الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237238 / تحميل: 7564
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ولهذا يقول تعالى مباشرة :( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يعني.

أوّلا : أن تقولوا أنّ الله سكت عن أعمالنا! فإنّ الله قد بعث إليكم الأنبياء ، ودعوكم إلى التوحيد ونفي الشرك.

ثانيا : إنّ وظيفة الله تعالى والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس هي هدايتكم بالجبر ، بل بإراءتكم السبيل الحق والطريق المستقيم ، وهذا ما حصل فعلا.

أمّا عبارة( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) فمواساة لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن لا يحزن ويثبت في قبال ما يواجه من قبل المشركين ، وأنّ الله معه وناصره.

وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين) ، تشير الآية التالية باختصار جامع إلى دعوة الأنبياء السابقين ، بقولها :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) .

«الأمّة» : من الأم بمعنى الوالدة ، أو بمعنى : كل ما يتضمّن شيئا آخر في دخله ، (ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «أمّة».

ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة (٦٤) موردا.

ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، بالقول :( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (١) .

فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأولى لتحركهم هي الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الطاغوت ، وذلك لأنّ أسس التوحيد إذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيّ برنامج إصلاحي.

«الطاغوت» : (كما قلنا سابقا) صيغة مبالغة للطغيان أي التجاوز والتعدي

__________________

(١) تقدير هذه الجملة : ليقولوا لهم اعبدوا

١٨١

وعبور الحد ، فتطلق على كل ما يكون سببا لتجاوز الحد المعقول ، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان ، الصنم ، الحاكم المستبد ، المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إلى غير طريق الحق.

وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضا وإن جمعت أحيانا ب (الطواغيت).

ونعود لنرى ما وصلت إليه دعوة الأنبياءعليهم‌السلام إلى التوحيد من نتائج ، فالقرآن الكريم يقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) .

وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استنادا إلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم!

ولكن قلنا مرارا إنّ آيات الهداية والضلال إذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيّ إبهام فيها ، ويرتفع الالتباس من أنّها تشير إلى الجبر ويتّضح تماما أن الإنسان مختار في تحكيم إرادته وحريته في سلوكه أي طريق شاء.

فالهداية والإضلال الإلهيين إنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارسة الإنسان نفسه ، وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم.

فاللهعزوجل (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومن شابههم ، أما الذين يجاهدون في سبيل الله ويستجيبون للأنبياءعليهم‌السلام فمشمولون بألطافهعزوجل ويهديهم إلى صراطه المستقيم ويوفقهم إلى السير في طريق التكامل ، بينما يوكل القسم الأوّل إلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل.

وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارها ـ الحسنة منها أو القبيحة ـ من اللهعزوجل ، فيمكن نسبة نتائجها إليه سبحانه ، فتكون الهداية والإضلال إلهيين.

فالسنّة الإلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشيا مع الفطرة الإنسانية ، ومن ثمّ فمن

١٨٢

يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فردا كان أم جماعة يكون جديرا باللطف الإلهي وتدركه الهداية التكوينية.

نعم ، فها هي السنّة الإلهية ، لا كما ذهب إليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ الله يدعوا الناس بواسطة الأنبياء ، ومن ثمّ يخلق الإيمان والكفر جبرا في قلوب الأفراد (من دون أيّ سبب) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الاستفهام عن سبب ذلك من اللهعزوجل .

فما أوحش ما نسبوا اليه سبحانه إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق؟!

والتعبير الموارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال ، ففي مسألة الهداية ، يقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ) ، أمّا بالنسبة للقسم الثّاني ، فلا يقول : إنّ الله أضلهم ، بل إنّ الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم :( وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) .

وهذا الاختلاف في التعبير يمكن أن يكون الإشارة لما في بعض الآيات الأخرى ، والمنسجم مع ما ورد من روايات وخلاصته :

إنّ القسم الأعظم من هداية الإنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها الله تعالى لذلك ، فقد أعطى تعالى : العقل ، وفطرة التوحيد ، وبعث الأنبياء ، وإظهار الآيات التشريعية والتكوينية ، ويكفي الإنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف المنشود.

أمّا في حال الضلال فالأمر كلّه يرجع إلى الضالين أنفسهم ، لأنّهم اختاروا السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم الله عليه ، وجعلوا حول الفطرة حجابا داكنا وأغفلوا قوانينها ، وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء ظهورهم ، وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، فكان أن آل المآل بهم إلى وادي التيه والضلال أو ليس كل ذلك منهم؟

١٨٣

والآية (٧٩) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها :( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

وروي في أصول الكافي عن الأمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، في إجابته على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والإختيار ، أنّه قال : «أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين ، قال اللهعزوجل : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي أديت فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا ، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي»(١) .

وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين ، بالقول :( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) .

فالآية دليل ناطق على حرية إرادة الإنسان ، فإن كانت الهداية والضلال أمرين إجباريين ، لم يكن هناك معنى للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين ، فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإنسان في تعيين مصيره بنفسه وليس هو مجبر على ذلك.

وثمّة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في الأرض مع التأمل في عاقبة الأمور ، وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية (١٣٧) من سورة آل عمران.

الآية الأخير من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبيان ما وصلت إليه حال الضّالين :( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

«تحرص» من مادة (حرص) ، وهو طلب الشيء بجدّية وسعي شديد.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٦٠ (باب الجبر والقدر ـ الحديث ١٢).

١٨٤

بديهي ، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين ، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النّبي (هداية وتبليغ) ، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإرشادهم من أثر بالغ ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار الحق ، بل ودعاته.

فعليه تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال ، وأصبحوا غرقى في بحر الاستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأغلقت أمامهم أبواب الهداية ، فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهديهم حتى وإن طالت المدّة لأنّهم قد انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم الى درجة أنّهم باتوا غير قابلين للهداية.

ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أناس من ناصرين وأعوان ، لأنّ الناصر لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إلّا في أرضية مناسبة ومساعدة.

وهذا التعبير أيضا دليل على نفي الجبر ، لأنّ الناصر إنّما ينفع سعيه فيما لو كان هناك تحرك من داخل الإنسان نحو الصلاح والهداية فيعينه ويأخذ بيده ـ فتأمل.

ولعل استعمال «ناصرين» بصيغة الجمع للإشارة إلى أنّ المؤمنين على العكس من الضالين ، لهم أكثر من ناصر ، فالله تعالى ناصرهم و.. الأنبياء ، وعباد الله الصالحين ، وملائكة الرحمة كذلك.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه النصرة في الآية (٥١) من سورة المؤمن :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

وكذلك في الآية (٣٠) من سورة فصلت :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

* * *

١٨٥

بحثان

١ ـ ما هو البلاغ المبين؟

رأينا في الآيات مورد البحث أنّ الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي البلاغ المبين( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

أي لا بدّ من الدعوة علنا ، وإذا كانت ثمّة ظروف موضوعية تستدعي من الأنبياء أن تكون دعوتهم سرية ، فهذا لا يكون إلّا لمدّة محدودة ، لإنّ الأسلوب السري في عصر دعوة الأنبياءعليهم‌السلام غير مستساغ من قبل المجتمع ، فلا يكون له الأثر المطلوب والحال هذه.

فلا بدّ للدعوة إذن من الإعلان السليم القاطع المصحوب بالتخطيط والتدبير كشرط أساسي في إنجاح الدعوة بين المجتمع.

وبمطالعة تأريخ جميع الأنبياءعليهم‌السلام نرى أنّهم كانوا يعلنون دعوتهم ببيان صريح معلن ، بالرغم من قلة الناصر من قومهم بالذات.

