الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237272 / تحميل: 7567
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قالعليه‌السلام : (آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر).

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت نفسه أسىً وحسرات(1) .

موقف والي الكوفة:

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد ذكر في خطابه:

(أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)(2) .

____________________

(1) اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 267.

١٦١

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(1) .

أنصار الأمويين يتداركون أُمورهم:

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الأمويين والمعارضين لأهل البيتعليهم‌السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنينعليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيتعليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)(2) .

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي - ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(3) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42، وأنساب الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.

(2) الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.

(3) المصدر السابق.

١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون(1) :

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم للإمام الحسينعليه‌السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله ابن زياد(2) ، فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة،

____________________

(1) السيرجون غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها.

لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ ابن كثير: 8 / 107 ).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاًعليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ).

(2) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية: 8 / 152.

١٦٣

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه:

(أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)(1) .

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة:

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(2) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسينعليه‌السلام و معظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسينعليه‌السلام .

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول الله قدمت خير مقدم(3) .

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء: 3 / 201.

(2) إعلام الورى: 1 / 437.

(3) الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٤

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...(1) .

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة:

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(2) .

ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال: (... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت

____________________

(1) الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198، وتهذيب التهذيب: 2 / 302.

(2) مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٥

تلك العرافة من العطاء)(1) .

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم، من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(2) .

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد:

لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.

(2) مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٦

فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس.

ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان: أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(1) .

الغدر بمسلم بن عقيل:

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه(2) فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسينعليه‌السلام وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

____________________

(1) الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.

(2) إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.

١٦٧

وكأنّ الأمر لا يعنيه(1) .

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم(2) .

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(3) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام الورى: 1 / 441.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.

(3) جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.

١٦٨

يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(1) .

____________________

(1) يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442، والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل الطالبيّين: 92.

١٦٩

البحث الخامس: حركة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسينعليه‌السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير مع ركب الحسينعليه‌السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكانعليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسينعليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(1) .

لماذا اختار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

1 - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 67.

١٧٠

المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.

2 - إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد.

3 - لم يكن أمام الحسينعليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

4 - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام عليعليه‌السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام فأراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد

١٧١

الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السنين اللاحقة.

5 - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمامعليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختيارهعليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

6 - لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسينعليه‌السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

١٧٢

تصريحات الإمامعليه‌السلام عند وداعه مكة:

صدرت عن الإمام الحسينعليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبتهعليه‌السلام على من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

1 - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه‌السلام : (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)(1) .

2 - كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم).

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد: (فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد)، قال الحسينعليه‌السلام : (أنظر فيما قلت).

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى،

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 4 / 39.

١٧٣

وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمامعليه‌السلام : (بلى ولكنّي أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام : (قد شاء الله أن يراهن سبايا)(1) .

ولم يكن اصطحاب الحسينعليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسينعليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسينعليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة.

3 - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللهعليهم‌السلام لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا،

____________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار الأنوار: 44 / 364.

١٧٤

فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)(1) .

يُبَيِّنُ الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيتعليهم‌السلام .

خلاصة الثورة في رسالة:

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسينعليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء فيها بعد البسملة:

(من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام)(2) .

ولمّا وردت رسالة الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

____________________

(1) إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.

(2) مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة: 77.

(3) راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٧٥

ملاحقة السلطة للإمامعليه‌السلام :

ولم يبعُد الإمامعليه‌السلام كثيراً عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمامعليه‌السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(1) .

في التنعيم:

ومضى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(2) صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(3) .

في الصفاح:

وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(4) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسيوف مع بني أُمية،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 68.

(2) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.

(3) الإرشاد: 2 / 68.

(4) الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.

١٧٦

والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(1) .

ثمّ واصل الإمامعليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين.

كتاب الإمامعليه‌السلام لأهل الكوفة:

ولمّا وافى الإمام الحسينعليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكنعليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا نصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية،

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة مخرج الحسينعليه‌السلام إلى العراق.

