الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237816 / تحميل: 7588
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الأخرى ، وكذا الحال مع الأثمار ، وهو ما يشير إليه القرآن بقوله :( مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) .

وقد نقل قول عالم البيئة (مترلينك) بما يوضح التعبير القرآني بشكل أوضح : (لو قدّر أن تفنى أنواع النحل ـ الوحشي والأهلي ـ فإنّ مائة ألف نوع من النباتات والثمار والأوراد ستفنى ، أي أنّ تمدننا سيفنى أيضا)(١) . ذلك لأنّ دور النحل في نقل حبوب اللقاح من ذكر الأشجار إلى مياسم إناثها من الأهمية بحيث يجعل بعض العلماء يعتقدون أن ذلك أهم من إنتاج العسل نفسه.

والحقيقة أنّ ما يتناوله النحل من أنواع الثمار إنّما هو بالقوّة لا بالفعل ، ولهذا فهو يساهم في عملية تكوينها ، فما أشمل وأدق التعبير القرآني( مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) !

٢ ـ السّبل المذللة!

لقد توصل العلماء المتخصصون بدراسة حياة النحل إلى ما يلي : تخرج في كل صباح مجموعة من النحل لمعرفة أماكن وجود الأوراد وتعيينها ، ثمّ تعود إلى الخلية لتخبر بقية النحل عن أماكن الورود والجهات التي ينبغي التوجه إليها ، ومقدار الفاصلة بين الورود والخلية.

ويستعمل النحل أحيانا لأجل تعيين طرق وصوله إلى الأوراد علامات خاصّة كأن يشخص طبيعة الروائح المنتشرة على طول الطريق أو ما شابه ذلك ، وذلك لضمان عدم إضاعة الطريق ذهابا وإيابا.

ولعل عبارة( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) إشارة لهذه الحركة.

__________________

(١) أول جامعة ، الجز الخامس ، ص ٥٥.

٢٤١

٣ ـ أين يصنع العسل؟

ربّما ، إلى الآن يوجد من يتصور بأنّ النحل يمتص رحيق الأوراد ويجمعه في فمه ثمّ يخزنه في الخلية ، وهذا خلاف الواقع ، فالنحلة تجمع الرحيق في حفر خاصّة داخل بدنها يطلق عليها علميا اسم (الحوصلة) وهي بمثابة معامل مختبرات كيمياوية خاصّة تقوم بعمليات تحويل وتغيير مختلفة لرحيق الأزهار ، حتى يصل إلى إنتاج العسل ، الذي تقوم النحلة بإخراجه وجمعه في الخلية.

والمدهش أن سورة النحل مكية ، وكما هو معلوم بأنّ مكّة منطقة جافة ليس فيها نحل لعدم توفر النباتات والأوراد التي يحتاجها ومع ذلك فالقرآن الكريم يتحدث بكل دقة عن النحل ويشير إلى أدق أعماله (إنتاج العسل) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

٤ ـ ألوان العسل المختلفة

تتفاوت ألوان العسل وفقا لتنوع الأوراد التي يؤخذ رحيقها منها فيبدو أحيانا بلون اللبن القاتم ، وأحيانا أخرى يكون أصفر اللون ، أو أبيض فضي ، أو ليس له لون ، وتارة تراه شفافا ، وتارة أخرى ذهبي أو تمري وقد تراه مائلا إلى السواد!

ولهذا التفاوت في اللون حكمة بالغة قد تبيّنت أخيرا مفادها : إنّ للون الغذاء أثّر بالغ في تحريك رغبة الإنسان إليه.

وهذه الحقيقة ما كانت خافية على القدماء أيضا ، فكانوا يعتنون بإظهار لون الغذاء المشهي لدرجة كانوا يضيفون إليه بعض المواد تحصيلا لما يريدون كإضافة الزعفران وما شابهه.

ولهذا الموضوع بحوث مفصلة في كتب التغذية لا يسمح لنا المجال بعرضها كاملة خوفا من الابتعاد عن مجال التّفسير.

٢٤٢

٥ ـ العسل والشفاء من الأمراض :

كما نعلم بأنّ للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعالة لكثير من الأمراض ، ولا زلنا نجهل الكثير من فوائدها على الرغم من كثرة ما عرفناه ، والشيء المهم في موضوعنا ما توصل إليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكّدت على أنّ للنحل من المهارة بحيث أنّه في علمية صنعه للعسل لم يبذر فيما تحويه النباتات والأوراد من خواص علاجية ، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل ويجعلها في العسل!

وقد صرّح العلماء بكثير من تلك الخواص الوقائية والعلاجية والمقوية.

فالعسل : سريع الامتصاص من قبل الدم ، ولهذا فهو غذاء مقوّ ومؤثر جدّا في تكوين الدم.

والعسل : ينقي المعدة والأمعاء من العفونة.

والعسل : رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه ، لأن الإكثار منه يقلل النوم).

وللعسل : رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه ، لأن الإكثار منه يقلل النوم).

وللعسل : أثر مهم في رفع التعب وتشنج العضلات.

والعسل : يقوي الشبكية العصبية للأطفال (إذا ما أطعمت الأم أثناء الحمل).

ويرفع نسبة الكالسيوم في الدم.

ونافع لتقوية الجهاز الهضمي (وبالخصوص لمن أبتلي بنفخ البطن).

وبما أنّه سريع الاحتراق فهو يعمل على توليد الطاقة بسرعة فائقة بالإضافة لترميمه للقوى.

والعسل أيضا : مقوّ للقلب ، مساعد في علاج أمراض الرئة ، نافع للإسهال لخاصيته في قتل المكروبات.

ويعتبر العسل عاملا مهما من عوامل معالجة قرحة المعدة والاثنى عشري.

٢٤٣

وهو دواء نافع لعلاج الروماتيزم ، ونقصان قوّة نمو العضلات ، ورفع الآلام العصبية.

وبالإضافة إلى ذلك فهو نافع في رفع السعال وعامل مهم لتصفية الصوت.

والخلاصة : إنّ خواص العسل العلاجية أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر.

ومع ذلك كله فإنّه يدخل في صناعة الأدوية لتلطيف الجلد وللتجميل ، ويستعمل لطول العمر ، ولعلاج ورم الفم واللسان والعين ، ويستعمل أيضا لمعالجة الإرهاق ، وتشقق الجلد ، وما شابه ذلك.

أمّا المواد والفيتامينات الموجودة في العسل فكثيرة جدّا. وفيه من المواد المعدنية : الحديد ، الفسفور ، البوتاسيوم ، اليود ، المغنيسيوم ، الرصاص ، النحاس ، السلفور ، النيكل ، الصوديوم وغيرها.

ومن المواد الآلية فيه : الصمغ ، حامض اللاكتيك ، حامض الفورميك ، حامض السيتريك والتاتاريك والدهون العطرية.

أمّا ما يحويه من الفيتامينات ، ففيه ، فيتامينات (أ، ب ، ث ، د ، ك)

( K ,D ,C ,B ,A ).

ويعتقد البعض باحتوائه على فيتامين (پ ب) ( P B ) أيضا.

وأخيرا : فالعسل علاج لصحة وجمال الإنسان.

وصرحت الرّوايات كذلك بخواص العسل العلاجية ، وورد الكثير عن أمير المؤمنينعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام من أنّهم قالوا : «ما استشفى الناس بمثل العسل»(١) .

وبرواية أخرى : «لم يستشف مريض بمثل شربة عسل»(٢) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من شرب العسل في كل شهر مرّة يريد ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٧٣ ، إلى ٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٤

جاء به القرآن ، عوفي من سبعة وسبعين داء»(١) .

وثمّة أحاديث أخرى حول أهمية العسل في علاج آلام البطن.

ونذكر أنّ لكل حكم عام أو قاعدة كلية استثناء ، ولهذا فقد ورد النهي عن تناول العسل في بعض الحالات النادرة.

