الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237361 / تحميل: 7577
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة(١) .

وينبغي التنويه هنا إلى أنّ القرآن كتاب سماوي جاء لتوجيه الإنسان إلى الحق ، وهو كتاب حياة وتربية ، فإن كان فيه ما لا يخص الحياة الإنسانية فمن الأولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني ، وكلّ ما فيه دروس لنا ومنهج قويم للحياة.

والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمر مرفوض أو ليس القرآن كتاب نور ، وكتابا مبينا؟! أو لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟! فكيف إذن لا يهمنا فهم بعض آياته؟!

وبكلمة : فإنّ هذا التّفسير مرفوض.

٢ ـ يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصا القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.

فالسماء هي هذه السماء ، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهابا (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء ، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجة لاحتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).

والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع ، ولكنّه يمنع من الوصول إلى هدفه برميه بالشهب(٢) .

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٩٦.

(٢) ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتمادا على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإجابة على تلك التساؤلات. ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.

٤١

٣ ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلّامة الطّباطبائي في (تفسير الميزان)والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال ، أو ما يسمّى ب (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة :

ألف : نقرأ في تفسير الميزان : (أورد المفسّرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب ، وهي مبينة على ما سبق إلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار ، إنّ هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إلّا منها ، وإنّ في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.

ويحتمل ـ والله العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس ، وهو القائلعزوجل في سورة العنكبوت (٤٣) :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) ، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.

وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى ، نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض ، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت(١) .

ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف ، هكذا يرى : (إنّ العلماء المحتالين

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ١٢٤ (في تفسير الآيات من سورة الصافات).

٤٢

المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة ، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق ، فإنّ الله تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار من له عقل ونباهة وإخلاص وإيمان ، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء ، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم ، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق ، ومتى ما اقترب منها طرد عنها ، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبدا ، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق ، أليس العلم لا يناله إلّا عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إليه إلّا عرفاؤه(١) ؟!

ويقول في مكان آخر : ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية ، فيكون المنع الحسي رمزا للمنع العقلي ، والكناية من أجمل أنواع البلاغة ، ألّا ترى أن كثيرا من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض ، غائبة أبصارهم ، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب ، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية(٢) ، وإن أصيب أحد بهذه الأهواء يوما بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإنّه سيطرد أيضا.

ج ـ وله كلام في مكان آخر ، خلاصته : تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا ، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أمور واقعة ودقيقة جدّا ، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض

__________________

(١) تفسير الجواهر ، ج ٨ ، ص ١١.

(٢) تفسير الجواهر ، ج ١٨ ، ص ١٠.

٤٣

الأمور ، لأنها لا تنقل بدقة إلا ما هو ضمن عالمها المحدود ، ولا يمكنها أن تصل إلى عالم أعلى منها ، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي ، كذلك هذه الأرواح فإنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.

د ـ وقال بعض آخر : أظهرت الاكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد ، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة ، وإنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا ، إلّا أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنيا فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم ، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا ، ولكنّ الجن تسعى للاستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إلى أهل الأرض(١) .

كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.

نتيجة البحث :

طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر ، وقبل الخروج بمحصلة البحث لا بدّ من ذكر بعض الملاحظات :

١ ـ أشار القرآن الكريم بكلمة «السماء» إلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إليها تارة ، وإلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (٤٠) من سورة الأعراف( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من الله عزّ

__________________

(١) القرآن على مر العصور ، ع. نوفل.

٤٤

وجلّ ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك ، بل المراد هو الارتفاع إلى مقام القرب الإلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.

والمقصود من تعبير «أنزل» و «نزل» في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإلهية المقدسة على قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقرأنا في تفسير الآية (٢٤) من سورة إبراهيم( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفرع عليعليه‌السلام (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّةعليهم‌السلام هم الفروع الأصغر(١) .

وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث : «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء.

لا ريب أنّ «السماء» المستعملة هنا ليست السماء المشاهدة.

نستنتج ممّا سبق أنّ «السماء» قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.

٢ ـ و «النجوم» كذلك ، بمفهومها المادي هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي أولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.

فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة ، فكذلك المجتمعات البشرية ، فإنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٣١٠.

٤٥

ونيل سعادتها بنور أولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.

وفي الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم»(١) وهو إشارة جلية لهذا المعنى.

كما نقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (٢) إنّ الإمامعليه‌السلام قال : «النجوم آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٣) .

٣ ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة ، أن منع الشياطين من الصعود إلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريمعليه‌السلام كذلك ولكن لفترة معينة ، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تمّ المنع بشكل كامل(٤) .

ومن كل ما تقدم يمكننا القول : إن «السماء» كناية عن سماء الحق والإيمان ، والشياطين تسعى أبدا لاختراق هذه السماء والتسلل إلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حمارة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.

ولكن علم وتقوى أولياء الله وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.

وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ولادة المسيحعليه‌السلام ، وبين طرد الشياطين عن السماء.

ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إلى السماء والاطلاع

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٩.

(٢) الأنعام ، ٩٧.

(٣) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٥٠.

(٤) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥ ـ تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٦٢٦.

٤٦

على الأسرار ، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة ، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض ، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأخرى حية ، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوي للأرض فقط ، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء ، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب.

نعم ، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إلّا أنّها لا تسمى شهبا إلّا بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.

وكما هو معلوم ، فإنّ إنسان العصر الحديث قد نفذ مرارا من هذه المنطقة ، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علما بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إلى مائتي كيلومتر طولا وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).

فإنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا ، فيمكن القول: إنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.

والخلاصة : يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو سماء الحق والحقيقة ، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع ، ليتمكنوا من إغواء الناس بذلك ، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.

٤٧

ولكن بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه ، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل ، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستندا على حقائق لم نصل لها في زماننا.

* * *

٤٨

الآيات

( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) )

التّفسير

وإتماما لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق ، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة ، ويبدأ بنفس الأرض( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ) .

«المد» ، في الأصل بمعنى : التوسعة والبسط ، ومن المحتمل أن يراد به إخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء ، لأنّ سطح الأرض (كما هو معلوم) كان مغطى بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة ، واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار ، وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء ، وهو ما تسمّيه الرّوايات بـ «دحو الأرض».

ثمّ يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد( وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) .

٤٩

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء ، ولعل المراد بـ «إلقاء» هنا بمعنى (إيجاد) لأنّ الجبال هي الارتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي ، أو من المواد البركانية.

ومن بديع خلق الجبال إضافة إلى كونها أوتادا لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي ، فإنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف ، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه ، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

واستعمال كلمة «رواسي» جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ ، إشارة لطيفة لما ذكرناه.

