الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237863 / تحميل: 7590
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

١ ـ الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (٤٦٠ ه‍ ـ ق) ، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف ب (التبيان).

٢ ـ الشريف المرتضى ، ويعتبر من كبار علماء الإمامية في القرن الرّابع الهجري.

٣ ـ الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين ، حيث يقول في بيان عقائد الإمامية : (إن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف).

٤ ـ المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي ، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن.

٥ ـ المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، من كبار العلماء المتأخرين.

٦ ـ المرحوم المحقق اليزدي ، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.

٧ ـ بالإضافة إلى جمع من العلماء الآخرين ، أمثال : الشّيخ المفيد ، الشّيخ البهائي، القاضي نور الله مع سائر محققي الشيعة.

وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.

وقد نقل عن بعض محدّثي الشيعة وبعض أهل السنة ، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إلّا أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.

وأفاد العلّامة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) «إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة» فهل هناك من يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟! أو هل هناك من ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق ، الثورة الفرنسية ،

٢١

الحرب العالمية الأولى أو الثّانية؟!

فإنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر ، بسبب تواتر ذكر وجودها ، فكذلك آيات القرآن الكريم ، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وإذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن ، فغايتهم إشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة ، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث : (إنّ الآية :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن) ، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا لا بدّ من كلمة : إن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم ، فليس هناك من يعتقد بذلك.

وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة ، فإنّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضا ، وهو ما لم يعتن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله : لا ريب أنّه (أي القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان، كما دل عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في كل زمان ، ولا عبرة بنادر(١) .

إنّ التأريخ الإسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة ، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد ، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أمّة

__________________

(١) تفسير آلاء الرحمن ، ٣٥.

٢٢

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

ترى كاتبا معروفا (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول : (والشيعة هم أبدا أعداء المساجد)(١) .

والحال لو أجرينا إحصاء لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها ، لدرجة أنّ بعضا من الشيعة بات يشكل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها ، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتبا معروفا يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.

وعليه فلا ينبغي الاستغراب لما افتراه الفخر الرازي.

أدلة عدم تحريف القرآن :

١ ـ أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة ـ فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات أخر ـ كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ.

وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن ، إنّما أراد بذلك حصول النقص فيه ، ولم نر من احتمل الزيادة في القرآن.

ونظرة فاحصة إلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم ، فهو القانون والدستور الحاكم ، ونظام الدولة ، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!

يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإنسان المسلم في : صلاته ، المسجد ، البيت ، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء ، بل إنّ المسلمين كانوا

__________________

(١) الصراع ، لعبد الله علي القصيمي ، ج ٢ ، ص ٢٣ ، على ما نقل عنه العلّامة الأميني في الغدير ، ج ٣ ، ص ٣٠٠.

٢٣

يجعلون تعليم القرآن مهورا للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين ، حتى أن الطفل ينمو على هديه.

ومرّة أخرى نقول : أو يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!

لقد تمّ جمع القرآن ـ كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ـ في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الاهتمام ، في مجال تعلم أحكامه ، وحفظه ، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الاجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم ، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(١) .

وكذلك الحال في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة ـ وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(٢) .

من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.

وهذا طبيعي جدا إذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن ، باعتباره القانون الحاكم النافذ ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.

لم يكن القرآن الكريم كتابا مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص ، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي.

وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع

__________________

(١) منتخب كنز العمال ، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن) ، ص ٢٦٠.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥٧.

٢٤

والانتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم ، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال ، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين : أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.

وبناء على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف) : إن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر ، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (٢٠) من (٤٠) كحد أدنى.

خلاصة القول : إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين ، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة) ، وإلى هنا نعاود طرح السؤال : هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!

٢ ـ بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أو كل إليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها ، ويذكر أن عددهم كان بين ١٤ ـ ٤٣ رجلا.

يقول أبو عبد الله الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن) : (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون ، أشهرهم الخلفاء الأربعة ، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!

٣ ـ دعوة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهمعليهم‌السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس ، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي.

٢٥

وخطب الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الادعاء : فنقرأ

في الخطبة (١٣٣): «وكتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه».

ويقول في الخطبة (١٧٦): «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ...».

ونطالع قولهعليه‌السلام في نفس الخطبة المذكورة : «وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى».

ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقولهعليه‌السلام : «وإنّ الله سبحانه لم يعط أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين ، وسببه الأمين».

ونقرأ في الخطبة (١٩٨): «ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، ، وفرقانا لا يخمد برهانه» وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّةعليهم‌السلام .

ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء ، فهل من الممكن أن يدعو إليه الأئمّةعليهم‌السلام بهذه القوة؟ ويصفونه بأنّه : صراط هداية ، وسيلة التفريق بين الحق والباطل ، النّور الذي لا يطفأ أبدا ، مصباح هداية لا يخبو ، حبل الله المتين والعروة الوثقى.

٤ ـ وإذا ما سلمنا ب (خاتمية) النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان الإلهية ، وإنّ رسالة القرآن باقية إلى يوم القيامة.

فهل يصدق أنّ الله سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!

٥ ـ وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق متعددة معتبرة.

٢٦

فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا»(١) .

فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!

٦ ـ بالإضافة إلى كل ذلك فالقرآن طرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة ، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن ، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل.

فلو افترضنا أنّ تحريفا قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل ، أو معيارا دقيقا لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!

روايات التّحريف :

يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إليه من معنى ، وأخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ الرّوايات القائلة : إنّ عليّاعليه‌السلام شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند ما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه ، فقال عليعليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد الآن أبدا.

وبنظرة فاحصة إلى تلك الرّوايات نصل إلى أن القرآن الذي كان عند علي

__________________

(١) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع من الصحابة مثل : أبو سعيد الخدري ، زيد بن أرقم ، زيد بن ثابت ، أبو هريرة ، حذيفة بن أسيد ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، عبد الله حنطب ، عبد بن حميد ، جبير بن مطعم ، ضمّرة الأسلمي ، أبو ذر الغفاري ، أبو رافع ، أم سلمة وغيرهم.

٢٧

عليه‌السلام لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون ، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أمور :

الأوّل : أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول.

الثّاني : تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة.

الثّالث : تضمن تفسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآيات بالإضافة إلى ذكر الناسخ والمنسوخ.

فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنينعليه‌السلام ليس إلّا عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إليه : (التّفسير) و (التأويل) و (سبب النّزول) و (تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى ، وكان قرآنا مع تفسيره الأصيل.

كما أنّه ورد في كتاب سليم بن قيس : (إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته ، وأقبل على القرآن ، فلما جمعه كله ، وكتابه بيده ، وتأويله الناسخ والمنسوخ ، بعث إليه أن أخرج فبايع ، فبعث إليه إني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(١) .

٢ ـ الرّوايات المشيرة إلى «التحريف المعنوي» للقرآن.

إنّ التحريف ـ كما نعلم ـ على ثلاثة ضروب : لفظي ، معنوي ، وعملي.

فالتحريف اللفظي : هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة ـ وجميع محققي الإسلام ـ وننكره إنكارا قاطعا).

والتحريف المعنوي : هو تفسير الآية خلافا لمفهومها ومعناها الحقيقي.

أمّا التحريف العملي : فهو العمل على خلاف المقتضي.

ففي تفسير علي بن إبراهيم عن أبي ذررضي‌الله‌عنه أنّه قال : لما نزلت هذه الآية( يَوْمَ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٩٢ ، ص ٤١.

٢٨

تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ترد عليّ أمتي يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الأمة ، فأسألهم : ما ذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا ...»(١) .

وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور.

٣ ـ الرّوايات المختلفة :

فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم ، وتبعهم الجهلة ، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته ، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (١٨٨) رواية(٢) ، وقد استدل العلّامة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب).

والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان : فاسد المذهب ، لا يعتمد عليه ، وضعيف الحديث.

وعلى قول بعضهم : إنّه من أهل الغلو ، منحرف ، معروف بالتقول بالتناسخ ، وكذاب ، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف) : إنّ الإمام الجوادعليه‌السلام وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة.

مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري ، إلّا أنّ أكثرها وأهمها تعود إليه.

وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى ، وينكرها كل ذي لب لبيب ، وعلى سبيل المثال ما جاء في إحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أنّه : قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!

__________________

(١) تفسير البرهان ، ذيل الآية (١٠٦) من سورة آل عمران.

(٢) أورد هذا الإحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).

٢٩

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة ، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطا تاما ، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.

أضف إلى ذلك ، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريبا ، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إليه أحد؟!

وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه ، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أو لم يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إذن فكيف يحتمل إسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إليه أحد ، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!

لا يسعنا إلّا أن نقول : إنّ كذبه بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث.

وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إليه آنفا.

ولا بدّ من الإشارة إلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل) ، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مرارا : إنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية ، إنّما ألفته للبحث والمناقشة ، وأشرت فيه إلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أن أصرح ، وكان من الأفضل أن أسميه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب).

