الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل16%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237965 / تحميل: 7594
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

سُورَة الحِجر

مكيّة

وعدد آياتها تسع وتسعون آية

٥
٦

«سورة الحجر »

محتوى السّورة :

المشهور عند جل المفسّرين أنّ سورة الحجر مكّية ، وهي السورة الثّانية والخمسون من السور التي نزلت على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة المكرمة على ما ذكره ابن النديم في فهرسته تحت موضوع تاريخ القرآن ، وعدد آياتها تسع وتسعون آية باتفاق كل المفسّرين.

ولم تشذ السورة في سياقها ومضامينها عن السور المكّية السابقة لها ، وكما ذكرنا سابقا فإنّ السور المكّية تشتمل على جمل من الكلام حول أصول الدين كالتوحيد والمعاد ، وإنذار المشركين والعاصين والظالمين ، بالإضافة إلى ما يحمله تاريخ الأقوام السالفة من دروس العبرة للاعتبار.

ويمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط :

1 ـ الآيات المتعلقة بمبدإ عالم الوجود ، والإيمان به بالتدبر في أسرار الإيجاد.

2 ـ الآيات المتعلقة بالمعاد وعقاب الفجرة الفسقة.

3 ـ أهمية القرآن باعتباره كتابا سماويا.

4 ـ محاولة إيقاظ وتنبيه البشر من خلال طرح قصّة خلق آدم ، وتمرد إبليس ، وتبيان عاقبة التمرد.

٧

5 ـ زيادة في محاولة الإيقاظ والتنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما جرى لأقوام لوط وصالح وشعيبعليهم‌السلام .

6 ـ إنذار وبشارة ، مواعظ لطيفة وتهديدات عنيفة ، إضافة إلى المرغبات المشوقة.

7 ـ مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتقوية صبره وثباته قبال ما يحاك من دسائس ، وبالذات ما كان يجري داخل إطار مكّة.

وقد اختير اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب الحجر ، علما بأنّ السورة تناولت ذلك في خمس آيات ، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذه التسمية ، وسيأتي ذلك مفصلا في تفسير الآيات (80 ـ 84) إن شاء الله.

* * *

٨

الآيات

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) )

التّفسير

الأماني الزّائفة!

سورة أخرى تفتتح بالحروف المقطعة (ألف ، لام ، وراء) لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إلى ظلام أهل الأرض ، ما هي إلّا عين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر ، صغيرهم وكبيرهم ، بين مختلف اللغات ، ومع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء وتركيب كلام القرآن ، وهو ذرورة التحدي الرباني المعجز ، وعليه فقد جاءت( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) مباشرة.

كما نعلم أنّ «تلك» اسم إشارة للبعيد ، والمفروض في هذا الموضع استعمال اسم الإشارة (هذه) باعتباره يدل على القرب ، لأنّ القرآن كتاب بين أيدينا ، إلّا إنّ

٩

لغة العرب ـ كما بيّنا سابقا ـ تسمح بذلك لبيان عظمة المشار إليه ، فالمراد أنّ لشأن القرآن عظمة ، وكأنّه في موضع بعيد جدّا بين طيات السماء ، لا يناله إلّا من ملك مستلزمات التحليق إليه. ويقارب ذلك ما نتداوله فيما بيّننا عند تعظيم شخص معين فنقول له مثلا : (إن سمح لنا ذلك السّيد أن ...) فنستعمل (ذلك) مع كون الشخص مخاطبا.

وأمّا بشأن مجيء صيغة «قرآن» نكرة فلبيان عظمته أيضا ، وذكر «القرآن» بعد «الكتاب» تأكيد ، ووصفه بال «مبين» لأنّه يظهر الحقائق ويبيّن الحق من الباطل.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد بكلمة «الكتاب» إشارة إلى التوراة والإنجيل ، فهو كما يبدو بعيد جدّا ويفتقد الى الدليل.

ثمّ يحذر الذين يصرون على الفساد ومخالفة آيات الله الجلية ، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد. ويقول :( رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ) .

فالمراد بكلمة «يود» التمني حسب ما ورد في تفسير الميزان ، وذكر كلمة «لو» للدلالة على تمنيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون ، وهذه إشارة إلى أن تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الأعمال.

ويؤيد هذا المعنى وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام قوله : «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق إنّه لا يدخل الجنّة إلا مسلم ، فثمّ يود سائر الخلائق أنّهم كانوا مسلمين».(1)

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 3 ، ص 328 ، كذلك ورد الحديث الأوّل في تفسير الثقلين عن تفسير العياشي ، وأورد الفخر الرازي في تفسيره حديثا يشابه الحديث الثّاني مع تفاوت يسير ، وذكر في تفسير الطبري أيضا عدّة أحاديث في مضمون الحديث الثّاني ضمن تفسير الآية المذكورة.

١٠

وروي أيضا عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا اجتمع أهل النّار في النّار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين ، قالوا:بلى، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النّار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب (بائر) فأخذنا بها (وهذا الاعتراف بالذنب والتقصير ولوم الأعداء يكون سببا لأن) يسمع اللهعزوجل ما قالوا فأمر من كان في النّار من أهل الإسلام فأخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار: يا ليتنا كنّا مسلمين».(1)

وربّما كان ظاهر الآية يوحي إلى أولئك الكفرة الذين ما زالت جذوة الفطرة تسري في أعماق وجدانهم ، وحينما لمسوا من نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الآيات الرّبانية التي تناغي أوتار القلوب ، لانت قلوبهم وتمنوا أن لو يكونوا مسلمين ، إلّا أنّ تعصبهم الأعمى وعنادهم القائم ، أو قل منافعهم المادية حجبتهم عن قبول دعوة الحق ، وبذلك بقوا بين قضبان كفرهم واستحوذت عليهم أحابيل الكفر والضلال.

