الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237405 / تحميل: 7579
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

عاشرتني فقال علي (ع) معاذ الله! أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله من أن أوبخك بمخالفتي وقد عز علي مفارقتك وفقدك إلا أنه أمر لا بد منه ، والله لقد جددت علي مصيبة رسول الله وقدعظمت وفاتك وفقدك فإنا لله وإنا إليه راجعون وبكيا جميعا ساعة ، وأخذ الإمام رأسها وضمها إلى صدره ثم قال :

أوصني بماشيء ت ، فإنك تجدينني وفيا أمضي لما أمرتني به وأختار أمرك على أمري. فقالت : جزاك الله عني خير الجزاء يا ابن عم ، أوصيك أولاً : أن تتزوج بابنة أختي أمامة ، فإنها تكون لولدي مثلي ، فإن الرجال لا بد لهم من النساء ثم قالت ، وأوصيك إذا قضيت نحبي فغسلني ولا تكشف عني فإني طاهرة مطهرة وحنطني بفاضل حنوط أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصل علي ، وليصل معك الأدنى فالأدنى من أهل بيتي وادفني ليلا لا نهارا إذا هدأت العيون ونامت الأبصار ، وسرا لا جهارا وعف موضع قبري ولا تشهد جنازتي أحدا ممن ظلمني.

لقد أرادت الزهراء (ع) مواصلة الجهاد بعد مماتها فكانت وصيتها الاعلان الأخير لموقفها الصامد والمستمر من وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى مرضها وتريده باقيا إلى ما شاء الله تدفن بنت المصطفى سرا. ليلا لا يصلي عليها إلا أهل بيتها والمخلصون لهم!!.

في لحظاتها الأخيرة طلبت ثيابا جديدة ثم دعت سلمى امرأة أبي رافع وقالت لها هيئي لي ماء وطلبت منها أن تسكب لها الماء وهي تغتسل ثم لبست ملابسها الجديدة وأمرت أن يقدم سريرها إلى وسط البيت واستلقت عليه مستقبلة القبلة وقالت إني مقبوضة الآن ، فلا يكشفني أحد.

تقول أسماء بنت عميس : لما دخلت فاطمة البيت انتظرتها هنيئة ثم ناديتها

١٢١

فلم تجب فناديت : يا بنت محمد المصطفى ، يا بنت أكرم من حملته النسا ، يا بنت خير من وطأ الحصى ، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى ، فلم تجب ، فدخلت البيت وكشفت الرداء عنها فإذا بها قد قضت نحبها شهيدة صابرة مظلومة محتسبة ما بين المغرب والعشاء فوقعت عليها أقبلها ، وأقول يا فاطمة إذا قدمت على أبيكصلى‌الله‌عليه‌وآله فأقرئيه مني السلام. فبينا هي كذلك وإذا بالحسن والحسين دخلا الدار وعرفا أنها ميتة فوقع الحسن يقبلها ويقول : يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني ، والحسين يقبل رجلها ويقول يا أماه أنا ابنك الحسين ، كلميني قبل أن ينصدع قلبي فأموت. ثم خرجا إلى المسجد وأعلما أباهما بشهادة أمهما فأقبل أمير المؤمنين إلى المنزل وهو يقول : بمن العزاء يا بنت محمد؟ وقال : (اللهم إنها قد أوحشت فآنسها ، وهجرت فصلها ، وظلمت فاحكم لها يا أحكم الحاكمين).

وخرجت أم كلثوم متجللة برداء وهي تصيح : يا أبتاه يا رسول الله الآن حقا فقدناك فقدا لا لقاء بعده ، وكثر الصراخ في المدينة على ابنة رسول الله ، واجتمع الناس ينتظرون خروج الجنازة ، فخرج إليهم أبو ذر وقال : انصرفوا إن ابنة رسول الله أخر إخراجها هذه العشية.

وأخذ أمير المؤمنين في غسلها ، وعلل ذلك حفيدها الإمام الصادق (ع) يقول : إنها صديقة فلا يغسلها إلا صديق كما أن مريم لم يغسلها إلا عيسى (ع) ، وقال (ع) : إن عليا أفاض عليها من الماء ثلاثا وخمسا وجعل في الخامسة شيئا من الكافور ، وكان يقول : اللهم إنها أمتك وبنت رسولك وخيرتك من خلقك ، اللهم لقنها حجتها ، وأعظم برهانها وأعل درجتها ، وأجمع بينها وبين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وحنطها من فاضل حنوط رسول الله الذي جاء به جبرائيل إذ أخبرهما

١٢٢

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سابقا : يا علي ويا فاطمة هذا حنوط من الجنة دفعه إلي جبرئيل وهو يقرئكما السلام ويقول لكما اقسماه واعزلا منه لي ولكما ، فقالت فاطمة : ثلثه لك والباقي ينظر فيه علي (ع) فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمها إليه وقال : إنك موفقة رشيدة مهدية ملهمة ، يا علي قل في الباقي ، فقال : نصف منه لها ، والنصف لمن ترى يا رسول الله قال هو لك.

وكفنها في سبعة أثواب ، وقبل أن يعقد الرداء عليها نادى : يا أم كلثوم ، يا زينب ، يا فضة ، يا حسن ، يا حسين ، هلموا وتزودوا من أمكم الزهراء ، فهذا الفراق واللقاء الجنة.

حقا إنها لحظات وداع لشمعة انطفأت وطالما احترقت لتنير للآخرين ما أعظم الرزية وما أجل المصيبة.

أقبل الحسنان (ع) يقولان : واحسرة لا تنطفئ من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا الزهراء؟ إذا لقيت جدنا فأقرئيه منا السلام وقولي له : إنا بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا.

قال أمير المؤمنين (ع) وإذا بهاتف من السماء ينادي يا أبا الحسن ارفعهما عنها ، فلقد أبكيا والله ملائكة السماء فرفعهما عنها وعقد الرداء عليها.

وجاءت أهم اللحظات لحظة تنفيذ بند الوصية المهم ذلك البند الذي سيظل شاهدا على موقف الزهراء إلى القيامة. إنها لحظات الدفن التي يجب أن تكون سرا وقبلها الصلاة على الجنازة الذي كان محددا فيها ألا يكون فيه شخص ممن ظلم الزهراء. هكذا كانت الوصية.

جن الليل نامت العيون وهدأت الأبصار. وجاء في جوف الليل نفر قليل من الهاشميين ومن المحبين الذين وقفوا مع علي وفاطمة موقفا إيجابيا وهم سلمان

١٢٣

وأبو ذر والمقداد وعمار ، صلى عليها الإمام علي (ع) ومعه هذه العصبة القليلة المباركة ثم دفنها ولما وضعها في اللحد قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله محمد بن عبد الله ، سلمتك أيتها الصديقة إلى من هو أولى بك مني ، ورضيت لك بما رضي الله لك. ثم قرأ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) .

ثم إنه (ع) سوى في البقيع سبع قبور ، أو أربعين قبرا لكي يضيع بينها قبر الزهراء (ع) ، ولما عرف شيوخ المدينة دفنها ، وفي البقيع قبور جدد أشكل عليهم الأمر فقالوا : هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور لنخرجها ونصلي عليها ، فبلغ ذلك عليا (ع) فخرج مغضبا عليه قباؤه الأصفر الذي يلبسه عند الكريهة وبيده ذو الفقار ، وهو يقسم بالله لئن حول من القبور حجر ليضعن السيف فيهم ، فتلقاه عمر ومعه جماعة فقال له : ما لك ، والله يا أبا الحسن لننبشن قبرها ونصلي عليها.

فقال علي (ع) وهو غاضب : أما حقي فتركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم ، وأما قبر فاطمة فوالذي نفسي بيده لئن حول منه حجر لأسقين الأرض من دمائكم ، فتفرق الناس(١) .

وأسدل الستار عن أول محطة سقطت الأمة في امتحانها ، وغادرت الزهراء مشتاقة للقاء ربها وأبيها ذهبت وهي تحمل جراحات مثخنة وآلاما عظاما انتقلت لتشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليحكم لها على من ظلمها وتركت لنا أعلام هداية ومنارات فرقان رحلت وخلفت فينا سرها. سرها الذي دفن في قبرها الذي دفنت فيه سرا. إنه سر سهل ممتنع لا تطوله كل العقول ولا يمتنع

ــــــــــــــــ

(١) ـ فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى أحمد الهمداني.