٦ ـ( لِلنَّاسِ ) :

وممّا يجذب النظر أن خبراء النحل يرون كفاية امتصاص وردتين أو ثلاث لسد جوع النحلة ، إلّا أنّها تحط على (٢٥٠) وردة في كل ساعة (كمعدل) ولأجل ذلك تقطع مسافة كيلومترات ، وعلى الرغم من قصر عمر النحلة ، إلّا أنّها تنتج كمية لا بأس بها من العسل ، وقد لا يصدق كثرة ما تنتجه قياسا لما تعيشه من عمر ، ولكنّ ما تقوم به من مثابرة وعمل دؤوب لا يعرف الكلل والملل قد هيأها لأن تقوم بهذا العمل الكبير العجيب.

وكل ذلك السعي وتلك المثابرة ليس في واقعه لملء بطنها بقدر ما عبّر عنه القرآن الكريم ب( لِلنَّاسِ ) .

٧ ـ ملاحظات مهمّة بخصوص العسل :

أثبت العلم الحديث أنّ العسل من المواد الغذائية التي تبقى على الدوام طازجة وسالمة ومحافظة على كل ما تحويه في فيتامينات مهما طالت المدّة لأنّه من المواد غير القابلة للفساد.

ويعزو العلماء سبب ذلك لوجود نسبة البوتاسيوم الوافية فيه المانع من نمو الجراثيم ، بالإضافة لاحتوائه على بعض المواد المقاومة للعفونة كحامض الفورميك فمضافا لكون العسل مانع من نمو الجراثيم ، فهو قاتل لها أيضا ولهذا السبب فقد استعمله المصريون القدماء في عملية التحنيط.

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ١٩٠.

٢٤٥

ويقول العلماء : لا ينبغي حفظ العسل في أواني فلزية.

ويقول القرآن في هذا الجانب :( ... مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) ، أي : إنّ بيوت النحل لا ينبغي أن تكون إلّا بين الأحجار والأخشاب.

وملاحظة مهمّة أخرى : للاستفادة من خواصه الصّحيحة والعلاجية ينبغي عدم تعريضه لحرارة الطبخ. يعتقد البعض أنّ تعبير القرآن بكلمة «شراب» إشارة لهذه المسألة ، فهو من المشروبات وليس من المأكولات كي يعرض لحرارة الطبخ.

وثمة ملاحظة أخرى : على الرغم ممّا تسببه لسعة النحل من الألم ، إلّا أن لهذا أثر علاجي أيضا ، ومع ذلك ونتيجة لطبع النحل اللطيف فإنّه لا يلسع أحدا بلا سبب ، بل نحن ندفعه إلى ذلك ونضطره ليلسعنا عن علم أو جهل.

ومن الأسباب التي تدفع النحل للسع الإنسان : عدم ارتياحه للروائح الكريهة ، وعند ما يقترب الإنسان من الخلية لجني نتاج النحل فهي لا تلسعه إلّا إذا كانت يده ملوّثة أو أن في لباسه رائحة كريهة ، أو عند ما يمدّ الإنسان يده إلى خلية ما وبدون أن يغسل يده يمدّها إلى خلية أخرى ، فإن نحل الثّانية ستسرع في لسعه لأنه قد نقل إليها رائحة خلية أجنبية!

وعلى الرغم من أنّ اللسع يحمل أهدافا دفاعية ، إلّا أنّه بالنسبة للنحل يعني الانتحار لأنّه بمجرّد أن تقوم النحلة باللسع فإنّها قد كتبت على نفسها مصير الموت!

وقد وضع العلماء المتخصصون برنامجا معينا لمعالجة الأمراض كالروماتيزم والمالاريا والآلام العصبية وغيرها عن طريق لسعات النحل ، وإلّا فإنّ لسع النحل قد يؤدي إلى آلام مؤذية تصل في بعض حالاتها إلى مخاطر كبيرة.

وقد يتحمل الإنسان لسعة أو عدّة لسعات ، ولكنّ الأمر حينما يصل إلى (٢٠٠ ـ ٣٠٠) لسعة فإنّ ذلك سيؤدي إلى التسمم واضطرابات في القلب ، وإذا ما وصل العدد إلى (٥٠٠) لسعة فسوف يؤدي إلى شلل الجهاز التنفسي ، وربّما يؤدي إلى الموت.

٢٤٦

٨ ـ عجائب حياة النحل

كان القدماء يعرفون القدر اليسير عن حياة النحل ، أمّا اليوم ونتيجة لدراسات العلماء الواسعة فقد تبيّن أن للنحل حياة منظمة جدّا ويتخللها : تقسيم أعمال ، توزيع مسئوليات وبرنامج عمل دقيق جدّا.

ومدينة النحل : أكثر المدن نظافة ، وأكثرها نظاما ، كلّها عمل إنّها مدينة على خلاف كل مدن البشر ، فليس فيها بطالة ولا فقر ، والكل يعيش حياة تمدن جميل وكل أفراد المدينة يخضعون لقوانينها ولا ترى مخالفا للضوابط القانونية ولا مقصرا في عمله إلّا ما ندر ، وإذا ما حدث ذلك كأن تذهب إحدى النحلات إلى وردة كريهة الرائحة وتمتص رحيقها ، فإنّها ستخضع للتفتيش عند أعتاب المدينة ثمّ تحاكم في محكمة صحراوية ، والإعدام بالموت هو المعروف عن ارتكاب مثل هذه الأخطاء!

يقول (مترلينك) عالم البيئة البلجيكي الذي أجرى العديد من الدراسات حول حياة النحل والنظام العجيب الذي يحكم مدنها : إنّ ملكة النحل (أو على الأصح أمّ الخلية) لا تعيش في مدينتها ، كما نتصور من سلطتها وإصدارها الأوامر ، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة في إطاعتها للقواعد والأنظمة الكلية السائدة إنّنا لا نعلم كيف وضعت هذه القوانين والأنظمة ، وننتظر أن نفهم هذا الأمر يوما ما ، ونعرف واضع هذه المقررات ، إلّا أنّنا نسميه مؤقتا (روح الخلية)!!

إنّ الملكة تطيع روح الخلية شأنها شأن بقية الأفراد.

إنّنا لا نعلم أين توجد روح هذه الخلية؟ وفي أي فرد من سكنة مدينة النحل قد حلّت؟

إلّا أنّنا نعلم أن روح الخلية ليست شبيهة بغريزة الطيور ، ونعلم أيضا أنّ روح الخلية ليست عادة وإرادة عمياء تحكم عنصر ونوع النحل ، إنّ روح الخلية تقوم بتحديد وظيفة كل فرد من أفراد الخلية وفق استعداده ، وتوجه كل واحد منها نحو عمل معين.

٢٤٧

إنّ روح الخلية تأمر النحل المهندس والبناء والعامل ببناء البيوت ، وهي التي تأمر سكنة المدينة جميعا بالهجرة منها في يوم معين وساعة معينة ، وتتجه نحو حوادث ومشاق غير معلومة من أجل تحصيل مسكن ومأوى جديد!

إنّنا لا نستطيع أن نفهم في أي مجمع شورى قد طرحت قوانين مدينة النحل التي وضعتها روح الخلية واتخذ قرارها بتنفيذها ، من يصدر الأمر بالحركة في اليوم المعين؟

نعم ، إنّ في الخلية مقدمات هجرة من أجل إطاعة الإله الذي بيده مصير النحل(١) .

إنّ العالم المذكور قد واجه الإبهام في فهم هذه المسألة ، لما علقت في ذهنه من ترسبات الفكر المادي!

ولكننا نفهم بيسر من أين جاءت تلك القوانين والبرامج؟ ومن الآمر بها؟ وذلك من خلال الاستهداء بنور القرآن.

