الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 238028 / تحميل: 7597
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

كان موقف سيد الشهداء الامام الحسين (ع) من قضية الصلح كموقف أخيه الحسن (ع) ، فكان يرى ضرورة المهادنة ، ولزوم المسالمة ، وانه ليس من الحكمة ، ولا من الصالح فتح باب الحرب مع معاوية ، فانه يعود بالمضاعفات السيئة على الإسلام ، ويجر الويلات والخطوب للمسلمين وذلك لتفلل الجيش الذي نزح معهم ، فقد ذكرنا فى البحوث السابقة الخيانات المفضوحة التي ظهرت من أغلب الأمراء والوجوه ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وضمانهم له الفتك بالامام الحسن ، أو تسليمه أسيرا له ، فكيف يحاربه بهذه القوى الغادرة التي تبغي له الغوائل ، وتتربص به الفرص للفتك به؟

إن الإمام الحسين (ع) كان من رأيه أن يستجيب أخوه للصلح ، ولا يناجز معاوية نظرا للعوامل المريرة التي أحاطت به حتى جعلت من المستحيل التغلب على معاوية ، والانتصار عليه ، فما عمله الامام الحسن من الصلح كان أمرا متعينا ، ولا سبيل لغيره ـ كما أوضحنا ذلك في أسباب الصلح ـ ، فكيف يخالف الإمام الحسين أخاه في ذلك ، ولا يقره عليه.

وزعم بعض المؤرخين ان الإمام الحسين (ع) كان كارها لما فعله أخوه ، وانه قال له :

« أنشدك الله أن تصدق احدوثة معاوية ، وتكذب احدوثة أبيك!! » فأجابه الحسن :

« أنا أعلم بهذا الأمر منك »(1) .

ورووا أيضا : « ان الحسن (ع) قال لابن عمه عبد الله بن جعفر :

« إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه » فانبرى إليه ابن جعفر قائلا :

__________________

(1) أسد الغابة وغيره.

٢٤١

« ما هو »؟

« رأيت أن أعمد الى المدينة فأنزلها ، وأخلي بين معاوية ، وبين هذا الحديث ، فقد طالت الفتنة ، وسفكت فيها الدماء ، وقطعت الأرحام ، وعطلت الفروج »(1) .

فأيد ابن جعفر رأيه قائلا :

« جزاك الله عن أمّة محمد خيرا ، وأنا معك ».

ثم بعث نحو الحسين ، فلما مثل بين يديه قال له :

« إني رأيت رأيا ، وأحب أن تتابعني عليه ».

« ما هو؟ »

فذكر له رأيه في ذلك.

فانبرى الحسين وهو غضبان قائلا :

« أعيذك بالله أن تكذب عليا في قبره ، وتصدق معاوية ».

فتأثر الحسن من كلامه ، وقال له :

« والله ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه الى غيره ، والله لقد هممت أن أقذفك فى بيت فأطينه عليك ، حتى أقضى أمري ».

فلما رأى الحسين غضب أخيه وجدّه في الأمر انسحب عن فكرته وتنازل عن رأيه وقال له بصوت خافت : « أنت أكبر ولد عليّ ، وأنت خليفتي ، وأمرنا لأمرك متبع ، فافعل ما بدا لك »(2) .

لا شك في افتعال ذلك كله وانه من الموضوعات لأن الامام الحسينعليه‌السلام كان عالما بالعلل والأسباب التي الجأت أخاه الى الصلح والزمته

__________________

(1) الفروج : الثغور.

(2) تأريخ ابن عساكر الكبير 4 / 21.

٢٤٢

بالمسالمة ، فان رأيه في الصلح كان موافقا لرأي أخيه لا يخالفه ولا يختلف عنه ، ويدل على ذلك ان الإمام الحسن لما أبرم الصلح أقبلت الى الامام الحسين طائفة من الزعماء والوجوه يطلبون منه أن ينقض ما أبرمه أخوه ويناجز معاوية فأبى (ع) وامتنع ، ولو كان رأيه مخالفا لرأي أخيه لأجابهم الى ذلك ، ولما انتقل الإمام الحسن (ع) الى حظيرة القدس رفعت إليه طوائف من زعماء العراق عدة رسائل يطلبون منه اعلان الثورة على معاوية فامتنع من اجابتهم وقال لهم :

« ما دام معاوية في قيد الحياة فلا اتحرك بكل شيء ، وإذا مات نظرت في الأمر »(1) .

إن امتناعه من القيام بالأمر ما دام معاوية حيا يدل بصراحة أنه كان يرى ضرورة المهادنة والمسالمة المؤقتة ، فان الثورة لا تنتج ولا التضحية تجدي شيئا مع وجود معاوية لأنه يلبسها ثوبا يخرجها عن اطار الإصلاح كما أوضحنا ذلك فيما تقدم ، نعم لا شك ان الصلح قد ترك في نفس الحسين أسى مريرا وحزنا مرهقا كما ترك في نفس الحسن أيضا لوعة وحزنا ، ولكنهما سلام الله عليهما ما ذا يصنعان والظروف لم تكن مواتية لهما حتى يقوما بمناجزة معاوية.

ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته انه جاء في الرواية الثانية ان الإمام قال لأخيه الحسين.

« ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه ».

ان هذا الكلام شاهد على الافتعال والوضع لأن الإمام الحسينعليه‌السلام تصده مثله العليا عن مخالفة أخيه وعدم طاعته له فقد تربيا معا

__________________

(1) الارشاد ص 206 وغيره.

٢٤٣

في حجر المشرع الأعظم ، وأفاض عليهما مثله وتهذيبه وهديه حتى صارا صورة صادقة عنه ، فكيف يخالف أوامر أخيه ولا يطيعه فى أمر يعود بالصالح العام لجميع المسلمين ، إن الامام الحسين كان يكبر أخاه ويجله ولا يخالف له أمرا. فقد روى حفيده الإمام الباقر (ع) عن مدى اجلاله وتعظيمه له قال :

« ما تكلم الحسين بين يدي الحسن اعظاما له »(1) .

وبعد هذا التقدير والإكبار هل يصح أن يقول الحسن لأخيه ما أردت أمرا إلا خالفتني عليه.

وانجرف الدكتور طه حسين بهذه الرواية المفتعلة فقال :

« كره صلح أخيه وهمّ أن يعارض ، فأنذره أخوه بأن يشدّه في الحديد حتى يتم الصلح ».

وقال : « وكان الحسين يعيب الصلح لأنه إنكار لسيرة أبيه ».

وقال أيضا : « رأى الوفاء لأخيه حقا فوفى له ، وأطاعه كما أطاع أباه من قبله. وما أشك في أنه أثناء هذه السنين التي قضاها فى المدينة بعد صلح أخيه كان يتحرق تشوقا الى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد حيث تركه أبوه »(2) .

أما قوله : « كره صلح أخيه وهمّ بالمعارضة ، فأنذره أخوه بأن يوثقه في الحديد ، وانه كان يعيب عليه لأنه إنكار لسيرة أبيه » ، فيرده انه لو كان كارها لذلك لأجاب الكوفيين الى مناجزة معاوية بعد ما جرى

__________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب 2 / 143.

(2) الفتنة الكبرى 2 / 213 وعول على الروايات المصطنعة الاستاذ محمود العقاد في أبي الشهداء.

٢٤٤

الصلح ، ولأعلن الثورة عليه بعد موت أخيه ، مضافا الى انه لو كان الصلح مخالفا لسيرة أمير المؤمنين (ع) لما سكت الحسين لحظة واحدة لأن السكوت عن الحق جبن ومعصية ، ولو كان مخالفا لسيرة أمير المؤمنين التي هي سيرة رسول الله (ص) لما أبرم الحسن (ع) الصلح ونفذه ، نعم كان الحسين يتحرق شوقا الى الجهاد تحرق الظمان الى الماء ، قد انطوى قلبه على شجى مكتوم وحزن مرهق ولكنه لم ينفرد بذلك ، فقد شاركه أخوه في جميع محنه وأشجانه ، وكانا معا يترقبان بفارغ الصبر الفرصة السانحة للثورة على حكومة أميّة ، ولكن الفرصة التي يؤمل بها النصر والفتح كانت معدومة ما دام معاوية حيا ، فان فتح باب الحرب معه يعود بالضرر البالغ على الإسلام والمسلمين.