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم) فهم : لا يداهنون في دعوتهم أبدا ولا يجاملون الباطل وأهله ، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

٢ ـ لكل أمّة رسول

عند قولهعزوجل :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) يواجهنا السؤال التالي : لو كان لكل أمّة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم ، ولكنّ التأريخ لا يحكي لنا ذلك ، فيكف التوجيه؟!

وتتضح الإجابة من خلال الالتفات إلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإيصال الدعوة الإلهية إلى أسماع كل الأمم ، فعلى سبيل المثال عند ما بعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأخرى نبي ، ولكنّ رسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٨٦

كانوا يصلون إليها وبوصولهم يصل صوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها أسماع الجميع ، بالإضافة إلى كتبه ورسائله العديدة التي أرسلها إلى الدول المختلفة (إيران ، الروم ، الحبشة) ليبلغهم الرسالة الإلهية.

وها نحن اليوم كأمّة قد سمعنا دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرغم من بعد الشقّة التاريخية بيننا وبينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته إلينا عبر القرون ولا يقصد من بعثة رسول لكل أمّة إلّا هذا المعنى.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى (الآية ٣٨) أنّ رجلا من المسلمين كان له دين على مشترك فتقاضاه فكان تتعلل في بتسديده ، فتأثر المسلم بذلك ، فوقع في كلامه القسم بيوم القيامة وقال : والذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا ، فقال المشرك : وإنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم بالله ، لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله الآية(١) .

فأجاب الله فيها الرجل المشرك وأمثاله ، وعرض المعاد بدليل واضح ، وكان حديث الرجلين سببا لطرح هذه المسألة من جديد.

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٨٨

التّفسير

المعاد و.. نهاية الاختلافات :

تعرض الآيات أعلاه جانبا من موضوع «المعاد» تكميلا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.

فتقول الآية الأولى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ) .

وهذا الإنكار الخالي من الدليل والذي ابتدءوه بالقسم المؤكّد ، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم ، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله :( بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إنّ الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل «بلى» ، «وعدا» ، «حقّا» لتظهر بكل تأكيد حتمية المعاد.

وعموما ـ ينبغي مواجهة من ينكر الحقّ بحجم ما أنكر بل وأقوى ، كي يمحو الأثر النفسي السيء للنفي القاطع ، ولا بدّ من إظهار أن نكران الحق جهل حتى يمحى أثره تماما( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ يتطرق القرآن الكريم إلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللهعزوجل على ذلك ، ليرد الاشتباه القائل بعدم إعادة الحياة بعد الموت ، أو بعيشة المعاد

فيقول :( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) في إنكارهم للمعاد وبأنّ الله لا يبعث من يموت

! لأنّ ذلك عالم الشهود ، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء ، عالم تجلي الحقائق ، كما نقرأ في الآية (٢٢) من سورة ق :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

وفي الآية (٩) من سورة الطارق :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) أي تظهر وتعلن.

وكذا الآية (٤٨) من سورة إبراهيم :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة ،

١٨٩

وإن كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإطلاق الأكاذيب في بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم ، إلّا أنّ ذلك سيكون أمرا استثنائيا عابرا.

وهذا يشبه إلى حد ما إنكار المجرم لجريمته ابتداء عند المحاكمة ، ولكنّه سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عند ما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية التي لا تقبل إدانة غيره أبدا ، وهكذا فإنّ ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون أوضح وأجلى من ذلك.

ومع أنّ أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات القرآنية بشكل متفرق مثل : تكامل الإنسان ، إجراء العدالة الإلهية ، تجسيد هدف الحياة الدنيا ، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك إلّا أنّ الآية مورد البحث أشارت إلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو : رفع الاختلافات وعودة الجميع إلى التوحيد.

ونعتقد أنّ أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم ، وهو شامل يصدق على : ذات وصفات وأفعال اللهعزوجل ، عالم الخليقة والقوانين التي تحكمه ، وكل شيء في النهاية يجب أن يعود إلى هذا الأصل.

ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض ـ الناشئة من الاختلافات المنتجة للحروب والصدامات ـ من خلال قيام حكومة واحدة تحت ظلال قيادة الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» لأنّه يجب في نهاية الأمر رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).

أمّا اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماما لوجود عالم الحجب والأستار ، ولا ينتهي إلّا يوم البروز والظهور (يوم القيامة).

فالرجوع إلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي أشارت إليه الآية مورد البحث.

١٩٠

وثمّة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أنّ اللهعزوجل سيحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(١) .

ثمّ يشير القرآن إلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد ، للرد على من يرى عدم إمكان إعادة الإنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته :( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

فمع هذه القدرة التامّة هل ثمّة شك أو ترديد في قدرتهعزوجل على إحياء الموتى؟!

ولعل لا حاجة لتبيان أنّ «كن» إنّما ذكرت لضرورة اللفظ ، وإلّا لا حاجة في أمر الله لـ «كن» أيضا ، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقق ما يريد.

ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيرا ناقصا من حياتنا (ولله المثل الأعلى) ، فنستطيع أن نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إرادته ، فإنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء ، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد ، فبمجرّد إرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.

ونقرأ سوية الحديث المروي عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إنّ صفوان بن يحيى سأله : أخبرني عن الإرادة من الله تعالى ومن الخلق ، فقال : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللهعزوجل فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف»(٢) .

* * *

__________________

(١) راجع الآيات : (٥٥) آل عمران ، (٤٨) المائدة ، (١٦٤) الأنعام ، (٩٢) النحل و (٦٩) الحج.

(٢) عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ١١٩.

١٩١

الآيتان

( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول الآية الأولى (٤١) : نزلت في المعذبين بمكّة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم الله في المدينة ، وذكر أن صهيبا قال لأهل مكّة : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني ، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له أحدهم : ربح البيع يا صهيب.

ويروى أنّ أحد الخلفاء كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاء قال له :خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما أخّره لك أفضل. ثمّ تلى هذه الآية(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية ٤١.

١٩٢

التّفسير

ثواب المهاجرين :

قلنا مرارا : إنّ القرآن الكريم يستخدم أسلوب المقايسة والمقارنة كأهم أسلوب للتربية والتوجيه ، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحا.

فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة ، وينقل الحديث في الآيات مورد البحث إلى المهاجرين المخلصين ، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما

فيقول أوّلا :( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) أمّا في الآخرة( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين ، فيقول :( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ كما هو معروف فإنّ للمسلمين هجرتين ، الأولى : كانت محدودة نسبيا (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة) ، والثّانية :الهجرة العامة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من مكّة إلى المدينة.

وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثّانية ، كما يؤيد ذلك شأن النّزول.

وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية (١٠٠) من سورة النساء ، والآية (٧٥) من سورة الأنفال.

وعلى أية حال ، فللمهاجرين مقام سام في الإسلام ، وقد اهتم النّبي

١٩٣

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم كثيرا وكذا المسلمون من بعد ، وذلك لأنّهم جعلوا حياتهم المادية وما يملكون في خدمة الدعوة الإسلامية المباركة ، ممّا حدا بالبعض أن يعرض حياته للمخاطر ، والبعض الآخر ترك كل أمواله (كصهيب) معتبرا نفسه رابحا في هذه الصفقة المباركة.

ولو لم تكن تلك التضحيات لأولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في مكّة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإسلام ليعم أسماع الجميع ، ولكتم الصوت وقبر في صدور المؤمنين إلى الأبد ، ولكنّ المهاجرين بتحولهم المدروس الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكّة فحسب ، وإنّما أوصلوا صوت الإسلام إلى أسماع العالم ، فأصبحت الهجرة سنّة إسلامية تجري على مرّ التأريخ إذا ما واجهت ما يشبه ظروف مكّة قبل الهجرة.