١٢٤

عن جميع العقول ، سر لا يطوله إلا من أشرق في قلبه نور فاطمة وارتشف من ضياه عقله فانفتح على الحق والخير ونفر من الظلم والانحراف.

ورغم أنني تجرعت كأس ألمها إلا أنه بالنسبة لي كان ممزوجا بالحلاوة. شربت منه فأشرقت لي فاطمة بنورها فكانت الدليل إلى الصراط المستقيم. وما أعظم شأنها.

حقا إنها فاطمة بنت محمد زوج علي.

الزهراء صرخة مدوية عبر التاريخ

لقد انتقلت الزهراء (ع) إلى بارئها هناك حيث جنة عرضها السماوات والأرض تنتظر يوم القيامة يوم الحساب ولكنها تركت صرخة تجلجل وتدوي لتحرك الضمائر الميتة وتهز الوجدان وتنفض غبار الغفلة والشهوات والتكبر عن العقول صرخة ألم ولوعة أما صرخة الألم فهو نتاج ما لحقها من أذى وضرب وإسقاط جنين وأما اللوعة فهي مما اقترفته الأمة تجاه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته التي لم تحفظ لقد غادرت الزهراء وتركت سهمين في صدر التاريخ ينزفان دما الأول انتقالها وهي لم تكمل عقدها الثاني أما الآخر فهو دفنها ليلا سرا حتى أن قبرها الذي تهفو إليه قلوب الملايين لا يعرف له موضع حسرة وما أعظمها من حسرة إنها إشارة الزهراء لننطلق في تلمس الحقائق ، ثمانية عشر ربيعا فقط وكانت أول أهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحوقا به ترى لماذا صحيح أن الموت حق على كل العباد ولكن ألا يقفز إلى الذهن السؤال عن سبب الموت؟ كلنا عندما نفقد عزيزا في ريعان شبابه ويأتينا الخبر بموته نسأل مباشرة وكيف مات؟! وهذا ما يريده الله عز وجل منا لنصل إلى عمق المأساة ، سؤال فطري ما الذي جعل الزهراء (ع) تنتقل بهذه السرعة

١٢٥

وغيرها يمتد به العمر إلى ما شاء الله وعندما نسأل أنفسنا هذه الأسئلة سنكتشف الحقيقة أولاً حزنا على فقد الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم على غصب الحقوق ثم اعتداء وضرب وإسقاط الحقوق حقوقها وحقوق زوجها وأبنائها وحقوق الأمة الإسلامية ويتوج ذلك كله الاعتداء الصارخ بالإحراق والضرب والرفس ومن ثم إسقاط المحسن ألا يكفي هذا لأن تهد الجبال هدا إن الزهراء (ع) قاست كل ذلك لا لكي تجني فائدة شخصية ولكن لتثبيت دعائم الإسلام هكذا يريد الله تعالى أن يكشف لنا عن الحقائق عبر حياة أوليائه.

والسهم الآخر دفنها سرا إن الزهراء (ع) بنت النبوة ربيبة الوحي تخدم الرسالة حية وميتة لقد أمرت ألا يصلي عليها رمز الشرعية في السقيفة وأن تدفن ليلا سرا حتى لا يعلم قبرها فيبقى التساؤل عن سر ذلك قائما حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا كل الشخصيات الهامة ، وكل الصالحين نعرف قبورهم ويقصدها من يقصدها إلا الصديقة الطاهرة أم أبيها ترى لماذا؟!! إنها أيضا رسالة الرسالة لمن يؤمن بالرسالة وذكرى لقوم يعقلون.

١٢٦

الفصل الخامس

الإمامة والخلافة

١٢٧

١٢٨

تمهيد :

لم أكن أتصور بأنني سأجد هذا الزخم الهائل من الأحاديث والآيات التي تؤيد وتدعم دعوى الشيعة. فبعد حواري مع ابن عمي ، والذي أخذ منحى آخر معي متوخيا الحذر بعد أن علمت بظلامة الزهراء (ع) أعطاني ثلاثة كتب قرأتها ، كان الأول لدكتور أعلن ولاءه لأئمة أهل البيت (ع) بعد أن كان من علماء أهل السنة والجماعة ، والكتاب الثاني المراجعات وهو مناظرة قيمة جرت بين عالم شيعي وهو السيد عبد الحسين شرف الدين وآخر سني كان زعيما للأزهر الشريف هو الشيخ سليم البشري ، وكتاب آخر عن تأريخ الشيعة وظلم الحكام لهم على امتداد التاريخ ، وحقا كان لكتاب ثم اهتديت للدكتور التيجاني السماوي الدور الأكبر في تحفيزي للبحث كما أنه كان دافعا لقراءة كتاب المراجعات بدقة وعناية ولا أظنني سأجد كتابا على أديم الأرض أكثر قوة وحجة ومنطقا من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حجج الشيخ البشري بأدب ووقار.

وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول ـ محأولاً الاستهزاء به كردة فعل طبيعية إنه مختلق وإن هذه المناظرة أساسا لم تقم ، فأجابه الأخ : ـ يا شيخنا فلنفرض جدلا أن هذه المناظرة لم تكن ، وأن هذه الشخصيات لا وجود لها في الحقيقة ما رأيك فيما ورد في الكتاب من الأدلة ، نحن كلامنا ليس حول الشخصيات وما يهمنا محتوى الكتاب إذا كنت تملك ردا عليه فتفضل( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) وإلا فالزم الصمت فصمت صاحبنا. والحال إننا نثق بأن هذه المناظرة والحوار بين السيد عبد الحسين والشيخ سليم حدثت حقيقة ،

١٢٩

والشخصيتان علمان بارزان في سماء الأوساط الدينية عند الشيعة والسنة.

وسوف أقدم مجموعة من الأدلة تأخذ بأعناقناشيء نا أم أبينا إلى اتباع أهل البيت (ع) والاقتداء بهم دون غيرهم من الخلق لأنهم خلفاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن الهدى في اتباعهم وأخذ الدين منهم وموالاتهم وإن الضلالة في موالاة غيرهم ولن آتي بدليل من خارج الكتب المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة حتى نلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

وموضوع بحثنا كما هو واضح الإمامة والخلافة التي قيل فيها : لم يسل سيف في الإسلام كما سل في الإمامة ، وهي جذر الخلاف القائم بين الشيعة والسنة ومن عندها تفرع حتى وصل إلى أصغر الجزئيات فهل الإمامة نص وتعيين أم هي شورى واختيار من قبل المحكومين؟.

بالشورى أم بالتعين ؟!

* مفهوم الشورى عند أهل السنة والجماعة غير واضح :

الحق إن الكلام حول خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير واضح عند الإخوة أهل السنة فتارة يقولون بالشورى وأخرى يعطون الشرعية للنص ، ومع ذلك لا نجد مستندا شرعيا ولا دليلا يؤيد دعواهم ، وقد تمسكوا بآيتين وردتا في القرآن الكريم اشتبه على القوم سبيل فهمهما كما سنبين.

ولم نجد عندهم مفهوما واضحا للشورى ولا حدودا ولا تفاصيل سواء من القرآن أو السنة ، لأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله انتقل إلى الرفيق الأعلى

١٣٠

ولم يوضح شيئا ـ كما يظنون ـ عن أخطر فتنة يمكن أن تتعرض لها الأمة وهي الخلافة بحسب منهجهم ، وهو الذي يحمل على عاتقه تبليغ خاتمة الرسالات ولم يترك فيها كبيرة ولا صغيرة يحتاجها الناس إلا وبينها لهم حتى أحكام التخلي فكيف بقيادة الأمة ونظام الحكم في الإسلام؟ بل إن القول في الشورى عندهم عبارة عن اجتهادات لعلماء رسموا مفهومها الديني بناء على ما جرت عليه الأحداث ، فقالوا يجوز لولي الأمر أن يعين خليفته كما فعل أبو بكر ، ويمكن أن تنعقد البيعة لأحدهم بمبايعة فرد واحدكما بايع العباس عليا بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكما بايع عمر أبا بكر ، ومنهم من قال إن الشورى تنعقد بأهل الحل والعقد ولكن دون توضيح من هم أهل الحل والعقد ومن الذي يعينهم ، وبعضهم جمع بين كل ذلك وتاه في ظلمات بعضها فوق بعض وكل ذلك تقول على الدين لا يؤيده دليل عقلي ولا نقلي اللهم إلا الآيتان الشريفتان وهما أجنبيتان عن المقام ولا يمكن تثبيت هذه الشورى المزعومة بهما.