بقي هنا شيء لم نذكره في أسباب الصلح ، وهو انه لما ذا لم يفتح الإمام الحسن باب الحرب مع معاوية ، وإن عدم الناصر والمعين فيستشهد كما استشهد أخوه سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهذه الشبهة قد ذهب إليها بعض الناقدين للصلح ، ولندع الجواب الى إمام من أئمة المسلمين وهو آية الله المغفور له السيد عبد الحسين شرف الدين فقد كشف الغطاء عنها في مقال عنوانه ( ثورة الحسين صدى لصلح الحسن ) وقد نشر في أغلب الصحف المحلية ، نذكره بأسره لما فيه من مزيد الفائدة قالرحمه‌الله :

« كان بنفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمد ، فى نفوس غير المتمكنين فى فهم التأريخ فهما صحيحا وكثير من هؤلاء لا يرجعون الى مصدر علمي في وزن هؤلاء النفر من أهل البيت ، واخضاع حركاتهم في حالتي مدها وجزرها للمبدإ الأسمى ،

٢٤٥

الذي طوعهم لخدمته ، وأفنى ذواتهم في ذاته ، فكانوا ينقبضون حين يشاء لهم الانقباض ، وينبسطون حين يشاء لهم الانبساط كذلك ...

كان بنفسي أن أرد هذه الشبهة عن أبي محمد السبط باقامة هذا الميزان العلمي الذي يجلو هذه الحقيقة ، ويكشف خدرها ، غير أن واردا ثقيلا من المشاغل التي تنتهي كان يصرفني عما بنفسي من ذلك ، فها أنا الآن أوجز الإشارة الى هذه الشبهة ودفعها ، وعسى أن تعود هذه النواة غرسا أتعهده أنا بما ينميه إن سنحت الفرصة أولا فينميه قلم من هذه الأقلام الصقيلة ، المغموسة بقلوب الأحرار ، وعقول العلماء من خدام الحقائق.

أما الشبهة فقديمة كقدم النظر القاصر فيمن يأخذون من الأشياء بالظاهر والملمون بتأريخ الحسن (ع) يعرفون أن قوما من صحابته أخذوا عليه قعوده عن حرب معاوية ، ومناجزته إياه القتال ، حتى لأوشك أن يذهب يومئذ ضحية هذه الفتنة ، وحتى دخل عليه خاصته بسلام غليظ يقولون فيه : « السلام عليك يا مذل المؤمنين » ..!

وقد يكون لهؤلاء عذر بحماستهم التي نعرفها لذوي النجدة من فتيان الايمان الذين تغلب فيهم عاطفة الحماسة ، واستقرار الروية وبعد النظر.

وقد يكون ذلك ولكنا لا نقصد الآن الى الاعتذار لهم بل نريد أن نثبت طرف هذه الشبهة عن الأول لنراها تتسلسل منه فتظهر بين حين وآخر طورا على لسان أوليائه ، وتارة على لسان أعدائه ، وهي هنا وهناك لا تظهر إلا لتدل على جهل هؤلاء وأولئك.

فنحن حين نزن صلحهعليه‌السلام وحربه ترجح كفة الصلح من حيث اعتبرت المعايير المرعية ، وكن إن شئت ( ماديا ) ، أو كن ( روحيا )

٢٤٦

تتجاوز بايمانك وفهمك مدى المحسوسات المرئية.

كن أول الأمر ماديا وناقش حرب الحسن في جيش حكم على نفسه بالهزيمة ، قبل أن يخوض المعركة ، وغزاه معاوية الذي ثبت لعلي من قبل ولعلي معنوية عسكرية ترجف الأرض من خيفتها ، مضافا الى معنوياته الأخرى التي لم يكن الحس يتمتع بمثلها فى نفوس معاصريه ، بحكم انضوائه الى لواء أبيه.

نعم لك أن تقول كان على الحسن أن يستشهد فيموت عزيزا ، ولكن أعد النظر في تاريخ هذه الفترة لترى أن الاستشهاد فيها ينمسخ الى معنى من معاني ( الخروج ) فلم تكن يومئذ حقيقة وطنية ثابتة ، ولا روح مبدئية مستقرة لتكون التضحية تضحية مقررة القواعد وليس أتفه ـ فى هذه الحال ـ من الموت يعين على صاحبه ويميته مرة أخرى فى معناه.

كانت الحياة الإسلامية تنتكس حقا ، وتتحول الى ملك عضوض وكانت المطامع تتجند في ركاب الملك هاربة من حواشي الخلافة ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بوسيلة الإسلام وظاهر مبادئه في ( وصولية ) صاغها معاوية بدهائه ، وكان هذا وحده عذرا للحسن من ناحيتين.

1 ـ كان عذره في الصلح لأن ( الدنيا ) كانت تظاهر معاوية فتستلب منه ابن عمه وقائد عسكره.

2 ـ ثم كان عذره في القعود عن الشهادة لأن ذلك بعينه ليس ظرف الشهادة ، لأنه كان قادرا على مسخها.

فأي ربح مادي في الموت لو اختاره الحسن كما يريد هؤلاء ، غير انه يعين معاوية على نفسه حيا وميتا.

إننى لا أرى شيئا أدل على عظمة الحسن من هذه السياسة المادية التي

٢٤٧

حددت موقفه على هذا النحو في أخطر دور مرّ به الإسلام. فكانت نواة لقلب الحكم الأموي ، وفضح ، كما كانت مادة ذلك البارود الجبار الذي انفجر في مصرع الحسين (ع) ذلك الانفجار ، ولو لم يكن موقف الحسن هذا لأتيح لمعاوية سلطان لا يعرف الناس منطوياته ، ولما اتيح للحسين أن يكون الفداء الخالد للمبدإ الخالد.

وبعد إن كنت ماديا فكن ( روحيا ) وناقش حرب الحسن لتجتمع لك الاعتبارات كلها على رجحان كفة الصلح.

الحسن (ع) ليس من طلاب ( الامرة ) لذات الامرة ، بل هو ممن يريدون الخلافة وسيلة للإصلاح ، وإقامة العدل والسلام بين الناس ، وما أظن هذه العقيدة الروحية تعدم دليلها المادي ، فأبوه وجده أثبتا فى الإسلام انهما كذلك ، وله قبل الإسلام إرث ينهض دليلا على انه من معدن مصلح لا يطلب النفوذ إذا استغنى عن فعل الخير.

ومن هنا كان سهلا عليه أن يتنازل عن الخلافة لأنه في فترة لا تقدر هي على ابداء الخير في ظل ذلك الجيل المكبوت المشتاق الى الشهوات يصيب منها فوق كفايته على موائد معاوية ، بل لقد كان الواجب عليه أن يتنازل مع عدم القدرة على تذليل العقبة من اخضاع ( الأموية ) المندفعة ، لأن تنازله يأتي وفق الخطة التي رسمتها له مبادئه.

وليس عائبو تنازله أشد احساسا منه بالام التنازل وهو المجروح ، ولكنها التضحية الضخمة فرضت عليه أن يتحمل آلام القعود التي كتبتها عليه مثله العليا ، ومبادئه الحسنى.

وهي تضحية لا تقل قدرا ـ إن لم تزد ـ عن تضحية الحسين (ع) وكن الآن ما شئت ، كن ماديا ، أو كن روحيا فستنتهي آخر الأمر

٢٤٨

الى نتيجة رائعة ، وهي ان صلح الحسن مصدر من أكبر مصادر ثورة الحسين التحريرية ، والى أن جوهر التضحية واحد عند الاماميين وإن اختلف مظهرهما.