٢ ـ التعبير ب( هاجَرُوا فِي اللهِ ) من دون ذكر كلمة «سبيل» إشارة إلى ذروة الإخلاص الذي كان يحملونه أولئك المهاجرون الأول ، فهم هاجروا لله وفي سبيله وطلبا لرضاه وحماية لدينه ودفاعا عنه ، وليس لنجاتهم من القتل أو طلبا لمكاسب مادية أخرى.

٣ ـ وتظهر لنا جملة( مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) عدم ترك الميدان فورا ، بل لا بدّ من الصبر والتحمل قدر الإمكان.

أمّا عند ما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته ، وإضعاف المؤمنين فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة ، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل ، حتى تنتهي الحال إلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية

٤ ـ أمّا قوله تعالى :( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) «نبوئنهم» من (بوأت له مكانا) أي هيأته له ووضعته فيه ـ فيشير إلى أن المهاجرين في الله وإن كانوا ابتداء يفتقدون إلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة ، إلّا أنّهم في النهاية ـ حتى

١٩٤

في الجانب الدنيوي ـ منتصرون(١) .

فلما ذا بعد ذلك يتحمل الإنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها ذليلا؟! لما ذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوّه من موضع جديد فيأخذ منه حقّه؟!

وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية (١٠٠) من سورة النساء ، حيث تقول :( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ) .

٥ ـ إن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين «الصبر» و «التوكل» واضح ، لما يواجه من ظروف صعبة ومتعبة ، تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف في الدرجة الأولى ، ثمّ الاعتماد الكامل على الله سبحانه وتعالى. وأساسا فإنّ الإنسان لو افتقد في الحوادث العصبية والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند المعنوي المحكم ، فإنّ الصبر والاستقامة والثبات تكون مستحيلة.

وقال البعض : إنّ انتخاب «الصبر» هنا ، لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إلى الله يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس ، أما انتخاب «التوكل» فلأجل أنّ نهاية السير هي الانقطاع عن كل شيء غير اللهعزوجل والارتباط به.

وعلى هذا ، تكون الصفة الأولى لأوّل الطريق والثانية لآخره(٢) .

وعلى أية حال فلا سبيل الى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية ، فعلى الإنسان أن يقطع علائقة المادية الباطنية أوّلا بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية ، ليستطيع أن يهاجر ويترك دار الكفر ـ مع كل ما له فيها ـ منتقلا إلى دار الإيمان.

* * *

__________________

(١) «لنبوئنهم» : في الأصل من (بوأ) بمعنى تساوي أجزاء مكان ما على عكس «نبوء» على وزن (مبدأ) بمعنى عدم تساوي أجزاء المكان. وعلى هذا فـ «بوّأت له مكانا» أي ساويت له مكانا ، ثمّ بمعنى هيأته له.

(٢) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآية مورد البحث.

١٩٥

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) )

التّفسير

إسألو إن كنتم لا تعلمون!

بعد أن عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه عن المشركين ، يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأصول الدين من خلال إجابته لأحد الإشكالات المعروفة ، حين يتقول المشركون : لماذا لم ينزل الله ملائكة لإبلاغ رسالته؟ أو يقولون : لم لم يجهز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا!؟

فيجيبهم اللهعزوجل بقوله :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) .

نعم. فإنّ أنبياء اللهعليهم‌السلام جميعهم من البشر ، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إنسانيته ، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.

في حين أن الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الأمور جيدا والاطلاع على ما

١٩٦

يدور في أعماق الإنسان بوضوح.

إنّ وظيفة الأنبياء إبلاغ رسالة السماء والوحي الإلهي ، وإيصال دعوة الله إلى الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي ، وليس باستعمال قوى إلهية خارقة للسنن الطبيعية لإجبار الناس بقبول الدعوة وترك الانحرافات ، وإلّا فما كان هناك فخر للإيمان ولا كان هناك تكامل.

ثمّ يضيف القول (تأكيدا لهذه الحقيقة) :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

«الذكر» : بمعنى العلم والاطلاع ، و «أهل الذكر» له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإذا فسّر البعض كلمة «أهل الذكر» في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب) ، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح بمفهوم معين ، وما تفسيرهم في واقعة إلّا تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه.

لأنّ السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنّهم من جنس البشر وذوي رسالات ووظائف ربانية ، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.

وبالرّغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة والمشركين من جهة أخرى ، إلّا أنّهم مشتركون في مخالفتهم للإسلام ، ولهذا فيمكن أن يكون علماء أهل الكتاب مصدرا جيدا بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال الأنبياء السابقين.

يقول الراغب في مفرداته : إنّ الذكر على معنيين ، الأوّل : الحفظ. والثّاني : التذكر واستحضار الشيء في القلب. ولذلك قيل : الذكر ذكران ، ذكر بالقلب وذكر باللسان ولذا رأينا أنّ الذكر يطلق على القرآن لأنّه يعرض الحقائق ويكشفها.

ثمّ تقول الآية التالية :( بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) (١) .

__________________

(١) أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة( بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) فقال بعضهم:إنّها متعلقة بـ «لا

١٩٧

«البينات» : جمع بيّنة ، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياءعليهم‌السلام في دعوتهم.

«الزبر» : جمع زبور ، بمعنى الكتاب.

فالبينات تتحدث عن دلائل إثبات النّبوة ، والزّبر إشارة إلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء.

ومن ثمّ يتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ، ليبيّن للناس مسئوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك ورسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية ، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتبا ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية ، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه ، وتوقظ به الفكر الإنساني ليسيروا في طريق الحق بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم ، وليتجهوا صوب الكمال (وليس بطريق الجبر والقوة).

بحث

من هم أهل الذكر؟

ذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام ، ومن هذه الرّوايات :

روي عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في جوابه عن معنى الآية أنّه قال : «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون»(١) .

__________________

ـ تعلمون» كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات ، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها ، وقال بعض آخر : أنّها متعلقة بجملة تقديرها «أرسلنا» وهي في الأصل «أرسلناهم بالبينات والزبر». وقال آخرون : إنّها متعلقة بجملة «وما أرسلنا» في الآية السابقة ، وقال غيرهم : إنّها متعلقة بجملة «نوحي إليهم» ، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوما معينا للآية ، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٥.

١٩٨

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية أنّه قال : «الذكر القرآن وآل الرّسول أهل الذكر وهم المسؤولون»(١) .

وفي روايات أخرى : أنّ «الذكر» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و «أهل الذكر» هم أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

وثمّة روايات متعددة أخرى تحمل نفس هذا المعنى.

وفي تفاسير وكتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنى أيضا ، منها : ما في التّفسير الاثنى عشري : روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام هم أهل الذكر والعقل والبيان(٣) .

فهذه ليست هي المرّة الأولى في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.

وكما قلنا فـ «الذكر» يعني كل أنواع العلم والمعرفة والاطلاع ، و «أهل الذكر» هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات ، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم «الذكر» ، وكذلك شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مصداق واضح «للذكر» والأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة ووارثو علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهمعليهم‌السلام أفضل مصداق لـ «أهل الذكر».

وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية ، ولا ينافي مورد نزولها أيضا (علماء أهل الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والأصول عند بحثهم موضوع الاجتهاد

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٦.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ص ٥٥ و ٥٦.

