهي عن الفحشاء والمنكر والظلم والاستبداد وخلف العهد ،

١٢٦

بالإضافة إلى الدعوة لشكر الله تعالى على نعمة الجزيلة ، وتأتي الإشارة في آيات عديدة إلى أنّ إبراهيمعليه‌السلام رجل التوحيد لأنه كان من الشاكرين.

٤ ـ الحديث عن بدع المشركين مع ذكر أمثلة جميلة حية.

٥ ـ وأخيرا تحذير الإنسانية من وساوس الشيطان.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في فضل سورة النحل ، أنّه قال : «من قرأها لم يحاسبه الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه من دار الدنيا»(١) .

فقراءة الآيات ـ التي تتناول جانبا كبيرا من النعم الإلهية ـ بتدبر وتفكر مع وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم ، تكون سبيلا لأن يستعمل الإنسان كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل ، فلا يحبس ولا يهمل ، ويكون من الشاكرين فإن أصبح كذلك فهل سيتعرض لمحاسبة بعد؟

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٣٢٧.

١٢٧

الآيتان

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) )

التّفسير

أتى أمرالله:

ذكرنا سابقا أن قسما مهمّا من الآيات التي جاءت في أوّل السورة هي آيات مكّية نزلت حينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخوض صراعا مشتدا مع المشركين وعبدة الأصنام ، وما يمر يوم حتى يطلع أعداء الرسالة بمواجهة جديدة ضد الدعوة الإسلامية المباركة ، لأنّها تريد بناء صرح الحرية ، بل كل الحياة من جديد.

ومن جملة مواجهاتهم اليائسة قولهم للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يهددهم وينذرهم بعذاب الله:إن كان ذلك حقا فلم لا يحل العذاب والعقاب بنا إذن؟!

ولعلهم يضيفون : وحتى لو نزل العذاب فسنلتجئ إلى الأصنام لتشفع لنا عند الله في رفع العذاب ولم لا يكون ذلك ، أو لسن شفيعات؟!

وأوّل آية من السورة تبطل أوهام أولئك بقوله تعالى :( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا

١٢٨

تَسْتَعْجِلُوهُ ) ، وإن اعتقدتم أنّ الأصنام شافعة لكم عند الله فقد أخطأتم الظن( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ف «أمر الله» هنا : أمر العذاب للمشركين ، أمّا الفعل «أتى» فالمراد منه المستقبل الحتمي الوقوع على الرّغم من وقوعه بصيغة الماضي ، ومثل هذا كثير في الأسلوب البلاغي للقرآن.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ «أمر الله» إشارة إلى نفس العذاب وليس الأمر به.

واحتمل بعض آخر أنّ المراد به يوم القيامة.

ويبدو لنا أنّ التّفسير الذي ذكرناه أقرب من غيره ، والله العالم.

وبما أنّ مستلزمات العدل الإلهي اقتضت عدم العقاب إلّا بعد البيان الكافي والحجّة التامة ، فقد أضاف سبحانه :( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ (١) عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ) بناء على هذا الإنذار والتذكير( فَاتَّقُونِ ) .

أما المقصود من «الروح» في الآية فهناك كلام كثير بين المفسّرين في ذلك إلّا أنّ الظاهر منها هو : الوحي والقرآن والنّبوة والتي هي مصدر الحياة المعنوية للبشرية.

وقد فصل بعض المفسّرين الوحي عن القرآن وعن النّبوة ، معتبرا ذلك ثلاثة تفاسير مستقلة للكلمة ولكنّ الظاهر رجوع الجميع إلى حقيقة واحدة.

وعلى أية حال فكلمة «الروح» في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإشارة إلى كل ما هو سبب لإحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول ، كما نقرأ في الآية الرّابعة والعشرين من سورة الأنفال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

__________________

(١) «من» في عبارة «من أمره» جاءت بمعنى «ب» السببية.

١٢٩

وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) وفي الآية الخامسة عشر من سورة غافر :( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وفي الآية والثانية الخمسين من سورة الشورى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) .

وجليّ أنّ «الرّوح» في الآيات المتقدمة ترمز إلى «القرآن» و «الوحي» و «أمر النّبوة».

وقد وردت «الرّوح» بمعاني أخر في مواضع من القرآن الكريم ، ولكن مع الأخذ بنظر الإعتبار ما ذكر من قرائن نخلص إلى أنّ المراد من مفهوم «الروح» في الآية مورد البحث هو القرآن وما تضمنه الوحي.

وجدير بالملاحظة أنّ عبارة( عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) لا تعني أن هداية الوحي والنّبوة لا حساب فيها ، لأنّه لا انفصام ولا ضدية بين مشيئة الله وحكمته ، كما تحدثنا في ذلك الآية (١٢٤) من سورة الأنعام :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

ولا ينبغي غض الطرف من كون الإنذار من أوائل الأوامر الربانية الموجهة إلى الأنبياءعليهم‌السلام بدليل عبارة( أَنْ أَنْذِرُوا ) ، لأنّ من طبيعة الإنذار أن يعقبه انتباه فنهوض وحركة.

صحيح أنّ الإنسان طالب للمنفعة ودافع للضرر ، ولكنّ التجربة أظهرت أنّ للترغيب أثر بالغ لمن يمتلك أسس وشرائط قبول الهداية ، أما من أعمت بصيرتهم ملهيات الحياة الدنيا فلا ينفع معهم إلّا التهديد والوعيد ، وفي بداية دعوة النّبي كان من الضروري استخدام أسلوب الإنذار الشديد.

* * *

١٣٠

الآيات

( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) )

التّفسير

الحيوان ذلك المخلوق المعطاء :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك ، جاءت هذه الآيات لتقلع جذوره بالكامل ، وتوجه الإنسان نحو خالقة بطريقين :

الأوّل : عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في الخلائق من نظام عجيب.

الثّاني : عن طريق العاطفة ببيان نعم الله الواسعة على الإنسان ، عسى أن

١٣١

يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إلى المنعم سبحانه.

فيقول :( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

وتتّضح حقّانيّة السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.

ثمّ يضيف :( تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فهل تستطيع الأصنام إيجاد ما أوجده الله؟!

بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!

فكيف إذن جعلوها شريكة الله سبحانه!!

والمضحك المبكي في حال المشركين أنّهم يعتبرون الله هو الخالق عن علم وقدرة لهذا النظام العجيب والخلق البديع ومع ذلك فهم يسجدون للأصنام!

وبعد الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان من الناحية التكوينية فيقول :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) .

«النطفة» (في الأصل) بمعنى : الماء القليل ، أو الماء الصافي ، ثمّ أطلقت على قطرات الماء التي تكون سببا لوجود الإنسان بعد تلقيحها.

وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللهعزوجل ، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند الله أيضا.

هذا إذا ما اعتبرنا «الخصيم» بمعنى المدافع والمعبر عمّا في نفسه ، كما تخبرنا الآية (١٠٥) من سورة النساء بذلك :( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) كما ذهب إليه جمع من المفسّرين.

وهناك من يذهب إلى تفسير آخر ، خلاصته : بقدرة الله التامة خلق الإنسان من نطفة حقيرة ، ولكنّ هذا المخلوق غير الشكور يقف في كثير من المواضع

١٣٢

مجادلا خصيما أمام خالقه ، واعتبروا الآية السابعة والسبعين من سورة يس شاهدا على ما ذهبوا إليه.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل كما يبدو ـ أقرب من الثّاني ، لأنّ الآيات أعلاه في مقام بيان عظمة الله وقدرته ، وتتبيّن عظمته بشكل جلي حين يخلق كائنا شريفا جدا من مادة ليست بذي شأن في ظاهرها.