الآية الأولى :

قوله سبحانه وتعالى :( وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ) (سورة آل عمران : آية / ١٥٩).

استدلوا بهذه الآية على أصل الشورى وقالوا إن الخلافة والإمامة بالشورى في حين أن الآية واضحة في خلاف مرادهم إذ أنها تخاطب الحاكم الذي استقرت حكومته وتوجهه لمشاورة الرعية لأنه هو الذي يشاور ، ونفس الآية تشير إلى أن هنالك ثمة رئيس (حاكم) بعد أن يمحص الآراء والأفكار يأخذ بالنافع منها ثم يعزم هو على ما ارتآه بعد المشاورة متوكلا على الله كذلك تبين الآية أن الأمر هنا غير الحكومة ، فبدون الحاكم لا وجود للشورى لأنها تحتاج إلى حاكم يكون قيما عليها ليعزم ويتوكل على الله ، وبناء على هذه الآية

١٣١

لا تتم الشورى إلا بولي الأمر الذي يفصل في موضوعها ، وعلى ذلك لا دلالة للآية على الشورى التي بها يتم اختيار ولي الأمر لأن وجوده مكمل لنفس الشورى ، ويتوقف اختياره على وجوده ضمن الجماعة المكونة للشورى ، وهذا يلزم الدور وهو باطل ، والدور يعني تثبيت وجودشيء بوجودشيء آخر يتوقف وجوده على وجود الشئ الأول مثل قضية الدجاجة والبيضة أيهما أول فالبيضة يتوقف وجودها على الدجاجة وكذلك الدجاجة وما أشبه!!

الآية الثانية :

قوله تعالى :( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ) (سورة الشورى : آية / ٣٨) إن الآية الكريمة حثت على الشورى فيما يمت إلى شؤون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم ، أما كون تعيين الإمام داخلا في أمورهم فهو أول الكلام ، إذ لا ندري هل هو من شؤونهم أم من شؤون الله سبحانه وتعالى وعلى فرض أن ذلك من شؤونهم فمع هذا لا يصح الاستدلال بهذه الآية في موضوع تعيين الإمام والخليفة إذ لا يقال أنه يجوز قيام الشورى الشرعية دون ولي الأمر كما ذكرنا في الاستدلال بالآية السابقة ، والآية في الواقع عامة تولت تفصيلاتها آية( وشاورهم في الأمر ) أما الآية موضع البحث فقد جاءت تتحدث عن صفات المؤمنين والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدهم بل أكملهم وأتقاهم وهو ولي الأمر المستقر له الوضع ، فلا يمكن أن لا تكون له كلمة الفصل ، وواضح من الآية أنها نزلت بلحاظ وجود ولي الأمر بينهم لا بعدم لحاظه ومن يدعي غير ذلك فعلية الإثبات.

إذا علمت ذلك نقول أنه بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٣٢

 إما كان هناك ولي أمر فلا داعي للشورى لتنصيبه ، وإما لم يكن فيحتاج إلى شورى شرعية حتى يتم تنصيبه. والشورى الشرعية تحتاج إلى ولي أمر قيم عليها يأخذ بالنافع بعد المشاورة ويعزم عليه وبدونه تكون الشورى غير شرعية فلا يلزم بها أحد من المسلمين.

وبناء على ذلك لا بد من النص على الإمام (ولي الأمر) وهذا ما يثبته التاريخ والعقل ومرويات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن وفيها ما يشبعك.

* التعيين ضرورة :

جاء في سيرة ابن هشام.

لما دعا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بني عامر للإسلام وقد جاؤوا في موسم الحج إلى مكة قال رئيسهم : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : الأمر لله ، يضعه حيث يشاء(١) .

لقد بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن الأمر لله تعالى وهذا القرآن الذي نتلوه ليل نهار يؤكد ذلك أيضا بقوله تعالى :( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) (٢) . والاصطفاء الإلهي لحمل عب ء تبليغ الرسالة والحفاظ عليها سنة إلهية لن تتغير ولن تتبدل ، قال الله سبحانه وتعالى( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، ذرية بعضها من بعض والله

ــــــــــــــــ

(١) ـ السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٤٢٤.

(٢) ـ سورة الأنعام : آية / ١٢٤.

١٣٣

سميع عليم ) (١) ويقول جل وعلا( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) (٢) ، ويؤكد سبحانه وتعالى أن الأمر ليس بيد أحد مهما بلغ من الوعي فأضاف إلى نفسه تعالى الاختيار والجعل يقول تعالى( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) (٣) ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) (٤) .

وهذا الجعل ليس بأمر الأمة بل بأمر الله (بأمرنا) ولا يعقل أن يكون الضمير في أمرنا شامل للأمة إذ ليست هي التي توحي إلى الأئمة فعل الخيرات وإقام الصلاة كما أن الأمة ليست هي المعبودة( وكانوا لنا عابدين ) ولا هي صاحبة الآيات( بآياتنا يوقنون ) .

وضرورة التعيين أمر يعلمه كل إنسان بوجدانه وعقله ، لضرورة وجود خليفة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم مقامه في كل واجباته ، ويكاد يكون ذلك من البديهيات وإلا أي ضمانة يمكن لها أن تحفظ لنا ديننا وتمثل بوصلة لبيان الانحراف الذي ربما يحدث بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما حدث في الأمم السابقة؟ من الذي تركن إليه الأمة ليواصل مسيرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف يتأتى للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينتقل للرفيق الأعلى دون أن يعين خليفته؟ أمن العقل أن يترك أمر الخلافة والإمامة في أيدي الناس الذين قد تتغلب عليهم شهوة السلطة والزعامة؟ ذلك لأن طبيعة البشر

ــــــــــــــــ

(١) ـ سورة آل عمران : آية / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) ـ سورة فاطر : آية / ٣٢.

(٣) ـ سورة الأنبياء : آية / ٧٣.

(٤) ـ سورة السجدة : آية / ٢٤.

١٣٤

تهوي به إلى أسفل ولا يكفيها وجود شريعة محفوظة في الكتب ، بل لا بد من تجسيد تلك الشريعة في إنسان يتمتع بتفوق تشريعي (معصوم) يعطيه صلاحية تطبيق الشريعة على الناس (منصوص عليه) إذ لا بد لكل قانون من مطبق نافذ الكلمة وإلا عاد القانون حبرا على الورق(١) .

إن الخالق الذي من أجل كمال كل مخلوق وفر له الوسائل الضرورية وغيرها كي يعبر من حدود النقص والضعف إلى منازل الكمال ، كيف يمكن أن يستثني من ذلك القيادة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والتي تعتبر عاملا مهما لرقي الإنسان معنويا وروحيا.

والتعيين أمر تنبه له أبو بكر عندما كتب وصيته التي نصب فيها عمر خليفة من بعده وأمر الناس بالسمع والطاعة له ومع أنه كان على فراش الموت عند كتابته لذلك إلا أن عمر كان حريصا على تنفيذ الوصية في حين أنه كان المعترض الأول على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما أراد كتابة وصيته وهو مريض وقال إنه يهجر ويقول أمير المؤمنين علي (ع) في شأن تعيين أبي بكر لعمر « فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشد ما تشطرا ضرعيها ».

كما أن عائشة أقرت بضرورة التعيين عندما ضرب عمر وبقي على الفراش ينتظر الأجل المحتوم إذ أرسلت إليه أن أوص من يخلفك ولا تترك أمة محمد بعدك هملا. وبدون راع ، وأشار عبد الرحمن بن عوف على عمر بذلك أيضا.

