الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237425 / تحميل: 7580
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

والياً على الكوفة سبع سنين وهو لا يدع ذم علي والوقوع فيه(1) . وقد أراد معاوية بذلك أن يصرف القلوب عن الإمام (عليه السلام) وأن يحول بين الناس وبين مبادئه التي أصبحت تطارده في قصوره.

يقول الدكتور محمود صبحي : لقد أصبح علي جثة هامدة لا يزاحمهم في سلطانهم ، ويخيفهم بشخصه ، ولا يعني ذلك ـ أي سبّ الإمام ـ إلا أنّ مبادئه في الحكم وآراءه في السياسة كانت تنغّص عليهم في موتهم كما كانت في حياته(2) .

لقد كان الإمام رائد العدالة الإنسانية والمثل الأعلى لهذا الدين ، يقول الجاحظ : لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكر النخوة والذب عن الإسلام ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، ومتى ذكر الزهد في الأمور التي تناصر الناس عليها كان مذكوراً في هذه الخلال كلها إلا في علي(3) .

ويقول الحسن البصري : والله ، لقد فارقكم بالأمس رجل كان سهماً صائباً من مرامي الله عز وجل ، رباني هذه الأمة بعد نبيها (صلى الله عليه وآله) وصاحب شرفها وفضلها وذا القرابة القريبة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مسؤم لأمر الله ، ولا سروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه فأورده رياضاً مونقة ، وحدائق مغدقة ذلك علي بن أبي طالب(4) .

لقد عادت اللعنات التي كان يصبها معاوية وولاته على الإمام بإظهار فضائله ؛ فقد برز الإمام للناس أروع صفحة في تأريخ الإنسانية كلها ، وظهر للمجتمع أنّه المنادي الأول بحقوق الإنسان ، والمؤسس الأول للعدالة الاجتماعية

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 141 طبع أوربا.

(2) نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية / 282.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 145.

(4) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 69.

١٦١

في الأرض. لقد انطوت السنون والأحقاب واندكت معالم تلك الدول التي ناوئت الإمام ، سواء أكانت من بني أمية أم من بني العباس ، ولم يبقَ لها أثر ، وبقي الإمام (عليه السلام) وحده قد احتل قمّة المجد فها هو رائد الإنسانية الأول وقائدها الأعلى وإذا بحكمه القصير الأمد يصبح طغراءً في حكام هذا الشرق ، وإذا الوثائق الرسمية التي أثرت عنه تصبح مناراً لكل حكم صالح يستهدف تحقيق القضايا المصيرية للشعوب ، وإذا بحكم معاوية أصبح رمزاً للخيانة والعمالة ورمزاً لاضطهاد الشعوب واحتقارها.

ستر فضائل أهل البيت :

وحاول معاوية بجميع طاقاته حجب فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وستر مآثرهم عن المسلمين ، وعدم إذاعة ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضلهم.

يقول المؤرخون : إنّه بعد عام الصلح حج بيت الله الحرام فاجتاز على جماعة فقاموا إليه تكريماً ولم يقم إليه ابن عباس ، فبادره معاوية قائلاً : يابن عباس ما منعك من القيام؟ كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي إياكم يوم صفين! يابن عباس ، إنّ ابن عمي عثمان قتل مظلوماً!

فردّ عليه ابن عباس ببليغ منطقه قائلاً : فعمر بن الخطاب قد قُتل مظلوماً ، فسلم الأمر إلى ولده ، وهذا ابنه ـ وأشار إلى عبد الله بن عمر ـ.

أجابه معاوية بمنطقه الرخيص :

إنّ عمر قتله مشرك.

فانبرى ابن عباس قائلاً :

فمَنْ قتل عثمان؟

١٦٢

ـ قتله المسلمون.

وأمسك ابن عباس بزمامه فقال له : فذلك أدحض لحجتك إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلاّ بحق.

ولم يجد معاوية مجالاً للردّ عليه ، فسلك حديثاً آخر أهم عنده من دم عثمان فقال له : إنّا كتبنا إلى الآفاق ننهي عن ذكر مناقب علي وأهل بيته فكف لسانك يابن عباس.

فانبرى ابن عباس بفيض من منطقه وبليغ حجته يسدد سهاماً لمعاوية قائلاً : فتنهانا عن قراءة القرآن؟

ـ لا.

ـ فتنهانا عن تأويله؟

ـ نعم.

ـ فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟

ـ نعم.

ـ فأيهما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

ـ العمل به.

ـ فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

ـ سل عن ذلك ممن يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

ـ إنما نزل القرآن على أهل بيتي ، فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط؟!

ـ فاقرؤوا القرآن ، ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم ، ومما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم ، وارووا ما سوى ذلك.

١٦٣

وسخر منه ابن عباس ، وتلا قوله تعالى :( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

وصاح به معاوية : اكفني نفسك وكفّ عنّي لسانك ، وإن كنت فاعلاً فليكن سرّاً ولا تسمعه أحداً علانية(1) .

ودلّت هذه المحاورة على عمق الوسائل التي اتّخذها معاوية في مناهضته لأهل البيت وإخفاء مآثرهم.

وبلغ الحق بمعاوية على الإمام أنّه لما ظهر عمرو بن العاص بمصر على محمد بن أبي بكر وقتله ، استولى على كتبه ومذكراته وكان من بينها عهد الإمام له ، وهو من أروع الوثائق السياسية فرفعه ابن العاص إلى معاوية فلما رآه قال لخاصته : إنّا لا نقول هذا من كتب علي بن أبي طالب ولكن نقول هذا من كتب أبي بكر التي كانت عنده(2) .

التحرج من ذكر الإمام :

وأسرف الحكم الأموي إلى حد بعيد في محاربة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد عهد بقتل كل مولود يسمى علياً ، فبلغ ذلك علي بن رباح فخاف ، وقال : لا أجعل في حل من سماني علياً فإن اسمي علي ـ بضم العين ـ(3) .

ويقول المؤرخون : إنّ العلماء والمحدثين تحرجوا من ذكر الإمام علي والرواية عنه خوفاً من بني أمية فكانوا إذا أرادوا أن يرووا عنه يقولون :

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 343.

(2) شرح النهج 2 / 28.

(3) تهذيب التهذيب 7 / 319.

١٦٤

روى أبو زينب(1) ، وروى معمر عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «إنّ الله عز وجل منع بني إسرائيل قطر السماء لسوء رأيهم في أنبيائهم ، واختلافهم في دينهم ، وإنّه أخذ على هذه الأمّة بالسنين ، ومنعهم قطر السماء ببغضهم علي بن أبي طالب».

قال معمر : حدثني الزهري في مرضة مرضها ، ولم اسمعه يحدث عن عكرمة قبلها ولا بعدها فلما أبل من مرضه ندم على حديثه لي وقال : يا يماني اكتم هذا الحديث ، واطوه دوني فإن هؤلاء ـ يعني بني أميّة ـ لا يعذرون أحداً في تقريض علي وذكره.

قال معمر : فما بالك عبت علياً مع القوم وقد سمعت الذي سمعت؟!

قال الزهري : حسبك يا هذا إنّهم أشركونا مهامهم فاتبعناهم في أهوائهم(2) .

وقد امتحن المسلمون امتحاناً عسيراً في مودتهم للإمام وتحرجوا أشدّ التحرّج في ذلك ، يقول الشعبي : ماذا لقينا من علي إن أحببناه ذهبت دنيانا وإن بغضناه ذهب ديننا.

ويقول الشاعر :

حبّ علي كله ضرب بر

جفّ من تذكاره القلب

هذه بعض المحن التي عاناها المسلمون في مودتهم لأهل البيت (عليهم السلام) التي هي جزء من دينهم.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 14.