ما أجمل ما عبّر عنه القرآن حين قوله :( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

أو هل ثمة تعبير أوسع وأشمل وأنطق من هذا؟!

لم نذكر فيما قلناه عن النحل إلّا النزر اليسير لأنّ منهج التّفسير لا يسمع لذا بمواصلة هذا الموضوع(٢) .

ونظن كفاية هذا القدر للمتفكر السائر نحو معرفة عظمة الله :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

* * *

__________________

(١) تلخيص من كتاب (النحل) ، تأليف مترلينك.

(٢) اعتمدنا في بحثنا عن النحل وخواص العسل على جملة كتب منها : أوّل جامعة وآخر نبي ، والنحل ، تأليف مترلينك ، وعجائب عالم الحيوانات.

٢٤٨

الآيات

( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) )

التّفسير

سبب اختلاف الأرزاق :

بيّنت الآيات السابقة قسما من النعم الإلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان ، لتكون دليلا حسيا لمعرفته جل شأنه ، وتواصل هذه الآيات مسألة إثبات الخالق جل وعلا بأسلوب آخر ، وذلك بأن تغيير النعم خارج عن اختيار الإنسان ، وذلك كاشف بقليل من الدقة والتأمل على وجود المقدّر لذلك.

٢٤٩

فيبتدأ القول ب( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) .

فمنه الممات كما كانت الحياة منه ، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأي من الطرفين (الحياة والموت).

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضا ، فمنكم من يموت في شبابه أو في كهولته( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) (١) .

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) (٢) .

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم نعم ف( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) فكل القدرات بيده جل وعلا ، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة ، وكذا أخذه لا يكون إلّا عند ما يلزم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإنسان وإنّما( وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) فأصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفا أن يكونوا معهم على قدم المساواة:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) .

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تشير إلى بعض أعمال المشركين الناتجة عن حماقتهم ، حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهما من مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية ، بالرغم من عدم وجود أيّ أثر لتلك الأحجار والأخشاب

__________________

(١) «أرذل» : من (رذل) بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية ، والمقصود من «أرذل العمر» : السنين المتقدمة جدّا من عمر الإنسان حيث الضعف والنسيان ، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية ، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر، وقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها تبدأ من عمر (٧٥) عامّا ، وبعض آخر من (٩٠) وآخرون اعتبروها من (٩٥) والحق أنّها لا تحدد بعمر ، وإنّما تختلف من شخص لآخر.

(٢) عبارة( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) يمكن أن تكون غاية ونتيجة للسنين المتقدمة من حياة الإنسان ، فيكون مفهومها أنّ دماغ الإنسان وأعصابه في هذه السنين تفقد القدرة على التركيز والحفظ فيسيطر على الإنسان النسيان والغفلة. ويمكن أن يكون معناها العلّة ، أي أنّ الله تعالى يوصل الإنسان إلى هذا العمر لكي يصاب بالنسيان ، فيفهم الناس بأنّهم لا يملكون شيئا من أنفسهم.

٢٥٠

على حياتهم! بل كان الأولى بهم لو التفتوا إلى خدمهم وعبيدهم ليعطوهم شيئا جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار!

هل التفاضل في الرّزق من العدالة؟!

وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه : هل أنّ إيجاد التفاوت والاختلاف في الأرزاق بين الناس ، ينسجم مع عدالة اللهعزوجل ومساواته بين خلقه ، التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟

لأجل الإجابة ، ينبغي الالتفات إلى الملاحظتين التاليتين :

١ ـ إنّ الاختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشئ بين الناس جزاء اختلاف استعداداتهم وقابليتهم من واحد لآخر.

والتفاوت في الاستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الاختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الاقتصادية للأفراد ، ممّا يؤدي إلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر.

ولا شك أنّ بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في اشراء بعض الناس ، الّا أنّه لا يمكن أن نعوّل عليها عند البحث لأنّها ليست أكثر من استثناء ، أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أن بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والاستغلال ، ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإنساني جانبا وانزلقت في طرق الظلم والاستغلال).

وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد يتمتعون برزق وافر وجيد ، ولكننا عند ما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسميا ونفسيا وأخلاقيا ، نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إلى ذلك (ونكرر القول بأنّ بحثنا ضمن إطار مجتمع

٢٥١

سليم خال من الاستغلال).

وعلى أية حال فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالاستعدادات ، وهو من المواهب والنعم الإلهية أيضا ، وإن أمكن أن يكون بعض ذلك اكتسابيا ، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعا. فإذن وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية ، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة إلّا إذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة من حيث : الشكل ، اللون ، الاستعداد ولا يعتريهم أيّ اختلاف! وإذا ما افترضنا حدوث ذلك فإنّه بداية المشاكل والويلات!

٢ ـ لو نظرنا إلى بدن إنسان ما ، أو إلى هيكل شجرة أو باقة ورد ، فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟

وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عظم قدم الإنسان لا يختلف عن شبكية عينه؟

وهل من الصواب أن نعبر كل ذلك شيئا واحدا؟!

ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيّ معنى ، وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي ، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي : الشكل الواحد ، الذوق الواحد ، الفكر الواحد ، بل والمتحدين في كل شيء كعلبة السجائر فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيدة؟ ستكون الإجابة بالنفي قطعا ، وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب ، لأنّ الكل يتحرك في جهة واحدة ، والكل يريد شيئا واحدا ، ويحبون غذاء واحدا ، ولا يرغبون إلّا بعمل واحد!

وبديهيا ستكون حياة كهذه سريعة الانقراض ، ولو افترض لها الدوام ، فإنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح. وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت

٢٥٢

بون شاسع.

وعلى هذا فحكمة وجود التفاوت في الاستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الاجتماعي ، وليكون التفاوت في الاستعدادات دافعا لتربية وإنماء الاستعدادات المختلفة للأفراد. ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبدا.

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنّنا نريد منه إيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري ، لا. أبدا وإنّما نقصد بالاختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ويدعو إلى التجاوز والتعدي على الحقوق).

إنّ الاختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا : ذلك المفهوم الاصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغلة وأخرى مستغلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبدا ، ولكنّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الاستعدادات والسعي وبذل الجهد ، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض ـ فتأمل.

وبعبارة أخرى ، إن الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء ، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة ، فمع تفاوتها إلّا أنّها ليست متزاحمة ، بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.

وخلاصة القول : ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في الاستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعا لسوء الاستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبي(١) .

ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث :( أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ

__________________

(١) لقد بحثنا بشكل مفصل موضوع فلسفة الاختلاف في الاستعدادات والفوائد الناتجة عن ذلك في ذيل الآية (٣٢) من سورة النساء ـ فيراجع.

٢٥٣

يَجْحَدُونَ ) .

وذلك إشارة إلى أن هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية (وليس الظالمة المصطنعة) إنّما هي من النعم الإلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «الله» كما كان في الآيتين السابقتين ، ولتتحدث عن النعم الإلهية في إيجاد القوى البشرية ، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضا تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات ، حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت ، ثمّ التفاوت في الأرزاق والاستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث ، حيث النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و.. الأرزاق الطيبة.

وتقول الآية :( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ) لتكون سكنا لأرواحكم وأجسادكم وسببا لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلا فاصلة :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) .

«الحفدة» بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء ، أمّا في هذه الآية ـ كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين ـ فالمقصود منها أولاد الأولاد ، واعتبرها بعض المفسّرين بأنّها خاصّة بالإناث دون الذكور من الأولاد.

ويعتقد قسم آخر من المفسّرين : أن «بنون» تطلق على الأولاد الصغار ، و «الحفدة» تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إعانة ومساعدة آبائهم.

واعتبر بعض المفسّرين أنّها شاملة لكل معين ومساعد ، من الأبناء كان أم من غيرهم(١) .