ثمّ يقول المحدث الطهراني : هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه ، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزنا لما ورد في مضامين الأخبار ، ويراها أخبار آحاد لا بدّ أن تضرب عرض الحائط ، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إلى أستاذنا إلّا من هو غير عارف بعقيدته ومرامه.

٣٠

وأخيرا فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إلّا أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل.

وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيرا من الآيات القرآنية ، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.

وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة ، أن نقطة واحدة لو غيّرت في القرآن فسيعيدها إلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) التوبة ، ٣٢.

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) )

التّفسير

العناد والتعصب :

تواسي الآيات قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم ، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة.

فتقول أوّلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ) .

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة :

٣٢

ـ مرة ، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية.

ـ وأخرى ، يحاولون بالاستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللهعزوجل .

ـ وتارة ، يأخذهم الاستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية ، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها ، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد ، لأنّ يستهزءوا.

ـ وأخرى ، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسئوليته.

ـ وقد يكون الاستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد ، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة ، وقيمة الإنسان عندهم من خلال : لباسه الأنيق ، مركبة الفاره ، بيته الفخم ، وحياته المحفوفة بالزخارف وإذا نهض بدعوة الحق إنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئا ، فسيكون موضع سخريتهم!

ـ وأخيرا ، فقبولهم لدعوة الأنبياءعليهم‌السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضا لكل شهواتهم الدنيوية ، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها ، فليجؤون للاستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثمّ يقول جلّ وعلا :( كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أي نوصل الآيات القرآنية الى اعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات ، ترى المتعصبين المستهزئين( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وهو ليس بجديد( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) .

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إلى أنّهم

٣٣

لا يؤمنون حتى( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) ومع ذلك( لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) .

عجبا ، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!

إن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة ، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع ، وتمنعهما من إدراك الحقائق ، وإذا لم يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع ، فإنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معا ، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الأولى ، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست «ملكة» وصفة أخلاقية ، فلا يمكن إزالتها بسهولة ، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.

* * *

ملاحظات

١ ـ (شيع) جمع (شيعة) ، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجا مشتركا.

يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) ـ باب شيع : الشياع الانتشار والتقوية ، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى ، وشاع القوم انتشروا وكثروا ، وشيعت النّار بالحطب قويتها ، والشيعة : من يتقوى بهم الإنسان.

أمّا العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أنّ أصلها من المشايعة ، وهي المتابعة، يقال شايع فلان فلانا على أمره أي تابعه عليه ، ومنه شيعة عليعليه‌السلام وهم الذين تابعوهعلى أمره ودانوا بإمامته ، وفي حديث أم سلمة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» إشارة لهذا المعنى.

وعلي أية حال فالشياع بمعنى الانتشار والتقوية ، أو المشايعة بمعنى

٣٤

المتابعة ، كلاهما دليل على وجود نوع من الاتحاد والارتباط الفكري والديني في مفهوم (الشيعة) و (التشيع).

وإطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنّهم في قبال دعوة الأنبياءعليهم‌السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.

فإن كان لأهل الضلال هذا الاتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن يسيروا على نور هدية متكاتفين ومتآزرين؟

٢ ـ مرجع الضمير في «نسلكه» :

من لطف الباري جلّ شأنه أن يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين بطرق شتى ، عسى أن تستقر في قلوبهم ، ولكنّ عدم صلاحية ولياقة المحل يكون سببا لخروجها من تلك الأجواف النتنة ، فتبقى قلوبا غير متأثرة ، شبيها بمرور الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة «نسلكه»).

وعلى هذا الأساس فضمير «نسلكه» يعود إلى «الذكر» أي القرآن كما ورد في الآيات المتقدمة ، وكذلك حال الضمير في( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يعود إليه أيضا ، أي : إنّهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.

فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في الآيتين ٢٠٠ و ٢٠١.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن ضمير «نسلكه» يعود إلى الاستهزاء المذكور في الآية المتقدمة لها ، فيكون المعنى : إنّا ندخل الاستهزاء والسخرية في قلوبهم نتيجة لذنوبهم وعنادهم.

ويكفينا لتضعيف هذا التّفسير أن نقول : إنّه يذهب بالتناسق بين الضميرين.

ونستفيد كذلك من عبارة «نسلكه» أنّ على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في أداء وظيفته بإيصال صوته الى أسماع الناس ، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى

٣٥

يوصل صوت الحق إلى القلوب ليقرّ فيها.

وبعبارة أخرى ، ينبغي الاستفادة من جميع الوسائل السمعية والبصرية ، البرامج العملية ، الأدب ـ شعرا وقصة ـ والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق واضحة لذوي القلوب الواعية ، والحجة تامة على من ظلم وعاند.