والواقع العملي يثبت أن الخلفاء جاؤوا بالتنصيب وبلا شورى حتى شورى الستة كانت بالتعيين كما سترى.

ــــــــــــــــ

(١) ـ الفكر الإسلامي مواجهة حضارية ـ العلامة السيد محمد تقي المدرسي ص ٢٥٠.

١٣٥

 

* علي بن أبي طالب أول خليفة للنبي (ص) :

طفحت كتب أهل السنة والجماعة بالأحاديث التي تبين أن أهل البيت (ع) هم خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وحملة دين الله بعده ، وغير المتمسك بهم ضال وذلك بإخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن اختيار الله تعالى لهم ، وسنرى من خلال ما نستدل به أن الأمر لا ينحصر في حبهم فقط والتبرك بهم إنما موالاتهم واتباعهم والتسليم لهم.

وكثيرا ما يقول لي البعض نحن نحب أهل البيت (ع) أقول إن حب أهل البيت (ع) مجردا عن ترتيب أثر على ذلك لا يجدي ، فحبهم يستتبع أن نسلك مسلكهم ونتبع منهجهم ونوالي أولياءهم هذا هو الحب يقول تعالى( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (سورة آل عمران : آية / ٣١) وأهل البيت (ع) هم حملة رسالة السماء وبهم يعرف الحق من الباطل والمتمسك بهم هو الملتزم بمنهجهم السائر على دربهم.

والإمام علي (ع) هو الإمام الأول والخليفة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ما توصلت إليه من خلال ما تواتر من الأحاديث حول تنصيبه إماما للأمة وعن أفضليته على جميع الصحابة ، رغم أن أعداءه أخفوا مناقبه حسدا وأخفاها شيعته خوفا إلا أنه ظهر من بين ذلك ما ملأ الخافقين يقول أحمد بن حنبل « ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب »(١) ومع ذلك سأختار بعض الأحاديث التي تثبت له الولاية والخلافة :

ــــــــــــــــ

(١) ـ مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٠٧.

١٣٦

١ ـ حديث الغدير :

في حديث طويل أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد جمع الناس يوم غدير خم (موضع بين مكة والمدينة ـ الجحفة) وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع وكان يوما صائفا حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر ، وجمع الرحال وصعد عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا :

بلى ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله.

إن حديث الغدير من أوضح أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بيانا وأعمقها دلالة وأقواها بلاغة ولقد أورده السيوطي في الدر المنثور في ذيل الآية( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) لبيان أن ولاية علي (ع) التي قرنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بولايته هي امتداد لها وكما كانصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم كذلك علي بن أبي طالب ، مما يدل على أن النبي ما أراد الولاية بمعنى الحب إنما أرادها بمعنى الإمامة لوجود القرينة المقالية فقد بدأ الحديث بولاية نفسه على المؤمنين ثم قرنها بولاية علي فالولاية بمعنى الأولى من المؤمنين بأنفسهم.

هذا الحديث لا شبهة في صحته وهو من الأحاديث المتواترة التي لم يستطع علماء أهل السنة والجماعة رده فبحثوا له عن تخريج ومعنى يتناسب مع ما تهواه أنفسهم فاضطروا إلى تفسير الموالاة بمعنى الحب وهذا المعنى لا ينسجم ومفهوم الحديث القاضي بولايته وإمامته على الناس بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخلافته له بصورة واضحة وجلية ، ولا يمكن لشخص يملك عقلا سليما ووجدانا صحيحا أن يقنع بقول علماء أهل السنة والجماعة ، فهم كأنما يقولون

١٣٧

أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه هذه الأعداد الهائلة من الحجاج والذين يبلغ عددهم ما يقارب المائة وعشرين ألف أوقف من معه وأرسل في طلب من سبقه ليأتي راجعا وانتظر من كان بعده يوقفهم في تلك الصحراء والشمس تلفح الوجوه ليقول لهم أيها الناس أحبوا عليا فإنه ابن عمي وزوج ابنتي. أي أحمق هذا الذي يؤمن بهذا القول والله إنها لضحالة في التفكير وسذاجة في استعمال أساليب المكر والخداع وخبث ينم عن عداء حقيقي لعلي بن أبي طالب (ع).

وقد تتبع صاحب موسوعة « الغدير » العلامة الأميني رواة هذا الحديث من الصحابة فبلغ عددهم « ١١٠ صحابي » فيهم أبو هريرة وأسامة بن زيد وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله والزبير بن العوام وزيد بن الأرقم وغيرهم »(١) ومن التابعين بلغ عدد الرواة (٨٤) ولم يترك حتى العلماء في القرون الأولى وكذلك الشعراء(٢) .

ولقد أورد الحديث أحمد بن حنبل في مسنده وأضاف فلقيه عمر بعد ذلك فقال له : هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة(٣) .

كما أورده الحاكم في مستدركه ج ٣ ص ١١٠ وقال عنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ولأهمية أمر الإمامة والولاية في الرسالة وباعتبارها جزءاً أساسيا بدونه لا

ــــــــــــــــ

(١) ـ الغدير ج ١ ص ١٤.

(٢) ـ المصدر ج ١ ص ٦٢.

(٣) ـ مسند أحمد بن حنبل ج ١ ص ٢٨١.

١٣٨

تكتمل الرسالة بدونه جاء الأمر من الله تعالى بتبليغ ذلك للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان حديث الغدير كما جاء في تفسير الفخر الرازي في ذيل الآية( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (سورة المائدة : آية / ٦٧) قال : والعاشر ـ أي من الوجوه التي قالها المفسرون في نزول الآية : نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب (ع) ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده فقال من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي(١) .

وبهذا تتضح أهمية الولاية كجزء من الرسالة من دونها تفقد الرسالة أهميتها كما تنطق الآية.

ومما يؤكد قولنا اختصاص علي بالولاية دون غيره من الصحابة وذلك في قوله :( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (سورة المائدة : آية / ٥٥) يقول الرازي والطبري المقصود من الذين آمنوا أمير المؤمنين علي (ع) كما أورده السيوطي في الدر المنثور وكذلك كنز العمال.

والآية ظاهرة في إمامته ومعنى الولي في هذه الآية لا بد أن يلائم الحصر في الله عز وجل وفي رسوله وفي علي وظهور أداة : إنما في الحصر تشير إلى تفسير واحد لكلمة الولي وهو مالك الأمر ونحوه مما يناسب الاختصاص.

ــــــــــــــــ

(١) ـ التفسير الكبير للرازي ج ١٢ ص ٤٩.

١٣٩

٢ ـ حديث المنزلة :

جاء في البخاري « كتاب بدء الخلق » في باب غزوة تبوك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى تبوك واستخلف عليا (ع) فقال : « أتخلفني في الصبيان والنساء ، فقال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »(١) .

ولا يخفى على المتأمل الدلالة الواضحة لخلافة علي (ع) والتي كخلافة هارون (ع) إلا أن النبوة ختمت بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ألمعنا في نقاشنا لقصص بني إسرائيل إلى وجه الشبه بين خلافة هارون لموسى (ع) وكيف أضل السامري القوم ، وبين خلافة علي (ع) التي انقلب عليها المسلمون ووضعوا الأمر في غيره فتأمل.

٣ ـ حديث الانذار

لما نزلت آية( وأنذر عشيرتك الأقربين ) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بني عبد المطلب على طعام ثم قال : إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي ووارثي فلم يقم أحد. قال علي : وقلت وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه قال النبي : إجلس ، قال ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي اجلس حتى كانت الثالثة فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوا ،

ــــــــــــــــ

(١) ـ رواه مسلم أيضا في صحيحه كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل علي بن أبي طالب كما أورده أحمد بن حنبل وغيرهم.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

عمّه أبا طالب فأخبرته فقال : يا آل قريش ، اتبعوا محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترشدوا ، فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق ، وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال : إن كان محمّد قاله فنعم ما قال ، وإن قاله ربّه فنعم ما قال)(١) .

ونقرأ في حديث آخر أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة فقال : (يا ابن أخي(٢) أعد ، فأعادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال الوليد : إنّ له الحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسلفه لمغدق ، وما هو قول البشر)(٣) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «جماع التقوى في قوله تعالى :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) (٤) .