(٣) إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٢٨ ـ والمقصود من تفسير الاثنى عشر ، هو تفاسير كل من : أبي يوسف ، ابن حجر ، مقاتل بن سليمان ، وكيع بن جراح ، يوسف بن موسى ، قتادة ، حرب الطائي ، السدي ، مجاهد ، مقاتل بن حيان ، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي.

وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية ، في كتاب الثعلبي أنّه قال : لما نزلت هذه الآية قال علي عليه‌السلام : «نحن أهل الذكر» ـ راجع المصدر أعلاه ـ.

١٩٩

والتقليد إلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية ، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم.

وقد يتساءل فيما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في كتاب (عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ): أنّ علماء في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية : إنما عني بذلك اليهود والنصارى ، فقال الرضاعليه‌السلام : «سبحان الله وهل يجوز ذلك ، إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون : إنّه أفضل من الإسلام ...» ثمّ قال : «الذكر رسول الله ونحن أهله»(١) .

وتتخلص الإجابة بقولنا : إنّ الإمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنى الرجوع إلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان ، وبدون شك أنّه خلاف الواقع ، فليس المقصود بالرجوع إليهم على مر العصور والأيّام ، بل لكل مقام مقال ، ففي عصر الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لا بدّ من الرجوع إليه على أساس إنّه مرجع علماء الإسلام ورأسهم.

وبعبارة أخرى : إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإسلام لدى سؤالهم عن الأنبياء السابقين ، وهل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إلى علماء أهل الكتاب لا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن يرجعوا إليهم ، بل يجب الرجوع إلى علماء كل زمان.

وعلى أية حال فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية ، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه ، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة ، ويجب أن يكون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الإبصار والرؤية، ويوفّر لها إمكانيّة الحياة، فهل يكون قضاء الخفّاش على النور بأنّه شرّ ملاكاً لتقييم هذه الظاهرة ؟

إنّ الحوادث حلقات مترابطة في سلسلة ممتدّة من أوّل الحياة إلى أقصاها، فما يقع الآن يرتبط بما وقع في أعماق الماضي، وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعاليل والأسباب والمسبّبات، ومن هنا لا يكون القضاء على ظاهرة من الظواهر بغض النظر عمّا سبقها وما يلحقها، وتقييمها جملة واحدة، قضاء صحيحاً وموضوعيّاً، ولا النظر إليها دون هذا الشكل نظراً صائباً، وإليك بعضالأمثلة :

إذا وقعت عاصفة على السواحل فإنّها تقطع الأشجار وتهدّم الأكواخ وتقلّب الاثاث، ويوصف بالشرّ عند القياس إلى النفس، ولكنّها في الوقت نفسه توجب حركة السفن الشراعيّة المتوقّفة في عرض البحر بسبب سكون الريح، وبهذا تنقذ حياة المئات من ركابها اليائسين من نجاتهم وتوصلهم إلى شواطئ النجاة.

صحيح أنّ العاصفة تهدّم بعض الجدران وتقلع بعض الأشجار ولكنّها تعتبر وسيلة فعّالة في عملية التلقيح بين الأشجار والأزهار، كما يعتبر وسيلة فعّالة لتحريك السحب الحاملة للمطر، وتبدّد الأدخنة المتصاعدة من فوهات المصانع والمعامل، إلى غير ذلك من الآثار الطيّبة لهبوب الرياح التي تتضاءل عندها بعض الآثار السيّئة أو تكاد تنعدم بالمرّة.

وهناك ندرك سرّ قوله سبحانه في الكتاب العزيز عن علم الإنسان وعجزه حيث قال:( وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الاسراء / ٨٥ ). وقال:( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ( الروم / ٧ ).

كلّ ذلك يصدّنا من التسرّع في القضاء والحكم على الحوادث بالشرّ لضآلة علمنا بما جرى في السابق وما يجري حالياً وما سيجري في المستقبل، وليست هذه الحادثة منفصلة عن الحوادث في الظروف الثلاثة، فلعلّها بالنسبة إليها تحمل

٢٢١

مصالح كبيرة يحقر عنده ما يصاب الإنسان من الشرّ والبلاء.

إنّ هنا كلمة قيّمة للفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي يقول :

« واعلم أنّه قد تحيّرت العقول في كون بعض الحيوانات آكلة لبعض، وفيما جعل الله تعالى ذلك في طباعها وهيّأ لها الآلات والأدوات التي يتمكّن بها على ذلك كالأنياب والمخالب والأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط والخرط والنهش والأكل والشهوة واللذّة والجوع وما شاكل ذلك مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل، فلمّا تفكّروا في ذلك ولم تسنح لهم العلّة ولا الغاية والحكمة، فاختلفت عند ذلك بهم الآراء وتفنّنت بهم المذاهب، حتى قال بعضهم: إنّ تسلّط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعض لبعض ليس في فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلّام للعبيد، فلهذا قالوا: إنّ للعالم فاعلين خيّراً وشريراً.

وإنّما لم يقفوا عليها لأنّ نظرهم كان جزئيّاً، وبحثهم عن علل الأشياء مخصوصاً، ويمتنع أن يعلم أسباب الأشياء الكلّيّة بالأنظار الجزئيّة، لأنّ أفعال البارئ تعالى إنّما الغرض منها هو النفع الكلّي والصلاح على العموم وإن كان يعرض من ذلك ضرر جزئي ومكاره مخصوصة أحياناً، وهكذا خلق الله الشمس والقمر والامطار لأجل النفع والمصلحة العامّة، وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر، ولـمـّا كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلّي كانت تلك الشدائد من جهته صغيرةً جزئيّةً(١) .

وبوجه إجمالي القضاء على بعض الظواهر بأنّه شرٌّ ناشئ من انطلاق الإنسان في قضائه على هذه الظواهر من منطلق نفعيّ أناني، وأمّا إذا نظر إلى تلك الظواهر من زاوية النظام العام فلا يراها إلّا خيرات ضرورية لتعادل النظام ولازمة لاتّساقه واستمرار الحياة وبقائها.

__________________

(١) الاسفار: ج ٧ ص ٩٨ ـ ٩٩.

٢٢٢

وفي ذلك يقول الحكيم السبزواري :

ما ليس موزونا لبعض من نَغَم

ففي نظام الكلّ، كلّ منتظم

٢ ـ الشرّ أمر انتزاعي قياسيّ نسبيّ

ما ذكرنا من الجواب يعمّ كافّة الناس بشرط أن يتنازلوا عمّا يتصوّرون من الاحاطة على أسرار الكون وحقائقه، وهناك جواب آخر يهمّ المحقّقين في العلوم العقلية وحاصل هذا الجواب: إنّ الشر أمر عدمي ليس له واقعيّة في صفحة الكون، بل هو أمر انتزاعي تنتزعه النفس عند مقايسة أمر بأمر، والاشكال إنّما يرد لو كان له واقع خارجي في حدّ ذاته، وأمّا إذا كان كلّ ما في الكون متّسما بسمة الخير وكانت الشرور مخلوقة ذهن الإنسان عند مقايسة ظاهرة بظاهرة ومشاهدة التنافر والتضاد بينهما فلا، إذاً ليس لها واقع خارجي يحتاج إلى الايجاد والخلق، وإنّما هي اُمور وهميّة يخلقها الذهن عند المقايسة ومشاهدة التضاد بين الحادثين، بحيث لولا حديث المقايسة لما كان للشرّ في صفحة الكون واقعيّة وحقيقة، فنقول في توضيح ذلك :

إنّ الصفات على قسمين :

١ ـ ما يكون له واقعيّة كموصوفه مثل قولنا: الإنسان موجوداً أو انّ المتر = ١٠٠ سنتمتر وهذه صفة حقيقيّة لها واقعيّة خارجيّة توجّه إليها الذهن أم لا ؟

٢ ـ ما لا يكون له واقعية مثل موصوفه بل ينتزعه الذهن عند المقايسة كالكبر والصغر، فإنّ الكبر ليس شيئاً ذات واقعيّة خارجيّة، وانّما هي صفة ينتزعها الذهن بالقياس إلى ما هو أصغر منه.