٣ ـ سنّة الأولين :

تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة تفريقهم وإبعادهم عن أولياء الله لا تختص بزمان ومكان معينين ، بل هي ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي يدبرها الأعداء.

ولا نسمح لليأس من أن يدخل قلوبنا ، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا الثّقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلّا مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب دعاة الإيمان.

وإذا ما تصورنا يوما أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا يواجهان برد فعل الأعداء ، فإنّنا في خطأ كبير ، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة اليأس المهلكة ، وما علينا إلّا أن نستوعب مسير خط الأنبياءعليهم‌السلام في مواجهاتهم لأعداء الله ، وأن نجسد ذلك الإستيعاب في سلوكنا ، بل وعلينا أن نزداد في كل يوم عمقا في دعوتنا.

٤ ـ تفسير( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) :

يظهر هذا المقطع القرآني ـ بوضوح ـ تصويرا لحال المعاندين ، فلو أنّ بابا من السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله ، لقالوا : سحرت عيوننا وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أنّ المراد من السماء هنا : الفضاء الخارجي الذي لا يمكن النفوذ منه بسهولة).

علما بأنّ كلمة «ظلوا» تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة

٣٦

(باتوا) من البيتوتة اللّيل.

ويميل إلى هذا المعنى غالب المفسّرين ولكن العجيب أن بعض المفسّرين احتملوا عودة ضمير «ظلّوا» إلى الملائكة ، فيكون المعنى : أنّهم لو رأوا الملائكة تصعد وتنزل من السماء بأمّ أعينهم لما آمنوا أيضا.

ولكن إضافة لعدم انسجام هذا الاحتمال مع تسلسل الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن المشركين ، أن ذكر الملائكة إنّما ورد قبل ست آيات (فعودة الضمير إلى الملائكة بعيد جدّا) فإنّ هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة القرآنية ، لأنّ القرآن يريد أن يقول أنّ المشركين لا يستسلمون للحق حتى لو صعدوا وهبطوا من السماء مرارا في ساعات النهار.

٥ ـ معنى عبارة( سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) .

جمله «سكّرت» من مادة (سكر) أي : التغطية.

ويراد بها : أنّ الكافرين المعاندين يقولون : قد غطيت عيوننا عن رؤية الواقعيات ، وإذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إلى الأرض سنحكم على ذلك بأنّه وهم وخيال ، كما في ما يسمّى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.

ويضيفون القول :( بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ، فبالرغم من أنّ الشعوذة هي لون من ألوان السحر ، لكنّهم ربما يشيرون إلى ما هو أشد من الشعوذة التي تختص بخداع البصر فقط ، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود الإنسان ويفقد معه الإحساس بكل ما هو واقع!

فلو أغلقنا عين انسان ما فإنّه لا يفقد الشعور فيما لو أنّه يصعّد به إلى الأعلى أو ينزّل إلى الأسفل.

فمعنى الآية : لو أخذنا المشركين إلى أقطار السماوات لقالوا أوّلا : إنّنا أصبنا بالشعوذة ، وبعد أن يجدوا أنّ هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون حينها : إنّنا مسحورون!

* * *

٣٧

الآيات

( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) )

التّفسير

تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة توحيد الله ، وبسياقها جاءت تكملة لبحثي القرآن والنّبوة المذكورين في الآيات السابقة.

قوله تعالى :( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) .

«البروج» : جمع «برج» ويعني «الظهور» ، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون ، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية : هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن : لو نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية : مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول : إنّ الشمس في برج الحمل(١) ـ مثلا ـ أو الثور أو الميزان أو العقرب

__________________

(١) الحمل : مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريبا. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

٣٨

أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية ، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسّم لعالم وجودنا) ، يعتبر من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.

إنّ هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا وجود هدف لخلق هذا العالم ، وكلما أمعنا النظر في خلق الله ازددنا مقربة من معرفة الخالق الجليل.

ثمّ يضيف :( زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ) (١) .

انظروا لإحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء ، وكأنّها حلقات تنظيمية تتجاذب أطراف الحديث ، وترى تلك كأنّها ترمقنا شابحة ، وأخرى تغمزنا باستمرار وكأنّها تدعونا إليها ، ويخال من بعضها وكأنّها تقترب منّا لشدة تلألئها ، وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها المتباعد إنّني هنا!

هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربّما ألفها البعض على أنّها عادية نتيجة لتكرار المشاهدة ، ومع ذلك فلها جذب خاص وهي جديرة بالتأمل.

وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع ، يضيف إلى سحرها وجمالها رونقا جديدا.

وتراها خجلة ، لا تقوى على أن ترفع رأسها إلّا بعد غروب الشمس ، فتتلألأ الواحدة تلو الأخرى ، كأنّهن يخرجن على استحياء من خلف ستار وما إن يحل الطلوع حتى نراها تفر فرارا لتختفي.