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم : (خلقه من قطرة من ماء منتن فيكون خصيما متكلما بليغا)(١) .

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثير للإنسان فيقول:( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) .

فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه ، فيها من الفوائد الكثيرة للإنسان ، وقد أشارت الآية إلى ثلاث فوائد :

أوّلا : «الدفء» ويشمل كل ما يتغطى به (بالاستفادة من وبرها وجلودها) كاللباس والأغطية والأخذية والأخبية.

ثانيا : «المنافع» إشارة إلى اللبن ومشتقاته.

ثالثا : «منها تأكلون» أي ، اللحم.

ويلاحظ تقديم الملابس والأغطية والمسكن ، في عرض منافع الأنعام دون المنافع الأخرى ، وهذا دليل على أهميتها وضروريتها في الحياة.

ويلاحظ أيضا مجيء كلمة «الدفء» قبل «المنافع» إشارة إلى أنّ ما تدفع به الضرر مقدم على ما يجلب لك فيه المنفعة.

ويمكن للبعض ممن يخالفون أكل اللحوم أن يستدلوا بظاهر هذه الآية ، حيث لم يعتبر الباري جل شأنه مسألة أكل لحومها ضمن منافعها ، ولهذا نرى قد جاءت

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٩.

١٣٣

( وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) بعد ذكر كلمة «المنافع» ، وأقل ما يستنتج من الآية اعتبارها لأهمية الألبان أكثر بكثير من اللحوم.

ولم يكتف بذكر منافعها المادية ، بل أشار إلى المنافع النفسية والمعنوية كذلك حين قال :( وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) .

«تريحون» : (من مادة الإراحة) بمعنى إرجاع الحيوانات عند الغروب إلى محل استراحتها ، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).

و «تسرحون» : (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحا إلى مراعيها.

عبّر القرآن بكلمة «جمال» عن تلك الحركة الجمالية للأنعام حين تسرع إلى مراعيها وتعود إلى مراحها ، لما لها من جمال ورونق خاص يغبط الإنسان ، والمعبر عن حقيقة راسخة في عمق المجتمع.

فحركة الإبل إضافة إلى روعتها فإنّها تطمئن المجتمع بأنّ ما تحتاجه من مستلزمات حياتك ها هو يسير بين عينيك ، فتمتع به وخذ منه ما تحتاجه ، ولا داعي لأن ترتبط بهذا أو ذاك فتسضعف ، وكأنّها تخاطبه : فأنت مكتف ذاتيا بواسطتي.

ف «الجمال» جمال استغناء واكتفاء ذاتي ، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات أمّة كاملة، وبعبارة أوضح : جمال الاستقلال الاقتصادي وقطع كل تبعية للغير!

والحقيقة التي يدركها القرويون وأبناء الريف أكثر من غيرهم ، هي ما تعطيه حركة تلك الأنعام من راحة نفسية للإنسان ، راحة الإحساس بعدم الحاجة والاستغناء ، راحة تأدية إحدى الوظائف الاجتماعية الهامة.

ومن لطيف الإشارة أنّ بدأت الآية أعلاه بذكر عودة الأنعام إلى مراحلها ، حيث الملاحظ عليها في هذه الحال أثديتها ملأى باللبن ، بطونها ممتلئة ، يشاهد على وجوهها علائم الرضا والارتياح ولا يرى فيها ذلك الحرص والولع والعجلة

١٣٤

التي تظهر عليها حين خروجها في الصباح ، بل تسير هادئة مطمئنة نحو محل استراحتها ، ويكفيك الشعور بالغنى من خلال رؤية أثدائها.

ثمّ يشير تعالى في الآية التي تليها إلى إحدى المنافع المهمّة الأخرى فيقول :( وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) وهذا مظهر من مظاهر رحمة اللهعزوجل ورأفته حيث سخر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من قدرة وقوّة( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

«الشق» : (من مادة المشقة) ، ولكنّ بعض المفسّرين احتمل أنّها بمعنى الشق والقطع ، أي أنّكم لا تستطيعون حمل هذه الأثقال وإيصالها إلى مقاصدكم إلّا بعد أن تخسروا نصف قوتكم.

ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب من الثّاني.

فالأنعام إذن : تعطي للإنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد. وكذلك تعطيه الألبان واللحوم ليتقوت بها. وتترك في نفس الإنسان آثارا نفسية طيبة. وأخيرا تحمل أثقاله.

وبالرغم ممّا وصل إليه التقدم التقني في مدنية الإنسان وتهيئة وسائل النقل الحديثة ، إلّا أن سلوك كثير من الطرق لا زال منحصرا بالدواب.

ثمّ يعرج على نوح آخر من الحيوانات ، يستفيد الإنسان منها في تنقلاته ، فيقول :( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ) .

و «زينة» هنا ليست كلمة زائدة أو عابرة بقدر ما تعبر عن واقع الزينة في مفهومها الصحيح ، وما لها من أثر على ظاهر الحياة الاجتماعية.

ولأجل الإيضاح بشكل أقرب نقول : لو قطع شخص طريقا صحراويا طويلا مشيا على الأقدام ، فكيف سيصل مقصده؟ سيصله وهو متعب خائر القوى ، ولا يقوى على القيام بأي نشاط.

أمّا إذا ما استعمل وسيلة مريحة سريعة في سفره ، فإنّه ـ والحال هذه ـ سيصل

١٣٥

إلى مقصده وقد كسب الوقت ، ولم يهدر طاقاته ، وحافظ على النشاط والقدرة على قضاء حوائجه بعد كل هذا ، أو ليس ذلك زينة؟!

وتأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط النقلية المدنية من غير الحيوانات ، فيقول :( وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) من المراكب ووسائل النقل.

وبعض قدماء المفسّرين اعتبر هذا المقطع من الآية إشارة إلى الحيوانات ستخلق في المستقبل ليستعملها الإنسان في تنقلاته.

وورد في تفسير (المراغي) وتفسير (في ظلال القرآن) أنّ درك مفهوم هذه الجملة أسهل لنا ونحن نعيش في عصر السيارة ووسائل النقل السريعة الأخرى.

وعند ما تعبّر الآية بكلمة «يخلق» فذلك لأنّ الإنسان في اختراعه لتلك الوسائل ليس هو الخالق لها ، بل إنّ المواد الأولية اللازمة للاختراعات ، مخلوقة وموجودة بين أيدينا وما على الإنسان إلّا أن يستعمل ما وهبه الله من قدرة على الاختراع لما أودع فيه من استعداد وقابلية بتشكيل وتركيب تلك المواد على هيئة يمكن من خلالها أن تعطي شيئا آخر يفيد الإنسان.

أهمية الزراعة والثروة الحيوانية :

على الرغم من انتشار الآلات الإنتاجية في جميع مرافق الحياة ، كما هو حاصل في يومنا ، إلّا أن الزراعة وتربية الحيوانات تبقى متصدرة لقائمة المنتوجات من حيث الأهمية في حياة الإنسان ، لأنّها مصدر الغذاء ، ولا حياة بدونه.

حتى أنّ الاكتفاء الذاتي في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية يعتبر الدعامة الرئيسية لضمان الاستقلالين الاقتصادي والسياسي إلى حدّ كبير.

