الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 238084 / تحميل: 7602
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وأمطر في كل البلاد صواعقاً

وهبت له ريح من الشر زعزع

فلم ينج منهم غير من باع دينه

وقال بما يرضي الضلوع ويقنع

ولا عز إلّا من أتى بنميمة

ولا ذل إلّا مؤون متورع

منازل أهل الجور في كل بلدة

عمار وأهل العدل في تلك بلقع

يقولون في أرض العراق مشعشع

وهل بقعة إلّا وفيها مشعشع

فلا فرق إلّا عجزهم واقتداره

وظلمهم فيما يطيقون اشنع

لقد صاقت الآفاق وارتق الفضا

فليس لأهل الدين في الأرض موضع

فهل عامر في الأرض بل أو مفازة

وليس لها في الظلم جمع مجمع

وما سن فيها الظلم إلّا عصابة

تقول على آل النّبي تجمع

فأولهم نسل القحافي حبتر

لئيم له في اللؤم أصل وموضع

أبوه دعى لابن جذعان خادم

وحبترة أدنى محل وأوضع

وتابعه ابن الصهاكي أدلم

عتل زنيم فاجر متبدع

إذا كان منسوباً لسبع

فهل عجب فيما يقول ويصنع

وتابعه في الظلم آل اُميّة

تواطوا على ظلم الوصي وأجمعوا

فلم يتركوا للدين أصلاً يقله

ولم يتركوا فرعاً له يتفرع

وقادوا عليّاً في حمائل سيفه

وكسر أسيافاً لقوم وأضلع

كسيف زبير ثمّ ضلع ابن ياسر

وضلع ابن مسعود وللصحف قطع

إذا فعلوا هذا بأصحاب أحمد

وقالوا لنا إن الصحابة أجمعوا

على حبتر ثمّ ارتضوه أميرهم

فهل عاقل يرضى بهذا ويقنع

وفاطمة الزّهراء حازوا تراثها

عناداً فجاءت حبتراً تتشفع

فقال أبوك المصطفى قال معلناً

بأن أولي القربى من الإرث يمنعوا

فقالت فهاتوا نحلتي وعطيتي

فقالوا لها هل شاهد لك يسمع

فقالت شهودي أذهب الرجس عنهم

لهم آية التطهير ما فيه مدفع

هم حيدر وابناه مع اُمّ أيمن

فهل لك في رد الشهادة مطمع

فقال لها ظلماً وكفراً وقسوة

فلسنا بقول البعل والابن نقنع

فلما رأت تصميمه في ضلاله

وليس عن العصيان أو الظلم يقلع

١٤١

فقامت وأنت عند ذلك أنة

يكاد لها صم الصفا يتصدع

وتابعت الزفرات والنوح والبكا

إلى أن قضت لم يرق للطهر مدمع

فيا عجباً من رده لشهودها

وقول أناس ليس في الكفر تطمع

ألم يفقهوا أقواله وفعاله

ألم ينظروا يا ويلهم ثمّ يسمعوا

فهل رد إلّا من نفى الرجس عنهم

ورد الذي قد جاء بالوحي يصدع

يزكي إله العالمين وأحمد

أناساً ويأتي نغل تيم ويمنع

فتباً لها من اُمة ضل سعيها

توالي كفراً بالإله وتتبع

وأعظم من كل الرزايا رزية

مصارع يوم الطّفّ أدهى واشنع

بها لبس الدين الحنيفي خلعة

من الذل لا تبلى ولا تتقطع

فما أنس لا أنس الحُسين ورهطه

وعترته بالطف ظلماً تصرع

ولم أنسه والشمر من فوق رأسه

يهشم صدراً وهو للعلم مجمع

ولم أنس مظلوماً ذبيحاً من القنا

وقد كان نور الله في الأرض يلمع

يقبله الهادي النّبي بنحره

وموضع تقبيل النّبي يقطع

إذا حز عضو منه نادى بجده

وشمر على تصميمه ليس يرجع

وميز عنه الرأس ظلماً وقسوة

ولا عينه تندو ولا القلب يخشع

تزلزلت الأفلاك من كل جانب

تكاد السما تنقض والأرض تقلع

وعرج جبرائيل ينوح بحرقة

ويشجي أملاك السما ويفجع

وضجت أملاك السّماء وتناوحت

طيور الفلا والوحش والجن أجمع

وجئن كريمات الرّسول حواسراً

ولم يبق جيب لا يشق ويرقع

تقبل جثمان الحُسين سكينة

وشمر لها بالسوط ضرباً يقنع

فيؤلمها ضرب السياط فتلتجي

لعمتها من حيث بالضرب توجع

تقول له يا شمر ويحك خلها

إذا كان بالتقبيل ترضى وتقنع

وترفع صوتاً اُمّ كلثوم بالبكا

وتشكو إلى الله العلي وتضرع

وتندب من عظم الرزية جدها

فلو جدنا ينظر إلينا ويسمع

أيا جدنا نشكو إليك اُميّة

فقد بالغوا في ظلمنا وتبدعوا

أيا جدنا لو أن رأيت مصابنا

لكنت ترى أمراً له الصخر يصدع

أيا جدنا هذا الحُسين معفراً

على الترب محزوز الوريدين مقطع

١٤٢

فجثمانه تحت الخيول ورأسه

عناداً بأطراف الأسنة برقع

أيا جدنا لم يتركوا من رجالنا

كبيراً ولا طفلاً على الثدي يرضع

أيا جدنا لم يتركوا لنسائنا

خماراً ولا ثوباً ولم يبق برقع

أيا جدنا سرنا عرايا حواسرا

كأنا سبايا الروم بل نحن أوضع

أيا جدنا لو أن ترانا أذلة

أسارى إلى أعدائنا نتضرع

ايا جدنا نسترحم القوم لم نجد

شفيعاً ولا من ذي الإساءة يدفع

أيا جدنا شمر يبز قناعنا

ويضربنا ضرب الإماء ويوجع

أيا جدنا زين العباد مكبل

عليل سقيم مدنف متوجع

إذا ما رآنا حاسرات بلا غطا

تكاد الحشا تنفت والروح تنزع

فيصرف عنا الوجه من غير بغضة

ويرنو إلى الرأسُ الحُسينُ فيجزع

فما فعلت عاد كفعل اُميّة

ولكنهم آثار قوم تتبع

فما قتل السبط الشهيد ورهطه

سوى عصبة يوم السقيفة أجمعوا

وما ذاك إلّا سامري وعجله

أهم أصلوا للظلم والقوم فرعوا

ألا لعن الله الذين توازروا

على ظلم آل المصطفى وتجمعوا

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

بكم مفلح مستعصم متمنع

وأنتم ملاذي عند كل كريهة

وأنتم له حصن منيع ومفزع

إذا كنتم درعي ورمحي ومنصلي

فلا اختشي بأساً ولا أتروع

بك أتقي هول المهمات في الدنا

وأهوال روعات القيامة أدفع

فدونكموها من محب ومبغض

له كبد حرى وقلب مفجع

ولا طاقتي إلّا المدائح والهجا

وليس بهذا علة القلب تنفع

الا ساعة فيها أجرد صارماً

وأضرب هام القوم حتّى يصرع

فحينئذ يشفي الفؤاد وحزنه

مقيم ولو لم يبق للقوم موضع

فكيف ولو بالحر قسنا جميعهم

لزاد عليهم للرياحي اصبع

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

ويا من بهم يعطي الإله ويمنع

ألا فاقبلوا من عبدكم ومحبكم

قليلاً فإن الحر يرضى ويقنع

فإن كان تقصير بما قد أتيته

فساحة غدري يا موالي مهيع

فلست بقوال ولست بشاعر

ولكن من فرط الأسى أتولع

١٤٣

الباب الثّالث

أيّها الإخوان , كيف تخفي زفرات الأحزان ؟ أم كيف تطفي لهبات الأشجان ؟ أتراكم ما تعلمون ما جرى على سادات الزّمان في تلك الأماكن والأوطان ؟ قسماً بالبيت العتيق , لو فكّر المؤمن فيما اصابهم من المحن , لغدى روحه أن تخرج من البدن , كيف لا وهم أنوار الله في أرضه وسمائه , وأصفياء الله وأبناء أصفيائه ! اجتروا عليهم فقطّعوا منهم الأوصال , وجدّلوهم على الرّمال , وجرّعوهم كؤوس الحتوف بأرض الطّفوف , وأخذوا نساءهم سبايا على أقتاب المطايا , عرايا حفايا على أيدي أهل العناد وأشرّ العباد , أمر تكاد السّماوات أن يتفطّرن منه , وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّا :

والله ما عاد بأعظم جرأة

منهم ولا فعلت ثمود وتبع

وناداهم لما به حفوا معاً

زمراً ولم يك من لقاهم يجزع

يا شر خلق الله ما من مسلم

منكم له دين يكف ويردع

حرم النّبي تموت من حر الظما

والوحش في ماء الشريعة يترع

ألكم طلائب عندنا تبغونها ؟

أم ما عرفتم ويلكم ما يصنع

فيا لهف نفسي على الكهول والشّبان ! ويا تأسّفي على تلك الأجسام والأبدان ! فيا ليتني كنت تراباً لأقدامهم , وخادماً من جملة خدّامهم.

روي عن المفضل بن عمر , قال : قُلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام ) : كيف كانت ولادة فاطمة (عليها‌السلام ) ؟ فقال : (( نعم , إنّ خديجة لمـّا تزوج بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , هجرتها نساء مكّة , وكنّ لا يدخلنّ إليها ولا يسلّمنّ عليها ولا يتركن امرأة تدخل إليها , فاستوحشت خديجة لذلك , فلمّا حملت بفاطمة , كانت فاطمة تحدّثها في بطنها وتصبّرها , وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فدخل يوماً فسمع خديجة تحدّث فاطمة , فقال لها : يا خديجة , مَن تحدثين ؟ قالت : الجنين في بطني يحدّثني ويؤنسني .قال : يا خديجة , هذا جبرائيل يبشّرني أنّها ابنتي , وأنّها النّسلة الطّاهرة الميمونة , وأنّ الله سيجعل نسلي منها , وسيجعل من نسلها أئمة , ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه.

