الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 550

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 215560 / تحميل: 6666
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٠

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المرصد السّادس

في العدل

وفيه مطالب

١٦١

١٦٢

[المطلب] الأوّل

في الحسن والقبح العقليّين

الفعل إن لم يكن له صفةٌ زائدةٌ على حدوثه فهو كحركة السّاهي والنّائم. وإن كان، فهو إمّا حسنٌ لا صفة زائدة له على حسنه، وهو المباح؛ أو له صفةٌ زائدةٌ، فإن أوجبت الذّمّ على التّرك فهو الواجبُ، وإلاّ النّدبُ؛ وإمّا قبيحٌ، وهو ما يستحقّ فاعله العالمُ بحاله الذّمّ.

واتّفقت المعتزلة على أنّ من الأشياء ما يُعلم كونه حسناً وقبيحاً بالضّرورة، كحسن الصّدق النافع والإنصاف والإحسان وشكر المُنعم وقبح الكذب الضّارّ والظلم والفساد وتكليفِ ما لا يُطاق؛ ومنها ما يعلم حسنه وقبحه بنظر العقل، كحُسن الصّدق الضّارّ وقبح الكذب النّافع، ومنها ما يُعلم من جهة الشّرع، لا بمعنى أنّه علّةٌ في الحُسن والقبح، بل إنّه كاشف لجزم من لم يعتقد الشّرعُ به، ولأنّه لولاه لجاز إظهار المعجزة (1) على يد الكاذب، والخُلف في وعده ووعيده. والتّعذيب على الطاعة والإثابة على المعصية، فينتفي فائدةُ التّكليف ولأُفحِمَتِ الأنبياءُ.

____________________

(1) ألف: المعجز.

١٦٣

وقالت الأشاعرة: إنهما شرعيّان، فالحسنُ ما أمر الشّارعُ به، والقبيحُ ما نهى عنه؛ لأنّ العلمُ به ليس نظريّاً إجماعاً ولا ضروريّاً، وإلاّ لساوى العلم بأنّ الكلّ أعظمُ من الجزء. والتّالي باطلٌ قطعاً، فكذا المقدّمُ، ولأنّ الكذبَ قد يحسنُ إذا اشتمل على مصلحة، كتخليص نبيّ من ظالم، أو قال: لأكذبنّ غداً، ولأنّه - تعالى - كلّف من علم عدمَ إيمانه، وخلافُ معلوم الله - تعالى - مُحال، وكلّف أبا لهب بالإيمان بجميع ما أخبر به. ومن جملة ما أخبر (1) أنّه لا يؤمنُ، فقد كلّفه بأن يؤمن بأن لا يؤمن. وهو جمعٌ بينَ النّقيضين؛ ولأنّ أفعال العبد اضطراريّةٌ، فلا حسنَ ولا قبحَ.

والجوابُ: المنعُ من الملازمة فإنّ التّصديقات الضّروريّة تتفاوتُ بتفاوت التّصوّرات في الكمال والنّقصان، ومن بطلان التّالي، والكذب ليس بحسن مطلقاً. ويجب التّوريةُ لتخليص النّبيّ، فينتفي الكذبُ، أو يأتي بصورة الإخبار من غير قصد له، بل للاستفهام. ويجبُ ترك الكذب في الغد، لاشتماله على وجهي حسن، هما ترك الكذب وترك إتمام العزم عليه وإن اشتمل على وجه قبح، وهو أولى من الكذب المشتمل على وجهي قبح هُما الكذب وإتمام العزم عليه، وعلى وجه حَسن وهو الصدق، والعلم تابعٌ، فلا يؤثّرُ في المتبوع.

ونمنع إخباره عن أبي لهب بعدم الإيمان. والسّورةُ اشتملت (2) على

____________________

(1) ج: أجزائه.

(2) ج: إنه اشتملت.

١٦٤

ذمّه، لا على الإخبار بعدم إيمانه. ويُحتَملُ نزولها بعدَ موته. ويؤيّده قوله تعالى: ( مَا أَغْنَى‏ عَنْهُ ) (1) وقوله تعالى: ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنذرتهم ) (2) يُحتَمل نزولها بعدَ موتهم أو حالَ غفلتهم. والغافل غير مكلّف. وسيأتي بيانُ اختيار العبد.