مثلاً الأرض له حجم واقعي ومساحة خاصّة كما أنّ الشمس كذلك، فالحجم والمساحة في كلّ منهما ذات واقعيّة خارجيّة، إلّا أنّ هناك أمراً ثالثاً وهو انّ الأرض أصغر من الشمس والشمس أكبر منه، أو أنّ القمر أصغر من الأرض والأرض أكبر

٢٢٣

من القمر، فليس الكبر والصغر من الاُمور الواقعيّة، بل إنّما هي مفاهيم ذهنيّة تنتزع عند القياس.

ولأجل ذلك تتّصف الأرض تارة بالصغر واُخرى بالكبر، فليس هنا واقعيّة وراء الحجم والمساحة حتى يكون محقّقاً للصغر والكبر.

وفي ضوء هذا تقدر على حلّ الشرور فإنّها اُمور قياسيّة نسبيّة، فسمّ الحيّة والعقرب وغزارة المطر ليست من الشرور بتاتاً إذا لوحظ كلّ واحد بنفسه، بل هي سبب لكمال أصحابها وموجب لبقائها، وإنّما يتّسم بالشر إذا قيس إلى الإنسان ولوحظ المنافرة بينهما.

وعند ذلك فالشرّ ليس ممّا يتعلّق به الخلق والايجاد لأنّ المفروض أنّها اعدام لا موجودات، واتّصافه بالشرّ إنّما هو وليد الذهن وبانتزاعه، فسمّ العقرب والحيّة بما هي هي مخلوق لله سبحانه وتعالى، وأمّا كونه ضارّاً بالنسبه للإنسان فليس شيئاً واقعيّا وراء السمّ حتى يحتاج إلى الخالق، وإنّما ينطلق إليها الذهن عند المقايسة.

إلى هنا خرجنا بجوابين عن الاشكال :

١ ـ إنّ وصف الإنسان لبعض الظواهر بكونها شرّاً لأجل النظر إليها من زاوية ضيّقة، وأمّا إذا لوحظت من زاوية النظام العام فهي موصوفة بالخير.

٢ ـ إنّ بعض الحشرات والضواري والسباع التي يصفها الإنسان بالشرّ لا يكون الموجود منها سوى ذواتها وأجهزتها، وأمّا الاتصاف بالشريّة فليس إلّا أمراً ذهنيّا لا خارجيّاً فلذلك لا يقع في صفحة الخلق.

وإلى ما ذكرنا يشير الحكيم السبزواري :

والشرّ اعدام فكم قد ضلّ من

يقول باليزدان ثم الأهرمن

ما ذكرنا من الجوابين كان تحليلاً فلسفيّاً ولكن هناك تحليلات اُخرى للشرور وهي تحليلها من جانب الآثار التربويّة وحاصلها: إنّ لهذه الحوادث الأليمة و

٢٢٤

المصائب المحزنة آثار تربويّة مهمّة في حياة البشر، ولأجل ذلك وقعت في حيّز الخلق وذلك من باب تقديم الخير الكثير على الشرّ الكثير، وإليك بيان تلك الآثارالتربويّة.

١ ـ المصائب وسيلة لتفجير القابليات (١)

يحطّ الإنسان قدمه على هذه الأرض وهو يحمل في كيانه جملة كبيرة من القابليات والمواهب التي تبقى في مرحلة القوى وفي صورة الطاقات المعطّلة المخزونة، إلّا أن تتوجّه إليها صدمة قويّة تحرك القابليات، وتفجّر المواهب، وتظهر المعادن، وتصقل الجواهر.

وبعبارة واضحة: إذا لم يتعرّض الإنسان للمشاكل في حياته فإنّ قابليّاته ومواهبه المكنونة بين جوانحه ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تنفتح، بل تبقى في مرحلة القوّة والذخيرة المهملة، فإذا تعرّض الإنسان للمشاكل والمحن تفتّقت فيه تلك القابليات، ونمت تلك المواهب، وانتقلت الطاقات الكامنة من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعلية، وتفتّح فكره، وتكامل عقله.

ولا يعني هذا أن يعمد الإنسان بنفسه إلى خلق المشاكل، وإثارة الشدائد والمصائب وجرّها إلى نفسه ابتداءً، بل يعني أن يستقبلها الإنسان ـ إذا جاءت ـ برحابة صدر، ويستفيد منها في تفجير قابلياته، وتنمية مواهبه، وإذكاء عقله، وتقوية روحه، لا أن يستسلم أمام عواصفها، أو ينهزم أو ينهار، فلا يحصد إلّا الخسران، ولا يقطف إلّا ثمرة السقوط المرّة.

إنّ البلايا والمصائب والمحن خير وسيلة ـ لو أحسن المرء استغلالها واستخدامها ـ لتفجير الطاقات، بل تقدّم العلوم، ورقيّ الحياة البشريّة.

فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تتفتّق ولم تزدهر إلّا

__________________

(١) لاحظ: الله خالق الكون ص ٢٧٠ ـ ٢٧٧، فقد نقلناه منه.

٢٢٥

في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات، حيث كان الناس يلجأون فيها إلى استحداث وسائل الدفاع وفي مواجهة الأعداءِ المهاجمين، أو اصلاح ما خلّفته الحروب من دمار ونقص وتخلّف، أو تهيئة ما يستطيعون به على مقاومة الحصار مثلاً.

فقد كانت ـ في مثل هذه الظروف ـ تتفتّق المواهب وتتحرّك القابليّات لملافاة مافات، وتكميل ما نقص وتهيئة ما يلزم. ومن هنا قالوا: إنّ الحاجة اُمّ الاختراع.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد :

« إنّ البحث الدقيق في العوامل المولّدة للسجايا النفسانيّة بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك، فإنّ المجتمعات العائلية والأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيويّة أو دينيّة في أوّل تكوّنها ونشأتها تحسّ بالموانع المضادّة والمحن الهادمة لبنيانها من كلّ جانب فتتنبّه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، ويستيقظ ما نامت من نفسيّاتها للتحذّر من المكاره، والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس، ولا تزال تجاهد وتفدي ليلها ونهارها، وتتقوّى وتتقدّم حتى تمهّد لنفسها فيها بعض الاستقلال ويصفو لها الجوّ بعض الصفاء، وتأخذ بالاستفادة من فوائد جهدها »(١) .

ثم إنّنا لا ندّعي بأنّ هذه النتائج والثمار توجد دائماً في جميع الحوادث والكوارث، وإنّما في أغلبها.

فإنّ أغلبيّة هذه المصائب والبلايا تعطي دفعة قويّة لقابليات الأفراد، وتطرد الكسل عن نفوسهم والجمود عن أفكارهم.

أليس الحديد يزداد قوة وصلابة كلّما تعرّض للنار، وأليس السيف يزداد حدة وقاطعية كلّما تعرّض للمبرد.

__________________

(١) الميزان: ج ٩ ص ١٢٤.

٢٢٦

ومن هنا فإنّ الوالدين اللذين يعمدان إلى تربية ولدهما تربية ناعمة مرفّهة بعيدة عن الصعوبات والشدائد، لا يقدّمان إلى المجتمع إلّا إنساناً هزيلاً ضعيف الإرادة فاقد الطموح، أشبه ما يكون بالنبتة الغضّة في مهبّ الريح، بل والتبنة الخفيفة الوزن أمام هبوب العاصفة تأخذها يميناً وشمالاً.

