الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 237531 / تحميل: 7582
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة(١) .

وينبغي التنويه هنا إلى أنّ القرآن كتاب سماوي جاء لتوجيه الإنسان إلى الحق ، وهو كتاب حياة وتربية ، فإن كان فيه ما لا يخص الحياة الإنسانية فمن الأولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني ، وكلّ ما فيه دروس لنا ومنهج قويم للحياة.

والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمر مرفوض أو ليس القرآن كتاب نور ، وكتابا مبينا؟! أو لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟! فكيف إذن لا يهمنا فهم بعض آياته؟!

وبكلمة : فإنّ هذا التّفسير مرفوض.

٢ ـ يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصا القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.

فالسماء هي هذه السماء ، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهابا (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء ، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجة لاحتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).

والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع ، ولكنّه يمنع من الوصول إلى هدفه برميه بالشهب(٢) .

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٩٦.

(٢) ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتمادا على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإجابة على تلك التساؤلات. ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.

٤١

٣ ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلّامة الطّباطبائي في (تفسير الميزان)والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال ، أو ما يسمّى ب (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة :

ألف : نقرأ في تفسير الميزان : (أورد المفسّرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب ، وهي مبينة على ما سبق إلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار ، إنّ هناك أفلاكا محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إلّا منها ، وإنّ في السماء الأولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.

ويحتمل ـ والله العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس ، وهو القائلعزوجل في سورة العنكبوت (٤٣) :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) ، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.

وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا أفق أعلى ، نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض ، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت(١) .

ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف ، هكذا يرى : (إنّ العلماء المحتالين

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٧ ، ص ١٢٤ (في تفسير الآيات من سورة الصافات).

٤٢

المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة ، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق ، فإنّ الله تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار من له عقل ونباهة وإخلاص وإيمان ، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء ، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم ، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق ، ومتى ما اقترب منها طرد عنها ، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبدا ، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق ، أليس العلم لا يناله إلّا عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إليه إلّا عرفاؤه(١) ؟!

ويقول في مكان آخر : ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية ، فيكون المنع الحسي رمزا للمنع العقلي ، والكناية من أجمل أنواع البلاغة ، ألّا ترى أن كثيرا من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض ، غائبة أبصارهم ، لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب ، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية(٢) ، وإن أصيب أحد بهذه الأهواء يوما بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإنّه سيطرد أيضا.

ج ـ وله كلام في مكان آخر ، خلاصته : تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا ، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أمور واقعة ودقيقة جدّا ، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض

__________________

(١) تفسير الجواهر ، ج ٨ ، ص ١١.

(٢) تفسير الجواهر ، ج ١٨ ، ص ١٠.

٤٣

الأمور ، لأنها لا تنقل بدقة إلا ما هو ضمن عالمها المحدود ، ولا يمكنها أن تصل إلى عالم أعلى منها ، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي ، كذلك هذه الأرواح فإنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.

د ـ وقال بعض آخر : أظهرت الاكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد ، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة ، وإنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا ، إلّا أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنيا فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم ، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا ، ولكنّ الجن تسعى للاستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إلى أهل الأرض(١) .

كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.

نتيجة البحث :

طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر ، وقبل الخروج بمحصلة البحث لا بدّ من ذكر بعض الملاحظات :

١ ـ أشار القرآن الكريم بكلمة «السماء» إلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إليها تارة ، وإلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (٤٠) من سورة الأعراف( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) .

فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من الله عزّ

__________________

(١) القرآن على مر العصور ، ع. نوفل.

٤٤

وجلّ ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) .

وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك ، بل المراد هو الارتفاع إلى مقام القرب الإلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.

والمقصود من تعبير «أنزل» و «نزل» في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإلهية المقدسة على قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقرأنا في تفسير الآية (٢٤) من سورة إبراهيم( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفرع عليعليه‌السلام (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّةعليهم‌السلام هم الفروع الأصغر(١) .

وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث : «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إلى السماء.

لا ريب أنّ «السماء» المستعملة هنا ليست السماء المشاهدة.

نستنتج ممّا سبق أنّ «السماء» قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.

٢ ـ و «النجوم» كذلك ، بمفهومها المادي هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي أولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.

فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة ، فكذلك المجتمعات البشرية ، فإنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها

__________________

(١) راجع تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٣١٠.

٤٥

ونيل سعادتها بنور أولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.

وفي الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم»(١) وهو إشارة جلية لهذا المعنى.

كما نقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) (٢) إنّ الإمامعليه‌السلام قال : «النجوم آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٣) .

٣ ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة ، أن منع الشياطين من الصعود إلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريمعليه‌السلام كذلك ولكن لفترة معينة ، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد تمّ المنع بشكل كامل(٤) .

ومن كل ما تقدم يمكننا القول : إن «السماء» كناية عن سماء الحق والإيمان ، والشياطين تسعى أبدا لاختراق هذه السماء والتسلل إلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حمارة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.

ولكن علم وتقوى أولياء الله وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.

وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ولادة المسيحعليه‌السلام ، وبين طرد الشياطين عن السماء.

ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إلى السماء والاطلاع

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٩.

(٢) الأنعام ، ٩٧.

(٣) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٥٠.

(٤) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥ ـ تفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ٣٦٢٦.

٤٦

على الأسرار ، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة ، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض ، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأخرى حية ، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوي للأرض فقط ، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء ، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب.

نعم ، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إلّا أنّها لا تسمى شهبا إلّا بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.

وكما هو معلوم ، فإنّ إنسان العصر الحديث قد نفذ مرارا من هذه المنطقة ، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علما بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إلى مائتي كيلومتر طولا وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).

فإنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا ، فيمكن القول: إنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.

والخلاصة : يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو سماء الحق والحقيقة ، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع ، ليتمكنوا من إغواء الناس بذلك ، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.

٤٧

ولكن بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه ، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل ، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستندا على حقائق لم نصل لها في زماننا.

* * *

٤٨

الآيات

( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) )

التّفسير

وإتماما لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق ، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة ، ويبدأ بنفس الأرض( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ) .

«المد» ، في الأصل بمعنى : التوسعة والبسط ، ومن المحتمل أن يراد به إخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء ، لأنّ سطح الأرض (كما هو معلوم) كان مغطى بالمياه بشكل كامل نتيجة للأمطار الغزيرة ، واستقرت المياه على سطح الأرض بعد أن مرّت السنين الطويلة على انقطاع الأمطار ، وبشكل تدريجي ظهرت اليابسة من تحت الماء ، وهو ما تسمّيه الرّوايات بـ «دحو الأرض».