(2) مناقب ابن المغازلي / رقم الحديث 149.

١٦٥

مع الشيعة :

واضطهدت الشيعة أيام معاوية اضطهاداً رسمياً في جميع أنحاء البلاد ، وقوبلوا بمزيد من العنف والشدّة ، فقد انتقم منهم معاوية كأشدّ ما يكون الانتقام قسوة وعذاباً ، فقد قاد مركبة حكومته على جثث الضحايا منهم ، وقد حكى الإمام الباقر (عليه السلام) صوراً مريعة من بطش الأمويين بشيعة آل البيت (عليهم السلام) يقول : «وقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره»(1) .

وتحدّث بعض رجال الشيعة إلى محمد بن الحنفية عمّا عانوه من المحن والخطوب بقوله : فما زال بنا الشين في حبكم حتى ضُربت عليه الأعناق ، وأبطلت الشهادات ، وشردنا في البلاد ، وأوذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض قفراً ، فأعبد الله حتى ألقاه ، لولا أن يخفى عليّ أمر آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحتى هممت أن أخرج مع أقوام(2) شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون(3) .

لقد كان معاوية لا يتهيب من الإقدام على اقتراف أية جرية من أجل أن يضمن ملكه وسلطانه ، وقد كانت الشيعة تشكّل خطراً على حكومته فاستعمل معهم أعنف الوسائل وأشدها قسوة من أجل القضاء عليهم ، ومن بين الإجراءات القاسية التي استعملها ضدهم ما يلي :

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 / 15.

(2) الأقوام : هم الخوارج.

(3) طبقات ابن سعد 5 / 95.

١٦٦

القتل الجماعي

وأسرف معاوية إلى حد كبير في سفك دماء الشيعة ، فقد عهد إلى الجلادين من قادة جيشه بتتبع الشيعة وقتلهم حيثما كانوا ، وقد قتل بسر بن أبي أرطأة بعد التحكيم ثلاثين ألفاً عدا مَنْ أحرقهم بالنار(1) ، وقتل سمرة بن جندب ثمانية آلاف من أهل البصرة(2) ، وأمّا زياد بن أبيه فقد ارتكب أفظع المجازر فقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون ، وأنزل بالشيعة من صنوف العذاب ما لا يوصف لمرارته وقسوته.

إبادة القوى الواعية :

وعمد معاوية إلى إبادة القوى المفكرة والواعية من الشيعة ، وقد ساق زمراً منهم إلى ساحات الإعدام ، وأسكن الثكل والحداد في بيوتهم ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ حجر بن عدي :

لقد رفع حجر بن عدي علم النضال ، وكافح عن حقوق المظلومين والمضطهدين ، وسحق إرادة الحاكمين من بني أميّة الذين تلاعبوا في مقدرات الأمّة وحولوها إلى مزرعة جماعية لهم ولعملائهم وأتباعهم.

لقد استهان حجر من الموت وسخر من الحياة ، واستلذّ الشهادة في سبيل عقيدته ، فكان أحد المؤسسين لمذهب أهل البيت (عليه السلام).

__________________

(1) شرح النهج 2 / 6.

(2) الطبري 6 / 32.

١٦٧

وامتحن حجر كأشدّ ما تكون المحنة قسوة حينما رأى السلطة تعلن سب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وترغم الناس على البراءة منه فأنكر ذلك ، وجاهر بالردّ على ولاة الكوفة ، واستحلّ زياد بن أبيه دمه فألقى عليه القبض ، وبعثه مخفوراً مع كوكبة من إخوانه إلى معاوية ، وأوقفوا في (مرج عذراء) فصدرت الأوامر من دمشق بإعدامهم ، ونفذ الجلادون فيهم حكم الإعدام فخرت جثثهم على الأرض وهي ملفعة بدم الشهادة والكرامة وهي تضيء للناس معالم الطريق نحو حياة أفضل لا ظلم فيها ، ولا طغيان.

مذكرة الإمام الحسين

وفزع الإمام الحسين حينما وافته الأنباء بمقتل حجر فرفع مذكرة شديدة اللهجة إلى معاوية ذكر فيها أحداثه وبدعه ، والتي كان منها قتله لحجر والبررة من أصحابه ، وقد جاء فيها : «ألست القاتل حجراً أخا كندة والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم. قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كانت أعطيتهم الأيمان المغلّظة ، والمواثيق المؤكّدة أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم؟!»(1)

واحتوت هذه المذكّرة على ما يلي :

1 ـ الإنكار الشديد على معاوية لقتله حجراً وأصحابه من دون أن يقترفوا أو يحدثوا فساداً في الأرض.

2 ـ إنها أشادت بالصفات البطولية في هؤلاء الشهداء من إنكار الظلم ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن 2 / 365.

١٦٨

ومقاومة الجور ، واستعظام البدع والمنكرات التي أحدثتها حكومة معاوية ، وقد هبّوا إلى ميادين الجهاد ، لإقامة الحقّ ، ومناهضة المنكر.

3 ـ إنّها أثبتت أنّ معاوية قد أعطى حِجْرَاً وأصحابه عهداً خاصاً في وثيقة وقّعها قبل إبرام الصلح أنْ لا يعرض لهم بأي إحنة كانت بينه وبينهم ، ولا يصيبهم بأي مكروه ، ولكنّه قد خاس بذلك فلمْ يفِ به ، كما لمْ يفِ للإمام الحسن بالشروط التي أعطاها له ، وإنّما جعلها تحت قدميه ، كما أعلن ذلك في خطابه الذي ألقاه في النُّخيلة.

لقد كان قتلُ حِجْر مِن الأحداث الجسام في الإسلام ، وقد توالت صيحات الإنكار على معاوية مِن جميع الأقاليم الإسلامية ، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

2 ـ رشيد الهجري :

وفي فترات المحنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الشيعة في عهد ابن سُميّة تعرّض رشيد الهجري لأنواع المِحن والبلوى ، فقد بعث زياد شرطته إليه ، فلمّا مَثُلَ عنده صاح به (ما قال لك خليلك ـ يعني علياً ـ أنّا فاعلون بك؟).

فأجابه بصدق وإيمان : (تقطعون يدي ورجلي ، وتصلبوني) ، وقال الخبيث مستهزءاً وساخراً :

(أما والله لأكذبنَّ حديثه ، خلّوا سبييله). وخلّت الجلاوزة سراحه ، وندم الطاغية فأمر بإحضاره فصاح به :

(لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال صاحبك : إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إنْ بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه).

وبادر الجلادون فقطعوا يديه ورجليه ، وهو غير حافل بما يعانيه مِن الآلام.

ويقول المؤرخون : إنّه أخذ يذكر مثالب بني أُميّة ، ويدعو إلى إيقاظ الوعي والثورة ، ممّا غاظ ذلك زياداً فأمر بقطع

١٦٩

لسانه(1) الذي كان يطالب بالحقّ والعدل ، وينافح عن حقوق الفقراء والمحرومين.

3 ـ عمرو بن الحمق الخزاعي :

ومِن شهداء العقيدة : الصحابي العظيم عمرو بن الحمق الخزاعي الذي دعا له النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنْ يمتّعه الله بشبابه ، واستجاب الله دعاء نبيه ، فقد أخذ عمرو بن حمق الثمّانين عاماً ولمْ ترَ في كريمته شعرة بيضاء(2) ، وتأثر عمرو بهدي أهل البيت ، وأخذ مِن علومهم ، فكان مِن أعلام شيعتهم.

وفي أعقاب الفتنة الكبرى التي مُنِيَتْ بها الكوفة في عهد الطاغية زياد بن سُميّة شعر عمرو بتتبع السلطة له ، ففرّ مع زميله رفاعة بن شدّاد إلى الموصل ، وقبل أنْ ينتهيا إليه كمنا في جبل ليستجما فيه ، وارتابت الشرطة فبادرت إلى إلقاء القبض على عمرو.

