الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 215712 / تحميل: 6674
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) )

التّفسير

إذ لم تنفع المواعظ :

إنّ هذه الآيات ـ التي ذكرت بعد استعراض قصص مجموعة من الأنبياء العظام ، مثل نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ، وقبل أن يعمد القرآن الكريم إلى استعراض قصّة موسى بن عمران ـ إشارة إلى عدّة أصول وقواعد عامّة تحكم في جميع القصص والحوادث ، وهي قواعد وأصول إذا فكّرنا فيها كشفت القناع عن حقائق قيمة ترتبط بحياتنا ـ جميعا ـ ارتباطا وثيقا.

في البداية يقول :( وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) فالصعاب والمشاق والبلايا التي تصيب الأفراد إنّما يفعلها الله بهم عسى أن ينتبهوا ، ويتركوا طغيانهم ، ويرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه.

١٢١

وذلك لأنّ الناس ما داموا في الرخاء والرفاه فهم في غفلة ولما يكون لديهم استعداد وقابلية لقبول الحق. أمّا عند ما يتورّطون في المحنة والبلاء ، يشرق نور فطرتهم وتوحيدهم ويتذكرون الله قهرا بلا اختيار ، وتستعد قلوبهم لقبول الحق.

ولكن هذه اليقظة والنهضة ليست عند الجميع على حدّ سواء ، فهي في كثير من الناس سريعة وعابرة وغير ثابتة ، وبمجرّد أن تزول المشكلات يعودون إلى غفلتهم وغفوتهم ، ولكن هذه المشكلات تعتبر بالنسبة إلى جماعة آخرين نقطة تحول في الحياة ، ويعودون إلى الحق إلى الأبد.

والأقوام الذين جرى الحديث ـ في الآيات السابقة ـ حولهم كانوا من النمط الأوّل.

ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة : عند ما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضغط المشكلات والحوادث ، بل بقوا في الضلال ، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم( ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا ) .

و «عفوا» من مادة «عفو» التي تكون أحيانا بمعنى الكثرة ، وأحيانا بمعنى الترك والإعراض ، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء. ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأمور هو الترك ، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر ، ويتوالد ويتناسل ويزداد ، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجا وشيئا فشيئا. ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معا.

وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضا :

الأوّل : أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه ـ في فترة الشدّة والضراء ـ من الأفراد والأموال.

الآخر : أنّنا أعطيناهم نعما كثيرة جدا بحيث غرتهم ، فنسوا الله ، وتركوا شكره.

الثّالث : أنّنا أعطيناهم نعما كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة

١٢٢

ويمحوها.

إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم ، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.

ثمّ أضاف : أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي «النعمة» و «النقمة» بيد الله ، وأنّهم راجعون إلى الله ، يتذرعون ـ لخداع أنفسهم ـ بهذا المنطق ، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا ، فإنّ ذلك ليس بجديد ، فقد مس آباءنا الضراء والسراء ، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء ، فالحياة لها صعود ونزول ، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال( وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ) . فهي إذن قضية طبيعية ، ومسألة اعتيادية.

فيقول القرآن الكريم في الختام : إنّ الأمر عند ما بلغ إلى هذا الحد ، ولم يستفيدوا من عوامل التربية ـ أبدا ـ بل ازدادوا غرورا وعنجهيّة وتكبرا أهلكناهم فجأة ومن غير سابق إنذار ، لأنّ ذلك أشد إيلاما ونكالا لهم ، وعبرة لغيرهم :( فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

* * *

١٢٣

الآيات

( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) )

التّفسير

التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى :

في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال ، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان

١٢٤

النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص ، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحا فتقول :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى ، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد ، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب ، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض.

ولكن للأسف ـ تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن ، وكذبوا الأنبياء ، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية ، فعاقبناهم بسبب أعمالهم( وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

* * *

بحوث

وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها :

1 ـ بركات الأرض والسماء

لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من «بركات» الأرض والسماء؟فقال البعض : إنّها المطر ، والنباتات التي تنبت من الأرض.

وفسّرها البعض بإجابة الدعاء ، وحل مشاكل الحياة.

ولكن هناك احتمال آخر ـ أيضا ـ هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية ، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية.

ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع ، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت

العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة ، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية ، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة.

١٢٥

وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بسط البحث ، وهي : أنّ العقوبات ما هي إلّا لأفعالهم هم ، وإلّا فلو كان الإنسان طاهرا مؤمنا ، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته ، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض أجل ، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا.

2 ـ معنى «البركات»

«البركات» جمع «بركة» وهذه الكلمة ـ كما أسلفنا ـ تعني في الأصل «الثبات» والاستقرار ، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول ، في مقابل الموجودات العارية عن البركة ، والسريعة الفناء والزوال ، والخالية عن الأثر.

والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإلهية ، بل هما سبب في أن يصرف الإنسان ما لديه في المصارف اللازمة الصحيحة.

ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسما كبيرا من الطاقات الإنسانية ، والمصادر الاقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها ، ولا تثمر سوى الدمار والخراب ، ولكن المجتمعات البشرية إذا تحلّت بالتقوى والإيمان ، فإنّ هذه المواهب الإلهية سيكون لها وضع آخر ، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد ، وتكون مصداقا لكلمة البركات.

3 ـ ماذا يعني «الأخذ»؟

في الآية أعلاه استعملت كلمة «أخذ» في مفهوم المجازاة والعقوبة ، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة ، ثمّ يوثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار ، ثمّ يعاقب.

١٢٦

4 ـ المفهوم الواسع للآية

إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة ، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم ، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص ، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين ، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا ، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي ، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والاستقرار ، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم ، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم.

إن فيض الله ليس محدودا ولا ممنوعا ، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب.

لماذا تعيش الأمم الكافرة في الرخاء؟

من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيرا بين جماعة من الناس ، وهو : إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإلهية ، ويكون العكس موجبا لسلب البركات ، فلما ذا نشاهد الشعوب غير المؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه ، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين :

1 ـ إنّ تصوّر أنّ الشعوب غير المؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطئ ينبع من اشتباه أكبر ، وهو اعتبار الثروة دليلا على السعادة.