فهي : ثابتة بنفسها ، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإنسانية عليها.

ثمّ ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية ، ألا وهو النبات( وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) .

ما أجمل هذا التعبير وأبلغه! «موزون» من مادة (وزن)(١) ، ويشير بذلك إلى:الحساب الدقيق ، النظام العجيب ، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات ، وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من السارق ، الغصن ، الورقة ، الوردة ، الحبة وحتى الثمرة.

يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات ، وكل تحمل خواصا معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها ، وهي باب بمعرفة واسع وصولا لمعرفة البارئ المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.

وقد ذهب البعض إلى أن المقصود هو إحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال ، لأنّ كلمة «إنبات» تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضا.

__________________

(١) الوزن : معرفة قدر الشيء ـ مفردات الراغب.

٥٠

وقد وردت الإشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى ، ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون ، أنّه قال : «فإنّ الله تبارك وتعالى أنبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لا يباع إلّا وزنا»(١) .

وهناك من ذهب إلى أن المقصود من الإنبات في الآية إلى معنى أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض ، كما يشير إلى ذلك نوحعليه‌السلام حين مخاطبته قومه( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) (٢) .

وعليه ، فليس هناك ما يمنع من إطلاق مفهوم الإنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن إلخ.

وبما أنّ وسائل وعوامل حيازة الإنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط ، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى جميع المواهب بقوله :( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) .

ليس لكم فقط ، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسئوليتكم( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) .

نعم ، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

«معايش» جمع «معيشة» ، وهي : الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإنسان ، والتي يحصل عليها بالسعي تارة ، وتأتيه بنفسها تارة أخرى.

ومع أن بعض المفسّرين قد حصر كلمة «معايش» بالزراعة والنبات أو الأكل والشرب فقط ، ولكنّ مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص ، ويطلق ليشمل كل ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش.

وانقسم المفسّرون في تفسير( مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) إلى قسمين :

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦ (يعود ضمير «فيما» بناء على هذا التّفسير إلى الجبال).

(٢) سورة نوح ، ١٧.

٥١

الأوّل : أنّ الله تعالى يريد أن يبيّن مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان والكائنات الحية الأخرى التي لا يملك الإنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.

الثّاني : أنّ الله تعالى يريد تذكير الإنسان بأنّه سبحانه هو الرازق ، وقد تكفل بإيصال رزقه إلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإنسان أو بواسطة أخرى(١) .

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل أكثر صوابا ، ويعزز ذلك الحديث المروي في تفسير عليّ بن إبراهيم ، حيث يتناول معنى( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) على أنّه : (لكل ضرب من الحيوان قدّرنا له مقدرا)(٢) .

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة ، فتحوي جوابا لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس ، وهو : لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإلهية جوابا :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) . فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك ، وإنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا ، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون ، ولكنّ الحكمة اقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعا لحساب دقيق ، حتى الأرزاق إنّما تنزل إليكم بقدر.

ونقرأ في مكان آخر من القرآن :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ) (٣) .

__________________

(١) بناء على التّفسير الأوّل يكون الاسم الموصول «من» في «من لستم له برازقين» عطفا على ضمير «لكم» وبناء على التّفسير الثّاني عطفا على «معايش» ، وبعض المفسّرين اعترض على التّفسير الأوّل بأنّ الاسم الصريح المجرور لا يعطف على ضمير مجرور إلّا بإعادة ذكر حرف الجر ، أيّ دخول اللام على «من» هنا واجبا ، وثمة اعتراض آخر يقول : كيف يطلق الاسم الموصول «من» على غير العاقل؟

والاعتراضان مردودان ، لأنّ عدم تكرار حرف الجر جار على لسان العرب ، وكذا الحال بالنسبة لاستعمال «من» لغير العاقل.

بل التّفسير الثّاني يواجهه ما لسعة المفهوم «للمعايش» ، حيث يشمل جميع وسائل الحياة حتى الحيوانات الداجنة وما شابهها وعلى هذا الأساس رجحنا التّفسير الأوّل.

(٢) تفسير نور الثّقلين ، ج ٣ ، ص ٦.

(٣) الشورى ، ٢٧.

٥٢

إنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإنسان الحيوية والنشاط ، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان ، فإنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيى القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين وإذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني ، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إليه مصير البشرية؟

فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين ، ذوي البطون المنتفخة ، وبدون أيّ وازع انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد ، لماذا؟

لأنّ الناس ليسوا كالملائكة ، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب والمغريات التي تدني إلى الانحراف.

لقد اقتضت الحكمة الرّبانية أن يكون الإنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل ، وبما ذا يعمل ، وعن ماذا يتجاوز؟ والسعي والحركة لما هو مشروع ، المجال الأمثل للامتحان.

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والامتحان ، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجران الإنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الانحراف ، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأ للفساد والطغيان.

* * *

بحوث

١ ـ ما هي خزائن الله تعالى؟

نقرأ في آيات القرآن أن : للهعزوجل خزائن ، لله خزائن السماوات والأرض ، بيده خزائن كل شيء فما هي خزائنه تعالى؟

«الخزائن» لغة جمع «خزانة» : وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.

وهي من مادة (خزن) على وزن (وزن) بمعنى : حفظ الشيء وحبسه.

٥٣

بديهي ، أن من كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهيء لنفسه كل ما يحتاج إليه على الدوام ، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إليه مستقبلا.

وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!؟ الجواب بالنفي قطعا ولهذا فسّر جمع من المفسّرين أمثال العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات) ، فسّروا خزائن الله بمعنى (مقدورات الله) ، يعنى : أنّ كل شيء جمع في خزانة قدرة الله ، وكل ما يخطه ضرورة أو صلاحا لمخلوقه يخلقه بقدرته.

وقد فسّر بعض كبار المفسّرين «خزائن الله» بأنّها : (مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامّة المادية ، ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها)(١) .

هذا التّفسير وإن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكنّ تعبير «عندنا» ينسجم أكثر مع التّفسير الأوّل.

وانّ عبارة «خزائن الله» وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل ، ولا يصح أن نعتبرها بعين معناها ، وإنّما استعملت للتقريب ، من باب تكلم الناس بلسانهم ، ليكونوا أكثر قربا للسمع وأشد فهما للمعنى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ «خزائن» تختص بالماء والمطر ، ولكن من الواضح حصر مفهوم «خزائن» بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإطلاق مفهوم الآية ، وهو خال من أيّ دليل أو قرينة.