ذكر لنا أحد الأصدقاء من المؤمنين المجاهدين وكان قد سافر إلى أوروبا قائلا : ذات مرّة التقيت بأحد المسيحيين ـ وكان رجلا منصفا ـ وبعد أن بيّنت له بعض خصال ديننا ، استهوته ومال إليها قائلا : أهنئكم من أعماقي على عظمة معتقدكم ، ولكن ـ ما ذا نصنع مع الظروف الاجتماعية التي أجبرتنا على أن لا نحيد عنها!

ومن تاريخ الإسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عند ما وصله رسول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويذكر بأنّ القيصر قد أظهر الإيمان سرّا للرسول حتى أنّه رغب في دعوة قومه لدين التوحيد إلّا أنّه خاف قومه وفكر بامتحانهم ف (أمر مناديا ينادي : ألا إنّ هرقل قد ترك النصرانيّة واتبع دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقبل جنده بأسلحتهم حتى

__________________

(1) المصدر السّابق.

١١

طافوا بقصره ، فأمر مناديه فنادى : ألا إنّ قيصر إنّما أراد أن يجرّبكم كيف صبركم على دينكم ، فارجعوا فقد رضي عنكم. ثمّ قال للرسول : إنّي أخاف على ملكي. وإنّي لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل ، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا ، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولو لا ذلك لاتبعته).(1)

وعلى أية حال ، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أيّ منالتّفسيرين ، فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة) ، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إلى الإسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة ـ فتأمل.

ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة ، يا محمّد( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف ، ولا تفهم سوى اللّذات المادية ، وكل ما تريده لا يتعدى إطار ما تعرف وتفهم.

إنّهم لا يدركون فقه الحقائق ، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.

ولكن ، عند ما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم ، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة ، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم ، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!

الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّما خالدة فتقول :( وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) ثمّ يقول تعالى :( ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ) .

فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إلى بارئهم ، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارة ، وبفيوضات رحمة الرخاء

__________________

(1) مكاتيب الرّسول ، ج 1 ، ص 112.

١٢

تارة أخرى ، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإنذار وهكذا ، كل ذلك إتماما للحجة عليهم.

صحيح أنّ المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم ربّ الأرباب) أن يمهل ولكنّه سبحانه لا يهمل ، وعاجلا أم آجلا سينال كلّ نصيبه بما كسبت يداه.

من الآيتين الأخيرتين ، تتّضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ الأمم السابقة.

أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إلى الله تعالى؟ بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدّر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من قبلنا؟ اذن وعلينا الإعتبار ، وإلّا فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.

* * *

ملاحظة :

الغفلة وطول الأمل

ممّا لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان ، فلو ارتفع الأمل يوما من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إلّا القليل ممن يجد في نفسه دافعا لمواجهة صراع الحياة معه ، والحديث النبوي الشريف : «الأمل رحمة لأمتي ، ولو لا الأمل ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرا»(1) يشير لهذه الحقيقة.

وإذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإنّه سيتحول إلى (طول أمل) وهو ما ينذر بالانحراف والهلاك ، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض للأرض والنبات والحيوان ، فلو زاد عن حدّ الحاجة إليه ، أصبح عاملا للغرق

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، 30 (أمل).

١٣

والهلاك.

وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل بالله وعدم معرفة الحق والابتعاد عن الحقيقة ، ويؤدي الى تقوقع الإنسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.

ويحدثنا أمير المؤمنين عليعليه‌السلام عن هذا المضمون بقوله : «يا أيّها الناس ، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتّباع الهوى وطول الأمل ، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(1) .

حقا ، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة ، ولكنّهم سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إلى موجودات ضعيفة ، بل وممسوخة! وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شيء لمجتمعهم ، بل ضيّعوا حتى ما ينفع أنفسهم وأثقلوا عمّا يسمون به إلى التكامل.

وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل : «وحبسني عن نفعي بعد أملي».

بديهي أنّ الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول ، يجعل الإنسان عرضة للانهماك والعجز والاضطراب ، ويصوّر لصاحبه أنّ هذه الحال ستوصله إلى السعادة والرفاه ، وما يدري أنّه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.

وغالبا ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إليه المآل ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأذن سميعة.

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، من الخطبة 42.

١٤

الآيات

( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) )

التّفسير

طلب نزول الملائكة :

تبتدئ الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل الكفار ، فتقول :( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتارة يقولون :( يا أَيُّهَا الَّذِي ) ، وأخرى :( نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ) بصيغة الهزؤ والإنكار لآيات الله سبحانه ، وثالثة : يستعملون أدوات التوكيد «إن» ولام القسم ليتّهموا أشرف خلق اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون!

نعم ، الخصم ينطلق المريض الجاهل حينما يقابل حكيما لا نظير له ، فأوّل ما يرميه بالجنون ، لأنّه ينطلق من جهله الذي لا يستوعب الحكمة والمعقول ، فيرى كل ما فوق تصوره القاصر غير معقول ، ويوصم خصمه بالمجنون!

١٥

هؤلاء الأشخاص لديهم تعصب خاص نحو كل ما ألفوه في محيطهم الاجتماعي حتى وإن كان ضلالا وانحرافا ، لذا تراهم يواجهون كل دعوة جديدة على أساس أنّها غير معقولة ، فهم يخشون من كل جديد ، ويتمسكون بشدّة بالعادات والتقاليد القديمة.

أضف إلى ذلك ، أن من استهوته الدنيا وعاش لها لا يفقه المعاني الروحية والقيم الإنسانية ويوزن كل شيء بالمعايير المادية ، فإذا شاهد شخصا يضحي بكل شيء وحتى بنفسه لأجل أن يصل إلى هدف معنوي ، فسوف لا يصدّق بأنّه عاقل ، لأن العقل في عرفهم هو ما يصيب : المال الوافر ، الزوجة الجميلة ، الحياة المرفهة ، والوجاهة الكاذبة!