تذنيبٌ

القبائحُ إنّما قبحت لما هي عليه. وكذا الواجباتُ، فإنّ العقلاء متى علموا الظلمَ، أو منعَ ردّ الوديعة، أو ترك شكر المنعم، (3) ذمّوا فاعل ذلك، ومتى علموا ردّ الوديعة أو شكر النّعمة مدحوا فاعله. فإذا طلب منهم العلّة بادروا إلى ذكر الظّلم أو منع الوديعة أو كفران النّعمة أو فعل الشّكر أو الرّدّ. فلو لا علمهم الضّروريّ بالعلم لما بادروا إليها وللدوران، فإنّ الضّرر متى كان ظلماً كان قبيحاً. وإذا انتفى الظلم انتفى قبحه فكان علّةً.

____________________

(1) المسد: 111/2.

(2) البقرة: 2/6.

(3) ب، ج: النعمة.

١٦٥

المطلب الثاني

في أنّه - تعالى - لا يفعل القبيح ولا يُخلّ بالواجب

يدلّ عليه أنّ له صارفاً عن القبيح، لأنّه غنيٌّ عنه وعالمٌ بقبحه، ولا داعيّ له إليه، لانتفاء داعي الحاجة والحكمة، فلا يصدرُ الفعل عنه قطعاً.

والأشاعرة أسندوا القبائح إليه - تعالى عن ذلك -، لأنّه كلّف الكافر مع علمه بامتناع الإيمان منه، وتكليفُ ما لا يُطاقُ قبيحٌ عندكم، ولأنّه - تعالى - جمع بين الرّجال والنّساء في الدّنيا ومكّن بعضَهم من بعض، وجعل لهم ميلاً إلى الاجتماع وحرّمه، وذلك قبيح، كما يقبح منّا جمع العبيد والإماء،

وقد بيّنا أنّ العلمَ تابعٌ، والغرضُ في التّكليف هو التّعريض على معنى أنّه يجعله بحيثُ يتمكن من الوصول إلى النّفع وقد حصل الغرضُ، والجامع بينَ العبيد والإماء إذا نهاهم عن وصول بعضهم إلى بعض وتوعّدهم عليه بعظيم الضّرر، وفعل بهم ما يُقرّبهم من الامتثال ويُبعّدهم عن المخالفة، ونصب لهم من يؤدّبهم إذا أخلّوا بما أُمروا به عاجلاً ووعدهم على الامتثال بعظيم النّفع الّذي لا يمكن الوصول إليه إلاّ به لم يكن قبيحاً.

١٦٦

المطلب الثّالث

في خلق الأعمال

ذهب جهم بنُ صفوان إلى أن لا فاعل إلاّ الله - تعالى - وقالت الأشاعرةُ والنّجّاريّة، إنّ المُحدِثَ هو الله - تعالى - والعبدَ مكتسبٌ، وأنّه - تعالى - يخلقُ قدرة للعبد والفعل معاً. واختلفوا في الكسب، فقال الأشعريّ: هو إجراء العادة بإيجاد الله - تعالى - الفعل والقدرة معاً عندَ اختيار العبد، ولا أثرَ لقدرة العبد. وقال بعضُ أصحابه، معناه تأثيرُ قدرة العبد في كون الفعل طاعةً أو معصيةً أو عبثاً وغيرها من صفات الفعل الّتي يتناولها التّكليف وبها يستحقّ المدح والذّمّ. وقال آخرون: إنّه غيرُ معلوم.

وذهب أهل العدل إلى أنّ للحيوان أفعالاً تقعُ بقدرتهم (1) واختيارهم، فعندَ أبي الحسين ومن تابعه أنّ العلمَ به ضروريٌّ. وهو الحقّ. وعند باقي مشايخ المعتزلة ومن تابعهم من شيوخ الإماميّة أنّه كسبيٌّ.

لنا أنّ كلّ عاقل يعلمُ بالضّرورة حُسنَ المدح على الإحسان والذّمّ على الإساءة، وهو يتوقفُ على كون الممدوح والمذموم فاعلاً، ولأنّ أفعالنا

____________________

(1) ألف، ب: بقدرهم.

١٦٧

واقعةٌ بحسب قصودنا ومنتفية بحسب صوارفنا. وهو معنى الفاعل. ولأنّ الضّرورة قاضية بالفرق بينَ حركاتنا الاختياريّة والاضطراريّة، ولقبح منه - تعالى - الأمر والنّهي كما يقبح أمرُ الجماد ونهيه؛ وللسّمع.