ونستفيد من هذه الأحاديث ـ وأحاديث أخرى أنّ الآية تعتبر دستور عمل إسلامي عام ، وتمثل أحد مواد القانون الأساسي للإسلام في كل زمان ومكان ، حتى روي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه كان يقرأ الآية المباركة قبل الانتهاء من خطبة الجمعة ثمّ يقول بعدها : «اللهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى»(٥) ثمّ ينزل من على المنبر.

فإحياء الأصول الثلاثة «العدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى» ، ومكافحة الانحرافات الثلاث «الفحشاء والمنكر ، والبغي» على صعيد العالم كفيل بأن يجعل الدنيا عامرّة بالخير ، وهادئة من كل اضطراب ، وخالية من أي سوء وفساد ، وإذا روي عن ابن مسعود (الصحابي المعروف) قوله : (هذه الآية أجمع آية في كتاب الله للخير والشر) فهو للسبب الذي ذكرناه.

ويذكرنا محتوى الآية المباركة بالحديث المروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل تفسير الآية مورد البحث.

(٢) قال هذا لأنه عم أبي جهل وكلاهما من قريش.

(٣) مجمع البيان : ذيل تفسير الآية مورد البحث.

(٤) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٨.

(٥) الكافي على ما نقل عنه تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٧.

٣٠١

«صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمتي ، وإذا فسدا فسدت أمتي ، فقيل : يا رسول الله، من هما؟ قال : الفقهاء والأمراء».

وذكر المحدّث القمّي في (سفينة البحار) حديثا بعد نقله لهذا الحديث مرويا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «تكلم النّار يوم القيامة ثلاثة : أميرا ، وقارئا ، وذا ثروة من المال ، فتقول للأمير : يا من وهب الله له سلطانا فلم يعدل ، فتزدرده كما تزدرد الطير حبّ السمسم ، وتقول للقارئ : يا من تزين للناس وبارز الله بالمعاصي ، فتزدرده ، وتقول للغني:يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا وسأله الحقير اليسير قرضا ، فأبى إلّا بخلا ، فتزدرده؟

وقد بحثنا موضوع العدالة باعتبارها ركنا إسلاميا مهمّا جدّا ضمن تفسيرنا للآية (٨) من سورة المائدة.

* * *

٣٠٢

الآيات

( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) )

سبب النّزول

يقول المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) في شأن نزول أوّل

٣٠٣

آية من هذه الآيات أنّها نزلت في الذين بايعوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام (وكان من المحتمل أن ينقض بعضهم البيعة لقلّة المسلمين وكثرة الأعداء) ، فقال سبحانه مخاطبا لهم لا يحملنّكم قلّة المسلمين وكثرة المشركين على نقض البيعة.

التّفسير

الوفاء بالعهد دليل الإيمان :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآية السابقة بعض أصول الإسلام الأساسية (العدل، والإحسان ، وما شابههما) ، يتناول في هذه الآيات قسما آخر من تعاليم الإسلام المهمّة (الوفاء بالعهد والأيمان).

يقول أوّلا :( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ ) ، ثمّ يضيف :( وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) .

إنّ ظاهر معنى «عهد الله» ـ مع كثرة ما قال المفسّرون فيه ـ وهو : العهود التي يبرمها الناس مع الله تعالى (وبديهي أنّ العهد مع النّبي عهد مع الله أيضا) ، وعليه فهو يشمل كل عهد إلهي وبيعة في طريق الإيمان والجهاد وغير ذلك.

بل إنّ التكاليف الشرعية التي يعلنها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي من نوع من العهد الإلهي الضمني ، وكذا الحال بالنسبة للتكاليف العقلية ، لأنّ إعطاء العقل والإدراك من اللهعزوجل للإنسان إنّما يرافقه عهد ضمني ، وهكذا يدخل الجميع في المفهوم الواسع لعهد الله.

أمّا مسألة «الأيمان» (جمع يمين ، أيّ : القسم) التي وردت في الآية ـ والتي عرض فيها المفسّرون آراء كثيرة ـ فلها معنى واسع ، ويتّضح ذلك عند ملاحظة مفهوم الجملة حيث أنّه يشمل العهود التي يعقدها الإنسان مع اللهعزوجل ، بالإضافة إلى ما يستعمله من أيمان في تعامله مع خلق الله.

وبعبارة أخرى : يدخل بين إطار هذه الجملة كل عهد يبرم تحت اسم الله

٣٠٤

وباستعمال صيغة القسم ، وما يؤكّد ذلك ما تبعها من عبارة تفسيرية تأكيدية( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ) .

ونتيجة القول : أنّ جملة( أَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ ) خاصّة ، وجملة( لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ ) عامّة.

وحيث أنّ الوفاء بالعهد أهم الأسس في ثبات أيّ مجتمع كان ، تواصل الآية التالية ذكره بأسلوب يتسم بنوع من اللوم والتوبيخ ، فتقول :( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) (١) .

والآية تشير إلى (رابطة) تلك المرأة التي عاشت في قريش زمن الجاهلية ، وكانت هي وعاملاتها يعملن من الصباح حتى منتصف النهار في غزل ما عندهن من الصوف والشعر ، وبعد أن ينتهين من عملهن تأمرهن بنقض ما غزلن ، ولهذا عرفت بين قومها ب (الحمقاء).

فما كانت تقوم به (رابطة) لا يمثل عملا بالا ثمر ـ فحسب ـ بل هو الحماقة بعينها ، وكذا الحال بالنسبة لمن يبرم عهدا مع الله وباسمه ، ثمّ يعمل على نقضه ، فهو ليس بعابث فقط ، وإنّما هو دليل على انحطاطه وسقوط شخصيته.

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ ) (٢) ، أي لا تنقضوا عهودكم مع الله بسبب أنّ تلك المجموعة أكبر من هذه فتقعوا في الخيانة الفساد.

وهذا دليل على ضعف شخصية الفرد ، أو نفاقه وخيانته حينما يرى كثرة أتباع

__________________

(١) «أنكاث» : جمع (نكث) على وزن (قسط) بمعنى حل خيوطه الصوف والشعر بعد برمها ، وتطلق أيضا على اللباس الذي يصنع من الصوف والشعر ، وأمّا محل إعرابها في الآية فهو (حال) للتأكيد على قول البعض ، فيما اعتبرها آخرون (مفعولا ثانيا) لفعل «نقضت» أي (جعلت غزلها أنكاثا).

(٢) «الدّخل» : (على وزن الدغل) ، بمعنى الفساد والتقلب ومنها أخذ معنى (الداخل) ، وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة( تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ ) ـ على ما قلناه من تفسير ـ جملة حاليّة ، إلّا أنّ بعض المفسّرين اعتبرها جملة استفهامية ، والتّفسير الأوّل يوافق ظاهر الآية.

٣٠٥

المخالفين فيترك دينه القويم وينخرط في المسالك الباطلة التي يتبعها الأكثرية.

واعلموا( إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ) .

واليوم الذي تكونون فيه كثرة وأعداءكم قلة ليس بيوم اختبار وامتحان ، بل امتحانكم في ذلك اليوم الذي يقف فيه عدوكم أمامكم وهو يزيدكم عددا بأضعاف مضاعفة وأنتم قلّة.

وعلى أية حال ستتّضح النتيجة في الآخرة ليلاقي كل فرد جزاءه العادل :( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) من هذا الأمر وغيره.

والآية التالية تجيب على توهم غالبا ما يطرق الأذهان عند الحديث عن الامتحان الإلهي والتأكيد على الالتزام بالعهود والوظائف ، وخلاصته : هل أنّ الله لا يقدر على إجبار الناس جميعا على قبول الحق؟ فتقول :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) .

«أمّة واحدة» من حيث الإيمان والعمل على الحق بشكل إجباري ، ولكن ذلك سوف لا يكون خطوة نحو التكامل والتسامي ولا فيه أفضلية للإنسان في قبوله الحق ، وعليه فقد جرت سنّة الله بترك الناس أحرارا ليسيروا على طريق الحق مختارين.