وعليه ، فحينما يرون رجلا قد عرضت عليه الدنيا بكل ما يحملون به فأبى أن يقبلها بقوله : «والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته» فسيقولون عنه : إنّه لمجنون!

الملفت في التهم الموجهة إلى أنبياء الله تعالى أنّها تحمل بين طياتها تضادا واضحا يلمس بأدنى تدبر ، ففي الوقت الذي يرمون النّبي بالمجنون يعودون ويقولون عنه : إنّه لساحر، فمع أن الساحر لا بدّ له من الذكاء والنباهة ، فهل يعقل أن يكون الساحر ، مجنونا؟!

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل تحججوا قائلين :( لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

يجيبهم الباري جل شأنه :( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) . فلو ثمّ إنزال الملائكة وشاهدوا الحقيقة بأعينهم ثمّ لم يؤمنوا بما فسوف يحيق بهم ، العذاب الالهي دون إمهال.

وللمفسّرين وجوها متباينة في تفسير( ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ ) :

1 ـ يرى البعض ، أن أمر تنزيل الملائكة لا يتعلق بما يتقوله القائلون تحججا ،

١٦

بل هو إعجاز رباني لإظهار الحق وإحقاقه.

وبعبارة أخرى ، فالإعجاز ليس أمرا ترفيهيا يناغي تصورات الآخرين بقدر ما هو حجة إلهية لإثبات الحق وإماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بما فيه الكفاية لمن يرى النّور نورا والظلام ظلاما من خلال ما أوصله نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق القرآن والمعاجز الأخرى.

2 ـ المقصود من كلمة «الحق» هو العقاب الدنيوي بالبلاء المهلك ، وبعبارة أخرى (عذاب الاستئصال).

أي في حال عدم إيمان الكفار المعاندين بعد نزول الملائكة على ضوء اقتراحهم فهم هالكون قطعا.

وبهذا تكون جملة( وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) مؤكّدة لهذا المعنى ، وأمّا على التّفسير الأوّل فإنّها تتناول موضوعا جديدا.

3 ـ وقيل المراد بالحق في الآية الموت ، إي أنّ الملائكة لا تنزل إلّا لقبض الأرواح.

لكنّ هذا المعنى بعيد جدّا أمام ما يحفل به القرآن من ذكر نزول الملائكة في قصتي إبراهيم ولوطعليهما‌السلام ومعركة بدر إلخ.

4 ـ وقيل المراد بالحق الشهادة (المشاهدة).

أي ما دام الإنسان يعيش في عالم الدنيا فهو عاجز عن رؤية ما وراء هذا العالم حيث هناك تسبح الملائكة بحمد ربّها ، لأنّ الحجب المادية قد أفسدت رؤيته ولا يتسنى له ذلك إلّا بعد الرحيل إلى العالم الآخر ، وحين ذلك ينتهي مفعول الماديات فتزال الحجب ويرى الملائكة.

يواجه هذا التّفسير نفس ما واجهه التّفسير الثّالث من إشكال ، فقوم لوط مثلا ،

١٧

على ما كانوا عليه من كفر وانحراف فقد رأوا ملائكة العذاب في دنياهم(1) .

من خلال ما تقدم يتبيّن لنا أن التّفسيرين الأوّل والثّاني ينسجمان مع ظاهر الآية دون الآخرين.

أمّا ما ورد في ذيل الآية من عدم الامهال بعد استجابة مطاليبهم في رؤية المعاجز الحسيّة وعدم إيمانهم بها ، فلأنه قد تمّت الحجة عليهم وانتفت جميع اعذارهم وتبريراتهم ، وبما أن استدامة الحياة إنّما هو لأجل إتمام الحجة واحتمال توبة ورجوع الافراد المنحرفين الى الصراط المستقيم ، وهذا الأمر لا موضوع له في مثل هؤلاء الأشخاص ، فلذلك يحين أجلهم وينالون جزاءهم الذي يستحقونه. (فتدبّر)

* * *

__________________

(1) راجع سورة هود ، 81.

١٨

الآية

( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) )

التّفسير

حفظ القرآن من التحريف :

بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن ، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أخرى ، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة ، ألا وهي حفظ القرآن من أيادي التلاعب والتحريف( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال ، ومصباح هديه أبدي الإنارة ، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكامه الظلمة ، محفوفين بعلماء السوء ، ومزودين بأقوى الجيوش عدّة وعتادا ، على أن يخمدوا نور القرآن ، فلن يستطيعوا ، لأنّ الحكيم الجبار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته

وقد اختلف المفسّرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة :

1 ـ قال بعضهم : الحفظ من التحريف والتغيير ، والزيادة والنقصان.

2 ـ وقال البعض الآخر : حفظ القرآن من الضياع والفناء إلى يوم قيام الساعة.

١٩

3 ـ وقال غيرهم : حفظه أمام المعتقدات المضلة المخالفة له.

بما أنّه لا يوجد أي تضاد بين هذه التفاسير وتدخل ضمن المفهوم العام لعبارة( إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فلا داعي لحصر مصاديقها في بعد واحد ، خصوصا وإن «لحافظون» ذكرت بصيغة مطلقة وليس هناك ما يخصصها.

والصحيح ، وفقا لظاهر الآية المذكورة ، أنّ الله تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي : من التحريف ، من التلف والضياع ، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية.

أمّا ما احتمله بعض قدماء المفسّرين بأنّه الحفظ على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أن ضمير «له» في الآية يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلالة إطلاق لفظة «الذكر» على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الآيات(1) ، فهو احتمال يتعارض مع سياق الآيات السابقة التي عنت بـ «الذكر» «القرآن» ، بالإضافة إلى إشارة الآية المقبلة لهذا المعنى.