فلم تزل خديجة (عليها‌السلام ) على ذلك حتّى حضرت ولادتها , فوجّهت إلى نساء قُريش

١٤٤

وبني هاشم : أن تعالين لتلين منّي ما تلي النّساء من النّساء .فأرسلنّ إليها : عصيتينا ولم تقبلي قولنا , وتزوجت مُحمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له , فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئاً .فاغتمّت خديجة (عليها‌السلام ) لذلك , فبينما هي كذلك , إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنّهن من نساء بني هاشم , ففزعت منهنّ لمـّا رأتهن , فقالت إحداهنّ : لا تحزني يا خديجة , إنّا رسل ربّك ونحن أخواتك ؛ أنا سارة , وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة , وهذه مريم بنت عمران , وهذه كلثم أخث موسى بن عمران , بعثنا الله إليك ؛ لنلي منك ما تلي النّساء من النّساء .فجلست واحدة عن يمينها واُخرى عن يسارها, والثّالثة بين يديها والرّابعة من خلفها , فوضعت فاطمة (عليها‌السلام ) طاهرة مطهّرة , فلمّا سقطت إلى الأرض , أشرق منها النّور حتّى دخل بيوت مكّة , ولم يبق في شرق الأرض ولا في غربها إلّا أشرق فيه ذلك النّور , ودخل عشر من الحور العين , كلّ واحدة منهنّ معها طشت من الجنّة وإبريق من الجنّة , وفي الإبريق ماء من ماء الكوثر , فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها , فغسّلتها بماء الكوثر , وأخرجت خرقتين بيضاوين , أشدّ بياضاً من اللبن وأطيب ريحاً من المسك والعنبر , فلفّتها بواحدة وقنّعتها بالثّانية , ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها‌السلام ) بالشّهادتين , فقالت : أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّ أبي مُحمّد رسول الله سيّد الأنبياء , وأنّ بعلي سيّد الأوصياء , وولدي سادة الأسباط , ثمّ سلّمت عليهنّ واحدة وسمّت كلّ واحدة باسمها , وأقبلنّ يضحكن إليها , وتباشرت الحور العين , وبشّر أهل السّماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة , وحدث في السّماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك , ثمّ قالت النّسوة : خذيها يا خديجة , طاهرة مطهّرة زكية ميمونة , بورك فيها وفي نسلها .فتناولتها فرحة مستبشرة , وألقمتها ثديها فدرّ عليها , وكانت فاطمة تنمو في اليوم كما ينمو الصّبي في الشّهر , وفي الشّهر كما ينمو الصّبي في السّنة )).

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : (( فاطمة سيدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين , وأنّها لتقوم في محرابها , فيسلّم عليها سبعون ألف مَلك من الملائكة المقرّبين , وينادونها بما نادت به الملائكة مريم , فيقولون : يا فاطمة , إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين .ثمّ يلتفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فيقول له : يا عليّ , فاطمة بضعة منّي وهي نور عيني وثمرة فؤادي , يسوءني ما ساءها

١٤٥

ويسرّني ما سرّها , وإنّها أوّل من يلحقني من أهل بيتي , فأحسن إليها بعدي )) .:

يا نفس إن تتلقي صبراً فقد ظلمت

بنت النّبي رسول الله وإبناها

تلك التي أحمد المختار والدها

وجبرائيل أمين الله رباها

الله طهرها من كل فاحشة

من كل ريب وزكاها وصفاها

فهذا يا إخوان الدّين ما وصل إلينا في ولادة بنت سيّد المرسلين.

وأمّا ولادة الحُسين بن عليّ (عليهما‌السلام ) , فقد روي فيها عن ابن عبّاس , قال : لمـّا أراد الله أن يهب لفاطمة الزّهراء , وكان في رجب في اثني عشر ليلة خلت منه ، فلمّا وقعت في طلقها , أوحى الله عزّ وجلّ إلى لعيا ( وهي : حوراء من الجنّة ) وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيء حسن نظروا إلى لعيا ، قال : ولها سبعون ألف وصيفة , وسبعون ألف قصر , وسبعون ألف مقصورة , وسبعون ألف غرفة مكلّلة بأنواع الجواهر والمرجان , وقصر لعيا أعلا من تلك القصور ومن كلّ القصور في الجنّة , إذا أشرفت على الجنّة , نظرت جميع ما فيها وأضاءت الجنّة من ضوء خدّها وجبينها , فأوحى الله إليها : (( أن اهبطي إلى دار الدّنيا , إلى بنت حبيبي مُحمّد فآنسي لها )) .فأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان : (( أن زخرف الجنّة وزيّنها ؛ كرامة لمولود يولد في دار الدّنيا )) .وأوحى الله إلى الملائكة : (( أن قوموا صفوفاً بالتّسبيح والتّقديس والثّناء على الله تعالى )) .وأوحى إلى جبرائيل وميكائيل وإسرافيل : (( أن اهبطوا إلى الأرض في قنديل من الملائكة )) .قال ابن عباس : والقنديل ألف ألف ملك , فبينما هبطوا من سماء إلى سماء , إذا في السّماء الرّابعة ملك يُقال له (صلصائيل) , له سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب , وهو شاخص نحو العرش ؛ لأنّه ذكر في نفسه فقال : ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر , وما يسير في ظلمة الليل وضوء النّهار ؟ فعلم الله تعالى في نفسه , فأوحى الله إليه : (( أن أقم مكانك لا تركع ولا تسجد ؛ عقوبة لك لما فكّرت )).

قال : فهبطت لعيا على فاطمة , وقالت لها : مرحباً بك يا بنت مُحمّد كيف حالك ؟ قالت (عليها‌السلام ) لها : (( بخير )) .ولحق فاطمة الحياء من لعيا لم تدري ما تفرش لها , فبينما هي متفكّرة , إذ هبطت حوراء من الجنّة ومعها درنوك من درانيك الجنّة , فبسطته في منزل فاطمة فجلست عليه لعيا , ثمّ إنّ فاطمة (عليها‌السلام ) ولدت الحُسين (عليه‌السلام ) في وقت الفجر , فقبّلته لعيا وقطعت سرّته ونشّفته بمنديل من

١٤٦

مناديل الجنّة , وقبّلت عينيه وتفلت في فيه , وقالت له : بارك الله فيك من مولود وبارك في والديك .وهنأت الملائكة جبرائيل , وهنأ جبرائيل مُحمّداً سبعة أيّام بلياليها , فلمّا كان في اليوم السّابع , قال جبرائيل : يا مُحمّد , آتنا بابنك هذا حتّى نراه .قال : فدخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأخذ الحُسين وهو ملفوف بقطعة صوف صفراء , فأتى به إلى جبرائيل , فحلّه وقبّله بين عينيه وتفل في فيه , وقال : بارك الله فيك من مولود , وبارك في والديك يا صريع كربلاء ! ونظر إلى الحُسين وبكى , وبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وبكت الملائكة , وقال جبرائيل : اقرأ فاطمة ابنتك السّلام , وقُل لها : تُسمّيه الحُسين , فقد سمّاه الله جلّ إسمه , وإنّما سُمّي الحُسين ؛ لأنّه لم يكُن في زمانه أحسن منه وجهاً .فقال رسول الله (ص) : (( يا جبرائيل , تهنيني وتبكي ؟! )) .قال: نعم يا مُحمّد , آجرك الله في مولودك هذا .فقال (ص) : (( يا حبيبي جبرائيل ومَن يقتله ؟ )) .قال : شراذمة من اُمّتك يرجون شفاعتك لا أنالهم الله ذلك .فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) .قال جبرائيل : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخاضت في عذاب الله .ودخل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) على فاطمة , فأقرأها من الله السّلام , وقال لها : (( يا بنيّة , سمّيه الحُسين فقد سمّاه الله الحُسين )) .فقالت : (( من مولاى السّلام وإليه يعود السّلام , والسّلام على جبرائيل )) .وهنأها النّبي وبكى ، فقالت : (( يا أبتاه ! تهنئني وتبكي ؟ )) .قال : (( نعم يا بنيّة ! آجرك الله في مولودك هذا )) .فشهقت شهقة وأخذت في البكاء وساعدتها لعيا ووصائفها , وقالت : (( يا أبتاه ! مَن يقتل ولدي وقرّة عيني وثمرة فؤادي ؟ )) .قال : (( شراذمة من اُمّتي يرجون شفاعتي لا أنالهم الله ذلك )) قالت فاطمة : (( خابت اُمّة قتلت ابن بنت نبيّها )) .قالت لعيا : خابت ثمّ خابت من رحمة الله , وخابت في عذابه .(( يا أبتاه ! اقرىء جبرائيل عنّي السّلام , وقُل له في أيّ موضع يُقتل ؟ )).قال : (( في موضع يُقال له كربلاء , فإذا نادى الحُسين لم يجبه أحد منهم , فعلى القاعد من نصرته لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ، ألا أنّه لن يُقتل حتّى يخرج من صلبه تسعة من الأئمة , ثمّ سمّاهم بأسمائهم إلى آخرهم , وهو الذي يخرج آخر الزّمان مع عيسى بن مريم ، فهؤلاء مصابيح الرّحمن وعروة السّلام , محبّهم يدخل الجنّة ومبغضهم يدخل النّار )).