١٧٧

فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(1) في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(2) .

وقد بعثعليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الأمويين:

سرى نبأ مسير الإمامعليه‌السلام نحو الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسينعليه‌السلام والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمامعليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله:

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله

____________________

(1) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

(2) الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 / 369.

١٧٨

أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(1) .

وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه.

مع زهير بن القين:

وانتهت قافلة الإمام إلى (زرود) فأقامعليه‌السلام فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمامعليه‌السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه، فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسينعليه‌السلام ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.

١٧٩

أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم - والله - مازال في القوم مع الحسينعليه‌السلام حتى قتل رحمة الله عليه(1) .

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمامعليه‌السلام :

ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسينعليه‌السلام المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية) بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسينعليه‌السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمامعليه‌السلام في موضع يدعى (زبالة) وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار الطوال: 246.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فقال رسول الله وهو يمسح دموعه : «لو لا أن سبقت رحمة الله غضبه لعجل الله لك العذاب»(١) .

وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشرف ورؤساء قبيلة بني تميم في الجاهلية، وقد أسلم عند ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء يوما إلى النّبي وقال له : أنّ آباءنا كانوا يدفنون بناتهم أحياء ، وقد دفنت أنا (١٢) بنتا ، وعند ما ولدت لي زوجتي البنت الثّالثة عشر أخفت أمرها وادّعت أنّها ماتت عند الولادة ، ثمّ أودعتها آخرين ، وعند ما علمت بذلك بعد مدّة ، أخذتها إلى مكان بعيد ودفنتها حيّة دون أن أعتني ببكائها وتضرعها.

فتأذى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك فقال ودموعه جارية : «من لا يرحم لا يرحم» ثمّ التفت إلى قيس وقال : «إنّ لك يوما سيئا» ، فقال قيس : ما أفعل لتكفير ذنبي؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرر من العبيد بعدد ما وأدت»(٢) .

وروي أيضا أن (صعصعة بن ناجية) جد الفرزدق الشاعر المعروف ، وكان رجلا شريفا حرّا فقيل : إنّه كان في الجاهلية يحارب الكثير من العادات القبيحة حتى أنّه اشترى (٣٦٠) بنتا من آبائهن كي ينقذهن من القتل ، وقد أعطى يوما دابته مع بعيرين لأب كان يريد قتل ابنته.

وقال له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرّة (في ما معناه): ما أحسن ما صنعت وأجرك عند الله.

وقال الفرزدق فخرا بعمل جده :

ومنّا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توئد(٣)

وسنرى كيف أنّ الإسلام قد أصم تلك الفواجع العظام ، واعتبر للمرأة مكانة ما كانت تحظى بها من قبل على مر العصور.

__________________

(١) القرآن يواكب الدهر ، ج ٢ ، ص ٣١٤ (مضمونا).

(٢) الجاهلية والإسلام ، ص ٦٣٢.

(٣) قاموس الرجال ، ج ٥ ، ص ١٢٥ (مضمونا).

٢٢١

٣ ـ دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة :

لم يكن احتقار المرأة مختصا بعرب الجاهلية ، فلم تلق المرأة أدنى درجات الاحترام والتقدير حتى في أكثر الأمم تمدنا في ذلك الزمان ، وكانت المرأة غالبا ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنسانا محترما ، ولكنّ عرب الجاهلية جسدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم ، حتى أنّهم ما كانوا يدخلونهن في الأنساب كما نقرأ ذلك في الشعر الجاهلي المعروف :

بنونا بنوءابائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكانوا أيضا لا يورثون النساء ، ولم يجعلوا لتعدد الزوجات حدّا ، وعملية الزواج أو الطلاق أسهل من شربة الماء عندهم.

وعند ما ظهر الإسلام حارب بشدّة هذه المهانة من كافة أبعادها ، وبالخصوص مسألة اعتبار ولادة البنت عارا ، حتى وردت الرّوايات الكثيرة التي تؤكّد على أنّ البنت باب من أبواب رحمة الله للعائلة.

وأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الاحترام ما جعل الناس في عجب من أمره ، حيث كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ما يحظى به من شرف ومقام ، كان يقبل يد الزهراءعليها‌السلام ، وعند ما يعود من السفر يذهب إليها قبل أي أحد. وعند ما يريد السفر كان بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام آخر بيت يودّعه.

وحينما أخبر بولادة الزهراءعليها‌السلام ، رأى الانقباض في وجوه أصحابه فقال على الفور: «ما لكم! ريحانة أشمها ، ورزقها على اللهعزوجل »(١) .

وفي حديث أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نعم الولد البنات ملطفات ، مجهزات ، مؤنسات ، مفليات»(٢) .

وفي حديث آخر : «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل الصدقة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالإناث قبل الذكور ، فإنّه من فرّح ابنته

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ص ١٠٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٠٠.

٢٢٢

فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل»(١) .

فالاحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حولك الجاهلية ، وحررها من العادات البالية ، وأنهى عصر تحقيرها.

وإن كان غور هذا الموضوع يستلزم التفصيل فستنطرق إلى ذلك في تفسيرنا للآيات المناسبة له ، ولكنّ ما يحز في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية من آثار لنفس ذلك التوجه الجاهلي الموبوء ، فإلى الآن نرى الكثير من العوائل تفرح وتسر عند ما يأتيها مولود ذكر ، وتتأسف وتتأفف عند ما تكون المولودة بنتا! وعلى أقل التقادير ترجح ولادة الولد على البنت!.

من الممكن أن تكون الظروف الخاصة اقتصاديا واجتماعيا ، المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعاتنا ، عاملا على وجود عادات وحالات خاطئة ، إلّا أنّه ينبغي على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره الاجتماعية والاقتصادية ، فالإسلام لا يقبل من أتباعه بعد (١٤) قرن العود إلى أفكار الجاهلية المقيتة فهذا السلوك في واقعة نوع من الجاهلية الثّانية.

ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فنرى عن بعد أن المرأة قد نالت مناها في عالم الغرب وأنّها تحظى من الاحترام والتحرر ما تحسد عليه! فالحياة العملية في الغرب تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ المرأة هناك محتقرة ، وقد جعلت لعبة مبتذلة ووسيلة رخيصة لإشباع الشهوات أو وسيلة إعلان للبضائع والمنتوجات(٢) .

* * *

__________________

(١) مكارم الأخلاق ، ص ٥٤.

(٢) ومن جميل الصدف أن كتب هذا البحث في اليوم العشرين من جمادى الثّانية سنة ١٤٠١ ، وهو يوم ولادة فاطمة الزّهراءعليها‌السلام .

٢٢٣

الآيات

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) )

التّفسير

وسعت رحمته غضبه :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات ، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي : لما ذا لم يعذب الله المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!

٢٢٤

والآية الأولى (٦١) تجيب بالقول :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

«الدابة» : يراد بها كل كائن حي ، ويمكن أن يراد بها هنا (الإنسان) خاصّة بقرينة (بظلمهم).

أي : إنّ الله لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على سطح البسيطة.

ويحتمل أيضا إرادة جميع الكائنات الحيّة ، لعلمنا بأنّ هذه الكائنات إنّما خلقت وسخرت للإنسان كما يقول القرآن في الآية (٢٩) من سورة البقرة :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) ، فعند ما يذهب الإنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الأخرى وينقطع نسلها.

وهنا يواجهنا السؤال التالي : لو نظرنا إلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنّها تدل في النتيجة على أنّه لا يوجد على الأرض إنسان غير ظالم ، فالكلّ ظالم كلّ حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إنسان على سطح الأرض مع إنّنا نعلم أنّ هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى ، فالأنبياء والأئمّة المعصومونعليهم‌السلام خارجون عن شمولية هذا المعنى ، بل في كل زمان ومكان ثمة من تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبدا

والجواب على ذلك أنّ الآية تبيّن حكما نوعيا وليس حكما عاما شاملا للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.

ومن الشواهد على ذلك : الآية (٣٢) من سورة فاطر حيث تقول :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ

__________________

(١) إن ضمير «عليها» يعود إلى «الأرض» وإن لم يرد لها ذكر في الآيات المتقدمة لوضوح الأمر ، ونظائر ذلك كثيرة في لغة العرب.