* * *

بحث في عدم تحريف القرآن :

المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين شيعة وسنة ، أنّ القرآن لم يتعرض لأي نوع من التحريف ، وأن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محمّد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فلا زيادة أو نقصان ، حتى ولو بكلمة واحدة ، أو قل بحرف واحد.

ومن جملة من صرح بهذا من العلماء الأعلام الشيعة (من المتقدمين والمتأخرين) تغمّدهم الله برحمته.

__________________

(1) راجع سورة الطلاق ، الآية العاشرة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الآية

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) )

التّفسير

معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الآية الأولى في سورة الإسراء تتحدّث عن إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف).

وقد كان هذا السفر «الإسراء» مقدمة لمعراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء. وقد لو حظ في هذا السفر أنّه تمّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمرا اعجازيا وخارقا للعادة.

السّورة المباركة تبدأ بالقول :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) .

ثمّ ختمت الآية بالقول :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) . وهذه إشارة إلى أنّ الله

٣٨١

تبارك وتعالى لم يختر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج إلا بعد أن اختبر استعدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام ، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له في الإسراء والمعراج.

واحتمل بعض المفسّرين في قوله تعالى :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أن يكون تهديدا لمنكري هذا الإعجاز ، وأنّ الله تبارك وتعالى محيط بما يقولون وبما يفعلون ، وبما يمكرون!

وبالرغم من أنّ هذه الآية تنطوي على اختصار شديد ، إلّا أنّها تكشف عن مواصفات هذا السفر الليلي «الإسراء» الإعجازي من خلال ما ترسمه له من أفق عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي :

أوّلا : إنّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلا ، لأنّ «الإسراء» في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي ، فيما يطلق على السفر النهاري كلمة «سير».

ثانيا : بالرغم من أنّ كلمة «ليلا» جاءت في الآية تأكيدا لكلمة «أسرى» إلّا أنّها تريد أن تبيّن أن سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تمّ في ليلة واحدة فقط على الرغم من أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدّر بأكثر من مائة فرسخ ، وبشروط مواصلات ذلك الزمان ، كان إنجاز هذا السفر يتطلب أيّاما بل وأسابيع ، لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!

ثالثا : إذا كان مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإنسان في حياته ، فإنّ الآية قد كرّمت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإطلاق وصف العبودية عليه ، فقالت «عبده» للدلالة على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله تبارك وتعالى حتى استحق شرف «الإسراء» حيث لم يسجد جبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشيء سوى الله ، ولم يطعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عداه ، وقد بذل كل وسعه ، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته

٣٨٢

تعالى.

رابعا : تفيد كلمة «عبد» في الآية ، أنّ سفر الإسراء قد وقع في اليقظة ، وأنّ رسول الله سافر بجسمه وروحه معا ، وأنّ الإسراء لم يكن سفرا روحانيا معنويا وحسب ، لأنّ الإسراء إذا كان بالروح ـ وحسب ـ فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في المنام ، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة ، ولكن كلمة «عبد» في الآية تدلّل على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سافر بجسمه وروحه ، لأنّ «عبد» معنى يطلق على الروح والجسد معا.

أمّا الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإسراء والمعراج ، ولم تستطع عقولهم أن تتعامل مع هذه المعجزة كما هي ، فقد عمدوا إلى توجيهها بعنوان الإسراء الروحي في حين أنّه لو قال شخص لآخر : إني نقلتك إلى المكان الفلاني فإنّ المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أنّ هذا الأمر قد تمّ في حالة النوم ، أو أنّه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد من الوهم والتخيّل.

خامسا : لقد كان مبتدأ هذا السفر (الذي كان مقدمة للمعراج كما سنثبت ذلك في محلّه) هو المسجد الحرام في مكّة المكرمة ، ومنتهاه المسجد الأقصى في القدس الشريف.

بالطبع هناك كلام كثير للمفسّرين عن المكان الدقيق الذي انطلق منه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيما إذا كان هذا المكان بيت أحد أقربائه (باعتبار أنّ المسجد الحرام قد يطلق أحيانا ومن باب التعظيم على مكّة المكرمة بأجمعها) أو أنّه انطلق من جوار الكعبة ، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أنّ المنطلق في سفر الإسراء كان من المسجد الحرام.

سادسا : لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن يشاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات العظمة الإلهية ، وقد استمرّ سفر الإسراء إلى المعراج صعودا في السماوات لتحقيق هذا الغرض ، وهو أن تمتلئ روح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر بدلائل العظمة

٣٨٣

الرّبانية ، وآيات الله في السماوات ، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخما إضافيا يوظّفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هداية الناس إلى ربّ السماوات والأرض!

وبذلك فإنّ سفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحلة الإسراء والمعراج لم يكن ـ كما يتصوّر البعض ذلك ـ بهدف رؤية الله تبارك وتعالى ـ ظنّا منهم أنّه تعالى يشغل مكانا في السماوات!!!

وبالرغم من أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفا بعظمة الله سبحانه ، وكان عارفا أيضا بعظمة خلقه ، ولكن «متى كان السماع كالرؤية؟!».

ونقرأ في سورة (النّجم التي تلت سورة الإسراء وتحدثت عن المعراج قوله تعالى :( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

سابعا : إنّ تعبير الآية( بارَكْنا حَوْلَهُ ) تفيد بأنّه علاوة على قدسية المسجد الأقصى ، فإنّ أطرافه أيضا تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن يكون مراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بها تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء من مزايا العمران والأنهار والزراعة.