إنّ الناس يتصورون ـ عادة ـ أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدما ، وثروة أكبر ، كان أسعد من غيره ، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه

١٢٧

المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب ، فسوف نسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض.

هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأصول ومبادئ مثل السعي والاجتهاد ، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء ، ومن صلب توجيهاتهم.

في هذه الأيّام ـ التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير ـ نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك ـ التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدما ـ حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي ، وذلك الحادث هو أنّ كثيرا من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس.

إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين ـ في الواقع ـ أكثر بأضعاف من هذا العدد ، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس ، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقا محترفين هيّئوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية ، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية.

من هذا نستنتج أنّه مع حالة انقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الآلاف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة ـ كما يشاءون تسميتها ـ إلى لصوص وسراق ، إن هذا لا يدل على الانحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب ، بل يدل على فقدان الأمن الاجتماعي الشديد أيضا.

والخبر الآخر الذي نقلته الصحف ، ويكمل ـ في الحقيقة ـ هذا الخبر ، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك ، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق ، قال : إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة ، بحيث أنّ

١٢٨

مسئولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعا من أن يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق ، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر ، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة.

ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور : أنّه ما لم يعان من الجوع الشديد لم يجرأ على الخروج من غرفته.

ولكن انقطاع التيار الكهربائي هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيرا ، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل ، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة ، وصنائع عظيمة ، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم.

هذا مضافا إلى أنّ شهود عيان يقولون : إنّ القتل والاغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر.

ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف ، كان من أشقى أهل الأرض على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم ، وإلّا فهناك مفاسد اجتماعية أخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمة جدا ومع الالتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة.

2 ـ أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى ، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وادعاء أتباع مبادئ الأنبياء وتعاليمهم ، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلّا نفوذهما في جميع أعمال الإنسان ، وجميع شؤون الحياة ، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الادعاء والزعم.

إنّ من المؤسف جدّا أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادئ الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية ، فملامح هذه المجتمعات ليست

١٢٩

ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين.

لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والاستقامة والأمانة والاجتهاد والجد ، فأين تلك الأمانة والاجتهاد؟

إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي ، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟! وإن الإسلام يدعو إلى الاتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني ، فهل سادت هذه الأصول والمبادئ في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة ، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟!

لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء ، والمسلمون اليوم شيء آخر.

في الآيات اللاحقة والمزيد من التأكيد على عمومية هذا الحكم ، وأن القانون أعلاه ليس خاصا بالأقوام الغابرة بل يشمل الحاضر والمستقبل أيضا ـ يقول : هل أنّ المجرمين الذين يعيشون في نقاط مختلفة من الأرض يرون أنفسهم في أمن من أن تحل بهم العقوبات الإلهية ، فتنزل بهم صاعقة أو يصبهم زلزال في الليل وهم نائمون( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ) .

وهل هم في أمان من ذلك العذاب في النهار وهم غارقون في أنواع اللهو واللعب( أوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) .

يعني أنّهم في قبضة القدرة الإلهية في جميع الأحوال والأوقات ، ليلا ونهارا ، في اليقظة والنوم ، في ساعات الفرح والترح ، وبإشارة واحدة وأمر واحد يقضى عليهم جميعا ، ويطوي صفحة حياتهم نهائيا ، دون الحاجة الى مقدمات وأسباب قبلية ، أو لمرور الزمان لهذا العمل.

أجل في لحظة واحدة ، ومن دون أية مقدمات يمكن أن تحل أنواع المصائب والنوائب بهذا الإنسان الغافل.

والعجيب أنّ البشرية الحاضرة ، رغم كل ما أحرزته من تقدم ورقي في

١٣٠

الصنائع وفي التكنولوجيا ، ومع أنّها سخرت طاقات الكون والطبيعة المختلفة لخدمة نفسها ، فإنّها ضعيفة وعاجزة تجاه هذه الحوادث ، بنفس المقدار من العجز والضعف الذي كان عليه إنسان العصور السابقة. يعني أن الإنسان لم يتغير حاله تجاه الزلازل والصواعق وما شابهها ، حتى بالنسبة إلى إنسان ما قبل التاريخ.

وهذه علامة قوية على نهاية عجز الإنسان وشدة ضعفه رغم قدرته وقوته وهذه حقيقة يجب أن يجعلها الإنسان نصب عينيه دائما وأبدا.

وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول : أفأمن المجرمون من المكر الإلهي ، في حين لا يأمن مكره إلّا الخاسرون( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

و «المكر» ـ كما قلنا في ذيل الآية 94 من سورة آل عمران ـ يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه ، سواء كان حقا أو باطلا ، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.

وعلى هذا فالمراد من المكر الإلهي ، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم. وهذه إشارة إلى العقوبات الإلهية الفجائية والمهلكة.

جواب على سؤال :

إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول : لا يأمن أحد ـ إلّا الخاسرون ـ من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية ، وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟

لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم ، وأنّ الآية تختص بالمجرمين. ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع ، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائما كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة ، لأنّنا

١٣١

نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم ، بل يعني أنّهم مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن اختيارهم ، إلى جانب العنايات الربانية.

إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه ، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة. ولهذا نقرأ في الآية (15) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة ـ أيضا ـ أحاديث تؤيد ما قلناه : «صليت خلف أبي عبد الله (الصادق)عليه‌السلام ، فسمعته يقول : «اللهم لا تؤمني مكرك. ثمّ جهر فقال :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) .

ونقرأ في نهج البلاغة أيضا : «لا تأمنن على خير هذه الأمّة عذاب الله ، لقول الله سبحانه :( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) (1) .

إنّ عدم الأمن من المكر الإلهي ـ في الحقيقة ـ يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها ، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائما إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو ، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط ، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.

وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائما بين الخوف والرجاء ، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإلهي.

