الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 215921 / تحميل: 6696
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فيه ، وقد سطعت نورانيّته ، والذين يسيرون في طريقه سعداء منتصرون؟!

ولكي نعرف مدى أثر القرآن في التوعية وما له من البركات ، فيكفي أن نرى حال سكّان جزيرة العرب قبل نزول القرآن عليهم ، إذ كانوا يعيشون في جاهلية جهلاء وفقر وتعاسة وتفرّق وتمزّق ، ثمّ نرى حالهم بعد نزول القرآن حيث أصبحوا أسوة ومثلا حسنا للآخرين ، ونرى كذلك حال الأقوام الآخرين قبل وصول القرآن إليهم وبعده.

* * *

١٨١

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) )

التّفسير

تخطيط إبراهيمعليه‌السلام لتحطيم الأصنام :

قلنا : أنّ هذه السورة تحدّثت ـ كما هو معلوم من اسمها ـ عن جوانب عديدة من حالات الأنبياء ـ ستّة عشر نبيّا ـ فقد أشير في الآيات السابقة إشارة قصيرة إلى رسالة موسى وهارونعليهما‌السلام ، وعكست هذه الآيات وبعض الآيات الآتية جانبا

١٨٢

مهمّا من حياة إبراهيمعليه‌السلام ومواجهته لعبدة الأصنام ، فتقول أوّلا :( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ) .

«الرشد» في الأصل بمعنى السير إلى المقصد والغاية ، ومن الممكن أن يكون هنا إشارة إلى حقيقة التوحيد ، وأنّ إبراهيم عرفها واطّلع عليها منذ سني الطفولة.

وقد يكون إشارة إلى كلّ خير وصلاح بمعنى الكلمة والواسع.

والتعبير بـ( مِنْ قَبْلُ ) إشارة إلى ما قبل موسى وهارونعليهما‌السلام .

وجملة( وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ) إشارة إلى مؤهّلات واستعدادات إبراهيم لاكتساب هذه المواهب ، وفي الحقيقة إنّ الله سبحانه لا يهب موهبة عبثا وبلا حكمة ، فإنّ هذه المؤهّلات استعداد لتقبّل المواهب الإلهيّة ، وإن كان مقام النبوّة مقاما موهوبا.

ثمّ أشارت إلى أحد أهمّ مناهج إبراهيمعليه‌السلام ، فقالت : إنّ رشد إبراهيم قد بان عند ما قال لأبيه وقومه ـ وهو إشارة إلى عمّه آزر ، لأنّ العرب تسمّي العمّ أبا ـ ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) .

لقد حقّر إبراهيمعليه‌السلام الأصنام التي كان لها قدسيّة في نظر هؤلاء بتعبير( ما هذِهِ ) (١) أوّلا ، وثانيا بتعبير( التَّماثِيلُ ) لأنّ التمثال يعني الصورة أو المجسّمة التي لا روح لها. ويقول تاريخ عبادة الأصنام : إنّ هذه المجسّمات والصور كانت في البداية ذكرى للأنبياء والعلماء ، إلّا أنّها اكتسبت قدسيّة وأصبحت آلهة معبودة بمضي الزمان.

وجملة( أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) بملاحظة معنى «العكوف» الذي يعني الملازمة المقترنة بالاحترام ، توحي بأنّ أولئك كانوا يحبّون الأصنام ، ويطأطئون رؤوسهم في حضرتها ويطوفون حولها ، وكأنّهم كانوا ملازميها دائما.

__________________

(١) إنّ التعبير بـ (ما) في مثل هذه الموارد يشير عادة إلى غير العاقل ، واسم الإشارة القريب أيضا يعطي معنى التحقير أيضا ، وإلّا كان المناسب الإشارة إلى البعيد.

١٨٣

إنّ مقولة إبراهيمعليه‌السلام هذه في الحقيقة استدلال على بطلان عبادة الأصنام ، لأنّ ما نراه من الأصنام هو المجسّمة والتمثال ، والباقي خيال وظنّ وأوهام ، فأي إنسان عاقل يسمح لنفسه أن يوجب عليها كلّ هذا التعظيم والاحترام لقبضة حجر أو كومة خشب؟ لماذا يخضع الإنسان ـ الذي هو أشرف المخلوقات ـ أمام ما صنعه بيده ، ويطلب منه حلّ مشاكله ومعضلاته؟!

إلّا أنّ عبدة الأصنام لم يكن عندهم ـ في الحقيقة ـ جواب أمام هذا المنطق السليم القاطع ، سوى أن يبعدوا المسألة عن أنفسهم ويلقوها على عاتق آبائهم ، ولهذا( قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ) .

ولمّا كانت حجّتهم بأنّ «هذه العبادة هي سنّة الآباء» غير مجدية نفعا ولا نمتلك دليلا على أنّ السابقين من الآباء والأجداد أعقل وأكثر معرفة من الأجيال المقبلة ، بل القضيّة على العكس غالبا ، لأنّ العلم يتّسع بمرور الزمن ، فأجابهم إبراهيم مباشرة فـ( قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ هذا التعبير المقترن بأنواع التأكيدات ، والحاكي عن الحزم التامّ سبّب أن يرجع عبدة الأصنام إلى أنفسهم قليلا ، ويتوجّهوا إلى التحقّق من قول إبراهيم ، فأتوا إلى إبراهيم( قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ) لأنّ أولئك الذين كانوا قد اعتادوا على عبادة الأصنام ، وكانوا يظنّون أنّ ذلك حقيقة حتميّة ، ولم يكونوا يصدّقون أنّ أحدا يخالفها بصورة جديّة ، ولذلك سألوا إبراهيم هذا السؤال تعجّبا.

إلّا أنّ إبراهيم أجابهم بصراحة :( قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

إنّ إبراهيمعليه‌السلام قد بيّن بهذه الكلمات القاطعة أنّ الذي يستحقّ العبادة هو خالقهم وخالق الأرض وكلّ الموجودات ، أمّا قطع الحجر والخشب المصنوعة فهي لا شيء ، وليس لها حقّ العبادة ، وخاصة وقد أكّد بجملة( وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فأنا لست الشاهد الوحيد على هذه الحقيقة ، بل إنّ كلّ العقلاء الذين

١٨٤

قطعوا حبل التقليد الأعمى شاهدون على هذه الحقيقة.

ومن أجل أن يثبت إبراهيم جديّة هذه المسألة ، وأنّه ثابت على عقيدته إلى أبعد الحدود ، وأنّه يتقبّل كلّ ما يترتّب على ذلك بكلّ وجوده ، أضاف :( وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ) .

«أكيدنّ» مأخوذة من الكيد ، وهو التخطيط السري ، والتفكير المخفي وكان مراده أن يفهمهم بصراحة بأنّني سأستغلّ في النهاية فرصة مناسبة واحطّم هذه الأصنام!

إلّا أنّ عظمة وهيبة الأصنام في نفوسهم ربّما كانت قد بلغت حدّا لم يأخذوا معه كلام إبراهيم مأخذ الجدّ ، ولم يظهروا ردّ فعل تجاهه ، وربّما ظنّوا بأنّ أي إنسان لا يسمح لنفسه أن يهزأ ويسخر من مقدّسات قوم تدعم حكومتهم تلك المقدّسات تماما ، بأيّة جرأة؟ وبأيّة قوّة؟!

ومن هنا يتّضح أنّ ما قاله بعض المفسّرين من أنّ هذه الجملة قد قالها إبراهيم سرّا في نفسه ، أو بيّنها لبعض بصورة خاصّة لا داعي له ، خاصّة وأنّه مخالف تماما لظاهر الآية. إضافة إلى أنّنا سنقرأ بعد عدّة آيات أنّ عبّاد الأصنام قد تذكّروا قول إبراهيم ، وقالوا : سمعنا فتى كان يتحدّث عن مؤامرة ضدّ الأصنام.

على كلّ حال ، فإنّ إبراهيم نفّذ خطّته في يوم كان معبد الأوثان خاليا من الناس ولم يكن أحد من الوثنيين حاضرا.

وتوضيح ذلك : إنّه طبقا لنقل بعض المفسّرين ، فإنّ عبدة الأوثان كانوا قد اتّخذوا يوما خاصّا من كلّ سنة عيدا لأصنامهم ، وكانوا يحضرون الأطعمة عند أصنامهم في المعبد في ذلك اليوم ، ثمّ يخرجون من المدينة أفواجا ، وكانوا يرجعون في آخر النهار ، فيأتون إلى المعبد ليأكلوا من ذلك الطعام الذي نالته البركة في اعتقادهم.

وكانوا قد عرضوا على إبراهيم أن يخرج معهم ، إلّا أنّه اعتذر بالمرض ولم

١٨٥

يخرج معهم.

