الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237867 / تحميل: 7590
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة :( وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى ) ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هنا ليس كلّ المعجزات التي ظهرت على يد موسىعليه‌السلام طيلة حياته في مصر. بل مرتبطة بالمعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته ، معجزة العصا ، واليد البيضاء ، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة ، والتي كانت بنفسها دليلا حيّا على أحقّيته ، ولذلك تطالعنا بعد هذه الحادثة مسألة المواجهة بين السّحرة وموسىعليه‌السلام ومعجزاته الجديدة.

والآن ، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته ، وكيف اتّهمه كما هي عادة كلّ المتسلّطين والحكّام المتعنّتين :( قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى ) وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوّة والدعوة إلى التوحيد ، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للانتصار علينا ، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا ، فليس هدفك الدعوة إلى التوحيد ، ولا نجاة وتخليص بني إسرائيل ، بل هدفك الوصول إلى الحكم والسيطرة على هذه الأرض ، وإخراج المعارضين!

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على امتداد التاريخ ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر ، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر ، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة ، ووجوده يعني وجودهم!

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ الهدف من جلب بني إسرائيل إلى مصر ، والاحتفاظ بهم في هذه الأرض لم يكن من أجل استغلال قواهم كعبيد وحسب ، بل إنّهم في الوقت نفسه كانوا لا يريدون لبني إسرائيل ، الذين كانوا قوما أقوياء ، أن يتحوّلوا إلى قوّة ومصدر خطر. وكذلك لم يكن الأمر بقتل الذكور للخوف من ولادة موسى فقط ، بل للوقوف أمام قوّتهم والحدّ منها ، وهذا عمل يقوم به كلّ الأقوياء الظالمين ، وبناء على هذا فإنّ خروج بني إسرائيل ـ حسب طلب موسى ـ

٢١

يعني اقتدار هذه الأمّة ، وفي هذه الحالة سيتعرّض سلطان الفراعنة وعرشهم إلى الخطر.

والنقطة الأخرى في هذه العبارة القصيرة ، هي أنّ فرعون قد اتّهم موسى بالسحر ، وهذا هو ما اتّهم به كلّ الأنبياء عند إظهار معجزاتهم البيّنة ، كما نقرأ ذلك في الآيتين (52 ـ 53) من سورة الذاريات :( كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) .

وتجدر الإشارة إلى هذه المسألة أيضا ، وهي أنّ إثارة المشاعر الوطنية وحبّ الوطن في مثل هذه المواضع أمر مدروس بدقّة كاملة ، لأنّ أغلب الناس يحبّون أرضهم ووطنهم كحبّهم أنفسهم وأرواحهم ، ولذلك جعلوا هذين الأمرين في مرتبة واحدة ، كما في بعض آيات القرآن :( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) (1) .

ثمّ أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ) ، ولكي يظهر حزما أكثر فإنّه قال :( فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ) .

وذكر البعض في تفسير( مَكاناً سُوىً ) : إنّ المراد هو أن تكون فاصلته عنّا وعنك متساوية ، وقال بعضهم : أن تكون فاصلته متساوية بالنسبة إلى الناس ، أي أن يكون المكان في وسط المدينة تماما ، وقال بعض : المراد أن تكون الأرض أرضا مكشوفة ومسطّحة يشرف عليها الجميع ، وأن يتساوى في ذلك العالي والداني. ويمكن أن تعتبر كلّ هذه المعاني مجتمعة فيها.

وينبغي التذكير بأنّ الحكّام الطغاة ، ومن أجل أن يهزموا خصمهم في المعركة ، ويرفعوا معنويات أتباعهم وأعوانهم الذين ربّما وقعوا تحت تأثيره (كما في قصّة

__________________

(1) النساء ، 66.

٢٢

موسى ومعجزاته فلا يبعد أن يكونوا قد وقعوا تحت تأثيره) فإنّهم يعيدون إليهم المعنويات والقوّة ، ويتعاملون في الظاهر مع أمثال هذه المسائل بصرامة وشدّة ، ويثيرون الصخب حولها!

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه ، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقا ، بل قال بحزم :( قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (1) .

إنّ التعبير بـ( يَوْمُ الزِّينَةِ ) إشارة إلى يوم عيد كان عندهم لا نستطيع تعيينه بدقّة ، إلّا أنّ المهمّ هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه ، وكانوا حتما مستعدّين للمشاركة في مثل هذا «المشهد».

على كلّ حال ، فإنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة ، وتأثيرها النفسي في أنصاره ، صمّم على مواجهة موسىعليه‌السلام بالاستعانة بالسّحرة ، ولذلك وضع الاتّفاق المذكور مع موسى( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى ) .

في هذه الجملة القصيرة تلخّصت حوادث جمّة جاءت بشكل مفصّل في سورتي الأعراف والشعراء ، لأنّ فرعون بعد تركه ذلك المجلس ومفارقة موسى وهارون ، عقد اجتماعات عديدة مع مستشاريه الخاصّين ، وأتباعه المستكبرين ، ثمّ دعا السّحرة من جميع أنحاء البلاد إلى الحضور في العاصمة ، ورغّبهم بمرغّبات كثيرة من أجل مواجهة موسىعليه‌السلام ، وامور أخرى ليس هنا مجال بحثها ، إلّا أنّ القرآن الكريم قد جمّعها كلّها في هذه الجمل الثلاث :( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ، ثُمَّ أَتى ) (2) .

وأخيرا حلّ اليوم الموعود ، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين ، الذين كان بعضهم السّحرة ، وكان عددهم ـ على رأي بعض المفسّرين ـ إثنين وسبعين

__________________

(1) «الضحى» في اللغة بمعنى زيادة أشعّة الشمس ، أو ارتفاع الشمس ، والواو في جملة (وأن يحشر الناس) دالّة على المعيّة.

(2) بالرغم من أنّ (تولّى) فسّرت هنا بالافتراق عن موسى ، أن عن ذلك المجلس ، إلّا أنّ من الممكن أن تعكس ـ مع ملاحظة معناها من الناحية اللغوية ـ حالة الاعتراض والغضب لدى فرعون. وموقفه المعادي تجاه موسى.