__________________

(١) وفي هذه الحال يجب أن لا تكون «حفدة» معطوفة على «بنين» بل على «أزواجا» ، ولكنّ هذا العطف خلاف الظاهر الذي يشير إلى عطفها على «بنين» ـ فتأمل.

٢٥٤

ويبدو أن المعنى الأوّل (أولاد الأولاد) أقرب من غيره ، بالرغم ممّا تقدم من سعة مفهوم «حفدة» في الأصل.

وعلى أية حال فوجود القوى الإنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج للإنسان من النعم الإلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإنسان ، لأنّهم يعينون ماديا ومعنويا في حياته الدنيا.

ثمّ يقول القرآن الكريم :( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) .

«الطيبات» هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف ، سواء كان ماديا أو معنويا ، فرديا أو اجتماعيا.

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة الله ، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم ، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق ، يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق( أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) .

فما أعجب هذا الزيغ! وأية حال باتوا عليها! عجبا لهم وتعسا لنسيانهم مسبب الأسباب ، وذهابهم لما لا ينفع ولا يضر ليقدسوه معبودا!!!

* * *

بحثان

١ ـ أسباب الرزق :

على الرغم ممّا ذكر بخصوص التفاوت من حيث الاستعداد والمواهب عند الناس ، إلّا أنّ أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد ، فالأكثر سعيا أكثر نجاحا في الحياة والعكس صحيح.

ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطا بين ما يحصل عليه الإنسان وبين سعيه ،

٢٥٥

فقال بوضوح :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (١) .

ومن الأمور المهمّة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادي من قبيل:التقوى، الأمانة ، إطاعة القوانين الإلهية والالتزام بأصول العدل ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٩٦) من سورة الأعراف :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

وكما في الآيتين (٢ و ٣) من سورة الطلاق :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .

وكما أشارت الآية (١٧) من سورة التغابن بخصوص أثر الإنفاق في سعة الرزق ـ :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) .

ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإعانتهم يعود بالنفع على كل الناس (بغض النظر عن الجوانب الإنسانية والروحية لذلك).

وخلاصة القول إنّ اقتصاد المجتمع إن بني على أسس التقوى والصلاح والتعاون والإنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قويا مرفوع الرأس ، أمّا لو بني على الاستغلال والظلم والاعتداء وعدم الاهتمام بالآخرين ، فسيكون المجتمع متخلفا اقتصاديا وتتلاش فيه أواصر الحياة والاجتماعية.

ولذلك فقد أعطت الأحاديث والرّوايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى ، وحتى روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تكسلوا في طلب معايشكم ، فإن أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها»(٢) .

وروي عنه أيضا : «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله»(٣) .

__________________

(١) سورة النجم ، ٣٩.

(٢) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٤٨.

(٣) الوسائل ج ١٢ ، ص ٤٣.

٢٥٦

وحتى أنّ الأمر قد وجّه إلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق(١) وذكر أنّ من جملة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة ، انزووا في زوايا بيوتهم يدعون الله أن يرزقهم!

وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والرّوايات التي تؤكد على أنّ الرزق بيد الله ، وذم السعي فيه ، فكيف يتمّ تفسير ذلك؟!

وللاجابة نذكر الملاحظتين التاليتين :

١ ـ دقة النظر والتحقق في المصادر الإسلامية يوضح أنّ الآيات أو الرّوايات التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظها ـ سواء في هذا الموضوع أو غيره ـ إنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحية ، لأنّ حقيقة تناولها لموضوع ما إنّما يشمل جوانب متعددة من الموضوع ، فكل آية أو رواية إنّما تنظر إلى بعد معين من أبعاد الموضوع ، فتوهم غير المتابع بوجود التضاد.

فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية ، ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إلى ما يريدونه ، تأتي الآيات والرّوايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال.

وإذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد ، تأتيهم الآيات والرّوايات لتبيّن لهم أهمية السعي وضرورته.

فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي الإفراط والتفريط في مجتمعه.

فغاية الآيات والرّوايات التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد الله هي غلق أبواب الحرص والشر وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية ، وليس هدفها إطفاء شعلة

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٥٠.

٢٥٧

الحيوية والنشاط في الإعمال والاكتساب وصولا لحياة كريمة ومستقلة.

وبهذا يتّضح تفسير الرّوايات التي تقول : إنّ كثيرا من الأرزاق إن لم تطلبوها تطلبكم.

٢ ـ إنّ كلّ شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إلى اللهعزوجل ، وكل موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شيء منه سبحانه وتعالى ، ويردد ما تقوله الآية (٢٦) من سورة آل عمران :( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أنّ كل شيء من سعي ونشاط وفكر وخلاقية الإنسان إنّما هي في حقيقتها من اللهعزوجل .

ولو توقف لطف الله (فرضا) عن الإنسان ـ ولو للحظة واحدة ـ لما كان ثمّة شيء اسمه الإنسان.

ويقول الإنسان الموحد حينما يركب وسيلة : «سبحان الذي سخر لنا هذا».

وعند ما يحصل على نعمة ما ، يقول : «وما بنا من نعمة فمنك»(١) .

ويقول عند ما يخطو في سبيل الإصلاح ـ كما هو حال الأنبياء في طريق هدايتهم للناس ـ :( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٢) .

وإلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إفراط أو تفريط ، هو أساس كسب الرزق ، وما يوصل إلى الإنسان من رزق بغير سعي وعمل إنّما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي ، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على الرزق الذي يطلب الإنسان ، حيث قال : «يا ابن آدم ، الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك»(٣) .

__________________

(١) من أدعية التعقيبات لصلاة العصر ، كما في كتب الدعاء.

(٢) سورة هود ، ٨٨.

(٣) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٣٧٩.

٢٥٨

٢ ـ مواساة الآخرين :

أشارت الآيات إلى بخل كثير من الناس ممن لم يتّبعوا سلوك وهدي الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، وقد أكّدت الرّوايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة والمواساة ومنها : ما جاء في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية : «لا يجوز الرجل أن يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله»(١) .

وروي أيضا عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عن العبيد : «إنّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكسون وأطعموهم ممّا تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا ورداؤه وإزاره من غير تفاوت(٢) .

والذي نستفيده من الرّوايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول :( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) أنّ الإسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفل قدر الإمكان ، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلا عليهم.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦٨.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦٨

٢٥٩

الآيتان

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) )

التّفسير

لا تجعلوا لله شبيها :

تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة ، وتشير إلى موضوع الشرك ، وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً ) .

وليس لا يملك شيئا فقط ، بل( وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) أن يخلقوا شيئا.

وهذه إشارة إلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام ، لأنّها لا تضرّكم ولا تنفعكم وليس لها أيّ أثر على مصيركم ، فالرزق مثلا والذي به تدور عجلة الحياة سواء كان من السماء (كقطرات المطر وأشعة الشمس وغير ذلك) أو ما يستخرج من الأرض ، إنّما هو خارج عن اختيار الأصنام ، لأنّها موجودات فاقدة لأية قيمة ولا تملك الإرادة ، وإن هي إلّا خرافات صنعتها العصبية الجاهلية

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

بقولهم:( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) .

والله سبحانه يجيب عليها:

١ ـ بأنّ أمر النصر بيد الله كما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّه مرهون بعوامل وأسباب غيبيّة واُخرى اكتسابيّة خاصّة، وأنتم أيّها المعترضون قد فوّتم تحصيل تلك الأسباب والعوامل، فلا يحق لكم الاعتراض بعد تقصيركم.

٢ ـ بأنّ لكل نفس أجلاً محدّداً لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر.