وفي الآية اللاحقة يقول القرآن الكريم ـ بهدف إيقاظ عقول الشعوب الغافية وإلفات نظرهم إلى العبر التي كانت في حياة الماضيين : ألا يتنبه الذين ورثوا

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة 377.

١٣٢

السيادة على الأرض ـ من الأقوام الماضية ـ إلى ما في حياة الماضيين وقصصهم من عبر ، فلو أنّنا أردنا أن نهلكهم بذنوبهم لفعلنا( أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) .

ويمكننا أيضا أن نتركهم أحياء ونسلب منهم الشعور وحس التشخيص والتمييز بالمرّة بسبب توغّلهم في الذنوب ، بحيث لا يسمعون معها حقيقة ، ولا يقبلون نصيحة ، ويعيشون بقية حياتهم حيرى( وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) .

أمّا كيف يسلب الله تعالى من هذا الفريق من المجرمين حس التمييز والتشخيص ، فيمكنك الوقوف على مزيد التوضيح في هذا المجال في تفسير الآية (7) من سورة البقرة.

* * *

١٣٣

الآيتان

( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) )

التّفسير

في هاتين الآيتين ركّز القرآن الكريم على العبر المستفادة من بيان قصص الماضين ، والخطاب متوجه هنا إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن الهدف هو الجميع ، يقول القرآن الكريم أوّلا : هذه هي القرى والأقوام التي نقص عليك قصصهم :( تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها ) (1) .

ثمّ يقول : لم يكن إهلاكهم قبل إتمام الحجة عليهم ، بل لقد جاءهم الأنبياء أوّلا بالبراهين الجلية وبذلوا قصارى جهدهم في إيقاظهم وإرشادهم( وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) .

ولكنّهم قاوموا الأنبياء وخالفوا دعوتهم ، وأصروا ولجّوا في عنادهم ، ولم

__________________

(1) «نقصّ» من مادة «قص» وقد مر شرحها في ذيل الآية 7.

١٣٤

يكونوا على استعداد لأن يؤمنوا بما كذبوا به من قبل ، بل استمروا على تكذيبهم حتى مع مشاهدتهم البينات :( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ) .

من هذه الجملة يستفاد أنّ الأنبياء الإلهيين قاموا بدعوتهم وإرشادهم مرارا وتكرارا ، ولكن المشركين لجوا في عنادهم ، وبقوا متصلبين في مواقفهم المتعنتة الرافضة ، وأعرضوا عن قبول دعوة الأنبياء حتى بعد وضوح الكثير من الحقائق.

وفي العبارة اللاحقة يبيّن تعالى علّة هذا التعنت واللجاج :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ) .

يعني أنّ الذين يسيرون في درب خاطئ ، ويستمرون في السير في ذلك الطريق ، ينتقش الانحراف والكفر على قلوبهم نتيجة تكرار العمل السيء.

ويتجذر الفساد في نفوسهم ، كما يثبت النقش على السكة (والطبع في اللغة نقش صورة على شيء كالسكة) وهذا في الحقيقة هو أثر العمل وخاصيته.

وقد نسب إلى الله هو تعالى مسبب الأسباب ، وهو منشأ تأثير كل مؤثر ، فهو يهب الفعل هذه الخاصية عند تكراره ، حيث يجعله «ملكة» في نفس الشخص.

ولكن من الواضح والبيّن أن مثل الضلال ليس له أي صفة جبرية وقهرية ، بل إنّ موجد الأسباب هو الإنسان وإن كان التأثير بأمر الله تعالى (فتأمل).

وفي الآية اللاحقة بيّن تعالى قسمين آخرين من نقاط الضعف الأخلاقي لدى هذه الجماعات ، والتي تسببت في ضلالها وهلاكها.

في البداية يقول : إنّهم كانوا لا يحترمون العهود والمواثيق بل ينقضونها( وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ) .

وهذا العهد يمكن أن يكون إشارة إلى «العهد الفطري» الذي أخذه الله على جميع عباده بحكم الجبلة والفطرة ، لأنّه عند ما أعطاهم العقل والذكاء والقابلية ، كان مفهوم ذلك هو أخذ العهد الميثاق منهم بأن يفتحوا عيونهم وآذانهم ، ويروا الحقائق ويسمعوها ، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات الأخيرة من هذه السورة (أي

١٣٥

الآية 173) وهو المعروف بـ «عالم الذّر» الذي سنشرحه بإذن الله في ذيل تلك الآيات.

كما أنّه يمكن أن يكون إشارة إلى العهد الذي كان الأنبياء الإلهيون يأخذونه من الناس ، وكان أكثر الناس يقبلونه ، ولكنّهم ينقضونه.

أو يكون إشارة إلى جميع المواثيق «الفطرية» و «التشريعية».

وعلى كل حال فإنّ روح نقض الميثاق كان من أسباب معارضة الأنبياء والإصرار على سلوك طريق الكفر والنفاق ، والابتلاء بعواقبها المشؤومة.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى عامل آخر إذ يقول :( وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) .

يعني أن روح التمرد والتجاوز على القانون ، والخروج عن نظام الخلقة والقوانين الإلهية ، كان عاملا آخر من عوامل استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم على مخالفة الدعوة الإلهية.

ويجب الانتباه إلى أن الضمير في «أكثرهم» يرجع إلى جميع الأقوام والجماعات السالفة.

وما ورد في الآية من أن أكثرهم ينقضون العهد إنّما هو من باب رعاية حال الأقليات التي آمنت بالأنبياء السابقين ، وبقيت وفيّه لهم ، وهذه الجماعات المؤمنة وإن كانت قليلة وضئيلة العدد جدّا بحيث أنّها ما كانت تتجاوز أحيانا أسرة واحدة. ولكن روح الواقعية وتحري الحق المتجلّية في كل آيات القرآن أوجبت أن لا يتجاهل القرآن الكريم حق هذه الجماعات القليلة أو الأفراد المعدودين ، بل يراعيها فلا يصف جميع الأفراد في المجتمعات السالفة بالانحراف والضلال ونقض العهد والفسق.

وهذا موضوع جميل جدّا ، وجدير بالاهتمام ، وهو ما نشاهده ونلحظه في آيات القرآن كثيرا.