٢٣

ساحرا ، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة ، وذكر البعض أعدادا أكبر أيضا. وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته ، وأخيرا القسم الثّالث الذي كان يشكّل الأكثرية ، وهم الناس المتفرّجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة ، أو إلى الفراعنة ، والسّحرة ، و( قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) . وواضح أنّ مراد موسى من الافتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصا أو شيئا شريكا له ، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر ، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم ، ومن المحتّم أنّ الله سبحانه سوف لا يدع من ينسبون هذه الأكاذيب إلى الله ، ويسعون بكلّ قواهم لإطفاء نور الحقّ ، بدون عقاب.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه ، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كلّ الأنبياء الحقيقيين ، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر ، فأثّرت على بعض القلوب ، وأوجدت اختلافا بين ذلك الحشد من السّحرة ، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة ، وبعض تردّد في الأمر ، واحتمل أن يكون موسىعليه‌السلام نبيّا إليها ، وأثّرت فيهم تهديداته ، خاصّة وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام ، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين ، كان يعتبر دليلا آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى ) .

إنّ من الممكن أن تكون هذه المسارّة والنجوى أمام فرعون ، ويحتمل أيضا أن لا تكون أمامه ، وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ القائمين على إدارة هذا المشهد قد تناجوا في خفاء عن الناس.

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة انتصروا أخيرا وأخذوا زمام المبادرة بيدهم ، وشرعوا في تحريك السّحرة بطرق مختلفة ، فأوّلا( قالُوا إِنْ هذانِ

٢٤

لَساحِرانِ ) (1) وبناء على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما ، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة ، ولأنّ قوتكم وقدرتكم أكبر منهما!

ثمّ إنّهما( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما ) الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم ، إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم ، بل إنّهما يريدان أيضا أن يجعلا مقدّساتكم أضحوكة ومحلّا للسخرية( وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى ) (2) .

والآن حيث أصبح الأمر كذلك ، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقا مطلقا ، بل( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ) لأنّ الوحدة رمز انتصاركم في هذه المعركة المصيريّة الحاسمة( وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى ) .

* * *

__________________

(1) إنّ هذه الجملة من ناحية الإعراب هي : (إن) مخفّفة من (أنّ) ولذلك لم تعمل عملها فيما بعدها ، إضافة إلى أنّ رفع اسم (إن) ليس قليلا في لغة العرب.

(2) «الطريقة» تعني العادة والأسلوب المتبع ، والمراد منها هنا المذهب. و (مثلي) من مادّة (مثل). وهي هنا تعني العالي والأفضل ، أي الأشبه بالفضيلة.

٢٥

الآيات

( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام ينزل إلى الساحة :

لقد اتّحد السّحرة ظاهرا ، وعزموا على محاربة موسىعليه‌السلام ومواجهته ، فلمّا نزلوا إلى الميدان( قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ اقتراح السّحرة ، هذا إمّا أن يكون من أجل أن يسبقهم موسىعليه‌السلام ، أو إنّه كان احتراما منهم لموسى ، وربّما كان هذا الأمر هو الذي هيّأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسىعليه‌السلام ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.

٢٦

إلّا أنّ هذا الموضوع يبد وبعيدا جدّا ، لأنّ هؤلاء كانوا يسعون بكلّ ما أوتوا من قوّة لأن يسحقوا ويحطّموا موسى ومعجزته ، وبناء على هذا فإنّ التعبير آنف الذكر ربّما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.

غير أنّ موسىعليه‌السلام بدون أن يبدي عجلة ، لاطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز( قالَ بَلْ أَلْقُوا ) . ولا شكّ أنّ دعوة موسىعليه‌السلام هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لإظهار الحقّ ، ولم يكن من وجهة نظر موسىعليه‌السلام أمرا مستهجنا ، بل كان يعتبره مقدّمة لواجب.

فقبل السّحرة ذلك أيضا ، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول : إنّهم كانوا آلاف الأفراد ، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة ألقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة( فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ) !

أجل ، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة ، وفي أشكال مختلفة ومخيفة ، ونقرأ في الآيات الأخرى ، من القرآن الكريم في هذا الباب :( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ) (1) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء :( وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ ) .

لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي موادا كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وارتفعت حرارته وسخن ، فإنّه يولّد لهؤلاء ـ نتيجة لشدّة فورانه ـ حركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيرا وسعيا حتما ، إلّا أن إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس ، والمشهد

__________________

(1) الأعراف ، 116.

٢٧

الخاص الذّي ظهر هناك ، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح ، وهي تتحرّك الآن. (وتعبير( سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ) إشارة إلى هذا المعنى أيضا ، وكذلك تعبير( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضا).

على كلّ حال ، فإنّ المشهد كان عجيبا جدّا ، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيرا ، وتمرسهم واطلاعهم في هذا الفن عميقا ، وكانوا يعرفون جيدا طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة ، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.

فعلت صرخات السرور من الفراعنة ، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ) وكلمة «أوجس» أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي ، وبناء على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي ، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّا وخفيفا ، ولم يكن يعني أنّه أولى اهتماما لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة ، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.

أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته ، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم ، كما نقرأ في خطبة الإمام عليعليه‌السلام الرقم (6) من نهج البلاغة : «لم يوجس موسىعليه‌السلام خيفة على نفسه ، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال»(1) . ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسىعليه‌السلام .

__________________

(1) لقد قال الإمام عليعليه‌السلام هذا الكلام في وقت كان قلقا من انحراف الناس ، ويشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ قلقي ليس نابعا من شكّي في الحقّ.

٢٨

على كلّ حال ، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال ، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن :( قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ) .

إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم ـ فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير ، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى ، وكذلك كون الجملة اسميّة ـ وبهذه الكيفيّة ، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة أخرى بقوله تعالى :( وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) .

«تلقف» من مادة «لقف» بمعنى البلع ، إلّا أنّ الراغب يقول في مفرداته : إنّ معناها في الأصل تناول الشيء بحذق ، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفمّ. وفسّرها بعض اللغويين بأنّها التناول بسرعة.

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا ، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة ، بل المهم إرادة الله وأمره ، فإنّه إذا أراد الله شيئا ، فليست العصا فقط ، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدّرة!