٢ ـ النّزول مكانيّ ومقامي

كما بيّنا سابقا أن النّزول لا يرمز إلى الحالة المكانية دوما (أي النّزول من

__________________

(١) الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٤٢.

٥٤

مكان عال إلى أسفل) ، بل يرمز إلى النّزول المقامي في بعض الموارد ، فمثلا في حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إلى من هم أقل منه شأنا ، فإنّه يعبر عنها بالنّزول.

وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإلهية ، سواء كانت نازلة من السماء إلى الأرض كالمطر ، أو ما يتوالد على الأرض كالحيوانات ، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) ، وكذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد ، بشأن الحديد ،( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) إلخ.

خلاصة القول :

إنّ (نزول) و (إنزال) هنا بمعنى وجود وإيجاد وخلق ، وما استعمال هذا اللفظ إلّا لأنّها نعم اللهعزوجل التي وهبها لعباده.

* * *

٥٥

الآيات

( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) )

التّفسير

دور الرّياح والأمطار :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسما من أسرار الخليقة والنعم الإلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات ، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح ومالها من آثار في عملية نزول المطر ، فيقول :( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) .

«لواقح» جمع «لاقح» وهي تشير هنا إلى دور الرياح في تجميع قطع الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.

وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن الآية تشير إلى عملية تلقيح

٥٦

النباتات بواسطة الرياح ، وبها يستدلون على الإعجاز العلمي للقرآن ، على اعتبار أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إليه عصرنا من العلوم الحديثة ، وأنّ إخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على إعجازه العلمي.

مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها ، إلّا أنّنا لا نرى ما يشير لما ذهب إليه علماء اليوم لسببين :

الأوّل : وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.

ثانيا : وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).

ممّا يبيّن بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.

ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم ، حيث شبّه قطع الحساب بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأثر الرياح ، فتحمل الأمهات ، ثمّ تلقي بما حملت (قطرات المطر) إلى الأرض.

ويمكن حمل( ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) على أنّها إشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله ، أي إنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إشارة إلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها ، أي إنّكم لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله ، وأنّ اللهعزوجل هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج ، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيونا وآبارا.

ثمّ ينتقل من مظاهر توحيد الله إلى المعاد ومقدماته :( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ) ، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم المقدمات لبحث موضوع المعاد ، إضافة لكون هذه المسألة من مكملات موضوع التوحيد ، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل نظاما مترابطا في عالم

٥٧

الوجود لا يمكن تصور تشكيله إلّا بوجود علم وقدرة مطلقين ، بالإضافة إلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها ، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو الله تعالى.

ثمّ يضيف :( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

أي ، نحن على علم بهم وبما يعملون ، وإن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا ، نرى الآية التي تليها :( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) مرتبطة تماما مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثا ، وهذا غير معقول ، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق» ، وبتعبير آخر. مقدمة الحياة أبدية خالدة. وأمّا كونه سبحانه عليما فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة ، وكذلك في اعماق وجود الإنسان من جهة أخرى ، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

* * *

بحث

من هم المستقدمون والمستأخرون؟

ذكر المفسّرون في تفسير( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا

٥٨

الْمُسْتَأْخِرِينَ ) احتمالات كثيرة ، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات ، والقرطبي ثمانية احتمالات ، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات ، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد ، لأن كلمة «المستقدمين» و «المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان ، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها. وإذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الاحتمالات الواردة في «تقدم» و «تأخر» المذكورتين في الآية في تفسير واحد.

وفيما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحث على الاشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال : «إنّ الله وملائكته يصلون على الصف المتقدم»

فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا : «لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم» ، فنزلت هذه الآية.

(وأفهمتهم على أنّ الله تعالى عليم بنيّاتكم ، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).

فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبدا سببا لحصر مفهومها الواسع.

* * *

٥٩

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

يثوروا في ناحية جانب عسكري ، ما لقيت من هذه الامة من الفرقة و طاعة أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار(١) و نقلهما الخوئي أيضا .

و رواه عاصم بن حميد في أصله فيما وصل إلينا من الاصول الأربعمائة عن محمد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب عليعليه‌السلام الناس فقال : انما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللَّه يتولى فيها رجال رجالا ، فلو أنّ الباطل أخلص لم يخف على ذي حجى ، و لو أن الحق أخلص لم يكن اختلاف ، و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، هنا لك استولى الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(٢) .

و رواه اليعقوبي في ( تاريخه ) و زاد : إنّ خطبتهعليه‌السلام بها كانت بعد رجوعه من صفين و حكم الحكمين(٣) .

قول المصنّف : « و من كلام لهعليه‌السلام » هكذا في ( المصرية )(٤) و الصواب :

« و من خطبة لهعليه‌السلام » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) و كما يشهد له مداركه(٥) .

« إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع » كفتنة الاجتماع في السقيفة طلبا للرئاسة فقال المغيرة بن شعبة لأبي بكر و عمر : وسعوها في قريش تتسع ، أتريدون أن تجمعوا من أهل هذا البيت بيت هاشم خيل حلبة أي : بتصدي علي للأمر بعد محمّد

____________________

( ١ ) روضة الكافي للكليني ٨ : ٥٨ رواية ٢١ .

( ٢ ) بحار الأنوار ٢ : ٣١٥ رواية ٨٣ الباب ٣٤ .

( ٣ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ١٥٢ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٠ الرواية ٥٠ ، و ابن ميثم ٢ : ١٣٣ ، و النسخة الخطية : ٣٦ .

١٨١

و كلامهعليه‌السلام و ان كان بعد وقوع فتنة الخوارج إلا انّه بيّن بدء فتنهم فلو لم يكن يوم السقيفة لم تحصل فتنة الخوارج ، لأنّها حصلت بسبب قيام معاوية في قبالهعليه‌السلام ، و قيام معاوية مع محاربته للَّه و لرسوله حتى اسر فأظهر إسلاما و أسرّ كفره كان بواسطة قيام عثمان بأمر الخلافة ، و قيام عثمان به مع عدم سابقة له أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا حمايته عن أعداء اللَّه و أعداء رسوله ذويه و بني أبيه كان بتدبير عمر له لما كان كتب في غشوة أبي بكر استخلافه لعمر ، و ان كان أبو بكر بعد إفاقته أمضاه له طوعا أو كرها .

« و أحكام تبتدع » فأوصياء الأنبياء في كلّ عصر كانوا في بيوتهم و من جنسهم ذريّة بعضها من بعض و أنكر الذين في قلوبهم مرض ذلك ، فقال عمر لابن عباس اعتذارا عن صرف الأمر عنهعليه‌السلام : إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة فتكونوا عليهم جحفا .

