الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 238241 / تحميل: 7614
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

والخلافُ في مجرّد الاصطلاح ؛ وإلاّ فقد يقبلون الخبرَ الشاذّ، والمعلَّل ؛ ونحن قد لا نقبلهما، وإنْ دخلا في الصحيح بحسبِ العوارض.

وقد يُطلَقُ الصحيحُ عندنا على سليمِ الطريقِ من الطّعنِ(١) ، بما يُنافي الأمرين ؛ وهما: كون الراويباتصالٍ، عدلاً إمامياً ، وإن اعتراه مع ذلك الطريقِ السالمِ إرسالٌ أو قطع(٢) .

وبهذا الاعتبار، يقولونَ كثيراً: روى ابن أبي عُمير(٣) في الصحيحِ كذا، أو في صحيحتهِ كذا(٤) ، مع كونِ روايته المنقولة كذلك مرسلَة.

ومثله وقع لهم في المقطوع كثيراً.

وبالجملة، فيطلقونالصحيح على ما كان رجال طريقه، المذكورين فيه، عدولاً إمامية، وإنْ اشتملَ على أمرٍ آخر بعد ذلك ؛ حتّى أطلقوا الصحيحَ على بعضِ الأحاديث المرويّة عن غير إمامي ؛ بسبب صحّةِ السّندِ إليه، فقالوا في صحيحةِ فلان: وجدناها صحيحة بِمَن عداه.

وفي الخُلاصة وغيرها: إنَّ طريقَ الفقيهِ إلى معاوية بن ميسرة(٥) ، وإلى عائذ الأحمَسيّ(٦) ،

____________________

(١) ذكرى الشيعة إلى أحكام الشريعة، ص٤.

(٢) يُنظر: المصدر نفسه.

وقد علَّق المددي هنا بقوله: (بحسب إطلاق اللفظ ؛ إذ الظاهر من (الاتّصال إلى المعصوم بعدلٍ إمامي)، باعتبار العدالة والإيمان في الراوي، عن المعصوم مباشرةً، ولا يدلّ على اعتبار العدالة والإيمان في جميع الطبقات).

(٣) محمد...، لقي أبا الحسن موسىعليه‌السلام ... وروى عن الرِّضاعليه‌السلام ، جليلُ القدر،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١٤/ ٢٩٥ - ٣١١.

(٤) قال المددي: هذه العبارات وقعت كثيراً، في كلام مَن تأخّر عن العلاّمة الحليّ كثيراً. وأمَّا قبله، فلم يكن مُتعارفاً عندَ الأصحاب. قالَ فخر المحقّقين - وهو نجلُ العلاّمة - في إيضاح الفوائد (١/ ٢٥ - ٢٦) في مسألة العجين النجس، وأنَّه هل يجوز بيعه أم لا؟ قالقدس‌سره ما نصُّه: (أقولُ: رواية البيع هي رواية محمد بن عليّ بن محبوب في الصحيح، عن محمد بن الحُسين، عن ابن أبي عُمير، عن بعض أصحابنا،...، قال: قيل لأبي عبد اللهعليه‌السلام : العجين يُعجن من الماء النّجس كيف يُصنع به؟ قال: (يُباع ممَّن يستحِلُّ أكل الميتة). وروى محمد بن أبي عُمير في الصحيح، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (يُدفَن ولا يُباع،...).

(٥) ابن شريح بن الحارث الكندي القاضي، روى عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام .... ينظر: رجال ابن داوود، ق١، عمود ٣٥٠ - ٣٥١.

(٦) من أصحاب السجّادعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٩/ ٢١٣ - ٢١٤.

٨١

والِى خالدِ بن نجيح(١) ، وإلى عبدِ الأعلى مولى آل سام(٢) ، صحيحٌ(٣) ؛ مع أنَّ الثلاثةَ الأُوَلَ لم يُنَصّ عليهم بتوثيقٍ ولا غيره، والرابع لم يوثِّقه، وإنْ ذكرَهُ في القسم الأوَّل(٤) .

وكذلك نقلوا الإجماع(٥) على تصحيح ما يصحُّ، عن أبانِ بنِ عُثمان(٦) ، مع كونِه فَطحِيّاً(٧) .

وهذا كلّهُ خارجٌ عن تعريفِ الصَّحيح الذي ذكروه في التعريفين ؛ خصوصاً الأوّلَ المشهور.

ثُمَّ في هذا الصحيح ما يُفيدُ فائدةَ الصحيح المشهور(٨) ، كصحيحِ أبان.

ومنهُ ما يُرادُ منهُ وصفُ الصحَّةِ دونَ فائدتِها(٩) ، كالسالم طريقُهُ مع لُحوقِ الإرسالِ به، أو القطع، أو الضعف، أو الجهالة بِمَنْ اتَّصلَ بهِ الصحيحُ، فينبغي التدبّر لذلك ؛ فقد زلّ فيه أقدامُ أقوامٍ.

____________________

(١) من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام .... ينظر: معجم رجال الحديث: ٧/ ٣٨ - ٤٠.

(٢) من أصحاب الصادقعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٩/ ٢٦٥ - ٢٦٧.

(٣) ينظر: خلاصة الأقوال في معرفة الرِّجال، ص٢٧٧ - ٢٧٨.

(٤) ينظر: المصدر نفسه، ص١٢٧.

وأَضاف المددي هنا بقوله: (لكنَّ العلاّمة جعلَ القسمَ الأوّل مختصّاً بالثّقات).

(٥) قال المددي: (الناقلُ هو الكشّيّ ؛ حيثُ قال: (أجمعت العُصابةُ على تصحيح ما يصحُّ عن هؤلاء، وتصديقهم كما يقولون، وأقرّوا لهم

بالفقه...، ستة نفر: جميل بن درّاج، وعبدالله بن مسكان، وعبدالله بن بكير، وحمّاد بن عثمان، وحمّاد بن عيسى، وأبان بن عثمان). وحولَ مغزَى هذا الإجماع وقعتْ أبحاث عميقةٌ في كتُب الرّجال، ويُعَبّر عنهم ب- : أصحاب الإجماع ).

(٦) من أصحاب الصادق والكاظمعليهما‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١/ ٣٢ - ٤٠.

(٧) نسبةً إلى الفطحيَّة ؛ وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر... ؛ سُمّوا بذلك لأنَّ عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضُهُم: كان أفطح الرِّجلين.... كتابُ المقالات والفِرَق، ص٨٧.

(٨) قال المددي: أي: يصحّ الاعتماد عليه، والاحتجاج به، كسائر الروايات الصحاح.

(٩) وعلَّق المددي هنا بقوله: (يعني: هذا القسم، وإنْ صدَقَ عليه أنَّه صحيحٌ، إلاّ أنَّه لا يصح الاعتماد عليه، والعملُ به ؛ للإرسال، أو

الضعف، أو غيرهما، الطارئة له.

٨٢

الحَقلُ الثاني:

في

الحَسَن(١)

وهو: ما اتّصلَ سندُهُ كذلك - أي إلى المعصوم - بإمامي ممدوحٍ، من غير نصٍّ على عدالته، مع تَحقُّق ذلك في جميع مراتبه - أي جميع [مراتب] رواة طريقه - أو تحقّق ذلك في بعضها ؛ بأن كانَ فيهم واحدٌ إمامي ممدوحٌ غير موثَّق، مع كون الباقي من الطريقِ من رجالِ الصحيح ؛ فيُوصفُ الطريقُ بالحسَن لأجلِ ذلك الواحد.

واحترز بكونالباقي من رجال الصحيح عمَّا لو كان دونه، فإنَّه يلحق بالمرتبة الدُّنيا، كما لو كان فيه واحدٌ ضعيفٌ فإنَّه يكون ضعيفاً، أو واحدٌ غير إمامي عدلٌ فإنَّه يكونُ مِن الموثَّق.

وبالجملة، فيَتْبع أخَسَّ ما فيه من الصفاتِ، حيثُ تتعدَّد.

وهذا كُلُّهُ واردٌ على تعريفِ مَنْ عرَّفه من الأصحاب - كالشهيدِرحمه‌الله - بأنَّه: (ما رواه الممدوح من غير نصٍّ على عدالته)(٢) .

أ - فإنَّه يشملُ: ما كان في طريقه واحدٌ كذلك(٣) ، وإن كانَ الباقي ضعيفاً، فضلاً عن غيرهِ.

ب - ويُزيد: أنَّهُ لم يُقيِّد الممدوحَ بكونه إمامياً، مع أنَّه مُراداً.

ويُطلقُ الحسنُ أيضاً على ما يشملُ الأمرين - وهما كونُ الوصفِ المذكور:في جميعِ مراتبهِ، وفي بعضها ؛ بمعنى كونُ روَاتهِ متَّصِفين بوصفِ الحسَن - إلى واحدٍ مُعيَّن،

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة (ورقة ١٣، لوحة ب، سطر ١٠): (الثاني: الحسن) فقط، بدون: (الحقل الثاني: في الحسن).