وهنا نقطة تستحقّ الذكر أيضا وهي : إنّ كلمة (ساحر) في الآية وردت أوّلا نكرة ، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس ، وربّما كان هذا الاختلاف لأنّ الهدف في المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السّحرة ، ومعنى الجملة : إنّ العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلّا مكر ساحر. أمّا في المورد الثّاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام ، وهو أنّه ليس هؤلاء السّحرة فقط ، بل كلّ ساحر في كلّ زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح.

* * *

٢٩

بحثان

1 ـ ما هي حقيقة السحر؟

بالرغم من أنّنا تحدّثنا بصورة مفصّلة فيما مضى عن هذا الموضوع ، إلّا أنّنا نرى أن نذكر على سبيل الإيضاح باختصار أنّ «السحر» في الأصل يعني كلّ عمل وكلّ شيء يكون مأخذه خفيا ، إلّا أنّه يقال في التعبير المألوف للأعمال الخارقة للعادة التي تؤدّى باستعمال الوسائل المختلفة. فتسمّى سحرا أيضا فأحيانا يتخذ جانب الحيلة والمكر وخداع النظر والشعوذة.

وأحيانا يستفاد من عوامل التلقين والإيحاء.

وأحيانا يستفاد من خواص الأجسام والمواد الفيزيائية والكيميائية المجهولة.

وأحيانا بالاستعانة بالشياطين.

وكلّ هذه الأمور جمعت واندرجت في ذلك المفهوم اللغوي الجامع.

إنّنا نواجه على طول التاريخ قصصا كثيرة حول السحر والسّحرة ، وفي عصرنا الحاضر فإنّ الذين يقومون بهذه الأعمال ليسوا بالقليلين ، إلّا أنّ كثيرا من خواص الأجسام والموجودات التي كانت خافية على الناس فيما مضى ، قد اتّضحت في زماننا الحاضر ، بل كتبوا كتبا في مجال آثار الموجودات المختلفة العجيبة ، فكشفت كثيرا من سحر السّاحرين وسلبته من أيديهم.

فمثلا ، إنّنا نعرف في علم الكيمياء الحديثة أجساما كثيرة وزنها أخفّ من الهواء ، وإذا ما وضعت داخل جسم فإنّ من الممكن أن يتحرّك ذلك الجسم ، ولا يتعجّب من ذلك أحد ، فحتّى الكثير من وسائل لعب الأطفال اليوم ربّما كانت تبدو سحرا في الماضي!

اليوم يعرضون في «السيرك» فعاليّات تشبه سحر السّحرة الماضين بالاستفادة من كيفيّة الإضاءة وتوليد النور ، والمرايا ، وخواص الأجسام

٣٠

الفيزياوية والكيمياوية ، ويحدثون مشاهد غريبة وعجيبة بحيث يفتح المتفرجون أفواههم أحيانا من التعجّب.

طبعا ، إنّ أعمال المرتاضين الخارقة للعادة لها قصّة أخرى عجيبة جدّا.

وعلى كلّ حال ، فانّه لا مجال لإنكار وجود السحر ، أو اعتباره خرافة سواء في الأزمنة الماضية أو هذه الأيّام.

والملاحظة التي تستحقّ الانتباه ، هي أنّ السحر ممنوع في الإسلام ، ويعدّ من الذنوب الكبيرة ، لأنّه في كثير من الأحيان سبب لضلال الناس ، وتحريف الحقائق ، وتزلزل عقائد السذج. ومن الطبيعي أنّ لهذا الحكم الإسلامي ـ ككثير من الأحكام الاخرى ـ موارد استثناء ، ومن جملتها تعلّم السحر لإبطال ادّعاء المدّعين للنبوّة ، أو لإزالة أثره ممّن رأوا منه الضرر والأذى. وقد تحدّثنا حول هذه المسألة بصورة مفصّلة في ذيل الآيتين 102 ـ 103 من سورة البقرة.

2 ـ السّاحر لا يفلح أبدا

يسأل الكثيرون : إنّ السّحرة إذا كانوا يقدرون على القيام بأعمال خارقة للعادة وشبيهة بالمعجزة ، فكيف يمكن التفريق والتمييز بين أعمال هؤلاء وبين المعجزة؟

والجواب عن هذا السؤال بملاحظة نقطة واحدة ، وهي : إنّ عمل السّاحر يعتمد على قوّة الإنسان المحدودة ، والمعجزة تستمدّ قوتها وتنبع من قدرة الله الأزليّة غير المتناهية ، ولذلك فإنّ أي ساحر يستطيع أن يقوم بأعمال محدودة ، وإذا أراد ما هو أعظم منها فسيعجز ، فهو يستطيع أن يؤدّي ما تمرّن عليه كثيرا من قبل ، وتمكّن منه وسيطر عليه ، وأصبح مطّلعا وعارفا بكلّ دقائق وزوايا وعقد ذلك العمل ، إلّا أنّه سيكون عاجزا فيما عداه ، في حين أنّ الأنبياء لمّا كانوا يستمدّون العون من قدرة الله الأزليّة ، فإنّهم قادرون على القيام بأي عمل خارق

٣١

للعادة ، في الأرض ، والسّماء ، ومن كلّ نوع وشكل.

السّاحر لا يستطيع أن يقوم بالعمل الخارق وفق اقتراح الناس ، إلّا أن يكون ذلك الاقتراح مطابقا لما تمرّن عليه (وأحيانا يتفقون مع أصدقائهم بأن ينهضوا من بين الناس ويقترحوا ابتداء القيام بالعمل المتفق عليه سابقا) إلّا أنّ الأنبياء كانوا يقومون مرارا وتكرارا بمعاجز مهمّة كان يطلبها أناس يبتغون الحقّ دعما للنبوّة ودليلا على صحتها ، كما سنلاحظ ذلك أيضا في قصّة موسى هذه.

ومع ما مرّ ، فإنّ السحر لما كان عملا منحرفا ، ونوعا من الخدعة والمكر ، فإنّه يحتاج إلى وضع روحي ينسجم معه ، والسّحرة ـ بدون استثناء ـ أفراد خدّاعون ماكرون يمكن معرفتهم بسرعة من خلال مطالعة نفسياتهم ، في حين أنّ إخلاص وطهارة وصدق الأنبياءعليهم‌السلام أمور مقرونة بمعاجزهم ، وتضاعف من تأثيرها.

(دقّقوا ذلك).

وربّما لهذه الأسباب تقول الآية :( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ) لأنّ قوّته محدودة ، وأفكاره وصفاته منحرفة.