ثمّ يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد( وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) .

٤٩

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء ، ولعل المراد بـ «إلقاء» هنا بمعنى (إيجاد) لأنّ الجبال هي الارتفاعات الشاخصة على سطح الأرض الناشئة من برودة قشرة الأرض التدريجي ، أو من المواد البركانية.

ومن بديع خلق الجبال إضافة إلى كونها أوتادا لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي ، فإنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف ، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه ، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

واستعمال كلمة «رواسي» جمع (راسية) بمعنى الثابت والراسخ ، إشارة لطيفة لما ذكرناه.

فهي : ثابتة بنفسها ، وسبب لثبات قشرة الأرض وثبات الحياة الإنسانية عليها.

ثمّ ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية ، ألا وهو النبات( وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) .

ما أجمل هذا التعبير وأبلغه! «موزون» من مادة (وزن)(١) ، ويشير بذلك إلى:الحساب الدقيق ، النظام العجيب ، والتناسق في التقدير في جميع شؤون النباتات ، وكل أجزائها تخضع لحساب معين لا يقبل التخلخل من السارق ، الغصن ، الورقة ، الوردة ، الحبة وحتى الثمرة.

يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات ، وكل تحمل خواصا معينة ولها من الآثار ما يميزها عن غيرها ، وهي باب بمعرفة واسع وصولا لمعرفة البارئ المصور جل شأنه، وكل ورقة منها كتاب ينطق بعرفة الخالق.

وقد ذهب البعض إلى أن المقصود هو إحداث المعادن والمناجم المختلفة في الجبال ، لأنّ كلمة «إنبات» تستعمل في اللغة العربية للمعادن أيضا.

__________________

(١) الوزن : معرفة قدر الشيء ـ مفردات الراغب.

٥٠

وقد وردت الإشارة في بعض الرّوايات لهذا المعنى ، ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير هذه الآية أنبتنا فيها من كل شيء موزون ، أنّه قال : «فإنّ الله تبارك وتعالى أنبت في الجبال الذهب والفضة والجوهر والصفر والنحاس والرصاص والكحل والزرنيغ وأشباه هذه لا يباع إلّا وزنا»(١) .

وهناك من ذهب إلى أن المقصود من الإنبات في الآية إلى معنى أوسع يشمل جميع المخلوقات على هذه الأرض ، كما يشير إلى ذلك نوحعليه‌السلام حين مخاطبته قومه( وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ) (٢) .

وعليه ، فليس هناك ما يمنع من إطلاق مفهوم الإنبات في الآية ليشمل النبات والبشر والمعادن إلخ.

وبما أنّ وسائل وعوامل حيازة الإنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط ، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى جميع المواهب بقوله :( وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) .

ليس لكم فقط ، بل لجميع الكائنات الحية حتى الخارجة عن مسئوليتكم( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) .

نعم ، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

«معايش» جمع «معيشة» ، وهي : الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإنسان ، والتي يحصل عليها بالسعي تارة ، وتأتيه بنفسها تارة أخرى.

ومع أن بعض المفسّرين قد حصر كلمة «معايش» بالزراعة والنبات أو الأكل والشرب فقط ، ولكنّ مفهومها اللغوي أوسع من أن يخصص ، ويطلق ليشمل كل ما يرتبط بالحياة من وسائل العيش.

وانقسم المفسّرون في تفسير( مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) إلى قسمين :

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦ (يعود ضمير «فيما» بناء على هذا التّفسير إلى الجبال).

(٢) سورة نوح ، ١٧.

٥١

الأوّل : أنّ الله تعالى يريد أن يبيّن مواهبه ونعمه الشاملة للبشر والحيوان والكائنات الحية الأخرى التي لا يملك الإنسان أمر تغذيتها ولا يستطيعه.

الثّاني : أنّ الله تعالى يريد تذكير الإنسان بأنّه سبحانه هو الرازق ، وقد تكفل بإيصال رزقه إلى كل محتاج له سواء كان بواسطة الإنسان أو بواسطة أخرى(١) .

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل أكثر صوابا ، ويعزز ذلك الحديث المروي في تفسير عليّ بن إبراهيم ، حيث يتناول معنى( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) على أنّه : (لكل ضرب من الحيوان قدّرنا له مقدرا)(٢) .

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة ، فتحوي جوابا لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس ، وهو : لماذا لم تهيأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإلهية جوابا :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) . فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاذ ما نملك ، وإنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا ، وليس من الصعب علينا خلق أي شيء وبأي وقت يكون ، ولكنّ الحكمة اقتضت أن يكون كل شيء في هذا الوجود خاضعا لحساب دقيق ، حتى الأرزاق إنّما تنزل إليكم بقدر.

ونقرأ في مكان آخر من القرآن :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ) (٣) .

__________________

(١) بناء على التّفسير الأوّل يكون الاسم الموصول «من» في «من لستم له برازقين» عطفا على ضمير «لكم» وبناء على التّفسير الثّاني عطفا على «معايش» ، وبعض المفسّرين اعترض على التّفسير الأوّل بأنّ الاسم الصريح المجرور لا يعطف على ضمير مجرور إلّا بإعادة ذكر حرف الجر ، أيّ دخول اللام على «من» هنا واجبا ، وثمة اعتراض آخر يقول : كيف يطلق الاسم الموصول «من» على غير العاقل؟

والاعتراضان مردودان ، لأنّ عدم تكرار حرف الجر جار على لسان العرب ، وكذا الحال بالنسبة لاستعمال «من» لغير العاقل.

بل التّفسير الثّاني يواجهه ما لسعة المفهوم «للمعايش» ، حيث يشمل جميع وسائل الحياة حتى الحيوانات الداجنة وما شابهها وعلى هذا الأساس رجحنا التّفسير الأوّل.

(٢) تفسير نور الثّقلين ، ج ٣ ، ص ٦.

(٣) الشورى ، ٢٧.

٥٢

إنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإنسان الحيوية والنشاط ، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان ، فإنه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيى القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين وإذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني ، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إليه مصير البشرية؟

فيكفي لحفنة ضئيلة من العاطلين ، ذوي البطون المنتفخة ، وبدون أيّ وازع انضباطي، يكفيهم لأن يعيثوا في الأرض الفساد ، لماذا؟

لأنّ الناس ليسوا كالملائكة ، بل هناك الأهواء التي تلعب بالقلوب والمغريات التي تدني إلى الانحراف.