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٣) أي: الإمامي الممدوح. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص١٤.

٨٣

ثم يصيرُ بعد ذلك ضعيفاً أو مقطوعاً أو مرسلاً - كما مرَّ في الصحيح - مع اتصاف رواته بالوصفين ؛ وهما: كونُ كُلِّ واحدٍ إمامياً، وممدوحاً على وجهٍ لا تبلغُ العدالةُ كذلك ؛ أي كما أنَّ الصحيحَ يُطلقُ على سليمِ الطريقِ ممَّا يُنافي الأمرين - [وهما كونُ الراوي: عدلاً، إمامياً] - وإنْ لم يتّصلْ.

ومن هذا القسم حُكْمُ العلاّمةِ(١) وغيرُهُ: بكونِ طريقِ الفقيهِ(٢) إلى منذرِ بن جبير(٣) حسَناً ؛ مع أنَّهم لم يذكروا حالَ منذرٍ بمدحٍ ولا قَدح.

ومثلهُ طريقُه إلى إدريسِ بن يزيد(٤) .

وإنَّ طريقَه إلى سُماعة بن مهران(٥) حَسَنٌ(٦) ، مع أنَّ سُماعةَ واقفي(٧) . وإن كانَ ثقةً ؛ فيكون من الموثَّق، لكنَّه حسنٌ بهذا المعنى.

____________________

(١) الحسنُ بنُ يوسف بنُ المطهَّر الحلّي(٦٤٨ه- - ٧٢٦ه-).... ينظر: الأعلام: ٢/ ٢٤٤.

(٢) أي طريق الصدوق في كتاب (مَن لا يحضره الفقيه). ينظر: شرح مشيخة الفقيه: ٤/ ٩٩.

(٣) يُنظر: خُلاصة الأقوال في معرفة الرّجال، ص٢٨٠. وفي مستدرك الوسائل(٣/ ٦٨٨): (الصحيح: أنَّ منذر هو ابن جيفر) ؛ حيثُ قد قيل أيضاً: جعفر، وجيفر.

ويُراجَع كذلك: معجم رجال الحديث(١٨/ ٣٨٠ - ٣٨١).

أمَّا في نسختنا الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر ٢)، فإنَّه: منذرُ بن جُبير، بدلاً مِن كُلّ ما سَبَق.

(٤) مِن أصحابِ الصادقعليه‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٤/ ١٤. والذي في النسخة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر ٤) (إدريس بن زيد)، بدلاً من إدريس بن يزيد.

(٥) روى عن أبي عبد الله وأبي الحسنعليهما‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٨/ ٢٩٩ - ٣٠٤.

(٦) يُنظر: خلاصةُ الأقوال في معرفة الرجال، ٢٧٧.

(٧) نسبةً إلى الواقفة ؛ سُمُّوا بذلك: لوقوفهم على موسى بن جعفر، أنَّه الإمام القائم، ولم يأتمُّوا بعده، ولم يتجاوزوا إلى غيره. ينظر: كتاب المقالات والفِرق، ص٩٠.

٨٤

وقد ذكر جماعةٌ من الفقهاء(١) : أنَّ روايةَ زرارةَ(٢) - في مُفسدِ الحجِّ، إذا قضاه ؛ أنَّ الأُولى حجّةُ الإسلام(٣) - مِن الحسن(٤) ؛ مع أنَّها مقطوعةٌ(٥) .

ومثلُ هذا كثيرٌ، فينبغي مراعاتُهُ كما مرَّ في الصحيح.

_____________________

(١) قالَ المددي: (منهم المحقق الثاني، كما في (جامع المقاصد): ١/ ١٨٤ ).

(٢) مِن أصحابِ الباقر والصادق والكاظمعليهم‌السلام ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ٧/ ٢١٨ - ٢٤٠.

أمَّا القولُ بكونه من أصحاب الكاظمعليه‌السلام ، كما ذهبَ إلى ذلك مثلُ الشيخ الطوسيّ، فإنَّما بلحاظ أنَّهُ أدرك زمانه (صلواتُ الله عليه). وأمَّا مَن يَذهب إلى أنَّه لم يكن من أصحابهعليه‌السلام ، فذلك بلحاظ كونه لم يروِ عنهعليه‌السلام .

(٣) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (روايةُ زرارة ؛ هي ما رواه الكليني - والشيخ عنه - بإسناده عن زرارة ؛ وفي ذيلها: (قلتُ: فأيُّ الحجَّ-تين لهما؟ قال: (الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والأخرى عليها عقوبة). ينظر: جامع أحاديث الشيعة: ١١/ ١٧٧).

(٤) وهنا علَّق المددي أيضاً بقوله: (باعتبار اشتمال السَّند على إبراهيم بن هاشم ؛ فهو وإن كان إمامياً، ممدوحاً، كثير الرواية، حتى أنَّه لا يُوجد أكثر روايةٍ منه في الكتب الأربعة، إلاّ أنَّه لم يُنص على توثيقه صريحاً ؛ وبذلك تكون الرواية باعتباره حسنة).

(٥) كما علَّق المددي هنا أيضاً بقوله: (مرادهُرحمه‌الله من المقطوعة: المضمرَة، وهذا دأبه في جميع مؤلَّفاتهقدس‌سره .

والمُضمرة: هي الروايةُ التي لم يُذكَر فيها المرويُّ عنه، ولم يُعلَم مَنْ هو المسؤولُ عنه.

وهذه الرواية رُويت عن زُرارة، قال: سألتهُ... إلخ، ولم يُعيِّن المسؤول عنه. وسيأتي الكلامُ في حجيَّة هذا القسم من الرّوايات).

٨٥

الحقل الثالث:

في

الموثَّقِ(١)

سُمِّيَ بذلك لأنَّ راويه ثقة، وإن كانَ مُخالفاً ؛ وبهذا فارقَ الصحيحَ مع اشتراكهما في الثقة، ويُقالُ لهُ: القويُّ أيضاً ؛ لقُوّة الظنِّ بجانبه بسببِ توثيقهِ.

وهو:

[ أوَّلاً ]:

ما دخلَ في طريقهِ (مَن نصَّ الأصحابُ على توثيقه، مع فساد عقيدته)(٢) ؛ بأن كان من إحدى الفرق المُخالفة للإمامية، وإن كانَ من الشيعة.

واحترز بقوله(٣) : (نصَّ الأصحابُ على توثيقه) عمَّا لو رواه المخالفون في صحاحهم التي وثَّقوا رُواتها ؛ فإنَّها لا تدخلُ في الموثَّق عندنا ؛ لأنَّ العبرة بتوثيق أصحابنا للمُخالف، لا بتوثيق غيرنا ؛ لأنَّا لم نقبلْ إخبارَهم بذلك(٤) .

وبهذا يندَفِعُ ما يُتَوَهَّمُ: من عدمِ الفرقِ بينَ رواية مَن خالفنا، مِمَّن ذُكر في كتب حديثنا، وما رووه في كتبهم.

وحينئذٍ، فذلك كلُّهُ يلحق بالضّعيف عندنا ؛ لِمَا سيأتي من صِدق تعريفه عليه، فيُعمل منهُ بما يُعمل بهِ منه.

[ثانياً]:

ولم يشتَمل باقيه ؛ أي باقي الطريق، على ضعيف ؛ وإلاّ لكانَ الطريقُ ضعيفاً، فإنّه يتبعُ الأَخسَّ كما سبَق.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٤، لوحة ب، سطر٨): (الموثَّق) فقط، بدون: (الحقل الثالث: في الموثَّق).

(٢) ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٣) فيما يبدو: أنَّ مرجع الضمير هو: المعرِّف، وما شابه ذلك.

(٤) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (لأنَّ مرجع التوثيق - على ما هو المعروف عندهم - مردُّه إلى الشهادة، والعدالة معتبرةٌ فيها).

٨٦

وبهذا القيد سَلِمَ ممَّا يَرِد على تعريفِ الأصحاب لهُ بأنَّ الموثَّقَ: (ما رواهُ مَن نُصَّ على توثيقهِ، مع فسادِ عقيدته)(١) ؛ فإنَّهُ يشتَمِلُ بإطلاقه ما لو كانَ في الطريقِ واحدٌ كذلك، معَ ضعفِ الباقي، وليس بِمُرادٍ كما مرَّ.

وقد يُطلق القويّ على مرويِّ الإمامي ؛ غير الممدوح ولا المذموم(٢) ، ك-: نوح بن درَّاج(٣) ، وناجية بن أبي عُمارةَ الصيداويِّ(٤) ، وأحمد بن عبد الله بن جعفرِ الحِميريِّ(٥) ، وغيرهم، وهُم كثيرون.

وقولُنا:(غيرُ المَمدوح ولا المَذموم)

[أ] خيرٌ من قولِ الشهيدرحمه‌الله وغيرهِ في تعريفهِ:(... غيرُ المذموم) (٦) ، مُقتصرين عليه ؛ لأنَّه يشمُلُ الحَسَن، فإنَّ الإمامي المَمدوحَ: غيرُ مذموم، ولو فُرِضَ كونُهُ قد مُدِحَ وذُم كما اتّفق لكثير.