إنّ هذا الموضوع لا يختص بالسّحرة الذين هبّوا لمحاربة الأنبياء ، بل هو صادق في شأن السّحرة بصورة عامّة ، لأنّهم سوف يفتضحون بسرعة ، ولا يفلحون في عملهم.

* * *

٣٢

الآيات

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) )

التّفسير

الإنتصار العظيم لموسىعليه‌السلام :

انتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى أمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين ، وقد عقبت هذه المسألة في هذه الآية ، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل

٣٣

التي كانت واضحة قد حذفت ، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه ، فتحوّلت إلى حيّة عظيمة لقفت كلّ آلات وأدوات سحر السّحرة ، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين ، فاستوحش فرعون وارتبك ، وفغر أتباعه أفواهمم من العجب.

فأيقن السّحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل ، وكانوا يفرّقون جيدا بين السحر وغيره ، إنّ هذا الأمر ليس إلّا معجزة إلهيّة ، وإنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله ، فاضطربت قلوبهم ، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات :

( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ) . إنّ التعبير بـ (القي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى ، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة.

ونقطة أخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الالتفات ، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي ، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة ، بتعابير لا يشوبها أي إبهام ، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون ، حتّى يرجع أولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم ، ولا تبقى على عاتقهم مسئولية من هذه الجهة.

من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة ، وهزّ كلّ أركانها ، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر ، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد ، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والامتيازات إذا ما غلبوا وانتصروا في المعركة!

إلّا أنّه يرى الآن أنّ أولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة ، قد استسلموا فجأة للعدو بصورة جماعية ، ولم يسلموا وحسب ، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه ، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبدا ، ولا شكّ أنّ

٣٤

جمعا من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّا إلّا أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ ، فتوجّه نحو السّحرة و( قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) .

إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب ، بل كان يريد أن يقول : إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضا ، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني ، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على امتداد العصور.

فالبعض ـ كفرعون مصر ـ يجريها على لسانه حمقا عند اضطرابه وقلقه ، والبعض احتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام ، وطوابير العملاء ، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الاستقلالية في التفكير ، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.

وعلى كلّ حال ، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك ، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال:( إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ) .

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه ، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر ، وكان فرعون قد ربّى موسىعليه‌السلام في أحضانه ، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه ، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفا بذلك في كلّ مكان ، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلّا أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عند ما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر.

ثمّ إنّه لم يكتف بهذا ، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد ، التهديد بالموت ، فقال:( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا

٣٥

أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) (1) .

في الحقيقة إنّ جملة( أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً ) إشارة إلى تهديد موسىعليه‌السلام له من قبل ، وكذلك تهديده للسحرة في البداية( وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) . والتعبير بـ( مِنْ خِلافٍ ) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس ، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة ، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأ وأشدّ عذابا في هذه الحالة ، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ ، وسيعانون عذابا أشدّ ، وربّما أراد أن يقول : سأجعل بدنكم ناقصا من جانبيه.

أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل ، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية ، وكلّ شخص ـ سواء البعيد أو القريب ـ يرى المعلّق عليها.

والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم ، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه ، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد.

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة ، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة ، و( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) لكن ، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا ، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون ، وستلاقي أنت أشدّ العقاب( إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

وعلى هذا ، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون :

الأولى : إنّنا قد عرفنا الحقّ واهتدينا ، ولا نستبدله بأي شيء.

__________________

(1) من المعلوم أنّ (في) في جملة( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) تعني (على) ، أي أعلّقكم على جذوع النخل ، إلّا أنّ الفخر الرازي يعتقد أنّ (في) هنا تعطي نفس معناها ، لأنّ (في) للظرفيّة ، والظرفيّة تناسب كلّ شيء ، ونعلم أنّ خشبة الإعدام كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلّق للإعدام. إلّا أنّ هذا التوجيه لا يبدو صحيحا.

٣٦

والأخرى : إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقا.

والثّالثة : حكومتك وسعيك سوف يدومان إلّا أيّاما قليلة من الدينا!

ثمّ أضافوا بأنّا قد ارتكبنا ذنوبا كثيرة نتيجة السحر ، فـ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وخلاصة القول : إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية ، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي ، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية ، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا ، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهرا ، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعودا كبيرة ، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟

ونقول في الجواب : إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية ، بل إنّ ظاهر جملة( يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ) (1) ، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة ، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّا في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة ، بأن يجبر أفرادا في طريق تحقيق نيّاته ، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم ، لأنّنا رأينا ـ كثيرا ـ حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب استعمال القوّة.

ويحتمل أيضا أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسىعليه‌السلام تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسىعليه‌السلام على الحقّ ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ ، ونشب بينهم نزاع وجدال ، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة :( فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) ، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى ، فأجبروهم على الاستمرار في المجابهة.

ثمّ واصل السّحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح فـ( إِنَّهُ مَنْ

__________________

(1) الأعراف ، 112.

٣٧

يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه( لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) بل إنّه يتقلّب دائما بين الموت والحياة ، تلك الحياة التي هي أمر من الموت ، وأكثر مشقّة منه.

( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون ، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم اعتبرها تابعة لكلام السّحرة ، وربّما كان الابتداء بـ (انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة ، يؤيّد وجهة النظر هذه.

إلّا أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين ، والكافرين المجرمين ، الذي ينتهي بجملة( وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى ) وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار ، تؤيّد الرأي الثّاني ، وهو أنّها من كلام الله ، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلّقوا حظّا وافرا من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع ، وعن علم واطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلّا أن نقول : إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم ، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواء كان الله تعالى قد قال ذلك ، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله ، خاصة وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة.

* * *

٣٨

بحوث

1 ـ العلم أساس الإيمان والوعي

إنّ أهمّ مسألة تلاحظ في الآيات ـ محلّ البحث ـ هي تحوّل السّحرة السريع العميق قبال موسىعليه‌السلام ، فإنّهم عند ما وقفوا بوجه موسىعليه‌السلام كانوا أعداء ألدّاء ، إلّا أنّهم اهتزّوا بشدّة عند مشاهدة أوّل معجزة من موسى ، فانتبهوا وغيّروا مسيرهم حتّى أثاروا دهشة الجميع.