* * *

١٣٦

الآيات

( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) )( وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) )

التّفسير

المواجهة بين موسى وفرعون :

بعد ذكر قصص ثلة من الأنبياء العظام باختصار في الآيات السابقة بيّن تعالى في هذه الآيات والآيات الكثيرة اللاحقة قصّة موسى بن عمران ، وما جرى بينه وبين فرعون وملئه وعاقبة أمره.

وعلّة بيان هذه القصّة بصورة أكثر تفصيلا من قصص الأنبياء الآخرين في هذه السورة قد تكون لأجل أنّ اليهود أتباع موسى بن عمران كانوا أكثر من

١٣٧

غيرهم في بيئة نزول القرآن ، وكان إرشادهم إلى الإسلام أوجب(1) .

وثانيا : لأنّ قيام النّبي الأكرم كان أشبه بقيام موسى بن عمران من غيره من الأنبياء.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة الزاخرة بالعبر قد أشير إلى فصول أخرى منها أيضا في سور أخرى ، مثل : سورة البقرة ، طه ، الشعراء ، النمل ، القصص ، وسور أخرى ، ولو أنّنا درسنا آيات كل سورة على حدة ، ثمّ وضعناها جنبا إلى جنب لم نلحظ فيها جانب التكرار على خلاف ما يتصوره البعض ، بل ذكر من هذه الملحمة التاريخية في كل سورة ما يناسبها من البحث للاستشهاد به. وحيث أنّ مصر كانت أوسع ، وكان لشعبها حضارة أكثر تقدما من قوم نوح وهود وشعيب وما شابههم ، وكانت مقاومة الجهاز الفرعوني ـ بنفس النسبة ـ أكثر وأكبر ، ولهذا تمتع قيام موسى بن عمران بأهمية أكبر ، وحوى عبرا ونكات أكثر ، وقد ركّز القرآن الكريم على النقاط البارزة المختلفة من حياة موسى وبني إسرائيل بمناسبات مختلفة.

وعلى العموم يمكن حصر وتلخيص حياة هذا النّبي الإلهي العظيم في خمس دورات ومراحل :

1 ـ مرحلة الولادة ، وما جرى عليه من الحوادث حتى ترعرعه في البلاط الفرعون.

2 ـ مرحلة فراره من مصر ، وحياته في أرض «مدين» في كنف النّبي شعيبعليه‌السلام .

3 ـ مرحلة بعثته ، ثمّ المواجهات الكثيرة بينه وبين فرعون وجهازه.

4 ـ مرحلة نجاته ونجاة بني إسرائيل من مخالب فرعون ، والحوادث التي

__________________

(1) صحيح أنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، ولم تكن مكّة مركز تجمع اليهود ، ولكن من دون شك كان لحضور في المدينة وسائر نقاط الحجاز أثر واسع في المجتمع المكّي.

١٣٨

جرت عليه في الطريق ، وعند وروده إلى بيت المقدس.

5 ـ مرحلة مشاكله مع بني إسرائيل.

ويجب الانتباه إلى أن القرآن الكريم تناول في كل سورة من سور قسما ـ أو عدّة أقسام ـ من هذه المراحل الخمس.

ومن تلك الآيات التي تناولت جوانب من قصّة موسىعليه‌السلام هذه الآيات ، وعشرات الآيات الأخر من هذه السورة ، وهي تشير إلى مراحل ما بعد بعثة موسى بن عمران بالنبوة. ولهذا فإنّنا نوكل الأبحاث المتعلقة بالمراحل السابقة على هذه المرحلة إلى حين تفسير الآيات المرتبطة بتلك الأقسام في السور الأخرى ، وبخاصّة سورة القصص.

في الآية الأولى من الآيات الحاضرة يقول تعالى :( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) أي من بعد قوم نوح وهود وصالح.

ويجب الالتفات إلى أنّ «فرعون» اسم عام ، وهو يطلق على كل ملوك مصر ، كما يطلق على ملوك الروم «قيصر» وملوك فارس «كسرى».

ولفظة «الملأ» ـ كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق ـ تعني الأعيان والأشراف الذين يملأون ببريقهم وظواهرهم الباذخة العيون ، ولهم حضور ملفت للنظر في جميع ميادين المجتمع.

والسر في إرسال موسى في بداية الدعوة إلى فرعون وملأه هو أنّه علاوة على أنّ إحدى برامج موسى كان هو نجاة بني إسرائيل من براثن استعمار الفراعنة وتخليصهم من أرض مصر ـ وهذا لا يمكن أن يتم من دون الحوار مع فرعون ـ إنّما هو لأجل أن المفاسد الاجتماعية وانحراف البيئة لا تعالج بمجرّد الإصلاحات الفردية والموضعية فقط ، بل يجب أن يبدأ بإصلاح رؤوس المجتمع وقادته الذين يمسكون بأزمة السياسة والإقتصاد والثقافة ، حتى تتهيأ الأرضية لإصلاح البقية ، كما يقال عرفا : إنّ تصفية الماء يجب أن تكون من المنبع.

١٣٩

وهذا هو الدرس الذي يعطيه القرآن الكريم لجميع المسلمين ، لإصلاح المجتمعات الإسلامية.

ثمّ يقول تعالى :( فَظَلَمُوا بِها ) .

ونحن نعلم أنّ لفظ الظلم بالمعنى الواسع للكلمة هو : وضع الشيء في غير محلّة ، ولا شك في أن الآيات الإلهية توجب أن يسلّم الجميع لها ، وبقبولها يصلح الإنسان نفسه ومجتمعه ، ولكن فرعون وملأه بإنكارهم لهذه الآيات ظلموا هذه الآيات.

ثمّ يقول تعالى في ختام الآية :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

وهذه العبارة إشارة إجمالية إلى هلاك فرعون وقومه الطغاة المتمردين ، الذي سيأتي شرحه فيما بعد.

وهذه الآية تشير إشارة مقتضبة إلى مجموع برنامج رسالة موسى ، وما وقع بينه وبين فرعون من المواجهة وعاقبة أمرهم.

أمّا الآيات اللاحقة فتسلّط الاضواء بصورة أكثر على هذا الموضوع.