ويمكن أن تحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إلى ما تمثّله هذه الأرض في طول التأريخ ، من كونها مركزا للنبوات الإلهية ، ومنطلقا لنور التوحيد ، وأرضا خصبة للدعوة إلى عبودية الله.

ثامنا : إنّ تعبير( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) إشارة إلى أنّ إكرام الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعجزة الإسراء والمعراج لم يكن أمرا عفويا عابرا ، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله ، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها الله ويحيط بها.

تاسعا : إنّ كلمة «سبحان» إشارة إلى أنّ سفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسراء والمعراج دليل آخر على تنزيه الله تبارك وتعالى من كل عيب ونقص.

عاشرا : كلمة «من» في قوله تعالى :( مِنْ آياتِنا ) إشارة إلى عظمة آيات الله

٣٨٤

بحيث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على علو مقامه واستعداده الكبير ـ لم ير من هذه الآيات خلال سفره الإعجازي سوى جزء معين منها.

المعراج :

من المعروف والمشهور بين علماء الإسلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان في مكّة! أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ومن هناك صعد به إلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات ، ثمّ عادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفس الليلة إلى مكّة المكرمة.

والمعروف المشهور أيضا أنّ سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسراء والمعراج قد تمّ بجسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه معا.

ولكن العجيب ما يحاوله البعض من توجيه معراج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعراج الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو «المكاشفة الروحية» ولكن هذا التوجيه ـ كما أشرنا ـ لا ينسجم إطلاقا مع ظواهر الآيات ، بل هو مخالف لها ، إذ يدل الظاهر على أنّ القضية تمت بشكل جسمي حسي.

في كل الأحوال تبقى هناك مجموعة أسئلة تثار حول قضية المعراج يمكن أن نلخصها بالشكل الآتي :

١ ـ كيفية المعراج من وجهة نظر القرآن والتأريخ والحديث.

٢ ـ آراء علماء الإسلام شيعة وسنة حول هذه القضية.

٣ ـ الهدف من المعراج.

٤ ـ إمكانية المعراج من وجهة نظر العلوم المعاصرة.

بالرغم من أنّ الإجابة المفصّلة على هذه الأسئلة هي خارج نطاق بحثنا التّفسيري ، إلّا أننا سنعالج هذه النقاط باختصار يناسب ذوق القارئ الكريم. إن

٣٨٥

شاء الله :

المعراج في القرآن والحديث :

في كتاب الله سورتان تتحدثان عن المعراج :

السورة الأولى هي سورة «الإسراء» التي نحن الآن بصددها ، وقد أشارت إلى القسم الأوّل من سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أي أشارت لإسرائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وقد استتبع الإسراء بالمعراج.

السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة «النجم» التي تحدثت عنه في ست آيات هي :( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

هذه الآيات تفيد حسب أقوال المفسّرين أنّ الإسراء والمعراج تمّا في حالة اليقظة ، وإنّ قوله تعالى :( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) هو إثبات آخر لصحة هذا القول.

في الكتب الإسلامية المعروفة هناك عدد كبير جدّا من الأحاديث والرّوايات التي جاءت حول قضية المعراج ، حتى أنّ الكثير من علماء الإسلام يذهب إلى «تواتر» حديث المعراج أو اشتهاره ، وعلى سبيل المثال نعرض للنماذج الآتية :

يقول الشيخ «الطوسي» في تفسير (التبيان) ما نصّه : «إنّه عرج به في تلك الليلة إلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة ، وأراه الله من آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقينا ، وكان ذلك في يقظتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون منامه»(١) .

أمّا العلّامة «الطبرسي» في تفسيره المعروف «مجمع البيان» فيقول : «وما

__________________

(١) تفسير «التبيان» ، للشيخ الطوسي ، المجلد السادس ، ص ٤٤٦.

٣٨٦

قاله بعضهم أنّ ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان ، وقد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج ، في عروج نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ، ورواها كثير من الصحابة [إذ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] صلّى المغرب في المسجد الحرام ثمّ أسري به في ليلته ثمّ رجع فصلّى الصبح في المسجد الحرام. وقال الأكثرون وهو الظاهر من مذاهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم ، أنّ الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه ، ولم يكن ذلك في المنام»(١) .

أمّا العلّامة «المجلسي» فيقول في (بحار الأنوار) ما نصه : «أعلم أنّ عروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس ثمّ إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف ، ممّا دلّت عليه الآيات والأخبار المتواترة من طرق الخاصّة والعامّة ، وإنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إمّا من قلّة التتبع في آثار الأئمّة الطاهرين أو من ضعف اليقين»(٢) .

ثمّ يردف العلّامة المجلسي قائلا : «لو أردت استيفاء الأخبار الواردة في هذا الباب لصار مجلدا كبيرا»(٣) .

ومن علماء السنة قام منصور علي ناصف الأزهري المعاصر بجمع أحاديث المعراج في كتابه المعروف باسم «التاج».

أمّا الفخر الرازي ـ المفسّر الإسلامي المعروف ـ فيقول بعد ذكره لسلسلة من الاستدلالات على إمكان الوقوع العقلي للمعراج ، ما يلي : «من وجهة نظر الحديث تعتبر أحاديث المعراج من الرّوايات المشهورة في صحاح أهل السنّة ، ومفاد هذه الأحاديث إسراء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى بيت المقدس ، وعروجه من بيت

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثالث ، ص ٣٩٥.

(٢) بحار الأنوار ، الطبعة الحديثة المجلد ١٨ ، ص ٢٨٩.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٩١.

٣٨٧

المقدس إلى السماء».

أمّا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهو من متعصبي علماء الوهابية والذي يشغل الآن منصب رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، فيقول في كتابه «التحذير من البدع» : «ليس من شك في أنّ الإسراء والمعراج هي من العلامات الكبيرة على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلو مقامه ومنزلته» إلى أن يقول : «نقلت أخبار متواترة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الله تبارك وتعالى أخذ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفتح له أبواب السماء»(١) .