على كلّ حال ، فإنّ إبراهيم من دون أن يحذر من مغبّة هذا العمل وما سيحدث من غضب عبدة الأصنام العارم ، دخل الميدان برجولة وتوجّه إلى حرب هذه الآلهة الجوفاء ـ التي لها أنصار متعصّبون جهّال ـ بشجاعة خارقة وحطّمها بصورة يصفها القرآن فيقول :( فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ) وكان هدفه من تركه( لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ) (١) .

* * *

ملاحظتان

١ ـ الصنميّة في أشكال متعدّدة

صحيح أنّ أذهاننا تنصرف من لفظ عبادة الأصنام إلى الأصنام الحجرية والخشبية على الأكثر ، إلّا أنّ الصنم والصنمية ـ من وجهة نظر ـ لها مفهوم واسع يشمل كلّ ما يبعد الإنسان عن الله ، بأي شكل وصورة كان ، حيث يقول الحديث المعروف : «كلّما شغلك عن الله فهو صنمك».

وفي حديث عن الأصبغ بن نباته ـ وهو أحد أصحاب الإمام عليعليه‌السلام المعروفين أنّه قال : انّ علياعليه‌السلام مرّ بقوم يلعبون الشطرنج ، فقال : «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم الله ورسوله»(٢) .

__________________

(١) قال كثير من المفسّرين : إنّ مرجع ضمير (إليه) إلى إبراهيم ، وقال البعض أنّ المراد هو الصنم الكبير ، إلّا أنّ الأوّل يبدو هو الأصحّ.

أمّا ما نقرؤه في الآية آنفة الذكر من أنّه كان أكبرهم ، فيمكن أن يكون إشارة إلى كبره الظاهري ، أو إشارة إلى احترامه من قبل عبّاد الأصنام الخرافيين ، أو إلى الإثنين معا.

(٢) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٨٦

٢ ـ قول عبدة الأصنام وجواب إبراهيم

ممّا يلفت النظر أنّ عبدة الأصنام قالوا في جواب إبراهيمعليه‌السلام ، اعتمادا على كثرتهم ، وعلى طول الزمان : إنّا وجدنا آباءنا على هذا الدين. فأجابهم على كلا الشّقين ، بأنّكم كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين دائما. أي إنّ الإنسان العاقل الذي له تفكير مستقل لا يربط نفسه بمثل هذه الأوهام مطلقا ، فلا يعتبر كثرة الأنصار للمذهب المتداول دليلا على أصالته ، وكذلك لا يعتنى بدوامه وتجذّره.

* * *

١٨٧

الآيات

( قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) )

التّفسير

إبراهيم وبرهانه المبين :

وأخيرا انتهى يوم العيد ، ورجع عبدة الأصنام فرحين إلى المدينة ، فأتوا إلى المعبد مباشرة ، حتّى يظهروا ولاءهم للأصنام ، وليأكلوا من الأطعمة التي تبرّكت ـ

١٨٨

بزعمهم ـ بمجاورة الأصنام. فما أن دخلوا المعبد حتّى واجهوا منظرا أطار عقولهم من رؤوسهم ، فقد وجدوا تلّا من الأيادي والأرجل المكسّرة المتراكمة بعضها على البعض الآخر في ذلك المعبد المعمور ، فصاحوا و( قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا ) (١) ؟! ولا ريب أنّ من فعل ذلك فـ( إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فقد ظلم آلهتنا ومجتمعنا ونفسه! لأنّه عرض نفسه للهلاك بهذا العمل.

إلّا أنّ جماعة منهم تذكّروا ما سمعوه من إبراهيمعليه‌السلام وازدرائه بالأصنام وتهديده لها وطريقة تعامله السلبي لهذه الآلهة المزعومة!( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) (٢) .

صحيح أنّ إبراهيم ـ طبقا لبعض الرّوايات ـ كان شابا ، وربّما لم يكن سنّة يتجاوز (١٦) عاما ، وصحيح أنّ كلّ خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصراحة والحزم قد جمعت فيه ، إلّا أنّه من المسلّم به أنّ مراد عبّاد الأصنام لم يكن سوى التحقير ، فبدل أن يقولوا : إنّ إبراهيم قد فعل هذا الفعل ، قالوا : إنّ فتى يقال له إبراهيم كان يقول كذا أي إنّه فرد مجهول تماما ، ولا شخصيّة له في نظرهم.

إنّ المألوف ـ عادة ـ عند ما تقع جريمة في مكان ما ، فإنّه ومن أجل كشف الشخص الذي قام بهذا العمل ، تبحث علاقات الخصومة والعداء ، ومن البديهي أنّه لم يكن هناك شخص في تلك البيئة من يعادي الأصنام غير إبراهيم ، ولذلك توجّهت إليه أفكار الجميع ، و( قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ) عليه بالجريمة.

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (من) هنا موصولة ، إلّا أنّ ملاحظة الآية التالية التي هي في حكم الجواب ، فسيظهر أنّ (من) هنا استفهامية.

(٢) كما أشرنا سابقا : إنّ الوثنيين لم يكونوا مستعدّين للقول : أنّ هذا الفتى كان يعيب الآلهة ، بل قالوا فقط : إنّه كان يتحدّث عن الأصنام.

١٨٩

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد مشاهدة منظر عقاب إبراهيم ، لا الشهادة على كونه مجرما. غير أنّ الآيات المقبلة التي لها صبغة التحقيق والاستجواب تنفي هذا الاحتمال ، إضافة إلى أنّ التعبير بـ «لعلّ» لا يناسب المعنى الثّاني ، لأنّ الناس إذا حضروا ساحة العقاب فسيشاهدون ذلك المنظر حتما ، فلا معنى لـ «لعلّ».

فنادى المنادون في نواحي المدينة : «ليحضر كلّ من يعلم بعداء إبراهيم وإهانته للأصنام» ، فاجتمع كلّ الذين كانوا يعلمون بالموضوع ، وكذلك سائر الناس ليروا أين ستصل عاقبة عمل هذا المتّهم؟

لقد حدثت ضجّة وهمهمة عجيبة بين الناس ، لأنّ هذا العمل كان في نظرهم جريمة لم يسبق لها نظير من قبل شابّ مثير للفتن والمتاعب ، وكانت قد هزّت البناء الديني للناس.

وأخيرا تشكّلت المحكمة ، وكان زعماء القوم قد اجتمعوا هناك ، ويقول بعض المفسّرين : أنّ نمرود نفسه كان مشرفا على هذه المحاكمة ، وأوّل سؤال وجّهوه إلى إبراهيمعليه‌السلام هو أن :( قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ) ؟

هؤلاء لم يكونوا مستعدّين حتّى للقول : أأنت حطّمت آلهتنا وجعلتها قطعا متناثرة؟ بل قالوا فقط : أأنت فعلت بآلهتنا ذلك؟

فأجابهم إبراهيم جوابا أفحمهم ، وجعلهم في حيرة لم يجدوا منها مخرجا( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) .

إنّ من أسس علم معرفة الجرائم أن يكون المتّهم بادية عليه آثار الجريمة ، والملاحظ هنا أنّ آثار الجريمة كانت بادية على يد الصنم الكبير ، [وفقا للرواية المعروفة : إنّ إبراهيم جعل الفأس على رقبة الصنم الكبير].

لماذا تأتون إليّ؟ ولماذا لا تتّهمون إلهكم الكبير؟ ألا تحتملون أنّه غضب على الآلهة الصغيرة ، أو إنّه اعتبرهم منافسيه في المستقبل فعاقبهم؟

١٩٠

ولمّا كان ظاهر هذا التعبير لا يطابق الواقع في نظر المفسّرين ، ولمّا كان إبراهيم نبيّا معصوما ولا يكذب أبدا ، فقد ذكروا تفاسير مختلفة ، وأفضلها كما يبدو هو :

إنّ إبراهيمعليه‌السلام قد نسب العمل إلى كبير الأصنام قطعا ، إلّا أنّ كلّ القرائن تشهد أنّه لم يكن جادّا في قصده ، بل كان يريد أن يزعزع عقائد الوثنين الخرافية الواهية ، ويفنّدها أمامهم ، ويفهم هؤلاء أنّ هذه الأحجار والأخشاب التي لا حياة فيها ذليلة وعاجزة إلى الحدّ الذي لا تستطيع أن تتكلّم بجملة واحدة تستنجد بعبّادها ، فكيف يريدون منها أن تحلّ معضلاتهم؟!

ونظير هذا التعبير كثير في محادثاتنا اليوميّة ، فنحن إذا أردنا إبطال أقوال الطرف المقابل نضع أمامه مسلّماته على هيئة الأمر أو الإخبار أو الاستفهام ، وهذا ليس كذبا أبدا ، بل الكذب هو القول الذي لا يمتلك القرينة معه.