ولذلك نرى شعوب العالم تسعى جاهدة لإيصال زراعتها وثروتها الحيوانية

١٣٦

لأعلى المستويات مستفيدة من التقدم التقني الحاصل.

والحاجة لأي من هذين الإنتاجين الأساسيين من الخطورة والأهمية البالغة ما يجعل دولة عظمى كروسيا تمديد العوز وتعطي بعض التنازلات السياسية لدول متباينة معها في الخط السياسي العقائدي لاضطرارها لتأمين احتياجاتها!

وأعطت التعاليم الإسلامية أهمية خاصة للإنتاج الحيواني والزراعة بالحث والترغيب لغور غمار هذه العملية المعطاءة.

فقد رأينا كيف عرضت الآيات السابقة وبلحن مشوق حركة الأنعام ومنافعها للترغيب فيها.

وسيأتي الحديث إن شاء الله في الآيات القادمة عن أهمية الزراعة ومنافع الثمار المختلفة.

ونورد هنا (ومن مصادر مختلفة) بعض الرّوايات التي تخص موضوعنا وما جاءت به من تعبيرات جميلة.

١ ـ عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال : «قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمته : ما يمنعك من أن تتخذي في بيتك ببركة؟

فقالت : يا رسول الله ما البركة؟

فقال : شاة تحلب ، فإنّه من كانت في داره شاة تحلب أو نجعة أو بقرة فبركات كلّهن»(١) .

٢ ـ وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في الغنم : «نعم المال الشاة»(٢) .

٣ ـ وفي تفسير نور الثقلين ، في تفسير الآيات مورد البحث ، روي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «أفضل ما يتخذه الرجل في منزله لعياله الشاة ، فمن كان

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ١٣٠ ، ورد ذكر النجعة (في هذا الحديث) إضافة إلى الشاة والبقرة ، وهي في اللغة : البقر الوحشي والأغنام الجبلية وأنثى الغنم.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ١٢٩.

١٣٧

في منزلة شاة قدست عليه الملائكة مرّتين في كل يوم».

ولا ينبغي الغفلة عن أنّ الكثير من بيوت المدن غير صالحة لتربية الأغنام ، والهدف الأصلي من إشارة الرّوايات هو إنتاج ما يحتاج إليه الناس على الدوام ـ فتأمل.

٤ ـ ويكفينا ما قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في أهمية الزّراعة : «من وجد ماء وترابا ثمّ افتقر فأبعده الله»(١) .

وبديهي انطباق هذا الحديث على الفرد والأمّة معا ، فالشعب الذي لديه مستلزمات الزراعة بشكل كاف ومع ذلك يمد يده لطلب المساعدة إلى الآخرين ، فهو مبعد عن رحمة الله بلا إشكال.

٥ ـ روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «عليكم بالغنم والحرث فإنّهما يروحان بخير ويغدوان بخير»(٢) .

٦ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله من الزراعة»(٣) .

٧ ـ وأخيرا نقرأ في حديث روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يلي : «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه اللهعزوجل ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة ، يدعون المباركين»(٤) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ١٩.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٤ ، ص ٣٠٤.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ٢٠.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٩٤.

١٣٨

الآيات

( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) )

التّفسير

كل شيء في خدمة الإنسان!

بعد ذكر مختلف النعم في الآيات السابقة ، تشير هذه الآيات إلى نعم أخرى

فتشير أوّلا إلى نعمة معنوية عالية في مرماها( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) أي عليه سبحانه سلامة الصراط المستقيم وهو الحافظ له من كل انحراف ، وقد وضعه في

١٣٩

متناول الإنسان.

«القصد» : بمعنى صفاء واستواء الطريق ، فيكون معنى «قصد السبيل» الصراط المستقيم الذي ليس فيه ضلال ولا انحراف(١) .

ولكن أي النحوين من الصراط المستقيم هو المراد ، التكويني أم التشريعي؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، إلّا أنّه لا مانع من قصد الجانبين معا.

توضيح :

جهّز الله الإنسان بقوى متنوعة وأعطاه من القوى والقابليات المختلفة ما يعينه على سلوكه نحو الكمال الذي هو الهدف من خلقه.

وكما أنّ بقية المخلوقات قد أودعت فيها قوى وغرائز توصلها إلى هدفها ، إلّا أنّ الإنسان يمتاز عليها بالإرادة وبحرية الإختيار فيما يريده ، ولهذا فلا قياس بين الخط التصاعدي لتكامل الإنسان وبقية الأحياء الأخرى.

فقد هدى الله الإنسان بالعقل والقدرة وبقية القوى التكوينية التي تعينه للسير على الصراط المستقيم.

كما أرسل له الأنبياء والوحي السماوي وأعطاه التعليمات الكافية والقوانين اللازمة للمضي بهدي التشريع الرّباني في تكملة مشوار المسيرة ، وترك باقي السبل المنحرفة.

ومن لطيف الأسلوب القرآني جعل الأمر المذكور في الآية فريضة عليه جل شأنه فقال:( عَلَى اللهِ ) ، وكثيرا ما نجد مثل هذه الصيغة في الآيات القرآنية ، كما في الآية (١٢) من سورة الليل( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) ، ولو دققنا النظر في سعة مدلول( عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) وما أودع في الإنسان من هدي تكويني

__________________

(١) ذكر بعض كبار المفسّرين كالعلّامة الطباطبائي في الميزان أن «القصد» بمعنى (القاصد) في قبال «الجائر» أي المنحرف عن الحق.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ويقول الحق : قد أزلت المطل واللّي ، وفصل هذا الأمر إليّ ، وانتصار(١) المظلوم من ظالمه عليّ ، لا تختصموا لديّ وقد قدمت لديكم بالوعيد ، أما أنذرتكم فيما مضى من الأيّام ؟ أما حذّرتكم بعواقب المعاصي والآثام ؟! أما وعدتكم بهذا اليوم من سائر الأيام ؟!( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ ) .

فالعياذ بالله من هذا الأمر المهول الذي يحار فيه الغافل الجهول ، وتذهل منه ذوي الألباب والعقول ، قد أعد للكافر اللعين ابن ملجم وللكافر يزيد ،( يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) .

فيا حسرة على العاصين حسرة لا يملك(٢) تلافيها ، ويا نصرة للمخلصين قد تكامل صافيها ، ادخلوا الجنّة( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) ، انظروا عباد الله فرق ما بين الفريقين بحضور القلب ، واغتنموا الصحّة قبل أن ينخلع القلب ، فاللذات تفنى ويبقى العار والثلب ،( إنّ في ذلك لذكرى لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما أصاب أحد همٌّ أو غمٌّ فقال : ( اللّهمّ إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، نفسي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضائك ، أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتبك ، أو علّمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تصلّي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور بصري ، وشفاء صدري ، وذهاب غمّي ، وجلاء حزني يا أرحم الراحمين ) إلاّ أذهب الله همّه وغمّه ، ونفّس كربه وقضى حوائجه .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو فيقول :( اللّهمّ اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما يبلغنا به جنّتك ، ومن اليقين ما يهوّن علينا

____________

(١) في ( ب ) : انتصاف .

(٢) في ( ب ) : يمكن .

١٦١

مصائب الدنيا ، ومتّعنا بأسماعنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ، ولا تسلّط علينا مَن لا يرحمنا ، اللّهمّ لك الحمد وإليك المشتكى ، وأنت المستعان وفيما عندك الرغبة ولديك غاية الطلبة .