أمّا رفاعة ، ففرّ ولمْ تستطع أنْ تُلقي عليه القبض ، وجيئ بعمرو مخفوراً إلى حاكم الموصل عبد الرحمن الثقفي ، فرفع أمره إلى معاوية ، فأمره بطعنه تسع طعنات بمشاقص(3) ، لأنّه طعن عثمّان بن عفان ، وبادرت الجلاوزة إلى طعنه فمات في الطعنة الأولى ، واحتُزّ رأسه الشريف ، وأُرسل إلى طاغية دمشق ، فأمر أنْ يُطاف به في الشام.

ويقول المؤرخون : إنّه أوّل رأس طيف به في الإسلام ، ثمّ أمر به معاوية أنْ يُحمل إلى زوجته السيّدة آمنة بنت شريد ، وكانت في سجنه ، فلمْ تشعر إلاّ ورأس زوجها قد وضع في حجرها ، فذعرت وكادت أنْ تموت ، وحُمِلَتْ مِن السجن إلى معاوية ، وجرت بينها وبينه محادثات دلّت على ضِعة معاوية ، واستهانته بالقيم العربية والإسلامية ، القاضية بمعاملة المرأة معاملةً كريمةً ، ولا تؤخذ بأي ذنب يقترفه زوجها أو غيره.

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522.

(2) الإصابة 2 / 526.

(3) المشاقص : ـ جمع مفردة مشقص ـ النصل العريض أو سهم فيه نصل عريض.

١٧٠

مذكّرة الإمام الحُسين :

والتاع الإمام الحًسين (عليه السّلام) أشدّ ما تكون اللوعة حينما علم بقتل عمرو ، فرفع مذكرةً إلى معاوية عدّد فيها أحداثه ، وما تعانيه الأُمّة في عهده من الاضطهاد والجور ، وجاء فيما يخص عمرو :

«أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق ، صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح ، الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، واصفرّ لونه ، بعدما أمِنته ، وأعطيته مِن عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك مِن رأس الجبل ، ثمّ قتلته جراءة على ربّك ، واستخفافاً بذلك العهد»(1) .

لقد خاس معاوية بما أعطاه لهذا الصحابي الجليل ـ بعد الصلح ـ مِن العهد والمواثيق بأنْ لا يعرض له بسوء ولا مكروه.

4 ـ أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن مِن خيار الشيعة ـ في الكوفة ـ وأحد أعلامهم النابهين ، وهو مِن أشدّ الناقمين على معاوية ، فكان يذيع مساوءه وأحداثه.

ولمّا علم به ابن سُميّة أوعز إلى الشرطة بإلقاء القبض عليه ، ولمّا علم أوفى بذلك اختفى ، وفي ذات يوم استعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى ، فشك في أمره ، فسأل عنه فأُخبر باسمه ، فأمر بإحضاره ، فلمّا مَثُل عنده سأله عن سياسته فعابها وأنكرها ، فأمر زياد بقتله ، فهوى الجلادون عليه بسيوفهم وتركوه جثة هامدة(2) .

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 180 ، الطبري 6 / 130 ـ 132.

١٧١

5 ـ الحضرمي مع جماعته :

وكان عبد الله الحضرمي مِن أولياء الإمام أمير المؤمنين ، ومِن خلّص شيعته ، كما كان مِن شرطة الخميس ، وقد قال له الإمام يوم الجمل :

«أبشر يا عبد الله ، فإنّك وأباك مِن شرطة الخميس ، لقد أخبرني رسول الله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس ، ولمّا قُتِلَ الإمام جزع عليه الحضرمي ، وبنى له صومعة يتعبّد فيها ، وانضمّ إليه جماعة مِن خيار الشيعة ، فأمر ابن سُميّة بإحضارهم ، ولمّا مَثُلوا عنده أمر بقتلهم ، فقتلوا صبراً(1) .

لقد كانت فاجعة عبد الله كفاجعة حِجْر بن عدي ، فكلاهما قُتِلَ صبراً ، وكلاهما أُخِذَ بغير ذنب ، سوى الولاء لعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

إنكار الإمام الحُسين :

وفزع الإمام الحُسين كأشدّ ما يكون الفزع ألماً ومحنةً على مقتل الحضرمي وجماعته الأخيار ، فأنكر على معاوية في مذكرته التي بعثها له ، وقد جاء فيها.

«أوَ لستَ قاتل الحضرمي ، الذي كتب فيه إليك زياد أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتلْ كلّ مَنْ كان على دين علي ، فقتلهم ومثّل فيهم بأمرك ، ودين علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف».

ودلّت هذه المذكّرة ـ بوضوح ـ على أنّ معاوية قد عهد إلى زياد بقتل كلّ مَنْ كان على دين علي (عليه السّلام) ، الذي هو دين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، كما دلّت على أنّ زياداً قد مثّل بهؤلاء البررة بعد قتلهم ، تشفياً منهم لولائهم لعترة

__________________

(1) بحار الانوار 10 / 101.

١٧٢

رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

6 ـ جويرية العبدي :

ومِنْ عيون شيعة الإمام جويرية بن مسهر العبدي ، وفي فترات المحنة الكبرى التي امتحنت بها الشيعة أيّام ابن سُميّة ، بعث خلفه فأمر بقطع يده ورجله ، وصلبه على جذع قصير(1) .

7 ـ صيفي بن فسيل :

ومِنْ أبطال العقيدة الإسلامية صيفي بن فسيل ، الذي ضرب أروع الأمثلة للإيمان ، فقد سُعيَ به إلى الطاغية زياد ، فلمّا جيء به إليه صاح به :

ـ يا عدو الله ما تقول في أبي تراب؟

ـ ما أعرف أبا تراب(2)

ـ ما أعرفك به؟

ـ أما تعرف علي بن أبي طالب؟

ـ بلى

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ذاك أبو الحسن والحسين.

وانبرى مدير شرطة زياد منكراً عليه :

ـ يقول لك الأمير : هو أبو تراب ، وتقول : أنت ل :! ، فصاح به البطل العظيم مستهزءاً منه ، ومِن أميره.

ـ وإنْ كذب الأمير أتريد أنْ أكذب؟ وأشهد على باطل ، كما شهد

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) كان الأمويون يرمزون بهذه الكتبية إلى جعل الإمام كقاطع طريق ، جاء ذلك في التاريخ السياسي للدولة العربية 2 / 75 ، وجاء في الأغاني 13 / 168 أنّ زياداً كان يحتقر الشيعة ويسميهم الترابية.

١٧٣

وتحطم كبرياء الطاغية ، فضاقت به الأرض ، وقال له :

ـ وهذا أيضاً مع ذنبك ، وصاح بشرطته عليّ بالعص ، فأتوه به ، فقال له :

ـ ما قولك؟ ، وانبرى البطل بكلّ بسالة وإقدام غير حافل به قائلاً :

ـ أحسن قول أنا قائله في عبد مِنْ عباد الله المؤمنين ...

وأوعز السفّاك إلى جلاديه بضرب عاتقه حتّى يلتصق بالأرض ، فسعوا إليه بهراواتهم فضربوه ضرباً مبرحاً حتّى وصل عاتقه إلى الأرض ، ثمّ أمرهم بالكفّ عنه ، وقال له :

ـ إيه ما قولك في علي؟

وحسب الطاغية أنّ وسائل تعذيبه سوف تقلبه عن عقيدته ، فقال له :

والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ، ما قلت إلاّ ما سمعت منّي

وفقد السفّاك إهابه ، فصاح به ، لتلعنه أو لأضربن عنقك ...