ولا تعني هذه الحرية بأنّ الله سيترك عباده ولا يعينهم في سيرهم ، وإنّما بقدر ما يقدمون على السير والمجاهدة سيحصلون على التوفيق والهداية والسداد منه جل شأنه ، حتى يصلوا لهدفهم ، بينما يحرم السائرون على طريق الباطل من هذه النعمة الرّبانية ، فتراهم كلما طال المقام بهم ازدادوا ضلالا.

ولهذا يواصل القرآن الكريم القول ب :( وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) .

ولكنّ الهداية الإلهية أو الإضلال لا تسلب المسؤولية عنكم ، حيث أنّ الخطوات الأولى على عواتقكم ، ولهذا يأتي النداء الرباني :( وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ

٣٠٦

تَعْمَلُونَ ) .

وتشير هذه العبارة إلى نسبة أعمال البشر إلى أنفسهم ، وتؤكّد على تحميلهم مسئولية تلك الأعمال ، وتعتبر من القرائن الواضحة في تفسير مفهوم الهداية والإضلال الإلهيين وأن أيّا منهما لا يستبطن صفة الإجبار أبدا.

وقد بحثنا هذا الموضوع سابقا (راجع تفسير الآية (٢٦) من سورة البقرة).

وتأكيدا على مسألة الوفاء بالعهد والثبات في الإيمان (باعتبار ذلك من العوامل المهمّة في ثبات المجتمع) يقول القرآن :( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ ) أي وسيلة للخداع والنفاق ، لأنّ في ذلك خطرين كبيرين :

الأوّل :( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ) ، لأنّ من يبرم عهدا أو يطلق قسما ونيته أن لا يفي بذلك فسوف لا يعول عليه الناس ولا يثقون به ، ومثله كمن وضع قدمه على أرض قد بدت له أنّها صلبة ومحكمة ، إلّا أنّها زلقة في الواقع ، وستكون سببا في انزلاقه وسقوطه.

الثّاني :( وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) في هذه الدنيا( وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) في الآخرة.

من الآثار السلبية لنقض العهود والأيمان شياع سوء ظن الناس وتنفرهم من الدين الحق، وتشتت الصفوف وفقدان الثقة حتى لا يرغب الناس في الإسلام ، وإن عقدوا معكم عهدا فسوف لا يجدون أنفسهم ملزمين بالوفاء به ، وهذا ما يؤدي لمساوي ، ومفاسد كثيرة وبروز حالة التخلف في الحياة الدنيا.

وأمّا على صعيد الحياة الأخرى فإنه سيكون سببا للعقاب بالعذاب الإلهي.

* * *

٣٠٧

بحثان

١ ـ فلسفة احترام العهد

كما هو معلوم فإنّ الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع تمثل أهم دعائم رسوخ المجتمع ، بل من دعائم تشكيل المجتمع وإخراجه من حالة الآحاد المتفرقة وإعطائه صفة التجمع ، وبالإضافة لكون أصل الثقة المتبادلة يعتبر السند القويم للقيام بالفعاليات الاجتماعية والتعاون على مستوى واسع.

والعهد والقسم من مؤكدات حفظ هذا الارتباط وهذه الثقة ، وإذا تصورنا مجتمعا كان نقض العهد فيه هو السائد ، فمعنى ذلك انعدام الثقة بشكل عام في ذلك المجتمع ، وعندها سوف يتحول المجتمع الى آحاد متناثرة تفتقد الارتباط والقدرة والفاعلية الاجتماعية.

ولهذا نجد أنّ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة تؤكّد باهتمام بالغ على مسألة الوفاء بالعهد والأيمان ، وتعتبر نقضها من كبائر الذنوب.

وقد أشار أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى أهمية هذا الموضوع في الإسلام والجاهلية واعتبره من أهم المواضيع في قوله عند عهده لمالك الأشتر «فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا من تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر»(١) .

ونجد في أحكام الحرب الإسلامية أنّ إعطاه الأمان من قبل فرد واحد من جيش المسلمين لشخص أو كتيبة من كتائب العدو يوجب مراعاة ذلك على كل المسلمين!

يقول المؤرخون والمفسّرون : من جملة الأمور التي جعلت الكثير من الناس

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣٠٨

في صدر الإسلام يعتنقون هذا الدين الإلهي العظيم هو التزام المسلمين الراسخ بالعهود والمواثيق ورعايتهم لأيمانهم.

وما لهذا الأمر من أهمية بحيث دفع سلمان الفارسي لأن يقول : (تهلك هذه الأمّة بنقض مواثيقها)(١) .

أي أنّ الوفاء بالعهد والميثاق كما أنّه يوجب القدرة والنعمة والتقدم ، فنقضهما يؤدي إلى الضعف والعجز والهلاك.

ونجد في التأريخ الإسلامي أنّ المسلمين عند ما غلبوا جيش الساسانيين في عهد الخليفة الثّاني وأسروا الهرمزان قائد جيش فارس ، وجاؤوا به إلى عمر ، قال له عمر : ما حجتك وما عذرك في انتقاضك مرّة بعد أخرى؟

فقال : أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.

قال : لا تخف ذلك ، واستسقى ماء فأتى به في قدح غليظ.

فقال : لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتى به في إناء يرضاه

فقال : إنّي أخاف أن أقتل وأنا أشرب.

فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشربه ، فأكفأه

فقال عمر : أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش

فقال : لا حاجة لي في الماء ، إنّما أردت أن أستأمن به.

فقال عمر له : إنّي قاتلك.

فقال : قد أمنتني.

فقال : كذبت.

قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين قد أمنته.

فقال عمر : يا أنس ، أنا أؤمن قالت مجزأة بن ثور ، والبراء بن مالك! ولله لتأتّين

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية (٩٤).

٣٠٩

بمخرج أو لأعاقبنّك.

قال : قلت له : لا بأس عليك حتى تخبرني ، ولا بأس عليك حتى تشربه

وقال له من حوله مثل ذلك

فأقبل على الهرمزان وقال : خدعتني ، والله لا أنخدع إلّا أن تسلم فأسلم(١) .

٢ ـ ما لا يقبل في نقض العهود :

إنّ قبح نقض العهد الشناعة بحيث لا أحدا على استعداد لأن يتحمل مسئولية بصراحة إلّا النادر من الناس حتى أن ناقض العهد يلتمس لذلك اعذارا وتبريرات مهما كانت واهية لتبرير فعلته. وقد ذكرت لنا الآيات أعلاه نموذجا لذلك فبعض المسلمين يتذرعون بحجج واهية ككثرة الأعداء وقلة المؤمنين للتنصل من عهودهم مع الله والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتكون مواقفهم متزلزلة ، في حين أنّ الأكثرية من حيث العدد لا تمثل القدرة والقوة في واقع الحال، وانتصار القلّة المؤمنة على الكثرة غير المؤمنة من الشواهد المعروفة في تأريخ البشرية ، ثمّ إنّ حصول القدرة والقوة للأعداء ـ على فرض حصولها ـ لا تسوغ لأن تكون مبررا مقبولا لنقض العهد ، ولو دققنا النظر في الإمر لرأينا في واقعة أنّه نوع من الشرك والجهل باللهعزوجل .

وقد تجسّد هذا الموضوع بعينه في عصرنا الحاضر ولكن بصورة أخرى

فقسم من الدول الإسلامية الصغيرة في الظاهر قد تنصلت عن أداء وظائفها في نصرة المؤمنين لخوفها من الدول الاستعمارية الكبرى ، فتقدم في حساباتها قدرة البشر الهزيلة على قدرة الله المطلقة ، وتلتجئ إلى غير الله وتخشى غيره ، وتنقض عهدها مع بارئها ، وكل ذلك من بقايا الشرك وعبادة الأصنام.

* * *

__________________

(١) الكامل في التاريخ ، ج ٢ ، ص ٥٩٤.