وأمّا الذي ينشأ نشأة خشنة محفوفة بالمشاكل والمصائب، والمصاعب والمتاعب، فإنّه يكون أشبه بالصخرة الصلبة التي تتكسر عليها كلّ السهام، وتتحطّم عندها كلّ العواصف أو كما وصف الامام علي7 إذ قال :

« ألا إنّ الشجرة البرّية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً »(١) .

وإلى هذه الحقيقة ذاتها يشير قوله سبحانه :

( فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ) ( النساء / ١٩ ).

وقوله تعالى :

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) ( الشرح / ٥ و ٦ ).

وقوله سبحانه :

( فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ *وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب ) ( الشرح / ٧ و ٨ ).

أي تعرّض للنصب والتعب بالاقدام على العمل والسعي والجهد كلّما فرغت من العبادة، وكأنّ النصر والمحنة حليفان لا ينفصلان، واخوان لا يفترقان.

وخلاصة القول: إنّ القدرة على المقاومة والظفر بالنجاح يتوقّف على صلابة الإنسان الحاصلة من المرور بالصعوبات والمشاق، ليزداد قوّة إلى قوّة، وتماسكاً إلى تماسك كما يزداد الحديد صلابة إذا تعرّض لمطرقة الحدّاد، ولكي يخلص عقله وروحه من علائق الكسل والجمود كما يخلص الذهب من الشوائب إذا تعرّض لألسنة اللهب.

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الرسالة رقم ٤٥.

٢٢٧

٢ ـ المصائب والبلايا جرس انذار :

إنّ التمتع بالمواهب المادية، والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقيّة.

فكلّما ازداد الإنسان تعمّقاً في اللذائذ والنعم، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية، وربّما انتهى به الحال إلى أن ينسى نفسه بالمرّة.

وهذه حقيقة يلمسها كلّ فرد في حياته وحياة غيره، كما يقرأها في صفحات التاريخ.

فلابد ـ حينئذ ـ من وخزة للضمير، وهزّة للعقل لابد من جرس للانذار يذكّر الإنسان بنفسه ويفيقه من غفوته، وينبّهه من غفلته، وليس هناك ما هو أنفع ـ في هذا المجال ـ من بعض الحوادث التي تغيّر رتابة الحياة، وتقطع على الإنسان شروده وغفلته، ولهوه ولذّته، فإذا انقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات، واعترضت لذّته بعض المنغّصات، استيقظ من نومه، وأدرك عجزه، وتخلّى عن غروره، وخفّف من طغيانه.

إنّ الذي يعيش حياة ناعمة رتيبة يشبه إلى كبير من يركب في سيارة يقودها سائق، تسير على طريق مبلّط فيغطّ في نوم عميق، لا يستيقظ منه إلّا إذا كبس السائق على فرامل السيارة فجأة، وتوقّفت دون سابق اخبار، أو مرّ على قطعة غير مبلّطة، فأحدثت رجفة قويّة.

ولهذا تعمد الأجهزة المسؤولة عن الطرق والمواصلات إلى غرس بعض القطع الناتئة على متن الطرق حتى يوجب ذلك تنبيه السائقين بسبب ما تحدثه من هزّات للسيارة كيلا يستسلموا للنوم والنعاس.

ولأجل ذلك يتّضح وجه ربط الطغيان باحساس الغنى والاستغناء في الكتاب العزيز إذ يقول سبحانه :

( إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ *أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ) ( العلق / ٦ و ٧ ).

٢٢٨

كما ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها لفائدة الذكرى، فالرجوع إلى الله، والتضرّع إليه.

يقول سبحانه في هذا الصدد :

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) ( الاعراف / ٩٤ ).

ويقول أيضاً :

( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( الاعراف / ١٣٠ ).

فالآيتان تصرّحان بأنّ المصائب والبلايا سبب لتضرّع الإنسان إلى الله، وتذكّره، فهو إذا نسي الله في غمار الشهوة والماديّة، أيقظته المحنة وذكّرته بالله، إذ بها يدرك أنّه فقير عاجز لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، وإنّ اللذة الدنيوية لذّة عابرة، وشهوة متصرّمة، وإنّه لا ملجأ له ولا معين إلّا الله.

وهكذا تكون البلايا والمصائب سبباً ليقظة الإنسان، وتذكّره، وتنبّهه وتضرّعه إلى الله، فهي بمثابة صفعة الطبيب على وجه المريض المبنّج الّتي لولاها لانقطعت حياة المريض وتعرّضت لخطر الموت.

وهكذا توجب المحن والمصائب التكامل الاخلاقي كما توجب التفتّح العقلي على ما عرفت في النقطة الأُولى، وقد يتّخذ الإنسان من النوازل والمحن وسيلة لتذكّره ويقظته والتخلي عن غروره، وعندئذ تكون البلايا نعماً إلهية في حقّ الإنسان.

وقد لا يتخذ منها أيّ موقف أبداً فتكون في هذه الحالة ـ بالذات ـ مصيبة عليه، وكارثة في حياته.

٢٢٩

٣ ـ البلايا سبب للعودة إلى الحق :

إنّ للكون هدفاً، كما أنّ لخلق الإنسان هدفاً كذلك، وليس الهدف من خلق الإنسان إلّا أن يتكامل في جميع أبعاده، وما بعث الأنبياء وانزال الكتب والشرائع إلّا لتحقيق هذا الهدف العظيم، والغاية السامية.

ولـمّا كانت المعاصي والذنوب من أكبر الأسباب التي توجب بعد الإنسان عن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله، وتعرقل مسيرة تكامله، لأنّ الذي يعيش طيلة حياته في الكذب والنفاق وغيرها من المعاصي لا يمكن أن يتوصّل إلى هدف الخلقة بل يبقى كالحيوان غائب الرشد سادر الفكر، كان لابدّ من صدمة تعيده إلى رشده، وتردّه إلى صوابه، وكذلك تفعل البلايا والمصائب فإنّها بقطعها نظام الحياة وايقافها للإنسان العاصي على نتائج أعماله توجب رجوعه إلى الحقّ وعودته إلى العدالة، أو تدفعه إلى أن يعيد النظر في سلوكه ومنهجه في الحياة على الأقل.

إنّ القرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة ـ بوضوح لا ابهام فيه ـ إذ يقول :

( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم / ٤١ ).

ويقول سبحانه في آية اُخرى :

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( الأعراف / ٩٦ ).

نقطتان هامّتان :

ويجدر بنا في ختام هذا البحث أن نشير إلى نقطتين هامّتين :

الاُولى: إنّ بقاء الحياة على نمط واحد ووتيرة واحدة يوجب ملل النفس وكلل الروح وتعب العقل، فلا تكون الحياة محبّبة لذيذة إلّا إذا تراوحت بين المرّ والحلو، والجميل والقبيح، والمحبوب والمكروه، إذ لا يمكن معرفة السلامة إلّا عند

٢٣٠

العيب، ولا الصحّة إلّا عند المرض، ولا العافية إلّا عند الاصابة بالحمّى، ولا تدرك لذة الحلاوة إلّا عند تذوّق المرارة.

وبالجملة لولا المرض لما علمت قيمة الصحّة، ولولا الشتاء لما عرفت قيمة الصيف، وهكذا.