إنّ هذا التغيير السريع من الكفر إلى الإيمان ، ومن الانحراف إلى الاستقامة ، ومن الاعوجاج إلى الطريق المستقيم ، ومن الظلمة إلى النور ، قد جعل الجميع في دهشة ، وربّما كان هذا الأمر غير قابل للتصديق حتّى من قبل فرعون نفسه ، ولذا سعى إلى إيهام الناس بأنّ هذا الأمر قد دبّر من قبل ، واتّفق عليه مسبقا ، في حين أنّه كان يعلم في أعماقه أنّ هذا الاتّهام كذب محض.

أي عامل كان السبب في هذا التّحول العميق السريع؟ وأي عامل أضاء قلوبهم بنور الإيمان الوهّاج ، إلى درجة أبدوا استعدادهم فيها لأن يضعوا كلّ وجودهم في خدمة هذا العمل ، بل وضعوه فعلا على ما نقل التاريخ ، لأنّ فرعون قد نفّذ تهديده ، وقتل هؤلاء بطريقة وحشيّة؟

هل نجد هنا عاملا غير العلم والوعي؟ إنّ هؤلاء لمّا كانوا عالمين بفنون السحر وأسراره ، وأيقنوا بوضوح تامّ أنّ عمل موسى لم يكن سحرا ، بل هو معجزة إلهيّة ، غيّروا مسيرهم بتلك الشجاعة والحزم ، ومن هنا نعلم جيدا أنّه من أجل تغيير الأفراد المنحرفين ، أو المجتمع المنحرف ، وإيجاد انقلاب في المسيرة ينبغي توعيتهم قبل كلّ شيء(1) .

__________________

(1) لقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآيات 123 ـ 126 من سورة الأعراف.

٣٩

2 ـ لن نؤثرك على البيّنات

ممّا يلفت النظر أنّ هؤلاء اختاروا أكثر التعابير منطقيّة إزاء فرعون وكلامه غير المنطقي ، فقالوا أوّلا : إنّنا قد رأينا أدلّة واضحة على أحقيّة موسى ودعوته الإلهيّة ، وسوف لا نكترث بأي شيء ولا نقدّمه على هذه الدلالات البيّنة ، وأكّدوا هذا الأمر فيما بعد بجملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) وربّما كان هذا التعبير بحدّ ذاته ـ مع ملاحظة كلمة (فطرنا) ـ إشارة إلى ما هم عليه من الفطرة التوحيديّة ، فكأنّهم قالوا : إنّنا نشاهد نور التوحيد من أعماق وجودنا وأرواحنا ، وكذلك بالدليل العقلي ، ومع هذه الآيات البيّنات كيف نستطيع أن نترك هذا الصراط المستقيم ، ونسير في طريقك المنحرف؟

ويلزم الالتفات إلى هذه النكتة أيضا ، وهي أنّ جمعا من المفسّرين لم يعتبروا جملة( وَالَّذِي فَطَرَنا ) قسما ، بل عدّوها عطفا على( ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ) وبناء على هذا سيصبح معنى الجملة : إنّنا سوف لن نؤثرك أبدا على هذه الأدلّة الجلية ، وعلى الله الذي خلقنا.

غير أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصحّة ، لأنّ عطف هاتين الجملتين بعضهما على بعض غير مناسب. «فلاحظوا بدقّة»!

3 ـ من هو المجرم؟

بملاحظة الآيات الشريفة التي تقول :( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ ) والتي يظهر منها خلود العذاب ، يتبادر هذا السؤال : ترى هل لكلّ مجرم هذا المصير؟

إلّا أنّه بالالتفات إلى أنّ الآية التالية قد بيّنت النقطة المقابلة لذلك ، وجاءت فيها كلمة «المؤمن» يتّضح أنّ المراد من المجرم هنا هو الكافر ، إضافة إلى أنّه ورد في القرآن كثيرا استعمال هذه الكلمة بمعنى الكافر.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

«السرابيل» : جمع «سربال» (على وزن مثقال) ، بمعنى الثوب من أيّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته) ، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين ، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو : لباس وغطاء لبدن الإنسان ، إلّا أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.

وكما هو معلوم ، فإنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد ، بل تلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إليه ، فلو تعرى الإنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها ، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأولى دون غيرها لأهميتها المميزة.

ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشيا مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصارا ، فيكون الثّاني واضحا بقرينة وجود الأوّل ، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.

وثمّة احتمال آخر : أن يكون ذلك بلحاظ خطورة الإصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة ، وبتعبير آخر : إنّ تحمل الإنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد ، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإنسان على تحمل البرودة لحد ما.

وفي ذيل الآية يقول القرآن مذكّرا :( كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) أي تطيعون أمره.

وطبيعي جدّا أن يفكر الإنسان بخالق النعم ، خصوصا عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده ، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصدا زيادة معرفته به إذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.

ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة «النعمة» في الآية ببعض النعم : كنعمة الخلق ، وتكامل العقل ، أو التوحيد ، أو نعمة وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك ، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور) ، وما

٢٨١

التخصيص في حقيقته إلّا من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة يقولعزوجل أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق ، لأنّ وظيفتك إبلاغهم :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعمّ بالاستدلال الحق والجاذبية ، إلّا أنّه لا يؤثر في المخاطب ما لم يكن مستعدا لاستماع وقبول كلام المتكلم ، وبعبارة أخرى : إنّ (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.

وعلى هذا ، فإن لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومن امتاز بالتعصب والعناد ، فذلك ليس بالأمر الجديد ، وما عليك إلّا أن تصدع ببلاغ مبين وأن لا تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسليته.

وتكميلا للحديث يضيف القرآن الكريم القول :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) .

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق ، وتقديم منافعهم المادية على كل شيء ، وتلوّثهم بمختلف الشهوات ، بالإضافة إلى مرض التكبّر الغرور.

ولعل ما جاء في آخر الآية( وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) إشارة لهذه الأسباب المذكورة.

وقد جذبت كلمة «أكثرهم» انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها حتى توصل المفسّرون إلى أسباب كثيرة كلّ حسب زاوية اهتمامه في البحث ، ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلّ ما ذكروه ، وخلاصته : إنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد ، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياسا إلى أولئك.

٢٨٢

ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشئ من التكّبر والعناد ، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (٣٤) من سورة البقرة( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) .