٣ ـ إنّ في هذه النكسة الفادحة تمحيص لما في الصدور والقلوب فقد تميّز به المؤمن المثابر من المتظاهر بالإيمان، وبذلك يعلم أنّ القول بأنّ الصحبة كافية في تحقيق إتّصاف الرجل بالعدالة والنزاهة والإستقامة شيء لا حقيقة له ولا أساس وقد تحقّق لديك بفضل هذه الآيات أنّ أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إنقسموا إلى طوائف: فمن منافق نكص على عقبيه في أثناء الطريق ولم يشترك في القتال وتذرّع بقولهم:( لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ ) ( آل عمران / ١٦٧ ).

ومن مؤمن كابر أمر الرسول وخرج عن طاعته وأخلى ساحة القتال ولكنّه لم تنتابه وتعتريه شبهات وظنون أهل الجاهليّة، فتاب ورجع إلى النبيّ بعد جلاء المعركة وهم من مصاديق قوله سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) ( الأعراف / ٢٠١ ).

ومن متظاهر بالإيمان لم يتمكّن الإيمان من قلبه حقّ التمكّن، فلمّا حاق به البلاء ورأى الانتكاسة المروّعة الرهيبة، ارتدّ القهقري وصار يتفوّه بمقولات أهل الشرك والجاهلية.

أضف إلى ذلك، الطائفة الثالثة الذين رجعوا أثناء الطريق ولم يساهموا النبيّ والمسلمين، وهؤلاء هم أتباع عبد الله بن اُبيّ المنافقون.

٣٦١

أفبعد هذا يصحّ لنا القول بأنّ كلّ صحابي عادل ؟!! وأنّ العدل والصحبة متلازمان؟! كلّا ومن يذهب إليه فإنّما يجترئ عظيماً.

والذي يعرب عن أنّ بعضهم قد بلغ به الحال إلى المشارفة على أعتاب الرّدة قوله سبحانه:( وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ) ( آل عمران / ١٤٤ ).

قال أنس بن النضر: في السّاعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر وبلغت القلوب فيها الحناجر، وحين فشا في النّاس أنّ رسول الله قد قتل، وقال بعض ضعفاء المؤمنين ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن اُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان(١) وقال ناس من أهل النّفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. قال أنس: إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمّد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثمّ قال: أللّهم إنّي أعتذر إليك ممّا قال هؤلاء، وأبرأُ إليك ممّا جاء به هؤلاء، ثمَّ شدّ بسيفه فقاتل حتّى قتلرضي‌الله‌عنه ، كما مرّ(٢) .

فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب والتوبيخ: إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس إلّا رسولاً من الله مثل سائر الرّسل ليس شأنه إلّا تبليغ رسالة ربّه لا يملك من الأمر شيئاً، وإنّما الأمر لله والدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته، حيث يظهر منكم أنّه لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين ورجعتم إلى أعقابكم القهقري واتّخذتم الغواية بعد الهداية ؟

وهذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم أُحد بعد أن حمى الوطيس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتل فانسلّوا عند ذلك وتولّوا عن القتال.

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٥١٣.

(٢) لاحظ ص ٣٣٢.

٣٦٢

القصاص بالقسط:

إنّ المشركين لـمّا مثّلوا بقتلى المسلمين في اُحد وبحمزة بن عبد المطّلب فشقّوا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه، وجدعوا أنفه واُذنه قال المسلمون: لئن أمكننا الله منهم لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلاً عن الأموات، وفي ذلك نزل قوله سبحانه:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ *وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) (١) .

وروى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم قتل حمزة ومثّل به: لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ) الآية، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل نصبر يا ربّ. فصبر ونهى عن المثلة » والظّاهر أنّ الحكاية الاُولى أوثق وذلك لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أجلّ وأعلى شأناً من أن يتمنّى قصاصاً فيه اجحاف وانتقاص بالآخرين.

وروى البيهقي عن محمّد بن كعب القرظي قال: لـمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حمزة بالحال التي هو بها حين مثّل به، قال: لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بثلاثين منهم، فلمّا رأى أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما به من الجزع قالوا: لئن ظفرنا بهم لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب بأحد، فأنزل الله عزّ وجلّ:( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ) إلى آخر السورة فعفا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

والإختلاف بين الحكايتين واضح لكنّ محمّد بن كعب القرظي من بني قريظة الذين تمّت إبادتهم أيام رسول الله في المدينة ولم يبق منهم إلّا قلّة قليلة، ولا يعبأ بنقله، ولعلّ غرضه الازدراء بالنبيّ وادّعاء عدم قيامه بمقتضى العدل.

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٦٠٥.

(٢) دلائل النبوّة: ج ٣ ص ٢٨٦، والسيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٩٥.

٣٦٣

مطاردة العدو:

ثمّ إنّه لـمّا بلغ رسول الله أنّ العدو بصدد معاودة الكرّة إلى المدينة حتّى يستأصل بقية المسلمين، فأمر رسول الله المؤذّن أن يؤذّن بالخروج إلى مطاردة العدو وأن لا يخرج إلّا من حضر الأمس في المعركة، وإليه يشير قوله سبحانه:( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٧٢ ـ ١٧٥ ).

ويستفاد من جملتها:

( أوّلاً ): إنّ المؤمن إذا انتابته الهزيمة واعتراه الإنكسار الظاهري لا يصل به الأمر إلى فقد الثقة بالله سبحانه وتعالى، فلو تمكّن من معاودة الكرّة لتحقيق الإنتصار لهبّ مسرعاً ولم يقعد به القرح ولا يكون جليس البيت لأجل ملمّة ألـمـّت به، وإليه يشير قوله سبحانه:( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ ) .

( وثانياً ): لو بلغهم تأهّب العدوّ لكرّ عليهم ثانياً وجاءت النذر يخوفونهم من بأس العدو ومازادهم إلّا إيماناً وثقة وانقطاعاً إلى الله وقالوا:( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) .

( وثالثاً ): إنّ ما جاءت به النذر من الأنباء إنّما كانت من الشياطين الّذين يخوّفون أولياءهم، وأمّا المؤمنون فإنّهم قد خرجوا عن نطاق تأثير تلك الإرهاصات النفسيّة.

غزوة اُحد بين السلبيات والإيجابيّات:

إنّ غزوة اُحد كسائر الغزوات التي تمخّض عنها ما هو سلبي وما هو إيجابي، وقد ورد في الذّكر الحكيم آيات تشير إلى جملتها، وإليك نصوصها مشفوعة بما

٣٦٤

يليق بها من التحليل:

قال عزّ وجلّ:( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) .

( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) .

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) ( آل عمران / ١٤٠ ـ ١٤٣ ).

( مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران / ١٧٩ ).

ويستفاد من هذه الآيات ما يلي:

١ ـ الانتصار والانكسار من سنن الله:

إنّ من سنن الله تعالى الطبيعية في الاُمم أنّه لم يكتب على جبين اُمّة السيادة والإنتصار في جميع الأزمنة والأمكنة، وكذلك شأن الهزيمة. فهي تعيش بين هذين مقبلة ومدبرة تارة اُخرى كما يشير إليه قوله سبحانه:

( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

٢ ـ التمحيص بالمحنة والبلاء:

إذا كتب النصر على جبين اُمّة على ممرّ الأعصار والدهور لم يتميّز المؤمن عن المنافق والصابر المجاهد عن المتهاون المتقاعد، وقد كان المسلمون قبل لقاء العدوّ

٣٦٥

يتمنّون الموت ولكنّهم فشلوا في الإمتحان عند اللّقاء كما يشير إليه قوله:( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ ) وقد طبّقت غزوة اُحد ذلك المقياس وقد عرفت ما آل إليه جيش المسلمين حيث إنقسموا إلى ثلاث طوائف أو أكثر، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) وقوله سبحانه:( وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) وقال أيضاً:( مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) .