٢٢٥

بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

فنرى الآية تتطرق إلى ثلاثة أقسام : ظالم ، صاحب ذنوب خفيفة ، وسابق بالخيرات ومن المسلم به أنّ القسم الأوّل هو المقصود في الآية مورد البحث دون القسمين الآخرين ، ولا عجب من تعميم الآية ، لأنّ هذا القسم يشكل القسم الأكبر من المجتمعات البشرية.

ويتّضح من خلال ما ذكر أنّ الآية لا تنفي عصمة الأنبياء ، أمّا من يعتقد بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة ، ولم يلتفت إلى ما توحي إليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.

ويضيف القرآن الكريم قائلا :( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

* * *

بحث

ما هو الأجل المسمى؟

للمفسّرين بيانات كثيرة بشأن المراد من «الأجل المسمى» ولكن بملاحظة سائر الآيات القرآنية ، ومن جملتها الآية (٢) من سورة الأنعام ، والآية (٣٤) من سورة الأعراف ، يبدو أنّ المراد منه وقت حلول الموت ، أي : إنّ اللهعزوجل يمهل الناس إلى آخر عمرهم المقرر لهم إتماما للحجة عليهم ، ولعل من ظلم يعود إلى رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سببا لرجوعه إلى بارئه الحق وإلى العدالة.

ويصدر أمر الموت بمجرّد انتهاء المهلة المقررة ، فيبدأ بعقابهم من بداية اللحظات الأولى لما بعد الموت.

ولأجل المزيد من الإيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية

٢٢٦

رقم (٢) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (٣٤) من سورة الأعراف.

* * *

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإعتقاد بأنّ الملائكة إناثا ، فيقول :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) .

فهذا تناقض عجيب ـ وكما جاء في الآية (٢٢) من سورة النجم( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) فإن كانت الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنات أمرا حسنا ، فلما ذا تكرهون ولادتها؟! وإن كانت شيئا سيئا فلما ذا تنسبونها إلى الله؟!

ومع كل ذلك( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) .

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟! أبوأدكم بناتكم؟! أم بافترائكم على الله؟!

وجاءت «الحسنى» (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل العواقب ، وذلك ما يدعيه أولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به من جرائم!

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : كيف يقول عرب الجاهلية بذلك وهم لا يؤمنون بالمعاد؟

والجواب : أنّهم لم ينكروا المعاد مطلقا ، وإنّما كانوا ينكرون المعاد الجسماني ، ويستوعبون مسألة عودة الإنسان إلى حياته المادية مرّة أخرى.

إضافة إلى إمكان اعتبار قولهم قضية شرطية ، أي : إن كان هناك معاد حقّا فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة والمنحرفين فبالرغم من بعدهم عن الله تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إليه ، ويتشدّقون بادّعاءة هزيلة مدعاة للسخرية!

٢٢٧

واحتمل بعض المفسّرين أيضا أنّ «الحسنى» تعني نعمة الأولاد الذكور ، لأنّهم يعتبرون البنات سوءا وشرّا ، والبنين نعمة وحسنى.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صوابا ، ولهذا يقول القرآن ، وبلا فاصلة :( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) ، أي : أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط ، بل و «لهم النّار»( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي : من المتقدمين في دخول النّار.

والمفرط : من فرط ، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الاستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات ، ويسأل : كيف يصدّق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!

وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك :( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

نعم ، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر! كما كانوا يعتبرون وأد البنات شرفا وفخرا وحفظا لناموس وكرامة القبيلة! ممّا يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر بالقول : لقد دفنت ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غدا أسيرة في يد الأعداء!

فإنّ كان الشيطان يزيّن أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه الحال ، فحال بقية الأعمال معلوم.

ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان ، فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي زخرف القول.

ثمّ يضيف القرآن : إن مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ، يستفيدون ممّا يعطيهم إيّاه.

٢٢٨

ولهذا( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وللمفسّرين بيانات كثيرة في تفسير( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ولعل أوضحها ما قلناه أعلاه ، أي : إنّها إشارة إلى أنّ المشركين في عصر الجاهلية إنّما هم على خطى الأمم المنحرفة السابقة ، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان للماضين(١) .