والحق ان يوم الطف كان صدى ليوم المدائن صلى الله على سيدي شباب أهل الجنة ، ونفع المسلمين بذكرياتهما المجددة المتجددة ، ووفق العرب والمسلمين الى الاهتداء بهديهما فى مرحلتهم الصعبة هذه »(1) .

ورأي سماحة الامام شرف الدين رأي وثيق تعضده الأدلة ويسنده المنطق العلمي من جميع جهاته ، والحق إنه (ع) لو ضحّى بنفسه لذهبت تضحيته معدومة الأثر ، لا تقيم حقا ، ولا تغير باطلا ، لأن معاوية بمكره وخداعه ، يلقي المسئولية على الحسن ، ويبرئ نفسه عن ارتكاب الجريمة ، فيقول للناس : « إني دعوت الحسن للصلح ، ولكن الحسن أبى إلا الحرب وكنت اريد له الحياة ، ولكنه أراد لي القتل ، وأردت حقن الدماء ، ولكنه أراد هلاك الناس بينى وبينه » ومعاوية له هذه القابليات التي يظهر بها نفسه مظهر العادل المنصف ، وبذلك تكون التضحية مسلوبة الأثر معدومة الفائدة.

وأما الحسين (ع) فقد جاءت تضحيته الخالدة موافقة لظرفها الملائم ومنسجمة مع مقتضيات الزمن ، لأن الأثيم يزيد ليس معه من يدير شئونه ويردعه عن طيشه وغروره ، فقد هلكت تلك العصابة التي كان يعتمد عليها معاوية في تدبير شئونه كابن العاص ، والمغيرة وأمثالهما من دهاة العرب ،

__________________

(1) جريدة الساعة الغراء عددها الخاص بسيد الشهداء (ع) من السنة 4 بعدد 908 ، ونشرتها مجلة الغرى الزاهرة بعددها الخاص بالامام الحسين (ع) من السنة 9 العدد 11.

٢٤٩

ولم يبق منهم معه أحد ، فلذا نهض الامام الحسينعليه‌السلام بتلك النهضة الموفقة التي جاءت بالنهاية المحتومة لدولة أميّة.

وبالجملة إن مهادنة الحسن وشهادة الحسينعليهما‌السلام قائمتان على فكرة عميقة منبعثة من وحي جدهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو لا صلح الامام الحسن ، وشهادة أخيه سيد الشهداء لما بقي للإسلام اسم ولا رسم ، وقد صرّح بهذا الامام كاشف الغطاء في مقدمته للجزء الأول من هذا الكتاب ، قالرحمه‌الله :

« إنه كما كان الواجب والمتعين الذي لا محيص عنه في الظروف التي ثار بها الحسين سلام الله عليه على طاغوت زمانه أن يحارب ويقاتل حتى يقتل هو وأصحابه ، وتسبى عياله ودائع رسول الله (ص) كما كان هذا هو المتعين فى فن السياسة ، وقوانين الغلبة والكياسة مع قطع النظر عن الأوامر الالهية ، والمشيئة الأزلية ، كذلك كان المتعين والواجب الذي لا محيص عنه في ظروف الحسن (ع) وملابساته هو الصلح مع فرعون زمانه ، ولو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسينعليهما‌السلام لما بقي للإسلام اسم ، ولا رسم ، ولضاعت كل جهود محمد (ص) وما جاء به للناس من خير وبركة ورحمة ».

نعم : لو لا صلح الحسن ، وشهادة الحسين لقضي على الاسلام ولف لواؤه ، فإن الحسنعليه‌السلام بصلحه فضح معاوية وأظهر عداءه السافر للإسلام والمسلمين ، والحسينعليه‌السلام بتضحيته وشهادته فتك بدولة أميّة وقضى عليها وعلى كل ظالم مستبد ، وأعطى الدروس الخلاقة لكل مصلح يريد أن يثور على الظلم والطغيان والاستغلال.

٢٥٠

اجتماع الإمام بمعاوية

٢٥١
٢٥٢

لعل أقسى محنة اجتازتها نفس أي انسان كان هي التي ألمّت بالامام الحسن (ع) حينما اجتمع بابن أبي سفيان ، فقد أودع ذلك الاجتماع ألما مرهقا ، وأسى مرّا ، استوعب نفسه الشريفة ، ذلك لأنه رأى باطل معاوية قد استحكم وجوره قد انتصر ، وزاد في أساه ما ستعانيه الأمّة في دور هذا الطاغية من الماسي والشجون ، فترك ذلك أعمق الألم والحزن في نفسه.

لقد اجتمع الامام ـ على كره ـ بمعاوية ، وكان الاجتماع بالنخيلة(1) وقيل بالكوفة(2) ، وقد حضرته جموع حاشدة من المسلمين ، تنتظر بفارغ الصبر ما يفوه به الملك الظافر من الأمن والرفاهية وما يبسطه على الناس من العدل ، وما عسى معاوية أن يفعل في هذه الساعة الرهيبة ، إنه اعتلى المنبر فأظهر خبث ذاته ، وسوء سريرته ، واعلن ما يضمره للمسلمين من الشر والارهاق ، كما أظهر لهم السر في الحرب التي أثارها على أمير المؤمنين وولده الحسن قائلا :

« أيها الناس ، ما اختلف أمر أمّة بعد نبيها إلا وظهر أهل باطلها على أهل حقها ».

ولما افتتح خطابه بهذا القول الذي حكى فيه الواقع التفت الى أنه قد عنى به نفسه فندم على ذلك فاستدرك قائلا :

« إلا هذه الأمّة ».

ثم وجه خطابه القاسي الى العراقيين معربا لهم عن حقيقة الحرب التي أثارها عليهم ، وإن الهدف الأقصى الذي ينشده من وراء ذلك إنما هو

__________________

(1) ابن أبي الحديد 4 / 16 وذكر ان خطبة معاوية الآتية القاها في النخيلة

(2) اليعقوبي 2 / 192 الارشاد 170.

٢٥٣

الملك ، لا الطلب بدم عثمان قائلا :

« والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتحجوا ، ولا لتزكوا ، إنكم لتفعلون ذلك ، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون ».

ثم صرح بعد ذلك بعدم التزامه ووفائه بالشروط التي أعطاها للإمام فقال :

« ألا إن كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين(1) ولا يصلح الناس إلا ثلاث : اخراج العطاء عند محله ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فان لم تغزوهم غزوكم ».

حقا ان هذا هو التمادي في الإثم ، وكان عبد الرحمن بن شريك(2) إذا حدّث بذلك يقول : « والله هذا هو التهتك ». ويقول أبو اسحاق السبيعي ، وهو ممن روى خطاب معاوية : « كان والله غدارا ».

وأخذ معاوية يكيل السب والشتم الى أمير المؤمنين (ع) وولده الحسن غير مستأثم من ذلك ولا متحرج ، وقد خرق بذلك أبرز بنود المعاهدة التي وقع عليها.

__________________

(1) وفى رواية أبي اسحاق السبيعي : « ألا وإن كل شيء اعطيت الحسن ابن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به » ، ذكر ذلك ابن أبي الحديد فى النهج ، وقريب منه ذكره المفيد في الارشاد.

(2) عبد الرحمن بن شريك النخعي الكوفي ، روى عن أبيه ، وروى عنه البخاري فى كتاب الأدب ، عدّه ابن حبان فى الثقات ، وقال : ربما أخطأ ، توفى سنة 227 ه‍ جاء ذلك في تهذيب التهذيب 6 / 194.