فيقول أوّلا :( وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهذه هي أوّل مواجهة بين موسى وبين فرعون ، وهي صورة حية وعملية من الصراع بين «الحق» و «الباطل».

والطريف أنّ فرعون كأنّه كان ينادى لأوّل مرّة بـ «يا فرعون» وهو خطاب رغم كونه مقرونا برعاية الأدب ، خال عن أي نوع من أنواع التملق والتزلف وإظهار العبودية والخضوع ، لأنّ الآخرين كانوا يخاطبونه عادة بألفاظ فيها الكثير من التعظم مثل : يا مالكنا ، يا سيدنا ، يا ربنا ، وما شابه ذلك.

وتعبير موسى هذا ، كان يمثل بالنسبة إلى فرعون جرس إنذار وناقوس خطر. هذا مضافا إلى أن عبارة موسى( إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) كانت ـ في الحقيقة ـ نوعا من إعلان الحرب على جميع تشكيلات فرعون ، لأنّ هذا التعبير

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

إنّ توحيد الأنبياء الاعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي ، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام عليعليه‌السلام في وصيته لولده الإمام المجتبىعليه‌السلام حيث يقول : «واعلم يا بني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولعرفت أفعاله وصفاته»(١) .

«الامّة» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة ، الاشتراك في الدين ، أو الزمن والعصر الواحد ، أو المكان المعيّن ، سواء كانت هذه الوحدة اختيارية أو بدون إختيار.

واعتبر بعض المفسّرين الامّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد ، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للامّة.

وقال البعض الآخر : إنّ المراد من الامّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار ، أي إنّكم أيّها البشر أمّة واحدة ، ربّكم واحد ، وهدفكم الأخير واحد.

إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر انسجاما من التّفسير السابق ، ولكنّه لا يبدو مناسبا بملاحظة ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة ، بل الأنسب منها جميعا أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى انحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد ، فقالت :( وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ) فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض ، ويلعن بعضهم بعضا ويتبرّأ منه ، ولم يكتفوا بذلك ، بل شهروا السلاح فيما بينهم ، وسفكوا الدماء الكثيرة ، وكانت هذه الأحداث نتيجة الانحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.

جملة «تقطّعوا» ـ من مادّة قطع ـ بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد ، وإذا لا حظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول ، فإنّ معنى

__________________

(١) نهج البلاغة. الرسالة ٣١.

٢٤١

الجملة هو : إنّ أولئك قد استسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق ، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر ، وأنهوا اتّحادهم الفطري والتوحيدي ، فمنوا ـ نتيجة ذلك ـ بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!

وتضيف في النهاية :( كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ ) فإنّ هذا الاختلاف عرضي يمكن اقتلاعه ، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعا في يوم القيامة ، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية ، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الاختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة ، فنقرأ في الآية ٤٨ / سورة المائدة :( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(١) ، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة ، ويرجع إلى الوحدة.

وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الانسجام مع الامّة الواحدة في طريق عبادة الله ، أو الانحراف عنها واتّخاذ طريق التفرقة ، فتقول :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) ومن أجل زيادة التأكيد قالت :( وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ ) .

وممّا يستحقّ الانتباه ، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاخرى ـ كركنين أساسيّين لنجاة البشر ، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطا ، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاخرى قد عدّت الإيمان شرطا لقبول الأعمال الصالحة.

ذكر جملة( فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد ، هو

__________________

(١) آل عمران ـ ٥٥ ، والأنعام ـ ١٦٤ ، والنحل ـ ٩٢ ، والحجّ ـ ٦٩ ، و...

٢٤٢

تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة ، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده ، ويشكر لهؤلاء سعيهم.

وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية ١٩ / سورة الإسراء :( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

* * *

٢٤٣

الآيات

( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) )

التّفسير

الكافرون على أعتاب القيامة :

كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات ، وتشير الآية الأولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لأولئك ، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس ، فتقول :( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (١) .

إنّ هؤلاء في الحقيقة أناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي ، أو بعد فنائهم وانتقالهم إلى عالم البرزخ ، وعندها يأملون أن

__________________

(١) بناء على هذا التّفسير فإنّ( حَرامٌ ) خبر لمبتدأ محذوف ، وجملة( أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) دليل على ذلك ، والتقدير : «حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنهم لا يرجعون»

٢٤٤

يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات ، إلّا أنّ القرآن يقول بصراحة : إنّ رجوع هؤلاء حرام تماما ، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

وهذا يشبه ما جاء في الآية (٩٩) من سورة المؤمنون :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا ).

وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أخرى نشير إلى بعضها في الهامش(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء المغفّلين في غرور وغفلة على الدوام ، وتستمرّ هذه التعاسة حتّى نهاية العالم ، كما يقول القرآن :( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) .

لقد بحثنا بصورة مفصّلة حول «يأجوج ومأجوج» ، وإنّهما من أيّة طائفة كانا؟

وأين كانا يعيشان؟ وأخيرا ماذا يعملان ، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (٩٤) وما بعدها من سورة الكهف ، كما تكلّمنا على «السدّ» الذي بناه «ذو القرنين» في مضيق جبلي ليمنع نفوذهما أيضا

هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السدّ ، ونفوذهما عن هذا الطريق إلى مناطق العالم الأخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كلّ حدب وصوب؟ لم تتحدّث الآية عن ذلك بصراحة ، بل ذكرت انتشارهم وتفرّقهم في الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدّمة للبعث والقيامة ، فتقول مباشرة :( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) . لأنّ الرعب يسيطر

__________________

(١) اعتبر البعض «الحرام» هنا بمعنى الواجب ، وقالوا : إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحيانا بهذا المعنى ، فتكون (لا) زائدة ، ويصبح معنى الآية : إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب. وقال البعض الآخر : إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه ، إلّا أنّ (لا) زائدة ، فيكون المعنى : إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام. واعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان ، والفخر الرازي ، ذيل الآية مورد البحث). وقال بعض آخر : إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي ، فتقول : إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة ، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين ، ذيل الآية مورد البحث) إلّا أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.