واحتمل البعض : أنّ المقصودين بـ «أكثرهم» من تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد ، وهذا المعنى يمكن أن يعود إلى المعنى الأوّل.

* * *

بحثان

١ ـ كلمات المفسّرين

ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير( نِعْمَتَ اللهِ ) في الآية لا يعدو غالبا من قبيل التّفسير بالمصداق ، في حين أنّ مفهوم «نعمة الله» من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية ، حتى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى.

وروايات أهل البيتعليهم‌السلام تؤكّد على أنّ المقصود بـ «نعمة الله» هو وجود الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده ، وبنا فاز من فاز»(١) .

فواضحّ أنّ السعادة والنجاح لا يمكن إدراكهما إلّا عن طريق قادة الحق وهم الأئمّةعليهم‌السلام فوجودهم إذن من أوضح وأفضل النعم الإلهية (وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم الله سبحانه).

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٢.

٢٨٣

٢ ـ صراع الحقّ مع الباطل

لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة «ثمّ» من قوله تعالى :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) ، لأنّ استعمالها عادة كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين ، ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم الله وبين إنكارهم للنعم ، فقالوا : إنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الاعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة الله ، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الاعتراف ، إلّا أنّهم ساروا في طريق الباطل! فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة «ثمّ».

ونحتمل أنّ «ثمّ» هنا إشارة إلى معنى خفي ، خلاصته : أنّ دعوة الحقّ عند ما تتوغل إلى دواخل الروح الإنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة ، فإنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإنكار الموجود فيه أحيانا ، فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل ، فإن كانت عوامل النهي والإنكار أقوى فإنّها ستغلبها بعد مدّة وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة «ثمّ».

والآيتان (٦٤ و ٦٥) ، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إبراهيمعليه‌السلام تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي الله إبراهيمعليه‌السلام بعد أن حطم أصنامهم جميعها إلّا كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأولى يغوصون في تفكير عميق ، ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إلى الحقّ لو لا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم (التعصب ، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق ، فعادوا من جديد إلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة «ثم» أيضا :( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) .

وعلى هذا فمعنى «الكافرون» يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة «ثم».

* * *

٢٨٤

الآيات

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) )

التّفسير

عند ما تغلق الأبواب أمام المجرمين :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم

٢٨٥

اعترافهم بالنعم الإلهية ، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي الشديد الذي ينتظر أولئك في عالم الآخرة ، لينبه الغافل من سباته ، فعسى أن يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان ، فيقول أوّلا :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) (١) .

وهل ثمّة حاجة إلى شاهد مع وجود علم الله المطلق؟

قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال عند قراءة الآية ، وتتّضح الإجابة على ذلك من خلال التدقيق في الملاحظة التالية : إنّ الأمور غالبا ما يقصد فيها الجانب النفسي والروحي، والإنسان كلما أيقن بوجود الشهود والمراقبين عليه من قبل الله سبحانه ازداد في محاسبة نفسه، وأقلّ ما يمكن أن يذكر بهذا الصدد ما سيصيبه من خجل يوم مواجهتهم مع ما اقترفت يداه.

وبخصوص تلك المحكمة ، تأتي الآية لتقول :( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وهل من الممكن أن لا يأذن الله للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم ، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم ، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين وكذلك الجلد ، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى ، كلها ستشهد عليه ، ويمكن استفادة هذا المعنى من آيات قرآنية أخرى كالآية (٦٥) من سورة يس والآية (٣٦) من سورة المرسلات.

بل ويزداد على عدم السماح لهم بالكلام ب( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (٢) .

لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح ، وهم حينها كالثمرة المقطوفة التي انتهى زمن نموها.

__________________

(١) أل «يوم» هنا ظرف متعلق بفعل مقدّر ، وأصل العبارة : (وليذكروا) أو (واذكروا).

(٢) يستعتبون : من الاستعتاب ، وهي في الأصل من (العتاب) وهو التحدث بلهجة شديدة ولوم ، فيكون مفهوم الاستعتاب : أن يطلب المذنب من صاحب الحق عقابه فيصبح سببا لسكون غضبه وحصول رضاه ، ولهذا اعتبر البعض ، أنّ الاستعتاب بمعنى الاسترضاء في حين أنّ حقيقة مفهومه ليس الاسترضاء ، وإنّما هو لازم له.

٢٨٦

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب ، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارة ، ويطلبون إمهالهم مدّة تارة أخرى ، فتقول :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) .

والآيتان أشارتا إلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه في حياتنا الدنيا) :

المرحلة الأولى : سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه ، وإن لم يحصل على هدفه يسعى إلى المرحلة التالية.

المرحلة الثّانية : يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه ، وإذا لم ينفعه ذلك يتنقل إلى المرحلة الثّالثة.

المرحلة الثّالثة : يطلب تخفيف العذاب ، فيقول : عاقبني ولكن خفف العذاب! وإن لم يستجاب له لعظم ذنبه فإنّه سيطلب الطلب الأخير

المرحلة الرّابعة : يطلب الإمهال والتأجيل ، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من العقاب

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إذن الدفاع عنهم ، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا ، ولا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينظرون ، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب الاستجابة.

وفي الآية التالية يستمر الحديث عن عاقبة المشركين ، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنّم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية ، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) ، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درك العمل القبيح ، وهي شريكنا في الجرم أيضا ، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها!

٢٨٧

وعندها تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن الله) :( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) ، فلم نكن شركاء لله ، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

* * *

وهنا ينبغي التذكير ببعض الملاحظات :

١ ـ إنّ استعمال كلمة «شركاءهم» بدلا من «شركاء الله» للدلالة على أنّ الأصنام ما كانت في حقيقتها شريكة للهعزوجل ، بل إنّ عبدة الأصنام والمشركين هم الذين نسبوها بهذا النسب خيالا وكذبا ، فمن الحري أن تنسب لهم وليس إلى الله سبحانه.

ويؤيد ذلك ما مرّ علينا فيما سبق من تخصيص عبدة الأصنام بعض مواشيهم ومحصولاتهم الزراعية مشاركة بينهم وبين الأصنام أي أنّهم جعلوا الأصنام شريكة لهم في هذه الأنعام.