لقد اقتضت الحكمة الرّبانية أن يكون الإنسان حاملا لجميع الصفات الحسنة والسيئة، ويمتحن على هذه الأرض بما يحمل ، وبما ذا يعمل ، وعن ماذا يتجاوز؟ والسعي والحركة لما هو مشروع ، المجال الأمثل للامتحان.

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والامتحان ، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجران الإنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الانحراف ، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأ للفساد والطغيان.

* * *

بحوث

١ ـ ما هي خزائن الله تعالى؟

نقرأ في آيات القرآن أن : للهعزوجل خزائن ، لله خزائن السماوات والأرض ، بيده خزائن كل شيء فما هي خزائنه تعالى؟

«الخزائن» لغة جمع «خزانة» : وهي المكان المخصص لحفظ وتجميع المال.

وهي من مادة (خزن) على وزن (وزن) بمعنى : حفظ الشيء وحبسه.

٥٣

بديهي ، أن من كانت قدرته محدودة وغير قادر على أن يهيء لنفسه كل ما يحتاج إليه على الدوام ، يبدأ بجمع ما يملك وخزنه لوقت الحاجة إليه مستقبلا.

وهل يمكن تصور ذلك في شأنه سبحانه!؟ الجواب بالنفي قطعا ولهذا فسّر جمع من المفسّرين أمثال العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) والفخر الرازي في (تفسيره الكبير) والراغب في (المفردات) ، فسّروا خزائن الله بمعنى (مقدورات الله) ، يعنى : أنّ كل شيء جمع في خزانة قدرة الله ، وكل ما يخطه ضرورة أو صلاحا لمخلوقه يخلقه بقدرته.

وقد فسّر بعض كبار المفسّرين «خزائن الله» بأنّها : (مجموع ما في الكون من أصوله وعناصره وأسبابه العامّة المادية ، ومجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها)(١) .

هذا التّفسير وإن كان مقبولا من الناحية الأصولية ولكنّ تعبير «عندنا» ينسجم أكثر مع التّفسير الأوّل.

وانّ عبارة «خزائن الله» وما شابهها لا تصف مقام الرب وشأنه الجليل ، ولا يصح أن نعتبرها بعين معناها ، وإنّما استعملت للتقريب ، من باب تكلم الناس بلسانهم ، ليكونوا أكثر قربا للسمع وأشد فهما للمعنى.

وذكر بعض المفسّرين أنّ «خزائن» تختص بالماء والمطر ، ولكن من الواضح حصر مفهوم «خزائن» بهذا المصداق المحدد تقييد بلا مقيد لإطلاق مفهوم الآية ، وهو خال من أيّ دليل أو قرينة.

٢ ـ النّزول مكانيّ ومقامي

كما بيّنا سابقا أن النّزول لا يرمز إلى الحالة المكانية دوما (أي النّزول من

__________________

(١) الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٤٢.

٥٤

مكان عال إلى أسفل) ، بل يرمز إلى النّزول المقامي في بعض الموارد ، فمثلا في حال وصول نعمة من شخص ذي شأن إلى من هم أقل منه شأنا ، فإنّه يعبر عنها بالنّزول.

وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مورد النعم الإلهية ، سواء كانت نازلة من السماء إلى الأرض كالمطر ، أو ما يتوالد على الأرض كالحيوانات ، وهذا ما نلاحظه في الآية السادسة من سورة الزمر( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) ، وكذلك في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحديد ، بشأن الحديد ،( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) إلخ.

خلاصة القول :

إنّ (نزول) و (إنزال) هنا بمعنى وجود وإيجاد وخلق ، وما استعمال هذا اللفظ إلّا لأنّها نعم اللهعزوجل التي وهبها لعباده.

* * *

٥٥

الآيات

( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) )

التّفسير

دور الرّياح والأمطار :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسما من أسرار الخليقة والنعم الإلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات ، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح ومالها من آثار في عملية نزول المطر ، فيقول :( وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) .

«لواقح» جمع «لاقح» وهي تشير هنا إلى دور الرياح في تجميع قطع الحساب مع بعضها لتهيئة عملية سقوط الأمطار.

وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن الآية تشير إلى عملية تلقيح

٥٦

النباتات بواسطة الرياح ، وبها يستدلون على الإعجاز العلمي للقرآن ، على اعتبار أن عصر نزول القرآن ما كان يحظى بما وصل إليه عصرنا من العلوم الحديثة ، وأنّ إخبار القرآن بهذه الحقيقة العلمية (علمية التلقيح) من ذلك الوقت لدليل على إعجازه العلمي.

مع قبولنا بحقيقة تلقيح النباتات ودور الرياح فيها ، إلّا أنّنا لا نرى ما يشير لما ذهب إليه علماء اليوم لسببين :

الأوّل : وجود قرينة نزول المطر بعد كلمة لواقح مباشرة.

ثانيا : وجود فاء السببية بينها (بين لواقح ونزول المطر).

ممّا يبيّن بشكل جلي أن تلقيح الرياح يعقبه نزول المطر.

ويعتبر ما جاء في الآية المباركة من روائع الكلم ، حيث شبّه قطع الحساب بالآباء والأمهات يتم تزاوجهم بأثر الرياح ، فتحمل الأمهات ، ثمّ تلقي بما حملت (قطرات المطر) إلى الأرض.

ويمكن حمل( ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ ) على أنّها إشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله ، أي إنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إشارة إلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها ، أي إنّكم لا تقدرون على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله ، وأنّ اللهعزوجل هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج ، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيونا وآبارا.

ثمّ ينتقل من مظاهر توحيد الله إلى المعاد ومقدماته :( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ) ، فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهم المقدمات لبحث موضوع المعاد ، إضافة لكون هذه المسألة من مكملات موضوع التوحيد ، باعتبار مسألة الحياة منذ بدايتها وحتى انتهائها بالموت تشكل نظاما مترابطا في عالم

٥٧

الوجود لا يمكن تصور تشكيله إلّا بوجود علم وقدرة مطلقين ، بالإضافة إلى أن وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها ، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو الله تعالى.

ثمّ يضيف :( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) .