٢٤٥

على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور ، فيرتفع صوتهم :( يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ) . ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم ، فإنّهم يقولون بصراحة :( بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) .

كيف يمكن عادة مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء ، والكتب السماوية ، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

معنى بعض الكلمات :

«حدب» على زنة «أدب» معناه ما ارتفع من الأرض بين منخفضاتها ، وقد يطلق على ما ارتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضا.

«ينسلون» من مادّة «نسول» (على وزن فضول) ، أي الخروج بسرعة. وما قيل في شأن يأجوج ومأجوج إنّهما يمرّان بسرعة على المرتفعات إشارة إلى نفوذهم الخارق في الكرة الأرضية.

«شاخصة» من الشخوص ، وهو في الأصل الخروج من المنزل ، أو الخروج من مدينة إلى أخرى ، ولمّا كانت العين عند التعجّب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة ، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

* * *

٢٤٦

الآيات

( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) )

التّفسير

حصب جهنّم!

متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم ، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) !

«الحصب» في الأصل يعني الرمي والإلقاء ، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب

٢٤٧

في التنور.

وقال بعضهم : إنّ للحطب ـ على وزن سبب ـ في لغات العرب ألفاظا مختلفة ، فبعض القبائل يسمّيه حصبا ، والبعض الآخر خضبا ، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب ، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحيانا ، ومن جملة ذلك كلمة «حصب» هذه ، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(١) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين ، إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم ، وستلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها ، ثمّ تضيف( أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ) .

وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيدا لهذا المطلب ، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة ، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا ، ثمّ تردون عليها ، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(٢) .

فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟

يقال في الجواب : إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم. إضافة إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.

طبعا ، هذا في حالة كون( ما تَعْبُدُونَ ) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية ، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالبا لغير العاقل.

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ، ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) ينبغي الالتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى «إلى» ، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأولى ، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني «إلى» ، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.

٢٤٨

أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة ، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماما ، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.

ثمّ تقول كاستخلاص للنتيجة :( لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب ، بل( وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ ) . وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها ، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائما ، وكانوا يعدّونها درعا واقيا عن البلاء ، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالّين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة» ، تقول الآية محلّ البحث :( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) .

«الزفير» في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم : إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيرا ، وفي آخره شهيقا.

وعلى كلّ حال فإنّه استعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(١) .

كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصرا على العباد فحسب ، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضا يصطرخون معهم.

ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاخرى المؤلمة لهؤلاء ، وهي( وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ) . وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم ، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم : إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث

__________________

(١) لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (١٠٦) من سورة هود.

٢٤٩

لا يسمعون صوت أي أحد أبدا ، فكأنّهم لوحدهم في العذاب ، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة ، و «البليّة إذا عمّت طابت» ، كما في المثل.

ثمّ تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما ، فتقول أوّلا :( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكلّ الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا ، وأحدها إبعادهم عن نار جهنّم.

وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين ، إلّا أنّ البعض احتمل أن تكون إشارة إلى من عبد من دون الله كالمسيح ومريمعليهما‌السلام ، الذين عبدوا دون إرادتهم ، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول : ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم ، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيحعليه‌السلام ، فإنّ القرآن يبيّن هذه الجملة كاستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبدا.

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الآية ، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفس هذا السؤال فنزلت الآية تجيبهم. ولكن مع ذلك فلا مانع من أن تكون الآية جوابا لهذا السؤال ، وأن تكون حكما عامّا لكلّ المؤمنين الواقعيين.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهيّة كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالأولى : إنّهم( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) و «الحسيس» ـ كما قال أرباب اللغة ـ الصوت المحسوس ، وجاءت أيضا بمعنى الحركة ، أو الصوت الناشئ من الحركة ، ونار الجحيم المشتعلة دائما لها صوت خاصّ ، وهذا الصوت مرعب من جهتين : من جهة أنّه صوت النّار ، ومن جهة أنّه صوت حركة النّار والتهامها. ولمّا كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنّم ، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت المرعب مطلقا.

٢٥٠

والثّانية : إنّهم( وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ ) فليس حالهم كما في هذه الدنيا المحدودة ، حيث أنّ الإنسان يأمل كثيرا من النعم دون أن ينالها ، فإنّهم ينالون كلّ نعمة يريدونها ، مادية كانت أو معنوية ، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين ، بل على امتداد الخلود.

والثّالثة : إنّهم( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) . وقد اعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كلّ هول وفزع ، وعدّه بعضهم إشارة إلى نفخة الصور واختلافات الأحوال وتبدّلها عند انتهاء هذه الدنيا ، والزلزال العجيب الذي سيدكّ أركان هذا العالم كما جاء في الآية (٨٧) من سورة النحل.

ولكن لمّا كان هول يوم القيامة وفزعها أهمّ وأكبر من جميع تلك الأمور ، فإنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأصحّ.

والرّابعة : من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث :( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علياعليه‌السلام قال : «فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره ، رافق بهم رسله ، وأزارهم ملائكته ، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس جهنّم أبدا»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٣.

٢٥١

الآية

( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) )

التّفسير

يوم تطوى السّماء!

قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه ، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم ، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علّة عظمة وضخامة هذا الرعب ، فتقول :( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) (١) .

لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقا كالطومار لكتابة الرسائل والكتب ، وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة ، ثمّ أنّ الكاتب يفتح منه تدريجيّا ويكتب عليه ما يريد كتابته ، ثمّ يطوى بعد الانتهاء من الكتابة ويضعونه جانبا ، ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضا على هيئة الطومار ، وكان هذا الطومار يسمّى سجلا ، إذ كان يستفاد منه للكتابة.

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند انتهاء الدنيا ، ففي

__________________

(١) السجل : الدلو العظيمة ، والسّجلّ حجر كان يكتب فيه ، ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلا ـ مفردات الراغب والقاموس ـ وينبغي الالتفات إلى أنّه احتملت احتمالات عديدة في تفسير جملة( كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) إلّا أنّ أقربها أنّ «طي» مصدر للسجل الذي أضيف مفعوله ، واللام في (للكتب) إمّا للإضافة أو لبيان العلّة. دقّقوا ذلك.