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب الكافي : «إنّما قال : بل فعله كبيرهم ، إرادة الإصلاح ، ودلالة على أنّهم لا يفعلون» ثمّ قال : «والله ما فعلوه وما كذّب».

واحتمل جمع من المفسّرين أنّ إبراهيم قد أدّى هذا المطلب بشكل جملة شرطيّة وقال : إنّ الأصنام إذا كانت تتكلّم فإنّها قد فعلت هذا الفعل ، ومن المسلّم أنّ هذا التعبير لم يكن خلاف الواقع ، لأنّ الأصنام لم تكن تتكلّم ، ولم تكن قد أقدمت على مثل هذا العمل ، ولم يصدر منها ، ووردت رواية في مضمون هذا التّفسير أيضا.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب ، لأنّ الجملة الشرطيّة «إن كانوا ينطقون» جواب الطلب في «فاسألوهم» ، وليست شرطا لجملة «بل فعله كبيرهم».

(فلاحظوا بدقّة).

واللطيفة الاخرى التي ينبغي الالتفات إليها هي : إنّ العبارة هي أنّه يجب أن

١٩١

يسأل من الأصنام المحطّمة الأيدي والأرجل عمّن فعل بها ذلك ، لا من الصنم الكبير لأنّ ضمير (هم) ، وكذلك ضمائر «إن كانوا ينطقون» كلّها بصيغة الجمع ، وهذا أنسب مع التّفسير الأوّل(١) .

لقد هزّت كلمات إبراهيم الوثنيين وأيقظت ضمائرهم النائمة الغافلة ، وأزاح الرماد عن شعلة النّار فأضاءها ، وأنار فطرتهم التوحيديّة من خلف حجب التعصّب والجهل.

في لحظة سريعة استيقظوا من هذا النوم العميق ورجعوا إلى فطرتهم ووجدانهم ، كما يقول القرآن :( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) فقد ظلمتم أنفسكم ومجتمعكم الذي تنتمون إليه ، وكذلك ساحة الله واهب النعم المقدّسة.

والطريف في الأمر أنّنا قرأنا في الآيات السابقة أنّهم اتّهموا إبراهيم بكونه ظالما ، وهنا قبلوا واعترفوا في أنفسهم بأنّ الظالم الأصلي والحقيقي هو أنفسهم.

وفي الواقع فإنّ كلّ مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية ، لا تحطيم الأصنام ذاتها ، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيّون العنودون أصناما أكبر منها وجعلوها مكانها ، وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المسألة في تأريخ الأقوام الجاهلين المتعصّبين.

إلى الآن استطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حسّاسة جدا من طريق تبليغه الرسالة ، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسيّة هائجة.

ولكن للأسف ، فإنّ صدأ الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يصقل ويمحى تماما بنداء بطل التوحيد.

__________________

(١) إضافة إلى أنّ ضمير كبيرهم مع البقيّة متشابه.

(٢) احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ ) أنّهم تحدّثوا بينهم عن ذلك الكلام ، ولام بعضهم بعضا. إلّا أنّ ما قلناه يبدو هو الأصحّ.

١٩٢

وللأسف لم تستمر هذه اليقظة الروحية المقدّسة ، وثارت في ضمائرهم الملوّثة المظلمة قوى الشيطان والجهل ضدّ نور التوحيد هذا ، ورجع كلّ شيء إلى حالته الأولى ، وكم هو لطيف تعبير القرآن حيث يقول :( ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ) ومن أجل أن يأتوا بعذر نيابة عن الآلهة البكم قالوا :( لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) فإنّهم دائما صامتون ، ولا يحطّمون حاجز الصمت. وأرادوا بهذا العذر الواهي أن يخفوا ضعف وذلّة الأصنام.

وهنا فتح أمام إبراهيم الميدان والمجال للاستدلال المنطقي ليوجّه لهم أشدّ هجماته ، وليرمي عقولهم بوابل من التوبيخ واللوم المنطقي الواعي :( قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ) ؟ فما ذا تنفع هذه الآلهة المزعومة الخياليّة التي لا قدرة لها على الكلام ، وليس لها شعور وإدراك ، ولا تقدر أن تدافع عن نفسها ، ولا تستطيع أن تحمي عبّادها ، ولا يصدر عنها أي عمل؟

إنّ عبادة معبود ما إنّما يكون لأهليّته للعبادة ، ومثل هذا الأمر لا معنى له في شأن الأصنام الميتة ، أو يعبد رجاء فائدة ونفع تعود عليهم من قبله ، أو الخوف من خسارتهم ، إلّا أنّ إقدامي على تحطيم الأصنام أوضح أنّها لا تملك أدنى حركة ، ومع هذا الحال ألا يعتبر عملكم هذا حمقا وجهالة؟!

ووسّع معلّم التوحيد دائرة الكلام ، وانهال بسياط التقريع على روحهم التي فقدت الإحساس ، فقال :( أُفٍ ) (١) ( لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟ إلّا أنّه لم يلحّ في توبيخهم وتقريعهم لئلّا يلجّوا في عنادهم.

في الحقيقة ، كان إبراهيم يتابع خطّته بدقّة متناهية ، فأوّل شيء قام به عند دعوتهم إلى التوحيد هو أن ناداهم قائلا : ما هذه التماثيل التي تعبدونها؟ وهي

__________________

(١) بحثنا في معنى( أُفٍ ) بصورة أكثر تفصيلا في ذيل الآية (٢٣) من سورة الإسراء

١٩٣

لا تحسّ ولا تتكلّم وإذا كنتم تقولون : إنّها سنّة آبائكم ، فقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.

وفي المرحلة الثّانية أقدم على خطّة عملية ليبيّن أنّ هذه الأصنام ليست لها تلك القدرة على إهلاك كلّ من ينظر إليها نظرة احتقار ، خاصة وأنّه ذهب إليها مع سابق إنذار وحطّمها تماما ، وليوضّح أنّ تلك الأوهام التي حاكوها مجتمعين لا فائدة ولا ثمر فيها.

وفي المرحلة الثّالثة أوصلهم في تلك المحكمة التاريخيّة إلى طريق مسدود ، فمرّة دخل إليهم عن طريق فطرتهم ، وتارة خاطب عقولهم ، وأخرى وعظّهم ، وأحيانا وبّخهم ولامهم.

والخلاصة ، فإنّ هذا المعلّم الكبير قد دخل من كلّ الأبواب ، واستخدم كلّ طاقته ، إلّا أنّ من المسلّم أنّ القابلية شرط في التأثير ، وكان هذا قليل الوجود بين أولئك القوم للأسف.

ولكن لا شكّ أنّ كلمات إبراهيمعليه‌السلام وأفعاله بقيت كأرضيّة للتوحيد ، أو على الأقل بقيت كعلامات استفهام في أذهان أولئك ، وأصبحت مقدّمة ليقظة ووعي أوسع في المستقبل. ويستفاد من التواريخ أنّ جماعة آمنوا به ، وهم وإن قلّوا عددا ، إلّا أنّهم كانوا من الأهميّة بمكان ، إذ هيّئوا الاستعداد النسبي لفئة أخرى.

* * *

١٩٤

الآيات

( قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) )

التّفسير

عند ما تصير النّار جنّة :

مع أنّ عبدة الأوثان أسقط ما في أيديهم نتيجة استدلالات إبراهيم العمليّة والمنطقيّة ، واعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة ، إلّا أنّ عنادهم وتعصّبهم الشديد منعهم من قبول الحقّ ، ولذلك فلا عجب من أنّ يتّخذوا قرارا صارما وخطيرا في شأن إبراهيم ، وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة ، أي حرقه وجعله رمادا!

هناك علاقة عكسية بين القوّة والمنطق عادة ، فكلّ من اشتدّت قوّته ضعف منطقه ، إلّا رجال الحقّ فإنّهم كلّما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعا ومنطقا.

وعند ما لا يحقّق المتعصّبون شيئا عن طريق المنطق ، فسوف يتوسّلون بالقوّة فورا ، وقد طبّقت هذه الخطّة في حقّ إبراهيم تماما كما يقول القرآن الكريم :( قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

١٩٥

إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم ـ عادة ـ لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه الحادثة ، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم ، فقالوا : إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر ، وقد سحقت سنّة آبائكم وأجدادكم ، فأين غيرتكم وحميّتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلّاء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم ـ إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل ـ ما دام فيكم عرق ينبض ، ولكم قوّة وقدرة.

أنظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم ، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم؟!

والخلاصة ، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه لخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص ، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلا من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلا ، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خطّته وأسقطت أبّهتها!!

لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة ، لا يبدو أي منها بعيدا ، ومن جملتها قولهم : إنّ الناس سعوا أربعين يوما لجمع الحطب ، فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان ، وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللآتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت ، خرجن وأضفن تلّا من الحطب إلى ذلك الحطب ، ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب ، وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقدارا من الحطب إذا قضيت حوائجهم ، ولذلك عند ما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب اشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها.

من البديهي أنّ نارا بهذه العظمة لا يمكن الاقتراب منها ، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها ، ومن هنا اضطروا إلى الاستعانة بالمنجنيق ، فوضعوا إبراهيم

١٩٦

عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة(١) .

ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عند ما وضعوا إبراهيم على المنجنيق ، وأرادوا أن يلقوه في النّار ، ضجّت السّماء والأرض والملائكة ، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحد البطل وزعيم الرجال الأحرار.

ونقلوا أيضا أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم ، وقال له : ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة : «أمّا إليك فلا» إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع ، ورؤوف بالجميع.

وهنا اقترح عليه جبرئيل فقال : فاسأل ربّك ، فأجابه : «حسبي من سؤالي علمه بحالي»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة : «يا أحد يا أحد ، يا صمد يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، توكّلت على الله»(٣) .

كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الأخرى.

وعلى كلّ حال ، فقد القي إبراهيم في النّار وسط زعاريد الناس وسرورهم وصراخهم ، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح ترابا ورمادا.

لكنّ الله الذي بيده كلّ شيء حتّى النّار لا تحرق إلّا بإذنه ، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالما من لهب تلك النّار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير الميزان ، وتفسير الفخر الرازي ، وتفسير القرطبي ، في ذيل الآيات مورد البحث. وكذلك الكامل لابن الأثير المجلّد الأوّل ص ٩٨.

(٢) روضة الكافي ، طبقا لنقل الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٣٦.

(٣) تفسير الفخر الرّازي ذيل الآية.

١٩٧

إلى سجل افتخاراته ، وكما يقول القرآن الكريم :( قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) .

لا شكّ أنّ أمر الله هنا كان أمرا تكوينيّا ، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر ، والأرض والسّماء ، والماء والنّار ، والنباتات والطيور.

والمعروف أنّ النّار قد بردت بردا شديدا اصطكّت أسنان إبراهيم منه ، وحسب قول بعض المفسّرين : إنّ الله سبحانه لو لم يقل : سلاما ، لمات إبراهيم من شدّة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أنّ نار النمرود قد تحوّلت إلى حديقة غناء(١) . حتّى قال بعض المفسّرين إنّ تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النّار ، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيّام عمره(٢) .

على كلّ حال ، فهناك اختلاف كبير بين المفسّرين في كيفية عدم إحراق النّار لإبراهيم ، إلّا أنّ مجمل الكلام أنّه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبّب عن أي سبب إلّا بأمر الله ، فيقول يوما للسكّين التي في يد إبراهيم : لا تقطعي ، ويقول يوما آخر للنار : لا تحرقي ، ويوما آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة!

ويقول الله سبحانه في آخر آية من الآيات محلّ البحث على سبيل الاستنتاج باقتضاب : أنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم( وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) .

لا يخفى أنّ الوضع قد اختلف تماما ببقاء إبراهيم سالما ، وخمدت أصوات الفرح ، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب ، وكان جماعة يتهامسون علنا فيما بينهم حول هذه الظاهرة العجيبة ، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربّه ، وأحدق الخطر بوجود نمرود وحكومته ، غير أنّ العناد ظلّ مانعا من قبول الحقّ ، وإن كان

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية.

١٩٨

أصحاب القلوب الواعية قد استفادوا من هذه الواقعة ، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.

* * *

بحوث

١ ـ السعي للخير والشرّ

قد يغرق الإنسان أحيانا في عالم الأسباب حتّى يخيّل إليه أنّ الآثار والخواص من نفس هذه الموجودات ، ويغفل عن المبدأ العظيم الذي وهب هذه الآثار المختلفة لهذه الموجودات ، ويغفل عن المبدأ العظيم الذي وهب هذه الآثار المختلفة لهذه الموجودات ، ومن أجل أن يوقظ الله العباد يشير إلى أنّ بعض الموجودات التافهة قد تصبح مصدرا للآثار العظيمة ، فيأمر العنكبوت أن تنسج عدّة خيوط رقيقة ضعيفة على باب غار ثور ، وتجعل الذين كانوا يطاردون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبحثون عنه في كلّ مكان يائسين من العثور عليه ، ولو ظفروا به لقتلوه ، ولتغيّر مجرى التأريخ بهذا الأمر الهيّن

وعلى العكس من ذلك ، فإنّه يعطّل الأسباب التي يضرب بها المثل في عالم المادّة ـ كالنّار في الإحراق ، والسكّين في القطع ـ عن العمل ، ليعلم أنّ هذه أيضا ليس لها أمر وقدرة ذاتية في العمل ، فإنّها تقف عن العمل إذا نهاها ربّها الجليل فتكفّ حتّى لو أمرها إبراهيم الخليلعليه‌السلام .

إنّ الالتفات إلى هذه الحقائق التي رأينا أمثلة كثيرة لها في الحياة ، تحيي في العبد المؤمن روح التوحيد والتوكّل حتّى أنّه لا يفكّر إلّا في الله ، ولا يطلب العون إلّا منه ، فيطلب منه ـ وحده ـ إطفاء نار المشاكل والمعضلات ، ويسأله أن يدفع كيد الأعداء ، فلا يرى غيره ، ولا يرجو شيئا من غيره.

٢ ـ الفتى الشّجاع

جاء في بعض كتب التّفسير أنّ إبراهيم لمّا ألقي في النّار لم يكن عمره يتجاوز

١٩٩

ست عشرة سنة(١) وذكر البعض الآخر أنّ عمره عند ذاك كان (٢٦) سنة(٢) .

وعلى كلّ حال فإنّه كان في عمر الشباب ، ومع أنّه لم يكن معه أحد يعينه ، فإنّه رمى بسهم المواجهة في وجه طاغوت زمانه الكبير الذي كان حاميا للطواغيت الآخرين ، وهبّ بمفرده لمقارعة الجهل والخرافات والشرك ، واستهزاء بكلّ مقدّسات المجتمع الخيالية الواهية ، ولم يدع للخوف من غضب وانتقام الناس أدنى سبيل إلى نفسه ، لأنّ قلبه كان مغمورا بعشق الله ، وكان اعتماده وتوكّله على الذات المقدّسة فحسب.

أجل هكذا هو الإيمان ، أينما وجد وجدت الشهامة ، وكلّ من حلّ فيه فلا يمكن أن يقهر!

إنّ أهمّ الاسس التي ينبغي للمسلمين الاهتمام بها لمقارعة القوى الشيطانية الكبرى ، في دنيا اليوم المضطربة ، هو هذا الأساس والرأسمال العظيم ، وهو الإيمان ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد ، إنّ زبر الحديد إذا دخل النّار تغيّر ، وإنّ المؤمن لو قتل ثمّ نشر ثمّ قتل لم يتغيّر قلبه»(٣) .

٣ ـ إبراهيم ونمرود

جاء في التواريخ أنّه عند ما ألقوا إبراهيم في النّار ، كان نمرود على يقين من أنّ إبراهيم قد أصبح رمادا ، أمّا عند ما دقّق النظر ووجده حيّا ، قال لمن حوله : إنّي أرى إبراهيم حيّا ، لعلّي يخيّل إليّ! فصعد على مرتفع ورأى حاله جيدا فصاح نمرود : يا إبراهيم إنّ ربّك عظيم ، وقد أوجد بقدرته حائلا بينك وبين النّار! ولذلك فإنّي أريد أن أقدّم قربانا له ، وأحضر أربعة آلاف قربان لذلك ، فأعاد إبراهيم القول

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٦ ، ص ٤٣٤٤.

(٣) سفينة البحار ، مادّة أمن ، ج ١ ، ص ٣٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في قوله:(الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) قال: الصافنات الخيل إذا أصفنّ قياماً، عقرها: قطع أعناقها وسوقها، وقوله:(أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخيْرِ...) يقول: الخير المال، والخيل من المال، يقول: فشغلته الخيل عن الصلاة.(1)

تفسير الطبريّ

« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

قال: وفي هذا الكلام محذوفٌ استغني بدلالة الظاهر عليه من ذِكره، فَلَهِيَ عن الصلاة حتّى فاتته فقال: إنّي أحببتُ حبَّ الخير! ويعني بقوله:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) : أي أحببتُ حبّاً للخير، ثمّ أضيف الحبّ إلى الخير، وعَنِي بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمّي الخيل الخير، والمال أيضاً يسمّونه الخير. فعن قتادة« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ » أي المال والخيل، أو الخير والمال.(2)

وبسنده عن سفيان، عن السُّدِّيّ« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) قال: الخيل. وأيضاً عن السُّدِّيّ، قال: المال. (3)

وقوله:« عَن ذِكْرِ رَبّي » يقول: إنّي أحببت حبَّ الخير حتّى سهوتُ عن ذكر ربّي وأداء فريضة. وقيل: إنّ ذلك كان صلاة العصر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال

____________________

(1) تفسير عبد الرزّاق الصنانيّ (ت 211 هـ) 2: 133 / الحديث 2588، وأيضاً تفسير عبد الرزّاق 2: 85،(وَعَشِيّاً) الروم: 18 -: العصر.