أي ، نحن على علم بهم وبما يعملون ، وإن أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا ، نرى الآية التي تليها :( وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) مرتبطة تماما مع ما قبلها ومتممة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثا ، وهذا غير معقول ، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة استعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق» ، وبتعبير آخر. مقدمة الحياة أبدية خالدة. وأمّا كونه سبحانه عليما فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة ، وكذلك في اعماق وجود الإنسان من جهة أخرى ، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

* * *

بحث

من هم المستقدمون والمستأخرون؟

ذكر المفسّرون في تفسير( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا

٥٨

الْمُسْتَأْخِرِينَ ) احتمالات كثيرة ، فذكر العلامة الطبرسي في (مجمع البيان) ستة احتمالات ، والقرطبي ثمانية احتمالات ، وأبو الفتوح الرازي بحدود العشرة احتمالات ، والملاحظة الدقيقة تظهر أنّه يمكن لنا أن نجمع كل ما ذكروه في تفسير واحد ، لأن كلمة «المستقدمين» و «المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان ، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها. وإذا ما أخذنا بهذا المعنى الجامع فيمكننا جمع كل الاحتمالات الواردة في «تقدم» و «تأخر» المذكورتين في الآية في تفسير واحد.

وفيما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحث على الاشتراك في الصف الأوّل من صفوف صلاة الجماعة أنّه قال : «إنّ الله وملائكته يصلون على الصف المتقدم»

فازدحم الناس وكانت دور بني عذرة بعيدة عن المسجد فقالوا : «لنبيعنّ دورنا ولنشترينّ دورا قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم» ، فنزلت هذه الآية.

(وأفهمتهم على أنّ الله تعالى عليم بنيّاتكم ، فحتى لو كنتم في الصف الأخير فإنّه يكتب لكم ثواب الصف الأوّل حسب نيّتكم وعزمكم على ذلك).

فمحدودية شأن نزول الآية لا يكون أبدا سببا لحصر مفهومها الواسع.

* * *

٥٩

الآيات

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الابتعاد عن إيذاء المؤمنين

يقول الحسين بن أبي العلاء: كنَّا في نحو عشرين نفراً عزمنا على الحَجِّ إلى بيت الله الحرام في مصاريف مُشتركة. وكنت أذبح لهم شاة في كل منزل ننزل فيه. وفي يوم، ونحن في السفر، زرت الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال لي: (يا حسين، أُتذلُّ المؤمنين؟!).

قلت: أعوذ بالله مِن ذلك.

فقال (عليه السلام): (بلغني أنَّك تذبح لهم في كلِّ منزل شاةً).

فقلت: يا مولاي، والله ما أردت بذلك غير وجه الله تعالى.

فقال (عليه السلام): (أما كنت ترى أنَّ فيهم مَن يُحبُّ أنْ يفعل مثل أفعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك، فيتقاصر إليه نفسه؟!).

قلت: يا ابن رسول الله، أستغفر الله ولا أعود.

لم يكن الحسين بن العلاء يرى مِن عمله سوى قرى رفاق سفره، دون أنْ ينتبه لما في ذلك في تحقير للآخرين، فبيَّن له الإمام الصادق عيبه الأخلاقي، فتنبَّه الرجل إلى ذلك فوراً، ولم يعد لمثله (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢١

اتَّق الله ولا تَعجل

عن جرير بن مرزام قال:

قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): إنِّي أُريد العُمرة، فأوصني.

قال: (اتَّق الله ولا تَعجل).

فقلت: أوصني. فلم يزد على هذا.

إنَّ العجلة والتسرُّع كانا واضحين في أُسلوب تفكيره، فهو في أول منزل مِن منازل سفره يُصادف مجهولاً ويسمع منه ما لا يُحبُّ أن يسمع. وبدلاً مِن أنْ يُناقش الرجل ويُصحِّح له خطأه، يُقرِّر مُنازلته وقتله، ولكنَّه يلتزم وصية الإمام الصادق (عليه السلام) ويُمسك نفسه عن تنفيذ قراره.

كان مُعلِّم الأخلاق الإسلاميَّة يعرف عيب جرير الخلقي، فاستثمر فرصة طلبه النصح فأوصاه بعدم التسرّع الذي كان مِن أهمِّ عُيوبه، وبذلك نجَّاه مِن خطر السقوط.

٣٢٢

الإسراف مذموم

كان منصور بن عمّار مارَّاً قرب بيت قاضي بغداد، وكان باب البيت مفتوح، فوقف منصور أمام الباب وأخذ ينظر إلى داخل البيت واسع وضخم، ولفت نظره الغرف المفروشة والأواني الفاخرة، وتعدُّد الغُلمان والخُدَّام، وتعجَّب مِن هذه الزخارف والزينة.

طلب منصور ماءً للوضوء، فملأ أحد الغُلمان إبريقاً كبيراً وجاء به إليه، وعندما جلس ليتوضَّأ أراق ماء الإبريق كلَّه، وشاهده قاضي بغداد فقال له:

يا منصور، لماذا هذا الإسراف في الماء؟

أجاب منصور: أيَّها القاضي، أنت تُحاسبي في الماء المُباح للوضوء، ولا تُحاسب نفسك على هذا الإسراف العجيب في البناء!

والله يعلم مِن أين جاءتك هذه الأموال، ولم تكتف بمنزل صغير وخادم؟!

لماذا كلُّ هذا الإسراف وتحمُّل المعصية؟!

انتبه قاضي بغداد مِن غفلته بسبب كلام منصور، واعتدل بعد ذلك في صرف الأموال (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٣

الشيطان لن ينصح مُسلماً

هناك حديث مرويٌّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) يدور حوله حوار يجري بين النبي يَحيى (عليه السلام)، وإبليس العدوِّ اللدود لبني آدم، فيُمعن النبيُّ يحيى (عليه السلام) النظر في أقوال إبليس ويستفيد منها.

قال يحيى: (فهل ظفرت بيَ ساعة قطُّ؟).

قال: لا، ولكنْ فيك خِصلة تُعجبني.

قال يحيى: (فما هي؟).

قال: أنت رجل أكول، فإذا أفطرت أكلت وبشمت، فيمنعك ذلك مِن صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى: (فإنِّي أُعطي الله بهذا (عهداً) أنِّي لا أشبع مِن الطعام حتَّى ألقاه).

قال له إبليس: وإنِّي أُعطي الله عهداً أنِّي لا أنصح مسلماً حتَّى ألقاه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٤

لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ

أرسل الخليفة العباسي عبد الله بن طاهر والياً على خراسان، فدخل هذا بجنوده مدينة نيسابور، واستقرَّ بهم في المواضع المُخصَّصة لهم، إلا أنَّها لم تتَّسع لهم جميعاً، فوزَّع بعض جنوده على الأهالي وأجبرهم على استضافتهم، فأثار فيهم موجة مِن السخط والتذمُّر.