٢ ـ يستفاد من الآية أنّ الأصنام تحضر عرصة يوم القيامة أيضا ، وليس المعبودات البشرية فقط كفرعون والنمرود.

والآية (٩٨) من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) تؤيد ذلك.

٣ ـ وتظهر الآية قول المشركين يوم القيامة من أنّهم كانوا يعبدون هذه الأصنام :( هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) وهذا القول يتضمن صدقهم في قولهم فلا معنى لتكذيب الأصنام لهم في هذه المقولة.

ولكن من الممكن أن يكون التكذيب بمعنى عدم لياقة الأصنام لأن تكون معبودة من دون الله. أو أنّ المشركين قد أضافوا جملة أخرى مفادها أنّ هذه المعبودات قد دعتنا ووسوست لنا لنعبدها ، فتكذبهم الأصنام بأنّها لا تملك القدرة أصلا على الوسوسة والإيحاء.

٢٨٨

٤ ـ لعل ورود جملة( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ) بدل «قالوا لهم» لعدم قدرة الأصنام على التكلم بنفسها ، فيكون قولها عبارة عن إلقاء من قبل الله فيها ، أي أنّ اللهعزوجل يلقي إليها ، وهي بدورها تلقية إلى المشركين.

وتأتي الآية التالية لتبيّن أنّ الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم ، ويسمعوا جواب قولهم ، سيتوجهون إلى حالة أخرى( ... وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ) (١) مسلمين لله ، مذعنين لعظمته جل وعلا ، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد أزيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإذعان إليه.

وفي هذه الأثناء ، وحيث كل شيء جلي كوضوح الشمس( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) . فتبطل كذبتهم بوجود شريك لله ، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله ، عند ما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأي عمل ، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم!.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبا حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك ، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين ، وإنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ) .

فهم شركاء في جرم الآخرين إضافة لما عليهم من تبعات أعمالهم ، لأنّهم كانوا عاملا مؤثرا للفساد على الأرض وإضلال خلق الله بالصد عن سبيله.

وذكرنا مرارا وانطلاقا من منطق الاجتماع الإسلامي أنّ من يسن سنّة (حسنة أم سيئة) فهو شريك العاملين بها ثوابا أو عقابا ، والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح: «من استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين كصاحب الميزان : أنّ إظهار التسليم هنا كان من جانب عبدة الأصنام فقط دون الأصنام ، ويؤيد ذلك ما ورد في ذيل الآية.

٢٨٩

ينتقص من أجورهم شيء ومن استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء».

وعلى أيّة حال ، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة توضح مسئولية الرؤساء والموجهين أمام الله وأمام الناس.

وتتناول الآية أيضا مسألة وجود الشهيد في كل أمّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

ووجود هؤلاء الشهود ، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم ، لا يتعارض مع علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء ، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس ، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي.

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال :( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .

وقيل إنّ المقصود بـ «هؤلاء» المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم ، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكمل طريقه فيكون شهيدا على الأمّة (وهو من وسطها) ، وينبغي أن يكون طاهرا من كل ذنب وخطيئة ، ليتمكن من إعطاء الشهادة حقّها.

ولهذا اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد ، حجّة ، عادل ، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإمام المعصوم في كل زمان ، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون غيرهم من المذاهب الإسلامية.

ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإشكال

٢٩٠

توجيها لا يخلو من إشكال أيضا حيث قال : (فحصل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس ، وذلك الشهيد لا بدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإلّا لافتقر إلى شهيد آخر ، ويمتد ذلك إلى غير النهاية ، وذلك باطل ، فيثبت أنّه لا بدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم ، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمّة حجّة)(١) .

لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول :( يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وليس مجموع الأمّة شاهدا على كل فرد من أفراد الأمّة.

وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (٤١) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير «هؤلاء» :

الأوّل : أنّ «هؤلاء» إشارة إلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياءعليهم‌السلام والأوصياء ، فيكون النّبي شاهدا على هذه الأمة وشاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

الثّاني : المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي ، أي : شخص يكون وجوده قدوة وميزانا لتمييز الحق من الباطل.

(والمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل الآية (٤١) من سورة النساء).

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم،ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة ، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة :( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ٩٨.

٢٩١

بحثان

١ ـ القرآن تبيان لكل شيء :

من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء.

«تبيان» (بكسر التاء أو فتحها) له معنى مصدري(١) ، ويمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بيانا لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شيء» ، ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع ـ على كافة الأصعدة المادية والمعنوية ـ إلى حال التكامل والرقي ، يتّضح لنا أنّ المقصود من كل «شيء» هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل ، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية إلخ ، وإنّما القرآن دعوة حق لبناء الإنسان ، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم ، وصحيح أيضا أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية ، ولكن ليس ذلك الكشف هو المراد، وإنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.

ويشير القرآن الكريم تارة إلى جزئيات الأمور والمسائل ، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض ، حيث ذكر (١٨) حكما في أطول أية قرآنية وهي الآية (٢٨٢) من سورة البقرة(٢) .

وتارة أخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإنسان بصورها الكلية ، كما في الآية التي ستأتي قريبا ، حيث يقول :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ

__________________

(١) نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) عن بعض الأدباء : أن جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إلا مصدرين «تبيان» و «تلقاء». ويعتبرها بعض مصدرا ، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.

(٢) راجع ذيل تفسير الآية (٢٨٢) من سورة البقرة.

٢٩٢

ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (٣٤) من سورة الإسراء :( إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأولى من سورة المائدة :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (٧٨) من سورة الحج :( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) وكمفهوم إقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (٤٥) من سورة الحديد :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأمور في الآيات (٧ ، ٨ ، ٩) من سورة الرحمن :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم الميزان( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم مفهوم الامتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (٨٥) من سورة الأعراف :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) ، بالإضافة إلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن ، لتكون للإنسان نبراسا وهاجا في كافة مجالات الفكر والحياة والإنسان وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم «فيه تبيان لكل شيء».

بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه ، وإنّما عيّن لها من يؤخذ منه التفاصيل ، كما تبيّن لنا ذلك الآية (٧) من سورة الحشر :( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

والإنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه ، واستخرج برامجا وتوجيهات توصله إلى السعادة ، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله.

ولهذا ، فمن استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن ، فهو لم يعرف القرآن،وطلب من الغير ما هو موجود عنده.