٢٥٤

خطاب الامام الحسن :

وطلب معاوية من الإمام أن يعتلي منصة الخطابة ليبين للناس تنازله عن الأمر. وقيل ان ابن العاص أشار عليه بذلك ليظهر للناس ـ بحسب زعمه ـ عي الإمام وعدم مقدرته على الخطاب ، وقد أخطأ في ذلك ، فان الإمام قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه ، وبعد وفاته ولم يعرف عنه العي والحصر ، لأنه من أهل بيت كانوا معدن الفصاحة والبلاغة ، وفصل الخطاب ، وانبرى الإمام الى أعواد المنبر والناس كلهم أذن صاغية وهم ما بين راغب وراغم ، فخطبهم خطبة طويلة كانت فى منتهى الروعة والبلاغة ، وعظ فيها الناس ، ودعاهم الى الالفة والمحبة ، وصوّر فيها الأحداث الرهيبة التي جرت على أهل البيت بعد وفاة النبيّ (ص) وعزى ما جرى عليهم من المحن والخطوب الى الصدر الأول الذين نزعوا الخلافة منهم ، وردّ في آخر خطابه على معاوية ، وهذا نص خطابه :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ، وائتمنه على الوحيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أما بعد : فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له سوءا ، ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا عليّ رأي غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه

٢٥٥

المحبة والرضا. »(1)

ثم التفت الى الجماهير فقال لها :

« أيها الناس ، إن أكيس الكيس التقى ، وأحمق الحمق الفجور ، والله لو طلبتم ما بين جابلق(2) وجابرس(3) رجلا جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين ، وقد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد (ص) فأنقذكم به من الضلالة ، ورفعكم به من الجهالة ، وأعزكم به بعد الذلة ، وكثركم به بعد القلة ، إن معاوية نازعني حقا هو لي دونه ، فنظرت لصلاح الأمّة ، وقطع الفتنة ، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالمون من سالمت ، وتحاربون من حاربت ، فرأيت أن أسالم معاوية ، واضع الحرب بيني وبينه ، وقد بايعته ، وقد رأيت أن حقن الدماء خير من سفكها ، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم ، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع الى حين »(4) .

__________________

(1) الارشاد ص 169.

(2) جابلق : بالباء الموحدة المفتوحة واللام المسكنة ، روي عن ابن عباس أنها بأقصى المغرب واهلها من ولد عاد ، جاء ذلك في المعجم 3 / 32.

(3) جابرس : مدينة بأقصى المشرق ، زعم اليهود أن أولاد نبيهم موسىعليه‌السلام هربوا اما فى حرب طالوت أو في حرب بخت نصر ، فسيرهم الله وأنزلهم فى هذا الموضع فلا يصل إليهم أحد ، وقد طويت لهم الأرض وجعل عليهم الليل والنهار سواء حتى انتهوا الى ( جابرس ) فسكنوا فيها ، ولا يحصي عددهم إلا الله ، فاذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا : ( لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك ) ، وبهذا الاعتبار يستحلون دمه جاء ذلك في المعجم 3 / 33.

(4) كشف الغمة ص 170.

٢٥٦

وأخذ (ع) يبين ظلامة أهل البيت فقال :

« وإن معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا ، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب الله عز وجل وعلى لسان نبيه ، ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض الله نبيه ، فالله بيننا وبين من ظلمنا ، وتوثب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ، ومنع أمّنا ما جعل لها رسول الله ، واقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتها ، ولما طمعت فيها يا معاوية ، فلما خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء ، أنت وأصحابك. وقد قال رسول الله : ما ولت أمّة أمرها رجلا وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنو اسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم واتبعوا السامري ، وتركت هذه الأمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول الله يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة ، وقد رأوا رسول الله نصب أبي يوم غدير خم ، وأمرهم أن يبلغ أمره الشاهد الغائب ، وهرب رسول الله من قومه وهو يدعوهم الى الله حتى دخل الغار ، ولو انه وجد أعوانا لما هرب ، كفّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يغث. فجعل الله هارون في سعة حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ، وجعل الله النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا. وكذلك أبي وأنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأمّة. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضا. »(1)

والتفت الى حضار الحفل فقال لهم.

__________________

(1) البحار 10 / 114.

٢٥٧

« فو الذي بعث محمدا بالحق ، لا ينقص من حقنا ـ أهل البيت ـ أحد إلا نقصه الله من عمله ، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ولتعلمن نبأه بعد حين. »

والتفت (ع) الى معاوية فردّ عليه سبه لأبيه فقال له :

« أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر وأمىّ فاطمة ، وأمك هند ، وجدي رسول الله ، وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة ، وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!! »

وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الحفل بقول :

« آمين آمين ».

وما سمع أحد هذا الخطاب إلا شاركهم بقول : آمين ونحن نقول : آمين آمين.

وهذه الخطبة أبلغ خطبة عرفها التأريخ ، فقد وضع الإمام فيها النقاط على الحروف ـ كما يقولون ـ وصوّر الموقف الدقيق الذي هو فيه ، وربط بين الأحداث التي واجهها ، وبين الأحداث التي جرت على أبيه وانها جميعا تستند الى من تقمص الخلافة بعد وفاة النبي (ص) ، فلولاهم لما طمع معاوية في الخلافة ونازعه فيها.

موقف الزعيم قيس :

ولما سمع الزعيم الحديدي قيس بن سعد بالنبإ المؤلم جمد دمه واستولت عليه موجة من الهموم ، وغشيته سحب من الأحزان حتى تمنى مفارقة الحياة وجعل يردد في دخيلة نفسه :

كيف سالم أمير الحق أمير الباطل؟!!!

٢٥٨

ووقف وهو حائر اللب ، خائر القوى يريد أن ينقل قدمه من الأرض فلم يتمكن ، قد مشت الرعدة بأوصاله ، والحيرة بصدره ، وسرى الألم العاصف في محيّاه ، ثم انفجر باكيا وهو ينظم ذوب الحشا قائلا :

أتاني بأرض العال من أرض مسكن

بأن إمام الحق أضحى مسالما

فما زلت مذ بينته متلددا

أراعي نجوما خاشع القلب واجما(1)

والتفت الى الجيش وقد علاه الانكسار واستولى عليه الجزع والذهول قائلا بصوت خافت حزين النبرات :

« اختاروا إحدى اثنتين ، اما قتال بغير إمام ، واما أن تبايعوا بيعة ضلال؟!! »

فأجابوه وقد علاهم الذل والهوان قائلين :

« بل نقاتل بغير إمام ».

وزحفوا الى جموع أهل الشام فضربوهم حتى أرجعوهم الى مصافهم واضطرب معاوية من ذلك أشد الاضطراب ، فراسل قيسا يمنّيه ويتوعّده

فأجابه قيس :

« لا والله ، لا تلقاني إلا وبيني وبينك السيف أو الرمح ».

ولما يئس منه معاوية أرسل إليه رسالة يشتمه فيها ويتوعّده وهذا نصها :

« أما بعد : فإنك يهودي تشقى نفسك ، وتقتلها فيما ليس لك ، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك ، وإن ظهر أبغضهم إليك ، نكّل بك وقتلك ، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الجذ ، وأخطأ المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، فمات بحوران غريبا والسلام ».

فاجابه قيس :

__________________

(1) المناقب 2 / 167.

٢٥٩

« أما بعد : فإنما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرها ، واقمت فيه فرقا ، وخرجت منه طوعا ، ولم يجعل الله لك فيه نصيبا ، لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك ، ولم تزل حربا لله ولرسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين ، وعدوّا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده. وذكرت أبي فلعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا تشق غباره ، ولا تبلغ كعبه ، وزعمت أني يهودي ابن يهودي وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ، وانصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام ».

وحكت هذه الرسالة حقيقة معاوية وواقعه ، ولمّا قرأها انتفخت أوداجه ، وورم أنفه ، فأراد أن يجيبه ، ولكن الداهية الماكر وزيره ابن العاص نهاه عن ذلك قائلا له :

«!! فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا ، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس ».

واستصوب معاوية رأي ابن العاص فأعرض عن الشدة والعنف(1) وبعث إليه رسالة جاء فيها :

« على طاعة من تقاتل؟ وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك ».