قال : وعرج جبرائيل وعرج الملائكة وعرجت لعيا , فبقي الملك صلصائيل , فقال : يا حبيبي , أقامت القيامة على أهل

١٤٧

الأرض ؟ قال : لا ، ولكن هبطنا إلى الأرض , فهنئنا مُحمّداً بولده الحُسين .قال : حبيبي جبرائيل , فاهبط إلى الأرض , فقل له: يا مُحمّد , اشفع إلى ربّك في الرّضا عنّي ؛ فإنّك صاحب الشّفاعة .قال : فقام النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ودعا بالحُسين (عليه‌السلام ) , فرفعه بكلتا يديه إلى السّماء , وقال : (( اللّهمّ , بحقّ مولودي هذا عليك إلّا رضيت على الملك )) .فإذا النّداء من قبل العرش : (( يا مُحمّد , قد فعلت وقدرك كبير عظيم )) .قال ابن عباس : والذي بعث مُحمّداً بالحقّ نبيّاً , إنّ صلصائيل يفخر على الملائكة؛ أنّه عتيق الحُسين , ولعيا تفخر على الحور العين ؛ بأنّها قابلة الحُسين.

فيا إخواني , يحقّ لـمَن فارقته ساداته الذين بهم سعادته , ولم يتمكّن من الوصول إليهم , ولبذل نفسه في الجهاد بين يديهم, أن تسيل دموعه الهاطلة وتزيد حرقته المواصلة , ويواصل النّوح بالعويل لا سيّما لو كان بذاك رضا الجليل ، فنوحوا يا إخواني على ساداتكم الكرام , وتمثّلوا ما أصابهم من الكفرة اللئام , قتلوا رجالهم وذبحوا أطفالهم ونهبوا أموالهم ، فعلى مثلهم فليبك الباكون , وعلى مثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة لابن المتوج (رحمه ‌الله ت عالى)

ألا نوحوا وضجوا بالبكاء

على السبط الشهيد بكربلاء

ألا نوحوا بسكب الدمع حزناً

عليه وامزجوه بالدماء

الا نوحوا على من قد بكاه

رسول الله خير الأنبياء

ألا نوحوا على من قد بكاه

عليّ الطهر خير الأوصياء

ألا نوحوا على من قد بكته

حبيبة أحمد ست النساء

ألا نوحوا على من قد بكاه

لعظم الشجو أملاك السماء

ألا نوحوا على قمر منير

عراه الخسف من بعد الضياء

ألا نوحوا على غصن رطيب

ذوي بعد النظارة والبهاء

ألا نوحوا لخامس آل طه

وياسين وأصحاب العباء

ألا نوحوا على شرف القوافي

ومتخرة المرائي والثناء

ألا نوحوا عليه وقد أحاطت

به خيل البغاء الأشقياء

١٤٨

إذ أقبل واعظاً فيهم خطيباً

وبالغ في النصيحة والدعاء

ألا يا قوم أنشدكم فردوا

جوابي هل يحل لكم دمائي

وجدي أحمد وأبي عليّ

وأمي فاطم ست النساء

فقالوا هل نطقت بقول صدق

وقد أخبرت بالحق السواء

ولكن قد أمرنا لا نخلي

سبيلك أو تبايع بالوفاء

وإلّا بالقواضب والعوالي

نجرعكم بها غصص الظماء

فقال أبالقتال تخوفوني

وهل تخشى الأسود من الظباء

فنادوا للقتال معاً ونادى

أخيل الله هبي للقاء

فكافحهم على غصص إلى أن

أبادوا ناصريه ذوي الوفاء

وصادفهم بمهجته إلى أن

أتاه سهم أشقى الأشقياء

فخرّ وبادر الملعون شمر

وحز وريده بعد ارتقاء

وعلا رأسه في رأس رمح

وخلى الجسم شلواً بالعراء

ومالوا في الخيام فحرقوها

وعاثوا في الذراري والنساء

وساقوا الطاهرات مهتكات

على قتب الجمال بلا وطاء

ألا يا آل ياسين فؤادي

لذكري مصابكم حلف الضناء

فأنتم عدتي لي في يوم معادي

إذا حشر الخلائق للجزاء

وما أرجو لآخرتي سواكم

وحاشا أن يخيب بكم رجائي

أنا ابن متوج توجتموني

بتاج الفخر طراً والبهاء

صلاة الخلق والخلاق تترى

عليكم بالصباح وبالمساء

ولعنته على قوم أباحوا

دماءكم بظلم وافتراء

١٤٩

المجلس الثّامن

في اليوم الرّابع من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب

الباب الأول

تفكّروا أيّها الإخوان في أهل الظّلم والعدوان , كيف حملتهم الأحقاد والغلّ الكامن في الفؤاد , على انتهاك حرمة الرّسول وذرّيّة الزّهراء البتول , فصرعوهم على الرّمال ولم يراقبوا الكبير المتعال , ولا بما قيل وقال , بل رفعوا رؤوس آل النّبي على الرّماح , وتركوا أجسادهم شاحبة تسفى عليها الرّمال ، فهم ما بين قتيل يجري منه الصّديد وأسير مكبّل بالحديد ، وامرأة تحنّ ومريض يئنّ ، وسبايا كسبي العبيد ، يُقادون بالعنف إلى يزيد , كأنّهم اُسارى بني الأصفر وليسوا من ذرّيّة النّبي المطهّر :

قليل لهذا الرزء تكوير شمسها

وإن تفطر السبع الشداد له قطرا

مصاب بكت منه السّماء وأهلها

وأشقت به الشم الرعان على المسرى

وخطب جليل قليل حين حلوله

لدمع رسول الله من عينه أجرى

ليبك بنو السلام طراً عليهم

كما بكت الآيات والملّة الغرا

حملتهم الدُنيا الدّنيّة على قتل العترة النّبوية .وقد ورد في الخبر عن سادات البشر , حبّها من أعظم الأخطار الموجبة للسخط ودخول النّار.

وفي الحديث القدسي : (( لو صلّى عبدي صلاة أهل السّماوات وأهل الأرضين , وصام صيام أهل السّماوات وأهل الأرضين , وحجّ حجيج أهل السّماوات وأهل الأرضين

١٥٠

وطوى عن أكل الطّعام مثل الملائكة المقرّبين , ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدّنيا ذرّة , أو من سمعتها أو من رئاستها , أو من محمدتها أو من حليتها , أو من زينتها أدنى من ذرّة , فإنّه لا يجاورني في دار كرامتي ، ولأنزعنّ من قلبه محبّتي , ولأظلمنّ قلبه حتّى ينسى ذكري ؛ حتّى لا أذيقه رحمتي يوم القيامة )).

وفي الخبر عن الصّادق (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا كان يوم القيامة , يمرّ رسول الله بشفير جهنّم , ومعه عليّ بن أبي طالب والحسن والحُسين (عليهم‌السلام ) , فيراهم المختار وهو يومئذ في النّار , فينادي بصوت عال : يا شفيع المذنبين ! أنقذني من النّار .فلم يجبه ، فينادي : يا عليّ ! أغثني من النّار .فلم يجبه ، فينادي : يا حسن يا سيّد شباب أهل الجنّة ! أدركني .فلم يجبه ، فينادي : يا حُسين يا سيّد الشّهداء ! أنا الذي قتلت أعداءك وأخذت لك بالثأر , أنقذني من النّار .فيقول النّبي : يا حُسين , إنّ المختار قد احتجّ عليك بأخذ الثّأر من أعدائك , فأنقذه من النّار .قال : فينتفض الحُسين (عليه‌السلام ) سريعاً كالبرق الخاطف , ويخرجه من النّار , ويغمسه في نهر الحيوان , ويدخله الجنّة مع الأخيار ببركة النّبي المختار )).

فسُئل الصّادق (ع) : يابن رسول الله , فلِمَ اُدخل المختار النّار وهو من الأخيار والشّيعة الأبرار , وأفضل الأنصار لأهل بيت النّبي المختار ؟! فقال (عليه‌السلام ) : (( إنّ المختار كان يحبّ السّلطنة , وكان يحبّ الدّنيا وزينتها وزخرفها , وأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ؛ لأنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : والذي بعثني بالحقّ نبياً , لو أنّ جبرائيل أو ميكائيل كان في قلبهما ذرّة من حبّ الدّنيا , لأكبّهما الله على وجوههما في نار جهنّم )).

فنزّهوا أيّها الإخوان أنفسكم عن الرّاكعون إلى الدُنيا , وإيّاكم وطلب الرّئاسة والعليا ؛ فإنّها دار لا يدوم فيها نعيم , ولم يبق أحد من شرّها سليم , وكيف يرضى العاقل بالدّنيا دار بعد آل الرّسول وسلالة الطّاهرة البتول ؟! هذه والله دار غدرت بمواليها , فلا خير والله فيها إلّا مَن اتخذ فيها الزّاد ليوم المعاد ، ولعمري , لا عمل فيها أفضل من موالاة الآل , الدّافعة لتلك الأهوال يوم الحشر والمآل :