« يخالف فيها كتاب اللَّه » أليس تعالى قال( في كتابه و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللَّه و تعالى عمّا يشركون ) (١) ( أم لكم كتاب فيه تدرسون ان لكم فيه لما تخيرون ) (٢) .

و قد قضى اللَّه تعالى ولايتهعليه‌السلام في قوله جل و علا إنّما وليّكم اللَّه و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون .

( و من يتول اللَّه و رسوله و الذين آمنوا فإنّ حزب اللَّه هم الغالبون ) (٣) .

و قد قضى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولايتهعليه‌السلام بعد تقريرهم بأنّه أولى بهم من أنفسهم ، بأنّه من كان هو أولى به بنفسه فعليّ أولى به من نفسه في المتواتر

____________________

( ١ ) القصص : ٦٨ .

( ٢ ) القلم : ٣٧ ٣٨ .

( ٣ ) المائدة : ٥٥ ٥٦ .

١٨٢

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و قد قال تعالى( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى اللَّه و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص اللَّه و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) (١) .

و أما قول فاروقهم « إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة » فهل كانت النبوة بأيديهم حتى تكون الخلافة بأيديهم فيكرهوا جمعهما لهم ، و قد أجابه ابن عباس عن قوله بقوله جل و علا( ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللَّه فأحبط أعمالهم ) (٢) .

« و يتولى عليها رجال رجالا على غير دين اللَّه » قال أبو بكر يوم السقيفة للناس : إنّما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر كلاهما قد رضيت لكم و لهذا الأمر و كلاهما له أهل فقالا له : ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار ثاني اثنين و أمرك النبي بالصلاة .

فهل هذا من دين اللَّه أن يجعلوا خلافة رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهبة بينهم ، أليس من قواعد أهل العالم أن يكون خليفة كلّ شخص أن يخرج عن عهدة ما خرج ذاك الشخص عنه و حينئذ و كما هو تعالى أعلم حيث يجعل رسالته يكون هو أعلم حيث يجعل خلافة رسوله ، و أين أولئك الأجلاف عن مقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

« فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق » أي : من مزجه به .

« لم يخف » بفتح الفاء من الخفاء .

« على المرتادين » أي : الطالبين و الأصل فيه طلب الكلاء قال ابن قتيبة في ( خلفائه )(٣) بعد ذكر طلب الأنصار كون الأمر لهم لأن بواسطتهم تمكّن

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٣٦ .

( ٢ ) محمد : ٩ .

( ٣ ) الخلفاء لابن قتيبة : ٦ ٧ .

١٨٣

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من نشر الاسلام أو كون الأمر بينهم و بين قريش لئلا يبغي بعضهم على بعض قام أبو بكر و قال( : إنّ اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه و شهيدا على امته ليعبدوا اللَّه و يوحّدوه ، و هم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى يزعمون أنّها شافعة و عليهم بالغة نافعة ، و انما كانت حجارة منحوتة و خشبا منجورة ، فاقرأوا إن شئتم إنّكم و ما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنم ) .(١) ( و يعبدون من دون اللَّه ما لا يضرّهم و لا ينفعهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه ) .(٢) .( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى ) .(٣) فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم ، فخص اللَّه المهاجرين الأولين بتصديقه و الايمان به و المواساة و الصبر معه على الشدّة من قومهم و إذلالهم و تكذيبهم إيّاهم ، و كلّ الناس مخالف عليهم يزرؤهم فلم يستوحشوا من قلّة عددهم و إزراء الناس لهم و اجتماع قومهم عليهم ، فهم أول من عبد اللَّه في الأرض و أول من آمن باللَّه تعالى و رسوله ، و هم أولياؤه و عشيرته و أحقّ الناس بالأمر من بعده ، لا ينازعهم فيه إلاّ ظالم(٤) .

فترى مزج الباطل كونه ولي الأمر بحق أعمال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و عشيرته ، و لم يكن مصداق ذلك بتمام معنى الكلمة إلاّ أمير المؤمنينعليه‌السلام و أين كان هو و صاحبه يوم نزل( و أنذر عشيرتك الأقربين ) (٥) فجمع النبي بني عبد المطلب و هم أربعون و قال لهم : من يؤازرني حتى يكون خليفتي ؟ فلم يجبه إلاّ أمير المؤمنينعليه‌السلام .

____________________

( ١ ) الأنبياء : ٩٨ .

( ٢ ) يونس : ١٨ .

( ٣ ) الزمر : ٣ .

( ٤ ) تاريخ الخلفاء لابن قتيبة : ٦ ٧ .

( ٥ ) الشعراء : ٢١٤ .

١٨٤

و لم يجبهم الأنصار بذلك لأنّهم لما شاهدوا الأحوال في مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و منعه من وصيته و مخالفته في تجهيز جيش اسامة و علموا بإرادة قريش تصديهم للسلطان ، و كانوا يعرفون عاقبة ذلك و ما يرد عليهم من الإذلال و المهانة كما كان النبي أيضا أخبرهم قبل بذلك ، و كانوا واترين لقريش المؤلفة الطلقاء الذين كان أبو بكر و عمر مستظهرين بهما و علموا أنهم لا يرضون بتأمير أمير المؤمنينعليه‌السلام أصلا ، أعرضوا عن جوابهم بذلك وجدوا أن يكونوا هم المتصدين أو شركاء .

و لم يحضر أمير المؤمنينعليه‌السلام لاشتغاله بتجهيز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و كانوا انتهزوا الفرصة في ذلك بأخذ البيعة من الناس و إتمام الأمر لهم ثم أحضروه للبيعة فقالعليه‌السلام كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) لهم : أنا أحقّ بهذا الأمر منكم و أنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الأنصار و احججتم عليهم بالقرابة من النبي و تأخذوه منّا أهل البيت غصبا .

حتى أن بشير بن سعد الخزرجي والد النعمان بن بشير الذي كان أوّل من بايع أبا بكر حتى قبل عمر حسدا لابن عمه سعد بن عبادة لئلا ينال الرئاسة ، لما سمع كلامهعليه‌السلام بما مر قال له : لو كان هذا الكلام سمعه الأنصار منك قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلفت عليك فقالعليه‌السلام له : أفكنت أدع رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لا أدفنه و أخرج انازع الناس بسلطانه و قالت له فاطمة صلوات اللَّه عليها : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، و لقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم و طالبهم .

« و لو أنّ الحق خلص من الباطل » هكذا في ( المصرية )(١) ، و الصواب : « من

____________________

( ١ ) الطبعة المصرية المصححة ورد فيها لفظ « لبس الباطل » : ١٥٢ .

١٨٥

لبس الباطل » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(١) .