واتَّفق لأحد الجنود أنْ يسُكن مع رجل غيور زوجته جميلة، فاضطرَّ الرجل إلى أنْ يترك عمله ليبقى في البيت رقيباً لئلا تتعرَّض زوجه لاعتداء مِن الجنديِّ الشابِّ.

في أحد الأيَّام طلب الجندي من صاحب البيت أنْ يأخذ فرسه ليورده الماء غير أنَّ الرجل الذي لم يكن - مِن جِهة - يجرؤ على ترك زوجه مع الجنديِّ وحدهما في البيت، ويخاف - مِن جِهة أُخرى - رفض طلب الجندي، قال لزوجه أنْ تأخذ هي الفرس إلى الماء، ويبقى هو للمُحافظة على أثاث البيت، فأخذت الزوجة بزمام الفرس واتَّجهت نحو موضع الماء.

وفي تلك اللحظة اتَّفق أنْ مَرَّ عبد الله بن طاهر مِن ذلك المكان، فرأى امرأة وقوراً جميلة تقود فرساً نحو الماء، فعُجب مِن ذلك، واستدعى المرأة وقال لها: لا أراك مِن اللواتي يوردن الخيل، فما الذي دعاك إلى هذا؟!

قالت المرأة بغضب: هذا نتيجة عمل عبد الله بن طاهر الظالم، ثمَّ شرحت له الأمر.

تأثَّر عبد الله مِن قول المرأة وغَضب على نفسه؛ لأنَّه كان سبباً في أنْ يَشعر أهل نيسابور بالتعاسة والشقاء، فأمر المُنادين أنْ ينادوا في البلدة أنْ على جميع الجنود الخروج مِن المدينة حتَّى الغروب مِن ذلك اليوم، ومَن بات منهم في المدينة يُهدر

٣٢٥

ماله ودمه.

وترك هو المدينة إلى (شادياخ) القريبة مِن نيسابور حيث لحق به جنوده، فبنى في تلك المنطقة الواسعة لنفسه قصراً ولجنوده مقرَّات يسكنونها.

هذه المرأة التي كانت حياتها عُرضة للخطر ذكرت عبد الله بن طاهر بالسوء، فكان مِن أثر هذا الكلام والذَّمِّ الموجع أنْ حلَّ العُقدة ورفع الظلم، لا عن نفسها وزوجها فحسب، بلْ إنَّه قد أنقذ سائر الناس مِن التعسُّف والجور، وَوُضِع حَدٌّ للحالة المُزرية التي مَرَّت بها مدينة نيسابور.

وهذا هو مصداق الآية القرآنيَّة: ( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ... ) (النساء: 148) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٦

اللَّهمَّ إنِّي أمسيت عنه راضياً فارضَ عنه

ومثلما يسعى الناس بدافع مِمَّا فيهم مِن أنانيَّة ورغبة في الحياة، إلى مُعالجة أمراضهم الجسميَّة، ويبحثون عن الدواء والعلاج، كذلك يسعى الذين يتمسَّكون بالحياة الإنسانيَّة والمعنويَّة بدافع مِن حُبِّ الذات وعِشق السموِّ والكمال، مِن أجل إصلاح أفكارهم وأخلاقهم، ويُباشرون بإرادة قويَّة بمُعالجة أنفسهم، فيقومون بواجباتهم، دون أنْ يُبالوا بالمشقَّات والصعاب. هؤلاء يستطيعون تزكية أنفسهم بما يبذلونه مِن سَعي وجُهد، ويتخلَّقون بمكارم الأخلاق والسجايا الإنسانيَّة، ليبلغوا في النهاية الكمال اللائق بمقام الإنسان.

أمثال هؤلاء كثيرون بين المسلمين، مُنذ عهد الرسول حتَّى العصر الحاضر، مِن الرجال والنساء مِن ذوي الإرادة القويَّة والعزم الراسخ، وعلى الرغم مِن أنْ أكثريَّة هؤلاء مجهلون، إلاَّ أنَّ التاريخ احتفظ لنا ببعض الأسماء، وفيها اسم عبد الله ذي البِجادَين.

كان عبد الله مِن قبيلة (هزينة) وكان اسمه عبد العُزَّى - والعُزَّى هو أحد أصنام عرب الجاهليَّة - مات أبوه وهو صغير، فكفله عَمُّه العابد للأصنام فعَني به وربَّاه حتَّى بلغ سِنَّ الشباب، فوهب له بعض أمواله وأغنامه. يومئذ كان الإسلام قد بدأ يُثير الحماس والتحرُّك في الناس، وكان كلام يدور في كلِّ مكان على هذا الدين الجديد، فكان أنْ أخذ عبد العُزَّى الشابّ يبحث عن حقيقة أمر هذا الدين بكلِّ حَماس وعِشق، مُتابعاً جميع الشؤون الإسلاميَّة، وعلى أثر سماعه كلام نبيِّ الإسلام والتعرُّف على التعاليم الإلهيَّة، أدرك فساد المُعتقدات التي كان هو وقبيلته يتَّبعونه، فعافت نفسه الأصنام وعبادتها والعادات الجاهليَّة، وآمن في قلبه بدين الله ولكنَّه لم يُظهر ذلك علانيَّة رعاية لعَمِّه.

٣٢٧

ظلَّت الحال على هذا المنوال بعض الوقت. وبعد فتح مَكَّة قال يوماً لعمِّه: ظللت أنتظرك طويلاً أنْ تعود إلى نفسك فتُسلِم وأُسلم معك، ولكنِّي أراك لا تُريد أنْ تترك عبادة الأصنام، وما تزال تُصرُّ على دينك الباطل، فاسمح لي أنْ أعتنق أنا الإسلام وألتحق بركب المسلمين. كان عَمُّه قد طرق سمعه مِن قِبل ميول ابن أخيه إلى الإسلام؛ لذلك غضب عند سماع كلامه غضباً شديداً، وقال: إنَّه لن يسمح له أبداً بذلك، وأقسم أنَّه إذا خالفه واعتنق الإسلام فسوف يسترجع منه كلَّ ما كان قد وهبه له.