هم السادة الأطهار آل محمد

هم الدين والدنيا لمن يتعقل

هم الطور والأعراف والنور والضحى

وياسين والأحقاف والمترمل

مهابط وحي الله في حجراتهم

وتبيان برهان الكتاب المنزل

١٥١

فما مثلهم في الكون إن عد مفخر

أعد نظراً يا صاح إن كنت تعقل

خلت منهم أرض العقيق وعطلت

منازل آيات بها الوحي ينزل

منازل تنزيل بها الحزن قد ثوى

ومجلس أنس قد خلا منه نزل

حدا بهم حادي المنايا معجلا

وسارت بهم عنفاً على الابن نزل

أصابتهم أيدي المصائب فاغتدوا

أماثيل في الدّنيا لمن يتمثل

فما منهم إلّا قتيل وهالك

بسم ومذبوح وذاك مكبل

على مثلهم فليبك بالمدى المدى

ويذرف دمعاً كالمسيل مسبل

روي عن عليّ بن عاصم الكوفي الأعمى , قال : دخلت على سيدي ومولاي الحسن العسكري (عليه‌السلام ) , فسلّمت عليه , فردّ عليّ السّلام وقال : (( مرحباً بك يابن عاصم , اجلس مكانك , هنيئاً لك يابن عاصم , أتدري ما تحت قدميك ؟ )).فقلت : يا مولاي , إنّي أرى تحت قدمي هذا البساط , كرّم الله وجه صاحبه .فقال لي : (( يا بن عاصم , اعلم أنّك على بساط جلس عليه كثير من النّبيين والمرسلين )) .فقلت : يا سيدي , ليتني لا أفارقك ما دمت في دار الدّنيا .ثمّ قلت في قلبي : ليتني أرى هذا البساط .فعلم الإمام ما في ضميري , فقال : (( ادن منّي )) .فدنوت منه , فمسح يده على وجهي , فصرت بصيراً بإذن الله ، ثمّ قال لي : (( هذا قدم أبينا آدم , وهذا أثر هابيل , وهذا أثر شيث , وهذا أثر إدريس , وهذا أثر هود , وهذا أثر صالح , وهذا أثر لقمان , وهذا أثر إبراهيم , وهذا أثر لوط , وهذا أثر شعيب , وهذا أثر موسى , وهذا أثر داود , وهذا أثر سُليمان , وهذا أثر الخضر , وهذا أثر دانيال , وهذا أثر ذي القرنين الاسكندر , وهذا أثر عدنان , وهذا أثر عبد الـمُطّلب , وهذا أثر عبد الله , وهذا أثر عبد مُناف , وهذا أثر جدّي رسول الله , وهذا أثر جدّي عليّ بن أبي طالب ))

قال عليّ بن عاصم : فأهويت على الأقدام كلّها وقبّلتها , وقبّلت يد الإمام العسكري (عليه‌السلام ) , وقلت له : يا سيدي , إنّي عاجز عن نصرتكم بيدي , وليس أملك غير موالاتكم , والبراءة من أعدائكم واللعن لهم في خلواتي , فكيف حالي يا سيدي ؟ فقال : (( حدّثني أبي عن جدّي عن رسول الله , قال : مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت , ولعن في خلواته أعداءنا , بلغ الله صوته إلى جميع الملائكة , فكلّما لعن أحدكم أعداءنا , ساعدته الملائكة ولعنوا من لا يلعنهم ، فإذا بلغ صوته إلى الملائكة , استغفروا له

١٥٢

وأثنوا عليه , وقالوا : اللّهمّ صلّ على روح عبدك , هذا الذي بذل في نصرة أوليائه جهده , ولو قدر على أكثر من ذلك لفعل.فإذا النّداء من قبل الله تعالى يقول : يا ملائكتي , إنّي قد أجبت دعائكم في عبدي هذا , وسمعت نداءكم , وصلّيت على روحه مع أرواح الأبرار , وجعلته من الـمُصطفين الأخيار )).

وكذلك قال عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) لأصحابه الذين كانوا معه لمـّا غُصبت الخلافة منه , حيث قال : (( يا أصحابي , الزموا بيوتكم واصبروا على البلاء , ولا تحرّكوا بأيديكم وسيوفكم وأهواء ألسنتكم , ولا تستعجلوا بما يُعجّله الله لكم ؛ فإنّه مَن مات منكم على فراشه وهو على معرفة من حقّ ربّه , وحقّ نبيّه وآل نبيّه , كان كمن مات شهيداً , أو أجره على الله , واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله , وقامت النّية مقام صلاته وجهاده بسيفه ويده , وإنّ لكلّ شيء أجلاً وانتهاء )).

فيا إخوتي , لله درّ الشّيعة الـمُخلصين , والأتباع الـمُتّقين , وأهل الولاية أجمعين , الذين بذلوا قلوبهم في المحبّة , واستعملوها في المودّة والمسبّة.

روي في الخبر عن سيّد البشر (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه كان يقول للحسن والحُسين : (( أنتما زينة عرش الرّحمن , أنتما اللؤلؤة والمرجان)) .فقيل له : يا رسول الله , وكيف ذلك , وكيف يكونان تزيين عرش الرّحمن ؟ فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( إذا كان يوم القيامة , يزيّن عرش ربّ العالمين بكلّ زينة , ثمّ يؤتى بمنبرين من نور , كلّ منبر طوله مئة ميل , فيوضع أحدهما عن يمين العرش , والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يؤتى بالحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) , فيقف الحسن على أحدهما والحُسين على الآخر , يزيّن الرّب تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها )) .ثمّ قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ويوضع يوم القيامة منابر تحت العرش لشيعتي , ولشيعة أهل بيتي المخلصين في ولايتنا , فيقول الله عزّ وجلّ : هلمّوا يا عبادي إليّ لأنشر عليكم كرامتي , فقد أوذيتم في دار الدُنيا )).

وقال أيضاً (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أنا الشّجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها , والحسن والحُسين ثمرها , وشيعتنا أهل البيت أوراقها , قد أفلح من تمسّك بهذه الشّجرة )).

وفي الخبر أيضاً عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أنّه قال : (( يدخل الجنّة من اُمّتي سبعون ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب يصل إليهم )).ثمّ التفت إلى عليّ (عليه‌السلام ) , فقال : (( شيعتك هُم وأنت إمامهم )).

وعن أبي عبد الله (عليه‌السلام ) , قال : (( إذا بلغت نفس المؤمن الحنجرة , وأهوى ملك الموت بيده إليها , يرى قرّة عين , يُقال له : انظر عن يمينك .فيرى رسول الله

١٥٣

وعليّاً وفاطمة والحسن والحُسين , فيقولون له : إلينا إلى الجنّة .والله لو بلغت روح عدوّنا إلى صدره , وأهوى ملك الموت بيده إليها , لا بدّ أن يُقال : انظر عن يسارك .فيرى مُنكراً ونكيراً يُهدّدانه بالعذاب , نعوذ بالله منه )) .:

مناقبهم بين الورى مستنيرة

لها غرر مجلوة وحجول

مناقب جلت أن يحاط بحصرها

نمتها فروع قد زكت وأصول

مناقب وحي الله أثبتها لهم

بما قام منه شاهد ودليل

مناقب من خلق النّبي وخلقه

ظهرت فما يغتالهن أفول

أمولاي آمالي تؤمل نصركم

وقلبي إليكم بالولاء يميل

وقد طال عمر الصبر في أخذ ثاركم

كما آن للظلم المقيم رحيل

متى يشتفي حر الغليل ويشتفي

فؤاد بآلام المصاب عليل

ويجبر هذا الكسر في ظل دولة

لها النصر جند والأمان دليل

هنالك يضحى دين آل محمد

عزيزاً ويمسي الكفر وهو ذليل

ويطوي بساط الحزن بعد كآبة

وتنشر نشراً للهناء ذيول

فيا آل طه الطاهرين رجوتكم

ليوم به فصل الخطاب طويل

أقيلوا إعثاري يوم فقري وفاقتي

فظهري بأعباء الذنوب ثقيل

فيا إخواني , دعوا التّشاغل عنكم بالأهل والأوطان والأتراب والأخدان , تفكّروا فيما أصاب سادات الزّمان الذين تمّ لكم بهم الإيمان , واستحققتهم بموالاتهم دخول الجنان ورضاء الرّحمن.

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليعي (رحمه ‌الله تع الى)