ولكن ينبغي أن نلاحظ هنا أن من بين الرّوايات الواردة في قضية المعراج ثمّة أحاديث ضعيفة ومجعولة لا يمكن القبول بها مطلقا.

لذلك نرى أن المفسّر الإسلامي الكبير ، الشيخ الطبرسي عمد في ذيل تفسير هذه الآية مورد البحث إلى تقسيم الأحاديث الواردة في المعراج إلى أربع فئات هي :

١ ـ ما يقطع بصحته لتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته ، ومثله أنّه أسري به على الجملة.

٢ ـ ما ورد في ذلك ممّا تجوزه العقول ولا تأباه الأصول ، فنحن نجوزه ثمّ نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته دون منامه ، ومثله ما شاهده من آيات ربّه في السماوات.

٣ ـ ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلّا أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول ، نحو ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى قوما في الجنّة يتنعمون فيها ، وقوما في النّار يعذبون فيها ، فهو يحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

٤ ـ ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلّا على التعسف البعيد فالأولى أن لا

__________________

(١) التخذير من البدع ، ص ٧.

٣٨٨

نقبله ، نحو ما قيل من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّم الله سبحانه جهرة ، ورآه وقعد معه على سريره ممّا يوجب ظاهره التشبيه والله سبحانه وتعالى يتقدّس عن ذلك(١) .

هناك أيضا اختلافات بين المؤرخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج ، إذ يقول البعض : أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ، والبعض يقول : إنّه عرج بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (١٧) رمضان من السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال : إنّ المعراج وقع في أوائل البعثة.

ولكن في كل الأحوال ، فإنّ الاختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة.

من المفيد أيضا أن نذكر أنّ عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين ، بل هناك ما يشابهها في الأديان الأخرى ، بل إنا نرى في المسيحية أكثر ممّا قيل في معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ يقول أولئك كما في الباب السّادس من إنجيل «مرقس» والباب (٢٤) من إنجيل «لوقا» والباب (٢١) من إنجيل (يوحنّا) أن عيسى بعد أن صلب وقتل ودفن نهض من مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوما قبل أن يعرج إلى السماء ليبقى هناك في عروج دائم! ونستفيد من مؤدّى بعض الرّوايات أنّ بعض الأنبياء السابقين عرج بهم إلى السماء أيضا.

هل كان المعراج جسديا أم روحيا؟

إن ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإسراء ، وكذلك سورة النجم (كما فصلنا أعلاه) تدلل على وقوع المعراج في اليقظة ، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإسلام من الشيعة والسنة.

وتشهد التواريخ الإسلامية أيضا على صدق هذا الموضوع ، ونقرأ في التأريخ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثالث ، ص ٣٩٥.

٣٨٩

أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عند ما تحدث بها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوها عليه ذريعة للاستهزاء به ، ممّا يدل بوضوح على أنّ الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبدا، وإلّا لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.

أمّا ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة أنّه : (والله ما فقد جسد رسول الله ولكن عرج بروحه) ، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي ، لإخماد الضجّة التي أثيرت حول قضية المعراج.

هدف المعراج :

اتّضح لنا من خلال البحوث الماضية ، أنّ هدف المعراج لم يكن تجوالا للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السماوات للقاء الله كما يعتقد السذج ، وكما نقل بعض العلماء الغربيين ـ ومع الأسف ـ لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإسلام أمام الآخرين ، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد ، ص ١٢٠) ، (بلغ محمد في سفر معراجه إلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم الله ، ويفهم أنّ الله منهمك في تدوين حساب البشر! ومع أنّه كان يسمع صوت قلم الله إلّا أنّه لم يكن يراه! لأنّ أحدا لا يستطيع رؤية الله وإن كان رسولا).

وهذا يظهر أن القلم كان من النوع الخشبي! الذي يهتز ويولد أصواتا عند حركته على الورق!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام.

كلا. فالهدف كان مشاهدة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسرار العظمة الإلهية في أرجاء عالم الوجود ، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته ، وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإدراك جديدين لهداية البشرية وقيادتها.

ويتّضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأولى من سورة الإسراء ، والآية (١٨) من سورة النجم.

٣٩٠

وهناك رواية أيضا منقولة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في جوابه على سبب المعراج. أنّه قالعليه‌السلام : «إنّ الله لا يوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ، ولكنّهعزوجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه»(١) .

المعراج والعلوم العصرية :

كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية «الأفلاك البطليموسية التسعة» والتي تكون على شكل طبقات البصل في إحاطتها بالأرض ، لذلك فقد أنكر المعراج بمزاعم علمية تقوم على أساس الإيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها يلزم خرق هذه الأفلاك ومن ثمّ التئامها ليكون المعراج ممكنا(٢) .

ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام الأفلاك في خبر كان ، وضمتها يد النسيان ، ولكن التطوّر المعاصر في علم الأفلاك أدّى إلى إثارة مجموعة من الشبهات العلمية التي تقف دون إمكانية المعراج علميا ، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي :

أوّلا : إنّ أوّل ما تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إلى عمق الفضاء هو وجوب الانفلات من قوة الجاذبية الأرضية ، ويحتاج الإنسان للتخلّص من الجاذبية إلى وسائل استثنائية تكون معدّل سرعتها على الأقل (٤٠) ألف كيلومتر في الساعة.

ثانيا : المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي من الهواء ، الذي هو القوام في حياة الإنسان.

ثالثا : المانع الثّالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد ٢ ، ص ٢٠٠.

(٢) بعض القدماء يعتقد بعدم إمكان خرق هذه الأفلاك ثمّ التئامها.