٢٥٢

الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح ، وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه ، وكلّ منها في مكان معيّن ، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه.

طبعا ، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض ، بل يعني تحطّمه وجمعه ، وبتعبير آخر : فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض ، لكن لا تفنى مواده ، وهذه الحقيقة تستفاد من التعبيرات المختلفة في آيات المعاد ، وخاصة من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة ، ومن القبور.

ثمّ تضيف( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية (٢٩) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) أو أنّه مثل تعبير( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (١) (٢) .

أمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى الفناء والعدم ، أو التلاحم والارتباط كما في بداية الخلق ، فيبدو بعيدا جدّا.

وفي النهاية تقول الآية :( وَعْداً ) (٣) ( عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) (٤) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأولى ، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني انحصار معنى الآية في ذلك واقتصاره عليه ، بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأولى(٥) .

* * *

__________________

(١) سورة الروم ، ٢٧.

(٢) كما قلنا سابقا ، فإنّه لا يوجد صعب وسهل بالنسبة إلى قدرة الله اللامتناهية ، بل كلّ شيء متساو مقابل قدرته ، وعلى هذا فإنّ التعبير المستعمل في الآية أعلاه إنّما هو بالنسبة لمحدودية فهم البشر ، دقّقوا ذلك.

(٣) «وعدا» مفعول لفعل مقدّر تقديره : وعدنا.

(٤) هذه الجملة تتضمّن عدّة تأكيدات ، فلفظة الوعد ، ثمّ التعبير بـ (علينا) وبعدها التأكيد بـ (إنّا) ثمّ استعمال الفعل الماضي (كنّا) وكذلك كلمة (فاعلين).

(٥) مجمع البيان ، ذيل الآيات مورد البحث.

٢٥٣

الآيتان

( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) )

التّفسير

سيحكم الصالحون الأرض :

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين ، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيويّة لهؤلاء ، فتقول :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) .

وكلمة «الأرض» تطلق على مجموع الكرة الأرضية ، وتشمل كافّة أنحاء العالم إلّا أن تكون هناك قرينة خاصّة في الأمر ، ومع أنّ البعض احتمل أن يكون المراد وراثة كلّ الأرض في القيامة ، إلّا أنّ ظاهر كلمة الأرض عند ما تذكر بشكل مطلق تعني أرض هذا العالم.

ولفظ «الإرث» ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ يعني انتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء ، وقد استعملت هذه الكلمة في القرآن أحيانا بمعنى تسلّط وانتصار قوم صالحين على قوم طالحين ، والسيطرة على مواهبهم

٢٥٤

وإمكانياتهم ، كما نقرأ في الآية (٣٧) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل :( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) .

وبالرغم من أنّ «الزبور» في الأصل يعني كلّ كتاب ومقال ، ومع أنّ موضعين من المواضع الثلاثة التي استعملت فيها هذه الكلمة في القرآن يشيران إلى زبور داود ، فلا يستبعد أن يكون المورد الثّالث ، أي ما ورد في الآية محلّ البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

إنّ زبور داود ـ أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود) ـ عبارة عن مجموعة أدعية النبيّ داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.

واحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الزبور هنا كلّ كتب الأنبياء السابقين(١) .

ولكن يبدو على الأغلب ـ مع ملاحظة الدليل الذي ذكرناه ـ أنّ الزبور هو كتاب مزامير داود فقط ، خاصة وأنّ في المزامير الموجودة عبارات تطابق هذه الآية تماما ، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

«والذكر» في الأصل يعني التذكير أو ما يسبّب التذكير والتذكّر ، واستعملت هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى ، وأطلقت أحيانا على كتاب موسى السماوي ، كالآية (٤٨) من سورة النساء :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ) .

واستعملت أحيانا في شأن القرآن ، كالآية (٢٧) من سورة التكوير :( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) ولذلك قال البعض : إنّ المراد من الذكر ـ في الآية مورد البحث ـ هو القرآن ، والزبور كلّ كتب الأنبياء السابقين ، أي إنّنا كتبنا في كلّ كتب الأنبياء السابقين إضافة إلى القرآن بأنّ الصالحين سيرثون الأرض جميعا.

__________________

(١) نقل هذا الاحتمال في تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي عن عدّة من المفسّرين.

٢٥٥

لكن ملاحظة التعبيرات التي استعملت في الآية توضّح أنّ المراد من الزبور كتاب داود ، والذكر بمعنى التوراة ، ومع ملاحظة أنّ الزبور كان بعد التوراة ، فإنّ تعبير( مِنْ بَعْدِ ) حقيقي ، وعلى هذا فإنّ معنى الآية : إنّنا كتبنا في الزبور بعد التوراة أنّنا سنورث العباد الصالحين الأرض.

وهنا ينقدح سؤال ، وهو : لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟

ربّما كان هذا التعبير بسبب أنّ داود كان أحد أكبر الأنبياء ، واستطاع أن يشكّل حكومة الحقّ والعدل ، وكان بنو إسرائيل مصداقا واضحا للقوم المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين ودمّروا دولتهم واستولوا على حكومتهم وورثوا أرضهم.

والسؤال الآخر الذي يثار هنا هو : من هم عباد الله الصالحون؟

إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتّضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم ، وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع ، فستخطر على الذهن كلّ المؤهّلات ، الأهليّة من ناحية التقوى ، والعلم والوعي ، ومن جهة القدرة والقوّة ، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الاجتماعي.

عند ما يهيء العباد المؤمنون هذه المؤهّلات والأرضيات لأنفسهم ، فإنّ الله سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرغوا انوف المستكبرين في التراب ، ويقطعوا أيديهم الملوّثة ، فلا يحكمون أرضهم بعد ، بل تكون للمستضعفين ، فيرثونها ، فبناء على ذلك فإنّ مجرّد كونهم مستضعفين لا يدلّ على الإنتصار على الأعداء وحكم الأرض ، بل إنّ الإيمان لازم من جهة ، واكتساب المؤهّلات من جهة أخرى ، وما دام مستضعفو الأرض لم يحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصلون إلى وراثة الأرض وحكمها. ولذلك فإنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدّد :( إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) .