٣١٠

الآيات

( وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) )

سبب النّزول

نقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي عن ابن عباس قوله : إنّ رجلا من حضر موت يقال له عيدان الأشرع قال : يا رسول الله ، إنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي فذهب بها منّي ، والقوم يعلمون إنّي لصادق ، ولكنّه أكرم عليهم منّي ، فسأل رسول الله أمرا القيس عنه فقال : لا أدري ما يقول ، فأمره أن يحلف. فقال عيدان : إنّه فاجر لا يبالي أن يحلف ، فقال : إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه ، فلما ذا قال ليحلف أنظره فانصرفا فنزل قوله :( وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ) الآيتان فلمّا قرأهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال امرؤ القيس:أمّا ما عندي فينفد وهو صادق فيما يقول ، لقد اقتطعت أرضه ولم أدركم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء ومثلها معها بما أكلت من ثمرها ، فنزل فيه( مَنْ عَمِلَ صالِحاً ) الآية.

٣١١

التّفسير

ثمن الحياة الطيبة :

جاءت الآية الأولى من هذه الآيات لتؤكّد على قبح نقض العهد مرّة أخرى ولتبيّن عذرا آخرا من أعذار نقض العهد الواهية ، فحيث تطرقت الآيات السابقة إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية (المادية) من أثر سلبي على حياة الإنسان.

ولهذا تقول :( وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) .

أي إنّ قيمة الوفاء بعهد الله لا تدانيها قيمة ، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا بأسرها فإنّه لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد الله.

وتضيف الآية المباركة للدلالة على هذا الأمر :( إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

ويبيّن القرآن في الآية التالية سبب الأفضلية بقوله :( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) لأنّ المنافع المادية وإن بدت كبيرة في الظاهرة ، إلّا أنّها لا تعدو أن تكون فقاعات على سطح ماء ، في حين أنّ الجزاء والثواب الإلهي النابع من ذات الله المطلقة المقدسة أعلى وأفضل من كل شيء.

ثمّ يضيف قائلا :( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ ) ـ وعلى الأخص في الثبات على العهد والأيمان ـ( بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ التعبير بـ «أحسن» دليل على أنّ أعمالهم الحسنة ليست بدرجة واحدة ، فبعضها حسن والبعض الآخر أحسن ، ولكنّ الله تعالى يجزي الجميع بأحسن ما كانوا يعملون ، وهو ذروة اللطف والرحمة الربانية ، كما لو مثلنا لذلك في مثل من حياتنا كأن يعرض بائع أنواعا من البضائع المتفاوتة في النوعية ، فقسم منها بضائع جيدة ، وقسم آخر بضائع رديئة ، والبقية بين الإثنين ، فيأتي مشتري ليأخذ الجميع بسعر النوعية الجيدة!

٣١٢

ولا تخلو جملة( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) من الإشارة إلى أنّ الصبر والثبات في السير على طريق الطاعة ، وخصوصا حفظ العهود والإيمان هي من أفضل أعمال الإنسان.

وقد روي عن عليعليه‌السلام قوله : «الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا في إيمان لا صبر معه»(١) .

ثمّ يبيّن القرآن الكريم بعد ذلك ـ على صورة قانون عام ـ نتائج الأعمال الصالحة المرافقة للإيمان التي يؤديها الإنسان وبأية صورة كانت في هذه الدنيا وفي الآخرة ، فيقول :( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وعليه ، فالمقياس هو الأعمال الصالحة الناتجة عن الإيمان بلا قيد أو شرط ، من حيث السن أو الجنس أو المكانة الاجتماعية أو ما شابه ذلك في هذا الأمر.

و «الحياة الطيبة» في هذه الدنيا هي النتاج الطبيعي للعمل الصالح النابع من الإيمان، أي أنّ المجتمع البشري سيعيش حينها حياة هادئة مطمئنة ملؤها الرفاه والسلم والمحبّة والتعاون ، بل وكل ما يرتبط بالمجتمع من المفاهيم الإنسانية ، وفي أمان من الآلام الناتجة عن الاستكبار والظلم والطغيان وعبادة الأهواء والأنانية التي تملأ الدنيا ظلاما وظلامات.

وعلاوة على كل ما تقدم فإنّ الله سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون (كما تقدم تفسيره).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٨٢.

٣١٣

بحوث

١ ـ منابع الخلود

إنّ طبيعة الحياة في هذا العالم المادي هي الفناء والهلاك ، فأقوى الأبنية وأكثر الحكومات دواما وأشد البشر قدرة لا يعدون أن يصيروا في نهاية أمرهم إلى الضعف فالفناء ، وكل شيء معرض للتلف بلا استثناء في هذا الأمر.

أمّا لو تمكنت الكائنات من أن توجد لها ارتباطا على نحو ما مع الذات الإلهية المقدسة ، وتبقى تعمل لأجلها وفي سبيلها ، فإنّها والحال هذه ستصطبغ بصبغة الخلود ، لأنّ ذات الله المقدسة أبدية وأزلية وكل من ينتسب اليه يحصل على صبغة الأبدية.

فالأعمال الصالحة أبدية ، الشهداء لهم حياة أبدية ، والأنبياء والعلماء المخلصون والمجاهدون في سبيل الله يبقى ذكرهم خالدا في ذاكرة التاريخ لأنّهم يحملون الصبغة الإلهية.

ولهذا ، تذكّرنا الآيات أعلاه وتدعونا لأن ننفذ ذخائر وجودنا من الفناء ، ونودعها في صندوق لا تطاله يد الزمان ولا تفنيه الليالي والأيّام.

فهلموا لبذل الطاقات في سبيل الله وفي خدمة خلق الله ، وكسب رضا الباري ، لتصبح من مصاديق «عند الله» ولتكون باقية بمقتضى( ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا عن ثلاث:صدقة جارية ، علم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له»(١) .

وعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «شتّان ما بين عملين : عمل تذهب لذته وتبقى تبعته ، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره»(٢) .

__________________

(١) إرشاد الديلمي.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ١٢١.

٣١٤

٢ ـ التساوي بين الرجل والمرأة

ممّا لا شك فيه أنّ بين الرجل والمرأة تفاوت واختلاف من الناحيتين الجسمية والروحية، وهذا الفرق هو الذي جعلهما مختلفين في وظائفها وشؤونهما الاجتماعية ، إلّا أنّ طبيعة الاختلاف الموجود لا تنعكس على الشخصية الإنسانية ، ولا توجد اختلافا في مقامهما عند اللهعزوجل ، فهما في هذا الجانب متساويان ومتكافئان ، ويحكم شخصية أي منهما مقياس واحد ألا وهو الإيمان والعمل الصالح والتقوى ، وإمكانية تحصيل ذلك لأيّ منهما متساوية.

إنّ الآيات أعلاه قد بيّنت هذه الحقيقة بكل وضوح لتخرس الأفواه المشككة في الطبيعة الإنسانية للمرأة في الماضي والحاضر ، ولترد بقوّة أولئك الذين يعطون للمرأة مقاما أقل ورتبة أنزل من الناحية الإنسانية نسبة إلى الرجل ، وقد أعلنت الآيات المنطق الإسلامي في هذه المسألة الاجتماعية المهمّة ، فقالت : إنّ الإسلام خلافا لقاصري الفكر ليس دين الرجال ، فهو يخص المرأة بنفس القدر الذي يخص الرجل.

فمن عمل صالحا وهو مؤمن رجلا كان أو امرأة ، فله الحياة الطيبة : وسينال ثواب الله تعالى من غير تمايز في الجنس ، ولا تفاضل بينهما إلّا من خلال ما يتفوق أيّ منهما على الآخر من حيث الإيمان والعمل الصالح.

٣ ـ جذور العمل الصالح ترتوي من الإيمان

العمل الصالح : مصطلح له من سعة المفهوم ما يضم بين طياته جميع الأعمال الإيجابية والمفيدة والبناءة على كافة أصعدة الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية إلخ.

ويشمل : الاختراع الذي يبذل فيه العالم جهده سنوات طويلة من أجل خدمة الإنسانية جهاد الشهيد الذي حمل روحه على كفه وخاض ساحة الصراع بين

٣١٥

الحق والباطل فبذل دمه الشريف في سبيل الله الآلام التي تتحملها الأمّ المؤمنة عند الولادة وما تواجه من صعاب في تربية أبنائها وتشمل ما يعانيه العلماء في تحرير كتبهم الثمينة.

وتشمل أيضا : أعظم الأعمال ، كحمل رسالة النبوة وأقل وأصغر الأعمال ، كرفع حجر صغير من طريق المارة ، نعم ، فكل ما ذكره يدخل ضمن مفهوم العمل الصالح.