وهتف صيفي يقول :

ـ إذاً تضربها والله قبل ذلك ، فإنْ أبيت إلاّ أنْ تضربها رضيت بالله وشقيت أنت ...

وأمر به أنْ يوقرَ في الحديد ، ويلقى في ظلمات السجون(1) ، ثمّ بعثه مع حِجْر بن عدي فاستشهد معه(2) .

8 ـ عبد الرحمن :

وكان عبد الرحمن العنزي مِن خيار الشيعة ، وقد وقع في قبضة جلاوزة

__________________

(1) الطبري 4 / 198.

(2) حياة الإمام الحسن 2 / 362.

١٧٤

زياد ، فطلب منهم مواجهة معاوية ، لعلّه أنْ يعفو عنه ، فاستجابوا له وأرسلوه مخفوراً إلى دمشق ، فلمّا مَثُلَ عند الطاغية قال له :

(إيهٍ أخا ربيعة ، ما تقول في علي؟)

(دعني ولا تسألني فهو خير لك).

(والله لا أدعك).

فانبرى البطل الفذ يُدلي بفضائل الإمام ، ويشيد بمقامه قائلاً : (أشهد أنّه كان مِن الذاكرين الله كثيراً ، والآمرين بالحقّ ، والقائمين بالقسط ، والعافين عن الناس).

والتاع معاوية فعرّج نحو عثمّان ، لعلّه أنْ ينال منه فيستحلّ إراقة دمه ، فقال له : (ما قولك في عثمّان؟)

فأجابه عن انطباعاته عن عثمّان ، فغاظ ذلك معاوية وصاح به :

(قتلت نفسك) ، بل إيّاك قتلت ، ولا ربيعة بالوادي.

وظنّ عبد الرحمن أنّ أُسرته ستقوم بحمايته وإنقاذه ، فلمْ ينبرِ إليه أحدٌ ، ولمّا أمِنَ منهم معاوية بعثه إلى الطاغية زياد ، وأمره بقتله ، فبعثه زياد إلى (قس الناطف)(1) فدفنه وهو حي(2) .

لقد رفع هذا البطل العظيم راية الحقّ ، وحمل معول الهدم على قلاع الظلم والجور ، واستشهد منافحاً عن أقدس قضية في الإسلام.

هؤلاء بعض الشهداء مِن أعلام الشيعة ، الذين حملوا مشعل الحرية ، وأضاءوا الطريق لغيرهم مِن الثوار الذين أسقطوا هيبة الحكم الأموي ، وعملوا على إنقاضه.

__________________

(1) قس الناطف : موضع قريب مِن الكوفة.

(2) الطبري 6 / 155.

١٧٥

المروّعون مِن أعلام الشيعة :

وروّع معاوية طائفة كبيرة مِن الشخصيات البارزة مِن رؤساء الشيعة ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ عبد الله بن هاشم المرقال.

2 ـ عَدِي بن حاتم الطائي.

3 ـ صعصعة بن صوحان.

4 ـ عبد الله بن خليفة الطائي.

وقد أرهق معاوية هؤلاء الأعلام إرهاقاً شديداً ، فطاردتهم شرطته ، وأفزعتهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، وقد ذكرنا ماعانوه مِن الخطوب في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

ترويع النّساء :

ولمْ يقتصر معاوية في تنكيله على السّادة مِنْ رجال الشيعة ، وإنّما تجاوز ظلمه إلى السّيدات مِنْ نسائهم ، فأشاع فيهم الذعر والإرهاب ، فكتب إلى بعض عمّاله بحمل بعضهنّ إليه ، فحُمِلَتْ له هذه السّيدات :

1 ـ الزرقاء بنت عَدِي.

2 ـ أُمّ الخير البارقية.

3 ـ سودة بنت عمارة.

4 ـ أُمّ البرّاء بنت صفوان.

١٧٦

5 ـ بكارة الهلالية.

6 ـ أروى بنت الحارث.

7 ـ عكرش بنت الأطرش.

8 ـ الدارمية الحجونية.

وقد قابلهن معاوية بمزيد مِن التوهين والاستخفاف ، وأظهر لهنّ الجبروت والقدرة على الانتقام ، غير حافلٍ بوهن المرأة وضعفها ، وقد ذكرنا ما جرى عليهن في مجلسه مِن التحقير في كتابنا (حياة الإمام الحسن)

هدم دور الشيعة :

وأوعز معاوية إلى جميع عمّاله بهدم دور الشيعة ، فقاموا بنقضها(1) .

وتركوا شيعة آل البيت (عليه السّلام) بلا مأوى يأوون إليه ، ولمْ يكن هناك أي مُبرر لهذه الإجراءات القاسية ، سوى تحويل الناس عن عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

حرمان الشيعة مِن العطاء :

ومِن المآسي الكئيبة التي عانتها الشيعة في أيّام معاوية أنّه كتب إلى جميع عمّاله نسخةً واحدةً جاء فيها : (انظروا إلى مَنْ قامت عليه البيّنة أنّه يُحبّ علياً وأهل بيته فامحوه مِن الديوان ، واسقطوا عطاءه ورزقه)(2) ، وبادر عمّاله في الفحص في سجلاتهم ، فمَنْ وجدوه محبّاً لآل البيت (عليه السّلام) محوا اسمه ، وأسقطوا عطاءه.

__________________

(1) شرح النهج 11 / 44.

(2) شرح النهج 11 / 44.

١٧٧

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمد معاوية إلى إسقاط الشيعة اجتماعياً ، فعهد إلى جميع عمّاله بعدم قبول شهادتهم في القضاء وغيره(1) مبالغة في إذلالهم وتحقيرهم.

إبعاد الشيعة إلى الخراسان :

وأراد زياد بن أبيه تصفية الشيعة مِن الكوفة ، وكسر شوكتهم فأجلى خمسين ألفاً منهم إلى خراسان ـ المقاطعة الشرقية في فارس(2) ـ ، وقد دقّ زياد بذلك أوّل مسمار في نعش الحكم الأموي ، فقد أخذت تلك الجماهير التي أُبعدت إلى فارس تعمل على نشر التشيع في تلك البلاد ، حتى تحوّلت إلى مركز للمعارضة ضد الحكم الأموي ، وهي التي أطاحت به تحت قيادة أبي مسلم الخراساني.

هذا بعض ما عانته الشيعة في عهد معاوية مِنْ صنوف التعذيب والإرهاب ، وكان ما جرى عليهم مِن المآسي الأليمة مِن أهم الأسباب في ثورة الإمام الحسين ، فقد رفع علم الثورة لينقذهم مِن المحنة الكبرى التي امتحنوا بها ، ويُعيد لهم الأمن والاستقرار.

البيعة ليزيد :

وختم معاوية حياته بأكبر إثم في الإسلام ، وأفظع جريمة في التاريخ ،

__________________

(1) حياة الإمام الحسن.

(2) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 / 147.

١٧٨

فقد أقدم غير متحرّج على فرض خليعه يزيد خليفة على المسلمين يعيث في دينهم ودنياهم ، ويخلد لهم الويلات والخطوب ، وقد استخدم معاوية شتى الوسائل المنحطّة في جعل المُلْك وراثة في أبنائه. ويرى الجاحظ أنّه تشبّه بملوك الفرس البزنطيين فحوّل الخلافة إلى مُلْكٍ كسروي وعصبٍ قيصري. وقبل أنْ نعرض إلى تلك البيعة المشومة ، وما رافقها مِن الأحداث ، نذكر عرضاً موجزاً لسيرة يزيد ، وما يتّصف به مِن القابليات الشخصية التي عجّت بذمها كتب التاريخ مِنْ يومه حتّى يوم الناس هذا ، وفيما يلي ذلك :

ولادة يزيد :

ولد يزيد سنة (25) أو (26 هـ)(1) ، وقد دهمت الأرض شعلة مِنْ نار جهنم وزفيرها ، تحوط به دائرةُ السَوءِ وغضبٌ مِن الله ، وهو أخبث إنسان وجِدَ في الأرض ، فقد خُلِقَ للجريمة والإساءة إلى الناس وأصبح علماً للانحطاط الخُلُقي والظلم الاجتماعي ، وعنواناً بغيضاً للاعتداء على الأُمّة وقهرَ إرادتها في جميع العصور.