يا عين لا لخلو الربع والدمن

باكي الرزايا سوى الباكي على السكن

وآسى بني الهدى فيما أصيبت به

وساعدي البضعة الزّهراء على الحزن

وقابليها بارض الطف صارخة

على القتيل الغريب النازح الوطن

١٥٤

تشكو إلى الله والأملاك محدقة

بالعرض تستصرخ المولى أبا حسن

من حولها مريم العذراء وآسية

تكرر النوح بالتذكار والحزن

والنوح من نادبات الجن مرتفع

وقلبها موجع بالثكل والمحن

لهفي على قول مولاتي وقد نظرت

شلو الحُسين بلا غسل ولا كفن

ملقى على الأرض عاري الجسم منعفر

الخدين مختضب الأوداج والذقن

لهفي على زينب حرى مجردة

مسلوبة تستر الأكتاف بالردن

تقول يا واحدي من لي إذا نزلت

بي الحوادث يحميني ويكفيني

لهفي على فاطم الصغرى مقرحة

بالدمع أجفانها مسلوبة الوسن

تدعو إلى زينب يا عمتا سلب العلج

القناع ليسبيني ويهتكني

فرمت أستر وجهي عند رؤيته

فظل يشتمني عمداً ويضربني

أين الحماة وأين الناصرون لنا

وا خيبتي جار دهري واعتدى زمني

لهفي على السيد السجاد معتقلاً

في أسرهم مستذلا ناحل البدن

إذا شكا اسمعوه قبح شتمهم

وإن ونى قنعوه فاضل الرسن

وا حسرتاه لكريم السبط مشتهراً

كالبدر يشرق فوق الدل واللدن

فيا لها محنة عمت مصيبتها

ويا لها حسرة في قلب ذي شجن

يهني يزيد برأس طال ما رشف

المختار من ثغره تقبيل مفتتن

وتستحث بنات المصطفى ذللا

على المطايا إلى الأطراف والمدن

قد قابلونا بنو حرب بما صنعوا

ولا شفوا غلل الأحقاد والضغن

بفعلهم كفروا فينا واعتقدوا

أن لا جزاء على قبح ولا حسن

مضوا على سنن الماضين وارتكبوا

نهج الضلال ومالوا عن هدى السنن

كأنني بالبتول الطهر واقفة

في الحشر تشكو إلى الرّحمن ذي المنن

تأتي وقد ضمخت ثوب الحُسين دماً

من نحره وهي تبدي الحزن في حزن

تدعو الا ابن مسمومي ويا أسفي

على قتيلي ويا كربي ويا حزني

يا رب من نوزعت ميراث والدها

مثلي ومن طولبت بالحقد والإحن

ومن ترى جرعت في ولدها غصص

كما ابن مرجانة الملعون جرعني

ومن ترى كذبت قبلي وقد علموا

أن الإله من الأرجاس طهرني

وهل لبنت نبي أضرمت شعل

كما أطيف به بيتي ليحرقني

١٥٥

خرجت أطلب للأطفال بلغتهم

دفعني ظالمي عنها ودافعني

رب انتصف لي ممن خان عهدك

في ولدي وممن زوى إرثي فأفقرني

وتستغيث أمام العرش ساجدة

والمصطفى واقف والدمع كالمزن

فيبرز الأمر أني قد سمعت وقد

نقمت ممن عصى أمري وخالفني

أعظم بها ومنادي الحشر يسمع بالصوت

الرفيع لديها كل ذي أذن

غضوا العيون فخاتون القيامة قد

جاءت لتشفع فيمن بالولاء كنى

من كل محترق من عظم فجعتها

بكى وساعدها بالمدمع والهتن

يا سادتي الهادي النّبي ومن

أخلصت ودي لهم في السر والعلن

عرفتكم بدليل العقل والنظر المهدي

فلم أخش كيد الجاهل اللكني

ظفرت بالكنز في علم اليقين فلم

أخش اعتراضاً لدى شك ينازعني

فلست آسى على من ظل يبعدني

بالقرب منكم ومن بالغت ترحمني

وإنني أرتجي أن سوف يلطف بي

ربي فيصفح عن جرمي ويرحمني

وأن فاطمة الزّهراء تشفع لي

والمرتضى لجنان الخلد يقسمني

فاز الخليعي كل الفوز واتضحت

بكم له سبل الإرشاد والسنن

الباب الثّاني

أيّها المؤمنون الأخيار , لا تبخلوا بالدّموع الغزار على عترة النّبي الـمُختار ، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ويجزل لديه ثوابكم ؟ أليس هُم شفعاؤكم يوم المعاد إذا وقفتم بين يدي ربّ العباد ؟ أليس هُم العدّة لكم بكلّ شدّة ؟ أليس بهم تحطّ الأوزار ؟ أليس هُم الجنان الواقية من النّار ؟ فمَن بخل منكم عليه بإثارة الأحزان والأشجان , فعلى نفسه بخل ولقدر مواليه وساداته حقر وجهل , أيبكي الباكون منكم على الأهل والأولاد والآباء والأجداد ؟ فيا عجباً لمن أساء إليهم وظلمهم وقصّر في حقّهم وما أكرمهم! وما ارتكب منهم ما يوجب السّخط العظيم , والعدل عن النّهج القويم والصّراط الـمُستقيم ؟! أمر :( تَكَادُ السّماوَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقّ الْأَرْضُ وَتَخِرّ الْجِبَالُ هَدّاً ) (١) :

إن كنت في شك فسل عن حالهم

سنن الرّسول ومحكم التنزيل

فهناك أعدل شاهد لذوي النهى

وبيان فضلهم على التفصيل

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

١٥٦

ووصية سبقت لأحمد فيهم

جاءت إليه على يدي جبرائيل

روي عن اُمّ سلمة : أنّ الحسن والحُسين دخلا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وكان عنده جبرائيل (عليه‌السلام ) , فجعلا يدوران حوله يشبّهانه بدحية الكلبي , فجعل جبرائيل يومي بيده نحو السّماء كالـمُتناول شيئاً , فإذا بيد جبرائيل تفّاحة وسفرجلة ورمّانة , فناولهما الجميع , فتهلّلت وجوههما فرحاً وسعيا إلى جدّهما , فقبّلهما وقال لهُما : (( اذهبا إلى منزلكما وابدءوا بأبيكما )).ففعلا كما أمرهما جدّهما , ولم يأكلوا منها شيئاً حتّى جاء النّبي إليهم , فجلسوا جميعاً وأكلوا حتّى شبعوا , ولم يزالوا يأكلون من ذلك السّفرجل والتّفّاح والرّمان , وهو يرجع كما كان أوّلاً حتّى قُبض النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولم يلحقه التّغيير والنّقصان في مدّة أيّام حياة فاطمة (عليها‌السلام ).

قال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( فلمّا توفّيت اُمّي فاطمة , فقدنا الرّمان وبقي التّفّاح والسّفرجل أيّام حياة أبي ، فلمّا استشهد أبي عليّ بن أبي طالب (عليه‌السلام ) , فقدنا السّفرجل وبقي التّفاح عليَّ إلى وقت مُنعت فيه شرب الماء , فكنت أشمّها إذا عطشت , فيسكن لهيب عطشي ، فلمّا دنا أجلي , رأيتها قد تغيّرت فأيقنت بالفناء )).

قال عليّ بن الحُسين : (( سمعت أبي يقول ذلك قبل مقتله بساعة , فلمّا قضى نحبه , وجد ريح التّفّاح في مصرعه , فالتمست التّفّاحة فلم أجد لها أثراً , فبقي ريحها بعد مقتله (عليه‌السلام ) , ولقد زرت قبره فشممت منه رائحة التّفّاح تفوحّ من قبره صلوات الله عليه , فمَن أراد ذلك من شيعتنا الصّالحين الزّائرين قبر الحُسين , فيلتمس ذلك في أوقات السَّحر , فإنّه يجد رائحة التّفّاح عند قبر الحُسين إن كان مخلصاً موالياً صادقاً )).

وعن الصّادق (عليه‌السلام ) : (( أنّ جبرائيل نزل إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقال : يا مُحمّد , إنّ الله يقرؤك السّلام ويبشّرك بمولود من ابنتك فاطمة الزّهراء (عليها‌السلام ) , وتقتله اُمّتك من بعدك .فقال : يا جبرائيل , قُل لربّي , لا حاجة لي في مولد يولد من فاطمة وتقتله اُمّتي من بعدي .قال : فعرج جبرائيل (عليه‌السلام ) إلى السّماء في أسرع من طرفة عين , ثمّ هبط وقال : يا مُحمّد , إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام , ويبشّرك أنّه جاعل في ذرّيّته الأمانة والولاية والوصيّة .فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : رضيت بذلك .ثمّ أرسل النّبي إلى ابنته فاطمة (عليها‌السلام ) , يقول : إنّ الله يبشّرك بمولود يولد منك وتقتله اُمّتي من بعدي .فجزعت فاطمة وأرسلت إليه تقول : لا حاجة لي في مولود يولد منّي وتقتله اُمّتك من بعدنا .فأرسل إليها يقول : إنّ الله

١٥٧

جاعل من ذرّيّته الإمامة والولاية والوصيّة .فأرسلت إليه تقول : إنّي قد رضيت :( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) (١) .[ فلو أنّه قال : اصلح لي ذريتي ، لـ ] كانت ذرّيّته كلّهم أئمة )) .فهذه الآية نزلت في شأن الحُسين (ع).

وروي : أنّ الحُسين لم يرضع من ثدي فاطمة شيئاً , ولا رضع من اُنثى لبناً , ولكنّه كان يؤتى به إلى جدّه رسول الله , فيضع إبهامه في فيه , فيمصّ منها لبناً يكفيه ويُغذّيه يومين أو ثلاثة أيّام , فنبت لحم الحُسين من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ودمه من دمه وعظمه من عظمه , ومخّه من مخّه وشعره من شعره , ولم يولد مولود لستة أشهر , إلّا عيسى بن مريم والحُسين بن فاطمة (عليهم‌السلام ).

وفي خبر آخر : أنّ فاطمة (عليها‌السلام ) لمـّا اغتسلت بعدما ولدت الحُسين , جفّ لبنها , فطلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مرضعة , فلم يجد له مرضعة , فكان يأتيه الحُسين مع اُمّ سلمة فيلقمه إبهامه فيمصّه , ويجعل الله له من إبهام النّبي رزقاً يغذّى به بقدرة الله تعالى.

وفي خبر آخر : بل كان رسول الله يُدخل لسانه في فم الحُسين , فيغّره كما يغّر الطّير فرخه , فيجعل الله له في ذلك رزقاً بقدرة الله تعالى , ففعل ذلك به أربعين يوماً وليلة ، فنبت لحمه من لحم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

أيقتل ظمآناً حُسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر

فوا لهف نفسي للحسين وما جنى

عليه غداة الطف في حربه شمر

سنان سنان خارق منه في الحشا

وصارم شمر في الوريد له شمر

تجر عليه العاصفات ذيولها

ومن نسج أيدي الصافنات له طمر

فيا لك مقتولاً بكته السّماء دماً

فمغبر وجه الأرض بالدم محمر

مصابكم يا آل طة مصيبة

ورزء على السّلام أحدثه الكفر

حكى عبد الله بن العبّاس , قال : جاءني رجل من بني اُميّة , فقال : أريد أن أسألك عن سؤال ؟ فقلت له : سل عمّا تُريد.فقال لي : يا عبد الله , ما تقول في دم البعوضة , هل يُنقض الوضوء أم لا ؟ وهل هو طاهر أم نجس ؟ فقلت له : ثكلتك اُمّك يا عديم الرأي ! تسأل عن دم البعوضة فلِمَ لا سألت عن دم الحُسين ابن بنت

____________________

(١) سورة الأحقاف / ١٥.