(2) تفسير الطبريّ 23: 182.

(3) نفسه.

٢٢١

أهل التأويل. عن قتادة، وعن السدّيّ«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) عن صلاة العصر.(1)

وأخرج بسنده عن أبي صخر، أنّه سمع أبا معاوية الجبليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصّهباء البكريّ يقول: سألت عليّ بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر، وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.(2)

وقوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » يقول: حتّى توارت الشمس بالحجاب، يعني تغيّبت في مغيبها. ذُكِر ذلك عن ابن مسعود وعن السّدّيّ.(3)

وفي قوله:« فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالْأَعْنَاقِ » : عن قتادة قال: قال الحسن: قال: لا واللهِ لا تشغليني عن عبادة ربيّ آخر ما عليك.

قال قولهما - يعني قتادة والحسن - فيه: فكسف عراقيبها، وضرب أعناقها.(4)

وعن السّدّيّ: فضرب سُوقَها وأعناقها.(5)

الفخر الرازيّ: ذكر وجوهاً لحبّ داود للخيل، منها: أنّ هذه المحبّة الشديدة إنّما حصلت عن ذكر الله وأمره، لا عن الشهوة والهوى، وهذا الوجه أظهر الوجوه.(6)

____________________

(1) تفسير الطبريّ 23: 182.

(2) نفسه 23: 183.

(3) نفسه.

(4) نفسه.

(5) نفسه.

(6) التفسير الكبير، للفخر الرازيّ 26: 204.

٢٢٢

قال: والضمير في قوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » وفي قوله:«رُدُّوهَا» يحتمل أن يكون كلّ واحد منهما عائداً إلى الشمس؛ لأنّه جرى ذكر ما له تعلّقٌ بها، وهو العشيّ.(1)

تفسير السّلميّ: قال أبو سعيد القرشيّ: من غار للهِ وتحرّك له؛ فإنّ الله يشكر له ذلك، ألا ترى سليمان لمّا شغلته الأفراس عن الصلوات حتّى توارت الشمس بالحجاب، قال: ردّوها عَلَيّ فطفق مسحاً بالسّوق والأعناق.

فشكر اللهله صنيعه فقال:« فَسَخّرْنَا لهُ الرّيحَ » ، أبدلَه مركباً أهنى منهم وأنعم.(2)

ابن عطية الأندلسي: ذكر في تفسيره بشأن الآيات فقال: اختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور: إنّ سليمانعليه‌السلام عرضت عليه آلافٌ من الخيل تركها له أبوه، فأجريت بين يديه عشاءً، فتشاغل بجنسها وجريها ومحبّتها حتّى فاتته صلاة العشاء.(3)

قال: قال قتادة: صلاة العصر، ونحوه عن عليّ بن أبي طالب، فأسف لذلك وقال: رُدّوا علَيّ الخيل. قال الحسن: فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف؛

____________________

(1) نفسه.

(2) تفسير السّلمي محمّد بن الحسين الأزديّ السّلميّ (ت 412 هـ) 2: 186.

(3) إنّ قوله: فاتته صلاة العشاء، غير دقيق، إذ الذي في الآية:(العَشِيَّ) وهو ما بعد الزوال، كما في المعاجم والتفاسير على ما مرّو ما سيأتي. ونسبة قولَه إلى الجمهور! ليس صحيحاً، فقد ذكرنا بعض أقوالهم وسنذكر أخرى وكلّها تقول، «العصر». وقد وجدناه بعد قوله: فاتته صلاة العشاء، يذكر قول قتادة أنّها صلاة العصر! ومثله نسبه إلى الإمام عليّعليه‌السلام .

٢٢٣

عقراً لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها.

قال: والضمير في (توارت) للشّمس، وإن كان لم يَجْرِ لها ذكر صريح لأنّ المعنى يقتضيها وأيضاً فذِكْرُ العشيّ يقتضي لها ذكراً ويتضمّنها، لأنّ العشيّ إنّما هو مقدّرٌ متوهّمٌ بها.(1)

وفي تفسير ابن العربيّ:( بِالْعَشِيِّ ) : من زوال الشّمس إلى الغروب، كما أنّ الغداة من طلوع الشمس إلى الزوال.(2)

الجياد: هي الخيل، وكلّ شيء ليس برديء يقال له جيّد، عرضت الخيل على سليمانعليه‌السلام ، فشغلته عن صلاة العشيّ.

قال المفسّرون: هي العصر.(3)

قال: وكان له ميدان مستدير يسابِقُ بينها فيه، فنظر فيها حتّى غابت الشمس خلف الحجاب، وهو ما كان يحجب بينه وبينها.(4)

وفي قول مَن قال: إنّ الشمس لم يجر لها ذِكر، قال: وهذا فاسد، بل تقدّم عليها دليل، وهو قوله:«بِالْعَشِيِّ» ، كما تقول: سِرتُ بعد العصر حتّى غابت، يعني الشمس، وتركها لدلالة السامع لها عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها وتعلّق بذكرها؛

____________________

(1) المحرّر الوجيز: لعبد الحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسيّ (ت 546 هـ).

(2) أحكام القرآن لأبي بكر محمّد بن عبد الله المعروف بابن العربي 4: 50.

(3) نفسه: 51.

(4) نفسه.

٢٢٤

والغداةُ والعشيُّ أمرٌ مرتبط بمسير الشمس، فذُكره ذِكْرٌ لها.(1)

نظم الدّرر:« عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » ، أي فيما بعد زوال الشمس،«الصَّافِنَاتُ» أي الخيول العربيّة الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض؛ اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمّتها، وإظهاراً لقوّتها ورشاقتها وخفّتها...«الْجِيَادُ) ، التي تجود في جريها بأعظم ممّا تقدر عليه، جمع جواد، فلم تزل تُعرَض عليه حتّى فاتته صلاة آخر النّهار، وكان المفروض على من تقدّمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.

ولمّا كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزّته مع زيادة أوْبته، لتحصل التأسِية به في حسن ائتماره وانتهائه بقوله: فَقَالَ ولمّا كان اللاّئق بحاله والمعروف من فعاله أنّه لا يُؤثّر على ذكر الله شيئاً، فلا يكاد أحد ممّن شاهد ذلك يظنّ به ذلك - أي التسلية واللّهو - بل يوجّهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محاملَ تَليق بما يعرفونه من حالٍ من الإقبال على الله والغنا عمّا سواه، أكد قوله تواضعاً للهِ تعالى، ليعتقدوا أنّه بشر يجوز عليهم لو لا عصمةُ الله: إِنِّي، ولمّا كان الحبّ أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلاّ بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحبّ، فهو غيرُ دالٍّ عليه إلاّ بقرائن، قال اعترافاً أَحْبَبْتُ أي: أوجدت وأظهرت بما ظهر منّي من الاشتغال بالخيل، مقروناً بذلك بأدلّة الودّ حُبَّ الخيْرِ وهو المال، بل خلاصة المال وسبب كلّ خيرٍ دنيويّ وأخرويّ «الخيلُ معقودٌ

____________________

(1) أحكام القرآن 4: 51.

٢٢٥

بنواصيها الخير».(1)

أظهرتُ ذلك بغاية الرّغبة، غافلاً«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» المحسن إليّ، بهذه الخيل التي شغلتني، فلم أذكره بالصّلاة التي كانت وظيفة الوقت؛ وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي«حَتَّى تَوَارَتْ» أي الشمس المفهومة من «العَشِيّ»،«بِالْحِجَابِ» وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها، فصارت وراءها حقيقةً.(2)

ولما اشتدّ تشّوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأوّاب، بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل...، فَطَفِقَ أي: أخذ يفعل ظافراً بمراده، لازماً له مصمّماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدوّ، لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل، مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذّكر، مُعْرِضاً عمّا يمكن أن يتعلّق به القلب، متقرّباً به إلى الله تعالى كما يتُقرّب في هذه الملّة - أي ملّة الإسلام - بالضحايا.