[ب] وردٌّ على تعريف الحسن أيضاً ؛ والأولى: أن يطلب حينئذ الترجيحُ، ويُعملُ بِمُقتضاهُ، فإن تحقَّقَ التعارضُ، لم يكُن حسَناً. وعلى هذا ؛ فينبغي زيادة تعريفِ الحسن: بكونِ المدحِ مقبولاً ؛ فيُقالُ: ما اتّصلَ سندُهُ بإمامي ممدوحٍ مدحاً مقبولاً... إلخ ، أَو غير معارض بذمٍّ ؛ ونحو ذلك.

____________________

(١) ينظر: ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، ص٤.

(٢) ينظر: المصدر نفسه.

(٣) من أصحابِ الصادقعليه‌السلام ،.... معجم رجال الحديث: ١٩/ ٢١٩ - ٢٢٢.

(٤) من أصحاب الباقرعليه‌السلام ،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ١٩/ ١٤٤ - ١٤٥.

(٥) كان له مكاتبة،.... ينظر: معجم رجال الحديث: ٢/ ١٣٧.

(٦) ويبدو أنّ في المقام اشتباهاً: إمَّا من الشهيد الثاني في نقله، وإمَّا من قول الشهيد الأوَّل في نسخه ؛ ذلك لأنَّ الذي وردَ في الكتاب المطبوع (ذكرى الشيعة إلى أحكام الشريعة)(ص٤) جاءَ فيه: (وقد يُرادُ بالقويّ: مرويّ الإمامي، غير المذموم ولا الممدوح ؛ أو مرويّ المشهور في التقدُّم غير الموثّق ؛ والضعيف يقابلهُ ؛ وربَّما قابل الضعيف: القبيحُ، والحسنُ، والموثّقُ).

٨٧

الحقل الرابع:

في

الضعيف(١)

وهو ما لا يجتمع فيه شروط أحد الثلاثة المتقدِّمةِ ؛ بأن يشتملَ طريقُهُ على مجروح بالفسقِ ونحوه، أو مجهول الحالِ، أو ما دونَ ذلك ؛ كالوضَّاعِ.

ويُمكن اندراجهُ في المجروح، فيُستغنَى به عنِ الشّقّ الأخير(٢) .

[أ] - ودرجاته في الضّعف متفاوتةٌ بحسبِ بُعده عن شروط الصحّة، فكلَّما بعُدَ بعضُ رجاله عنها، كانَ أقوى في الضّعف ؛ وكذا ما كثُر فيه الرواةُ المجروحون، بالنِّسبةِ إلى ما قلّ فيه(٣) .

كما تتفاوتُ درجاتُ الصحيح، وأخويه الحسن والمُوَثّق، بحسبِ تمكُّنه من أوصافها. فما رواهُ الإمامي الثقةُ، الفقيه الورع الضابطُ - كابنِ أبي عُميرٍ - أصحّ ممَّا رواه مَن نقصَ في بعضِ الأوصاف، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أقلِّ مراتبه.

وكذلك ما رواه الممدوح كثيراً - كإبراهيم بن هاشمٍ(٤) - أحسنُ ممَّا رواه مَن هو دونه في المدح، وهكذا إلى أن يتحقَّق مُسمَّاهُ.

وكذا القولُ في المُوَثّق ؛ فإنَّ ما كانَ في طريقه، مثلُ عليّ بن فَضَّال(٥) ، وأبانِ بن عثمان(٦) ، أقوَى مِن غَيره، وهكذا...

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٥، لوحة ب، سطر ٧): (الرابع الضعيف) فقط، بدون: (الحقل الرابع: في الضعيف).

(٢) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (ولعلّ الأحسنَ إبقاءه ؛ للفرق الواضح بينَ خبرِ شاربِ الخمر، وخبرِ الكذَّاب الوضَّاع).

(٣) سيأتي مزيدُ بيانٍ عن أنواعِ الحديثِ الضعيف في النظرِ الثاني من القسمِ الثاني مِن البابِ الأوّلِ، حسبَ الهيكل العامّ المعدَّل، الذي عملنا على رسمه.

(٤) من أصحاب الرّضاعليه‌السلام ،.... يُنظَر: معجم رجال الحديث: ١/ ١٧٧ - ١٩١.

(٥) هو عليُّ بن الحسَن بن فضّال الفطحيّ،.... يُنظر: معجم رجال الحديث: ١٢/ ١٢٣.

(٦) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (أبانُ بن عثمان: ثِقةٌ جليلٌ ؛ وقد عُدَّ مِن أصحابِ الإجماع ؛ إلاّ أنَّه نوقشَ في مذهبه ؛ فعَنْ بعضِ نُسَخِ الكشّي: وكان من الناووسيّة. وعن المحقِّق - والعلاّمة في خاتمة الخلاصةِ - : أنَّهُ فطحيُّ. كما نُسِبَ إلى العلاّمةِ في محكيّ المختلَف: أنَّه واقفيّ.

ولم يثبت شيءٌ من ذلك كُلّهِ، وللتفصيلِ مجالٌ آخر، لا يسعه هذا المختصر).

٨٨

[ب]. وَيَظهرٌ أثر القوّةعندَ التعارضِ ؛ حيث يعمَل بالأقسام الثلاثة، ويخرج أحد الأخيرين شاهداً(١) ، أو يتعارضُ صحيحان أو حسنان، حيثُ يجوزُ العملُ بهِ(٢) .

وكثيراً ما يُطلَق الضعيفُ في كلام الفُقهاء على روايةِ المجروحِ خاصة، وهو استعمالُ الضعيفِ في بعضِ مواردهِ، وأمرُهُ سهلٌ.

____________________

(١) أي: الحسن أو الموثّق، بأن جعله شاهداً للصحيح، بدون العمل به. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص١٧.

(٢) وقد علَّق المددي هنا بقوله: (أي: بالقويّ (الموثَّق) ؛ فعند تعارضِ الصحيحين أو الحسنين، يُرجعُ إلى الموثَّق، ويُعمل به ِ؛ ويكونُ مُرَجِّحاً لأحدهما على الآخر).

٨٩

النظرُ الثاني: في حُجِّيَّةِ العملِ بها

وفيه حُقول:

الحقل الأوَّل:

في

العملِ بخبرِ الواحد(١)

وأعلَم: أنَّ مَن منعَ العملَ بخبر الواحد مُطلقاً، كالسيِّدِ المرتضى، تنتَفي عندَهُ فائدةُ البحثِ عن الحديثِ غير المتواتر مُطلَقاً ؛ ومَنْ جوَّزَ العملَ بخبرِ الواحدِ، كأكثرِ المتأخّرين في الجُملة.

فائدةُ القيد: التنبيه، على أنَّ مَن عمِل بخبر الواحد، لم يعمل به مُطلقاً ؛ بَلمنهم مَن خصَّه بالصحيح،ومنهم من أضاف الحسَن،ومنهم من أضافَ الموثَّق،ومنهم من أضافَ الضعيفَ على بَعض الوجوه كما سننبّه عليهِ.

فالعاملُ بخبر الواحدِ على أيّ وجهٍ كان: قَطَعَ بالعمل بالخبر الصحيح ؛ لِعدم المانع منه، فإنَّ رواته عُدول، صحيحو العقايد ؛ لكن لم يُعمل به مطلقاً ؛ بل حيثُ لا يكون شاذّاً، أو معارضاً بغيره من الأخبارِ الصحيحة، فإنَّه حينئذٍ يُطلبُ المُرَجِّحُ.

ورُبَّما عمِل بعضهم بالشاذِّ أيضاً، كما اتّفقَ للشيخين(٢) في صحيحة زُرارة ؛ في مَن دخل في الصلاة بتيمُّم ثُمّ أحدثَ؟

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٦، لوحة ب، سطر ١٠): (النظر الثاني: في حُجِّ-يَّةِ العمل بها. وفيه حقول: الحقل الأول: في العمل بخبر الواحد) غير موجود ؛ وإنَّما أضفناه للضرورة المنهجية والإخراجيَّة.

(٢) يقول الفقيه المقداد السيوريّ في مقدِّمة كتابه (التنقيح الرائع لمختصر الشرائع)، وهو مخطوطٌ محفوظ في (مكتبة آية الله الحكيم العامّة) في النجف الأشرف، تحت رقم ٣٠٦، يقول المقدادُ: (المرادُ بالشيخ هو: الطوسيرحمه‌الله . وبالشيخين: هو مع المفيد. والثلاثة: هما مع المُرتضى. وعلَمُ الهدى: هو المُرتضى).

٩٠

إنَّه: يتوضأُ حيث الماء، ويبني على الصلاة ؛ وإنْ خصَّاها بحالة الحدث ناسياً(١) ؛ ومثل ذلك كثيرٌ.

___________________

(١) قلتُ: صحيحة زرارة هذه، إنَّما هي من الشاذ بالتفسير الذي فسَّره به بعضُ العامَّة ؛ وهو ما انفرد به راوٍ واحد.