اللّهمّ آمن روعتي ، واستر عورتي ، اللّهمّ أصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح آخرتنا التي إليها منقلبنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، والوفاة راحة لنا من كل سوء .

اللّهمّ إنّا نسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل برٍّ ، والسلامة من كل إثم ، يا موضع كل شكوى ، وشاهد كل نجوى ، وكاشف كل بلوى ، [فإنّك](١) تَرى ولا تُرى ، وأنت بالمنظر الأعلى ، أسألك الجنّة وما يقرّب إليها من قول أو فعل ، وأعوذ بك من النار وما يقرّب إليها من فعل أو قول .

اللّهمّ إنّي أسألك خير الخير رضوانك والجنّة ، وأعوذ بك من شر الشر سخطك والنار ، اللّهمّ إنّي أسألك خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، إنّك أنت علاّم الغيوب ) .

وروي عن ذي النون المصري أنّه قال : وجدت على صخرة في بيت المقدس مكتوب : ( كل خائف هارب ، وكل راج طالب ، وكل عاص مستوحش ، وكل طائع مستأنس ، وكل قانع عزيز ، وكل طالب ذليل ) ، فنظرت فإذا هذا الكلام أصل لكل شيء ، وكان يقول : يقدّر المقدّرون والقضاء يضحك منهم .

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٦٢

الباب الثاني والعشرون : في الذكر والمحافظة عليه

قال الله تعالى :( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) (١) .

وقال سبحانه في بعض كتبه :أهل ذكري في ضيافتي ، وأهل طاعتي في نعمتي ، وأهل شكري في زيادتي ، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن مرضوا فأنا طبيبهم ، أداويهم بالمحن والمصائب لأطهّرهم من الذنوب والمعايب (٢) .

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام :إنّ بين الليل والنهار روضة يرتقي (٣) في نورها الأبرار ، ويتنعّم في حدائقها المتقون ، فذابوا سهراً من الليل وصياماً من النهار ، فعليكم بتلاوة القرآن في صدره ، والتضرّع والاستغفار في آخره وإذا ورد النهار فأحسنوا مصاحبته بفعل الخيرات وترك المنكرات ، وترك ما يرديكم (٤) من

____________

(١) البقرة : ١٥٢ .

(٢) راجع عدة الداعي : ٢٥٢ ، عنه البحار ٧٧ : ٤٢ ح١٠ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٣) في ( ج ) : يرتع .

(٤) في ( الف ) : يؤذيكم .

١٦٣

محقّرات الذنوب ، فإنّها مشرفة بكم إلى قبائح العيوب ، وكأنّ الموت قد دهمكم ، والساعة قد غشيتكم ، فإنّ الحادي قد حدا بكم مجدّاً لا يلوي دون غايتكم ، فاحذروا ندامة التفريط حيث لا تنفع الندامة إذا زلّت الأقدام .

وقالعليه‌السلام :[قال الله سبحانه :] (١) إذا عصاني مَن يعرفني سلّطت عليه مَن لا يعرفني (٢) .

وقالعليه‌السلام :المؤمن نطقه ذكر ، وصمته فكر ، ونظره اعتبار .

وقالعليه‌السلام :إنّ عدوّي يأتيني في الحاجة فأُبادر إلى قضائها خوفاً أن يسبقني أحد إليها وأن يستغني عنّي فتفوتني فضيلتها .

وسُئل عن الزاهد فقال :هو المبتلغ (٣) بدون قوته ، المستعد ليوم موته .

وقال :الدنيا سبات ، والآخرة يقظة ، ونحن بينهما أضغاث أحلام .

وقال :أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب ، ومن طاعة الشيطان إذا حرد (٤) .

وخطب عمر بن عبد العزيز فقال : أيّها الناس إنّكم لم تخلقوا عبثاً ، ولم تتركوا سدى ، وأنّ لكم معاداً يجمعكم الله فيه ليوم الفصل والحكم بينكم ، وقد خاب وخسر مَن أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنّته التي عرضها السماوات والأرض بسوء عمله ، وإنّ الأمان غداً لمَن باع قليلاً بكثير ، وفانياً بباق ، وشقاوة بسعادة .

ألا ترون أنّكم أخلاف الماضين ويستخلفكم الله قوماً آخرون ، يأخذون تراثكم ، ويبوّء بكم أجداثكم ، وفي كل يوم تجهزون غادياً ورائحاً قد قضى نحبه

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) الكافي ٢ : ٢٧٦ ح٣٠ ، عنه البحار ٧٣ : ٣٤٣ ح٢٧ .

(٣) في ( ج ) : المتبلّغ .

(٤) حرد : غضب (القاموس) .

١٦٤

ولقى ربه ، فتجعلونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد ، قد خلع الأسلاب(١) ، وسكن التراب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب ، أصبح فقيراً إلى ما قدم ، غنيّاً عمّا خلّف ، ولا يزيد من حسنة ولا ينقص من سيّئة .

واعلموا أنّ لكل سفر زاداً لابد منه ، فتزوّدوا لسفركم التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه لترغبوا وترهبوا ، ولا يغرّنّكم الأمل ، ولا يطولنّ عليكم الأمد ، فإنّه والله ما بسط أمل مَن لا يدري إذا أصبح أنّه يمسي ، وإذا أمسى أنّه يصبح ، وبين ذلك خطفات المنايا ، وخطرات الأمل من الشيطان الغرور .

يزيّن لكم المعصية لتركبوها ، ويمنّيكم التوبة لتسوّفوها(٢) حتّى تأتي المنيّة أغفل ما يكون عنها ، فلا تركنوا إلى غروره فيصيدكم بشركه ، واعلموا إنّما يغتبط ويطمئنّ مَن وثق بالنجاة من عذاب الله وأهوال يوم القيامة ، فأمّا مَن لا يدري ربّه ساخط عليه أم راض عنه كيف يطمئن ، أعوذ بالله من أن آمركم أو أنهاكم بما أخالفكم فيه فتخسر صفقتي ، وتعظم عولتي(٣) يوم لا ينجي منه إلاّ الحق والصدق ، ولا يفوز إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أيّها الناس استقيموا إلى ربّكم كما قال تعالى : ( فاستقيموا إليه واستغفروه ) (٤) وقال سبحانه :( إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ) (٥) .

أيّها الناس لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً ، ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم ، واعلموا أنّ من لم يكن مستقيماً في صفته لم يرتق من مقام إلى

____________

(١) في ( ج ) : الأسباب .

(٢) في ( ج ) : لتنسوها .

(٣) في ( ب ) و )ج ) : لوعتي .

(٤) فصلت : ٦ .

(٥) فصلت : ٣٠ .

١٦٥

غيره ، ولم يتبيّن سلوكه على صحّة ، ولا تخرجوا عن عز التقوى إلى ذل المعصية ، ولا من أُنس الطاعة إلى وحشة الخطيئة ، ولا تسرّوا لإخوانكم غشاً فانّه مَن أسرّ لأخيه غشاً أظهره الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه ، فأورثه به الذلّ في الدنيا والخزي والعذاب والندامة في الآخرة فأصبح من الخاسرين أعمالاً .

وقال الصادقعليه‌السلام : ثلاثة لا يضرّ معهم شيء :الدعاء عند الكربات ، والاستغفار عند الذنب ، والشكر عند النعمة (١) .