« انقطعت عنه ألسن المعاندين » رووا عن ابن عباس قال : كنت عند عمر فتنفس نفسا ظننت ان أضلاعه قد انفرجت ، فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد قال : أي و اللَّه يابن عباس ، إني افتكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه قال : صدقت و لكنه امرؤ فيه دعابة . .

و عن ( موفقيات الزبير بن بكار ) قال ابن عباس : إنّي لاماشي عمر إذ قال لي : ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما فقلت في نفسي : و اللَّه لا يسبقني بها ، فقلت له :

فاردد إليه ظلامته فانتزع يده من يدي و مضى يهمهم ساعة ، ثم وقف فلحقته فقال : يابن عباس ما أظن منعهم إلاّ انّه استصغره قومه فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى فقلت : و اللَّه ما استصغره اللَّه و رسوله حين أمره أن يأخذ ( براءة ) من صاحبك فأعرض عني و أسرع ، فرجعت .

و عن الكتاب عن ابن عباس قال : خرجت اريد عمر إلى أن قال فقال عمر : إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به فليتني أراكم بعدي فقلت : إنّ صاحبنا من قد علمت إنّه ما غيّر و لا بدّل و لا أسخط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أيام صحبته له فانقطع عليّ الكلام و قال : و لا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة فقلت : قال اللَّه تعالى .( و لم نجد له عزماً ) (٢) إنّ صاحبنا لم يعزم على سخط النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و لكن الخواطر التي لا يقدر أحد على دفعها عن نفسه و ربما كانت من الفقيه في دين اللَّه العالم العامل بأمر اللَّه فقال :

____________________

( ١ ) ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٠ رواية ٥٠ ، و ابن ميثم ٢ : ١٣٣ ليس فيه لفظ « لبس » ، أما الخطية فقد ورد فيها لفظ « لبس الباطل » .

( ٢ ) طه : ١١٥ .

١٨٦

يابن عباس من ظن أنّه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظنّ عجزا(١) .

و عن ابن عباس أيضا قال : دخلت على عمر في أول خلافته فقال : كيف خلفت ابن عمك ؟ فظننته يعني عبد اللَّه بن جعفر فقلت : خلفته يلعب مع أترابه .

قال : إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت فقلت : خلّفته يمتح بالغرب على نخيلات من فلان و هو يقرأ القرآن قال : عليك دماء البدن إن كتمتنيها ، هل بقي في نفسه شي‏ء من أمر الخلافة ؟ قلت : نعم قال : أيزعم أنّ النبي نص عليه ؟ قلت : نعم و ازيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه فقال صدق فقال : لقد كان من النبي في أمره ذر و من القول لا يثبت حجّة و لا يقطع عذرا ، و لقد كان يربع في أمره وقتّا ما ، و لقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقا و حيطة على الإسلام ، لا و ربّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا و لو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول اللَّه أنّي علمت ما في نفسه فأمسك . .

فترى هذا المعاند ينسب تارة إليهعليه‌السلام الدعابة و اخرى صغر السن ، و تارة العجب بنفسه ، و اخرى عدم رضاء قريش به .

« و لكن يؤخذ من هذا » أي : الباطل .

« ضغث » أي : قبضة .

« و من هذا » أي : الحق .

« ضغث » أي : قبضة .

« فيخرجان » هكذا في ( المصرية )(٢) و الصواب : « فيمزجان » كما في ( ابن

____________________

( ١ ) أخبار الموفقيات : ٦١٩ .

( ٢ ) الطبعة المصرية المصححة « فيخرجان » ، و ليس « فيخرجان » راجع : ١٥٢ .

١٨٧

أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(١) .

« فهنالك » أي : فعند أخذ ضغث من الباطل و ضغث من الحق و مزجهما .

« يستولي الشيطان على أوليائه » لكونهم طالبي الشبهات و الشهوات .

« و ينجو الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى » و هم طالبوا الحق لا بالتقليد و العصبية قال جل و علا :( الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) . .(٢) .

و قال ابن أبي الحديد : كلامهعليه‌السلام حق ، فإنّ الذين ضلّوا من مقلدة اليهود و النصارى و أرباب المقالات الفاسدة من أهل الملة الاسلامية إنّما ضلّ أكثرهم بتقليد الأسلاف ، و إنّما قلّدهم الاتباع لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم و رفضهم الدنيا و إقبالهم على العبادة و تمسكهم بالدين و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر و صلابتهم في عقائدهم ، فاعتقد الأتباع و القرون التي جاءت بعدهم أنّ هؤلاء يجب اتباعهم و أنّ مخالفهم مبتدع ، و وقع الضلال و الغلط بذلك لأن الباطل استتر و انغمر بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا و الحكم للظاهر و لولاه لما تروج الباطل و لا كان له قبول أصلا(٣) .

٧ الخطبة ( ٣٨ ) و من خطبة لهعليه‌السلام

 وَ إِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلشُّبْهَةُ شُبْهَةً لِأَنَّهَا تُشْبِهُ اَلْحَقَّ فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اَللَّهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا اَلْيَقِينُ وَ دَلِيلُهُمْ سَمْتُ اَلْهُدَى وَ أَمَّا أَعْدَاءُ اَللَّهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٠ ، و ابن ميثم بلفظ « يخرجان » خلاف ما ذكره العلاّمة التستري ، أما النسخة الخطية فيخرجان : ٣٦ .

( ٢ ) العنكبوت : ٦٩ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ : ٢٤٢ .

١٨٨

اَلضَّلاَلُ وَ دَلِيلُهُمُ اَلْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ اَلْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ وَ لاَ يُعْطَى اَلْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ أقول : قول المصنّف : « و من خطبة لهعليه‌السلام » الظاهر أن « من » ههنا للتبعيض أي بعض خطبة لهعليه‌السلام غير « من » في قوله « و من خطبة لهعليه‌السلام » في باقي المواضع ، ففي الباقي للتقسيم بمعنى قسم من خطبةعليه‌السلام قلنا ذلك لأنّ قوله « و إنّما سميت الشبة إلى دليلهم العمى » ليس أول كلام ، و قوله بعد « فما ينجو من الموت إلى من أحبه » ليس بمربوط بالمذكور بل بسابقه المحذوف .

« و انما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق » أي : ليس بحق و إنّما هي شبيهة بالحق كقول الخوارج « لا حكم إلا للَّه » ، فإنّ أصله كلمة حق ، فقال تعالى( حكاية عن يوسف عليه‌السلام ) ( لصاحبي سجنه ما تعبدون من دونه إلاّ أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان إن الحكم الا للَّه ) .(١) ( و عن يعقوب عليه‌السلام ) ( لبنيه و ادخلوا من أبواب متفرقة و ما اغنى عنكم من اللَّه من شي‏ء إنّ الحكم إلاّ للَّه ) .(٢) و إرشادا لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جواب المشركين .( ما عندي ما تستعجلون به ان الحكم الا للَّه ) .(٣) .