يقول الشيخ محمّد جواد مغنية : أمّا كلمة يزيد فقد كانت مِنْ قبل اسماً لابن معاوية ، أمّا هي الآن عند الشيعة فإنّها رمز للفساد والاستبداد والتهتّك والخلاعة ، وعنوان للزندقة والإلحاد ، فحيث يكون الشرّ والفساد فثمَّ اسم يزيد ، وحيثما يكون الخير والحقّ والعدل فثمَّ اسم الحُسين(2) .

وقد أثر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه نظر إلى معاوية يتبختر في بردة حبرة وينظر إلى عطفَيه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «أي يوم لأُمّتي منك ، وأي يوم سُوء

__________________

(1) تاريخ القضاعي من مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم العامّة.

(2) الشيعة في الميزان / 455.

١٧٩

لذريتي منّك ، مِن جرو يخرج مِن صُلبك ، يتّخذ آيات الله هُزُوا ويستحلّ مِن حرمتي ما حرم الله عز وجل»(1) .

نشأته :

نشأ يزيد عند أخواله في البادية مِن بني كلاب الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الإسلام ، وكان مُرسَل العِنان مع شبابهم الماجنين فتأثر بسلوكهم إلى حدٍّ بعيدٍ ، فكان يشرب معهم الخمر ويلعب معهم بالكلاب.

يقول العائلي : إذا كان يقيناً أو يشبه اليقين أنّ تربية يزيد لمْ تكن إسلامية خالصة ، أو بعبارة أخرى : كانت مسيحية خالصة ، فلمْ يبقَ ما يستغرب معه أنْ يكون متجاوزاً مستهتراً مستخفّاً بما عليه الجماعة الإسلامية ، لا يحسب لتقاليدها واعتقاداتها أي حساب ولا يقيم لها وزناً ، بل الذي نستغرب أنْ يكون على غير ذلك(2) .

والذي نراه أنّ نشأته كانت نشأة جاهلية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، ولا تحمل أي طابعٍ مِن الدين مهما كان ؛ فإنّ استهتاره في الفحشاء وإمعانه في المنكر والإثم ممّا يوحي إلى الاعتقاد بذلك.

صفاته :

أمّا صفاته الجسمية : فقد كان شديد الأدمة بوجهه آثار الجدري(3)

__________________

(1) المناقب والمثالب ـ للقاضي نعمان المصري / 71.

(2) سمو المعنى في سمو الذات / 59.

(3) تاريخ القضاعي.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الآية

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) )

التّفسير

معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الآية الأولى في سورة الإسراء تتحدّث عن إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف).

وقد كان هذا السفر «الإسراء» مقدمة لمعراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء. وقد لو حظ في هذا السفر أنّه تمّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمرا اعجازيا وخارقا للعادة.

السّورة المباركة تبدأ بالقول :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) .

ثمّ ختمت الآية بالقول :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) . وهذه إشارة إلى أنّ الله

٣٨١

تبارك وتعالى لم يختر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج إلا بعد أن اختبر استعدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام ، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له في الإسراء والمعراج.

واحتمل بعض المفسّرين في قوله تعالى :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أن يكون تهديدا لمنكري هذا الإعجاز ، وأنّ الله تبارك وتعالى محيط بما يقولون وبما يفعلون ، وبما يمكرون!

وبالرغم من أنّ هذه الآية تنطوي على اختصار شديد ، إلّا أنّها تكشف عن مواصفات هذا السفر الليلي «الإسراء» الإعجازي من خلال ما ترسمه له من أفق عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي :

أوّلا : إنّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلا ، لأنّ «الإسراء» في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي ، فيما يطلق على السفر النهاري كلمة «سير».

ثانيا : بالرغم من أنّ كلمة «ليلا» جاءت في الآية تأكيدا لكلمة «أسرى» إلّا أنّها تريد أن تبيّن أن سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تمّ في ليلة واحدة فقط على الرغم من أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدّر بأكثر من مائة فرسخ ، وبشروط مواصلات ذلك الزمان ، كان إنجاز هذا السفر يتطلب أيّاما بل وأسابيع ، لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!

ثالثا : إذا كان مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإنسان في حياته ، فإنّ الآية قد كرّمت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإطلاق وصف العبودية عليه ، فقالت «عبده» للدلالة على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله تبارك وتعالى حتى استحق شرف «الإسراء» حيث لم يسجد جبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشيء سوى الله ، ولم يطعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عداه ، وقد بذل كل وسعه ، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته

٣٨٢

تعالى.

رابعا : تفيد كلمة «عبد» في الآية ، أنّ سفر الإسراء قد وقع في اليقظة ، وأنّ رسول الله سافر بجسمه وروحه معا ، وأنّ الإسراء لم يكن سفرا روحانيا معنويا وحسب ، لأنّ الإسراء إذا كان بالروح ـ وحسب ـ فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في المنام ، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة ، ولكن كلمة «عبد» في الآية تدلّل على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سافر بجسمه وروحه ، لأنّ «عبد» معنى يطلق على الروح والجسد معا.

أمّا الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإسراء والمعراج ، ولم تستطع عقولهم أن تتعامل مع هذه المعجزة كما هي ، فقد عمدوا إلى توجيهها بعنوان الإسراء الروحي في حين أنّه لو قال شخص لآخر : إني نقلتك إلى المكان الفلاني فإنّ المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أنّ هذا الأمر قد تمّ في حالة النوم ، أو أنّه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد من الوهم والتخيّل.

خامسا : لقد كان مبتدأ هذا السفر (الذي كان مقدمة للمعراج كما سنثبت ذلك في محلّه) هو المسجد الحرام في مكّة المكرمة ، ومنتهاه المسجد الأقصى في القدس الشريف.

بالطبع هناك كلام كثير للمفسّرين عن المكان الدقيق الذي انطلق منه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيما إذا كان هذا المكان بيت أحد أقربائه (باعتبار أنّ المسجد الحرام قد يطلق أحيانا ومن باب التعظيم على مكّة المكرمة بأجمعها) أو أنّه انطلق من جوار الكعبة ، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أنّ المنطلق في سفر الإسراء كان من المسجد الحرام.

سادسا : لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن يشاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات العظمة الإلهية ، وقد استمرّ سفر الإسراء إلى المعراج صعودا في السماوات لتحقيق هذا الغرض ، وهو أن تمتلئ روح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر بدلائل العظمة

٣٨٣

الرّبانية ، وآيات الله في السماوات ، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخما إضافيا يوظّفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هداية الناس إلى ربّ السماوات والأرض!

وبذلك فإنّ سفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحلة الإسراء والمعراج لم يكن ـ كما يتصوّر البعض ذلك ـ بهدف رؤية الله تبارك وتعالى ـ ظنّا منهم أنّه تعالى يشغل مكانا في السماوات!!!

وبالرغم من أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفا بعظمة الله سبحانه ، وكان عارفا أيضا بعظمة خلقه ، ولكن «متى كان السماع كالرؤية؟!».

ونقرأ في سورة (النّجم التي تلت سورة الإسراء وتحدثت عن المعراج قوله تعالى :( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

سابعا : إنّ تعبير الآية( بارَكْنا حَوْلَهُ ) تفيد بأنّه علاوة على قدسية المسجد الأقصى ، فإنّ أطرافه أيضا تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن يكون مراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بها تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء من مزايا العمران والأنهار والزراعة.