احتجّ الخصمُ بأنّ العبدَ حالَ الفعل إن لم يمكنه التّرك فهو الجبر؛ وإن أمكنه: فإن لم يتوقّف التّرجيحُ على مرجّح لزم ترجيحُ الممكن من غير مرجّح، وإن توقّف، فإن كان منه عاد البحث، وإلاّ لزم الجبر، لامتناع الفعل من دونه ووجوبه عنده، ولأنّه لو كان موجداً لفعله لكان عالماً بتفاصيله، فإنّ القصد (1) الكلّيّ لا يكفي في حصول الجزئيّ لتساوي نسبته إلى الجميع. والتّالي باطل قطعاً، لعدم العلم بقدر السّكنات المتخلّلة في الحركات البطيئة، ولأنّه لو أراد العبدُ حركةَ جسم وأراد الله - تعالى - تسكينه، فإن وقعا أو لم يقعا لزم المُحال، وإن وقع أحدهما كان ترجيحاً من غير مرجّح، لاستقلال كلّ منهما؛ ولأنّه - تعالى - إن علم الوقوعَ وجب وإلاّ امتنع، فلا قدرةَ.

والجوابُ: أنّه متمكنٌ من التّرك نظراً إلى القدرة وغيرُ متمكّن نظراً إلى الدّاعي ولا يخرجه عن القدرة، لتساوي الطرفين بالنّسبة إلى القدرة وحدَها، وهو آتٍ في حقّ واجب الوجود. والعلم الإجماليّ كافٍ في الإيجاد. والقصد الكلّيّ قد ينبعث عنه الفعل الجزئيّ باعتبار تخصيصه

____________________

(1) ألف: الفصل.

١٦٨

بالمحلّ والوقت لا باعتبار القصد، وقدرته - تعالى - أقوى، فكان صدورُ فعله أولى، والوجوب المستند إلى العلم لاحقٌ. (1)

وكما أنّ فرضَ أحد النّقيضين يقتضي وجوبَه لاحقاً دونَ امتناع الآخر، كذا فرضُ العلم، لأنّه مطابقٌ له. والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم، مع أنّه آتٍ في حقّه تعالى. والكسب غيرُ مفيد، لأنّ تجويز صدور الاختيار يقتضي تجويز صدور غيره، لعدم الأولويّة؛ ولانسحاب أدلّتهم عليه، فإنّ اختيار المعصية مغايرٌ لاختيار الطاعة. فحصولُ أحدهما إن لم يكن لمرجّح لزم ترجيح أحد الطرفين لا لمرجّح، وإن كان لمرجّح تسلسل. وكذا باقي الأدلّة.

____________________

(1) ج: اللاحق.

١٦٩

المطلب الرّابع

في أنّه - تعالى - يريدُ الطاعات ويكره المعاصي

هذا مذهبُ العدليّة، خلافاً للأشاعرة، لأنّ له داعياً إلى الطاعة، ولا صارفَ له عنها، وله صارفٌ عن المعصية، ولا داعيَ له إليها، لأنّه حكيمٌ، والحكيمُ له داعٍ إلى الحَسَن، والطاعة حسنة، وله صارفٌ عن القبيح، والمعصية قبيحةٌ؛ ولأنّ إرادة القبيح قبيحةٌ، لاستحسان العقلاء ذمّ مريد القبيح، ولأنّه أمر بالطاعة ونهى عن المعصية. وهما يستلزمان الإرادة والكراهة؛ فإنّ الأمر إنّما هو أمرٌ باعتبار إرادة المأمور به؛ ولقوله تعالى: ( كُلّ ذلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِندَ رَبّكَ مَكْرُوهاً ) (1) وكذب من قال: ( لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا ) (2) وقوله: ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ) (3) ، ( وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْفَسَادَ ) (4) ، ( وَلاَ يَرْضَى‏ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) (5) ، و ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنّ وَالْإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (6) ، ( وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ) (7) .

____________________

(1) الإسراء: 17/38.

(2) الأنعام: 6/148.

(3) آل عمران: 3/108.

(4) البقرة: 2/205.

(5) الزمر: 39/7.

(6) الذاريات: 51/56.

(7) البيّنة: 98/5.