وأمَّا الشذوذ بالتفسير الذي ذكره أكثرهم، واعتمده الوالدقدس‌سره فيما يأتي، وهو: (ما رواه الثقة مخالفاً لِمَا رواه الأكثرُ)، فليسَ ذلك بمتحقِّق فيها ؛ إذ لم يرد بخلافها رواية، فضلاً عن رواية الأكثر له.

نعم، هي مخالفة للمعهود في نظائر الحكم من منافيات الصلاة ؛ ولفظُ التفسير كما لا يخفى، غير متناول لمثل هذه المخالفة، فليُنظر.

حسنرحمه‌الله (هامش الخطِّيَّة المعتمدة: روقة ١٦، لوحة ب)

والمقصود بعبارة (حسنرحمه‌الله ) هو: الشيخ حسن صاحب كتاب (المعالم)، وهو ابن الشهيد الثاني صاحبٍ (الدراية).

وأمَّا بخصوص الصحيحة، فينظر: مَن لا يحضرهُ الفقيه: ١/ ٥٨، باب التيمّم، حديث ٢١٤/ ٤، وتهذيب الأحكام (للشيخ الطوسي، في شرحِ المقنعة للشيخ المفيد): ١/ ٢٠٥، باب التيمّم وأحكامه، حديث ٥٩٥/ ٦٩، والاستبصار: ١/ ١٦٧، بابُ مَن دخلَ في الصلاةِ بتيمّم ثُمَّ وجدَ الماءَ، حديثُ ٥٨٠/ ٦.

٩١

الحقل الثاني:

في

العمل بالخبر الحسن(١)

واختلفوا في العمل بالحسن:

فمنهم مَنعمل به مطلقاً كالصحيح، وهو الشيخرحمه‌الله - على ما يظهر من عمله - وكلّ مَن اكتفى في العدالة بظاهر الإسلام، ولم يشترط ظهورها.

ومنهم مَن ردَّهمطلقاً ، وهم الأكثرون ؛ حيث أشترطوا في قبول الرواية: (الإيمانَ، والعدالةَ)، كما قطَع بهالعلاّمةُ في كتبه الأُصوليَّة،وغيره .

والعجبُ أنَّ الشيخرحمه‌الله اشترطَ ذلك أيضاً في كتبِ الأصولِ، ووقع له في الحديث وكتب الفروع الغرائب ؛ فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقاً، حتّى أنَّه يُخصِّص به أخباراً كثيرةً صحيحةً، حيث تعارضه بإطلاقها، وتارةً يُصرِّح بردِّ الحديث لضعفه، وأخرى يردّ الصحيح ؛ معلِّلاً بأنَّه خبر واحد، لا يوجب علماً ولا عملاً كما هي عبارة المرتضى.

وفصّل آخرون في الحسن: كالمحقِّق في المُعتبر، والشهيد في الذّكرى ؛ فقبلوا الحسن، بل الموثَّق ؛ وربَّما ترقّوا إلى الضعيف أيضاً إذا كان العمل بمضمونه مشتهراً بين الأصحاب ؛ حتّى قدّموهُ حينئذٍ على الخبرِ الصحيحِ حيثُ لا يكونُ العملُ بمضمونهِ مشتهِراً.

____________________

(١) الذي في النسخةِ الخطِّيَّة (روقة ١٦، لوحة ب، سطر ٩): (الحقل الثاني: في العمل بالخبر الحسن)، غير موجود.

٩٢

الحقل الثالث:

في

العمل بالخبرِ الموثَّق(١)

وكذا اختلفوا في العمل بالموثّق نحو اختلافهم في الحسن،فقبله قوم مطلقاً ،وردَّه آخرون، وفصّل ثالث [بالشهرة وعدمِها](٢) .

ويُمكنُ اشتراكُ الثلاثة في دليل واحدٍ يدلّ على جواز العمل بها مطلقاً ؛ وهو: أنَّ المانعَ من قبول خبرِ الفاسق هو فسقه ؛ لقوله تعالى:( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا... ) (٣) . فمتى لم يُعلم الفسق، لا يجب التثبُّت عند خبر المُخبر مع جهل حاله ؛ فكيف مع توثيقه ومدحه، وإن لم يبلُغ حدَّ التعديل؟ وبهذا احتجَّ مَن قبل المراسيل.

وقدأجابوا عنه ب-: أنَّ الفسقَ لمَّا كان علَّة التثبُّتِ، وجبَ العلمُ بنفيه ؛ حتّى يُعلم وجود انتفاء التثبُّت، فيجب التفحُّصُ عن الفسق، ليُعلَم أو

عدمه، حتّى يُعلَم التثبُّت أو عدمه.

وفيه نظرٌ ؛ لأنّ الأصل عدمُ وجودِ المانع في المُسلمِ. ولأنَّ مجهولَ الحال، لا يُمكن الحكمُ عليهِ بالفسقِ ؛ والمُرادُ في الآية: المحكومُ عليهِ بالفسقِ.

____________________

(١) الذي في النسخة المعتمدةِ (ورقة ١٧، لوحة أ، سطر ٩): (الحقل الثالث: في العمل بالخبر الموثق) غير موجود.

(٢) هذه الزيادة غير موجودة في النسخة الخطِّيَّة المتداولة (ورقة ١٧، لوحة ب، سطر ١٠)، وإنَّما هي موجودة في طبعة النعمان المتداولة، وقد أثبتناها هنا لمزيد إيضاح وتوضيح.

(٣) سورة الحجرات، آية ٧.

٩٣

الحقل الرابع:

في

العمل في الخبر الضعيف(١)

وأمَّا الضعيف ؛فذهبَ الأكثر إلى منع العمل به مُطلقاً ؛ للأمر بالتثبُّت عندَ إخبارِ الفاسق المُوجبِ لردِّهِ.

وأجازَهُ آخرون - وهُم جماعةٌ كثيرةٌ: منهم مَن ذكرناه - مع اعتضادِه بالشّهرة روايةً ؛ بأن يكثر تدوينها وروايتها: بلفظٍ واحدٍ، أو ألفاظٍ متغايرةٍ متقاربة المعنى، أوفتوىً بمضمونها في كتب الفقه ؛ لقوَّة الظنّ بصدق الرّاوي في جانبها - أي جانب الشّهرة - وإن ضعُفَ الطريقُ ؛ فإنَّ الطريقَ الضعيفَ، قد يثبُتُ بهِ الخبرُ مع اشتهارِ مضمونِهِ ؛ كما تُعلَمُ مذاهبُ الفِرَقِ الإسلاميَّة - كقول: أبي حنيفة(٢) ، والشافعيِّ(٣) ، ومالك(٤) ، و أحمد - بإخبار أهلها - مع الحكم بضعفهم عندَنا - وإن لم يبلغوا حدَّ التواتر.

وبهذا اعتُذر للشيخرحمه‌الله في عمَله بالخبر الضّعيفِ.

وهذهِ، حجّةُ مَنْ عمِلَ بالموثّق أيضاً، بطريقٍ أولى.

وفيه نظرٌ ، يخرج تحريره عن وضع الرسالة ؛ فإنَّها مبنيةٌ على الاختصار، ووجهُهُ على وجه الإيجاز: إنَّا نمنع من كون هذه الشُّهرة التي ادّعوها مؤثِّرةً في جبر الخبر الضّعيف ؛ فإنَّ هذا إنّما يتمّ لو كانت الشّهرة متحقّقةٌ قبلَ زمنِ الشيخرحمه‌الله ، والأمرُ ليس كذلك ؛ فإنَّ مَنْ قبله من العلماء كانوا بينَ مانع من خبر الواحد مُطلقاً - كالمرتضى والأكثر، على ما نقله جماعة - وبين جامع للأحاديث، من غير التفات إلى تصحيح ما يصحُّ، وردِّ ما يُرَدُّ. وكانَ البحثُ عن الفتوى مُجرَّدةً - لغيرِ الفريقين - قليلاً جداً كما لا يخفَى على مَن اطّلعَ على حالِهِم.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٧، لوحة ب، سطر ٦): (الحقل الرابع: في العمل بالخبر الضعيف) غير موجود.

(٢) النعمان بن ثابت: ٨٠ - ١٥٠ه-،.... ينظر: الأعلام: ٩/ ٤ - ٥.

(٣) محمد بن إدريس: ١٥٠ - ٢٠٤ه-،.... ينظر: الأعلام: ٦/ ٢٤٩ - ٢٥٠.

(٤) مالك بن أنس: ٩٣ - ١٧٩،.... ينظر: الأعلام: ٦/ ١٢٨.

٩٤

فالعمل بمضمون الخبر الضّعيف قبل زمن الشيخ، على وجه يجبر ضعفه، ليس بمتحقّقٍ. ولمّا عمل الشيخ بمضمونه، في كتبه الفقهيَّة، جاء مَن بعده من الفقهاء واتّبعه منهم عليها الأكثر ؛ تقليداً له، إلاّ مَن شذّ منهم. ولم يكن فيهم مَن يسبر الأحاديث، وينقِّب على الأدلّة بنفسه سوى الشيخ المحقِّق ابن إدريس(١) ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقاً.