٣ ـ خُلّص الغزاة شهداء على الأعمال:

وقد بلغ إخلاص بعض الغزاة إلى حدّ جعلهم يتسنّمون درجة الشهادة على الأعمال وهي درجة رفيعة تحتاج إلى بصيرة مثاليّة وكماليّة في القلب حتّى يشهد على سائر إخوانه بخير أو شرّ كما يشير إليه قوله سبحانه:( وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ) ومع ذلك فربّما يحتمل أن يراد من الشهداء في الآية هو الشهيد في المعركة والمضحّي بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الحق.

٤ ـ الجنّة رهن الجهاد والصمود:

إنّ إستحقاق دخول الجنّة لا يكتسب بمجرّد التفوّه بمحض عبارات اللّسان بل يحتاج إلى عظيم جهاد بالنفس والنفيس.

وإليه يشير قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) .

هذا ما يستفاد من جملة هذه الآيات، وهناك طائفة اُخرى من الآيات وردت في شأن تلك الغزوة فيها من العظات والحكم البليغة.

٣٦٦

٥ ـ استنهاض الهمم والعزائم:

لا شكّ أنّ الهزيمة والانكسار في الحرب من أعظم عوامل تثبيط العزائم كما أنّ الإنتصار من أقوى عوامل النهوض بها وتتويجها بتاج الإستبسال والبطولة.

وبما أنّ الهزيمة كانت قد لحقت بالمسلمين في خاتمة المعركة فقد كان لها بطبيعة الحال آثار سيّئة مروّعة خصوصاً عند ظهور الأعداء عليهم فهم قد انبروا يحيكون حولها من الأراجيف، قال عليٌّعليه‌السلام : « إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه »(١) فعاد الذكر الحكيم يعالج هذا الداء المزمن الّذي استشرى في نفوس المسلمين وتمكّن في قلوبهم وذلك بإعلامهم بأنّ الموت من سنن الله سبحانه الحتميّة وأنّ لكلّ نفس كتاباً مؤجّلاً لا يتخلّف ولا يحيد عنه أبداً، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران / ١٤٥ ).

٦ ـ الاعتبار بالاُمم الماضية:

إنّه سبحانه من أجل رفع معنويّات المسلمين واستنهاض هممهم يذكرّهم بالاُمم الماضية وكيف أنّ فئتهم القليلة كانت تغلب الفئات الكثيرة وتجعل الصبر على البلاء دثارها وذلك لأخذ هم بأسباب النّصر من الصمود والمفاداة في سبيل إظهار الحق واعلاء كلمته، قال سبحانه:( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) ( آل عمران / ١٤٦ ).

( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ( آل عمران / ١٤٧ ).

__________________

(١) نهج البلاغة قسم الحكم رقم ٢.

٣٦٧

٧ ـ إخماد ثائرة الفتنة:

ولـمّا رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن أصابهم ما أصابهم فوجئوا بشماتة المتقاعدين والمنافقين حيث خاطبوهم بقولهم: لو كنتم معنا لما قتلتم، وذلك ما يحكيه عنهم سبحانه بقوله:( الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( آل عمران / ١٦٨ ).

وقد ورد ذلك المضمون في موضع آخر من السورة في قوله سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( آل عمران / ١٥٦ ).

فهو سبحانه يجيب عن هذه الشبهة باُمور:

أ ـ ما أشار إليه في قوله:( قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وحاصله أنّ قولكم « لو أطاعونا ما قتلوا » يعرب عن أنّ القائل يعتقد بأنّ الموت والحياة بيد الانسان ولو صحّ ذلك فليدفع الموت عن نفسه، مع أنّه سنّة الله الحتميّة في جميع الكائنات.

ب ـ بأنّ موت الإنسان في ساحة القتال مع الشرك ليس موتاً حقيقياً وإنّما هو في حقيقة الأمر ارتحال من دار إلى دار ومن حياة مادّية إلى حياة مثالية وأبدية سرمدية في خاتمة المطاف في جنات النعيم وأنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم بما هم فيه من حياة بلا كآبة ووجل، قال سبحانه:

( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ إلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران / ١٦٩ ـ ١٧١ ).

ثمّ إنّ المستفاد منها أنّ حياة الشهداء حياة حقيقية لها آثار جسمية ولها آثار

٣٦٨

روحية، ومن آثارها الجسميّة هو الرزق، ومن آثارها النفسية الاستبشار، فمن زعم أنّ المراد من حياة الشهداء هو خلودهم في صفحة تاريخ أمجاد الشعوب فقد فسّر القرآن تفسيراً مادّياً أعاذنا الله تعالى منه ولذلك قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في جوابه لأبي سفيان ـ عندما قال: « إنّ الحرب سجال يوم بيوم » ـ:

« قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار ».

وقال الإمام الحسين حينما أمر أصحابه بالصبر:

« صبراً بني الكرام فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، وإنّ أبي حدّثني عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبت ولا كذّبت »(١) .

فما جاء في كلامهعليه‌السلام صريح في كون الحياة حياة حقيقية.

وهذه الآيات بجملتها قد تناولت غزوة اُحد بجوانبها المختلفة وهناك آيات أخرى أيضاً وردت بالتنديد بالمتقاعدين وباستنهاض هممهم مثل قوله سبحانه:( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران / ١٣٩ و ١٤٠ ).

__________________

(١) بلاغة الحسين ص ٤٧.

٣٦٩

٣ ـ غزوة الخندق

أجلى النبي الأكرم قبيلتي « بني قينقاع » و « بني النضير » من المدينة المنوّرة إلى شمال شبه الجزيرة العربيّة فنزلت عدّة منهم قلاع خيبر ورحلت عدّة اُخرى منهم إلى الشام ولبثتا تتحيّنان الفرص لإدراك ثأرهما من النبيّ وأصحابه والإنقضاض عليهم في عقر دارهم، وقد كان اليهود أبصر خصوم المسلمين وأشدّهم حنكة وسياسة، فهم كانوا دعاة التوحيد في شبه الجزيرة العربية، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم حيث كانوا دعاة التثليث، وفي خِضَمُّ هذه الظروف فوجئوا ببزوغ نجم شخصيّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه الجديد حيث يدعوا إلى التوحيد بعبارات قويّة جذّابة وبمبادئ خلّابَة تأخذ بمجامع القلوب وتستقطب الأفكار.

ولأجل ذلك اجتمعت كلمتهم على تأليب العرب وإثارة حفائظهم ضدّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسلوا رسلهم إلى قريش منهم سلّام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق من بني النضير، ونفراً من بني وائل حتى قدموا قريشاً فدعوهم إلى حرب رسول الله وقالوا: إنّا سنكون معكم حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الاُوّل والعلم وتعلمون اختلافنا ومحمّد، أفديننا خير أم دينه ؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق.

الله أكبر ما هذه الشراسة والصلافة والوقاحة ! وهم يزعمون أنّهم دعاة التوحيد وهاهم يفضّلون ويرجّحون الوثنيّة على التوحيد بملء فيهم لغاية التشفّي والإنتقام، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ

٣٧٠

وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً *أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ) ( النساء / ٥١ ـ ٥٢ )(١) .

فلمّا قالوا ذلك لقريش طاروا فرحاً وامتلأوا سروراً ونشطوا لإنجاح وتلبية ما دعوهم إليه من حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولـمـّا تمكّنوا من أخذ الميثاق منهم على الحركة صوب المدينة في وقت مُخصّص ارتحلوا من مكّة إلى شمال الجزيرة فجاءوا إلى غطفان من قيس بن غيلان ومن بني مرّة، ومن بني فزارة، ومن أشجع، ومن سليم، ومن بني سعد، ومن أسد التي هي بمجموعها تشكّل بطون غطفان، وما زالوا بهم يحرّضونهم ويستحثّونهم ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فاجتمع أمرهم على نصرتهم ووعدهم يهود خيبر على أن يدفعوا إليهم محاصيل نخيلهم طيلة عام واحد ازاء نصرتهم لهم ومعاضدتهم إيّاهم(٢) .