١٧٠

احتجّوا بأنّ إرادةَ الطاعة من الكافر تستلزم وقوعها وكراهةَ المعصية تستلزم عدمها؛ ولأنّ الأمر قد يوجد بدون الإرادة، كطالب العذر عن ضرب (1) عبده بعدم قبوله منه، فيأمره ولا يريد فعلَه، ليظهرَ عذره؛ وقوله تعالى: ( وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلّهُمْ جَميعاً ) (2) .

والجوابُ: أنّه أراد إيقاعَها اختياراً وكره إيقاعَ المعصية اختياراً، لئلاّ يبطلَ التّكليف. والمولى يوجد صورةَ الأمر ولا طلب، كما لا إرادة، والآية يدلّ على القسر (3) .

____________________

(1) ج: بضرب العبد.

(2) يونس: 10/99.

(3) ج: على التخيير.

١٧١

المطلب الخامس

في التكليف

وهو إرادةُ من يجبُ طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقّةٌ بشرط الإعلام. وهو حسنٌ لأنّه من فعلِه تعالى، والله لا يفعل القبيح؛ ولابُدّ من غرضٍ، لقبح العبثِ، وليس عائداً إليه تعالى، لاستغنائه، ولا إلى غير المكلّف، لقبح إلزام المشقّة لنفع (1) الغير، ولا ضرر المكلّف لقبحه ابتداء، ولا نفعه، لانتقاضه بتكليف من علم كفره، ولا تعريضه للضرر لقبحه ولا لنفع يصحّ الابتداء به، لأنّه يصيرُ عبثاً، فهو التّعريضُ لنفع لا يمكن الابتداء به.

والأشاعرة نفوا الغرضَ في أفعاله، وإلاّ لكان ناقصاً في ذاته مستكملاً بذلك الغرض، إذ بحصوله يحصل له ما هو الأولى له. وليس بجيّد، وإلاّ لزم العبثُ وإبطال غايات المصنوعات الظاهرة حِكمها. (2) والاستفادةُ باطلة، كما في الخالقيّة.

وهو واجبٌ عندَ المعتزلة خلافاً للأشاعرة، وإلاّ لكان مغرياً بالقبيح،

____________________

(1) ج: منفعة.

(2) ج: حكمتها.

١٧٢

لأنّ للعاقل ميلاً إلى القبيح ونفوراً عن الحسن.

فلولا التّكليف الزّاجر عن القبيح لزم ارتكابه،

وشرطه كونُ المكلّف عالماً بصفة الفعل لئلاّ يكلّفَ بالقبيح أو المباح، وبقدر المستحقّ عليه من الثّواب ليؤمن انتفاء الظلم، والقدرة على الإيصال، وكونه منزّهاً عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأن يكون ما كلّف به ممكناً، لقبح التّكليف بالمُحال، وكونه ممّا يستحقّ به الثّواب، كالواجب والنّدب وترك القبيح، وقدرة المكلّف عليه، مميّزاً بينَه وبينَ ما لم يكلّفه متمكناً من الآلة والعلم بما يحتاج إليه، والعلّة فيحسن تكليف المؤمن آتيةٌ في الكافر؛ فإنّ العلم غير مؤثر والتّعريض للنّفع ثابت فيه. واختيار الكفر (1) لا يُخرج الحَسن عن حُسنه.

____________________

(1) ب، ج: اختياره الكفر.

١٧٣

المطلب السّادس

في اللّطف

وهو ما كان المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعدَ من فعل القبيح، (1) ولم يكن له حظٌّ في التّمكين ولم يبلغ إلى حدّ الإلجاء، فالآلة ليست لطفاً؛ لأنّ لها مدخلاً في التّمكين. والإلجاء ينافي التّكليف، بخلاف اللّطف وهو واجبٌ خلافاً للأشعريّة، وإلاّ لزم نقض الغرض، فإنّه - تعالى - إذا علم أنّ المكلّف لا يختارُ الطاعة أو لا يكونُ أقرب إليها إلاّ عندَ فعل يفعله به وجب عليه فعلُه، وإلاّ كان مُناقضاً لغرضه، كمن قدّم طعاماً إلى غيره ويعلمُ أنّه لا يأكلُ (2) إلاّ إذا فعل معه نوعاً من التأدّب لا مشقّةَ فيه ولا غضاضةَ، فلو لم يفعله لم يكن مريداً لأكله.