__________________

(١) ضمير «زيناها» يعود إلى «السماء» لأنّها مؤنث مجازي.

٣٩

ومضافا الى ذلك فإنّ لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق ، ويكفيك لجماليتها أنّها جعلت أنظار العلماء تشخص إليها منذ آلاف السنين حتى زماننا الذي ما توصل العلماء إلى صناعة المرقبات (التلسكوبات) ، إلّا للوصول لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.

ويضيف في الآية التالية :( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

الآية المذكورة ، من الآيات التي أشبعت شرحا وتفسيرا من قبل المفسّرين ، وكلّ منهم قد نحى منحى خاصا في فهم معناها.

وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان ٦ و ٧) وكذلك في سورة الجن الآية (٩).

وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلة لم يسعفوا بالإجابة عنها ، فكان لزاما علينا في بادئ الأمر أن نلقي نظرة إلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده ، ومن ثمّ نعرج إلى ما نراه راجحا من هذه الآراء :

١ ـ بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإجمالي ولم يغوصوا إلى كثير من التفاصيل ، ولم يعيروا أهمية لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إدراكها ، وما علينا إلّا أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق.

فكتب يقول : وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟

كل هذا غيب من غيب الله لا سبيل لنا إليه إلّا من خلال النصوص ، ولا جدوى في الخوض فيه ، لأنّه لا يزيد شيئا في العقيدة ولا يثمر إلّا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة ، ثمّ

٤٠

لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة(1) .

وينبغي التنويه هنا إلى أنّ القرآن كتاب سماوي جاء لتوجيه الإنسان إلى الحق ، وهو كتاب حياة وتربية ، فإن كان فيه ما لا يخص الحياة الإنسانية فمن الأولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني ، وكلّ ما فيه دروس لنا ومنهج قويم للحياة.

والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمر مرفوض أو ليس القرآن كتاب نور ، وكتابا مبينا؟! أو لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟! فكيف إذن لا يهمنا فهم بعض آياته؟!

وبكلمة : فإنّ هذا التّفسير مرفوض.

2 ـ يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصا القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.

فالسماء هي هذه السماء ، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهابا (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء ، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجة لاحتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).

والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع ، ولكنّه يمنع من الوصول إلى هدفه برميه بالشهب(2) .

__________________

(1) تفسير في ظلال القرآن ، ج 5 ، ص 396.

(2) ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتمادا على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإجابة على تلك التساؤلات. ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.

٤١

3 ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلّامة الطّباطبائي في (تفسير الميزان)والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال ، أو ما يسمّى ب (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة :

ألف : نقرأ في تفسير الميزان : (أورد المفسّرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب ، وهي مبينة على ما سبق إلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار ، إنّ هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إلّا منها ، وإنّ في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.

ويحتمل ـ والله العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس ، وهو القائلعزوجل في سورة العنكبوت (43) :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) ، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.

وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى ، نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض ، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت(1) .

ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف ، هكذا يرى : (إنّ العلماء المحتالين

__________________

(1) تفسير الميزان ، ج 17 ، ص 124 (في تفسير الآيات من سورة الصافات).

٤٢

المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة ، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق ، فإنّ الله تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار من له عقل ونباهة وإخلاص وإيمان ، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء ، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم ، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق ، ومتى ما اقترب منها طرد عنها ، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبدا ، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق ، أليس العلم لا يناله إلّا عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إليه إلّا عرفاؤه(1) ؟!

ويقول في مكان آخر : ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية ، فيكون المنع الحسي رمزا للمنع العقلي ، والكناية من أجمل أنواع البلاغة ، ألّا ترى أن كثيرا من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض ، غائبة أبصارهم ، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب ، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية(2) ، وإن أصيب أحد بهذه الأهواء يوما بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإنّه سيطرد أيضا.

ج ـ وله كلام في مكان آخر ، خلاصته : تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا ، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أمور واقعة ودقيقة جدّا ، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض

__________________

(1) تفسير الجواهر ، ج 8 ، ص 11.

(2) تفسير الجواهر ، ج 18 ، ص 10.

٤٣

الأمور ، لأنها لا تنقل بدقة إلا ما هو ضمن عالمها المحدود ، ولا يمكنها أن تصل إلى عالم أعلى منها ، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي ، كذلك هذه الأرواح فإنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.

د ـ وقال بعض آخر : أظهرت الاكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد ، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة ، وإنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا ، إلّا أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنيا فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم ، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا ، ولكنّ الجن تسعى للاستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إلى أهل الأرض(1) .

كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.

نتيجة البحث :

طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر ، وقبل الخروج بمحصلة البحث لا بدّ من ذكر بعض الملاحظات :

1 ـ أشار القرآن الكريم بكلمة «السماء» إلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إليها تارة ، وإلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من الله عزّ

__________________

(1) القرآن على مر العصور ، ع. نوفل.

٤٤

وجلّ ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك ، بل المراد هو الارتفاع إلى مقام القرب الإلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.

والمقصود من تعبير «أنزل» و «نزل» في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإلهية المقدسة على قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إبراهيم( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفرع عليعليه‌السلام (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّةعليهم‌السلام هم الفروع الأصغر(1) .

وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث : «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء.

لا ريب أنّ «السماء» المستعملة هنا ليست السماء المشاهدة.

نستنتج ممّا سبق أنّ «السماء» قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.

2 ـ و «النجوم» كذلك ، بمفهومها المادي هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي أولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.

فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة ، فكذلك المجتمعات البشرية ، فإنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها

__________________

(1) راجع تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 310.

٤٥

ونيل سعادتها بنور أولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.

وفي الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم»(1) وهو إشارة جلية لهذا المعنى.

كما نقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (2) إنّ الإمامعليه‌السلام قال : «النجوم آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(3) .

3 ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة ، أن منع الشياطين من الصعود إلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريمعليه‌السلام كذلك ولكن لفترة معينة ، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تمّ المنع بشكل كامل(4) .

ومن كل ما تقدم يمكننا القول : إن «السماء» كناية عن سماء الحق والإيمان ، والشياطين تسعى أبدا لاختراق هذه السماء والتسلل إلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حمارة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.

ولكن علم وتقوى أولياء الله وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.

وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ولادة المسيحعليه‌السلام ، وبين طرد الشياطين عن السماء.

ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إلى السماء والاطلاع

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 9.

(2) الأنعام ، 97.

(3) نور الثقلين ، ج 1 ، ص 750.

(4) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 5 ـ تفسير القرطبي ، ج 5 ، ص 3626.

٤٦

على الأسرار ، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة ، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض ، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأخرى حية ، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوي للأرض فقط ، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء ، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب.

نعم ، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إلّا أنّها لا تسمى شهبا إلّا بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.

وكما هو معلوم ، فإنّ إنسان العصر الحديث قد نفذ مرارا من هذه المنطقة ، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علما بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إلى مائتي كيلومتر طولا وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).

فإنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا ، فيمكن القول: إنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.

والخلاصة : يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو سماء الحق والحقيقة ، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع ، ليتمكنوا من إغواء الناس بذلك ، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.

٤٧

ولكن بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه ، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل ، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستندا على حقائق لم نصل لها في زماننا.

* * *

٤٨

الآيات

( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) )

التّفسير

وإتماما لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق ، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة ، ويبدأ بنفس الأرض( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ) .

«المد» ، في الأصل بمعنى : التوسعة والبسط ، ومن المحتمل أن يراد به إخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء ، لأنّ سطح الأرض (كما هو معلوم) كان مغطى بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة ، واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار ، وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء ، وهو ما تسمّيه الرّوايات بـ «دحو الأرض».

ثمّ يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد( وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) .

٤٩

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء ، ولعل المراد بـ «إلقاء» هنا بمعنى (إيجاد) لأنّ الجبال هي الارتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي ، أو من المواد البركانية.

ومن بديع خلق الجبال إضافة إلى كونها أوتادا لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي ، فإنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف ، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه ، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

واستعمال كلمة «رواسي» جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ ، إشارة لطيفة لما ذكرناه.

فهي : ثابتة بنفسها ، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإنسانية عليها.

ثمّ ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية ، ألا وهو النبات( وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) .

ما أجمل هذا التعبير وأبلغه! «موزون» من مادة (وزن)(1) ، ويشير بذلك إلى:الحساب الدقيق ، النظام العجيب ، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات ، وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من السارق ، الغصن ، الورقة ، الوردة ، الحبة وحتى الثمرة.

يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات ، وكل تحمل خواصا معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها ، وهي باب بمعرفة واسع وصولا لمعرفة البارئ المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.

وقد ذهب البعض إلى أن المقصود هو إحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال ، لأنّ كلمة «إنبات» تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضا.

__________________

(1) الوزن : معرفة قدر الشيء ـ مفردات الراغب.

٥٠

وقد وردت الإشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى ، ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون ، أنّه قال : «فإنّ الله تبارك وتعالى أنبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لا يباع إلّا وزنا»(1) .