فجاء المتأخّرون بعد ذلك، ووجدوا الشيخ ومَن تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضّعيف ؛ لأمر ما رأوه في ذلك، لعلّ الله تعالى يعذرهم فيه ؛ فحسبوا العلم به مشهوراً، وجعلوا هذه الشّهرة جابرةً لضعفه. ولو تأمّل المنصف، وحرَّر المنقِّب، لوجد مرجع ذلك كلّه إلى الشيخ، ومثل هذه الشّهرة، لا تكفي في جبر الخبر الضّعيف.

ومن هنا، يظهر الفرق بينه وبين ثبوت فتوى المخالفين بأخبار أصحابهم ؛ فإنَّهم كانوا منتشرين في أقطار الأرض من أوّل زمانهم، ولم يزالوا في أزياد(٢) .

وممَّن اطّلع على أصل هذه القاعدة - التي بيَّنتُها وتحقَّقتُها - من غير تقليدٍ: الشيخ الفاضل المحقِّق سديد الدّين محمود الحُمُّصي(٣) ، والسيّد رضيّ الدّين ابن طاووس(٤) ، وجماعة.

قالَ السيّدرحمه‌الله في كتابه (البهجة لثمرة المهجة): (أخبرني جدّي الصالح، ورّام بن أبي فراس (قدّس الله سرّه)(٥) ، أنَّ الحُمُّصي حدَّثه: أنَّه لم يبق للإماميّة مفتٍ على التّحقيق، بل كلّهم حاكٍ.

____________________

(١) صاحب كتاب: (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي)،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٦/ ٢٧٤ - ٢٩٠.

(٢) أي: العلم بمذاهب المخالفين وفتاويهم مستفادٌ من أصحابهم، وحيثُ لم يكونوا ثقة عندنا، كان إخبارُهم بمذاهبهم من باب الأخبار الضعيفة، لكن اعتبرها أصحابنا، وحكموا بأنَّ هذا القول لأبي حنيفة، وهذا للشافعي، وغيرهما، استناداً إلى الشهرة التي انجبر الضعيف بها. وليس تلك الشّهرة كالشهرة التي ادّعاها أصحابنا في بعض الأخبار ؛ لِمَا عرفت أصلها. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص٢٠.

(٣) علاّمةُ زمانه في الأُصولَين، ورع ثقة،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٧/ ١٥٨ - ١٦٤.

(٤) السيّد الشريف: رضيّ الدين أبو القاسم علي، بن سعد الدين أبي إبراهيم موسى، بن جعفر، بن محمد، بن أحمد، بن محمد، بن أحمد، بن أبي عبد الله محمد، بن الطاووس ؛ ينتهي نسبه الشريف إلى الحسن المثنّى.... ينظر: البحار: ١/ ١٤٣ - ١٤٦.

وكذلك له ترجمةٌ ضافيةٌ في مقدِّمة: كشف المحجّة لثمرة المهجة، المطبوع في النجف الأشرف، بقلم البحّاثة الكبير آغا بزرگ الطهراني.

(٥) من أولاد مالك الأشتر النخعيّ، عالم فقيه،.... ينظر: روضات الجنَّات: ٨/ ١٧٧ - ١٧٩.

٩٥

وقالَ السيّد عقيبه: والآن، فقد ظهر أنَّ الذي يُفتى به ويُجاب عنه، على سبيل ما حُفظ من كلام العلماء المتقدّمين)(١) انتهى.

وقد كشفتُ لك بذلك بعضَ الحال، وبقيَ الباقي في الخَيال، وإنَّما يتنبّه لهذا المقال، مَن عرف الرِّجال بالحقّ، وينكره مَن عرف الحقّ بالرّجال(٢) .

وجوّزَ الأكثر العمل به - أي بالخبر الضعيف - في نحو: القصص، والمواعظ، وفضائل الأعمال، لا في نحو: صفات الله المُتعال، وأحكام الحلال والحرام.

وهو حسن حيث لا يبلغ الضعف حدّ الوضع والاختلاق ؛ لِمَا اشتهر بين العلماء المحقِّقين من التساهل بأدلَّة السُّنن، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخير، لِمَا ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - من طريق الخاصّة والعامّة - أنَّه قال: (مَن بلغه عن الله تعالى فضيلةً، فأخذها وعمل بما فيها إيماناً بالله ورجاء ثوابه، أعطاه الله تعالى ذلك وإنْ لم يكن كذلك)(٣) . وروى هشام بن سالم - في الحسن(٤) -، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: (مَن سمع شيئاً من الثواب على شيء، فصنعه، كان له أجر، وإن لم يكن على ما بلغه)(٥) .

____________________

(١) وقد علّق المددي هنا بقوله: (إنَّ كتاب (البهجة لثمرة المهجة) لم يصل إلينا، ولكنّ السيّد ابن طاووس ذكر هذا الكلام بعينه في كتابه: (كشف المحجّة لثمرة المهجة)(ص١٢٧)، المطبوع في النجف الأشرف).

(٢) هذه العبارة - فيما يبدو - مستلهمّة من قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (يا حَار... إنَّه ملبوس عليك ؛ إنَّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فاعرف الحقّ تعرف أهله)، وهذا من التضمين الجميل. يُنظر: البيان والتبيين للجاحظ: ٣/ ١٣٦.

(٣) ينظر: عُدّة الدّاعي، ص٤.

(٤) وقد علّق المددي هنا بقوله: (وصفه ب-: الحسن ؛ باعتبار أنَّ الكليني رواه بإسناد فيه إبراهيم بن هاشم، وهو إماميّ ممدوح ؛ إلاّ أنَّ البرقي رواه في المحاسن (ص٢٥) بسند صحيحٍ عن هشام بن سالم، مع اختلاف يسير في الألفاظ.

وقال السيّد ابن طاووس: ووجدنا هذا الحديث في أصل هشام بن سالم، رواه عن الصادقعليه‌السلام ). ينظر: البحار: ٢/ ٢٥٦.

(٥) ينظر: الأُصول من الكافي: ٢/ ٨٧، وعُدّة الدَّاعي، ص٣، والبحار: ٢/ ٢٥٦، وجامع أحاديث الشيعة: ج١، المقدّمات، الباب٩.

٩٦

القسم الثاني:

في

الأنواعِ والفُروع

أمَّا وقد عرَفتَ تلكَ المعاني الأربعة(١) ، التي هي أصول علم الحديث، بقي هنا عبارات لمعانٍ شتّى:

منها: ما يشترك فيها الأقسام الأربعة ، إمَّا جميعها أو بعضها، بحيث لا يختصّ بالضعيف ؛ ليدخل فيه المقبول، فإنَّه ليس من أقسام الصحيح، وإنَّما يشترك فيه الثلاثة الأخيرة، على ظاهر الاستعمال ؛ وإن كان إطلاق مفهومه، قد يفهم منه كونه أعمُّ من الصحيح أيضاً.

وجملةُ المشتركِ: ثمانيةَ عشرَ نوعاً.

ومنها: ما يختصُّ بالضعيف ؛ وهو: ثمانية.

فجملة الأنواع الفروع: ستّة وعشرون، ومع الأصول: ثلاثون نوعاً ؛ وذلك على وجه الحصرالجعليّ ، أوالاستقرائي ؛ لإمكان إبداء أقسامٍ أخر(٢) .

[وعليه، ففي هذا القسم: نظران](٣)

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ٢): (وإذ قد عرفت هذه المعاني الأربعة)، بدلاً من: (القسم الثاني: في الأنواع والفروع. أمَّا وقد عرفت تلك المعاني الأربعة).

(٢) قال أبو عمرو بن الصلاح بعد ذكر تعداد أنواع الحديث: وليس بآخر الممكن في ذلك، فإنَّه قابل للتنويع إلى ما لا يُحصى ؛ إذ لا تُحصى أحوال الرواة وصفاتهم، وأحوال متون الحديث وصفاتها. ينظر: مقدمة ابن الصلاح، ص٨١.

وقال ابن كثير في تعقيبه على ابن الصّلاح: وفي هذا كلّه نظر، بل في بسطه هذه الأنواع إلى هذا العدد نظر ؛ إذ يمكن إدماج بعضها في

بعض، وكان أليق ممَّا ذكره. الباعث الحثيث، ص٢١.

(٣) هذه الزيادة غير موجودة في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ١٠) وإنَّما أثبتناها هنا للضرورة المنهجيَّة.

٩٧

النظر الأوَّل: في أنواع المشترك

وفيه حقول:

الحقل الأوَّل:

في

المسند(١)

وهو ما اتّصل سنده مرفوعاً، من راويه إلى منتهاه، إلى المعصوم.

وأكثر ما يُستعمل في ما جاء عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

فخرج باتّصال السّند: المرسل، والمعلّق، والمعضل.

وبالغاية: الموقوف، إذا جاء بسند متّصل، فإنَّه لا يسمَّى في الاصطلاح مسنداً.