٣٩١

القاتلة ، وذلك بحسب موقع الإنسان في الفضاء من الشمس.

رابعا : هناك خطر الإشاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما وراء البنفسجية وأشعة إكس ، إذ من المعروف أنّ الجسم يحتاج إلى كميات ضئيلة من هذه الإشعاعات ، وهي بهذا الحجم لا تشكّل ضررا على جسم الإنسان ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسر بها بكثرة إلى الأرض. ، ولكن خارج محيط الغلاف الجوّي تكثر هذه الإشاعات إلى درجة تكون قاتلة.

خامسا : هناك مشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإنسان في الفضاء الخارجي ، فمن الممكن للإنسان أن يتعوّد تدريجيا على الحياة في أجواء انعدام الوزن ، إلّا أنّ انتقاله مرّة واحدة إلى الفضاء الخارجي ـ كما في المعراج ـ هو أمر صعب للغاية ، بل غير ممكن.

سادسا : المشكلة الأخيرة هي مشكلة الزمان ، حيث تؤكد علوم اليوم على أنّه ليست هناك وسيلة تسير أسرع من سرعة الضوء ، والذي يريد أن يجول في سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إلى سرعة تكون أسرع من سرعة الضوء!.

في مواجهة هذه الأسئلة :

أوّلا : في عصرنا الحاضر ، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالاستفادة من معطيات العلوم أمرا عاديا ، فإنّ خمسا من المشاكل الست الآنفة تنتفي ، وتبقى ـ فقط ـ مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية البعيدة جدا.

ثانيا : إنّ المعراج لم يكن حدثا عاديا ، بل أمر إعجازي خارق للعادة ثمّ بالقدرة الإلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة المعجزة عقلا ، أمّا الأمور الأخرى فتتم بالاستناد إلى القدرات الإلهية.

وإذا كان الإنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفّر

٣٩٢

حلولا للمشكلات الآنفة الذكر ، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما إلى ذلك ، حتى أصبح بمستطاعه السفر إلى الفضاء الخارجي فألا يمكن لله ـ خالق الكون ، صاحب القدرات المطلقة ـ أن يوفّر وسيلة تتجاوز المشكلات المذكورة؟!

إنّنا على يقين من أنّ الله تبارك وتعالى وضع في متناول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مركبا مناسبا صانه فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات ، ولكن ما اسم هذا المركب هل هو «البراق» أو «رفرف»؟ وعلى أي شكل وهيئة كان؟ كل هذه أمور غامضة بالنسبة لنا ، ولكنّها لا تتعارض مع يقيننا بما تمّ ، وإذا أردنا أن نتجاوز كل هذه الأمور فإنّ مشكلة السرعة التي بقيت ـ لوحدها ـ تحتاج إلى حل ، فإنّ آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أن وجدت لها حلولا مناسبة بالرغم ممّا يؤكّده «إنشتاين» في نظريته من أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة معروفة اليوم.

إنّ علماء اليوم يؤكدون أنّ الأمواج الجاذبة لا تحتاج إلى الزمن ، وهي تنتقل في آن واحد من طرف من العالم إلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسّع الكون (من المعروف أنّ الكون في حالة اتساع وأنّ النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إذ يلاحظ أنّ الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن مركز الكون إلى أطرافه ، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!

إذن ، بكلام مختصر نقول : إنّ المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلا دون وقوع المعراج ، ودون التصديق به ، والمعراج بذلك لا يعتبر من المحالات العقلية ، بل بالإمكان تذيل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة.

وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمرا غير ممكن لا من وجهة الأدلة العقلية ، ولا من وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإضافة إلى ذلك أمر إعجازي

٣٩٣

خارق للعادة. لذلك ، إذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإيمان به(١) .

وأخيرا هناك إشارة أخرى حول المعراج سنقف عليها أثناء الحديث عن سورة النجم إن شاء الله.

* * *

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب : «لكل يريد أن يعرف» والذي يبحث في قضية المعراج وشق القمر بالإضافة إلى قضايا أخرى.

٣٩٤

الآيات

( وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) )

التّفسير

بعد أن أشارت الآية الأولى في السورة إلى معجزة إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا من

٣٩٥

المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، كشفت آيات السورة الأخرى ، عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث ، وأبانت استنكارهم لها ، وعنادهم إزاء الحق ، في هذه الاتجاه انعطفت الآية الأولى ـ من الآيات مورد البحث ـ على قوم موسى ، ليقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ تأريخ النبوات واحد ، وإنّ موقف المعاندين واحد أيضا ، وأنّه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك ، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسىعليه‌السلام .

تقول الآية أوّلا :( وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) .

وصفة هذا الكتاب أنّه :( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسىعليه‌السلام هدى لبني إسرائيل.

ثمّ تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسىعليه‌السلام فتقول :( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ) (١) .

إنّ التوحيد في العمل هو واحد من معالم أصل التوحيد ، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول : لا تتكئ على أحد سوى الله ، وإنّ أي اعتماد على غيره دلالة على ضعف الإيمان بأصل التوحيد. إنّ أسمى معاني التجلّي في هداية الكتب السماوية ، هو اشتعال نور التوحيد في القلوب والانقطاع عن الجميع والاتصال بالله تعالى.

ومن أجل أن تحرّك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإلهية عليهم، خصوصا نعمة نزول الكتاب السماوي ، فإنّها تضع لهم نموذجا للعبد الشكور فتقول :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) (٢) ولا تنسوا :( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) .

__________________

(١) من وجهة التركيب النحوي يقول بعض المفسّرين : إنّ تقدير جملة( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) هو : لئلا تتخذوا وبعضهم قال : «أن» زائدة ، وجملة «قلنا لهم» تقديرها : «وقلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا».