وقالعليه‌السلام : في حكمة آل داود :يا ابن آدم كيف تتكلّم بالهدى وأنت لا تفيق عن الردى ، يا ابن آدم أصبح قلبك قاسياً ، ولعظمة الله ناسياً ، ولو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفاً ، ولموعده راجياً ، فيا ويحك كيف لا تذكر لحدك ، وانفرادك فيه وحدك (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد السيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : لا تعجل وانظره سبع ساعات [لعلّه يستغفر] ، فإذا مضى سبع ساعات ولم يستغفر قال : اكتب فما أقلّ حياء هذا العبد (٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام :إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى على سعد بن معاذ وقال : لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك وفيهم جبرئيل يصلّون عليه ، فقلت : يا جبرئيل بما استحق صلاتكم عليه ؟ قال : بقراءته ( قل هو الله أحد ) قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائيا ً(٤) .

____________

(١) مشكاة الأنوار : ٣٠ ، عنه البحار ٧١ : ٥٥ ح٨٦ .

(٢) أمالي الطوسي : ٢٠٣ ح٣٤٦ ، عنه البحار ١٤ : ٣٦ ح١٠ .

(٣) أمالي الطوسي : ٢٠٧ ح٣٥٥ ، عنه البحار ٧١ : ٢٤٧ ح٥ .

(٤) أمالي الطوسي : ٤٣٧ ح٩٧٥ ، عنه البحار ٢٢ : ١٠٨ ح٧٢ ، وأمالي الصدوق : ٣٢٣ ح٥ مجلس : ٦٢ ، وفي مجموعة ورام ٢ : ١٦٩ .

١٦٦

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فرأيت فيها قصراً من ياقوت أحمر ، يرى باطنه من ظاهره لضيائه ونوره وفيه قبّتان من درٍّ وزبرجد ، فقلت : يا جبرئيل لمَن هذا القصر ؟ قال : هو لمَن أطاب الكلام ، وأدام الصيام ، وأطعم الطعام ، وتهجّد بالليل والناس نيام .

قال عليعليه‌السلام : وفي أمّتك مَن يطيق ذلك يا رسول الله ؟ قال : أتدري ما إطابة الكلام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن قال : ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ) ، أتدري ما إدامة الصيام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن صام شهر الصبر شهر رمضان ولم يفطر يوماً .

أتدري ما إطعام الطعام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن طلب لعياله ما يكف به وجوههم عن الناس ، أتدري ما التهجّد بالليل والناس نيام ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : مَن لم ينم حتّى يصلّي العشاء الآخرة ، والناس من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين نيام بينهما(١) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لمّا أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة ، فرأيت فيها قيعاناً بقعاً (٢) من مسك ، ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضّة وربما أمسكوا ، فقلت لهم : ما بالكم ربّما بنيتم وربّما أمسكتم ؟ فقالوا : حتّى تجيئنا النفقة ، قلت : وما نفقتكم ؟ قالوا : قول المؤمن ( سبحان الله والحمد لله ولا اله إلاّ الله والله أكبر ) فإذا قالهنّ بنينا ، وإذا سكت وأمسك أمسكنا (٣) .

____________

(١) أمالي الطوسي : ٤٥٨ ح١٠٢٤ ، عنه البحار ٦٩ : ٣٨٨ ح٥٨ ، معالم الزلفى : ٢٨١ .

(٢) في أمالي الطوسي : يققاً ، أي بيضاً .

(٣) أمالي الطوسي : ٤٧٤ ح١٠٣٥ ، عنه البحار ٩٣ : ١٦٩ ح٧ ، معالم الزلفى : ٢٨١ .

١٦٧

الباب الثالث والعشرون : في فضل صلاة الليل

قال الله تعالى :( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون ) (١) .

وقال :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون ) (٢) .

وقال سبحانه :( أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه ) (٣) .

وقال :( والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ) (٤) .

وقال :( ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً

____________

(١) الذاريات : ١٧ و١٨ .

(٢) السجدة : ١٦ .

(٣) الزمر : ٩ .

(٤) الفرقان : ٦٤ .

١٦٨

محموداً ) (١) .

وقال سبحانه :( يا أيّها المزمّل * قم الليل إلاّ قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلاً ) (٢) .

وما كان الله ليدعو نبيّه إلاّ لأمر جليل وفضل جزيل ، فقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :شرف المؤمن صلاته بالليل ، وعزّه استغناؤه عن الناس (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد : ليقم الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ، فيقومون وهم قليل ، فيحاسب الله الناس من بعدهم .

[(٤) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ في جنّة عدن شجرة تخرج منها خيل بلق مسرّجة بالياقوت والزبرجد ، ذوات أجنحة لا تروث ولا تبول ، يركبها أولياء الله ، فتطير بهم في الجنّة حيث شاؤوا .

قال : فيناديهم أهل الجنّة : يا إخواننا ما أنصفتمونا ، ثم يقولون : ربّنا بماذا أنال عبادك منك هذه الكرامة الجليلة دوننا ؟ فيناديهم ملك من بطان العرش : إنّهم كانوا يقومون الليل وكنتم تنامون ، وكانوا يصومون وكنتم تأكلون ، وكانوا يتصدّقون بمالهم لوجه الله تعالى وأنتم تبخلون(٥) ، وكانوا يذكّرون الله كثيراً لا يفترون ، وكانوا يبكون من خشية ربّهم وهم مشفقون(٦) .

____________

(١) الإسراء : ٧٩ .

(٢) المزمل : ١ـ٤ .

(٣) الكافي ٢ : ١٤٨ ح١ ، عنه البحار ٧٥ : ١٠٩ ح١٤ .

(٤) من هنا إلى ص ١٨١ لم يكن في ( ألف ) و ( ب ) ، وأثبتناه من ( ج ) و ( د ) .

(٥) في ( د ) : تمسكون .

(٦) أمالي الصدوق : ٢٣٩ ح١٤ مجلس ٤٨ ، عنه البحار ٨٧ : ١٣٩ ح٧ .

١٦٩

وكان ممّا ناجى به الباري تعالى داود عليه‌السلام : يا داود عليك بالاستغفار في دلج الليل والأسحار ، يا داود إذا جنّ عليك الليل فانظر إلى ارتفاع النجوم في السماء وسبّحني ، وأكثر من ذكري حتّى أذكرك .

يا داود إنّ المتقين لا ينامون ليلهم إلاّ بصلاتهم إليّ ، ولا يقطعون نهارهم إلاّ بذكري ، يا داود إنّ العارفين بي كحلوا أعينهم بمرود السهر ، وقاموا ليلهم يسهرون ، يطلبون بذلك مرضاتي(١) ، يا داود إنّه مَن يصلّي بالليل والناس نيام يريد بذلك وجهي ، فإنّي آمر ملائكتي أن يستغفروا له وتشتاق إليه جنّتي ، ويدعو له كل رطب ويابس .

يا داود اسمع ما أقول والحق أقول : إنّي أرحم بعبدي المذنب من نفسه لنفسه ، وأنا أحب عبدي ما لا يحبني ، واستحي منه ما لا يستحي منّي .

وصيّة : واعلم يا أخي أنّ الليل والنهار لا يفتران من سيرهما ، وإنّما يسيران بنقص عمر ابن آدم وهما ساعات ولحظات ، فإذا لهوت مع سرعة سيرهما لحظة ، واشتغلت عن الصلاة والذكر لحظة أُخرى ، ذهبت ساعات النهار كلها في غفلة ، ثم جاء الليل فإن نمته كلّه كنت ممّن لا خير فيه ليلاً ولا نهاراً ، ومَن كان هذا حاله فموته خير له من حياته ؛ لأنّه قد مات قلبه ولا خير في حياة جسد(٢) قد مات قلبه .