كان الرجل يظنُّ أنَّ ابن أخيه الشابَّ سوف يرجع عن رأيه في الإسلام إذا هدَّده بانتزاع كلِّ شيء منه، وأنَّه سوف يطرد فكرة اعتناق الإسلام مِن رأسه، ويبقى عاكفاً على عبادة الأصنام. ولكنَّ الشابَّ كان مسلماً حقيقيَّاً، لا يُمكن أنْ تتزلزل عقيدته بالتهديد والوعيد، ولا أنْ يرجع عمَّا عزم عليه، فأعلن إسلامه بكلِّ جُرأة وصراحة، ولم يعبأ بالتهديدات الماليَّة.

عند ذلك لم يجد العمُّ إزاء مقالة الشابِّ إلاّ أنْ يُنفِّذ تهديده، فاسترجع منه كلَّ الأموال التي كان قد أعطاها له، ونزع عنه حتَّى الثوب الذي كان يرتديه، فانطلق الشابُّ عارياً إلى أُمِّه وقال لها: أحمل هوى الإسلام، ولا أطلب منك سوى إكساء العُريان. فأعطته أُمُّه قطعة مِن قماش كتَّان عندها، فشقَّها نِصفين كسا عُريِّه بهما واتَّخذ سبيله في الطريق إلى المدينة للتشرّف برؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

كان الفتى قد فُتِن بالحقيقة التي اكتشفها، فامتلأ قلبه بالثورة والحماس، والطهارة والخلوص، والصدق والصفاء. كان يغذُّ السير، كطائر أُطلق مِن سجنه وأصبح حُرَّاً يُحلِّق حيث يشاء، يُريد أنْ يرى رسول الإسلام بأسرع ما يستطيع؛ ليعُبَّ مِن عذب نمير تعاليمه الإلهيَّة المُحيية؛ ليصنع نفسه كما يليق به، ولينال السعادة الحقيقية والكمال الإنسانيِّ المنشود.

دخل المسجد بين الطلوعين عندما كان المسلمون قد اجتمعوا لأداء فريضة

٣٢٨

صلاة الصبح، فأدَّاها جماعة معهم بإمامة رسول الله. وبعد الصلاة استدعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله عمَّن يكون، فقال له: اسمي عبد العُزَّى.

ثمَّ سرد عليه ما جرى له. فقال الرسول: (اسمك عبد الله).

وإذ رآه يلفُّ نفسه بتينك القطعتين مِن القماش لقَّبه بذي البِجادَين. ومُنذ ذلك اليوم عرفه الناس باسم عبد الله ذي البِجادَين.

وخرج عبد الله ذو البِجادَين مع المسلمين في حرب تبوك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوفَّاه الله في هذه الغزوة. وعند دفنه قام النبي بنفسه بإنزال جسده إلى القبر. وبعد الانتهاء مِن مراسم الدفن، اتَّجه إلى القبلة، ورفع يديه نحو السماء ودعا له قائلاً: (اللَّهمَّ، إنِّي أمسيت عنه راضياً فارضَ عنه).

٣٢٩

التضرُّع إلى الله وأسباب الانتصار

في إحدى الحروب الإسلاميَّة حاصر جُند الإسلام إحدى قِلاع العدوِّ، بهدف الاستيلاء عليها بالقوَّة العسكريَّة، غير أنَّ القلعة كانت حصينة وطالت أيَّام الحصار. وعلى الرغم مِن أنَّ جُند الإسلام بذلوا خلال تلك المُدَّة جهوداً جبَّارة ومساعي حميدة؛ فإنَّهم لم ينجحوا في اقتحام الحِصن، فأخذت معنويَّات الجيش تهبط شيئاً فشيئاً، ويضعف عزمهم على الاستمرار .

وإذ وجد قائد الجيش أنَّ انتصاره في تلك الظروف مُستبعَد جِدَّاً، توجَّه إلى الله تعالى واستعاذ به مِن ذِلِّ النكوص فصام أيَّاماً، ورفع يديه بالدعاء إلى الله مُخلصاً صادقاً، طالباً الانتصار على العدوِّ، فتقبَّل الله تعالى دعواته، وسُرعان ما استجاب له .

كان القائد في أحد الأيَّام جالساً، فشاهد كلباً أسود يركض بين المُعسكر فشدَّ ذلك انتباهه وراح يُدقِّق فيه. وبعد ساعات وجد الكلب نفسه على حائط القلعة، فأدرك أنَّ للقلعة طريقاً إلى الخارج، وأنَّ الكلب يأتي مِن القلعة إلى المُعسكر بحثاً عن طعام ويعود إليه. فكلَّف بعض الجُند بتقصِّي مسير الكلب لمعرفة الطريق الذي يسلكه، ولكنَّهم لم يوفَّقوا للعثور على الطريق. فأمر بجراب أنْ يلوَّث بالسمن لإغراء الكلب به، ويملأ بالدفن ويُثقب في عِدَّة مواضع لينساب منه الحَبُّ فيما يجرُّ الكلب الجراب إلى حيث يُريد. ففعلوا ما أمر به، وألقوا بالجراب في المُعسكر في طريق الكلب .

وفي اليوم التالي خرج الكلب مِن القلعة مُتَّجهاً إلى المُعسكر حتَّى وصل إلى الجراب المدهون، فعضَّ عليه بأسنانه وكَرَّ راجعاً إلى القلعة، مُخلِّفاً وراءه حبَّات الدفن التي كانت تسقط مِن ثقوب الجراب. وبعد ساعة تتبَّع الجُند آثار الدفن على الأرض حتَّى وصلوا في النهاية إلى نقب كبير كان

٣٣٠

يسمح بالدخول إلى القلعة بيُسر وسهولة. فعيَّن القائد موعداً لجنده فاجتازوا النقب إلى داخل القلعة، وهاجموا العدوَّ الذي لم يجد بُدَّاً مِن الاستسلام، وانتهى الحصار بانتصار الإسلام .

لقد كان هذا الكلب دائم التردُّد على المُعسكر، ولكنَّ أحداً مِن الضباط والجنود لم يلتفت إليه؛ لأنَّ أحداً منهم لم يخطر له أنْ يكون هذا الحيوان سبباً لفتح القلعة ولانتصار المسلمين، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى عندما استجاب دعوة القائد، أوقع في قلبه أنْ يتنبَّه إلى الكلب كسبب مِن أسباب الانتصار، وبذلك أخرج المسلمين مِن مُشكلتهم الكُبرى، وفتح أمامهم باب الظفر، وأنقذهم مِن ذِلِّ الهزيمة والانكسار (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣١

يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ

إنَّ الله تعالى قد يشاء أنْ يصون المؤمنين مِن الأخطار والبلايا، بطُرق خارقة للعادة عن طريق إزالة العِلَّة التي تتهدَّدهم بالخطر، ومِن ذلك صيانة خليل الرحمان مِن الاحتراق بنيران عَبدة الأصنام .