ويحتمل تفسيرها أيضا بأنّ المقصود من( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) أنّه لا تزال بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إلى اليوم ، ولا زالوا يعملون بطريقتهم المنحرفة ، والشيطان وليهم كما كان سابقا.

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء ، ولتؤكّد حقيقة :أنّ الأقوام والأمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف ، ولزالت تناقضات الأعمال ، فتقول :( وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم ، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة ، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت زخرف القول ، ويمحو أيّ أثر للاختلافات الناشئة من الأهواء ، فيقضى على القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.

* * *

__________________

(١) ولكن لازم هذا التّفسير وجود اختلاف في ضمير( أَعْمالَهُمْ ) وضمير( وَلِيُّهُمُ ) ، فالأوّل يعود إلى الأمم السالفة ، والثّاني إلى المشركين في صدر الإسلام. ويمكن حل هذا المشكل بتقدير جملة ، وهي ان تقول : هؤلاء يتبعون الأمم الماضية. (فتأمل).

٢٢٩

الآيات

( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) )

التّفسير

المياه ، الثمار ، الأنعام :

مرّة أخرى ، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة ، تأكيدا لمسألة التوحيد ومعرفة الله ، وإشارة إلى مسألة المعاد ، وتحريكا لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر ، ومن خلال هذا التوجيه الرّباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات.

فالآية الأخيرة من الآيات السابقة تناولت مسألة نزول القرآن وما فيه من حياة لروح الإنسان ، وبنفس السياق تأتي الآية الأولى من الآيات مورد البحث لتتناول نزول الأمطار وما فيها من حياة لجسم الإنسان :( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

٢٣٠

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .

لقد تناولت آيات قرآنية كثيرة مسألة إحياء الأرض بواسطة نزول الأمطار من السماء، فكم من أرض يابسة أو ميتة أحيانا أو أصابها الجفاف فأخرجها عن مجال الاستفادة من قبل الإنسان ، ونتيجة لما وصلت إليه من وضع قد يخيل للإنسان أنّها أرض غير منبتة أصلا ، ولا يصدّق بأنّها ستكون أرض معطاء مستقبلا ـ ولكنّ ، بتوالي سقوط المطر عليها وما يثبت عليها من أشعة الشمس ، ترى وكأنّها ميت قد تحرك حينما تدب فيه الروح من جديد ، فتسري في عروقها دماء المطر وتعادلها الحياة ، فتعمل بحيويه ونشاط وتقدم أنواع الورود والنباتات ، ومن ثمّ تتجه إليها الحشرات والطيور وأنواع الحيوانات الأخرى من كل جانب ، وبذلك تبدأ عجلة الحياة على ظهرها بالدوران من جديد.

وخلاصة المقال أنّه سيبقى الإنسان مبهوتا أمام تحول الأرض الميتة إلى مسرح جديد للحياة ، وهذا بحق من أعظم عجائب الخلقة.

وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالقعزوجل يدلل بما لا يقبل الشك على إمكان المعاد ، وما ارتداء الأموات لباس الحياة الجديد إلّا أمر خاضع لقدرته سبحانه.

وإنّ نعمة الأمطار (التي لا يتحمل الإنسان أي قسط من أمر إيجادها) دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الأولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام ، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة ، فيقول :( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) .

وأية عبرة أكثر من أن :( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) .

«الفرث» لغة : بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرّد وصولها إلى

٢٣١

الأمعاء تزود البدن بمادتها الحياتية ، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثا» وما يدفع إلى الخارج يسمّى (روثا).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إلّا مقدارا قليلا من الغذاء (كبعض المواد السكرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضا بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصّة داخل ثدي الإناث ، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوّة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات ، ومن الدم.

والعجب يمكن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوثة!

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية ، فيقول :( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

«السكر» لغة ، له معاني مختلفة ، إلّا أنّه هنا بمعنى : المسكرات والمشروبات الكحولية (وهو المعنى المشهور من تلك المعاني).

وممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن لا يجيز في هذه الآية صنع المسكرات من التمر والعنب أبدا ، وإنّما جاء ذكر المسكرات هنا لمقابلته ب( رِزْقاً حَسَناً ) وكإشارة صغير لتحريم الخمر ونبذه. وعلى هذا فلا حاجة للقول بأنّ هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر أو أنّها تشير إلى تحليله ، بل حقيقة التعبير القرآني يشير إلى التحريم ، ولعل الآية كانت تمثل الإنذار الأوّل للتحريم.

وقد تبدو العبارة وكأنّها جملة اعتراضية بين قوسين داخل الآية القرآنية.

* * *

٢٣٢

بحوث

١ ـ كيف يتكوّن اللبن؟

يقول القرآن الكريم في ذلك كما في الآيات أعلاه : إنّه يخرج من بين «فرث» ـ الأغذية المهضومة داخل المعدة ـ و «دم».

وقد أثبت ذلك فيزيولوجيا : حيث أنّه عند ما يتمّ هضم الغذاء داخل المعدة ويكون جاهزا للامتصاص ينتشر داخل المعدة والأمعاء بشكل واسع وأمام الملايين من العروق الشعيرية ، فتمتص منه العناصر المفيدة المطلوبة لتوصلها إلى تلك الشجرة ذات الجذور التي تنتهي عروقها عند عروق الثدي.

عند ما تتناول المرأة الحامل الغذاء تنتقل عصارته إلى الدم الذي يجري في عروقها حتى يصل نهاية العروق المجاورة لعروق الجنين ليتغذى الجنين بهذه الطريقة ما دام في بطن أمه ، وعند ما ينفصل عن أمّه يتحول طريق تغذيته إلى الثدي وهنا لا تستطيع الأم أن تصل دمها إلى دم ولدها ، ولذلك ينبغي تصفية الغذاء وتغيير حالته بما ينسجم والوضع الجديد للطفل ، وهنا يتكون اللبن من بين فرث ودم ، أي : من بين ما تتناوله الأم الذي يتحول إلى فرث وما ينتقل من مواده إلى الدم ليتكون منه اللبن.

فاللبن في حقيقة شيء وسط بين الفرث والدم ، فلا هو دم مصفى ولا هو غذاء مهضوم ، وهو أعلى من الثّاني ودون الأوّل!

علما بأنّ الثدي يستفيد من الحوامض الأمينية المخزونة في البدن فقط في صناعة المواد البروتينية للبن.

وثمّة مكونات أخرى للبن لا توجد في الدم وإنّما تنتجها غدد خاصّة في الثدي (كالكازوئين).

والبعض الآخر من المكونات يأتي من ترشح بلازما الدم مباشرة : ويدخل في تكوين اللبن من دون أي تغيير (كالفيتامينات وملح الطعام والفوسفات).

٢٣٣

أمّا سكر اللاكتوز الموجود في اللبن فيؤخذ من السكر الموجود في الدم بعد أن تجري عليه الغدد الخاصّة في الثدي التغييرات اللازمة لتحويله إلى نوع جديد من السكر.

ومع أنّ إنتاج اللبن يكون عن طريق جذب المواد الغذائية بواسطة الدم ، ومن خلال الارتباط المباشر بين الدم وغدد الثدي ، إلّا أنّنا لا نلاحظ أيّ أثر لرائحة الفرث أو لون الدم فيه ، بل يبدأ اللبن بالترشح من ثدي الأم بلون جديد ورائحة خاصّة به.

ومن لطيف ما ينقل عن العلماء المتخصصين أنّ إنتاج لتر واحد من اللبن في الثدي يحتاج بما لا يقل عن عبور (٥٠٠) لتر من الدم خلال الثدي ليستطيع من امتصاص المواد اللازمة لإنتاج اللبن ، كما يلزم لإنتاج لتر واحد من الدم عبور مواد غذائية كثيرة من الأمعاء وبهذا يتّضح لنا معنى( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ) كاملا(١) .

٢ ـ أهم ما في اللبن من مواد غذائية

اللبن مليء بالمواد الغذائية المختلفة التي تشكل مع بعضها مجموعة عذائية كاملة.