ويمكن أن تحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إلى ما تمثّله هذه الأرض في طول التأريخ ، من كونها مركزا للنبوات الإلهية ، ومنطلقا لنور التوحيد ، وأرضا خصبة للدعوة إلى عبودية الله.

ثامنا : إنّ تعبير( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) إشارة إلى أنّ إكرام الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعجزة الإسراء والمعراج لم يكن أمرا عفويا عابرا ، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله ، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها الله ويحيط بها.

تاسعا : إنّ كلمة «سبحان» إشارة إلى أنّ سفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسراء والمعراج دليل آخر على تنزيه الله تبارك وتعالى من كل عيب ونقص.

عاشرا : كلمة «من» في قوله تعالى :( مِنْ آياتِنا ) إشارة إلى عظمة آيات الله

٣٨٤

بحيث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على علو مقامه واستعداده الكبير ـ لم ير من هذه الآيات خلال سفره الإعجازي سوى جزء معين منها.

المعراج :

من المعروف والمشهور بين علماء الإسلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان في مكّة! أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ومن هناك صعد به إلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات ، ثمّ عادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفس الليلة إلى مكّة المكرمة.

والمعروف المشهور أيضا أنّ سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسراء والمعراج قد تمّ بجسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه معا.

ولكن العجيب ما يحاوله البعض من توجيه معراج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعراج الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو «المكاشفة الروحية» ولكن هذا التوجيه ـ كما أشرنا ـ لا ينسجم إطلاقا مع ظواهر الآيات ، بل هو مخالف لها ، إذ يدل الظاهر على أنّ القضية تمت بشكل جسمي حسي.

في كل الأحوال تبقى هناك مجموعة أسئلة تثار حول قضية المعراج يمكن أن نلخصها بالشكل الآتي :

١ ـ كيفية المعراج من وجهة نظر القرآن والتأريخ والحديث.

٢ ـ آراء علماء الإسلام شيعة وسنة حول هذه القضية.

٣ ـ الهدف من المعراج.

٤ ـ إمكانية المعراج من وجهة نظر العلوم المعاصرة.

بالرغم من أنّ الإجابة المفصّلة على هذه الأسئلة هي خارج نطاق بحثنا التّفسيري ، إلّا أننا سنعالج هذه النقاط باختصار يناسب ذوق القارئ الكريم. إن

٣٨٥

شاء الله :

المعراج في القرآن والحديث :

في كتاب الله سورتان تتحدثان عن المعراج :

السورة الأولى هي سورة «الإسراء» التي نحن الآن بصددها ، وقد أشارت إلى القسم الأوّل من سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أي أشارت لإسرائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وقد استتبع الإسراء بالمعراج.

السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة «النجم» التي تحدثت عنه في ست آيات هي :( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

هذه الآيات تفيد حسب أقوال المفسّرين أنّ الإسراء والمعراج تمّا في حالة اليقظة ، وإنّ قوله تعالى :( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) هو إثبات آخر لصحة هذا القول.

في الكتب الإسلامية المعروفة هناك عدد كبير جدّا من الأحاديث والرّوايات التي جاءت حول قضية المعراج ، حتى أنّ الكثير من علماء الإسلام يذهب إلى «تواتر» حديث المعراج أو اشتهاره ، وعلى سبيل المثال نعرض للنماذج الآتية :

يقول الشيخ «الطوسي» في تفسير (التبيان) ما نصّه : «إنّه عرج به في تلك الليلة إلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة ، وأراه الله من آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقينا ، وكان ذلك في يقظتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون منامه»(١) .

أمّا العلّامة «الطبرسي» في تفسيره المعروف «مجمع البيان» فيقول : «وما

__________________

(١) تفسير «التبيان» ، للشيخ الطوسي ، المجلد السادس ، ص ٤٤٦.

٣٨٦

قاله بعضهم أنّ ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان ، وقد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج ، في عروج نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ، ورواها كثير من الصحابة [إذ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] صلّى المغرب في المسجد الحرام ثمّ أسري به في ليلته ثمّ رجع فصلّى الصبح في المسجد الحرام. وقال الأكثرون وهو الظاهر من مذاهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم ، أنّ الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه ، ولم يكن ذلك في المنام»(١) .

أمّا العلّامة «المجلسي» فيقول في (بحار الأنوار) ما نصه : «أعلم أنّ عروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس ثمّ إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف ، ممّا دلّت عليه الآيات والأخبار المتواترة من طرق الخاصّة والعامّة ، وإنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إمّا من قلّة التتبع في آثار الأئمّة الطاهرين أو من ضعف اليقين»(٢) .

ثمّ يردف العلّامة المجلسي قائلا : «لو أردت استيفاء الأخبار الواردة في هذا الباب لصار مجلدا كبيرا»(٣) .

ومن علماء السنة قام منصور علي ناصف الأزهري المعاصر بجمع أحاديث المعراج في كتابه المعروف باسم «التاج».

أمّا الفخر الرازي ـ المفسّر الإسلامي المعروف ـ فيقول بعد ذكره لسلسلة من الاستدلالات على إمكان الوقوع العقلي للمعراج ، ما يلي : «من وجهة نظر الحديث تعتبر أحاديث المعراج من الرّوايات المشهورة في صحاح أهل السنّة ، ومفاد هذه الأحاديث إسراء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى بيت المقدس ، وعروجه من بيت

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثالث ، ص ٣٩٥.

(٢) بحار الأنوار ، الطبعة الحديثة المجلد ١٨ ، ص ٢٨٩.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٩١.

٣٨٧

المقدس إلى السماء».

أمّا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهو من متعصبي علماء الوهابية والذي يشغل الآن منصب رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، فيقول في كتابه «التحذير من البدع» : «ليس من شك في أنّ الإسراء والمعراج هي من العلامات الكبيرة على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلو مقامه ومنزلته» إلى أن يقول : «نقلت أخبار متواترة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الله تبارك وتعالى أخذ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفتح له أبواب السماء»(١) .

ولكن ينبغي أن نلاحظ هنا أن من بين الرّوايات الواردة في قضية المعراج ثمّة أحاديث ضعيفة ومجعولة لا يمكن القبول بها مطلقا.

لذلك نرى أن المفسّر الإسلامي الكبير ، الشيخ الطبرسي عمد في ذيل تفسير هذه الآية مورد البحث إلى تقسيم الأحاديث الواردة في المعراج إلى أربع فئات هي :

١ ـ ما يقطع بصحته لتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته ، ومثله أنّه أسري به على الجملة.

٢ ـ ما ورد في ذلك ممّا تجوزه العقول ولا تأباه الأصول ، فنحن نجوزه ثمّ نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته دون منامه ، ومثله ما شاهده من آيات ربّه في السماوات.

٣ ـ ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلّا أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول ، نحو ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى قوما في الجنّة يتنعمون فيها ، وقوما في النّار يعذبون فيها ، فهو يحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

٤ ـ ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلّا على التعسف البعيد فالأولى أن لا

__________________

(١) التخذير من البدع ، ص ٧.

٣٨٨

نقبله ، نحو ما قيل من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّم الله سبحانه جهرة ، ورآه وقعد معه على سريره ممّا يوجب ظاهره التشبيه والله سبحانه وتعالى يتقدّس عن ذلك(١) .

هناك أيضا اختلافات بين المؤرخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج ، إذ يقول البعض : أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ، والبعض يقول : إنّه عرج بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (١٧) رمضان من السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال : إنّ المعراج وقع في أوائل البعثة.

ولكن في كل الأحوال ، فإنّ الاختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة.