مَسْحاً: أي يوقع المسح فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً.(3)

المفردات: العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح والعشاء: من صلاة المغرب

____________________

(1) أخرجه البخاريّ برقم 2849 و 3624، ومسلم 1871، والنّسائيّ 221، والبيهقيّ 6: 329، والبغويّ 2644.

(2) نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور: لإبراهيم بن عمر البقاعيّ (ت 885 هـ) 6: 383.

(3) نفسه 6: 384.

٢٢٦

إلى العتمة.(1)

تاريخ دمشق: قال الحسن:« إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » كانت خيلاً بلقاً جياداً، وكانت أحبّ الخيل إليه البلق فعرضت عليه، فجعل ينظر إليها« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، فغفل عن صلاة العصر.

وعن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، أنّه سئل عن صلاة الوسطى فقال: هي التي غفل عنها نبيّ الله سليمان بن داود حتّى تورات بالحجاب. يعني العصر.(2)

الكشّاف: ذكر الزمخشري في تفسيره القصّة، نختصرها:

إنّ سليمان قعد يوماً - بعدما صلّى الأولى - على كرسيّه واستعرضها، فلم نزل تُعرَض عليه حتّى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن وردٍ من الذكر كان له وقتَ العشيّ، وتهيّبوه فلم يُعلموه، فاغتمّ لما فاته، فاستردّها عقرها ومُقرّباً للهِ. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره.(3)

قال: والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك، أو المخبأة بحجابها. والذي دلّ على أنّ الضمير للشمس مرور ذكر العشيّ، ولابدّ للمضمر من جري ذكرٍ أو دليل ذكر.(4)

____________________

(1) المفردات في غريب القرآن للحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهانيّ (ت 502 هـ): 338.

(2) مختصر تاريخ دمشق 10: 125.

(3) تفسير الكشّاف لمحمود بن عمر الزمخشريّ (ت 538 هـ) 91: 4 - 92.

(4) نفسه 4: 93.

٢٢٧

ابن كثير: ذكر غير واحد من السّلف والمفسّرين أنّه اشتغل بعرضها حتّى فات وقت صلاة العصر، والذي يُقطع به أنّه لم يتركها عمداً بل نسياناً، كما شُغِل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة العصر يوم الخَنْدق حتّى صلاّها بعد الغروب.

ويُحتمل أنّه كان سائغاً في ملّتهم تأخير الصلاة لضرر الغزو والقتال، والخيل تُراد للقتال.(1)

النهاية(2) : في حديث الصلاة «حين توارت بالحجاب» الحجاب هاهنا: الأفق، يريد حين غابت الشمس في الأفق واستترت به. ومنه قوله تعالى:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

الثعالبيّ: ذكر الثعالبيّ في تفسيره، قال: اختلف المتأوّلون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمانعليه‌السلام ؛ فقال الجمهور: إنّ سليمان عُرضت عليه آلاف الخيل تركها له أبوه... فتشاغل بجريها ومحبّتها حتّى فاته وقتُ صلاة العشيّ، فأسف لذلك... فطفق يمسحُ سوقها وأعناقها بالسيف. قال الثعالبيّ وغيره: وجعل ينحرها تقرّباً إلى الله تعالى حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك مباحاً لهم كما أبيح لنا بهيمةُ الأنعام؛ فرُوي أنّ الله تعالى أبدله منها أسرع منها، وهي الريح.

والضمير في«تَوَارَتْ» للشمس، وإن كان لم يتقدّم لها ذكر؛ لأنّ المعنى

____________________

(1) تفسير القرآن العظيم: لابن كثير (ت 774 هـ) 7: 56.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزريّ (ت 606 هـ) 1: 340.

٢٢٨

يقتضيها، وأيضاً فذكر العشيّ يتضمّنها.(1)

ابن وَهبْ: قال عبد الله بن وهب: سألت اللّيث عن قول الله:« بِالْغُدُوّ والآصَالِ » (2) ، فقال: الآصالُ العشيّ. (3)

ولا يخفى: أنّ الأصيل هو الوقت بين العصر والمغرب، فهو العشيّ.

هود الهُوّاريّ: ذكر في تفسيره:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) أي: حبّ المال، يعني الخيل، وهي في قراءة عبد الله بن مسعود «حب الخيل»،« عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي غابت، يعني الشمس« بِالْحِجَابِ) ففاتته صلاة العصر.(4)

القرطبيّ:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، كنايةً عن غير مذكور، وتركُها لدلالة السامع عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها.(5)

مجمع البحرين:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، أضمرها ولم يجر لها ذكر، والعرب تقول ذلك إذا كان في الكلام ما يدلّ على المـُضمر. (6)

الجصّاص: ذكر الآيات ثمّ قال عن ابن مسعود: حتى توارت الشمس

____________________

(1) تفسير الثعالبيّ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» لعبد الرحمان بن محمّد الثعالبيّ المالكيّ (ت 875 هـ) 5: 66.

(2) الأعراف: 205، الرعد: 15، النور: 36.

(3) الجامع: عبد الله بن وَهْب المصريّ (ت 197 هـ) 2: 165.

(4) تفسير كتاب الله العزيز: هود بن مُحَكَّم الهوّاريّ (ت منتصف القرن الثالث الهجريّ) 4: 16.

(5) الجامع لأحكام القرآن لمحمّد بن أحمد القرطبيّ الأنصاريّ 15: 195.

(6) مجمع البحرين لفخر الدين الطريحيّ (ت 1085 هـ) ج 1: ص 434.

٢٢٩

بالحجاب.(1)

الصدوق: ذكر روايةً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، هي: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عُرِض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارث الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردّوا الشمس عَلَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها. فرَدُّوها، فقام فمسح ساقيه وعنقه، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قال فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم. وذلك قول الله عزّ وجلّ:« وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ ...» (2) .

الطّبرسيّ: «المراد بالخير الخيل هنا، فإنّ العرب تُسمّي الخيل الخير ن عن قتادة والسدّيّ. فالمعنى آثرتُ حبَّ الخيل عن ذكر ربّي، وقيل: إنّ هذه الخيل كانت شَغَلَتْه عن صلاة العصر حتّى فات وقتها. عن عليّعليه‌السلام ، وقتادة والسدّي. وفي روايات أصحابنا أنّه فاته أوّل الوقت».(3)

وقوله تعالى:« رُدّوهَا عَلَيّ) ، قال: قيل: معناه أنّه سأل اللهَ تعالى أن يَرُدّ الشمس عليه، فردّها عليه حتّى صلّى العصر. فالهاء في ردّوها كناية عن الشمس. عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .(4)

____________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص أحمد بن عليّ الرازيّ (ت 370)، 3: 502.

(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القميّ (ت 381 هـ 1: 129).

(3) مجمع البيان للفضل بن الحسن الطبرسيّ (ت 548 هـ) 8: 740.

(4) مجمع البيان 8: 741.

٢٣٠

وفي رواية عن ابن عبّاس: سألتُ عليّاًعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعتُ كعباً يقول: اشتغل سليمانُ بعرض الأفراس حتى فاتته الصّلاة، فقال ردّوها علَيَّ، يعني الأفراس، كانت أربعة عشر، فأمر بضرب سوقها وأعناقها، فقتلها، فسلبه الله مُلكه أربعة عشر يوماً؛ لأنّه ظلم الخيل بقتلها!

فقال عليّعليه‌السلام : كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم؛ لأنّه أراد جهاد العدوّ، حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر الله تعالى للملائكة الموكّلين بالشمس: رُدّوها علَيِّ فرُدّت، فصلّى العصر في وقتها، وإنّ أنبياء الله لا يَظلمون ولا يأمرون بالظّلم؛ لأنّهم معصومون مطهّرون».(1)

ابن شهر آشوب: ذكر في مناقبه: عن ابن عبّاس بطرق كثيرة أنّه لم تُردَّ الشمس إلاّ لسليمان وصيّ داود وليوشع وصيّ موسى، ولعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.(2)

الكلينيّ: بسنده عن أبي جعفر «الباقر»عليه‌السلام في قول عزّ وجلّ:« إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً » (3) قال: يعني مفروضاً. وليس يعني وقت فوتها إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها، فلم تكن صلاته هذه مؤدّاةً، ولو كان ذلك كذلك

____________________

(1) مجمع البيان 8: 741. وانظر: تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ 4: 299، والميزان للطباطبائي 17: 206، وكنز الدقائق للمشهديّ 11: 233.

(2) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب محمّد بن عليّ المازندرانيّ (ت 588 هـ) المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 2: 146. وانظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق 1: 29، رواية 9 - 12.

(3) النساء: 103.