فإنّ لفظهم ذاك اللفظ مع تبديل حرف نفي بنفي ، إلاّ أنّ المعنى من المعنى بمراحل ، فإنّ المراد من الآيات من سابقها و لاحقها معلوم ، ففي الأوّل أنّ الحكم في العبادة ليس لغير اللَّه ، و في الثاني أنّ القضاء و القدر ليس إلاّ بيده تعالى و في الثالث أنّ الوقت الذي ينزل فيه العذاب ليس تعيينه لغير اللَّه .

____________________

( ١ ) يوسف : ٤٠ .

( ٢ ) يوسف : ٦٧ .

( ٣ ) الأنعام : ٥٧ .

١٨٩

و الخوارج أرادوا بكلامهم أنه لا يجوز أن يحكم غير اللَّه في مقتضى آيات القرآن بأنه هل يجب أن يكون المتصدي لأمر الخلافة عليّا أم يجوز ان يكون معاوية .

فإن قلت : كان ذلك أمرا واضحا ، فقوله تعالى .( هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون ) .(١) و قوله جل و علا( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً ) .(٢) يوجبان تعين عليّعليه‌السلام .

قلت : الأمر كذلك ، إلاّ أنّ المبنى أدّى إلى ذلك ، فلازم جواز تصدي الثلاثة كان وجوب تصدي معاوية حيث إنّه كان ولي عثمان و عثمان مدبر عمر و عمر منصوب أبي بكر .

هذا ، و في ( ملل الشهرستاني ) : اعلم أنّ أوّل شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس ، و مصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص إلى أن قال في بيان أوّل شبهة وقعت في الملة الاسلامية و إن خفي علينا ذلك في الامم السالفة لتمادي الزمان فلم يخف أنّ شبهات الملة الاسلامية نشأت كلها من شبهات منافقي زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لم يرضوا بحكمه فيما يأمر و ينهى و شرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه و لا مسرى ، و سألوا عما منعوا من الخوض فيه و السؤال عنه ، و جادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه اعتبر حديث ذي الخويصرة التميمي إذ قال : اعدل يا محمّد فإنّك لم تعدل حتى قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لم أعدل فمن يعدل .

إلى أن قال : و أما الاختلافات الواقعة في حال مرض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و بعد وفاته بين الصحابة فهي اختلافات اجتهادية كما قيل إلى أن قال فأول تنازع

____________________

( ١ ) الزمر : ٩ .

( ٢ ) السجدة : ١٨ .

١٩٠

في مرضهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها رواه محمّد بن إسماعيل البخاري بأسناده عن عبد اللَّه بن العباس قال : لما اشتد بالنبي مرضه الذي مات فيه قال : إيتوني بدواة و قرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي فقال عمر : إنّ رسول اللَّه قد غلبه الوجع حسبنا كتاب اللَّه و كثر اللغط فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع .

قال ابن عباس : الرزية كل الرزية ما حال بيننا و بين كتاب رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إلى أن قال : الخلاف الثاني في مرضه قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : جهزوا جيش اسامة لعن اللَّه من تخلف عنها فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره و اسامة قد برز من المدينة ، و قال قوم قد اشتد مرض النبي فلا تسع قلوبنا مفارقته و الحال هذه فنصبر حتى نبصر أي شي‏ء يكون من أمره(١) .

قال الشهرستاني : و إنّما أوردت هذين التنازعين لأنّ المخالفين ربما عدوا ذلك من المخالفات المؤثرة في أمر الدين ، و هو كذلك و إن كان الغرض كله اقامة مراسم الشرع في حال تزلزل القلوب(٢) .

قلت : هل كان الأول و الثاني و صاحبهما أبو عبيدة أحرق قلبا على الدين من أمير المؤمنينعليه‌السلام و نعم ما قيل بالفارسية :

ز مادر مهربان‏تر دايه خاتون

هب ذلك ، هل كانوا أحوط على الدين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ و هل كانوا أعرف من اللَّه تعالى ؟ و هل كان قوله تعالى : .( اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته ) .(٣) غير صحيح و جزافا .

( و لعمر اللَّه لم يكن غرضهم إلاّ أمر دنياهم و استحكام أمر رياستهم

____________________

( ١ ) الملل للشهرستاني : ٢٣ .

( ٢ ) الملل للشهرستاني : ٢٩ .

( ٣ ) الأنعام : ١٢٤ .

١٩١

 و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون ) (١) .

و أجابت سيدة نساء العالمين ادعاءهم بأنهم فعلوا ما فعلوا لئلا تكون فتنة : زعموا خوف الفتنة .( ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين ) (٢) .

ثم إنّ الشهرستاني لم يستقص جميع شبهاتهم و اعتراضاتهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و منها اعتراضهم في تأمير زيد بن اسامة مولاه عليهم أولا ، ثم تأمير ابنه اسامة عليهم ثانيا ، ففي ( طبقات كاتب الواقدي ) : لما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة ( ١١ ) أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتهيؤ لغزو الروم ، فلما كان من الغد دعا اسامة بن زيد فقال : سر إلى موضع مقتل أبيك فلما كان يوم الأربعاء بدى‏ء بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فحم و صدع ، فلما أصبح يوم الخميس عقد لاسامة بيده لواء فخرج معقودا بلوائه فدفعه إلى بريدة بن الخصيب و عسكر بالجرف ، فلم يبق من وجوه المهاجرين الأولين و الأنصار الا انتدب في تلك فيهم أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد ، فتكلم قوم و قالوا : استعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين فغضب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله غضبا شديدا فخرج و قد عصب على رأسه عصابة و عليه قطيفة ، فصعد المنبر فحمد اللَّه و أثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اسامة ، و لئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ، و ايم اللَّه إن كان للإمارة

____________________

( ١ ) البقرة : ١١ ١٢ .

( ٢ ) التوبة : ٤٩ .

١٩٢

خليقا و إنّ بنه من بعد لخليق للإمارة(١) .

« فأما أولياء اللَّه فضياؤهم فيها اليقن » بحيث إنّ الشبهة باطل شبيه بالحق تكون كالظلمة ، فأولياء اللَّه لهم ضياء من اليقين يبصرون به الحق و الباطل و يميزون بينهما فيأخذون بالحق و يتركون الباطل .