وربَّما أطلقه بعضهم على المتّصل مطلقاً(٣) ؛ وآخرون: على ما رُفع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنْ كان منقطعاً.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ١٩، لوحة ب، سطر ١١): (فمن القسم الأول - وهو المشترك - أمور ؛ أحدها: المسند)، بدلاً من (النظر الأوّل: في أنواع المشترك، وفيه حقول، الحقل الأوّل: في المسند)، وهذا ممَّا وضعناه للضرورة المنهجيَّة.

(٢) قال الحاكم: هو ما اتّصل إسناده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقال الخطيب: هو ما اتّصل إلى منتهاه.

وحكى ابن عبد البرّ: إنَّه المرويّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سواء كان متّصلاً أم منقطعاً.

وقال أحمد محمد شاكر: وعلى تعريف الخطيب يدخل الموقوف - على الصحابة إذا روي بسند - في تعريف المسند، وكذلك يدخل فيه ما روي عن التابعين بسندٍ أيضاً، ولا يدخلان فيه على تعريف الحاكم وابن عبد البرّ.

ويدخل المنقطع والمعضل على تعريف ابن عبد البرّ، ولا يدخل على تعريف الحاكم. ينظر: الباعث الحثيث، ص٤٤ - ٤٥ (جمعاً بين المتن والهامش)، وينظر: كتاب الكفاية في علم الرواية، ص٢١، ومعرفة علوم الحديث (مقدمة ابن الصلاح)، ص١٧.

(٣) وقد علّق المددي هنا بقوله:

أي: سواءٌ أكان مسنداً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم إلى الصحابة ؛ وهو المسمَّى: بالموقوف.

٩٨

الحقل الثاني:

في

المتَّصل(١)

ويُسمَّى أيضاً: الموصول(٢) .

وهو ما اتّصل إسناده إلى المعصوم أو غيره، وكان كلّ واحد من رواته، قد سمعه ممَّن فوقه، أو ما هو في معنى السماع: كالإجارة، والمناولة.

وهذا القيد(٣) ، أخلّ به كثيرٌ، فورد عليهم ما تناوله ؛ سواءٌ كانَ مرفوعاً إلى المعصوم، أم موقوفاً على غيره.

وقد يُخص بما اتّصل إسناده إلى المعصوم، أو الصحابيّ، دون غيرهم.

هذا مع الإطلاق، أمَّا مع التقييد، فجائز مطلقاً [و] واقع ؛ كقولهم: هذا متّصل الإسناد بفلانٍ، ونحو ذلك.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ٢٠، لوحة أ، سطر ٣): (وثانيها المتّصل) فقط، بدون (الحقل الثاني: في المتَّصل).

(٢) الخلاصةُ في أصول الحديث، ص٤٦، وينظر: الباعث الحثيث، ص٤٥.

(٣) أي: قوله: أو ما هو في معنى السماع. خطِّيَّة الدكتور محفوظ، ص٢٢.

٩٩

الحقل الثالث:

في

المرفوعِ(١)

- ١ -

وهو ما أضيف إلى المعصوم(٢) ؛ من قولٍ، بأن يقول في الرواية: أنَّهعليه‌السلام قال كذا، أوفعل ، بأن يقول: فعل كذا، أوتقرير ، بأن يقول: فعل فلان بحضرته كذا ولم ينكره عليه، فإنَّه يكون قد أقرَّه عليه، وأولى منه: ما لو صُرِّح بالتقرير.

سواء كان إسناده متَّصلاً بالمعصوم بالمعنى السابق، أم منقطعاً: بترك بعض الرواة، أو إبهامه، أو رواية بعض رجال سنده عمَّن لم يلقه(٣) .

وقد تبيَّن من التعريفات الثلاثة: أنَّ بين الأخيرين منها عموماً من وجه(٤) ؛ بمعنى: صدق كلٍّ منهما على شيء ممَّا صدق عليه الآخر، مع عدم استلزام صدق شيءٍ منهما صدق الآخر.

ومادّة تصادقهما هنا: فيما إذا كان الحديث متّصل الإسناد بالمعصوم، فإنَّه يصدق عليه الاتصال والرَّفع ؛ لشمول تعريفهما له.

ويختص المتّصل: بمتّصل الإسناد، على الوجه المقرَّر، مع كونه موقوفاً على غير المعصوم.

ويختصّ المرفوع: بما أضيف إلى المعصوم بإسناد منقطعٍ.

____________________

(١) الذي في النسخة الخطِّيَّة المعتمدة (ورقة ٢٠، لوحة أ، سطر ١٠): (وثالثها: المرفوع) فقط، بدون:(الحقل الثالث: في المرفوع).

(٢) وقد علَّقَ المددي هنا بقوله: (وعند العامّة: خصوص ما أُضيفَ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

(٣) ينظر: الخلاصة في أصول الحديث، ص٤٦، والباعث الحثيث، ص٤٥.

وقد علّق المددي هنا بقوله: (مثاله: ما رواه الشيخ في التهذيب(٩/ ٢٦) بإسناده عن ابن أبي عُمير، عن زرارة، عن محمد بن مسلم...، فإنَّ ابن أبي عُمير، لم يلقِ زرارة ؛ فحديثه عنه مرفوع).

(٤) العموم المطلق، والعموم من وجه، والخصوص المطلق، والخصوص من وجه، بل كذلك العموم والخصوص من وجه، كلّ هذه وغيرها اصطلاحات منطقيَّة. ينظر من مثل: (كتاب المنطق)، للشيخ المظفَّر.

ويظهر من هذا الحقل: كيف أنَّ علمَ المنطق يدخل في خدمة الحديث ؛ وكيف أنَّ العلوم في مباحثها بلحاظٍ ولحاظٍ متداخلةٌ....

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

«السرابيل» : جمع «سربال» (على وزن مثقال) ، بمعنى الثوب من أيّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته) ، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين ، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو : لباس وغطاء لبدن الإنسان ، إلّا أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.

وكما هو معلوم ، فإنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد ، بل تلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إليه ، فلو تعرى الإنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها ، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأولى دون غيرها لأهميتها المميزة.

ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشيا مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصارا ، فيكون الثّاني واضحا بقرينة وجود الأوّل ، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.

وثمّة احتمال آخر : أن يكون ذلك بلحاظ خطورة الإصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة ، وبتعبير آخر : إنّ تحمل الإنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد ، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإنسان على تحمل البرودة لحد ما.

وفي ذيل الآية يقول القرآن مذكّرا :( كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) أي تطيعون أمره.

وطبيعي جدّا أن يفكر الإنسان بخالق النعم ، خصوصا عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده ، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصدا زيادة معرفته به إذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.

ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة «النعمة» في الآية ببعض النعم : كنعمة الخلق ، وتكامل العقل ، أو التوحيد ، أو نعمة وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك ، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور) ، وما

٢٨١

التخصيص في حقيقته إلّا من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة يقولعزوجل أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق ، لأنّ وظيفتك إبلاغهم :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعمّ بالاستدلال الحق والجاذبية ، إلّا أنّه لا يؤثر في المخاطب ما لم يكن مستعدا لاستماع وقبول كلام المتكلم ، وبعبارة أخرى : إنّ (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.

وعلى هذا ، فإن لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومن امتاز بالتعصب والعناد ، فذلك ليس بالأمر الجديد ، وما عليك إلّا أن تصدع ببلاغ مبين وأن لا تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسليته.

وتكميلا للحديث يضيف القرآن الكريم القول :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) .

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق ، وتقديم منافعهم المادية على كل شيء ، وتلوّثهم بمختلف الشهوات ، بالإضافة إلى مرض التكبّر الغرور.

ولعل ما جاء في آخر الآية( وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) إشارة لهذه الأسباب المذكورة.

وقد جذبت كلمة «أكثرهم» انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها حتى توصل المفسّرون إلى أسباب كثيرة كلّ حسب زاوية اهتمامه في البحث ، ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلّ ما ذكروه ، وخلاصته : إنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد ، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياسا إلى أولئك.

٢٨٢

ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشئ من التكّبر والعناد ، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (٣٤) من سورة البقرة( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) .

واحتمل البعض : أنّ المقصودين بـ «أكثرهم» من تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد ، وهذا المعنى يمكن أن يعود إلى المعنى الأوّل.

* * *

بحثان

١ ـ كلمات المفسّرين

ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير( نِعْمَتَ اللهِ ) في الآية لا يعدو غالبا من قبيل التّفسير بالمصداق ، في حين أنّ مفهوم «نعمة الله» من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية ، حتى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى.

وروايات أهل البيتعليهم‌السلام تؤكّد على أنّ المقصود بـ «نعمة الله» هو وجود الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده ، وبنا فاز من فاز»(١) .

فواضحّ أنّ السعادة والنجاح لا يمكن إدراكهما إلّا عن طريق قادة الحق وهم الأئمّةعليهم‌السلام فوجودهم إذن من أوضح وأفضل النعم الإلهية (وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم الله سبحانه).