لقد حطَّم النبي إبراهيم (عليه السلام) أصنام المُشركين، فأثار غضبهم، فقرَّروا أنْ يُحرقوه دفاعاً عن أصنامهم، فأوقدوا ناراً عظيمة وألقوا به فيها .

في مثل هذه الحالة لم يكن أمام إبراهيم الخليل مفرٌّ مِن الاحتراق في تلك النيران ليستحيل رماداً، ولكنَّ الله لم يُرِدْ له ذلك، بلْ أراد أنْ يصونه مِن نيرانهم، فقال للنار: ( ... يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (الأنبياء: 69 ).

فانقلبت النار المُحرقة برداً وسلاماً عليه بمشية الله تعالى الخاصَّة، وتبدَّل ذلك السعير المُلتهب إلى جوٍّ مِن السلامة خالٍ مِن كلِّ خطرٍ، وانهارت خُطَّة المُشركين في إحراق نبيِّ الله، وظلَّ سليماً في حفظ الله وصيانته (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٢

لا يَخرج الرجل عن مَسقط رأسه بالدَّين

إنَّ محمد بن أبي عمير كان رجلاً بزَّازاً فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير فقال: ما هذا؟

قال: هذا مالك الذي عليَّ .

قال: ورثته؟

قال: لا .

قال: وهِبَ لك؟

قال: لا .

قال: فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟

قال: لا .

قال: فما هو؟

قال: بعت داري التي أسكنها لأقضي دَيني .

فقال محمد بن أبي عمير: حدَّثني ذريح المُحاربي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يخرج الرجل عن مَسقط رأسه بالدَّين) (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٣

أذلُّ الناس مَن أهان الناس

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أذلُّ الناس مَن أهان الناس ).

روي أنَّ عمر بن عبد العزيز دخل إليه رجل، فذكر عنده عن رجلٍ شيئاً .

فقال عمر: إنْ شئتَ نظرنا في أمرك، فإنْ كنت كاذباً فأنت مِن أهل هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) (الحجرات: 6)، وإنْ كنت صادقاً فأنت مِن أهل هذه الآية: ( هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ) (القلم: 11)، وإنْ شئتَ عَفونا عنك؟

فقال: العفو، لا أعود إلى مثل ذلك أبداً (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٤

البادئ أظلم

كان مُعاوية بن أبي سفيان مِن بني أُميَّّة، وعقيل مِن بني هاشم، وكان آل هاشم سادات قريش، مُكرَّمين ومُحترمين، بينما كان آل أُميَّة يشعرون قِبالهم بالصِّغار والضِّعة، فكان ذلك مُدعاة لحِقدهم على آل هاشم، والسعي لمُعاداتهم والانتقام منهم .

كان مجلس مُعاوية في الشام يوماً مُكتظَّاً بالحاضرين، ومنهم عقيل، فأراد مُعاوية أنْ ينتهز الفرصة لينتقص منه، فالتفت إلى الحاضرين وسألهم، أتدرون مَن أبو لهب؟ الذي قال عنه القرآن: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ... ) (المسد: 1) إنَّه عَمُّ عقيل هذا .

فبادر عقيل قائلاً: أتدرون مَن كانت زوج أبي لهب؟ التي قال عنها القرآن: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (المسد: 4 - 5) إنَّها عَمَّة مُعاوية هذا .

كان مُعاوية يومئذ في أوج سُلطانه وفي يده أزمَّة الأُمور في البلاد الإسلاميَّة الشاسعة، فلم يكن أحد ليجرؤ على إهانته، ولكنَّه بكلامه المُهين الذي قاله في عقيل، مزَّق ستار الاحترام عن نفسه وجرَّأ عقيلاً على أنْ يُكلِّمه بغِلظة، وأنْ يردَّ إهانته بمِثلها ويُحقِّره أمام الحاضرين (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٥

لعنة الله على الظالمين

كان الحَكم مِن ألدِّ أعداء الإسلام، وساهم مع مُشركي مَكَّة في إيذاء الرسول والمسلمين، وبعد هِجرة الرسول إلى المدينة، ظلَّ الحَكم في صفوف أعداء الإسلام ولم يترك إيذاء المسلمين، وعندما فتح جُند الإسلام مَكَّة تظاهر باعتناق الإسلام، وترك مَكَّة إلى المدينة، ولكنَّه لم يكفَّ هناك عن أعماله القبيحة، فاضطرَّ الرسول إلى نفيه إلى الطائف حيث ظلَّ حتَّى حُكم عثمان .

بعد موت يزيد بن مُعاوية، تسلَّم مروان بن الحَكم كرسيَّ الخلافة في الشام، وراح يدير شؤون البلاد، غير أنَّ أهل مَكَّة والمدينة لم يُبايعوه؛ لأنَّهم كانوا قد بايعوا عبد الله بن الزبير بالخلافة على نجد والحِجاز .

وبعد موت مروان خَلَفه ابنه عبد الملك، فصمَّم هذا على القضاء علىخلافة عبد الله بن الزبير عن طريق الحرب؛ ليبسط سُلطانه على تلك البلاد أيضاً، فأرسل الحَجَّاج بن يوسف على رأس جيش إلى مَكَّة، حيث اندلعت حرب ضَروس، انتصر فيها الحَجَّاج، وقتل عبد الله بن الزبير، ودخلت منطقة نجد والحِجاز الواسعة في مُلك عبد الملك القويِّ .

كان لعبد الله بن الزبير ولد اسمه ثابت اشتهر بالخطابة، حتَّى سمَّوه بلسان آل الزبير، وفي أحد الأيَّام دخل ثابت على عبد الملك، خليفة بني مروان المُقتدر مبعوثاً مِن قبل شخصٍ ما. فبادر عبد الملك إلى تحقيره وذكر مثالب آل الزبير، وقال له: إنَّ أباك كان يعرفك يوم سبَّك وشتمك .

فغضب ثابت مِن كلامه، وقال له: يا خليفة، أتدري لِمَ كان أبي يسبُّني؟

قال: كلا .