« و دليلهم سمت الهدى » في ( صفين نصر ) : قال أبو نوح : كنت في خيل عليّعليه‌السلام و هو واقف بين جماعة من همدان و حمير و غيرهم من أفنان قحطان إذا أنا برجل من أهل الشام يقول : من دل على الحميري ؟ فقلنا : من تريد ؟ قال :

الكلاعي أبا نوح قلت : قد وجدته فمن أنت ؟ قال : أنا ذو الكلاع سر إلي فقلت :

معاذ اللَّه أن أسير إليك إلاّ في كتيبة قال : فسر فلك ذمة اللَّه و ذمة رسوله و ذمة ذي الكلاع حتى ترع إلى خيلك فإنّما اريد أن اسألكم عن أمر تمارينا فيه في حديث حدثناه عمرو بن العاص في إمارة عمر قال أبو نوح : و ما هو ؟ قال : ذو الكلاع حدّثنا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « يلتقي أهل الشام و أهل الحق و في إحدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى و معه عمار بن ياسر » قال أبو نوح : و اللَّه إنّه لفينا .

قال : أجاد هو في قتالنا ؟ قال أبو نوح : نعم و رب الكعبة لهو أشدّ على قتالكم مني ، و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته و بدأت بك قبلهم و أنت ابن عمي إلى أن قال فسار أبو نوح معه حتى أتى عمرو بن العاص و هو عند معاوية و حوله الناس ، فقال ذو الكلاع لعمرو بن العاص : هل لك في رجل ناصح لبيب شفيق يخبرك عن عمار لا يكذبك قال : من هو ؟ قال : ابن عمي هذا و هو من أهل الكوفة فقال عمرو : إنّي لأرى عليك سيماء أبي تراب قال أبو نوح : علي سيماء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله و أصحابه و عليك سيماء أبي جهل و سيماء فرعون .(٢) .

____________________

( ١ ) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ١٣٦ طبع ليدن .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٣٣٢ .

١٩٣

« و أما أعداء اللَّه فدعاؤهم فيها الضلال و دليلهم العمى » في ( صفين نصر بن مزاحم ) : قال عمرو بن العاص لعمار بن ياسر : علام تقاتلنا ، أو لسنا نعبد إلها واحدا ، و نصلّي قبلتكم و ندعو دعوتكم و نقرأ كتابكم و نؤمن برسولكم ؟ قال عمار : الحمد للَّه الذي أخرجها من فيك ، إنّها القبلة و الدين و عبادة الرحمن و الكتاب ، لي و لأصحابي دونك و دون أصحابك ساخبرك على ما قاتلتك و أصحابك أمرني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن اقاتل الناكثين و قد فعلت ، و أمرني أن اقاتل القاسطين و أنتم هم ، و أما المارقين فما أدري ادركهم أم لا ، ألم تعلم أيّها الأبتر ألست تعلم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّعليه‌السلام « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم و ال من والاه و عاد من عاداه » و أنا مولى اللَّه و رسوله و علي بعده و ليس لك مولى .

قال له عمرو : و لم تشتمني و لست أشتمك قال عمار : بم تشتمني أتستطيع أن تقول إنّي عصيت اللَّه و رسوله يوما قال : إنّ فيك لمسبات غير ذلك فقال : ان الكريم من أكرمه اللَّه ، كنت وضيعا فرفعني و مملوكا فأعتقني و ضعيفا فقواني و فقيرا فأغناني قال عمرو : فما ترى في قتل عثمان ؟ قال : فتح لكم باب كل سوء قال عمرو : فعليّ قتله قال عمار : بل اللَّه رب علي قتله و علي معه قال عمرو : أكنت فيمن قتله ؟ قال : كنت مع من قتله و أنا اليوم اقاتل معهم قال عمرو : فلم قتلتموه ؟ قال عمار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه قال عمرو : ألا تسمعون قد اعترف بقتل عثمان قال عمار : و قد قال قبلك فرعون لقومه « ألا تسمعون »(١) .

و روى ( صفين نصر أيضا ) عن السدي عن يعقوب بن الأوسط قال :

احتج رجلان بصفين في سلب عمار و في قتله ، فأتيا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص فقال لهما : و يحكما اخرجا عني فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « مالهم و لعمار

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٣٤٢ .

١٩٤

يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار قاتله و سالبه في النار » قال السدي :

فبلغني أنّ معاوية قال : إنّما قتله من أخرجه يخدع بذلك طغام أهل الشام(١) .

« فما ينجو من الموت من خافه » في ( الكافي )(٢) : عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ ملكا كان له عند اللَّه منزلة عظيمة ، فتعتب عليه فأهبطه إلى الأرض فأتى إدريسعليه‌السلام فقال له : ان لك من اللَّه منزلة فاشفع لي عنده فصلى ثلاث ليالي لا يفتر و صام أيامها لا يفطر ، ثم طلب إلى اللَّه تعالى في السحر في الملك فقال له الملك : قد اعطيت سؤلك و قد اطلق لي جناح و أنا احب أن اكافيك فاطلب مني حاجة فقال :

تريني ملك الموت لعلي آنس به فإنّه ليس يهنئني مع ذكره شي‏ء فبسط جناحه ثم قال : اركب فصعد به يطلب ملك الموت في السماء الدنيا فقيل له :

أصعد فاستقبله بين السماء الرابعة و الخامسة ، فقال الملك لملك الموت : مالي أراك قاطبا ؟ قال : العجب أنّي تحت ظل العرش حيث امرت أن أقبض روح آدمي بين السماء الرابعة و الخامسة فسمع إدريس صوته فامتعض فخرّ من جناح الملك فقبض روحه مكانه ، قال عزّ و جلّ( و رفعناه مكاناً علياً ) (٣) .

« و لا يعطي البقاء من أحبه » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : جاء جبرئيل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : عش ما شئت فإنّك ميت ، و احبب من شئت فإنّك مفارقه ، و اعمل ما شئت فإنّك لاقيه(٤) .

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٣٤٢ .

( ٢ ) الكافي ٣ : ٢٥٧ ح ٢٦ .

( ٣ ) مريم : ٥٧ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٥٥ الرواية ١٧ ، و أيضا من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٧١ الرواية ١٣٦٠ .