ومن هنا نجد البنّائين والمهندسين إذا بنوا داراً تفنّنوا في بناء الجدران والسقوف، فبنوها متموّجة متعرّجة لا مسطّحة خالية من أية تعرجات وتموّجات، لأنّ النفس الميّالة بطبعها إلى التنوّع لا ترتاح إلّا برؤيتها للجدار المتنوّع الأشكال والسطوح.

ولعلّ لهذا السبب كانت الوديان إلى جانب الجبال، والأشواك إلى جانب الورود، والثمار المرة إلى جانب الثمار الحلوة، والماء الاُجاج إلى جانب الماء العذب الفرات، وعبور الأنهر والمياه عبر الجداول المتعرجة الملتوية في بطون السهول والأودية.

إنّ المصائب وإن كانت مرّة غير مستساغة، ولا مأنوسة المذاق، إلّا أنّها تبرز من جانب حلاوة الحياة وقيمة النعم، وأهمّية المواهب.

فجمال الحياة وقيمة الطبيعة ينشآن من هذا التنوّع والانتقال من حال إلى حال، والتبدّل من وضع إلى آخر.

الثانية: إنّ هناك من المحن ما ينسبها الإنسان الجاهل إلى خالق الكون والحال أنّ أكثرها من كسب نفسه ونتيحة منهجه.

فإنّ الأنظمة الطاغوتية هي التي سبّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرّض البشر لتلك المحن ولما أصابته أكثر تلك النوائب.

فالتقسيم الظالم للثروات ـ مثلاً ـ هو الذي سبّب في تجمّع الثروة عند قلّة قليلة، وانحسارها عن جماعات كثيرة، وتمتّع الطائفة الاُولى بكلّ وسائل الوقاية و

٢٣١

الحماية ضد الأمراض والحوادث، وحرمان غيرهم منها، وهذا هو الذي جعل الطائفة الفقيرة المحرومة من المال والامكانيات أكثر عرضة للكوارث بسبب فقدانهم لوسائل الوقاية من الأمراض، والحماية من النوازل.

ولهذا يكثر الدمار والخراب والخسائر المالية والروحية بسبب الزلازل والسيول في القرى والأرياف، ويقلّ ذلك في المدن التي تتمتع بأعلى مستويات الوقاية والحماية والحصانة.

ولو أنّ الناس سلكوا السبيل الإلهي المرسوم لهم، وراعوا العدالة في تقسيم الثروة والامكانيات لما تضرّر أحد بهذه النوازل والحوادث، ولكان الجميع في أمن من تبعاتها على السواء.

فالأنظمة المجحفة، وخروج الناس عن السبيل الإلهي القويم الذي يكفل توفير وسائل العيش والسلامة للجميع على السواء هو من الأسباب الرئيسية التي توجب تعرّض الناس للمحن والكوارث(١) .

هذا كلّه في الخير المطلق، وأمّا الخير المضاف ( كخير الحاكمين و ) فإليك تفسير ما ورد في الذكر الحكيم في ذلك المجال.

الثامن والثلاثون: « خير الحاكمين »

وقد ورد ذلك اللفظ في الذكر الحكيم في موارد ثلاثة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( الأعراف / ٨٧ ).

__________________

(١) اقتبسنا ما مرّ من كتاب « الإلهيات » من محاضراتنا الكلامية فراجع الجزء الأوّل ص ٢٧١ ـ ٢٧٧.

٢٣٢

وقال سبحانه:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

وقال سبحانه ناقلاً عن الولد الأكبر ليعقوب بعد ما سجن أخ له من أبيه مخاطباً أخوته:( فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يوسف / ٨٠ ).

وقد تبيّن معنى هذا الاسم بما ذكرناه في « أحكم الحاكمين » والمفاضلة لأجل وجود حكّام غيره سبحانه وهم بين عادل في حكمه وجائر، بين مأذون من الله وغيره والكلّ غير مصون بالذات عن الخطأ والزلّة إلّا من عصمه الله كالأنبياء والأولياء فيكون سبحانه « أحكم الحاكمين » لكونه معصوماً من الخطأ والجهل بالذات.

التاسع والثلاثون « خير الراحمين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى:( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١٠٩ ).

وقال عزّ شأنه:( وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) ( المؤمنون / ١١٨ ).

ويظهر معناه ممّا سيجيئ في تفسير اسم « الرحيم ».

الأربعون: « خير الرازقين »

وقد ورد في القرآن الكريم في موارد، ووقع وصفاً له سبحانه في جميعها، قال سبحانه حاكياً عن عيسى بن مريم:( اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( المائدة / ١١٤ ).

٢٣٣

وقال تعالى:( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( الحج / ٥٨ )(١) .

وسيوافيك معناه عند البحث عن اسم « الرازق ».

الواحد والأربعون: « خير الغافرين »

وقد ورد في القرآن مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه.

قال:( وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إلّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ) ( الأعراف / ١٥٥ )

ويجيئ تفسيره عند البحث عن اسم « غافر الذنب ».

الثاني والأربعون: « خير الفاتحين »

وقد ورد في القرآن المجيد مرّة واحدة ووقع وصفاً له.

قال سبحانه:( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) ( الأعراف / ٨٩ ).

وسيظهر معناه عند البحث عن اسم « الفتّاح ».

الثالث والأربعون: « خير الفاصلين »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة.

قال سبحانه:( قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ

__________________

(١) لاحظ: المؤمنون / ٧٢، سبأ / ٣٩، الجمعة / ١١.

٢٣٤

إِنِ الحُكْمُ إلّا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) ( الأنعام / ٥٧ ).

قال ابن فارس: « الفصل » يدل على تميّز الشيء عن الشيء وابانته عنه، يقال: فصل الشيء فصلاً، والفيصل: الحاكم، والفصيل: ولد الناقة إذا افتصل عن اُمّه، والمفصل: اللسان، لأنّ به تفصل الاُمور وتميّز.

وقال الراغب: ابانة أحد الشيئين عن الآخر حتى يكون بينهما فرجة وسمّي يوم القيامة يوم الفصل، لأنّه يبيّن الحق من الباطل، ويفصل بين الناس بالحكم، وفصل الخطاب ما فيه قطع الحكم.

وعلى ذلك فمعنى قوله سبحانه « خير الفاصلين » أي خير الحاكمين، لأنّه لا يظلم في قضاياه ولا يجور عن الحقّ، وإنّه يقضي بالحق ولا يعدل عنه، والناس يحكمون بالايمان والبيّنات والقرائن والشواهد وهي قد تصيب وقد تخطئ، وهو سبحانه يقضي بعلمه الوسيع الذي لا يشوبه جهل، وبعرفانه الذي لا يخالطه خطأ فهو خير الفاصلين.

وحظ العبد من هذا الاسم هو اتّصافه بالقضاء العدل، والحكم الفصل.

قال سبحانه:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ ) ( ص / ٢٦ ).

وروي عن الصادق7 أنّه قال: « القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة: ج ١٨ الباب ٣ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٦.

٢٣٥

الرابع والأربعون: « خير الماكرين »

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في كلا الموردين.

قال تعالى:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( آل عمران / ٥٢ و ٥٤ ).

وقال تعالى:( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) ( الأنفال / ٣٠ ).

وقد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من مكره سبحانه هو المجازاة على مكرهم وقد سمّى المجازاة على المكر مكراً في غير هذا المورد أيضاً.

قال سبحانه:( وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ( البقرة / ١٤ و ١٥ ).

ومن المعلوم امتناع الاستهزاء على أنبيائه سبحانه فضلاً عن الله لأنّها من فعل الجهلة، والله الحكيم وأنبياؤه هم الحكماء، قال سبحانه حاكياً عن بني اسرائيل :

( قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ) ( البقرة / ٦٧ ).