٢٣١

لهلك سليمان بن داودعليهما‌السلام حين صلاّها لغير وقتها، ولكنّه متى ذكرها صلاّها.(1)

القمّيّ: ذكر في تفسيره: أنّ سليمانعليه‌السلام كان يحبّ الخيل ويستعرضها، فعرضت عليه يوماً، إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر، فاغتمّ من ذلك غمّاً شديداً، فدعا الله أنّ يردّ عليه الشمس حتّى يصلّي العصر...».(2)

ابن أبي جامع العامليّ: ذكر في تفسيره:«رُدُّوهَا» أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها. طلب منهم ردّها بأمر الله إيّاه بذلك، فردّت، فصلّى. كما ردّت ليوشع وعليّعليه‌السلام .(3)

السيّد عبد الله شبّر: حَتَّى«تَوَارَتْ» أي الشمس، بدلالة العشيّ عليها، بِالْحِجَابِ بحجاب الأفق، أي غربت، أو حتّى غابت الخيل عن بصره حين أجريت رُدُّوهَا أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها، فردّت فصلّى، كما ردت ليوشع وعليّ عليهما‌السلام . (4)

العلاّمة الطباطبائيّ: «إنّي شغلني حبّ الخيل، حين عُرض علَيّ، عن الصلاة حتّى فات وقتها بغروب الشمس. وإنّما كان يحبّ الخيل في الله ليتهيّأ به للجهاد في سبيل الله، فكان الحضور للعرض عبادةً منه، فشغلته عبادةٌ عن عبادة، غير

____________________

(1) الكافي لمحمد بن يعقوب الكلينيّ الرازيّ (ت 328 هـ) 3: 294.

(2) تفسير القمّيّ لعلي بن إبراهيم القمّيّ (القرن الثالث والرابع الهجريّ) 2: 234.

(3) الوجيز في تفسير القرآن العزيز لعليّ بن الحسين بن أبي جامع العامليّ (1070 - 1135 هـ) 3: 101.

(4) تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبّر (ت 1242 هـ): 429.

٢٣٢

أنّه يعدّ الصلاة أهمّ».(1)

ثمّ ذكر الرواية التي ذكرها الطّبرسيّ في دعاء سليمانعليه‌السلام واستجابة الله تعالى له، فردّ عليه الشمس حتّى صلّى.

الفيض الكاشانيّ:«رُدُّوهَا عَلَيَّ) الضمير للشمس... في «الفقيه» عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عرض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب. فقال للملائكة: ردّوا الشمس علَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها...، تمام الرواية التي ذكرها الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام .(2)

ظهور الضمير في الشمس

إضافة إلي ما ذكرنا من مصادر معتبرةٍ مُعتدّ بها، قد ذَكَرت أنّ الضمير في تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ عائد إلى الشمس.

نذكر مصادر أخرى ذكرت ذلك، على نحو الإيجاز:

تنزيه الأنبياء: ذكر الشريف المرتضى عن الجبائيّ: أنّها الشمس... وفاتته صلاةٌ مستحبّة.(3)

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائيّ (1321 - 1402 هـ) 17: 203.

(2) تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ (ت 1091 هـ) 4: 298.

(3) تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى: 135.

٢٣٣

غريب الحديث: تَوَارَتْ الشمس.(1)

وابن عساكر: عن الحسن: يعني الشمس. وأيضا: قول جمهور أهل العلم: الشمس. (تاريخ مدينة دمشق 22: 241، 42: 506). وكذلك في: «عصمة الأنبياء؛ للفخر الرازيّ: 83، زاد المعاد لابن الجوزيّ 6: 335. تأويل الآيات لعليّ الحسينيّ (ت 965 هـ) 2: 552. لسان العرب لابن منظور 1: 299. البرهان في علوم القرآن لمحمّد بن عبد الله الزركشيّ (ت 794 هـ) 4: 26.

النتيجة:

1 - أنّ الشمس ردّت ليوشع وسليمان وعليّعليهم‌السلام .

2 - بطل الإشكال الذي ذكره ابن تيميه في أنّ الشمس لو ردت حقيقة لعليّ، لم تكن له فضيلة! لأنّه يكون قد أدّى صلاته في غير وقتها! فهو إمّا مقصّر والمقصّر عليه أن يتوب؛ وإمّا غير مقصّر فلا ذنب عليه ولا حاجة لردّ الشمس.

وجوابه: لقد أدّاهاعليه‌السلام في وقتها بدليل رجوع الشمس إلى وقت العصر. ولو لم يكن لرجوعها فضيلة، لما دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستجاب الله تعالى له فردّها، ولما دعا سليمانعليه‌السلام فردّها سبحانه عليه.

وليس تقصير في البين، لا من سليمان النبيّ، ولا من عليّ الوصيّعليهما‌السلام فكلاهما كان في عبادة شغلته عن عبادة، مع الموقع المهمّ للصلاة في العبادات.

____________________

(1) غريب الحديث لابن سلام (ت 224) 3: 79.

٢٣٤

كرامات أعظم من ردّ الشمس

كبر على ابن الجوزيّ ردّ الشمس زيادةً في إعجاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة لوليّه عليه السلام، فيها ذكر كرامات لغيرهما تبزّ عين الشمس، ويكون ردّ الشمس لا شيء إزاءها! فشايعه ابن تيميه على الأولى ولم ينكر عليه الثانية.

وقبل ذكر أمثلة من تلك الكرامات العظيمة، نقول: أثبتنا قوّة ووثاقة سند حديث ردّ الشمس؛ فيما جرّد أبو الفرج أخباره تلك من الأسانيد وألقى كثيراً منها على لسان رجل مجهولٍ أو امرأة نكِرة، وكثير منها أحلامٌ ومنامات. وآن الأوان لأن نجول في تلك الأخبار ونقتطف بعضاً من بحرها!

الله عزّ وجلّ يزور أحمد

روى ابن الجوزيّ، قال: حدّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربيّ وكان شيخاً صالحاً، قال: قد جاء في بعض السنين مطر كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام، فنمتُ ليلة فيرمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار سافٍ أو سافَين فقلتُ: إنّما تمّم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث، فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ، قد زارني فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام، فقام عزّ وجلّ: يا أحمد! لأنّك نصرت

٢٣٥

كلامي فهو يُنشَر ويتلى في المحاريب.(1)

فأيّ شأن يبقى لردّ الشمس، والله - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - يزور أحمد في قبره؟! إلاّ أنّ البعض يثير إشكالاً على أبي الفرج! فيقول: مَن هو هذا الرجل الصالح الذي روى لك منامَه هذا فجعلتهَ حقيقةً في مناقب أحمد، وهل يرقى إلى رواة وسند حديث ردّ الشمس؟!

وكيف سمع أحمد كلام هذا الرجل وهو في قبره، وأنت تروي في مناقبه أنّه قد رُفع إلى الجنّة متوّجاً يُدخِل مَن يشاء ويمنع من يشاء - سيأتي - وإنّ نزول الله - جلّ وعزّ عن ذلك - يعني أنّه سبحانه في جهةٍ ممّا يعني تحديده وتبعيضه، ممّا هو صفة الحوادث المخلوقة.

تتويج أحمد

وذكر أبو الفرج من أحوال أحمد قال: قال زكريّاء بن يحيى السّمسار(2) :

رأيت أحمد بن حنبل في المنام على رأسه تاج مرصّع بالجوهر، وفي رجلَيه نعلان وهو يخطر بهما. فقلت: أبا عبد الله، ماذا فعل الله بك؟ قال: غفرلي، وأدناني من نفسه، وتوّجني بيده هذا التّاج، وقال لي: هذا بقولك: القرآن كلام الله

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزيّ: 454.

(2) لم أجد له ترجمة في الكتب المعتمدة، وذكره ابن حجر في لسان الميزان 2: 483 / 1945: (زكريا) بن يحيى البديّ، عن عكرمة، قال ابن معين: ليس بثقة، قال ابن المدينيّ عنه: هالك. قال الدوريّ ليس بثقة. قال النسائيّ: ليس بثقة. قال ابن حبّان: يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم.

٢٣٦

غير مخلوق. قلت: فما هذه الخَطْرة الّتي لم أعرفها لك في دار الدّنيا؟! قال: هذه مِشْية الخُدّام في دار السلام.(1)

لا اعتراض على دخول أحمد الجنّة، ولكنّ الأمر متعلّق بتتويج الله تعالى بيده لأحمد، وتكليمه له؛ ممّا يعني: أنذ له جلّ ثناؤه أبعاضاً، وأنّه يتكلّم بحرفٍ وصوت؛ وهو ما يوافق عقيدة ابن تيميه التي أُدين بها وحُوقق لأجلها.