وهناك من ذهب إلى أن المقصود من الإنبات في الآية إلى معنى أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض ، كما يشير إلى ذلك نوحعليه‌السلام حين مخاطبته قومه( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) (2) .

وعليه ، فليس هناك ما يمنع من إطلاق مفهوم الإنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن إلخ.

وبما أنّ وسائل وعوامل حيازة الإنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط ، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى جميع المواهب بقوله :( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) .

ليس لكم فقط ، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسئوليتكم( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) .

نعم ، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

«معايش» جمع «معيشة» ، وهي : الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإنسان ، والتي يحصل عليها بالسعي تارة ، وتأتيه بنفسها تارة أخرى.

ومع أن بعض المفسّرين قد حصر كلمة «معايش» بالزراعة والنبات أو الأكل والشرب فقط ، ولكنّ مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص ، ويطلق ليشمل كل ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش.

وانقسم المفسّرون في تفسير( مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) إلى قسمين :

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 6 (يعود ضمير «فيما» بناء على هذا التّفسير إلى الجبال).

(2) سورة نوح ، 17.

٥١

الأوّل : أنّ الله تعالى يريد أن يبيّن مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان والكائنات الحية الأخرى التي لا يملك الإنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.

الثّاني : أنّ الله تعالى يريد تذكير الإنسان بأنّه سبحانه هو الرازق ، وقد تكفل بإيصال رزقه إلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإنسان أو بواسطة أخرى(1) .

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل أكثر صوابا ، ويعزز ذلك الحديث المروي في تفسير عليّ بن إبراهيم ، حيث يتناول معنى( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) على أنّه : (لكل ضرب من الحيوان قدّرنا له مقدرا)(2) .

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة ، فتحوي جوابا لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس ، وهو : لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإلهية جوابا :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) . فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك ، وإنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا ، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون ، ولكنّ الحكمة اقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعا لحساب دقيق ، حتى الأرزاق إنّما تنزل إليكم بقدر.

ونقرأ في مكان آخر من القرآن :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ) (3) .

__________________

(1) بناء على التّفسير الأوّل يكون الاسم الموصول «من» في «من لستم له برازقين» عطفا على ضمير «لكم» وبناء على التّفسير الثّاني عطفا على «معايش» ، وبعض المفسّرين اعترض على التّفسير الأوّل بأنّ الاسم الصريح المجرور لا يعطف على ضمير مجرور إلّا بإعادة ذكر حرف الجر ، أيّ دخول اللام على «من» هنا واجبا ، وثمة اعتراض آخر يقول : كيف يطلق الاسم الموصول «من» على غير العاقل؟

والاعتراضان مردودان ، لأنّ عدم تكرار حرف الجر جار على لسان العرب ، وكذا الحال بالنسبة لاستعمال «من» لغير العاقل.

بل التّفسير الثّاني يواجهه ما لسعة المفهوم «للمعايش» ، حيث يشمل جميع وسائل الحياة حتى الحيوانات الداجنة وما شابهها وعلى هذا الأساس رجحنا التّفسير الأوّل.

(2) تفسير نور الثّقلين ، ج 3 ، ص 6.

(3) الشورى ، 27.

٥٢

إنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإنسان الحيوية والنشاط ، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان ، فإنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيى القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين وإذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني ، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إليه مصير البشرية؟

فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين ، ذوي البطون المنتفخة ، وبدون أيّ وازع انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد ، لماذا؟

لأنّ الناس ليسوا كالملائكة ، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب والمغريات التي تدني إلى الانحراف.

لقد اقتضت الحكمة الرّبانية أن يكون الإنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل ، وبما ذا يعمل ، وعن ماذا يتجاوز؟ والسعي والحركة لما هو مشروع ، المجال الأمثل للامتحان.

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والامتحان ، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجران الإنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الانحراف ، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأ للفساد والطغيان.

* * *

بحوث

1 ـ ما هي خزائن الله تعالى؟

نقرأ في آيات القرآن أن : للهعزوجل خزائن ، لله خزائن السماوات والأرض ، بيده خزائن كل شيء فما هي خزائنه تعالى؟

«الخزائن» لغة جمع «خزانة» : وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.

وهي من مادة (خزن) على وزن (وزن) بمعنى : حفظ الشيء وحبسه.

٥٣

بديهي ، أن من كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهيء لنفسه كل ما يحتاج إليه على الدوام ، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إليه مستقبلا.

وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!؟ الجواب بالنفي قطعا ولهذا فسّر جمع من المفسّرين أمثال العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات) ، فسّروا خزائن الله بمعنى (مقدورات الله) ، يعنى : أنّ كل شيء جمع في خزانة قدرة الله ، وكل ما يخطه ضرورة أو صلاحا لمخلوقه يخلقه بقدرته.