ولله درّ القائل :

أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم

وكيف يلذّ النوم حيران هائم

فلو كنت يقظان الغداة لحرقك (٣)

مدامع عينيك الدموع السواجم

نهارك يا مغرور لهو وغفلة

وليلك نوم والردى لك لازم

____________

(١) في ( د ) : قاموا بأرجلهم يطلبون . .

(٢) في ( د ) : حيّ .

(٣) في ( د ) : لحرقت .

١٧٠

وسعيك ممّا سوف تكره عنده

وعيشك في الدنيا كعيش البهائم

تسر بما يفنى وتفرح بالمنى

كما سرّ باللذات في النوم حالم

فلا أنت في اليقظان يقظان ذاكر

ولا أنت في النوم ناجٍ وسالم

ثم قال : يا جيفة بالليل بطالة بالنهار ، تعمل عمل الفجّار وأنت تطلب منازل الأبرار ، هيهات هيهات كم تضرب في حديد بارد .

وقد ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليس (١) من بني آدم إلاّ وفي غفلة ونقص ، ألا ترى إذا نمى له مال بالزيادة فيسر بذلك ، وهذا الليل والنهار يجريان بطيّ عمره فلا يهمّه ذلك ولا يحزنه ، وما يغني عنه مال يزيد وعمر ينقص ، [ودين يذهب] (٢) .

وقد قيل لرجل : إنّ فلاناً استفاد مالاً ، فقال له : فهل استفاد أيّاماً يتفقّه(٣) فيها ؟ .

وقيل : إنّ لله ملكاً ينادي : يا أبناء الخمسين زرع قد دنا حصاده ، ويا أبناء الستين ماذا قدمتم لأنفسكم من العمل الصالح ، وماذا أخّرتم من أموالكم لمَن لا يترحّم عليكم ، ويا أبناء السبعين عدوا أنفسكم من الموتى .

ليت الخلائق لم يخلقوا ، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا ، فاعرف يا أخي ذلك وبادر لعمل الخير ، ثم بادر قبل أن ينزل بك ما تحاذر ، ولا يلهيك أحد من الناس عن صلاتك ودعائك وذكرك ربّك ، فيرفعان الملكان رقيب وعتيد دون ما كان يرفعان من عملك من قبل ، والله لا يرضى منك بذلك بل يريد من عبده أن يزيد كل يوم في طاعته أكثر ممّا كانت .

____________

(١) في ( ج ) : قليل .

(٢) أثبتناه من ( د ) .

(٣) في ( د ) : ينفعه .

١٧١

وقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان غده شراً فهو ملعون ، ومَن لم يتفقّد النقصان في عمله (١) كان النقصان في عقله ، ومَن كان نقصان في عمله (٢) وعقله فالموت خير له من حياته (٣) .

واعلم يا أخي أنّ العقلاء العارفين بالله المجتهدين في تحصيل رضى الله ، تراهم عامة ليلهم بذكر ربهم يتلذّذون ، وفي عبادته يتقلّبون ما بين صلاة نافلة ، وقرآءة سورة ، وتسبيح واستغفار ، ودعاء وتضرّع ، وابتهال وبكاء من خشيته ، لا ينامون من ليلهم إلاّ ما غلبوا عليه وما أراحوا به أبدانهم ، فهم الرجال الأخيار ، ووصفك وصف اغترار(٤) ، جيفة بالليل بطّال بالنهار ، تعتذر في ترك القيام بالليل بأعذار كاذبة .

تقول : أنا ضعيف القوى ، أنا تاعب بكدر الدنيا ، بي مرض وصداع ، وتجمع بالبرد في الشتاء والحر في الصيف وهذه أعذار كاذبة ، ولو أنّ سلطاناً أعطاك ديناراً أو كسوة وأمرك أن تقف ببابه تحرسه بالليل لبادرت إلى ذلك ، لا بل لو قال لك : خذ سلاحك واخرج قدّامي تحارب عدوي ، لبذلت روحك العزيزة دونه وإن قتلت .

وكم من إنسان يأخذ درهماً أجرة له على حراسة زرع غيره ، أو ثمرة غيره ، ويسهر الليل كله في برد شديد وحرّ عظيم ، ولو أنّك أردت سفراً أو عملاً من أعمال الدنيا لسهرت عامة الليل في تعبية أشغالك(٥) ، وتحفظ تجارتك ، ولم تعتذر بتلك الأعذار عن خدمة ربّك .

وهذا يدل على كذبك ، وضعف يقينك بما وعد الله العاملين(٦) بالثواب والجنّة على الطاعة ، فإنّك قد أطعت في ذلك نفسك الأمّارة بالسوء ، وأطعت إبليس وقد

____________

(١) في ( د ) : في جسده .

(٢) في ( د ) : في جسده .

(٣) البحار ٧١ : ١٧٣ ح٥ ، عن أمالي الصدوق نحوه .

(٤) في ( د ) : يوصفك بوصف الاختيار .

(٥) في ( د ) : بقية أسفارك .

(٦) في ( د ) : العالمين .

١٧٢

حذّرك الله من طاعته ، فقال تعالى :( إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) (١) .

وقال تعالى :( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ) (٢) ، فاحذر(٣) نفسك يا أخي من طول الرقاد ، واعبد ربّك حتّى تبلغ منه المراد .

ولله درّ بعض الزهّاد حيث قال :

حبيبي تجاف من المهاد

خوف من الموت والمعاد

مَن خاف من سكرة المنايا

لم يدر ما لذّة الرقاد

قد بلغ الزرع منتهاه

لابدّ للزرع من حصاد

فاستيقظ يا أخي من رقدتك ، فقد مضى من عمرك أكثره في غفلة ونوم ، ولا تنس نصيبك من قيام الليل فيما بقي من عمرك لتكون خاتمتك خاتمة خير ، فاغتنمها تغنم ، ولا تغفل عنها فتندم ، فقد سمّى الله تعالى يوم القيامة يوم الحسرة والندامة ، وسمّاها في موضع آخر يوم التغابن .

وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ما من مخلوق يوم القيامة إلاّ ويندم ولكن لا تنفعه الندامة ، فأمّا السعيد إذا رأى الجنّة وما أعد الله فيها لأوليائه المتقين يندم حيث لا عمل له مثل عملهم ، ويريد من العبادة أكثر منهم لينال درجتهم العليا في الفردوس الأعلى ، وإن كان من الأشقياء إذا رأى النار وزفيرها وما أعدّ الله فيها من العذاب الأليم ، صرخ وندم حيث لم يكن أقلع من ذنوبه ومعاصيه ليسلم ممّا هو فيه .

____________

(١) الفاطر : ٦ .

(٢) البقرة : ٢٦٨ .

(٣) في ( د ) : فازجر .

١٧٣

فهذه هي الطامة الكبرى ، فاستدرك يا أخي ما فرّطت من أمرك ، واسكب الدمع بكاءً على نفسك حيث لم تكن صالحاً للقيام بباب ربّك فأنامك ، ولو علم انّك صالح للقيام لأقامك بالبدار قبل نفاد(١) الأعمار ، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة وعلى قدر ما تزرعه في الدنيا تحصده في الآخرة ، وقد أمر الباري عزّ وجل عباده بالمسارعة إلى الطاعات والاستباق إليها ، فقال تعالى :( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ) (٢) .