لقد اعتبر بعض المفسّرين (هذا) إشارة إلى كلّ الوعود والتهديدات التي

٢٥٦

جاءت في هذه السورة ، أو في كلّ القرآن ، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم الكليّ أيضا. إلّا أنّ ظاهر الآية هو أنّ (هذا) إشارة إلى الوعد الذي أعطي للعباد الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض.

* * *

بحوث

١ ـ روايات حول ثورة المهديعليه‌السلام

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات بأصحاب المهديعليه‌السلام ، كما نرى

رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقرعليه‌السلام في ذيل هذه الآية : «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية :( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قال : «القائم وأصحابه».

لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر ، بل هو بيان مصداق عال وواضح ، وقلنا مرارا : إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقا ، وبناء على هذا ففي كلّ زمان ، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر ، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفا في تفسير هذه الآية ، فقد رويت روايات كثيرة جدّا (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وعن طريق السّنة والشيعة ، في شأن المهديعليه‌السلام ، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين ، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم ، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث

٢٥٧

رجلا (صالحا) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع اختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(١) .

وقد نوّهنا في ذيل الآية (٣٣) من سورة التوبة : إنّ جماعة من كبار علماء الإسلام ، من أهل السنّة والشيعة قديما وحديثا قد صرّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهديعليه‌السلام بلغت حدّ التواتر ، وليس لأيّ إنكارها بأي وجه ، حتّى أنّ كتبا قد ألّفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطّلع على تفصيلها في ذيل الآية (٣٣) من سورة التوبة.

٢ ـ بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود

ممّا يلفت النظر أنّه يلاحظ في كتاب مزامير داود ـ والذي هو اليوم جزء من كتب العهد القديم ـ يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر ـ نفسه أو ما يشبهه في عدّة مواضع ، وهذا يوحي بأنّه مع كلّ التحريفات التي وقعت في هذه الكتب ، فقد بقي هذا القسم مصونا من تلاعب الأيدي به.

١ ـ فنقرأ في المزمور ٣٧ / جملة ٩ : «... لأنّ عاملي الشرّ يقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض ، بعد قليل لا يكون الشرّير ...».

٢ ـ وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة ١١ : «أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة».

٣ ـ وكذلك في نفس المزمور ٣٧ / جملة ٢٧ ، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر : «لأنّ المتبركين بالله سيرثون الأرض ، أمّا الملعونون فسينقطع أثرهم ...»

٤ ـ وجاء في هذا المزمور / الجملة ٢٩ : «إنّ الصالحين سيرثون الأرض

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع راجع (منتخب الأثر) و (نور الأبصار).

٢٥٨

وسيسكنون فيها إلى الأبد».

٥ ـ وجاء في الجملة ١٨ من نفس المزمور أعلاه : «إنّ الله يعلم أيّام الصالحين ، وسيكون ميراثهم أبديّا»(١) .

نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أنّ عنوان «الصالحين» الذي جاء في القرآن ، ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود ، إضافة إلى ورود تعابير أخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل أخرى.

إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين ، وتتطابق تماما مع أحاديث قيام المهديعليه‌السلام .

٣ ـ حكم الصالحين قانون تكويني

بالرغم من أنّه يصعب على أولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظلّ حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجبّرين ، قبول هذه الحقيقة بسهولة ، وهي أنّ كلّ هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة ، وقوانين عالم الخلقة ، وأنّ ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين ، إلّا أنّ التحليلات الفلسفيّة تنتهي إلى أنّ هذه حقيقة واقعيّة ، وبناء على هذا فإنّ جملة( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) قبل أن تكون وعدا إلهيّا ، فإنّها تعتبر قانونا تكوينيّا.

توضيح ذلك : إنّ عالم الوجود ـ على حدّ علمنا ـ مجموعة من الأنظمة والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام وارتباط أجزائه.

__________________

(١) نقلنا هذه الجمل عموما عن الترجمة الفارسية للكتب العهد العتيق المنشورة (سنة ١٨٧٨ تحت إشراف الكنيسة المعروفة بـ مجمع الكتب البريطانية المقدّسة للخارجيين).

٢٥٩

وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهمّ مسائل هذا العالم ، فمثلا : إذا وجدنا مئات العقول الالكترونية القوّية قد انضمّ بعضها إلى بعض لإعداد الرحلات الفضائية لروّاد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة ، وكانت حساباتها صحيحة تماما حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح القمر ، مع أنّ كوكبي القمر والأرض يتحرّكان كلاهما بسرعة ، فينبغي أن نعرف أنّ هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق ، لأنّهم إذا انحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار ١ خ من الثّانية ، لما كان معلوما مصير رجال الفضاء!

وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدّا ، فهنا ـ وخاصّة في الكائنات الحيّة ـ سيتّخذ النظام معنى أكثر حيويّة ، ولا محل للفوضى فيه مطلقا ، فإنّ اختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدّل نظم حياته إلى اضطراب مؤسف.

وجاء في أخبار الصحف : إنّ شابا جامعيا قد نسي كل ماضيه تقريبا على أثر هزّة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنّه كان سالما من حيث الجهات الاخرى ، فلم يعرف أخاه ولا أخته كما كان يتضايق عند ما تحتضنه أمّه وتقبّله ، ويتساءل : ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه ، وإلى الغرفة التي نشأ فيها ، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية ، ولوحاته الفنية ، إلّا أنّه يقول : إنّي أرى هذه الغرفة واللوحات لأوّل مرّة! ربّما كان يعتقد أنّه قد قدم من كوكب آخر ، فكلّ شيء جديد بالنسبة له.

ربّما توقّفت بعض خلاياه من بين عدّة مليارات من الخلايا المخيّة ، وهي التي تربط ماضيه بحاضره ، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الاختلال الجزئي؟!

هل يستطيع المجتمع الإنساني بانتخابه اللانظام والفوضى والظلم والجور

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550