١٥٨

رسول الله ؟! سفكتم دمه وقطعتم لحمه وكسرتم عظمه , وقتلتم أولاده وأطفاله وأنصاره , وسبيتم حريمه ومنعتموه من شرب الماء , ألا لعنة الله على الظّالمين .ثمّ التفت عبدالله إلى جلسائه , وقال : انظروا إلى هذا اللعين , كيف يسألني عن دم البعوضة , ولا يخاف أن يسأله الله عن دم الحُسين ابن بنت رسول الله ؟! ثمّ قال لأصحابه : والله , إنّي سمعت بهاتي أذني من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول مراراً كثيرة : (( الحسن والحُسين ريحانتاي في الدُنيا , وهُما منّي وأنا منهُما , أحبّ الله مَن أحبّهما , وأبغض الله مَن أبغضهما , وآذى الله مَن آذاهما , ووصل الله مَن وصلهما , وقطع الله مَن قطعهما , فإنّهما ابناي وسبطاي وقرّتا عيني , وسيّدي شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين )) .فقلت : يا رسول الله , أيّ أهل بيتك أحبّ إليك ؟ فقال : (( الحسن والحُسين أحبّ النّاس إليّ )) .وكان يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا فاطمة , ادعى لي ابني )) .فيأتيان إليه فيضمّهما إليه , ويشمّهما ويقبّلهما ويقول : (( أحبّ الله مَن أحبّ الحسن والحُسين ومَن أحبّ ذرّيّتهما , فمَن أحبّهم لم تمس جسده نار جهنّم ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج , إلّا أن يكون له ذنب يخرجه عن الإيمان )).

وعن الأوزاعي , عن عبد الله بن شداد , عن اُمّ الفضل بنت الحرث , أنّها دخلت على رسول الله فقالت : يا رسول الله , رأيت البارحة حلماً مُنكراً شديداً .قال : (( وما هو يا اُمّ الفضل ؟ )) .قالت : رأيت كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري .فقال رسول الله : (( يا اُمّ الفضل , ستلد ابنتي فاطمة غُلاماً , فتكون تربيته في حجرك )) .قالت : فولدت فاطمة الحُسين وكان كما قال رسول الله , فربّيته في حجري ، فدخلت به يوماً على النّبي فوضعته في حجره ، ثمّ حانت منّي إلتفاتة , فإذا عينا رسول الله تهرقان بالدّموع , فقلت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ، ما لك تبكي ؟! فقال : (( أتاني جبرائيل أخي , وأخبرني أنّ اُمّتي ستقتل ابني هذا , وأتاني بقبضة من تربة حمراء فأرانيها )).

ومن طرقهم : أنّ عيسى بن مريم (عليه‌السلام ) مرّ بكربلاء , فرأى عدّة من الظّباء هناك مجتمعة , فأقبلت إليه وهي تبكي , وأنّه جلس وجلس الحواريّون , فبكى وأبكى الحواريّين وهم لا يدرون لِمَ جلس ولِمَ بكى , فقالوا : ياروح الله وكلمته , ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيّ أرض هذه ؟ قالوا : لا .قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ لرسول أحمد , وفرخ الخيّرة الطّاهرة البتول شبيهة اُمّي , ويُلحد فيها , وهي أطيب من المسك ؛ لأنّها طيبة الفرخ المستشهد , وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم‌السلام ) , وهذه الظّباء

١٥٩

تكلّمني وتقول : إنّها ترعى في هذه الأرض ؛ شوقاً إلى تربة الفرخ الـمُبارك .وزعمت أنّها آمنة في هذه الأرض .ثمّ ضرب بيده إلى ثغر تلك الظّباء فشمّها , وقال : اللّهمّ , ابقها حتّى يشمّها أبوه فتكون له عزاء .فبقيت إلى أيّام أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) , فشمّها وبكى وأخبر بقصّتها.

وعن سلمان الفارسي , أنّه قال : كان سيّدنا أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) يحدّثنا كثيراً بالأشياء والمغيّبات , التي تحدث على مرور السّنين والأوقات , وأنّه يوم الجُمُعة يخطب على منبره في جامع الكوفة , فقال في خطبته : (( أيّها النّاس , سلوني قبل أن تفقدوني , فو الله , لا تسألوني عن فئة تضلّ مئة وتهدي مئة , إلّا أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة )) قال : فقام إليه رجل فاجر فاسق , وقال له : يا عليّ , أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟ فقال له (عليه‌السلام ) : (( والله , لقد أخبرني بسؤالك هذا ابن عمّي رسول الله , ونبّأني بما سألت عنه , وإنّ على كلّ طاقة من شعر رأسك ولحيتك شيطاناً يغويك ويستفزّك , وإنّ على كلّ شعرة من بدنك شيطاناً يلعنك ويلعن ولدك ونسلك , وإنّ لك ولداً رجساً ملعوناً , يقتل ولدي الحُسين بن بنت رسول الله , وأنت وولدك بريئان من الإيمان , ولولا أنّ الذي سألتني عنه يعسر برهانه لأخبرتك به , ولكن حسبك فيما نبأتك به من لعنتك ورجسك , وولدك الملعون الذي يقتل ولدي ومهجة قلبي الحُسين )) قال : وكان له ولد صغير في ذلك الوقت , فلمّا نشأ وكبر وكان من أمر الحُسين ما كان , نمى الصّبي وتجبّر وتولّى قتل الحُسين (عليه‌السلام ) .وقيل : إنّ ذلك الصّبي كان اسمه خولّى بن يزيد الأصبحي , وهو الذي طعن الحُسين برمحه , فخرج السّنان من ظهره , فسقط الحُسين على وجهه يخور في دمه ويشكو إلى ربّه :( أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ ) (١) .فيا ويلهم ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , كأنّهم ما سمعوا ما ورد في حقّهم , أم سمعوا وهم غافلون ! :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

فعلى الأطائب من آل بيت مُحمّد فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ ابن حماد (رحمه‌ الله تعال ى)

أرى الصبر يفنى والهموم تزيد

وجسمي يبلى والسقام جديد

____________________

(١) سورة هود / ١٨.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ولهذا يقول تعالى مباشرة :( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يعني.

أوّلا : أن تقولوا أنّ الله سكت عن أعمالنا! فإنّ الله قد بعث إليكم الأنبياء ، ودعوكم إلى التوحيد ونفي الشرك.

ثانيا : إنّ وظيفة الله تعالى والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس هي هدايتكم بالجبر ، بل بإراءتكم السبيل الحق والطريق المستقيم ، وهذا ما حصل فعلا.

أمّا عبارة( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) فمواساة لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن لا يحزن ويثبت في قبال ما يواجه من قبل المشركين ، وأنّ الله معه وناصره.

وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين) ، تشير الآية التالية باختصار جامع إلى دعوة الأنبياء السابقين ، بقولها :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) .

«الأمّة» : من الأم بمعنى الوالدة ، أو بمعنى : كل ما يتضمّن شيئا آخر في دخله ، (ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «أمّة».

ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة (٦٤) موردا.

ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، بالقول :( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (١) .

فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأولى لتحركهم هي الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الطاغوت ، وذلك لأنّ أسس التوحيد إذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيّ برنامج إصلاحي.

«الطاغوت» : (كما قلنا سابقا) صيغة مبالغة للطغيان أي التجاوز والتعدي

__________________

(١) تقدير هذه الجملة : ليقولوا لهم اعبدوا

١٨١

وعبور الحد ، فتطلق على كل ما يكون سببا لتجاوز الحد المعقول ، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان ، الصنم ، الحاكم المستبد ، المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إلى غير طريق الحق.

وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضا وإن جمعت أحيانا ب (الطواغيت).

ونعود لنرى ما وصلت إليه دعوة الأنبياءعليهم‌السلام إلى التوحيد من نتائج ، فالقرآن الكريم يقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) .

وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استنادا إلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم!

ولكن قلنا مرارا إنّ آيات الهداية والضلال إذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيّ إبهام فيها ، ويرتفع الالتباس من أنّها تشير إلى الجبر ويتّضح تماما أن الإنسان مختار في تحكيم إرادته وحريته في سلوكه أي طريق شاء.

فالهداية والإضلال الإلهيين إنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارسة الإنسان نفسه ، وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم.

فاللهعزوجل (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومن شابههم ، أما الذين يجاهدون في سبيل الله ويستجيبون للأنبياءعليهم‌السلام فمشمولون بألطافهعزوجل ويهديهم إلى صراطه المستقيم ويوفقهم إلى السير في طريق التكامل ، بينما يوكل القسم الأوّل إلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل.

وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارها ـ الحسنة منها أو القبيحة ـ من اللهعزوجل ، فيمكن نسبة نتائجها إليه سبحانه ، فتكون الهداية والإضلال إلهيين.

فالسنّة الإلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشيا مع الفطرة الإنسانية ، ومن ثمّ فمن

١٨٢

يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فردا كان أم جماعة يكون جديرا باللطف الإلهي وتدركه الهداية التكوينية.

نعم ، فها هي السنّة الإلهية ، لا كما ذهب إليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ الله يدعوا الناس بواسطة الأنبياء ، ومن ثمّ يخلق الإيمان والكفر جبرا في قلوب الأفراد (من دون أيّ سبب) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الاستفهام عن سبب ذلك من اللهعزوجل .

فما أوحش ما نسبوا اليه سبحانه إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق؟!

والتعبير الموارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال ، ففي مسألة الهداية ، يقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ) ، أمّا بالنسبة للقسم الثّاني ، فلا يقول : إنّ الله أضلهم ، بل إنّ الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم :( وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) .

وهذا الاختلاف في التعبير يمكن أن يكون الإشارة لما في بعض الآيات الأخرى ، والمنسجم مع ما ورد من روايات وخلاصته :

إنّ القسم الأعظم من هداية الإنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها الله تعالى لذلك ، فقد أعطى تعالى : العقل ، وفطرة التوحيد ، وبعث الأنبياء ، وإظهار الآيات التشريعية والتكوينية ، ويكفي الإنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف المنشود.

أمّا في حال الضلال فالأمر كلّه يرجع إلى الضالين أنفسهم ، لأنّهم اختاروا السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم الله عليه ، وجعلوا حول الفطرة حجابا داكنا وأغفلوا قوانينها ، وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء ظهورهم ، وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، فكان أن آل المآل بهم إلى وادي التيه والضلال أو ليس كل ذلك منهم؟

١٨٣

والآية (٧٩) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها :( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

وروي في أصول الكافي عن الأمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، في إجابته على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والإختيار ، أنّه قال : «أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين ، قال اللهعزوجل : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي أديت فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا ، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي»(١) .

وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين ، بالقول :( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) .

فالآية دليل ناطق على حرية إرادة الإنسان ، فإن كانت الهداية والضلال أمرين إجباريين ، لم يكن هناك معنى للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين ، فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإنسان في تعيين مصيره بنفسه وليس هو مجبر على ذلك.

وثمّة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في الأرض مع التأمل في عاقبة الأمور ، وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية (١٣٧) من سورة آل عمران.

الآية الأخير من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبيان ما وصلت إليه حال الضّالين :( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

«تحرص» من مادة (حرص) ، وهو طلب الشيء بجدّية وسعي شديد.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٦٠ (باب الجبر والقدر ـ الحديث ١٢).

١٨٤

بديهي ، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين ، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النّبي (هداية وتبليغ) ، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإرشادهم من أثر بالغ ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار الحق ، بل ودعاته.

فعليه تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال ، وأصبحوا غرقى في بحر الاستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأغلقت أمامهم أبواب الهداية ، فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهديهم حتى وإن طالت المدّة لأنّهم قد انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم الى درجة أنّهم باتوا غير قابلين للهداية.

ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أناس من ناصرين وأعوان ، لأنّ الناصر لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إلّا في أرضية مناسبة ومساعدة.

وهذا التعبير أيضا دليل على نفي الجبر ، لأنّ الناصر إنّما ينفع سعيه فيما لو كان هناك تحرك من داخل الإنسان نحو الصلاح والهداية فيعينه ويأخذ بيده ـ فتأمل.

ولعل استعمال «ناصرين» بصيغة الجمع للإشارة إلى أنّ المؤمنين على العكس من الضالين ، لهم أكثر من ناصر ، فالله تعالى ناصرهم و.. الأنبياء ، وعباد الله الصالحين ، وملائكة الرحمة كذلك.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه النصرة في الآية (٥١) من سورة المؤمن :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

وكذلك في الآية (٣٠) من سورة فصلت :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

* * *

١٨٥

بحثان

١ ـ ما هو البلاغ المبين؟

رأينا في الآيات مورد البحث أنّ الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي البلاغ المبين( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

أي لا بدّ من الدعوة علنا ، وإذا كانت ثمّة ظروف موضوعية تستدعي من الأنبياء أن تكون دعوتهم سرية ، فهذا لا يكون إلّا لمدّة محدودة ، لإنّ الأسلوب السري في عصر دعوة الأنبياءعليهم‌السلام غير مستساغ من قبل المجتمع ، فلا يكون له الأثر المطلوب والحال هذه.

فلا بدّ للدعوة إذن من الإعلان السليم القاطع المصحوب بالتخطيط والتدبير كشرط أساسي في إنجاح الدعوة بين المجتمع.

وبمطالعة تأريخ جميع الأنبياءعليهم‌السلام نرى أنّهم كانوا يعلنون دعوتهم ببيان صريح معلن ، بالرغم من قلة الناصر من قومهم بالذات.

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم) فهم : لا يداهنون في دعوتهم أبدا ولا يجاملون الباطل وأهله ، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

٢ ـ لكل أمّة رسول

عند قولهعزوجل :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) يواجهنا السؤال التالي : لو كان لكل أمّة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم ، ولكنّ التأريخ لا يحكي لنا ذلك ، فيكف التوجيه؟!

وتتضح الإجابة من خلال الالتفات إلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإيصال الدعوة الإلهية إلى أسماع كل الأمم ، فعلى سبيل المثال عند ما بعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأخرى نبي ، ولكنّ رسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٨٦

كانوا يصلون إليها وبوصولهم يصل صوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها أسماع الجميع ، بالإضافة إلى كتبه ورسائله العديدة التي أرسلها إلى الدول المختلفة (إيران ، الروم ، الحبشة) ليبلغهم الرسالة الإلهية.

وها نحن اليوم كأمّة قد سمعنا دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرغم من بعد الشقّة التاريخية بيننا وبينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته إلينا عبر القرون ولا يقصد من بعثة رسول لكل أمّة إلّا هذا المعنى.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى (الآية ٣٨) أنّ رجلا من المسلمين كان له دين على مشترك فتقاضاه فكان تتعلل في بتسديده ، فتأثر المسلم بذلك ، فوقع في كلامه القسم بيوم القيامة وقال : والذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا ، فقال المشرك : وإنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم بالله ، لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله الآية(١) .

فأجاب الله فيها الرجل المشرك وأمثاله ، وعرض المعاد بدليل واضح ، وكان حديث الرجلين سببا لطرح هذه المسألة من جديد.

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٨٨

التّفسير

المعاد و.. نهاية الاختلافات :

تعرض الآيات أعلاه جانبا من موضوع «المعاد» تكميلا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.

فتقول الآية الأولى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ) .

وهذا الإنكار الخالي من الدليل والذي ابتدءوه بالقسم المؤكّد ، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم ، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله :( بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إنّ الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل «بلى» ، «وعدا» ، «حقّا» لتظهر بكل تأكيد حتمية المعاد.

وعموما ـ ينبغي مواجهة من ينكر الحقّ بحجم ما أنكر بل وأقوى ، كي يمحو الأثر النفسي السيء للنفي القاطع ، ولا بدّ من إظهار أن نكران الحق جهل حتى يمحى أثره تماما( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ يتطرق القرآن الكريم إلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللهعزوجل على ذلك ، ليرد الاشتباه القائل بعدم إعادة الحياة بعد الموت ، أو بعيشة المعاد

فيقول :( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) في إنكارهم للمعاد وبأنّ الله لا يبعث من يموت

! لأنّ ذلك عالم الشهود ، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء ، عالم تجلي الحقائق ، كما نقرأ في الآية (٢٢) من سورة ق :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

وفي الآية (٩) من سورة الطارق :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) أي تظهر وتعلن.

وكذا الآية (٤٨) من سورة إبراهيم :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة ،

١٨٩

وإن كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإطلاق الأكاذيب في بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم ، إلّا أنّ ذلك سيكون أمرا استثنائيا عابرا.

وهذا يشبه إلى حد ما إنكار المجرم لجريمته ابتداء عند المحاكمة ، ولكنّه سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عند ما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية التي لا تقبل إدانة غيره أبدا ، وهكذا فإنّ ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون أوضح وأجلى من ذلك.

ومع أنّ أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات القرآنية بشكل متفرق مثل : تكامل الإنسان ، إجراء العدالة الإلهية ، تجسيد هدف الحياة الدنيا ، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك إلّا أنّ الآية مورد البحث أشارت إلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو : رفع الاختلافات وعودة الجميع إلى التوحيد.

ونعتقد أنّ أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم ، وهو شامل يصدق على : ذات وصفات وأفعال اللهعزوجل ، عالم الخليقة والقوانين التي تحكمه ، وكل شيء في النهاية يجب أن يعود إلى هذا الأصل.

ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض ـ الناشئة من الاختلافات المنتجة للحروب والصدامات ـ من خلال قيام حكومة واحدة تحت ظلال قيادة الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» لأنّه يجب في نهاية الأمر رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).

أمّا اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماما لوجود عالم الحجب والأستار ، ولا ينتهي إلّا يوم البروز والظهور (يوم القيامة).

فالرجوع إلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي أشارت إليه الآية مورد البحث.

١٩٠

وثمّة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أنّ اللهعزوجل سيحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(١) .

ثمّ يشير القرآن إلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد ، للرد على من يرى عدم إمكان إعادة الإنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته :( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

فمع هذه القدرة التامّة هل ثمّة شك أو ترديد في قدرتهعزوجل على إحياء الموتى؟!

ولعل لا حاجة لتبيان أنّ «كن» إنّما ذكرت لضرورة اللفظ ، وإلّا لا حاجة في أمر الله لـ «كن» أيضا ، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقق ما يريد.

ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيرا ناقصا من حياتنا (ولله المثل الأعلى) ، فنستطيع أن نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إرادته ، فإنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء ، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد ، فبمجرّد إرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.

ونقرأ سوية الحديث المروي عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إنّ صفوان بن يحيى سأله : أخبرني عن الإرادة من الله تعالى ومن الخلق ، فقال : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللهعزوجل فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف»(٢) .

* * *

__________________

(١) راجع الآيات : (٥٥) آل عمران ، (٤٨) المائدة ، (١٦٤) الأنعام ، (٩٢) النحل و (٦٩) الحج.

(٢) عيون الأخبار ، ج ١ ، ص ١١٩.

١٩١

الآيتان

( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول الآية الأولى (٤١) : نزلت في المعذبين بمكّة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم الله في المدينة ، وذكر أن صهيبا قال لأهل مكّة : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني ، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له أحدهم : ربح البيع يا صهيب.

ويروى أنّ أحد الخلفاء كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاء قال له :خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما أخّره لك أفضل. ثمّ تلى هذه الآية(١) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآية ٤١.

١٩٢

التّفسير

ثواب المهاجرين :

قلنا مرارا : إنّ القرآن الكريم يستخدم أسلوب المقايسة والمقارنة كأهم أسلوب للتربية والتوجيه ، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحا.

فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة ، وينقل الحديث في الآيات مورد البحث إلى المهاجرين المخلصين ، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما

فيقول أوّلا :( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) أمّا في الآخرة( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين ، فيقول :( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ كما هو معروف فإنّ للمسلمين هجرتين ، الأولى : كانت محدودة نسبيا (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة) ، والثّانية :الهجرة العامة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من مكّة إلى المدينة.

وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثّانية ، كما يؤيد ذلك شأن النّزول.

وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية (١٠٠) من سورة النساء ، والآية (٧٥) من سورة الأنفال.