١٩٥

الفصل الرابع و الخمسون في العقل

١٩٦

١ الحكمة ( ٢٣٥ ) وَ قِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا اَلْعَاقِلَ

 فَقَالَ ع هُوَ اَلَّذِي يَضَعُ اَلشَّيْ‏ءَ مَوَاضِعَهُ فَقِيلَ فَصِفْ لَنَا اَلْجَاهِلَ فَقَالَ قَدْ فَعَلْتُ قال الرضي : يعني ان الجاهل هو الذي لا يضع الشي‏ء مواضعه ، فكان ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل « و قيل لهعليه‌السلام صف لنا العاقل » في ( مطالب السؤول ) قالعليه‌السلام : « العقل عقلان : عقل الطبع و عقل التجربة ، و كلاهما يؤدّي إلى المنفعة ، و الموثوق به صاحب العقل و الدين ، و من فاته العقل و المروة فرأس ماله المعصية ، و صديق كلّ امرى‏ء عقله و عدوّه جهله ، و ليس العاقل من يعرف الخير من الشر و لكن العاقل من يعرف خير الشرّين ، و مجالسة العقلاء تزيد في الشرف ، و العقل الكامل قاهر للطبع السوء و على العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها

١٩٧

في الدين و الرأي و الأخلاق و الأدب ، فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب و يعمل على إزالتها .

( و فيه ) : و قالعليه‌السلام : « الإنسان عقل و صورة ، فمن أخطأه العقل و لزمته الصورة لم يكن كاملا و كان بمنزلة من لا روح له ، و من طلب العقل المتعارف فليعرف صورة الاصول و الفضول ، فإن كثيرا من الناس يطلبون الفضول و يضيعون الأصول ، فمن أحرز الأصل اكتفى به عن الفضل(١) .

و في ( تحف العقول ) : قال راهب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني عن العقل ما هو ؟

و كيف هو ؟ و ما يتشعب منه ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « العقل عقال من الجهل ، و النفس مثل أخبث الدّوابّ ، فإن لم تعقل حارث (( حرنت ظ )) ، و إنّ اللَّه تعالى خلق العقل فقال له : أقبل ، فأقبل ، و قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال تعالى : و عزّتي و جلالي ما خلقت خلقا أعظم منك و لا أطوع منك ، بك ابدى‏ء و بك اعيد ، لك الثواب و عليك العقاب ، فتشعب من العقل الحلم ، و من الحلم العلم ، و من العلم الرشد ، و من الرشد العفاف ، و من العفاف الصيانة ، و من الصيانة الحياء ، و من الحياء الرزانة ، و من الرزانة المداومة على الخير ، و من المداومة على الخير كراهيّة الشرّ ، و من كراهية الشرّ طاعة الناصح ، فهذه عشرة أصناف من أنواع الخير ، و لكلّ واحد من هذه العشرة الأصناف عشرة أنواع . »(٢) .

« فقالعليه‌السلام : هو الذي يضع الشي‏ء مواضعه » في ( شعراء ابن قتيبة ) : رأى دريد بن الصمة الخنساء تهنأ الابل فقال :

ما ان رأيت و لا سمعت به

كاليوم هانى‏ء أنيق جرب

____________________

( ١ ) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول صلّى اللَّه عليه و آله : ٤٩ ، و نقله عنه المجلسي في البحار ٧٨ : ٦ ٧ .

( ٢ ) تحف العقول : ١٢ ١٣ .

١٩٨

متبذّلا تبدو محاسنه

يضع الهناء مواضع النّقب(١)

« فقيل : فصف لنا الجاهل فقالعليه‌السلام : قد فعلت » قيل لرجل : ما السّخاء ؟ قال :

جهد مقل قيل له : فما البخل ؟ قال : افّ و حوّل وجهه فقيل له : أجب فقال :

أجبت .

و في ( كنايات الجرجاني ) : تقول العرب في الكناية عن الجاهل : « لا يدري أيّ طرفيه أطول »(٢) .

« يعني أنّ الجاهل هو الذي لا يضع الشي‏ء مواضعه » قالوا : صعد ثابت بن قطنة منبر سجستان فأرتج عليه ، فلما نزل قال :

فان لم أكن فيهم خطيبا فإنّني

بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب

فقيل له : لو كنتها فوق المنبر لكنت أخطب الناس(٣) .

٢ الحكمة ( ٤٥٠ ) و قالعليه‌السلام :

مَا مَزَحَ اِمْرُؤٌ مَزْحَةً إِلاَّ مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً أقول : قال ابن أبي الحديد قيل : إنّما سمّي المزاح مزاحا لأنّه ازيح عن الحق(٤) .

قلت : لا ريب في أن « مزاح » فعال من مزح ، لا مفعل من زاح(٥) حتى يحتمل ما قال ، إلاّ أنّ الأصل في كلامه خبر روي عن فاروقهم .

____________________

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١٢٢ ، كذا ورد في ديوان دريد بن الصمّة : ٣٤ .

( ٢ ) الكنايات للجرجاني : ١١٣ .

( ٣ ) عيون الأخبار لإبن قتيبة ٢ : ٢٧٥ و فيه : « فإلاّ أكن بدلا من : « فإن لم أكن » .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ١٠٠ .

( ٥ ) يطبع هذا الهامش من ورقة الهوامش المرقمة ( ٢ ) و رقم الهامش فيها ( ٤ ) .

١٩٩

و قولهعليه‌السلام « إلاّ مجّ من عقله مجّة » استعارة من مجّ الشراب من فيه : إذا رمى به قال بعضهم : المزاج يجلب الشرّ صغيره و الحرب كبيره ، و لو كان المزاح فحلا لم ينتج إلاّ شرّا .

و في ( أخبار حكماء القفطي ) : عبث ابن حمدون النديم بابن ماسويه بحضرة المتوكّل ، فقال له ابن ماسويه : لو كان ما فيك من الجهل عقلا ثم قسّم على مئة خنفساء لكانت كلّ واحدة منهن أعقل من ارسطو طاليس .

إنّما السالم من ألجم فاه بلجام

ربما استفتحت بالمزح مغاليق الحمام

قد صار في الناس جدا ما مزحت به

كم مازح صار بين الناس مذموما(١)

٣ الحكمة ( ٤٠ ) و قالعليه‌السلام :

لِسَانُ اَلْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ وَ قَلْبُ اَلْأَحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ قال الرضي : و هذا من المعاني العجيبة الشّريفة ، و المراد به أنّ العاقل لا يطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرّويّة و مؤامرة الفكرة ، و الأحمق تسبق حذفات لسانه و فلتت كلامه مراجعة فكره و مماخضة رأيه ، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه ، و كأنّ قلب الاحمق تابع للسانه و قد روى عنهعليه‌السلام هذا المعنى بلفظ آخر ، و هو قوله :

____________________

( ١ ) أخبار العلماء و الحكماء للقفطي : ٢٤٩ ، و ابن ماسويه هو يوحنا كان نصرانيا سريانيا ، ولاّه الرشيد ترجمة الكتب الطبعة القديمة التي وحدها بأنقرا و عمّورية ، كان فاضلا متدما عند الملوك ، خدم المأمون و المغتصم و الواتق و المتوكل ( أخبار العلماء و الحكماء : القفطي في ترجمة يومنا ما سوية : ٢٤٨ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496