(٢) إنّ جملة :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) جملة ندائية وفي التقدير تكون : يا ذرية من حملنا مع نوح. أمّا ما احتمله البعض من أنّ «ذرية» هي بدل عن «وكيلا» أو مفعول ثان لـ «تتخذوا» فهو بعيد ، ولا يتسق مع جملة( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) .

٣٩٦

والآية تخاطب بني إسرائيل بأنّهم أولاد من كان مع نوح ، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم الله.

«شكور» صيغة مبالغة بمعنى «كثير الشكر» ، وأمّا كون بني إسرائيل ذرية من كان مع نوح ، فإنّ ذلك قد يعود إلى أنّ من في الأرض جميعا ، بعد طوفان نوح ، ومنهم بنو إسرائيل ، هم كلّهم من سلالة الأبناء الثلاثة لنوح ، أي «سام» و «حام» و «يافث» كما ورد في كتب التاريخ ، وممّا لا شك فيه أنّ كل أنبياء الله شكورون ، ولكنّ الأحاديث تعطي ميزة خاصّة لنوح الذي كان دائم الشكر على كل نعمة ففي كل شربة ماء ، أو وجبة غذاء ، أو وصول نعمة أخرى له فإنّه يذكر الله فورا ويشكره على نعمائه.

وفي حديث عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام نقرأ قولهما إنّ نوحا كان يقرأ هذا الدعاء في كل صباح ومساء ، «اللهم إنّي أشهدك أنّ ما أصبح أو أمس بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك ، وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى،وبعد الرضا».

ثمّ أضاف الإمام : «هكذا كان شكر نوح»(١) .

بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل المليء بالأحداث ، فتقول :( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ) .

كلمة «قضاء» لها عدّة معان ، إلّا أنّها استخدمت هنا بمعنى «إعلام» أمّا المقصود من «الأرض» في الآية ـ بقرينة الآيات الأخرى هي ارض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

٣٩٧

إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة الهية فتقول :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ) وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) .

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم :( فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ) .

وهذا الأمر لا مناصّ منه :( وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ) .

ثمّ تشير بعد ذلك إلى أنّ الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم ، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم ، فتقول :( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) (١) .

وهذه المنّة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

إنّ الآية تعبّر عن سنّة ثابتة ، إذ أن محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود إليه نفسه ، فالإنسان عند ما يلحق أذى أو سوءا بالآخرين ، فهو في الواقع يلحقه بنفسه ، وإذا عمل للآخرين ، فإنّما فعل الخير لنفسه ، أمّا بنو إسرائيل ، فهم مع الأسف لم توقظهم العقوبة الأولى ، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجددا ، بل تحركوا باتجاه الإفساد الثّاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبّر.

تقول الآية في وصف المشهد الثّاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء الى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) .

بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس :( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ

__________________

(١) «نفير» اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال ، وقال بعض : هي من «نفر». و «نفر» في الأصل على وزن «عفو» تعني الارتحال والإقبال على شيء. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شيء بأنها في حالة «نفير».

٣٩٨

مَرَّةٍ ) .

وهم لا يعكفون بذلك ، بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمرّونا عن آخرها :( وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) وفي هذه الحالة فإنّ أبواب التوبة الإلهية مفتوحة :( عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) .

( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) أي إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة ، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم :( وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ) (١) .

* * *

ملاحظات

الأولى : الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل :

تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل ، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو ، وقد لاحظنا أنّ الله سلّط على بني إسرائيل عقب كل فساد رجال أشدّاء شجعانا يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم ، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدّه الله لهم.

وبالرغم من اتساع تاريخ بني إسرائيل ، وتنوّع الأحداث والمواقف فيه ، إلّا أنّ المفسّرين يختلفون في كل المرّات التي يتحدّث القرآن فيها عن حدث أو موقف من تاريخ بني إسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرّض فيما يلي للنماذج الآتية :

أوّلا : يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأنّ أول من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضاربا فيه لسبعين عاما ، إلى

__________________

(١) «حصير» مشتقة من «حصر» بمعنى الحبس ، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير». ويقال للحصير العادية حصيرا لأنّ خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.

٣٩٩

أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثّاني الذي تعرّض له ، فقد كان من قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تمّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و «أسييانوس» لأنّ الأحداث الأخرى في تاريخ بني إسرائيل لم تفن جمعهم ، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرّة ، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن «كورش» حيث اجتمع شملهم مجددا وحررهم من أسر بابل وأعادهم إلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس ، إلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم ، وذهبت قوتهم وشوكتهم(١) .

لقد استمر بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرّد إلى أن أعانتهم القوى الدولية الاستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم من جديد.

ثانيا : أمّا «الطبري» فينقل في تفسيره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المراد في الفساد الأوّل هو قتل بني إسرائيل لزكرياعليه‌السلام ومجموعة أخرى من الأنبياءعليهم‌السلام ، وأنّ المقصود من الوعد الأول ، هو الانتقام الإلهي من بني إسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأمّا المراد من الفساد الثّاني فهو الفوضي والاضطراب الذي قام به «بنو إسرائيل» بعد تحريرهم من بابل بمساعدة أحد ملوك فارس ، وما قاموا به من فساد. أمّا الوعد الثّاني ، فهو هجوم «أنطياخوس» ملك الروم عليهم.

وبالرغم من انطباق بعض جوانب هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ، إلّا أنّ راوي الحديث الذي يعتمد عليه «الطبري» غير ثقة ، بالإضافة إلى عدم تطابق تاريخ «زكريا» و «يحيى» مع تاريخ «نبوخذ نصر» و «أسييانوس أو أنطياخوس» إذا يلاحظ أن «نبوخذ نصر» عاصر «أرميا» أو «دانيال» النّبي كما يرى بعض

__________________

(١) يراجع تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤٤ فما فوق.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496