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٢.

٢٨٣

٢ ـ صراع الحقّ مع الباطل

لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة «ثمّ» من قوله تعالى :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) ، لأنّ استعمالها عادة كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين ، ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم الله وبين إنكارهم للنعم ، فقالوا : إنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الاعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة الله ، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الاعتراف ، إلّا أنّهم ساروا في طريق الباطل! فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة «ثمّ».

ونحتمل أنّ «ثمّ» هنا إشارة إلى معنى خفي ، خلاصته : أنّ دعوة الحقّ عند ما تتوغل إلى دواخل الروح الإنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة ، فإنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإنكار الموجود فيه أحيانا ، فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل ، فإن كانت عوامل النهي والإنكار أقوى فإنّها ستغلبها بعد مدّة وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة «ثمّ».

والآيتان (٦٤ و ٦٥) ، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إبراهيمعليه‌السلام تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي الله إبراهيمعليه‌السلام بعد أن حطم أصنامهم جميعها إلّا كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأولى يغوصون في تفكير عميق ، ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إلى الحقّ لو لا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم (التعصب ، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق ، فعادوا من جديد إلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة «ثم» أيضا :( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) .

وعلى هذا فمعنى «الكافرون» يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة «ثم».

* * *

٢٨٤

الآيات

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) )

التّفسير

عند ما تغلق الأبواب أمام المجرمين :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم

٢٨٥

اعترافهم بالنعم الإلهية ، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي الشديد الذي ينتظر أولئك في عالم الآخرة ، لينبه الغافل من سباته ، فعسى أن يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان ، فيقول أوّلا :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) (١) .

وهل ثمّة حاجة إلى شاهد مع وجود علم الله المطلق؟

قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال عند قراءة الآية ، وتتّضح الإجابة على ذلك من خلال التدقيق في الملاحظة التالية : إنّ الأمور غالبا ما يقصد فيها الجانب النفسي والروحي، والإنسان كلما أيقن بوجود الشهود والمراقبين عليه من قبل الله سبحانه ازداد في محاسبة نفسه، وأقلّ ما يمكن أن يذكر بهذا الصدد ما سيصيبه من خجل يوم مواجهتهم مع ما اقترفت يداه.

وبخصوص تلك المحكمة ، تأتي الآية لتقول :( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وهل من الممكن أن لا يأذن الله للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم ، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم ، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين وكذلك الجلد ، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى ، كلها ستشهد عليه ، ويمكن استفادة هذا المعنى من آيات قرآنية أخرى كالآية (٦٥) من سورة يس والآية (٣٦) من سورة المرسلات.

بل ويزداد على عدم السماح لهم بالكلام ب( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (٢) .

لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح ، وهم حينها كالثمرة المقطوفة التي انتهى زمن نموها.

__________________

(١) أل «يوم» هنا ظرف متعلق بفعل مقدّر ، وأصل العبارة : (وليذكروا) أو (واذكروا).

(٢) يستعتبون : من الاستعتاب ، وهي في الأصل من (العتاب) وهو التحدث بلهجة شديدة ولوم ، فيكون مفهوم الاستعتاب : أن يطلب المذنب من صاحب الحق عقابه فيصبح سببا لسكون غضبه وحصول رضاه ، ولهذا اعتبر البعض ، أنّ الاستعتاب بمعنى الاسترضاء في حين أنّ حقيقة مفهومه ليس الاسترضاء ، وإنّما هو لازم له.

٢٨٦

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب ، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارة ، ويطلبون إمهالهم مدّة تارة أخرى ، فتقول :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) .

والآيتان أشارتا إلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه في حياتنا الدنيا) :

المرحلة الأولى : سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه ، وإن لم يحصل على هدفه يسعى إلى المرحلة التالية.

المرحلة الثّانية : يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه ، وإذا لم ينفعه ذلك يتنقل إلى المرحلة الثّالثة.

المرحلة الثّالثة : يطلب تخفيف العذاب ، فيقول : عاقبني ولكن خفف العذاب! وإن لم يستجاب له لعظم ذنبه فإنّه سيطلب الطلب الأخير

المرحلة الرّابعة : يطلب الإمهال والتأجيل ، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من العقاب

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إذن الدفاع عنهم ، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا ، ولا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينظرون ، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب الاستجابة.

وفي الآية التالية يستمر الحديث عن عاقبة المشركين ، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنّم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية ، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) ، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درك العمل القبيح ، وهي شريكنا في الجرم أيضا ، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها!

٢٨٧

وعندها تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن الله) :( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) ، فلم نكن شركاء لله ، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

* * *

وهنا ينبغي التذكير ببعض الملاحظات :

١ ـ إنّ استعمال كلمة «شركاءهم» بدلا من «شركاء الله» للدلالة على أنّ الأصنام ما كانت في حقيقتها شريكة للهعزوجل ، بل إنّ عبدة الأصنام والمشركين هم الذين نسبوها بهذا النسب خيالا وكذبا ، فمن الحري أن تنسب لهم وليس إلى الله سبحانه.

ويؤيد ذلك ما مرّ علينا فيما سبق من تخصيص عبدة الأصنام بعض مواشيهم ومحصولاتهم الزراعية مشاركة بينهم وبين الأصنام أي أنّهم جعلوا الأصنام شريكة لهم في هذه الأنعام.

٢ ـ يستفاد من الآية أنّ الأصنام تحضر عرصة يوم القيامة أيضا ، وليس المعبودات البشرية فقط كفرعون والنمرود.

والآية (٩٨) من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) تؤيد ذلك.

٣ ـ وتظهر الآية قول المشركين يوم القيامة من أنّهم كانوا يعبدون هذه الأصنام :( هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) وهذا القول يتضمن صدقهم في قولهم فلا معنى لتكذيب الأصنام لهم في هذه المقولة.

ولكن من الممكن أن يكون التكذيب بمعنى عدم لياقة الأصنام لأن تكون معبودة من دون الله. أو أنّ المشركين قد أضافوا جملة أخرى مفادها أنّ هذه المعبودات قد دعتنا ووسوست لنا لنعبدها ، فتكذبهم الأصنام بأنّها لا تملك القدرة أصلا على الوسوسة والإيحاء.

٢٨٨

٤ ـ لعل ورود جملة( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ) بدل «قالوا لهم» لعدم قدرة الأصنام على التكلم بنفسها ، فيكون قولها عبارة عن إلقاء من قبل الله فيها ، أي أنّ اللهعزوجل يلقي إليها ، وهي بدورها تلقية إلى المشركين.

وتأتي الآية التالية لتبيّن أنّ الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم ، ويسمعوا جواب قولهم ، سيتوجهون إلى حالة أخرى( ... وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ) (١) مسلمين لله ، مذعنين لعظمته جل وعلا ، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد أزيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإذعان إليه.

وفي هذه الأثناء ، وحيث كل شيء جلي كوضوح الشمس( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) . فتبطل كذبتهم بوجود شريك لله ، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله ، عند ما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأي عمل ، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم!.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبا حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك ، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين ، وإنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ) .

فهم شركاء في جرم الآخرين إضافة لما عليهم من تبعات أعمالهم ، لأنّهم كانوا عاملا مؤثرا للفساد على الأرض وإضلال خلق الله بالصد عن سبيله.

وذكرنا مرارا وانطلاقا من منطق الاجتماع الإسلامي أنّ من يسن سنّة (حسنة أم سيئة) فهو شريك العاملين بها ثوابا أو عقابا ، والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح: «من استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين كصاحب الميزان : أنّ إظهار التسليم هنا كان من جانب عبدة الأصنام فقط دون الأصنام ، ويؤيد ذلك ما ورد في ذيل الآية.

٢٨٩

ينتقص من أجورهم شيء ومن استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء».

وعلى أيّة حال ، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة توضح مسئولية الرؤساء والموجهين أمام الله وأمام الناس.

وتتناول الآية أيضا مسألة وجود الشهيد في كل أمّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

ووجود هؤلاء الشهود ، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم ، لا يتعارض مع علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء ، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس ، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي.

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال :( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .

وقيل إنّ المقصود بـ «هؤلاء» المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم ، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكمل طريقه فيكون شهيدا على الأمّة (وهو من وسطها) ، وينبغي أن يكون طاهرا من كل ذنب وخطيئة ، ليتمكن من إعطاء الشهادة حقّها.

ولهذا اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد ، حجّة ، عادل ، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإمام المعصوم في كل زمان ، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون غيرهم من المذاهب الإسلامية.

ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإشكال

٢٩٠

توجيها لا يخلو من إشكال أيضا حيث قال : (فحصل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس ، وذلك الشهيد لا بدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإلّا لافتقر إلى شهيد آخر ، ويمتد ذلك إلى غير النهاية ، وذلك باطل ، فيثبت أنّه لا بدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم ، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمّة حجّة)(١) .

لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول :( يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وليس مجموع الأمّة شاهدا على كل فرد من أفراد الأمّة.

وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (٤١) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير «هؤلاء» :

الأوّل : أنّ «هؤلاء» إشارة إلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياءعليهم‌السلام والأوصياء ، فيكون النّبي شاهدا على هذه الأمة وشاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

الثّاني : المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي ، أي : شخص يكون وجوده قدوة وميزانا لتمييز الحق من الباطل.

(والمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل الآية (٤١) من سورة النساء).

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم،ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة ، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة :( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ٩٨.

٢٩١

بحثان

١ ـ القرآن تبيان لكل شيء :

من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء.

«تبيان» (بكسر التاء أو فتحها) له معنى مصدري(١) ، ويمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بيانا لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شيء» ، ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع ـ على كافة الأصعدة المادية والمعنوية ـ إلى حال التكامل والرقي ، يتّضح لنا أنّ المقصود من كل «شيء» هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل ، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية إلخ ، وإنّما القرآن دعوة حق لبناء الإنسان ، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم ، وصحيح أيضا أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية ، ولكن ليس ذلك الكشف هو المراد، وإنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.

ويشير القرآن الكريم تارة إلى جزئيات الأمور والمسائل ، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض ، حيث ذكر (١٨) حكما في أطول أية قرآنية وهي الآية (٢٨٢) من سورة البقرة(٢) .

وتارة أخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإنسان بصورها الكلية ، كما في الآية التي ستأتي قريبا ، حيث يقول :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ

__________________

(١) نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) عن بعض الأدباء : أن جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إلا مصدرين «تبيان» و «تلقاء». ويعتبرها بعض مصدرا ، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.

(٢) راجع ذيل تفسير الآية (٢٨٢) من سورة البقرة.

٢٩٢

ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (٣٤) من سورة الإسراء :( إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأولى من سورة المائدة :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (٧٨) من سورة الحج :( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) وكمفهوم إقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (٤٥) من سورة الحديد :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأمور في الآيات (٧ ، ٨ ، ٩) من سورة الرحمن :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم الميزان( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم مفهوم الامتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (٨٥) من سورة الأعراف :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) ، بالإضافة إلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن ، لتكون للإنسان نبراسا وهاجا في كافة مجالات الفكر والحياة والإنسان وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم «فيه تبيان لكل شيء».

بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه ، وإنّما عيّن لها من يؤخذ منه التفاصيل ، كما تبيّن لنا ذلك الآية (٧) من سورة الحشر :( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

والإنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه ، واستخرج برامجا وتوجيهات توصله إلى السعادة ، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله.

ولهذا ، فمن استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن ، فهو لم يعرف القرآن،وطلب من الغير ما هو موجود عنده.

وإضافة لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإسلام في

٢٩٣

كل الأمور ، فقد حمّلت المسلمين مسئولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه.

وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات.

منها : ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئا تحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله الله فيه»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل لكل شيء حدا ، وجعل عليه دليلا يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا»(٢) .

وجاء في الرّوايات الشريفة الإشارة الى هذه المسألة أيضا. وهي أنّه مضافا الى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس ، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره ، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلّا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياؤه بالحق ، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب اللهعزوجل ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(٣) .

إنّ عدم إدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه ب (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والاستفادة منه.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٥.

٢٩٤

٢ ـ مراحل الهداية الأربع

إنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن :

١ ـ تبيانا لكل شيء.

٢ ـ هدى.

٣ ـ رحمة.

٤ ـ بشرى للمسلمين.

ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطا منطقيا واضحا بين هذه التعابير ، فكلّ منها يرمز إلى مرحلة معينة ، المرحلة الأولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم ، وبعدها تأتي مرحلة الهداية ، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة ، وأخيرا البشرى بثواب الله لمن آمن وعمل صالحا وسرور جميع السائرين على طريق الحق.

* * *

٢٩٥

الآية

( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) )

التّفسير

أكمل برنامج اجتماعي :

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء ، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجا من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية ، وقد تضمّنت الآية ستة أصول مهمّة ، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إيجابية ومأمور بالعمل بها ، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها.

فتقول في البدء :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) .

وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من «العدل»؟!

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود ، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل «بالعدل قامت السماوات

٢٩٦

والأرض».

والمجتمع الإنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير ، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل ، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السّلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أسس العدل في جميع المجالات.

ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب ، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين ، ما هي إلّا صور لخلاف أصل العدل.

فالإنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء ، أو تقصيره في أداء وظيفته.

ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد ، فإنّه سيمرض ويعتل إن لم يراع فيه العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات ـ الطبيعية والاستثنائية ـ في عملية بناء المجتمع السليم ، إلّا أنّها ، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة ، ولذلك جاء الأمر بـ «الإحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة.

وبعبارة أوضح : قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالاستعانة بأصل العدالة فقط ، وإنّما تحتاج إلى إيثار وعفو وتضحية ، وذلك ما يتحقق برعاية أصل «الإحسان».

وعلى سبيل المثال : لو أنّ عدوا غدّارا هجم على مجتمع ما ، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد ، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال ، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لا بدّ من تقديم التضحية والبذل والإيثار لكل من يملك القدرة المالية ، الجسمية ،

٢٩٧

الفكرية ، لمواجهة الخطر وإزالته ، وإلّا فالطريق مهيأ أمام العدو لإهلاك المجتمع كله ، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.

والأصلان يحكمان نظام بدن الإنسان أيضا بشكل طبيعي ، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها ، وكلّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالاستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).

ولكن عند ما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته ، فإنّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه ، لأنّه توقف عن عمله ، بل تستمر في تغذيته ودعمه إلخ ، (وهذا هو الإحسان).

وفي المجتمع كذلك ، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.

وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين ، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإحسان ، لعل أغلبها يشير إلى ما قلناه أعلاه.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «العدل : الإنصاف ، والإحسان : التفضل»(١) وهذا ما أشرنا إليه.

وقال البعض : إنّ العدل : أداء الواجبات ، والإحسان : أداء المستحبات.

وقال آخرون : إنّ العدل : هو التوحيد ، والإحسان : هو أداء الواجبات.

(وعلى هذا التّفسير يكون العدل إشارة إلى الإعتقاد ، والإحسان إشارة إلى العمل).

وقال بعض : العدالة : هي التوافق بين الظاهر والباطن ، والإحسان : هو أن يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره.

واعتبر آخرون : أنّ العدالة ترتبط بالأمور العمليّة ، والإحسان بالأمور ، الكلامية.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٢٣١.

٢٩٨

وكما قلنا فإنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماما مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه ، وبما أنّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.

أمّا مسألة( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فتندرج ضمن مسألة «الإحسان» حيث أن الإحسان يشمل جميع المجتمع ، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى ، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات ، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر ، فإنّ أثره سيظهر على كل المجتمع ، والمسألة تعتبر تقسيما صحيحا للوظائف والمسؤوليات بين الناس ، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمديد العون إلى أقربائها (بالدرجة الأولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم.

وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود بـ «ذي القربى» هم أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذريته من الأئمّةعليهم‌السلام ، والمقصود ب( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) هو أداء الخمس، فإنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبدا ، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة ، ولا يمنع إطلاقا من شمول مفهوم الآية الواسع.

لو اعتبرنا مفهوم «ذي القربى» بمعنى مطلق الأقرباء ، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب ، أو أقرباء من وجوه أخرى ، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب).

ولإعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية ، إضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.

وبعد ذكر القرآن الكريم للأصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للأصول المقابلة لها (السلبية) فيقول :( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وتحدث المفسّرون كثيرا حول المصطلحات الثلاثة «الفحشاء» ، «المنكر» ، «البغي» ، إلّا أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ «الفحشاء» : إشارة إلى الذنوب الخفية ، و «المنكر» : إشارة إلى الذنوب

٢٩٩

العلنية ، و «البغي» : إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان ، وظلم الآخرين والاستعلاء عليهم.

قال بعض المفسّرون(١) : إنّ منشأ الانحرافات الأخلاقية ثلاث قوى : القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية ، والقوة الوهمية الشيطانية.

أمّا القوّة الشهوانية فإنما ترغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء ، والقوة الغضبية تدفع الإنسان إلى فعل المنكرات وإيذاء سائر الناس ، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإنسان الاستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.

وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إلى طغيان غرائز الإنسان ، ودعا إلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الانحرافات الأخلاقية.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجددا على أهمية هذه الأصول الستة :( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

أشمل آيات الخير والشر :

إنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيرا من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم ، وها هو «عثمان بن مظعون» أحد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (كنت أسلمت استحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام ، ولم يقر الإسلام في قلبي ، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله ، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئا ، فلمّا سرّي عنه سألته عن حاله فقال : نعم ، بيّنا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقرأها عليّ إلى آخرها ، فقّر الإسلام في قلبي. وأتيت

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ٢٠ ، ص ١٠٤.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496