والله سبحانه وصف نفسه به عند ابطال مكر الناس على رسله وأنبيائه ففي الآية الاُولى يذكر همّ بني اسرائيل بالمسيح حيث أرادوا قتله، فأبطل سبحانه مكرهم برفع عيسى إليه وقتلوا مكانه يهوذا وهو الذي دلّهم على المسيح.

رووا أهل السير والتاريخ أنّ المسيح جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثمّ قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وجاءت اليهود إليه فقال ما تجعلون لي أن أدلّكم عليه، فجعلوا له ثلاثين

٢٣٦

درهماً فأخذهم ودلّهم عليه، فألقى الله عليه شبه عيسى، فخرج إلى أصحابه وظنّوا أنّه عيسى(١) .

وفي الآية الثانية تذكّرهم قصة همّهم بأسر النبي أو قتله أو اخراجه من البلد حتى استقرّ رأيهم على اجتماع أربعين رجلاً من أقويائهم للهجوم على البيت بعد تمام الليل لاجراء أحد الاُمور الثلاثة عليه، والله سبحانه جازاهم بالمثل وأخبر رسوله فترك البيت قبل أن يتواثبوا عليه، فلو مكروا يجازوا بمكر مثله والله خير الماكرين أي المجازين للماكرين، وبذلك يعلم كونه سبحانه أسرع مكراً، قال سبحانه :

( قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ( يونس / ٢١ ).

فإذا كان المكر منه سبحانه هو الجزاء وابطال أثر مكر العدو، فتوصيفه بالسرعة امّا خاص بموارد معيّنة كابطال مؤامرة الأعداء في قتل الأنبياء، أو في ما بلغ الطغيان أعلى درجاته فيأخذ الطغاة في الدنيا لعذابه، وإمّا عام لجميع موارد العقوبة والتعبير بالسرعة امّا لأنّ ظرف المجازاة قريب منه قال سبحانه:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) ( المعارج / ٦ و ٧ ). وامّا لكون عملهم نفس المجازاة التي يجازي بها العصاة يوم القيامة، فعملهم ومكرهم عذاب لهم وهم لا يشعرون بناء على تجسّم الأعمال وتمثّلها.

الخامس والأربعون « خير المنزلين »

وقد ورد « خير المنزلين » في الذكر الحكيم مرّتين ووقع وصفاً له سبحانه في مورد واحد.

قال سبحانه حاكياً عن يوسف:( أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( يوسف / ٥٩ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٤٤٨.

٢٣٧

وقال سبحانه حاكياً عن نوح عند وقوف سفينته على الجودي:( رَبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ ) ( المؤمنون / ٢٩ ).

والمنزل في الآية الثانية امّا مصدر ميمي بمعنى الانزال أو اسم مكان بمعنى المنزل، فهو يطلب من الله تعالى أن يتفضّل عليه بانزال مبارك أو منزل مبارك بأن يكون ذات ماء وشجر أو غير ذلك ممّا يمهّد الحياة.

وأمّا معناه فقد قال ابن فارس: « النزل » يدلّ على هبوط شيء ووقوعه، يقال: نزل عن دابّته نزولاً، ونزل المطر من السماء نزولاً، والنازلة: الشديدة من شدائد الدهر تنزل، والنزل ما يهيّئ للنزيل، وطعام ذو نزل أي ذو فضل، ويعبّرون عن الحجّ بالنزول، ونزل: إذا حج، وقال الراغب: « النزول » في الأصل هو انحطاط من علوٍ يقال نزل عن دابّته ونزل في مكان كذا: حطّ رحله فيه، وأنزله غيره قال: « أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين ».

والظاهر أنّ له معنى واحد وهو الانحطاط من علو، فلو اطلق على المضيف حتى فسّر قوله سبحانه:( وَأَنَا خَيْرُ المُنزِلِينَ ) في سورة يوسف به لأجل أنّ المضيف ينزل الضيف عن دابّته، وهو في جميع الموارد بمعنى واحد، فالله منزل القرآن نفسه إلى قلب رسوله، قال:( اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ ) ( الشورى / ١٧ ) ومنزل الحديد.

قال سبحانه:( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ) ( الحديد / ٢٥ ) ومنزل « الأنعام » و « الماء » و « اللباس » إلى غير ذلك ممّا تعلّق به الانزال في الذكر الحكيم، ففي الكلّ نوع هبوط من علو، ونوح شيخ الانبياء يطلب من الله سبحانه أن ينزله من السفينة إلى منزل مبارك فإنّه « خير المنزلين »، فليس توصيفه سبحانه به بخصوص هذا الملاك بل هو خير المنزلين على الاطلاق سواء أنزل الإنسان إلى الأرض أو القرآن أو غيره.

٢٣٨

السادس والأربعون: « خير الناصرين »

وقد ورد هذا اللفظ في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه قال:( بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) ( آل عمران / ١٥٠ ).

وسيجيئ تفسيره عند تفسير اسم النصير.

السابع والأربعون: « خير الوارثين »

وقد ورد « خير الوارثين » في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً لله سبحانه قال :

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ *فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ( الأنبياء / ٨٩ و ٩٠ ).

قال ابن فارس: « الورث » أن يكون الشيء لقوم ثمّ يصير إلى آخرين بنسب أو سبب واطلاقه على الله سبحانه بملاك الانتقال من الإنسان إليه فقط من دون علقة النسب والسبب.

وإنّما وصفه سبحانه ب‍ « خير الوارثين » لأنّه اسم عامّ يطلق عليه وعلى غيره.

قال سبحانه:( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ) ( البقرة / ٢٣٣ ). وقال سبحانه:( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) ( المؤمنون / ٩ و ١٠ ). وقال:( وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥ ).

غير أنّ وراثته سبحانه أتم وأكمل من وراثتهم، ولأجل ذلك لـمّا طلب زكريا وارثاً وقال:( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ) الملازم لوجود ولد يرثه ذكَّر بتنزيهه سبحانه لأنه هو الذي يرث كلّ شيء وهو المنزّه عن مشاركة غيره له في كلّ شيء حتى في الوراثة فرفعه عن مساواة غيره وقال:( وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) يعني: أين هذا الوارث الذي

٢٣٩

يرث مالي مدة ثمّ يموت من وراثتك الباقية والثابتة قال:( وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ( آل عمران / ١٨٠ ). وقال:( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) ( الحجر / ٢٣ ).

الثامن والأربعون: « خير حافظا »

وقد ورد في الذكر الحكيم مرّة واحدة ووقع وصفاً له سبحانه:( فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف / ٦٣ و ٦٤ ).

والحافظ اسم عام توصف به الملائكه تارة قال سبحانه:( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ ) ( الانفطار / ١٠ و ١١ ).

والناس اُخرى. قال سبحانه:( مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( يوسف / ٦٣ ).

قال ابن فارس: والحفظ له معنى واحد يدل على مراعاة الشيء، والتحفّظ: قلّة الغفلة، والحفاظ: المحافظة على الاُمور.

وأمّا الذكر الحكيم فقد استعمله تارة في مورد رعاية حدود الله وقال:( وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) ( التوبة / ١١٢ ). واُخرى في تسجيل الشيء وضبطه كما في قوله سبحانه:( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ ) . وثالثة في صيانته عن الافراط والتفريط قال سبحانه:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) ( المؤمنون / ٥ ) ورابعة في دفع الكيد والشر والبلاء ووقايته من كلّ سوء وهذا هو المراد من قول اخوة يوسف( وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) كما هو المراد في قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر / ٩ ). أي نصونه من التحريف والتبدّل والزيادة والنقص والفقدان، والموارد ترجع إلى أصل واحد.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496