من المفيد أيضا أن نذكر أنّ عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين ، بل هناك ما يشابهها في الأديان الأخرى ، بل إنا نرى في المسيحية أكثر ممّا قيل في معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ يقول أولئك كما في الباب السّادس من إنجيل «مرقس» والباب (٢٤) من إنجيل «لوقا» والباب (٢١) من إنجيل (يوحنّا) أن عيسى بعد أن صلب وقتل ودفن نهض من مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوما قبل أن يعرج إلى السماء ليبقى هناك في عروج دائم! ونستفيد من مؤدّى بعض الرّوايات أنّ بعض الأنبياء السابقين عرج بهم إلى السماء أيضا.

هل كان المعراج جسديا أم روحيا؟

إن ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإسراء ، وكذلك سورة النجم (كما فصلنا أعلاه) تدلل على وقوع المعراج في اليقظة ، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإسلام من الشيعة والسنة.

وتشهد التواريخ الإسلامية أيضا على صدق هذا الموضوع ، ونقرأ في التأريخ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثالث ، ص ٣٩٥.

٣٨٩

أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عند ما تحدث بها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوها عليه ذريعة للاستهزاء به ، ممّا يدل بوضوح على أنّ الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبدا، وإلّا لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.

أمّا ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة أنّه : (والله ما فقد جسد رسول الله ولكن عرج بروحه) ، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي ، لإخماد الضجّة التي أثيرت حول قضية المعراج.

هدف المعراج :

اتّضح لنا من خلال البحوث الماضية ، أنّ هدف المعراج لم يكن تجوالا للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السماوات للقاء الله كما يعتقد السذج ، وكما نقل بعض العلماء الغربيين ـ ومع الأسف ـ لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإسلام أمام الآخرين ، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد ، ص ١٢٠) ، (بلغ محمد في سفر معراجه إلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم الله ، ويفهم أنّ الله منهمك في تدوين حساب البشر! ومع أنّه كان يسمع صوت قلم الله إلّا أنّه لم يكن يراه! لأنّ أحدا لا يستطيع رؤية الله وإن كان رسولا).

وهذا يظهر أن القلم كان من النوع الخشبي! الذي يهتز ويولد أصواتا عند حركته على الورق!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام.

كلا. فالهدف كان مشاهدة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسرار العظمة الإلهية في أرجاء عالم الوجود ، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته ، وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإدراك جديدين لهداية البشرية وقيادتها.

ويتّضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأولى من سورة الإسراء ، والآية (١٨) من سورة النجم.

٣٩٠

وهناك رواية أيضا منقولة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في جوابه على سبب المعراج. أنّه قالعليه‌السلام : «إنّ الله لا يوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ، ولكنّهعزوجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه»(١) .

المعراج والعلوم العصرية :

كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية «الأفلاك البطليموسية التسعة» والتي تكون على شكل طبقات البصل في إحاطتها بالأرض ، لذلك فقد أنكر المعراج بمزاعم علمية تقوم على أساس الإيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها يلزم خرق هذه الأفلاك ومن ثمّ التئامها ليكون المعراج ممكنا(٢) .

ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام الأفلاك في خبر كان ، وضمتها يد النسيان ، ولكن التطوّر المعاصر في علم الأفلاك أدّى إلى إثارة مجموعة من الشبهات العلمية التي تقف دون إمكانية المعراج علميا ، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي :

أوّلا : إنّ أوّل ما تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إلى عمق الفضاء هو وجوب الانفلات من قوة الجاذبية الأرضية ، ويحتاج الإنسان للتخلّص من الجاذبية إلى وسائل استثنائية تكون معدّل سرعتها على الأقل (٤٠) ألف كيلومتر في الساعة.

ثانيا : المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي من الهواء ، الذي هو القوام في حياة الإنسان.

ثالثا : المانع الثّالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد ٢ ، ص ٢٠٠.

(٢) بعض القدماء يعتقد بعدم إمكان خرق هذه الأفلاك ثمّ التئامها.

٣٩١

القاتلة ، وذلك بحسب موقع الإنسان في الفضاء من الشمس.

رابعا : هناك خطر الإشاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما وراء البنفسجية وأشعة إكس ، إذ من المعروف أنّ الجسم يحتاج إلى كميات ضئيلة من هذه الإشعاعات ، وهي بهذا الحجم لا تشكّل ضررا على جسم الإنسان ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسر بها بكثرة إلى الأرض. ، ولكن خارج محيط الغلاف الجوّي تكثر هذه الإشاعات إلى درجة تكون قاتلة.

خامسا : هناك مشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإنسان في الفضاء الخارجي ، فمن الممكن للإنسان أن يتعوّد تدريجيا على الحياة في أجواء انعدام الوزن ، إلّا أنّ انتقاله مرّة واحدة إلى الفضاء الخارجي ـ كما في المعراج ـ هو أمر صعب للغاية ، بل غير ممكن.

سادسا : المشكلة الأخيرة هي مشكلة الزمان ، حيث تؤكد علوم اليوم على أنّه ليست هناك وسيلة تسير أسرع من سرعة الضوء ، والذي يريد أن يجول في سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إلى سرعة تكون أسرع من سرعة الضوء!.

في مواجهة هذه الأسئلة :

أوّلا : في عصرنا الحاضر ، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالاستفادة من معطيات العلوم أمرا عاديا ، فإنّ خمسا من المشاكل الست الآنفة تنتفي ، وتبقى ـ فقط ـ مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية البعيدة جدا.

ثانيا : إنّ المعراج لم يكن حدثا عاديا ، بل أمر إعجازي خارق للعادة ثمّ بالقدرة الإلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة المعجزة عقلا ، أمّا الأمور الأخرى فتتم بالاستناد إلى القدرات الإلهية.

وإذا كان الإنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفّر

٣٩٢

حلولا للمشكلات الآنفة الذكر ، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما إلى ذلك ، حتى أصبح بمستطاعه السفر إلى الفضاء الخارجي فألا يمكن لله ـ خالق الكون ، صاحب القدرات المطلقة ـ أن يوفّر وسيلة تتجاوز المشكلات المذكورة؟!

إنّنا على يقين من أنّ الله تبارك وتعالى وضع في متناول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مركبا مناسبا صانه فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات ، ولكن ما اسم هذا المركب هل هو «البراق» أو «رفرف»؟ وعلى أي شكل وهيئة كان؟ كل هذه أمور غامضة بالنسبة لنا ، ولكنّها لا تتعارض مع يقيننا بما تمّ ، وإذا أردنا أن نتجاوز كل هذه الأمور فإنّ مشكلة السرعة التي بقيت ـ لوحدها ـ تحتاج إلى حل ، فإنّ آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أن وجدت لها حلولا مناسبة بالرغم ممّا يؤكّده «إنشتاين» في نظريته من أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة معروفة اليوم.

إنّ علماء اليوم يؤكدون أنّ الأمواج الجاذبة لا تحتاج إلى الزمن ، وهي تنتقل في آن واحد من طرف من العالم إلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسّع الكون (من المعروف أنّ الكون في حالة اتساع وأنّ النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إذ يلاحظ أنّ الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن مركز الكون إلى أطرافه ، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!

إذن ، بكلام مختصر نقول : إنّ المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلا دون وقوع المعراج ، ودون التصديق به ، والمعراج بذلك لا يعتبر من المحالات العقلية ، بل بالإمكان تذيل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة.

وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمرا غير ممكن لا من وجهة الأدلة العقلية ، ولا من وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإضافة إلى ذلك أمر إعجازي

٣٩٣

خارق للعادة. لذلك ، إذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإيمان به(١) .

وأخيرا هناك إشارة أخرى حول المعراج سنقف عليها أثناء الحديث عن سورة النجم إن شاء الله.