أحمد قسيم الجنّة

ووفاقاً لمنهجه في ذكر أعظم الكرامات التي مستند أعمّها المنامات، قال قال عليّ بن الموفّق(2) : رأيت كأنّي أدخِلت الجنّة، فإذا أنا بثلاثة نفر: رجل قاعد على مائدة قد وكّل الله به ملكين، فملك يطعمه وملك يسقيه وآخر واقف على باب الجنّة ينظر إلى وجوه قومٍ فيدخلهم الجنّة. وآخر واقف في وسط الجنّة، شاخص ببصره إلى العرش ينظر إلى الربّ. فجئت إلى رضوان فقلت: من هؤلاء؟ فقال: أمّا الأوّل فبُشْرُ الحافي، وأمّا الواقف في وسط الجنّة فمعروف الكرخي، وأمّا الواقف على باب الجنّة فأحمد بن حنبل قد أمره الجبّار أن ينظر إلى وجوه أهل السّنّة، فيأخذ بأيديهم فيُدخلهم الجنّة.(3)

وليس لنا أن نبخس الناس أشياءهم وإن كنت مستندةً إلى منامات، إلاّ

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل، لأبي الفرج: 436.

(2) لم أجد له ترجمة.

(3) مناقب أحمد، لأبي الفرج: 443.

٢٣٧

أنّه تعترضنا أمور: هل يشقّ على بِشْر أن يأكل ويشرب بنفسه من دون أن يُعنّي الملَكَين؟! وأين صار عالم البرزخ فتجاوزه هؤلاء ودلفوا الجنّة؟ وأليس كون الربّ - سبحانه وتعالى - على عرش بذاته ينظر إليه في علوّه، من صفات الحوادث إذ هو صريح في حلوله جلّ وعزّ، في مكان يحتويه؟!

وأظنّ صاحب الرؤيا أخطأ في تشخيص الرجل الواقف على باب الجنّة! ذلك أنّ قسيم الجنّة كما يرد في الأحاديث هو عليّ بن أبي طالب كما قرّره أحمد بن حنبل نفسه!

قال القاضي ابن أبي يعلى الحنفيّ: سمعت محمّد بن منصور(1) يقول: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى أنّ عليّاً قال: أنا قسيم النار؟ فقال أحمد: وما تُنكرون من ذا - وفي لفظ: من هذا الحديث؟ - أليس رَوينا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ: «لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2) ؟ قلنا: بلى، قال فأين المؤمن؟ قلنا في الجنّة، قال: وأين

____________________

(1) محمّد بن منصوربن داود الطّوسي، نزيل بغداد. يروي عن أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن عُلَيّة... وغيرهما. توفّي سنة ستّ وخمسين ومئتين. تهذيب الكمال للمزّيّ 26: 501 / 5631.

(2) ووفق منهجه، فقد كذبه ابن تيميه - سنأتي عليه في محلّه - ويرد الحديث بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، وأسانيده موثّقة ومصادره في منته العلوّ والوثاقة.

الأعمش - سليمان بن مهران الأعمش الكوفيّ أبو محمّد. رأى أنس بن مالك وروى عنه. ذكره ابن حبّان في الثّقات 2: 184 / 1421 - في التّابعين -، وذكره العجليّ قال: ثقة، كوفيّ، يقال: إنّه ظهر له أربعة آلاف حديث. وكان عالماً بالقرآن رأساً فيه، وكان فصيحاً لا يلحن حرفاً، وكان عالماً بالفرائض، ولم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه. وكان فيه تشيّع تاريخ الثقات للعجلي 204 =

٢٣٨

____________________

= / 619. وذكره الطوسيّ في أصحاب الصادقعليه‌السلام رجال الطوسيّ: 206 - عن عديّ بن ثابت - عدي بن ثابت الأنصاريّ، عداده في أهل الكوفة، يروي عن البراء بن عازب الثّقات لابن حبّان 2: 417 / 392. وهو عالم الشيعة وصادقهم (الجرح والتعديل للرازي 7: 5، تهذيب التهذيب لابن حجر 7: 165). وذكره ابن شاهين فقال: ثقة، إلاّ أنّه كان يتشيّع (تاريخ أسماء الثّقات 254 / 1016). وقال العجليّ عنه: ثقة ثبت، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ولم يدركه سفيان الثّوريّ، وكان شيخاً عالماً في عداد الشيوخ، روى عن عبد الله بن يزيد الخطميّ من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثّقات للعجليّ: 330 / 1115) - عن زرّ - زرّ بن حبيش الأسديّ الكوفيّ أبو مريم ز مات سنة ثنتين وثمانين وكان من أعرب الناس و كان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربيّة. روى عن: عمر وعليّ وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان (تاريخ ابن معين 2: 172، الجرح والتعديل للرازيّ 3 / الترجمة 2817، الاستيعاب 1: 212، الثّقات لابن حبّان وفي (تاريخ الثقات للعجلي 165 / 458): زرّ بن حبيش، من أصحاب عبد الله وعليّ، ثقة. وذكره الطوسيّ في أصحاب عليّعليه‌السلام وقال: وكان فاضلاً (رجال الطوسيّ: 42) - عن عليّ قال: إنّه لعهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ أنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق.

أخرجه: الترمذيّ في (الجامع الصحيح، في المناقب / ح 3737)، والنسائي في (الإيمان 8 / 117)، و (مسند أحمد 1: 84 و 95، وتاريخ الإسلام للذهبيّ 3: 634، وأنساب الأشراف 225 و 226 والشفا للقاضي عياض: 31، ومناقب الإمام علي لابن المغازلي: 137 / الرقم 225 و 226 و أسد الغابة 4: 105.

وأخرجه ابن ماجة في (سننه 1: 42 / 114 بنفس السند ولفظه: «عهد إليّ النبيّ الأمّيّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق».

وبنفس السند أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف 7: 494 ومسلم في صحيحه 2: 64 ولفظه: عن عليّ بن أبي طالب قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، أنّه لعهد النبيّ الأمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق. =

٢٣٩

____________________

= وأخرج ابن مردويه بسده عن أبي موسى الأشعريّ، قال: أشهد أنّ الحقّ مع عليّ، ولكن مالت الدنيا بأهلها! ولقد سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (يا عليّ، أنت مع الحقّ والحقّ بعدي معك، لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق) وإنّا لنحبّه، ولكنّ الدنيا تغرّ بأهلها (فضائل عليّ لابن مردويه: 115 / الحديث 138، والأربعون حديثاً لابن بابويه الرازيّ: 42.

وبسند عن مساور الحِمْيَريّ، عن أمّه، عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (لا يبغض عليّاً مؤمن، ولا يحبّه منافق) (المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503).

شريك - مضت ترجمته - عن قيس بن مسلم: (قيس بن مسلم، كوفيّ، ثقة روى عن مرّة الهمدانيّ، وكان يميل مع عليّ بعض الميل، وقد شهد مع عليّ تلك المشاهد (تاريخ الثقات للعجلي 394 / 1401) عن أبي عبد الله الجدليّ: (أبو عبد الله الجدليّ الكوفيّ، اسمه: عبد بن عبد، وقيل: عبد الرحمان بن عبد. روى عن خزيمة بن ثابت، وسلمان الفارسيّ، وسليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وأمّ سلمة، وعائشة... وغيرهم. روى عنه: إبراهيم النخعيّ وعامر الشّعبي، وعطاء بن السائب، وأبو إسحاق السبيعيّ وغيرهم. روى له: أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائي في الخصائص، وابن ماجة في السنن قيل لأحمد بن حنبل: أبو عبد الله الجدليّ معروف؟ قال: نعم، ووثّقه. روى له: أبو داود، والترمذيّ، والنّسائي في الخصائص وابن ماجة في السنن. ووثّقه يحيى بن معين (تهذيب الكامل للمزّيّ 34 / 2460). عن أبي ذرّ قال: ماكنّا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم اللهَ ورسولَه، والتخلّف عن الصلوات، والبغض لعليّ بن أبي طالب (المستدرك على الصحيحين 3: 139 / 4643).

وبسند عن جعفر بن سليمان: (جعفر بن سليمان الضبعيّ، بصريّ ثقة، وكان يتشيّع (تاريخ الثقات للعجلي 97 / 212)، اتّفقوا على أنّه صدوق، ولم يطعن فيه أحد في الحديث، وقالوا: ثقة (تاريخ البخاريّ الكبير 1: 2: 192). قال ابن معين: ثقة (تاريخ ابن معين 2: 104 / 3533). عن أبي هارون العبديّ: (أبو هارون العبدي، اسمه: عمارة بن جُوَين العبديّ البصريّ. روى عن: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وأبي سعيد الخدريّ. روى عنه جعفر بن سليمان الضبعيّ، وسفيان الثّوريّ، =

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550