حفر الخندق واحداثه حول المدينة(٣) :

ولـمـّا بلغ رسول الله اتّفاق كلمتهم على حربه واجتماع قبائلهم على غزوه، أخذ يخطّط لكيفيّة الدفاع وصدّ هجوم القبائل عليه في عقر داره. إذ فرق كبير بين غزوتي بدر واُحد وغزوة الخندق، فإنّ المحاربين في هذه الغزوة المترقبة أشد شراسة وعدداً وعدّة من سلفهم، ومن أجل ذلك فإنّ الصمود في وجهم يحتاج إلى حنكة عسكرية فائقة وتخطيط حربي متقن فاستشار أصحابه في أمرهم فقال سلمان: يا رسول الله إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة، قال: فما نصنع ؟ قال: نحفر خندقاً يكون بيننا

__________________

(١) وقد أشبعنا الكلام في توضيح الآية في الفصل المخصّص بأهل الكتاب فراجع.

(٢) المغازي للواقدي: ج ٢ ص ٤٤٦.

(٣) عسكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة فحاصروه خمس عشرة وانصرف يوم الأربعاء لسبع بقين سنة خمس، وقد استعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم.

٣٧١

وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتوا من كل وجه، فإنّا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا باغتنا العدو نحفر خندقاً فتكون الحرب من مواضع معروفة، فأمر رسول الله بالحفر من ناحية « اُحد » إلى « راتج » وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة(١) قوماً من المهاجرين يحفرونه، فحملت المساحي والمعاول وبدأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأميرالمؤمنينعليه‌السلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعيّ وقال: « لا عيش إلّا عيش الآخرة أللّهم اغفر للأنصار والمهاجرة » فلمّا نظر الناس إلى رسول الله يحفر اجتهدوا في الحفر ونقل التراب فلمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر(٢) .

ومع ذلك أبطأ عن رسول الله وعن المسلمين رجال من المنافقين يستترون بالضعيف من العمل ويتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إذن، وأمّا غيرهم من المسلمين فإذا نابته النائبة من الحاجة التي لابدّ له منها يذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فاذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباً له(٣) .

فخرجت قريش ومن لحق بها من أحابيشها أربعة آلاف فارس وعقدوا اللواء في دار الندوة وقادوا معهم ثمانمائة فرس، وكان معهم من الظهر ألف وخمسمائة بعير لحمل أمتعتهم ومؤونتهم.

وأمّا من غير قريش فقد خرجت جموح من القبائل، فبلغ القوم الذين وافوا

__________________

(١) ولعلّ في النصّ سقط، ويحتمل أن يكون الصواب بهذا النحو: وجعل على كل عشرين خطوة قوماً من المهاجرين وعلى كل ثلاثين خطوة قوماً من الأنصار، والوجه في ذلك كثرة عدد الأنصار وقلّة عدد المهاجرين فتأمّل.

(٢) البحار: ج ٢٠ ص ٢١٨.

(٣) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢١٦.

٣٧٢

الخندق من قريش وسواهم عشرة آلاف بين راكب وراجل، فنزلت قريش برومة ووادي العقيق في أحابيشها ومن انضوى إليها من العرب، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بالزغابة بجانب اُحد(١) .

وخرج رسول الله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم(٢) .

بينما كانت قريش وحلفاؤها ترجو أن تلقى المسلمين باُحد، فلم تجد عنده أحداً فجاوزته إلى المدينة حتى فاجأها الخندق، ولم تكن عارفة بهذا الاُسلوب من الدفاع، فرابطوا حول الخندق وعلموا أنّهم لا يستطيعون اقتحامه واجتيازه بعد جهد جهيد، فاكتفوا بتراشق النبل والسهام عدّة أيّام متوالية وكلّما أراد بطل من أبطال الحلفاء أن يجتاز الخندق، رُمي بالحجارة والنبل من خلف كثبان الرمل التي نصبت على أطرافه في مواقع المسلمين، وقد استمرّت الحال على هذا المنوال قرابة خمسة عشر يوماً أو أزيد.

قال المقريزي: كان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبوسفيان بن حرب في أصحابه يوماً وخالد بن الوليد يوماً ويغدو عمرو بن العاص يوماً وهبيرة بن أبي وهب يوماً وعكرمة بن أبي جهل يوماً وضرار بن الخطاب الفهري يوماً، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرّقون مرّة ويجتمعون مرّة اُخرى ويناوشون المسلمين ويقدّمون رماتهم فيرمون، وإذا أبوسفيان في خيل يطيفون بمضيق من الخندق فرماهم المسلمون.

حتى رجعوا وكان عبّاد بن بشر ألزم الناس لقبّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحرسها وكان « أسيد بن حضير » يحرس في جماعة، فاذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولّوا، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في فقر وجوع وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كثيراً ما يطلبان

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ٢ ص ٤٤٤.

(٢) السيرة النبويّة: ج ٢ ص ٢٢٠.

٣٧٣

غرّة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه فكانت للمسلمين معها وقائع في تلك الليالي(١) .

فأقام رسول الله والمشركون بضعاً وعشرين ليلة، فبينما الناس على ذلك من الخوف والبلاء ولم يكن قتال إلّا الحصار والرمي بالنبل إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ، وعكرمة ابن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مرّوا على منازل بني كنانة ووقفوا فقالوا: تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم، ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.

ثم يمّموا شطرهم مكاناً من الخندق ضيّقاً، فضربوا خيولهم فجالت بهم حتى عبرت الخندق فطلب عمرو بن عبد ودّ البراز مرّة بعد اُخرى إلىٰ أن ارتجز بقوله:

ولقد بححت من النداء

بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجع

موقف القرن المناجز

ولذاك إنّي لم أزل

متسرّعاً قبل الهزائز

إنّ الشجاعة في الفتى

والجود من خير الغرائز(٢)

ثمّ قال النبي لأصحابه ثلاث مرّات: أيّكم يبرز لعمرو وأضمن له على الله الجنّة، في كلّ مرّة كان يقوم عليٌّ فاستدانه وعمّمه بيده، فلمّا برز قال: « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » وقال: « أللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم اُحد وهذا أخي عليّ بن أبي طالب، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين »(٣) .

وقال الواقدي: إنّ المسلمين كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته، فلمّا استقبله عليٌّ ارتجز بقوله:

__________________

(١) امتاع الأسماع ص ٢٤١.

(٢) دلائل النبوّة: ج ٣ ص ٤٣٨.

(٣) بحار الأنوار: ج ٢٠ ص ٢١٥ نقلاً عن كنز الفوائد للعلامة الكراجكي ص ١٣٦.

٣٧٤

لا تعجلنّ فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة

والصدق منجى كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اُقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء

يبقى ذكرها عند الهزائز

فقال له عمرو: ومن أنت ؟ قال: أنا عليٌّ. قال: ابن عبد مناف ؟ فقال: عليّ بن أبي طالب. فقال: غيرك يا ابن أخي ومن أعمامك من هو أسنّ منك فأنا أكره أن أهريق دمك.