* * *

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب : «لكل يريد أن يعرف» والذي يبحث في قضية المعراج وشق القمر بالإضافة إلى قضايا أخرى.

٣٩٤

الآيات

( وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) )

التّفسير

بعد أن أشارت الآية الأولى في السورة إلى معجزة إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا من

٣٩٥

المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، كشفت آيات السورة الأخرى ، عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث ، وأبانت استنكارهم لها ، وعنادهم إزاء الحق ، في هذه الاتجاه انعطفت الآية الأولى ـ من الآيات مورد البحث ـ على قوم موسى ، ليقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ تأريخ النبوات واحد ، وإنّ موقف المعاندين واحد أيضا ، وأنّه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك ، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسىعليه‌السلام .

تقول الآية أوّلا :( وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) .

وصفة هذا الكتاب أنّه :( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسىعليه‌السلام هدى لبني إسرائيل.

ثمّ تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسىعليه‌السلام فتقول :( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ) (١) .

إنّ التوحيد في العمل هو واحد من معالم أصل التوحيد ، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول : لا تتكئ على أحد سوى الله ، وإنّ أي اعتماد على غيره دلالة على ضعف الإيمان بأصل التوحيد. إنّ أسمى معاني التجلّي في هداية الكتب السماوية ، هو اشتعال نور التوحيد في القلوب والانقطاع عن الجميع والاتصال بالله تعالى.

ومن أجل أن تحرّك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإلهية عليهم، خصوصا نعمة نزول الكتاب السماوي ، فإنّها تضع لهم نموذجا للعبد الشكور فتقول :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) (٢) ولا تنسوا :( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) .

__________________

(١) من وجهة التركيب النحوي يقول بعض المفسّرين : إنّ تقدير جملة( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) هو : لئلا تتخذوا وبعضهم قال : «أن» زائدة ، وجملة «قلنا لهم» تقديرها : «وقلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا».

(٢) إنّ جملة :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) جملة ندائية وفي التقدير تكون : يا ذرية من حملنا مع نوح. أمّا ما احتمله البعض من أنّ «ذرية» هي بدل عن «وكيلا» أو مفعول ثان لـ «تتخذوا» فهو بعيد ، ولا يتسق مع جملة( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) .

٣٩٦

والآية تخاطب بني إسرائيل بأنّهم أولاد من كان مع نوح ، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم الله.

«شكور» صيغة مبالغة بمعنى «كثير الشكر» ، وأمّا كون بني إسرائيل ذرية من كان مع نوح ، فإنّ ذلك قد يعود إلى أنّ من في الأرض جميعا ، بعد طوفان نوح ، ومنهم بنو إسرائيل ، هم كلّهم من سلالة الأبناء الثلاثة لنوح ، أي «سام» و «حام» و «يافث» كما ورد في كتب التاريخ ، وممّا لا شك فيه أنّ كل أنبياء الله شكورون ، ولكنّ الأحاديث تعطي ميزة خاصّة لنوح الذي كان دائم الشكر على كل نعمة ففي كل شربة ماء ، أو وجبة غذاء ، أو وصول نعمة أخرى له فإنّه يذكر الله فورا ويشكره على نعمائه.

وفي حديث عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام نقرأ قولهما إنّ نوحا كان يقرأ هذا الدعاء في كل صباح ومساء ، «اللهم إنّي أشهدك أنّ ما أصبح أو أمس بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك ، وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى،وبعد الرضا».

ثمّ أضاف الإمام : «هكذا كان شكر نوح»(١) .

بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل المليء بالأحداث ، فتقول :( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ) .

كلمة «قضاء» لها عدّة معان ، إلّا أنّها استخدمت هنا بمعنى «إعلام» أمّا المقصود من «الأرض» في الآية ـ بقرينة الآيات الأخرى هي ارض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

٣٩٧

إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة الهية فتقول :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ) وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) .

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم :( فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ) .

وهذا الأمر لا مناصّ منه :( وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ) .

ثمّ تشير بعد ذلك إلى أنّ الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم ، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم ، فتقول :( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) (١) .

وهذه المنّة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

إنّ الآية تعبّر عن سنّة ثابتة ، إذ أن محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود إليه نفسه ، فالإنسان عند ما يلحق أذى أو سوءا بالآخرين ، فهو في الواقع يلحقه بنفسه ، وإذا عمل للآخرين ، فإنّما فعل الخير لنفسه ، أمّا بنو إسرائيل ، فهم مع الأسف لم توقظهم العقوبة الأولى ، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجددا ، بل تحركوا باتجاه الإفساد الثّاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبّر.

تقول الآية في وصف المشهد الثّاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء الى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) .

بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس :( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ

__________________

(١) «نفير» اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال ، وقال بعض : هي من «نفر». و «نفر» في الأصل على وزن «عفو» تعني الارتحال والإقبال على شيء. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شيء بأنها في حالة «نفير».

٣٩٨

مَرَّةٍ ) .

وهم لا يعكفون بذلك ، بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمرّونا عن آخرها :( وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) وفي هذه الحالة فإنّ أبواب التوبة الإلهية مفتوحة :( عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) .

( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) أي إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة ، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم :( وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ) (١) .

* * *

ملاحظات

الأولى : الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل :

تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل ، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو ، وقد لاحظنا أنّ الله سلّط على بني إسرائيل عقب كل فساد رجال أشدّاء شجعانا يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم ، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدّه الله لهم.

وبالرغم من اتساع تاريخ بني إسرائيل ، وتنوّع الأحداث والمواقف فيه ، إلّا أنّ المفسّرين يختلفون في كل المرّات التي يتحدّث القرآن فيها عن حدث أو موقف من تاريخ بني إسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرّض فيما يلي للنماذج الآتية :

أوّلا : يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأنّ أول من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضاربا فيه لسبعين عاما ، إلى

__________________

(١) «حصير» مشتقة من «حصر» بمعنى الحبس ، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير». ويقال للحصير العادية حصيرا لأنّ خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.

٣٩٩

أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثّاني الذي تعرّض له ، فقد كان من قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تمّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و «أسييانوس» لأنّ الأحداث الأخرى في تاريخ بني إسرائيل لم تفن جمعهم ، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرّة ، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن «كورش» حيث اجتمع شملهم مجددا وحررهم من أسر بابل وأعادهم إلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس ، إلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم ، وذهبت قوتهم وشوكتهم(١) .

لقد استمر بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرّد إلى أن أعانتهم القوى الدولية الاستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم من جديد.

ثانيا : أمّا «الطبري» فينقل في تفسيره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المراد في الفساد الأوّل هو قتل بني إسرائيل لزكرياعليه‌السلام ومجموعة أخرى من الأنبياءعليهم‌السلام ، وأنّ المقصود من الوعد الأول ، هو الانتقام الإلهي من بني إسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأمّا المراد من الفساد الثّاني فهو الفوضي والاضطراب الذي قام به «بنو إسرائيل» بعد تحريرهم من بابل بمساعدة أحد ملوك فارس ، وما قاموا به من فساد. أمّا الوعد الثّاني ، فهو هجوم «أنطياخوس» ملك الروم عليهم.

وبالرغم من انطباق بعض جوانب هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ، إلّا أنّ راوي الحديث الذي يعتمد عليه «الطبري» غير ثقة ، بالإضافة إلى عدم تطابق تاريخ «زكريا» و «يحيى» مع تاريخ «نبوخذ نصر» و «أسييانوس أو أنطياخوس» إذا يلاحظ أن «نبوخذ نصر» عاصر «أرميا» أو «دانيال» النّبي كما يرى بعض

__________________

(١) يراجع تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤٤ فما فوق.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496