ولم يقتنع قيس بذلك وبقي مصرا على رأيه ، ولكن معاوية خاف من الفتنة ومن تطور الأحداث فبعث إليه طومارا ختم في أسفله ، وقال للرسول قل له فليكتب فيه ما شاء وغاظ ذلك ابن العاص ، لأن فيه نوعا

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 15 ، وذكر المسعودي في مروج الذهب 2 / 319 ، إن هذا الحديث دار بين معاوية وقيس في حياة أمير المؤمنين (ع) حينما كان قيس عاملا له على مصر.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

المؤرخين ، وقيامه قد تمّ في حدود (٦٠٠) سنة قبل زمان يحيىعليه‌السلام ، لذلك كيف يقال : إنّ قيام نبوخذ نصر كان للانتقام من دم يحيىعليه‌السلام ؟!

ثالثا : وقال آخرون : إنّ بيت المقدس شيّد في زمن داود وسليمانعليهما‌السلام ، وقد هدمه «نبوخذ نصر» وهذا هو المقصود من إشارة القرآن إلى الوعد الأوّل. أمّا المرّة الثّانية ، فقد بني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك «طيطوس» الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن «طيطوس» يطابق «طرطوز» الذي ذكر في التّفسير السابق) وقد بقي على خرابه إلى عصر الخليفة الثّاني عند ما فتح المسلمون فلسطين(١) . والملاحظ في هذا التّفسير أنّه لا يفترق كثيرا عمّا ورد في مضمون التفسيرين أعلاه.

رابعا : في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير ، نلاحظ أنّ هناك تفسيرا آخر يورده «سيد قطب» في تفسير «في ظلال القرآن» يختلف فيه مع كل ما ورد ، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي ، بل تتعلقان في المستقبل ، فيقول : «فأمّا إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) ثمّ يقول : «ولقد عادوا إلى الإفساد فسلّط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلّها. ثمّ عادوا إلى الإفساد وسلّط الله عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر» ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة «إسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطنّ الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع ، وفاقا لسنته التي لا تتخلف وإنّ غدا لناظرة قريب!)(٢) .

ولكن الاعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التّفسير ، هو أنّ أيّا منهما لم

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ٧ ، ص ٢٠٩.

(٢) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢١٤ الطبعة العاشرة.

٤٠١

ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إلى بيت المقدس حتى يخرّبوه؟

خامسا : الاحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل ، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثّانية ، حيث يقول هؤلاء : إن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم «إسرائيل» في قلب العالم الإسلامي مثّل الإفساد والطغيان والعلو الأوّل لهم ، وبذلك فإنّ وعي البلاد الإسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإسلامية في ذلك الوقت إلى التوحدّ وتطهير بيت المقدس وقسما آخر من مدن وقرى فلسطين ، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.

أمّا المقصود من الإفساد الثّاني حسب هذا التّفسير ، فهو احتلال اليهود مجددا للمسجد الأقصى بعد أن حشدت «إسرائيل» قواها واستعانت بالقوى الدولية الاستعمارية في شن هجومها الغادر (عام ١٩٦٧).

وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثّاني على بني إسرائيل ، ليخلّصوا المسجد الأقصى من دنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإسلامية. وهذا ما وعد به المسلمون من فتح ونصر آت بلا ريب(١) .

بالطبع هناك تفاسير وآراء أخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها ، ولكن ينبغي أن يلاحظ أنّ في حال اعتماد التفسيرين الرّابع والخامس ، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية ، وذلك إذا جاء الفعل بعد حرف من حروف الشرط.

ولكن يستفاد من ظاهر قوله تعالى :( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) إنّ الإفساد الأوّل على الأقل ـ والانتقام الإلهي من بني إسرائيل كان قد وقع في الماضي.

__________________

(١) يلاحظ هذا الرأي العدد (١٢) السنة (١٢) من جملة «عقيدة الإسلام» وقد كتب البحث في عددين إبراهيم الأنصاري.

٤٠٢

وإذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك ، فينبغي أن نلتفت إلى أنّ قوله تعالى :( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) تفيد في أنّ الرجال الذين سيؤدبون «بني إسرائيل» على فسادهم وعلوّهم وطغيانهم ، هم رجال مؤمنون ، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. وممّا يؤكّد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير ، هو كلمة «وبعثنا» و «لنا».

ولكنّا مع ذلك ، لا نستطيع الادّعاء أن كلمة «بعث» تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين ، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضا ، ففي قصّة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم :( فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ) (١) .

وكذلك الحال في كلمة «عباد» أو «عبد» فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين من المذنبين وغيرهم ، كما في الآية (٥٨) من الفرقان في قوله تعالى :( وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) والآية (٢٧) من سورة الشورى ، حيث يقول تعالى :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (١١٨) من سورة المائدة قوله تعالى :( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) .

ولكنّا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ـ وإن لم تقم قرينة خلاف ذلك ـ أنّ العباد الذين بعثهم الله للانتقام من بني إسرائيل هم من العباد المؤمنين الصالحين.

وخلاصة البحث : إنّ هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إسرائيل ، وكيف أنّ الله تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء ، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا ، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها ، والدرس الذي نستفيده والإنسانية جمعا هو أنّ الله تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ من دروس التاريخ وأحوال الأمم الماضية.

__________________

(١) المائدة ، ٣١.

٤٠٣

الثّانية : تحمّل الإنسان لتبعات أعماله :

الآيات الآنفة تشير إلى قاعدة مهمّة ، وهي أنّ أعمال الإنسان سواء كانت حسنة أم قبيحة فإنّ مردودها يعود إليه ، صحيح أنّ الآيات تتحدّث عن بني إسرائيل ، ولكن القاعدة من الشمول والعموم بحيث تشمل كافة البشر على مر التاريخ(١) .

إنّ الحياة والتاريخ يعكسان لنا الكثير من تلك النماذج التي أسست أعمالا وسننا سيئة ، وسنّت قوانين ظالمة ومبتدعة ، ولكنّها في النهاية ، كانت ضحية ما سنّت وابتدعت وأسست ، وكانت نهايتها ونهاية من يلوذ بها الوقوع في نفس الحفرة التي حفرتها للآخرين ، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت أيديها. إنّ خصوصية هذا الأمر تتّضح أكثر بالنسبة لأعمال الفساد وعلى الأخص العلو والاستكبار ، فإنّ الإنسان لا بدّ وأن يذوق في هذه الدنيا جزاء ما اقترف من أسباب العلو والاستكبار والإفساد.

ولهذا السبب بالذات رأينا أنّ بني إسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا ، من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخروي إذ عاشوا طويلا واقع الشتات والتشرّد ، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب. إنّنا اليوم نعيش مظاهر من فساد بني إسرائيل وعلوهم وطغيانهم ، فهم قد اغتصبوا أرض الآخرين وطردوهم منها ، وأذاقوا أهلها ألوان القتل والبطش والإرهاب ، وروعوا الأبناء وسبوا النساء ، بل لم يحترموا حتى بيوت الله في بيت المقدس!

إنّ هؤلاء يتعاملون مع العالم بدون رعاية أي شكل من أشكال القانون أو

__________________

(١) نقرأ في الآية :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) بينما كان ينبغي أن يكون التعبير «عليها» لأنّ الإساءة لا تكون في فائدة ونفع الإنسان بل هي في ضرره! إنّ السبب في ذلك يعود إلى ضروريات التنسيق بين قسمي الجملة ، أو قد يكون ذلك بسبب أنّ اللام هنا استخدمت بمعنى التخصيص لا بمعنى النفع والضرر. بعض المفسّرين احتمل أيضا أن تكون اللام بمعنى «إلى».