قال ثابت: لأنِّي كنت أنصحه بألاَّ يدخل الحرب اعتماداً على مُساندة أهل مَكَّة؛ لأنَّ الله لا ينصر بهم أحد؛ ولأنَّ أهل مَكَّة هُمْ الذين آذوا الرسول وأخرجوه منها،

٣٣٦

ثمَّ جاؤوا إلى المدينة واستمرُّوا في فسادهم وقبيح أعمالهم، حتَّى نفاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها عقاباً لهم .

كان هذا تعريفاً مِن ثابت بن عبد الله بالحَكم بن أبي العاص، جَدِّ عبد الملك قصد به رَدَّ إهانته والانتقام منه لما تفوّه به عنه، فغضب عبد الملك، وقال: لعنة الله عليك .

فردَّ ثابت في الحال: لعنة الله على الظالمين، كما لعنهم الله في القرآن الكريم .

وكان هذا تعريفاً آخر بعبد الملك، فاشتدَّ غضبه وأمر بسجن ثابت .

عبد الملك بن مروان، الخليفة القويُّ المُقتدر، بذكره مثالب ثابت بن عبد الله عرَّض نفسه لإهانته وتحقيره، وبلعنه زاد مِن جُرأة ثابت على رَدِّ اللعنة، وإنْ كان مِن دون تصريح، وبسجنه دلَّ على ضعفه وكَشف عن عجزه، وكأنَّه في الحقيقة قد اعترف بهزيمته (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٧

ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه

كان ليزيد بن أبي مسلم مقامٌ رفيعٌ في حكومة الحَجَّاج، إذ كان كاتبه الخاصَّ، ولكنَّه كان يتدخَّل في كلِّ أمر. وفي أيَّام خلافة سليمان بن عبد الملك طُرِد مِن وظيفته وأصبح غير مرغوب فيه .

وفي يوم مِن الأيَّام أُدخل على سليمان بن عبد الملك وهو مُكبَّل بالحديد، فلمَّا رآه ازدراه، فقال :

ما رأيت كاليوم قطُّ. لعنَ الله رجلاً أجرك رَسنه وحَكَّمك في أمره .

فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنَّك رأيتني والأمر عنِّي مُدبر، وعليك مُقبل، ولو رأيتني والأمر مُقبل عليَّ لأستعظمت منِّي ما استصغرت، ولأستجللت منِّي ما استحقرت .

قال: صدقت، فاجلِس، لا أُمَّ لك .

فلمَّا استقرَّ به المجلس، قال سليمان: عزمت عليك لتُخبرني عن الحَجَّاج، ما ظنُّك به؟ أتراه يهوي في جهنَّم، أمْ قد استقرَّ فيها؟

قال: يا أمير المؤمنين، لا تقلُ هذا في الحَجَّاج، فقد بذل لكم نصَفه وأحقن دونكم دمه، وأمَّن وليكم، وأخاف عدوَّكم، وإنَّ يوم القيامة لعن يمين أبيك عبد الملك ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت .

فصاح سليمان: أُخرج عنِّي إلى لعنة الله .

ثمَّ التفت إلى جلسائه فقال: قبَّحه الله! ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المُكافأة، خلُّوا سبيله (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٨

لا تذيعَنَّ شيئاً على أخيك تَهدم به مروَّته

محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام)، قال :

قلت له: الرجل مِن إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأسأله ذلك فيُنكره، وقد أخبرني قوم ثقات .

قال لي: (يا محمد، كَذِّب سمعك وبصرك على أخيك، فإنْ شهد عندك قَسَّامة قالوا لك قولاً فصدِّقه وكذِّبهم، ولا تُذيعن عليه شيئاً تُشينه به وتهدم به مروَّته، فتكون مِن الذين قال الله تعالى فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ... ) ) (النور: 19) (1) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٩

مُروءة قائدٍ

كان إسماعيل بن أحمد الساماني يحكُم بلاد ما وراء النهر، فعزم عمرو بن الليث الصفاري على أنْ يُحاربه، ويُخرجه مِن ما وراء النهر، ويضمَّ أرضه إلى أرض بلدته التي يحكمها، فجهَّز جيشاً كبيراً في نيسابور، ثمَّ انطلق نحو بلخ، فبعث إليه إسماعيل بن أحمد برسالة قائلاً:

إنَّك تحكم أرضاً واسعة بينما لا أحكم أنا إلاَّ على منطقة صغيرة مِن ما وراء النهر، فاقنع بما عندك واترك لي ما عندي. ولكن عمرو بن الليث لم يلتفت إلى قوله، وواصل سيره وعبر نهر جيحون وطوى المنازل حتَّى بلغ بلخ.

هناك اختار مكاناً لجيشه، حيث حفر الخنادق وأعدَّ المراصد وقضى بضعة أيَّام يتهيَّأ للقتال، بينما ظلَّت فرق جيشه تتوافد وتستقرُّ في المكان المُخصَّص لها.

أمَّا قوَّاد إسماعيل بن أحمد وحاشيته، الذين كانوا قد سمعوا بشجاعة عمرو بن الليث، فعندما شاهدوا كثرة جنوده المُدجَّجين بالسلاح ارتعبوا وتشاوروا فيما بينهم قائلين: إنَّنا إنْ دخلنا الحرب مع عمرو وجنوده الأشدَّاء فإمَّا أنْ نُقتل عن آخرنا، وإمَّا أنْ نولِّي الأدبار عندما يَحمى وطيس الحرب ونرضى بذِلِّ الفرار، وكلا هذين الأمرين ليس فيهما عقل ولا صلاح، فمِن الخير - إذنْ - أنْ نغتنم الفرصة فنتقرَّب إليه ونطلب منه الأمان قبل أنْ تقع الهزيمة المُحتَّمة فهو رجل عاقل وقويٌّ، ولا يُنتظر منه أنْ تشوَّه سمعته بقتل هذا وذاك وهو سلاح العجزة والحَمقى.

فقال أحد الحاضرين: هذا كلام معقول ونصحُ شفوق فلا بُدَّ مِن العمل به.

فتقرَّر أنْ يجتمعوا في ليلة مُعيَّنة؛ لينفذُّوا ما عزموا عليه، وفي الليلة المُعيَّنة اجتمعوا وكتب كلٌّ منهم رسالة إلى عمرو يَعرضون عليه إخلاصهم ووفاءهم له طالبين منه الأمان، ووصلت الرسائل إلى يد عمرو، فقرأها واطّلع على مضامينها، ووضعها في خُرجه وختمه بختمه وأرسل إليهم بالأمان الذي طلبوه.

ودارت رَحى الحرب وانتصر إسماعيل بن أحمد بخلاف ما كان قوَّاده يتوقَّعون،

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496