وعلى أية حال ، فللمهاجرين مقام سام في الإسلام ، وقد اهتم النّبي

١٩٣

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم كثيرا وكذا المسلمون من بعد ، وذلك لأنّهم جعلوا حياتهم المادية وما يملكون في خدمة الدعوة الإسلامية المباركة ، ممّا حدا بالبعض أن يعرض حياته للمخاطر ، والبعض الآخر ترك كل أمواله (كصهيب) معتبرا نفسه رابحا في هذه الصفقة المباركة.

ولو لم تكن تلك التضحيات لأولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في مكّة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإسلام ليعم أسماع الجميع ، ولكتم الصوت وقبر في صدور المؤمنين إلى الأبد ، ولكنّ المهاجرين بتحولهم المدروس الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكّة فحسب ، وإنّما أوصلوا صوت الإسلام إلى أسماع العالم ، فأصبحت الهجرة سنّة إسلامية تجري على مرّ التأريخ إذا ما واجهت ما يشبه ظروف مكّة قبل الهجرة.

٢ ـ التعبير ب( هاجَرُوا فِي اللهِ ) من دون ذكر كلمة «سبيل» إشارة إلى ذروة الإخلاص الذي كان يحملونه أولئك المهاجرون الأول ، فهم هاجروا لله وفي سبيله وطلبا لرضاه وحماية لدينه ودفاعا عنه ، وليس لنجاتهم من القتل أو طلبا لمكاسب مادية أخرى.

٣ ـ وتظهر لنا جملة( مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) عدم ترك الميدان فورا ، بل لا بدّ من الصبر والتحمل قدر الإمكان.

أمّا عند ما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته ، وإضعاف المؤمنين فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة ، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل ، حتى تنتهي الحال إلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية

٤ ـ أمّا قوله تعالى :( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) «نبوئنهم» من (بوأت له مكانا) أي هيأته له ووضعته فيه ـ فيشير إلى أن المهاجرين في الله وإن كانوا ابتداء يفتقدون إلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة ، إلّا أنّهم في النهاية ـ حتى

١٩٤

في الجانب الدنيوي ـ منتصرون(١) .

فلما ذا بعد ذلك يتحمل الإنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها ذليلا؟! لما ذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوّه من موضع جديد فيأخذ منه حقّه؟!

وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية (١٠٠) من سورة النساء ، حيث تقول :( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ) .

٥ ـ إن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين «الصبر» و «التوكل» واضح ، لما يواجه من ظروف صعبة ومتعبة ، تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف في الدرجة الأولى ، ثمّ الاعتماد الكامل على الله سبحانه وتعالى. وأساسا فإنّ الإنسان لو افتقد في الحوادث العصبية والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند المعنوي المحكم ، فإنّ الصبر والاستقامة والثبات تكون مستحيلة.

وقال البعض : إنّ انتخاب «الصبر» هنا ، لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إلى الله يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس ، أما انتخاب «التوكل» فلأجل أنّ نهاية السير هي الانقطاع عن كل شيء غير اللهعزوجل والارتباط به.

وعلى هذا ، تكون الصفة الأولى لأوّل الطريق والثانية لآخره(٢) .

وعلى أية حال فلا سبيل الى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية ، فعلى الإنسان أن يقطع علائقة المادية الباطنية أوّلا بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية ، ليستطيع أن يهاجر ويترك دار الكفر ـ مع كل ما له فيها ـ منتقلا إلى دار الإيمان.

* * *

__________________

(١) «لنبوئنهم» : في الأصل من (بوأ) بمعنى تساوي أجزاء مكان ما على عكس «نبوء» على وزن (مبدأ) بمعنى عدم تساوي أجزاء المكان. وعلى هذا فـ «بوّأت له مكانا» أي ساويت له مكانا ، ثمّ بمعنى هيأته له.

(٢) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآية مورد البحث.

١٩٥

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) )

التّفسير

إسألو إن كنتم لا تعلمون!

بعد أن عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه عن المشركين ، يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأصول الدين من خلال إجابته لأحد الإشكالات المعروفة ، حين يتقول المشركون : لماذا لم ينزل الله ملائكة لإبلاغ رسالته؟ أو يقولون : لم لم يجهز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا!؟

فيجيبهم اللهعزوجل بقوله :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) .

نعم. فإنّ أنبياء اللهعليهم‌السلام جميعهم من البشر ، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إنسانيته ، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.

في حين أن الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الأمور جيدا والاطلاع على ما

١٩٦

يدور في أعماق الإنسان بوضوح.

إنّ وظيفة الأنبياء إبلاغ رسالة السماء والوحي الإلهي ، وإيصال دعوة الله إلى الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي ، وليس باستعمال قوى إلهية خارقة للسنن الطبيعية لإجبار الناس بقبول الدعوة وترك الانحرافات ، وإلّا فما كان هناك فخر للإيمان ولا كان هناك تكامل.

ثمّ يضيف القول (تأكيدا لهذه الحقيقة) :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

«الذكر» : بمعنى العلم والاطلاع ، و «أهل الذكر» له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإذا فسّر البعض كلمة «أهل الذكر» في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب) ، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح بمفهوم معين ، وما تفسيرهم في واقعة إلّا تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه.

لأنّ السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنّهم من جنس البشر وذوي رسالات ووظائف ربانية ، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.

وبالرّغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة والمشركين من جهة أخرى ، إلّا أنّهم مشتركون في مخالفتهم للإسلام ، ولهذا فيمكن أن يكون علماء أهل الكتاب مصدرا جيدا بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال الأنبياء السابقين.

يقول الراغب في مفرداته : إنّ الذكر على معنيين ، الأوّل : الحفظ. والثّاني : التذكر واستحضار الشيء في القلب. ولذلك قيل : الذكر ذكران ، ذكر بالقلب وذكر باللسان ولذا رأينا أنّ الذكر يطلق على القرآن لأنّه يعرض الحقائق ويكشفها.

ثمّ تقول الآية التالية :( بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) (١) .

__________________

(١) أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة( بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) فقال بعضهم:إنّها متعلقة بـ «لا

١٩٧

«البينات» : جمع بيّنة ، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياءعليهم‌السلام في دعوتهم.

«الزبر» : جمع زبور ، بمعنى الكتاب.

فالبينات تتحدث عن دلائل إثبات النّبوة ، والزّبر إشارة إلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء.

ومن ثمّ يتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ، ليبيّن للناس مسئوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك ورسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية ، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتبا ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية ، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه ، وتوقظ به الفكر الإنساني ليسيروا في طريق الحق بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم ، وليتجهوا صوب الكمال (وليس بطريق الجبر والقوة).

بحث

من هم أهل الذكر؟

ذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام ، ومن هذه الرّوايات :

روي عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في جوابه عن معنى الآية أنّه قال : «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون»(١) .

__________________

ـ تعلمون» كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات ، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها ، وقال بعض آخر : أنّها متعلقة بجملة تقديرها «أرسلنا» وهي في الأصل «أرسلناهم بالبينات والزبر». وقال آخرون : إنّها متعلقة بجملة «وما أرسلنا» في الآية السابقة ، وقال غيرهم : إنّها متعلقة بجملة «نوحي إليهم» ، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوما معينا للآية ، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٥.

١٩٨

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية أنّه قال : «الذكر القرآن وآل الرّسول أهل الذكر وهم المسؤولون»(١) .

وفي روايات أخرى : أنّ «الذكر» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و «أهل الذكر» هم أهل البيتعليهم‌السلام (٢) .

وثمّة روايات متعددة أخرى تحمل نفس هذا المعنى.

وفي تفاسير وكتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنى أيضا ، منها : ما في التّفسير الاثنى عشري : روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام هم أهل الذكر والعقل والبيان(٣) .

فهذه ليست هي المرّة الأولى في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.

وكما قلنا فـ «الذكر» يعني كل أنواع العلم والمعرفة والاطلاع ، و «أهل الذكر» هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات ، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم «الذكر» ، وكذلك شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مصداق واضح «للذكر» والأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة ووارثو علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهمعليهم‌السلام أفضل مصداق لـ «أهل الذكر».

وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية ، ولا ينافي مورد نزولها أيضا (علماء أهل الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والأصول عند بحثهم موضوع الاجتهاد

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٦.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ص ٥٥ و ٥٦.

(٣) إحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٢٨ ـ والمقصود من تفسير الاثنى عشر ، هو تفاسير كل من : أبي يوسف ، ابن حجر ، مقاتل بن سليمان ، وكيع بن جراح ، يوسف بن موسى ، قتادة ، حرب الطائي ، السدي ، مجاهد ، مقاتل بن حيان ، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي.

وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية ، في كتاب الثعلبي أنّه قال : لما نزلت هذه الآية قال علي عليه‌السلام : «نحن أهل الذكر» ـ راجع المصدر أعلاه ـ.

١٩٩

والتقليد إلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية ، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم.

وقد يتساءل فيما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في كتاب (عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ): أنّ علماء في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية : إنما عني بذلك اليهود والنصارى ، فقال الرضاعليه‌السلام : «سبحان الله وهل يجوز ذلك ، إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون : إنّه أفضل من الإسلام ...» ثمّ قال : «الذكر رسول الله ونحن أهله»(١) .

وتتخلص الإجابة بقولنا : إنّ الإمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنى الرجوع إلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان ، وبدون شك أنّه خلاف الواقع ، فليس المقصود بالرجوع إليهم على مر العصور والأيّام ، بل لكل مقام مقال ، ففي عصر الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لا بدّ من الرجوع إليه على أساس إنّه مرجع علماء الإسلام ورأسهم.

وبعبارة أخرى : إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإسلام لدى سؤالهم عن الأنبياء السابقين ، وهل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إلى علماء أهل الكتاب لا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن يرجعوا إليهم ، بل يجب الرجوع إلى علماء كل زمان.

وعلى أية حال فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية ، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه ، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة ، ويجب أن يكون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496