وإضافة لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإسلام في

٢٩٣

كل الأمور ، فقد حمّلت المسلمين مسئولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه.

وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات.

منها : ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئا تحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله الله فيه»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل لكل شيء حدا ، وجعل عليه دليلا يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا»(٢) .

وجاء في الرّوايات الشريفة الإشارة الى هذه المسألة أيضا. وهي أنّه مضافا الى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس ، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره ، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلّا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياؤه بالحق ، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب اللهعزوجل ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(٣) .

إنّ عدم إدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه ب (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والاستفادة منه.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٥.

٢٩٤

٢ ـ مراحل الهداية الأربع

إنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن :

١ ـ تبيانا لكل شيء.

٢ ـ هدى.

٣ ـ رحمة.

٤ ـ بشرى للمسلمين.

ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطا منطقيا واضحا بين هذه التعابير ، فكلّ منها يرمز إلى مرحلة معينة ، المرحلة الأولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم ، وبعدها تأتي مرحلة الهداية ، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة ، وأخيرا البشرى بثواب الله لمن آمن وعمل صالحا وسرور جميع السائرين على طريق الحق.

* * *

٢٩٥

الآية

( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) )

التّفسير

أكمل برنامج اجتماعي :

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء ، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجا من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية ، وقد تضمّنت الآية ستة أصول مهمّة ، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إيجابية ومأمور بالعمل بها ، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها.

فتقول في البدء :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) .

وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من «العدل»؟!

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود ، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل «بالعدل قامت السماوات

٢٩٦

والأرض».

والمجتمع الإنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير ، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل ، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السّلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أسس العدل في جميع المجالات.

ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب ، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين ، ما هي إلّا صور لخلاف أصل العدل.

فالإنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء ، أو تقصيره في أداء وظيفته.

ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد ، فإنّه سيمرض ويعتل إن لم يراع فيه العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات ـ الطبيعية والاستثنائية ـ في عملية بناء المجتمع السليم ، إلّا أنّها ، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة ، ولذلك جاء الأمر بـ «الإحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة.

وبعبارة أوضح : قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالاستعانة بأصل العدالة فقط ، وإنّما تحتاج إلى إيثار وعفو وتضحية ، وذلك ما يتحقق برعاية أصل «الإحسان».

وعلى سبيل المثال : لو أنّ عدوا غدّارا هجم على مجتمع ما ، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد ، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال ، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لا بدّ من تقديم التضحية والبذل والإيثار لكل من يملك القدرة المالية ، الجسمية ،

٢٩٧

الفكرية ، لمواجهة الخطر وإزالته ، وإلّا فالطريق مهيأ أمام العدو لإهلاك المجتمع كله ، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.

والأصلان يحكمان نظام بدن الإنسان أيضا بشكل طبيعي ، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها ، وكلّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالاستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).

ولكن عند ما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته ، فإنّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه ، لأنّه توقف عن عمله ، بل تستمر في تغذيته ودعمه إلخ ، (وهذا هو الإحسان).

وفي المجتمع كذلك ، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.

وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين ، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإحسان ، لعل أغلبها يشير إلى ما قلناه أعلاه.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «العدل : الإنصاف ، والإحسان : التفضل»(١) وهذا ما أشرنا إليه.

وقال البعض : إنّ العدل : أداء الواجبات ، والإحسان : أداء المستحبات.

وقال آخرون : إنّ العدل : هو التوحيد ، والإحسان : هو أداء الواجبات.

(وعلى هذا التّفسير يكون العدل إشارة إلى الإعتقاد ، والإحسان إشارة إلى العمل).

وقال بعض : العدالة : هي التوافق بين الظاهر والباطن ، والإحسان : هو أن يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره.

واعتبر آخرون : أنّ العدالة ترتبط بالأمور العمليّة ، والإحسان بالأمور ، الكلامية.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٢٣١.

٢٩٨

وكما قلنا فإنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماما مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه ، وبما أنّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.

أمّا مسألة( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فتندرج ضمن مسألة «الإحسان» حيث أن الإحسان يشمل جميع المجتمع ، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى ، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات ، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر ، فإنّ أثره سيظهر على كل المجتمع ، والمسألة تعتبر تقسيما صحيحا للوظائف والمسؤوليات بين الناس ، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمديد العون إلى أقربائها (بالدرجة الأولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم.

وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود بـ «ذي القربى» هم أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذريته من الأئمّةعليهم‌السلام ، والمقصود ب( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) هو أداء الخمس، فإنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبدا ، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة ، ولا يمنع إطلاقا من شمول مفهوم الآية الواسع.

لو اعتبرنا مفهوم «ذي القربى» بمعنى مطلق الأقرباء ، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب ، أو أقرباء من وجوه أخرى ، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب).

ولإعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية ، إضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.

وبعد ذكر القرآن الكريم للأصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للأصول المقابلة لها (السلبية) فيقول :( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وتحدث المفسّرون كثيرا حول المصطلحات الثلاثة «الفحشاء» ، «المنكر» ، «البغي» ، إلّا أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ «الفحشاء» : إشارة إلى الذنوب الخفية ، و «المنكر» : إشارة إلى الذنوب

٢٩٩

العلنية ، و «البغي» : إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان ، وظلم الآخرين والاستعلاء عليهم.

قال بعض المفسّرون(١) : إنّ منشأ الانحرافات الأخلاقية ثلاث قوى : القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية ، والقوة الوهمية الشيطانية.

أمّا القوّة الشهوانية فإنما ترغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء ، والقوة الغضبية تدفع الإنسان إلى فعل المنكرات وإيذاء سائر الناس ، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإنسان الاستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.

وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إلى طغيان غرائز الإنسان ، ودعا إلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الانحرافات الأخلاقية.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجددا على أهمية هذه الأصول الستة :( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

أشمل آيات الخير والشر :

إنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيرا من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم ، وها هو «عثمان بن مظعون» أحد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (كنت أسلمت استحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام ، ولم يقر الإسلام في قلبي ، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله ، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئا ، فلمّا سرّي عنه سألته عن حاله فقال : نعم ، بيّنا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقرأها عليّ إلى آخرها ، فقّر الإسلام في قلبي. وأتيت

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ٢٠ ، ص ١٠٤.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496