٤٠٤

الضوابط والمعايير الدولية ، فإذا قام ـ مثلا ـ فدائي فلسطيني بإطلاق رصاصة عليهم ، فإنّهم بدلا عنها يقومون بقصف وتخريب المخيمات السكنية للاجئين ، ومدارس الأطفال ، والمستشفيات. وهم في مقابل خسارتهم لقتيل واحد ، يقومون يحصد المئات من الأنفس البريئة ويفجّرون عددا كبيرا من البيوت.

إنّ هؤلاء يتجاهرون بعدم التزامهم ، بل بعدائهم لكل قرارات المنظمات الدولية ، والكل يعرف أنّ جرأتهم في مواجهة العالم إنّما كانت وما زالت مستمدة من دعم القوى الاستعمارية الدولية لهم ـ وفي الطلليعة منها أمريكا ـ من دون أن يعني دعم هذه القوى لهم تبريرا لما يمتازون هم به من خصائص انحرافية ذاتية في الفكر والأخلاق ، واستعداد قبلي للعلو والطغيان والفساد.

إنّهم بعلوّهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله :( عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) حيث ينالون جزاءهم ، وهو وعد الهي قاطع في قرآنه الكريم.

الثّالثة : تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإسلامي :

في روايات عدّة نرى انطباق الآيات أعلاه على بعض أحداث التاريخ الإسلامي حيث يشير بعضها إلى أنّ الفساد الأوّل والثّاني هو قتل الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، والعدوان على جنازة الإمام الحسنعليه‌السلام . وبعضها تشير إلى أنّ المقصود من قوله تعالى :( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) هو الإشارة إلى الإمام المهديعليه‌السلام وأصحابه.

وفي روايات أخرى نقرأ أنّ المقصود ، هو نهضة مجموعة من المسلمين قبل ظهور الإمام المهديعليه‌السلام (١) .

__________________

(١) يلاحظ نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٣٨.

٤٠٥

من الواضح أنّ هذه الأحاديث لا تفسّر الآيات تفسيرا لفظيا ، لأنّ الآيات تتحدث بصراحة عن بني إسرائيل ، ولكنّها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإسلامي.

وهكذا ننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ الآيات وإن تحدّثت عن خصوصيات بني إسرائيل،إلّا أنّها تتسع في مفهومها لترتفع إلى مستوى القاعدة الكلية ، والسنّة المستمرّة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأمم.

* * *

٤٠٦

الآيات

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) )

التّفسير

أقصر الطرق للهداية والسعادة :

الآيات السابقة تحدّثت عن بني إسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا ، والباقي مدخر ليوم القيامة.

وفي هذا المقطع من الآيات ، انتقل الحديث إلى القرآن الكريم ، الكتاب

٤٠٧

السماوي للمسلمين ، وآخر حلقة في الكتب السماوية ، فقال تعالى أوّلا :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) .

«أقوم» صيغة تفضيل مشتقة من «قيام» حيث يكون الإنسان فيها على أحسن حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما ، لذلك فإنّ «القيام» كناية عن أفضل الصيغ التي ينجز فيها الإنسان الأعمال التي يباشرها ، أو يستعد لمباشرتها.

«الاستقامة» مشتقّة أيضا من مادة «قيّم» وهي بمعنى الاعتدال والإستواء والثبات.

وبما أنّ «أقوم» هي «أفعل تفضيل» بمعنى الأكثر ثباتا واستقامة واعتدالا ، فإنّ معنى الآية أعلاه ، هو أنّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الاستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم.

من وجهة نظر العقائد والأفكار ، يتمثل بالعقائد الواضحة ، القابلة للهضم والإدراك والفهم ، والتي تكون أساسا للعمل ، وتعبئة الطاقات الإنسانية باتجاه الإعمار والبناء. العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية من الخرافات والأوهام ، وهي التي توائم بين الإنسان وعالم الوجود والطبيعة من حوله.

العقيدة الأقوم من هذه الزاوية ، هي التي توافق بين الإعتقاد والعمل ، والظاهر والباطن ، الفكر والمنهج ، وتدفع الإنسان والجميع نحو الله.

أمّا الأقوم من وجهة نظر القوانين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ، التي تسود المجتمع ، فهي تلك التي تربّي في المجتمع الإنساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والاتساق.

والأقوم من وجهة النظر العبادية والأخلاقية ، هو كل ما يجعل الإنسان في المركز الوسط بين الإفراط والتفريط ، ويجعله في موقع الاعتدال بين الإسراف والبخل ، بين الاستضعاف والاستكبار.

وأخيرا فإنّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة ، هو كل ما

٤٠٨

يدفعها إلى إقامة العدل ، والدعوة إلى إشاعة الإنصاف ، ومواجهة الظلم والظالمين.

نعم ، إنّ القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر ، وهو الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود ، وعلى كافة القضايا والصعد.

ولكنّا هنا نقف مع نقطة حساسة ، وهي إذا كان القرآن هو الأقوم ، أي «أفعل تفضيل» فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والاستقامة ليس على سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب ، وإنّما على سائر الأديان والشرائع السابقة عليه أيضا.

وإزاء المفهوم الذي تطرحه هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إلى إثارة الحديث على النحو الآتي.

أوّلا : إذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى ، فلا شك أنّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها ، ولكن وفق قانون التكامل الذي وصلت البشرية بمقتضاه إلى أقصى حالات رشدها وتكاملها ، في زمن الرسالة الإسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة ، فإنّ القرآن الكريم يعبّر تبعا لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والاستقامة الاعتدال.

ثانيا : أمّا إذا كان طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية ، فمن الطبيعي جدّا أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إلينا من الله ذي العلم المطلق ، هو الأقوم والأظهر عليها ، لأنّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر.

ثالثا : أشرنا في غير مكان إلى أن «أفعل تفضيل» لا يدلّ دائما على أنّ الموضوع لا بدّ وأن يكون طرفا للمقايسة ، كما في قوله تعالى :( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ) (١) .

__________________

(١ ، ٢) ـ يونس ، ٣٥.

٤٠٩

وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أن لا يفوتنا أن تعبير «أقوم» في الآية الآنفة يشير إلى أنّ الإسلام هو آخر أديان السماء ، وأنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو آخر الأنبياء.

وكيفية ذلك ، هو أنّ أقوم بوصفها أفعل تفضيل ، تمثل أعلى درجات التفضيل ، ولأنّ الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة إليه ، وطالما أنّ حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون ، فينتج أنّ الإسلام آخر الأديان ، وأنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الرسل ، لأنّه ليس بعد صيغة تفضيل «أقوم» من درجة في التفضيل.

بعد ذلك تشير الآيات إلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم ، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إلى فئتين ، فالأولى يكون حالها كما يقول تعالى :( وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) .

أمّا الفئة الثّانية فيكون مصيرها تبعا لموقفها كما يقول تعالى :( وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

وإذا كان استخدم «بشارة» واضح هنا بالنسبة للمؤمنين ، فهو بالنسبة لغيرهم من غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والاستهزاء ، أو أنّه بشارة للمؤمنين أيضا تخبرهم عن حال غير المؤمنين(١) .

ضمنا الآية تشير باختصار بليغ إلى جزاء المؤمنين وثوابهم فتقول :( أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) أمّا غير المؤمنين فإنّ لهم بنفس صورة الإيجاز القرآني البليغ( عَذاباً أَلِيماً ) وهذا الاختصار البليغ يطوي في كلا مجاليه صورا تفصيلية من الثواب والعقاب.

أمّا لماذا اقتصرت الآية في غير المؤمنين على صفة عدم إيمانهم بالآخرة

__________________

(١) في نهاية الآية (١٣٨) من سورة النساء قلنا : إنّ «البشارة» مشتقّة أصلا من «البشرة» بمعنى الوجه. والملاحظ أنّ صحيفة الوجه وبشرته كالمرآة تعكس كل خبر إذا كان سارا أو سيئا بشكل إيحاءات معينة.