وقد فسّر بعض كبار المفسّرين «خزائن الله» بأنّها : (مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامّة المادية ، ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها)(1) .

هذا التّفسير وإن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكنّ تعبير «عندنا» ينسجم أكثر مع التّفسير الأوّل.

وانّ عبارة «خزائن الله» وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل ، ولا يصح أن نعتبرها بعين معناها ، وإنّما استعملت للتقريب ، من باب تكلم الناس بلسانهم ، ليكونوا أكثر قربا للسمع وأشد فهما للمعنى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ «خزائن» تختص بالماء والمطر ، ولكن من الواضح حصر مفهوم «خزائن» بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإطلاق مفهوم الآية ، وهو خال من أيّ دليل أو قرينة.

2 ـ النّزول مكانيّ ومقامي

كما بيّنا سابقا أن النّزول لا يرمز إلى الحالة المكانية دوما (أي النّزول من

__________________

(1) الميزان ، ج 12 ، ص 142.

٥٤

مكان عال إلى أسفل) ، بل يرمز إلى النّزول المقامي في بعض الموارد ، فمثلا في حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إلى من هم أقل منه شأنا ، فإنّه يعبر عنها بالنّزول.

وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإلهية ، سواء كانت نازلة من السماء إلى الأرض كالمطر ، أو ما يتوالد على الأرض كالحيوانات ، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) ، وكذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد ، بشأن الحديد ،( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) إلخ.

خلاصة القول :

إنّ (نزول) و (إنزال) هنا بمعنى وجود وإيجاد وخلق ، وما استعمال هذا اللفظ إلّا لأنّها نعم اللهعزوجل التي وهبها لعباده.

* * *

٥٥

الآيات

( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) )

التّفسير

دور الرّياح والأمطار :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسما من أسرار الخليقة والنعم الإلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات ، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح ومالها من آثار في عملية نزول المطر ، فيقول :( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) .

«لواقح» جمع «لاقح» وهي تشير هنا إلى دور الرياح في تجميع قطع الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.

وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن الآية تشير إلى عملية تلقيح

٥٦

النباتات بواسطة الرياح ، وبها يستدلون على الإعجاز العلمي للقرآن ، على اعتبار أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إليه عصرنا من العلوم الحديثة ، وأنّ إخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على إعجازه العلمي.

مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها ، إلّا أنّنا لا نرى ما يشير لما ذهب إليه علماء اليوم لسببين :

الأوّل : وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.

ثانيا : وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).

ممّا يبيّن بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.

ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم ، حيث شبّه قطع الحساب بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأثر الرياح ، فتحمل الأمهات ، ثمّ تلقي بما حملت (قطرات المطر) إلى الأرض.

ويمكن حمل( ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) على أنّها إشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله ، أي إنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إشارة إلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها ، أي إنّكم لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله ، وأنّ اللهعزوجل هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج ، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيونا وآبارا.

ثمّ ينتقل من مظاهر توحيد الله إلى المعاد ومقدماته :( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ) ، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم المقدمات لبحث موضوع المعاد ، إضافة لكون هذه المسألة من مكملات موضوع التوحيد ، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل نظاما مترابطا في عالم

٥٧

الوجود لا يمكن تصور تشكيله إلّا بوجود علم وقدرة مطلقين ، بالإضافة إلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها ، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو الله تعالى.

ثمّ يضيف :( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

أي ، نحن على علم بهم وبما يعملون ، وإن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا ، نرى الآية التي تليها :( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) مرتبطة تماما مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثا ، وهذا غير معقول ، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق» ، وبتعبير آخر. مقدمة الحياة أبدية خالدة. وأمّا كونه سبحانه عليما فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة ، وكذلك في اعماق وجود الإنسان من جهة أخرى ، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

* * *

بحث

من هم المستقدمون والمستأخرون؟

ذكر المفسّرون في تفسير( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا

٥٨

الْمُسْتَأْخِرِينَ ) احتمالات كثيرة ، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات ، والقرطبي ثمانية احتمالات ، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات ، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد ، لأن كلمة «المستقدمين» و «المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان ، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها. وإذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الاحتمالات الواردة في «تقدم» و «تأخر» المذكورتين في الآية في تفسير واحد.

وفيما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحث على الاشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال : «إنّ الله وملائكته يصلون على الصف المتقدم»

فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا : «لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم» ، فنزلت هذه الآية.

(وأفهمتهم على أنّ الله تعالى عليم بنيّاتكم ، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).

فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبدا سببا لحصر مفهومها الواسع.

* * *

٥٩

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496