وقال الواقدي: أقبل عمرو يومئذٍ وهو فارس وعليّ راجل فقال له عليٌّعليه‌السلام : إنّك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلّا قبلتها ! قال: أجل ! قال عليٌّ: فإنّي أدعوك أن تشهد أن لا إلٰه إلّا الله وأنّ محمداً رسول الله وأسلم لله رب العالمين، قال: يا ابن أخي أخّر هذا عني. قال: فاُخرى ترجع إلى بلادك فإن يكن محمد صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن كان غير ذلك كان الذي تريد، قال: هذا ما لا تتحدّث به نساء قريش أبداً، وقد نذرت ما نذرت وحرّمت الدهن، قال: فالثالثة ؟ قال: البراز، قال: فضحك عمرو، ثمّ قال: إنّ هذه الخصلة ما كنت أظن أنّ أحداً من العرب يرومني عليها إنّي لأكره أن أقتل مثلك وكان أبوك لي نديماً، فارجع فأنت غلام حدث وإنّما أردت شيخي قريش أبا بكر وعمر قال، فقال عليٌّعليه‌السلام : فإنّي أدعوك إلى المبارزة فأنا أحبّ أن أقتلك، فأسفّ عمرو ونزل وعقل فرسه(١) وسلّ سيفه كأنة شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضباً، فأنحى بسيفه على هامّة عليٍّ، فصدّها عليٌّ بمجنّه فانقدّ المجن واثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه، فعاجله عليٌّ فضربه على حبل العاتق فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله التكبير فعرف أنّ عليّاً قد قتله، وعند ذلك خرجت خيلهم منهزمة حتى جاوزت الخندق هاربة، ثمّ أقبل عليٌّ نحو رسول الله ووجهه يتهلّل، فقال عمر بن الخطاب هلا استلبته درعه ؟ فإنّه ليس للعرب درع خير منها

__________________

(١) المغازي للواقدي: ج ٢ ص ٤١٧.

٣٧٥

فقال: ضربته فاتقاني بسواده(١) فاستحييت ابن عمي أن استلبه ثمّ أنشد يقول:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت ربّ محمد بصواب

فصددتّ حين تركته متجدّلاً

كالجذع بين دكادك(٢) ورواب

لا تحسبنّ الله خاذل دينه

ونبيّه يا معشر الأحزاب(٣)

استبشار المؤمنين وكآبة المشركين:

قد كان الخوف والوجل مستولياً على نفوس المسلمين منذ جاء الأحزاب وحاصروا المدينة ولـمـّا قتل عليٌّ بطل الأحزاب وفارسها وانهزم من كان معه من أبطالهم وذؤبانهم، حتى أنّ عكرمة بن أبي جهل ألقى رمحه يومئذٍ وفرّ، انقلبت الاُمور رأساً على عقب، فصار الخوف والهلع نصيب المشركين ومخيّماً عليهم. هذا من جانب، ومن جانب آخر، كان الوقت إذ ذاك شتاءً قارساً برده، عاصفة رياحه، يخشى في كل وقت مطره، فالخيام التي ضربوها أمام يثرب لا تحميهم منها فتيلاً.

ومن ناحية ثالثة وقف أبو سفيان وحلفاؤه على أنّ الخندق مادام حائلاً بينهم وبين المسلمين والأبطال منهم يذودون عنه بالنبال والحجارة، وما دامت بنو قريظة تمدّ المسلمين بالمؤونه امداداً، فإنّه من الصعب العسير إحراز النصر عليهم بل بإمكانهم الصمود أمامهم على تلك الحال مدّة مديدة تطول مع الشهور، والحل الوحيد الذي أصبح أمامهم هو أن ترجع الأحزاب إلى أدراجهم.

ولكن إجتماع هؤلاء الأحزاب على حرب المسلمين مرّة اُخرى ليس بالأمر

__________________

(١) هكذا في المصدر ولعلّ الصحيح: بسوأته.

(٢) جمع « دكداك » وهو الرمل اللّين، و « الروابي »: جمع « رابية » وهي الكدية المرتفعة.

(٣) السيرة النبويّة لابن هشام: ج ٢ ص ٢٦٥.

٣٧٦

الميسور فإن افلتت الفرصة ربّما لم يسنح لهم الزمان بمثلها في المستقبل.

هذه النهاية التي آل إليها أمر الأحزاب وكانوا في حيرة من أمرهم وغمّة شديدة.

وعند ذلك تفطّن حيي بن أخطب فتيل الفتنة بأنّ في إمكانه أن يتّصل ببني قريظة القاطنين في داخل المدينة ويحرّضهم على نقض عهدهم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين، فعند ذلك تنقطع الميرة والمؤونة والمدد أوّلاً، وينفتح الطريق لدخول يثرب من قلاع بني قريظة ثانياً.

وخال حيي بن أخطب بأنّه جاء بمكيدة محكمة، فعرضت فكرته على قريش وغطفان فحبّذاها وسارعا إلى انجازها فذهب بنفسه يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وقد أغلق كعب دونه باب حصنه إذ عرف أنّه حيى بن أخطب، ولكنّه آخر الأمر فتح باب قلعته واعتنق نظريّته ونقض عهده مع الرسول، وأوجد ذلك قلقاً شديداً بين المسلمين، وقد ذكرنا تفصيله عند البحث عن أهل الكتاب، ولكنّه سبحانه دفع شرّهم بحدوث الاختلاف بين المشركين وبني قريظة فآل الأمر إلى انجلاء الأحزاب من ساحة القتال من دون نتيجة وإليك بيانه:

انقسام المشركين على أنفسهم:

إنّ نعيم بن مسعود أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. فقال رسول الله: إنّما أنت فينا رجل واحد فادخل بين القوم خذلانا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم. البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه

٣٧٧

وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان ذلك لحقوا ببلادهم، وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه، فقالوا له: أشرت بالرأي.

ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّى لكم وفراقي محمداً وانّه بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّاً أن اُبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عنّي، فقالوا: نفعل. قال: تعلَّموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد وقد أرسلوا إليه: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثمّ نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.

ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنّكم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمنّهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك ؟

ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.

فلمّا كانت ليلة السبت من شوّال سنة خمس أرسل أبو سفيان بن حرب ووجهاء غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل، فقالوا لهم لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّداً، فأجابوا أنّ اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً ومع ذلك لسنا بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً، فإنّنا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال تتركوننا في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه، فلمّا رجعت إليهم الرسل بما قالته بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: والله إنّ الذي حدّثكم به نعيم بن مسعود لحق، فارسلوا إلى بني قريظة: إنّا لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون

٣٧٨

القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بني قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك تفرّقوا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين محمّد في بلدكم، فارسلوا إلى قريش وغطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم.

فلمّا كان ليلة السبت بعث الله عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم، ولـمـّا انتهى إلى رسول الله ما فرّق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً.

فذهب حذيفه ورجع بقوله: دخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قِدراً ولا ناراً ولا بناءاً، فقال أبوسفيان: يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف واخلفنا بنو قريظة ولقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قِدْر ولا تقوم لنا نار فارتحلوا فإنّي مرتحل.

وبذلك اختلفت الأحزاب ولم يبق منهم أحد وأصبح الصبح ولم ير منهم شيء، فرجع المسلمون إلى منازلهم شاكرين.

هذا خلاصة ما أفادته كتب السير والتواريخ(١) وإليك تحليل ما ورد حول تلك الواقعة من الآيات ولا محيص لمفسّر عن الوقوف بما جاء في كتب السيرة فإنّها كالقرائن المنفصلة لفهم معنى ما تضمّنته الآيات الشريفة ونحن نذكر الآيات الواردة حول هذه الغزوة كاملة ثمّ نعقبّها، بما تسنح به الفرصة من التحليل والتوضيح.

__________________

(١) راجع السيرة النبويّة: ج ٢، ومغازي الواقدي: ج ٢، وبحار الأنوار: ج ٢٠، ومجمع البيان: ج ٤.

٣٧٩

غزوة الأحزاب في الذكر الحكيم

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا *إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا *هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلّا غُرُورًا *وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلّا فِرَارًا *وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إلّا يَسِيرًا *وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولاً *قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلاً *قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا *قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلّا قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا *يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إلّا قَلِيلاً *لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا *وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا *مِّنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً *لِّيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا *وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا *وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا *وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) ( الأحزاب / ٩ ـ ٢٧ ).

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496