٤١٠

دون غيرها من الصفات والأعمال. في الواقع يمكن أن يكون ذلك بسبب أنّ الإيمان بالآخرة هو صمام أمان يضبط الإنسان عن ارتكاب المعاصي والذنوب. ثمّ إنّ إنكار القيامة يعتبر إنكارا لوجود الله تعالى ، وإلّا كيف يستقيم للإنسان أن يؤمن بالله العادل الحكيم ولا يؤمن بوجود آخرة يحاسب فيها الإنسان على أعماله وينال حسابه العادل!؟

ثمّ إنّ حديث الآية هو عن العقاب والثواب وهو يتناسب مع الحديث عن الإيمان باليوم الآخر.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إلى احدى العلل المهمّة لعدم الإيمان وتقول بأنّ عجلة الإنسان وتسرعه وعدم اطلاعه على الأمور وإحاطته بها تسوقه إلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه ، وبين دعائه بالشر وطلبه له! تقول الآية :( وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ) .

لما ذا؟ :( وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ) .

إنّ كلمة «دعا» هنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإنسان ، سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه ، أو سعى إليها بعمله وجهده وسلوكه.

إنّ استعجال الإنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لنفسه ، تقوده إلى النظرة السطحية للأمور بحيث أنّه لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمّقة ممّا يفوّت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية ، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المضطرب يضيع عليه وجه الحقيقة ، ويتغيّر مضمونها بنظره ، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة.

وهكذا ينتهي الإنسان ـ نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة ـ إلى أن يطلب من الله الشر ، تماما كما يطلب منه الخير ، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة ، كسعيه وراء الأعمال الحسنة. وهذا الاضطراب

٤١١

وفقدان الموازين هي أسوأ بلا يصاب به الإنسان ويحول بينه وبين السعادة الحقيقية.

ما أكثر الناس الذين يضعون أنفسهم ـ بسبب من عجلتهم واندفاعاتهم المضطربة ـ على حافة الخطر ومشارف الضلال ، وهم يظنون أنّهم يسيرون نحو الأمن والاستقرار والهداية. إنّ مثل هؤلاء كمن هو غارق بالسوء والقبائح وهو يفتخر بما هو فيه!!

إنّ نتيجة العجلة والتسرّع والاندفاع الأهوج لن تكون أحسن من هذه العاقبة.

من هنا يتّضح ـ كما أشرنا سابقا ـ أنّ معنى «دعا» لا يقتصر لا على الرغبات التي يظهرها الإنسان على لسانه ، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها بسلوكه وبما يبذل لها من جهد ، وإنّما المعنى يشمل محصلة الإثنين معا. وأمّا ما ذهب إليه بعض المفسّرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمّة دليل عليه.

أمّا ما يظهر من بعض الرّوايات من اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي ، فإنّ ذلك من قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرّواية التي يقول فيها الإمام الصادقعليه‌السلام :«وأعرف طريق نجاتك وهلاكك ، كي لا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك ، وأنت تظن أنّ فيه نجاتك ، قال الله تعالى :( وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ) .

من هنا يتبيّن أنّ أفضل طريق لوصول الإنسان إلى الخير والسعادة ، هو أن يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقّة والحيطة والحذر ، وأن يتجنب الاندفاع والعجلة والتسرّع ، ويدرس الموقف من جميع جوانبه ، وبجانب الأحكام المتعجّلة الممزوجة بالهوى والعاطفة ، وأن يستعين بالله العزيز ويستمده القوة والعون.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب ، لتجعل من هذا الشاهد مثالا على معرفة الله والتمعّن بآياته ، والمثال أيضا يفيد معنى

٤١٢

التأمّل والهدوء ويدعو إلى محاذرة التعجّل والتسرّع.

الآية تقول أوّلا :( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ) ثمّ :( فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) . ولنا في ذلك هدفان : الأوّل :( لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) حيث تنطلقون نهارا في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإلهية ، وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والاستقرار. والهدف الثّاني فهو :( وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ) لكي لا تبقى شبهة لأحد( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً ) .

بين المفسّرين كلام كثير حول المقصود من «آية الليل» و «آية النهار» وفيما إذا كان ذلك كناية عن نفس الليل والنهار ، أم أنّ المقصود من «آية الليل» القمر ، ومن «آية النهار» الشمس(١) .

ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل ، خصوصا وأنّ المقصود من قوله تعالى :( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ) هو أنّ كل واحد منهما علامة على إثبات وجود الله ، أمّا محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب الظلمة فيه بواسطة نور النهار ، الذي يكشف ما كان مستورا بظلمة الليل.

وإذا كانت آيات أخرى في القرآن [آية (٥) من سورة يونس] تفيد أنّ الغاية من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إلى سنين وأشهر ، فليس ثمّة تنافي بين الآيتين ، إذ من الممكن أن تنتظم حياة الإنسان وحسابه على أساس الليل والنهار ، وعلى أساس الشمس والقمر من دون أي تناف بين الإثنين.

في نهج البلاغة نقرأ للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، قوله : «وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوة من ليلها ، وأجراهما في مناقل مجراهما ، وقدّر سيرهما في مدارج درجهما ، ليميز بين الليل والنهار بهما ، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما»(٢) .

__________________

(١) في الحالة الأولى تكون الإضافة «إضافية بيانية» أما في الثّالثة فتكون الإضافة «إضافة اختصاصية».

(٢) نهج البلاغة ، خطبة الأشباح ، رقم (٩١).

٤١٣

إنّ كلام الإمام هنا لا ينافي التّفسير الأوّل ، لأنّ حساب السنين يمكن أن يكون على أساس الأيّام والليالي ، كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس والقمر.

* * *

بحوث

أوّلا : هل الإنسان عجول ذاتا؟

إنّ الإنسان لا يوصف في القرآن بوصف «العجول» وحسب ، وإنّما هناك أوصاف أخرى أطلقها على الإنسان مثل «ظلوم» و «جهول» و «كفور» و «هلوع» و «مغرور».

ولكن السؤال هنا ، هو أنّ هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي تتحدّث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإنسان ، فكيف إذن نوائم بين الحالتين؟

بعبارة أخرى : إنّ الإنسان من وجهة نظر الإسلام هو أفضل الموجودات وأكرمها حتى أنّه استحق مقام الخلافة عن الله ، في الأرض ، وهو معلّم الملائكة وأفضل منها ، فكيف ـ إذن ـ يتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي نقرؤها عن الإنسان في القرآن؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة ، وهي أنّ شخصية الإنسان هي كما تقوم آنفا من السمو والرفعة ، ولكن بشرط أن تتم تربيته وتكون رعايته من قبل القادة الرّبانيين ، وإلّا ففي غير هذه الصورة ، فسيتسافل نحو أسوأ الأحوال ، ويغرق في الهوى والشهوات ، ويخسر القابليات العظيمة الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية.

لذلك إذا تحقق الشرط السابق (تربية الإنسان على يد القادة الإلهيين) فإنّ الجوانب الإيجابية في الإنسان هي التي تظهر ، وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس

٤١٤

ذلك تظهر الصفات السلبية ، لذلك نقرأ في الآيات ١٩ ـ ٢٤ من سورة المعارج قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) . ويمكن للقارئ أن يعود إلى تفسير الآية (١٢) من سورة يونس لأجل المزيد من التفاصيل حول الموضوع.

ثانيا : أضرار العجلة

إنّ تعلق الإنسان واندفاعه نحو موضوع معين ، والتفكير السطحي المحدود ، والهوى والاضطراب ، وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إزاء أمر ما ، كلّها عوامل للعجلة في الأعمال. ثمّ إنّ الاقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع ومرتجل لا يكفي في التوصل إلى حقيقة الأمر ، وعادة تؤدي العجلة والتسرع في الأعمال إلى الخسران والندامة!

وقد قرأنا في الآيات أعلاه أنّ عجلة الإنسان تقوده إلى أن يطلب الشر لنفسه ويسعى إليه ، بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إليه!