ومَن نام عن العبادات سائر ليله لم يمتثل ما أمره الله به من المسارعة إلى المغفرة ، ودخول الجنّة العريضة التي أعدها للعاملين(٣) ، واعلم أنّ مَن نام عامة ليله كان ذلك دليل على أنّه عمل في نهاره ذنباً عظيماً فعاقبه الله ، فطرده عن بابه ومرافقة العابدين الذين هم أحباؤه ، ولو علم النائم عن صلاة الليل ما فاته من الثواب العظيم والأجر المقيم لطال بكائه عليه .

وعن ابن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :حسب الرجل من الخيبة أن يبيت ليله لا يصلّي فيها ركعتين ، ولا يذكر الله فيها حتّى يصبح .

وقيل : يا رسول الله إنّ فلاناً نام البارحة عن ورده حتّى أصبح ، قال :ذلك الرجل بال الشيطان في أذنه فلم يستيقظ .

وكان بعض العباد يصلّي عامة الليل فإذا كان السحر أنشد يقول :

ألا يا عين ويحك أسعديني

بطول الدمع في ظلم الليالي

لعلّك في القيامة أن تفوزي

بحور العين في قصر اللئالي

وقال بعض العابدين : رأيت في منامي كأنّي على شاطئ نهر يجري بالمسك الأذفر ، وعلى حافته شجر من اللؤلؤ وقصب الذهب ، وإذا بجوار مزينات لابسات

____________

(١) في ( د ) : انقضاء .

(٢) الحديد : ٢١ .

(٣) في ( د ) : أعدها الله للعابدين .

١٧٤

ثياب السندس ، كأنّ وجوههنّ الأقمار ، وهنّ يقلن : سبحان المسبّح بكل لسان سبحانه ، سبحان الموجود في كل مكان سبحانه ، سبحان الدائم في كل الأزمان سبحانه ، فقلت لهنّ : مَن أنتنّ ؟ فقلن :

ذرأنا إله النّاس ربّ محمّد

لقوم على الأطراف بالليل قوّم (١)

يناجون ربّ العالمين إلههم

وتسري حمول القوم والناس نوّم

فقلت : بخ بخ لهؤلاء القوم ، مَن هم ؟ فقلن : هؤلاء المتهجّدون بالليل بتلاوة القرآن ، الذاكرون الله كثيراً في السر والإعلان ، المنفقين والمستغفرين بالأسحار .

فعاتب يا أخي نفسك ، ولا تقبل منها اعتذارها في ترك القيام ، فتلك معاذير كاذبة ، فقوّام الليل تحمّلوا السهر والقيام والقعود ، وصبروا صبراً جميلاً ، أعقبهم ذلك راحة طويلة في نعمة لا انقطاع لها .

وأنت يا مسكين لو صبرت صبرهم وعملت مثل عملهم فزت بما فازوا ، ولكنّك آثرت لذّات الرقاد على تحصيل الزاد ، ولم تجد الزاد ولم تَجُد بمالك على المساكين من العباد ، فآثر الله عليك العباد الزهاد ، فقرّبهم وأبعدك ، وأدناهم من بابه وطردك .

واعلم أنّك إذا لم تنشط(٢) لأفعال الخير وعبادة الله ، فاعلم أنّك مكبّل مقيّد قد قيّدتك ذنوبك وخطاياك ، فسابق يا أخي العابدين بسهر الليل لتسبقهم إلى جنّات العلى ، فالليل أسبق جواد ركبه الصالحون إلى رفيع الدرجات من الجنّات ، فتكون ممّن مدحهم الله في كتابه العزيز ، فقال تعالى :( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون ) (٣) .

____________

(١) في ( د ) : ساجد .

(٢) في ( د ) : تمشي .

(٣) السجدة : ١٦ .

١٧٥

فانظروا إلى ما مدحه الله به المصلّين بالليل ، المنفقين ممّا رزقهم الله على المستحقين ، وإن خفت ألاّ تستيقظ للصلاة بعد النوم فخذ حظّك من الصلاة قبل النوم ، وإيّاك أن تغفل عن الاستغفار في وقت الأسحار ، فذلك وقت لا تنام فيه الأطيار بل ترفع أصواتها بالتسبيح والأذكار ، وعليك بتلاوة الأدعية والمناجاة فإنّ الدعاء مخ العبادة .

وإن كنت ولابد من النوم(١) فاستيقظ منه ساعة للتوبة والبكاء والدعاء ، فإن غفلت ونمت الليل كله حتّى ساعة الدعاء فقد مات قلبك ، ومَن مات قلبه أبعده الله عن قربه .

قلت : وأقلّ حالات المؤمن أن يصلّي في ليله أربع ركعات من صلاة الليل ، وأدنى من ذلك أن يقرأ مائة آية من كتاب الله العزيز ، ثم يسبّح الله تعالى ويدعو لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ، ثم يستغفر الله تعالى حتّى لا يكتب في ديوان الغافلين .

اعلم أنّ الصلاة بين المغرب والعشاء لها فضل عظيم ، وهي صلاة الأوّابين ، وروي أنّها تسمّى ساعة الغفلة ، وهي ركعتين بين المغرب والعشاء ، يُقرأ في الأُولى ( الحمد ) و( ذا النون إذ ذهب مغاضب ) ، وفي الثانية ( الحمد ) و( وعنده مفاتح الغيب ) وهي أفضل عند الله من صوم النهار .

واعلم يا أخي إنّك إذا عملت الطاعات وواظبت على العبادات ، من صيام أو صدقة أو بر أو صلة رحم ، فاقصد به وجه الله تعالى خالصاً مخلصاً من الرياء المحبط للأفعال ، واتبع فيه قول الله تعالى :( ولدار الآخرة خير ) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله تعالى يقول : لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل مخلصاً لي حتّى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي

____________

(١) في ( د ) : فإن كنت غافلاً بعض الليل للنوم .

(٢) يوسف : ١٠٩ .

١٧٦

يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، إن سألني أعطيته وإن استعاذني أعذته (١) (٢) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا قام العبد من مضجعه والنعاس في عينيه ليرضي ربّه بصلاة الليل ، باهى الله به ملائكته فيقول : أما ترون عبدي هذا قام من مضجعه ، وترك لذيذ منامه إلى ما لم أفرضه عليه ، اشهدوا أنّي قد غفرت له (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ، وبالقيلولة على قيام الليل ، وما نام الليل كله أحد إلاّ بال الشيطان في أُذنه (٤) ، وجاء يوم القيامة مفلساً ، وما من أحد إلاّ وله ملك يوقظه من نومه كل ليلة مرّتين ، يقول : يا عبد الله اقعد لتذكر ربّك ، ففي الثالثة إن لم ينتبه يبول الشيطان في أُذنه .

روت عائشة قالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم من فراشه ويصلّي ويقرأ القرآن ويبكي ، ثم يجلس يقرأ ويدعو ويبكي حتّى إذا فرغ اضطجع وهو يقرأ ويبكي حتّى بلّت الدموع خدّيه ولحيته ، قلت : يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ قال :بلى ، أفلا أكون عبداً شكوراً .

وقال :الشتاء ربيع المؤمن ، قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه (٥) .

وقال :مَن خاف أن ينام عن صلاة الليل فليقرأ عند منامه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٦) .

ويقول : اللّهمّ أنبهني لأحبّ الساعات إليك ، فأدعوك فتجيبني ، وأسألك

____________

(١) البحار ٨٧ : ٣١ ح١٥ ، عن المحاسن .