والحال هذه يواجهنا «السؤال» الآتي : لما ذا قيّد العمل الصالح بشرط الإيمان ، في حين يمكن أداؤه بدون هذا الشرط ، والساحة البشرية فيها كثير من الشواهد التي تحكي ذلك؟

و «الجواب» ينصب على تبيان مسألة واحدة ، ألا وهي (الباعث الإيماني) ، فإن لم يحرز هذا الباعث فغالبا ما تكون الأعمال المنجزة ملوّثة (وقد تشد عن هذه القاعدة العامّة بعض المتفرقات هنا وهناك) ، وأمّا إذا ارتوت جذور شجرة العمل الصالح من ماء التوحيد والإيمان بالله ، فنادرا ما يصيب هذا العمل آفات مثل : العجب ، والرياء ، الغرور ، التقلب ، المنّة إلخ ، ولذلك نرى القرآن الكريم غالبا ما يربط بين هذين الأمرين ، لما لارتباطهما من واقعية.

ونوضح المسألة في مثال : لو افترضنا أنّ شخصين أرادا بناء مستشفى ، أحدهما يدفعه الباعث الإلهي لخدمة خلق الله ، والآخر هدفه التظاهر بالعمل الصالح والحصول على السمعة والمكانة الاجتماعية المرموقة.

وفي النظرة الأولى وبتفكير سطحي يمكننا أن نقول ـ إنّ المستشفى ستقام ، وسيستفيد الناس من عملهما على السواء ، وصحيح أن أحدهما سيحصل على الثواب ، الإلهي والآخر لا يحصل عليه ، ولكنّ ظاهر عمليهما لا اختلاف فيه.

وكما قلنا فإنّ هذا القول ناتج عن رؤية سطحية للموضوع ، أمّا لو أمعنا النظر لرأينا أنّهما مختلفان من جهات متعددة ، فعلى سبيل المثال : إنّ الشخص الأوّل

٣١٦

سينتخب مكانا لمستشفاه يكون قريبا من أكثر طبقات المنطقة فقرا وحرمانا ، ولربّما تكون في محلة غير معروفة ومنزوية ، أمّا الشخص الثّاني فإنّه سيبحث عن منطقة أكثر شهرة حتى وإن كانت حاجتها للمستشفى قليلة جدّا.

وسيسعى الشخص الأوّل في انتخاب مواد البناء وطريقته بما يلحظ فيه المستقبل البعيد ، ويحكم أساس البناء ليصمد البناء لسنين طويلة ، أمّا الشخص الآخر فإنّه سيحاول أن يسرع في البناء وتعجيل افتتاح المستشفى ويكثر الضجيج والإعلام لينال مراده. وسيجدّ الأوّل في إحكام باطن العمل في حين أنّ الثّاني سيهتم بمظهره ورونقه. وعند انتخاب الأقسام الطبية ، الأطباء ، الممرضين وسائر احتياجات المستشفى ، فثمّة اختلاف كبير بين الشخصين ، فاختلاف النيّة يترك أثره على جميع مراحل وشؤون العمل وبعبارة أخرى : إنّ العمل يصطبغ بصبغة النيّة.

٤ ـ ما هي الحياة الطيبة؟

لقد ذكر المفسّرون في معنى الحياة الطيبة تفاسير عديدة :

فبعض فسرها ب : الرّزق الحلال.

وبعض ب : القناعة والرضا بالنصيب.

وبعض ب : الرزق اليومي.

وبعض ب : العبادة مع الرزق الحلال.

وبعض ب : التوفيق لطاعة أوامر الله وما شابه ذلك.

ولعله لا حاجة بنا للتذكير بأن مفهوم الحياة الطيبة من السعة بحيث يشمل كل ما ذكروه وغيره ، فالحياة الطيبة بجميع جهاتها ، وخالية من التلوثات والظلم والخيانة والعداوة والذل وكل ألوان الآلام والهموم ، وفيها ما يجعل حياة الإنسان صافية كماء زلال.

٣١٧

وبملاحظة تعبير الآية عن الجزاء الإلهي وفق أحسن الأعمال ، ليفهم من ذلك أنّ الحياة الطيبة ترتبط بعالم الدنيا بينما يرتبط الجزاء بالأحسن بعالم الآخرة.

وعند ما سئل أمير المؤمنينعليه‌السلام عن قوله تعالى :( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) ، قال:«هي القناعة»(١) .

ولا شك أنّ هذا التّفسير لا يعني حصر معنى الحياة الطيبة بالقناعة ، بل هو بيان لأحد مصاديقها الواضحة جدّا ، حيث أنّ الإنسان لو أعطيت له الدنيا بكاملها وسلبت منه روح القناعة فإنه ـ والحال هذه ـ سيعيش دائما في عذاب وألم وحسرة ، وبعكس ذلك، فإذا امتلك الإنسان القناعة وترك الحرص والطمع ، فإنّه سيعيش مطمئنا راضيا على الدوام.

وقد ورد في روايات أخرى تفسير الحياة الطيبة بمعنى الرضا بقسم الله ، وهذا المعنى قريب الأفق مع القناعة.

وينبغي أن لا نعطي لهذه المفاهيم صفة تخديرية أبدا ، وإنّما الهدف الواقعي من بيان الرضا والقناعة هو القضاء على الحرص والطمع واتباع الهوى في نفس الإنسان ، التي تعتبر من العوامل المؤثرة في إيجاد الاعتداءات والاستغلال والحروب وإراقة الدماء ، والمسببة للذل والأسر.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٢٢٩.

٣١٨

الآيات

( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) )

التّفسير

اقرأ القرآن هكذا :

لم يفت ذاكرتنا ما ورد قبل عدّة آيات أنّ القرآن( تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) ثمّ تمّ البحث عن قسم من أهم الأوامر الإلهية في القرآن.

وتبيّن الآيات مورد البحث طريقة الاستفادة من القرآن وتتطرق إلى كيفية تلاوته ، فكثافة المحتوى القرآني لا تكفي وحدها لتوجيهنا ، ولا بد من رفع الحجب المخيمة على وجودنا وإزالتها عن محيط فكرنا وروحنا ، كي نتمكن من تحصيل هذا المحتوى الثر الغني.

ولهذا يقول القرآن :( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) .

ولا يقصد من الاستعاذة الاكتفاء بذكر بل ينبغي لها أن تكون مقدمة لتحقيق وإيجاد الحالة الروحية المطلوبة حالة : التوجه إلى اللهعزوجل ، الانفصال عن

٣١٩

هوى النفس والعناد المانع للفهم والدرك الصحيح للإنسان ، البعد عن التعصبات والغرور وحبّ الذات ومحورية الذات التي تضغط على الإنسان ليسخر كل شيء (حتى كلام الله) في تحقيق رغباته المنحرفة.

وإن لم تتحقق للإنسان هذه الحالة فسيتعذر عليه إدراك الحقائق القرآنية ، وربّما سيجعل القرآن وسيلة لتبرير آرائه ورغباته الملوّثة بالشرك بواسطة «تفسير بالرأي».

وتأتي الآية التالية لتكون دليلا على ما جاء في الآية التي قبلها :( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) ، لأنّهم يعتبرون أمر الشيطان واجب الطاعة دون أمر الله!

* * *

بحوث

١ ـ موانع المعرفة

مع كل ما للحقيقة من ظهور ووضوح فإنّها لا تلحظ إلّا بعين باصرة ، وبعبارة أخرى، ثمة شرطان لمعرفة الحقائق :

الأوّل : وضوح الحقيقة.

الثّاني : وجود وسيلة للنظر إليها وإدراكها.

فهل يمكن للأعمى أن يرى قرص الشمس يوما ما مع البقاء على حالة العمى؟ وهل يمكن للأصم أن يسمع نغمات هذا العالم الجميلة؟ فكذا الحال بالنسبة لفاقد البصيرة الثاقبة والأذن السميعة ، فإنّه محروم من رؤية جلال الحق ، ومحروم من سماع آياته الرائعة.

ولكن ، لما ذا يفقد الإنسان قدرته على المعرفة؟!

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496