إنّنا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإنسان على طول التاريخ جرّاء استعجاله وتسرّعه ، وفي التجربة الحياتية الخاصّة لأي واحد منّا ثمّة ما يكفي لنتعلّم دروس العجلة والتسرّع من خلال النتائج المرّة التي جنيناها.

إنّ «التثبت» و «التأنّي» هي الصفات التي تقابل العجلة ، ففي حديث عن رسول الله نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أهلك الناس العجلة ، ولو أنّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «مع التثبت تكون السلامة ، ومع العجلة تكون الندامة»(٢) .

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ١٢٩.

(٢) المصدر السابق.

٤١٥

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «إنّ الأناة من الله والعجلة من الشيطان»(١) .

طبعا هناك باب في الرّوايات الإسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي حديث عن رسول الله نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحب من الخير ما يعجل»(٣) .

إنّ الرّوايات في هذا المجال كثيرة ، والمقصود منها هي السرعة في مقابل الإهمال والتأخير غير الموّجّه ، والاتكاء إلى الأعذار والتسويف باليوم وغدا ، التي غالبا ما تؤدي إلى ظهور المشاكل في الأعمال ، وشاهد هذا الكلام هو الحديث الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من همّ بشيء من الخير فليعجله فإنّ كل شيء فيه تأخير فإنّ للشيطان فيه نظرة»(٤) .

لذلك نقول : نعم للجدية والسرعة في الأعمال ، ولكن لا للعجلة والتسرّع.

وبعبارة أخرى : إنّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة ، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل ، والتصميم على التنفيذ ، لذلك نقرأ في الرّوايات «سارعوا في عمل الخير» أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

ثالثا : دور العدد والحساب في حياة الإنسان :

كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب ، ولا نظام في هذا العالم بدون حساب ، وطبيعي أنّ الإنسان الذي هو جزء من هذه المجموعة لا يستطيع العيش من دون حساب وكتاب.

لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ١٢٩.

(٢ ، ٣) أصول الكافي ، ج ١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب تعجيل فعل الخير.

(٤) المصدر السابق.

٤١٦

واحدة من نعم الله تعالى ، لأنّها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإنسان ، إنّ شيوع الفوضى وفقدان الحياة للاتساق والنظم يؤدي إلى دمار الحياة وفنائها.

والظريف أنّ الآية تتحدّث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار ، الأولى : ابتغاء فضل الله والتي تعني التكسّب والعمل المفيد المثمر. والثّانية : معرفة عدد السنين والحساب.

وقد يكون الهدف من ذكر الإثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إلى أنّ (ابتغاء فضل الله) لا يتم بدون الاستفادة من (الحساب والكتاب) وقد لا يكون هذا المعنى واضحا في العصور الماضية ، أمّا في عصرنا فهو واضح كالشمس.

إنّ عالمنا اليوم ، هو عالم الأرقام والأعداد والإحصاء ، فإلى جانب كل مؤسسة ومنظمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية ، ثمّة مؤسسة إحصائية.

وهكذا نستفيد من الإشارة القرآنية أنّ القرآن لا يبلى بالزمان ، بل كلّما مرّ عليه الزمان تجددت معانيه وتجلّت آفاقه(١) .

* * *

__________________

(١) لنا كلام مفصّل حول الموضوع أثناء الحديث عن الآية (٥) من سورة يونس.

٤١٧

الآيات

( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) )

التّفسير

أربعة أصول إسلامية مهمّة :

لقد تحدّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعاد والحساب ، لذلك فإنّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيث يقول تعالى :( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) .

«الطائر» يعني الطير. ولكن الكلمة هنا تشير إلى معنى آخر كان سائدا ومعروفا بين العرب ، إذ كانوا يتفألون بواسطة الطير ، وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلا إذا تحرّك الطير من الجهة اليمنى ، فهم

٤١٨

يعتبرون ذلك فألا حسنا وجميلا. أمّا إذا تحرّك الطير من اليسرى فإنّ ذلك في عرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيء ، أو ما يعرف بلغتهم بالتطيّر ، من هنا فإنّ هذه الكلمة غالبا ما كانت تعني الفأل السيء في حين أنّ كلمة التفؤل (عكس التطيّر) كانت تشير إلى الفأل الجميل الحسن.

وفي الآيات القرآنية ورد مرارا أنّ «التطيّر» هو بمعنى الفأل السيء حيث يقول تعالى في الآية (١٣١) من سورة الأعراف :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ) وفي الآية (٤٧) من سورة النمل نقرأ أيضا :( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) والآية تحكي خطاب المشركين من قوم صالحعليه‌السلام لنبيّهم.

بالطبع عند ما نقرأ الأحاديث والرّوايات الإسلامية نراها تنهى عن «التطيّر» وتجعل «التوكل على الله» طريقا وأسلوبا لمواجهة هذه العادة.

وفي كلّ الأحوال فإنّ كلمة «طائر» في الآية التي نبحثها ، تشير إلى هذا المعنى بالذات ، أو أنّها على الأقل تشير إلى مسألة «الحظ وحسن الطالع» التي تقترب في أفق واحد مع قضية التفؤل الحسن والسيء ، إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يبيّن أنّ التفؤل الحسن والسيء أو الحظ النحس والجميل ، إنّما هي أعمالكم لا غير ، والتي ترجع عهدتها إليكم وتتحملون على عاتقكم مسئولياتها.

إنّ تعبير الآية الكريمة ، بكلمتي «ألزمناه» و «في عنقه» تدلان بشكل قاطع على أنّ أعمال الإنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بالتالي ، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسئولا عنها ، إذ أنّ الملاك هو العمل دون غيره.

بعض المفسّرين ذكروا في إطلاق معنى كلمة «طائر» على الأعمال الإنسانية أنّها تعني أنّ الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإنسان كالطير الذي يطير من بين جنباته،لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.

وفي كل الأحوال ، اختلف المفسّرون في معنى كلمة( طائِرٍ ) في هذه الآية ،

٤١٩

وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات منها أنّ «الطائر» بمعنى «حصيلة ما يجنيه الإنسان من أعماله الحسنة والسيئة» ، أو أنّ الطائر بمعنى «الدليل والعلامة» ، وبعضهم قال : إن معناه «صحيفة أعمال الإنسان» بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ معنى «الطائر» هو «اليمن والشؤم».

ولكن الملاحظ في هذه التّفسيرات جميعا ، أنّ بعضها يرجع إلى نفس التّفسير الذي ذكرناه في البداية ، كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.

يقول القرآن بعد ذلك :( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) . ومن الواضح أنّ المقصود من «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير.

وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تثبّت فيها الأعمال ، ولكنّها هنا (في الدنيا) مخفية عنّا ومكتومة ، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

إنّ التعبير القرآني في كلمتي «نخرج» و «منشورا» يشير إلى هذا المعنى ، إذ نخرج وننشر ما كان مخفيا ومكتوما.

وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها ، فسيأتي البحث عنها في نهاية هذه الآيات.

في هذه اللحظة يقال للإنسان :( اقْرَأْ كِتابَكَ ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) يعني أنّ المسألة ـ مسألة المصير ـ بدرجة من الوضوح والعلنية والانكشاف ، بحيث أن كل من يرى صحيفة الأعمال هذه سيحكم فيها على الفور ـ مهما كان مجرما ـ لماذا؟ لأنّ صحيفة الأعمال هذه ـ كما سيأتي ـ هي مجموعة من آثار الأعمال أو هي نفس الأعمال، وبالتالي فلا مجال لانكارها فإذا سمعت ـ أنا ـ صوتي من شريط مسجّل ، أو رأيت صورتي وهي تضبط قيامي ببعض الأعمال الحسنة أو السيئة ، فهل أستطيع أن أنكر ذلك؟ كذلك صحيفة الأعمال في يوم القيامة ، بل هي أكثر حيوتة ودقة من الصورة والصوت!

الآية التي بعدها تّوضح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496