(٢) إلى هنا تمّ ما نقلناه من نسخة ( ج ) و ( د ) .

(٣) روضة الواعظين : ٣٢٠ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٦ ح٤٠ ، معالم الزلفى : ٤٥ .

(٤) في ( ج ) : أُذنيه .

(٥) معاني الأخبار : ٢٢٨ ، عنه البحار ٨٣ : ١٣٣ ح١٠٢ .

(٦) الكهف : ١١٠ .

١٧٧

فتعطيني ، واستغفرك فتغفر لي ويقول : اللّهمّ ابعثني من مضجعي لذكرك (١) وشكرك وصلاتك واستغفارك ، وتلاوة كتابك ، وحسن عبادتك يا أرحم الراحمين (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ البيوت التي يُصلّى فيها بالليل ويُتلى فيها القرآن تضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض (٣) .

واعلموا علماً يقيناً أنّه ما تقرّب المؤمن بقربان أعظم عند الله سبحانه وأفضل من صلاة الليل ، والتسبيح والتهليل بعدها ومناجات ربّه العزيز الحميد ، والاستغفار من ذنوبه ، وأدعية صلاة الليل ببكاء وخشوع ، ثم قرآءة القرآن إلى طلوع الفجر وإيصال صلاة الليل بصلاة النهار ، فإنّي أُبشّره بالرزق الواسع بالدنيا من غير كدٍّ ولا تعب ولا نصب ، وبعافية شاملة في جسده ، وأُبشّره إذا مات بالنعيم في قبره من الجنّة ، وضياء قبره بنور صلاته تلك إلى يوم محشره .

وأُبشّره بأنّ الله تعالى لا يحاسبه ، وأن يأمر الملائكة تدخله الجنّة في أعلى عليين في جوار محمد وأهل بيته الطاهرين ، فيا لها من فرصة ما أحسن عاقبتها إذا سلمت من الرياء والعجب .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّته لأمير المؤمنينعليه‌السلام :وعليك بصلاة الليل ـ وكرّر ذلك ثلاثاً(٤) .

وقال :ألا ترون إلى المصلّين بالليل وهم أحسن الناس وجوهاً ؛ لأنّهم خلوا بالليل لله سبحانه فكساهم من نوره (٥) .

وسُئل الباقرعليه‌السلام عن وقت صلاة الليل فقال :هو الوقت الذي جاء

____________

(١) في ( ب ) : أيقظني لذكرك .

(٢) عنه البحار ٨٧ : ١٧٣ ح٢ .

(٣) روضة الواعظين : ٣٢١ .

(٤) البحار ٨٧ : ١٥٧ ح٤٢ ، عن روضة الواعظين .

(٥) علل الشرائع : ٣٦٥ ح١ باب٨٧ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٩ ح ٤٨ .

١٧٨

عن جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ لله تعالى منادياً ينادي في السحر : هل من داع فأُجيبه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من طالب فأعطيه ؟ .

ثم قال :هو الوقت الذي وَعَدَ فيه يعقوب بنيه أن يستغفر لهم ، وهو الذي مدح فيه المستغفرين فقال : ( والمستغفرين بالأسحار ) (١) إنّ صلاة الليل في آخره أفضل من أوّله ، وهو وقت الإجابة ، والصلاة فيه هدية المؤمن إلى ربّه ، فأحسنوا هداياكم إلى ربّكم يحسن الله جوائزكم ، فإنّه لا يواظب عليها إلاّ مؤمن صدّيق (٢) .

واعلم أيّدك الله أنّ صلاة الليل من أوّل نصفه الأخير لمَن يطول في قراءته ودعائه أفضل ، وهي في آخره لمن يقتصر أفضل .

وقال الصادقعليه‌السلام :لا تعطوا العين حظّها من النوم فإنّها أقلّ شيء شكراً (٣) .

وروي أنّ الرجل يكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل ، فإذا حرم صلاة الليل حرم بذلك الرزق(٤) .

وقالعليه‌السلام :كذب مَن زعم أنّه يصلّي صلاة الليل ويجوع بالنهار (٥) .

وفيما أوحى الله إلى موسى بن عمران :لو رأيت الذين يصلّون لي في [ظلم] (٦) الدياجي وقد مثّلت نفسي بين أعينهم (٧) وهم يخاطبوني وقد جليت عن المشاهدة ، ويكلّموني وقد تعزّزت عن الحضور ، يا ابن عمران ! هب لي من عينيك الدموع ، ومن قلبك الخشوع ، ومن بدنك الخضوع ، ثم ادعني في ظلم الليالي تجدني قريباً

____________

(١) آل عمران : ١٧ .

(٢) عنه البحار ٨٧ : ٢٢٢ ح٣٢ .

(٣) البحار ٨٧ : ١٥٦ ح٣٩ ، عن عدّة الداعي .

(٤) عنه معالم الزلفى : ٤٥ .

(٥) روضة الواعظين : ٣٢١ ، عنه البحار ٨٧ : ١٥٧ ح٤٢ ، والمحاسن ١ : ١٢٥ ح١٤١ .

(٦) أثبتناه من ( ب ) .

(٧) في ( ب ) : أيديهم .

١٧٩

مجيباً ، يا ابن عمران ! كذب مَن يقول (١) إنّه يحبّني وإذا جنّه الليل نام عنّي (٢) .

وروي عن المفضل بن صالح قال : قال لي مولاي الصادقعليه‌السلام :يا مفضل إنّ لله تعالى عباداً عاملوه بخالص من سرّهم فقابلهم (٣) بخالص من برّه ، فهم الذين تمرّ صحفهم يوم القيامة فرغاً ، فإذا وقفوا بين يديه ملأها لهم من سرّ ما أسرّوا إليه ، فقلت : وكيف ذلك يا مولاي ؟ فقال :أجلّهم أن تطّلع الحفظة على ما بينه وبينهم (٤) .

وفي هذا دلالة على أنّ الإخفاء بها أفضل من الإجهار بها ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( خير العبادة أخفاها ، وخير الذكر الخفي ) وقولهعليه‌السلام :( صلاة السر تزيد على الجهر بسبعين ضعف ) ، ومدح الله تعالى زكريا إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً ، وقال سبحانه :( واذكر ربّك تضرّعاً وخيفة ودون الجهر من القول ) (٥) وهذا صريح في فضل إخفائها .

وسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوماً يرفعون أصواتهم بالدعاء ، فقال :على رسلكم إنّما تدعون سميعاً بصيراً حاضراً معكم (٦) .

وما ورد من استحباب الجهر في صلاة الليل فإنّه يختصّ بالقراءة دون الدعاء ، واعلم أنّ كيفيّة رفع اليدين في الصلاة أن تكونا مبسوطتين تحاذي صدر الإنسان .

[وعن سعد بن يسار قال :](٧) قال الصادقعليه‌السلام :هكذا الرغبة ـ وأبرز

____________

(١) في ( ج ) : زعم .

(٢) البحار ١٣ : ٣٦١ ح٧٨ ، عن عدّة الداعي .

(٣) في ( ج ) : فعاملهم .

(٤) عنه البحار ٧٠ : ٢٥٢ ح٧ ، ومعالم الزلفى : ٢٤٧ .

(٥) الأعراف : ٢٠٥ .

(٦) البحار ٩٣ : ٣٤٣ ح١٢ نحوه .

(٧) أثبتناه من ( ب ) .

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496