فالمواد المعدنية في اللبن ، عبارة عن : الصوديوم ، البوتاسيوم ، الكالسيوم ، المغنيسيوم، النحاس ، قليل من الحديد بالإضافة إلى الفسفور والكلور وغيرها.

ويوجد في اللبن كذلك غاز الأوكسجين وحامض الكاربونيك.

أمّا المواد السكرية فموجودة بكمية كافية على شكل (لاكتوز).

والفيتامينات المحلولة في اللبن عبارة عن : فيتامين ب ، پ ، آ ، د.

__________________

(١) مقتبس من كتابي : الكيمياء الحياتية والطبية ، وأوّل جامعة وآخر نبي ، الجزء السادس.

٢٣٤

وقد أثبت العلم الحديث أنّ الحيوان الذي يتغذى بشكل جيد يكون لبنه حاويا لكافة أنواع الفيتامينات ، وأصبح بديهيا أنّ اللبن الطازج يعتبر غذاء كاملا. ولا يمكن لنا تفصيل ذلك في هذا البحث المختصر.

ولعل ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «ليس يجزي مكان الطعام والشراب إلّا اللبن» إشارة لهذا السبب.

ونقرأ في روايات أخرى عن اللبن أنّه يزيد في عقل الإنسان ، ويحد النظر ، ويرفع النسيان ، ويقوي القلب والظهر (كما أصبح معلوما أن هذه الآثار لها ارتباط وثيق بما في اللبن من مواد حياتية)(١) .

٣ ـ اللبن غذاء خالص وسهل الهضم

لقد أكّدت الآيات أعلاه على ميزتين مهمتين للبن ـ كونه «خالصا» ، و «سائغا» أي لذيذا وسريع الهضم ـ وكما هو المعروف عن اللبن من كونه غذاء كثير الفائدة على الرغم من قلّة حجمه. و «خالص» أي خال من المواد الزائدة وبذات الوقت فهو سهل الهضم بالشكل الذي جعل ملائما لأي إنسان وعلى مختلف الأعمار ـ منذ الطفولة حتى الشيخوخة ـ ولهذا يعتمده المرضى كغذاء ملائم ومفيد ومقبول ، وبالخصوص ما له من أثر فعال بالنسبة لنمو العظام ، ولهذا يوصى بالإكثار من تناوله في حالات كسور العظام وما شابهها.

ومن جملة معاني الخلوص هو (الربط) ، ولعل البعض اعتمد على هذا المعنى فيما جاء في التعبير القرآني «خالصا» ، واعتبارهم من كون «خالصا» إشارة إلى تأثير اللبن الخالص في بناء وربط العظام.

وكذا نجد في الإحكام الإسلامية الواردة حول الرضاعة ما يشير إلى هذا

__________________

(١) لزيادة التفصيل ، يراجع كتاب أول جامعة وآخر نبي ـ الجزء السادس.

٢٣٥

المعنى بوضوح.

ويقول الفقهاء : إنّ الطفل لو رضع من غير أمّه حتى اشتدت عظامه وزاد لحمه فإنّ مرضعته ستحرم عليه (وما يتبع ذلك في من يعود إليه النسب).

ويقولون أيضا : إن (١٥) رضاعة متوالية ، أو رضاعة يوم وليلة متصلة ، يؤدي إلى هذه الحرمة أيضا.

ولو جمعنا القولين ، ألا ينتج أن التغذية باللبن يوم وليلة لها أثر في تقوية العظام وزيادة اللحم!؟

وينبغي الالتفات إلى أن التوجيهات الإسلامية أكّدت كثيرا على لبن «اللباء» هو أو ما ينزل من اللبن بعد الولادة ، حتى لتقول بعض كتب الفقه إنّ حياة الطفل مرهونة به ، ولهذا اعتبر إعطاء الطفل من حليب اللباء واجبا(١) .

ولعل ما في الآية (٧) من سورة القصص حول موسىعليه‌السلام يتعلق بهذا الموضوع أيضا( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) .

* * *

__________________

(١) شرح اللمعة ، كتاب النكاح ، أحكام الأولاد ومنها الرضاع.

٢٣٦

الآيتان

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) )

التّفسير

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن «النحل» وما يدره من منتوج (العسل) ورمز إلى ذلك الإلهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل :( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) .

وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقّة :

١ ـ ما هو «الوحي»

«الوحي» في الأصل (كما يقول الراغب في مفرداته) بمعنى الإشارة السريعة ،

٢٣٧

ثمّ بمعنى الإلقاء الخفي.

وقد جاءت كلمة «الوحي» في القرآن الكريم لترمز إلى عدّة أشياء ، ولكنّها بالنتيجة تعود لذلك المعنى ، منها :

وحي النّبوة : حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيرا. كما في الآية (٥١) من سورة الشورى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ) .

ومنها : الوحي بمعنى «الإلهام» سواء كان الملهم منتبها لذلك (كما في الإنسان( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) (١) ، أو مع عدم انتباه الملهم كالإلهام الغريزي (كما في النحل) وهو ما ورد في الآية مورد البحث.

ومن المعروف أنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه الله في الكائنات الحيّة.

ومنها : أنّ الوحي بمعنى الإشارة ، كما ورد في قصّة زكريا في الآية (١١) من سورة مريم( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .

ومنها أيضا : إيصال الرسالة بشكل خفي ، كما في الآية (١١٢) من سورة الأنعام( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

٢ ـ هل يختص الإلهام الغريزي بالنحل؟

وإذا كان وجود الغرائز (الإلهام الغريزي) غير منحصر بالنحل دون جميع الحيوانات ، فلما ذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصّة؟

والإجابة على السؤال تتّضح من خلال المقدمة التالية : إنّ الدراسة الدقيقة التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل ، قد أثبتت أنّ هذه الحشرة العجيبة لها من التمدن والحياة الاجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند

__________________

(١) القصص ، ٧.

٢٣٨

الإنسان وحياته الاجتماعية ، من عدّة جهات.

وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي أوصلتهم بقناعة تامة إلى توحيد الخالق والإذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.

وأشار القرآن الكريم إلى ذلك الإعجاز بكلمة «الوحي» ليبيّن أنّ حياة النحل لا تقاس بحياة الأنعام ، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة ، ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها ، ولعل «الوحي» هو التعبير الرمزي الذي اختصت به هذه الآية نسبة إلى الآيات السابقة.

٣ ـ المهمّة الأولى في حياة النحل :

وأوّل مهمّة أمر بها النحل في هذه الآية هي : بناء البيت ، ولعل ذلك إشارة إلى أن اتّخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة ، ومن ثمّ القيام ببقية الفعاليات ، أو لعله إشارة إلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة ، حيث أن بناء البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع ، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن متعددة ومختلفة ، قد يكون أعجب حتى من عملية صنع العسل(١) .

فكيف تضع هذه المادة الشمعية الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا متساوية تماما ، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان

فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن اختيار وأحكم طبيعة ، وسبحان الله خالق كل شيء.

__________________

(١) عرف لحد الآن (٤٥٠٠) نوعا من النحل الوحشي ، والعجيب أنّها في حال واحدة من حيث : الهجرة ، بناء الخلايا ، المكان ، تناول رحيق الأزهار ، أوّل جامعة ، الجزء الخامس.

٢٣٩

٤ ـ اين مكان النحل :

وقد عيّنت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال ، وبين الصخور وانعطافاتها المناسبة ، وبين أغصان الأشجار ، وأحيانا في البيوت التي يصنعها لها الإنسان.

ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمّة الثّانية للنحل :( ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) .

«الذلل» : (جمع ذلول) بمعنى التسليم والانقياد.

ووصف الطرق بالذلل لأنّها قد عينت بدقّة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في تنقله ، وسنشير إلى كيفية ذلك قريبا.

وأخيرا يعرض القرآن المهمّة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء) ، وهو دليل على عظمة وقدرة الباريعزوجل .

* * *

بحوث

وفي الآية جملة بحوث قيمة أخرى :

١ ـ مم يتكون العسل؟

يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصّة الموجودة في مياسم الأوراد ، ويقول خبراء النحل : إنّ عمل النحل في واقعة لا ينحصر بأخذ المادة السكرية فقط ، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للاستفادة من بعض أجزاء الورود

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496