لا يقال: الفعل بدون اللطف إن كان ممكناً لم يتوقّف على اللّطف، وإلاّ صار من جملة التّمكين، كالقدرة، ولأنّ وجه الوجوب غير كافٍ فيه ما لم ينتف عنه وجوه (3) القبح، فلم لا يجوزُ اشتمال اللّطف على وجه قبح، ولأنّ اللطف إن اقتضى رجحاناً مانعاً من النّقيض كان إلجاءً. وإن كان غير مانع لم

____________________

(1) ج: فعل المعصية.

(2) ج: لا يأكله.

(3) ج: وجوب القبح.

١٧٤

يكف في وجود الفعل، وإن لم يقتض رجحاناً البتة انتفت فائدته.

لأنّا نقول: الفعل يتوقّفُ على الدّاعي. واللّطفُ أمّا الدّاعي أو سببه أو مقوّيه، فيتوقّف عليه الفعل وليس تمكيناً. ووجوه القبح محصورة مضبوطة، لأنّا مكلّفون باجتنابها، وهي منفيّةٌ عن اللطف، واقتضاء الرّجحان المانع من النّقيض لا يستلزم الإلجاء، كالدّاعي الّذي يجب الفعل عنده، وإن كان غيرَ مانع كفى مع الدّاعي والقدرة.

واللطف إن كان من فعله - تعالى - وجب عليه فعله، وإن كان من فعل المكلّف وجب عليه - تعالى - أن يُعرّفه إيّاه ويُوجبه عليه، وإن كان من فعل غيرهما لم يجز أن يكلّفه فعلاً متوقّفاً على ذلك اللّطف إلاّ إذا علم أنّ ذلك يفعله قطعاً.

١٧٥

المطلب السّابع

في الآلام والأعواض

الألمُ منه قبيحٌ، وهو صادرٌ عنّا والعوض فيه علينا، ومنه حَسنٌ، فإن كان من فعلنا، مباحاً أو مندوباً أو واجباً فالعوض عليه تعالى، وإن كان من فعله - تعالى - فإمّا على وجه الاستحقاق بالعقاب، (1) وإمّا على جهة الابتداء.

واختلفَ فيه، فنفاه البكريّة، وقالت الأشاعرة لا عوضَ عليه - تعالى - في ما يفعله من الألم ولا في ما يأمر به. وقالت التّناسخيّة، إنّه - تعالى - يؤلمُ على وجه العقوبة لا غير. وعند العدليّة أنّه - تعالى - يؤلم ابتداءً بشرط اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه، وهو اللّطف إمّا للمؤلم أو لغيره. وأن يكونَ في مقابلته عوضٌ للمؤلم يزيد عليه أضعافاً كثيرةً بحيثُ يختارُ المتألمُ العوضَ والألم؛ لأن عراءه عن العوض ظلمٌ وعن اللّطف عبثٌ.

والعوضُ، هو النّفعُ المستحقُّ الخالي من تعظيم وإجلال، فالمستحقّ علينا مساوٍ للألم، والمستحقّ عليه - تعالى - بفعله أو إباحته أو أمره أو تمكينه لغير العاقل زائدٌ عليه. واختلف أهل العدل في الأخير، فقال بعضهم بما

____________________

(1) ب، ج: كالعقاب.

١٧٦

تقدّم، وآخرون بأنّ العوضَ على الحيوان. والباقون قالوا: لا عوضَ هنا.

لنا، أنّه - تعالى - مكّنه وجعل فيه ميلاً شديداً إلى الإيلام ولم يخلق له عقلاً يزجره عن القبيح مع إمكانه.

احتجّ الخصمُ بقوله (عليه السلام): ((يُنتصفُ للجمّاء من القرناء)) (1) وإنّما يكون بأخذ العوض من الجاني وبقوله (عليه السلام): ((جُرحُ العجماء جبارٌ)) (2) والانتصاف بأخذ العوض إمّا من الجاني أو غيره، وصحّ أن يكونَ جباراً لانتفاء القصاص فيه.

والعوض واجبٌ، خلافاً للأشاعرة، وإلاّ لزم الظلمُ، واختلف الشّيوخُ، فقال أبو هاشم والبلخيّ: يجوزُ أن يُمكّن الله - تعالى - من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي فعله.

ثمّ قال البلخيّ: يجوز أن يخرج من الدّنيا ولا عوضَ له، ويتفضّل الله - تعالى - عليه بالعوض، فيدفعه إلى المظلوم. ومنعه أبو هاشم وأوجب التّبقيةَ إلى أن يستحقّ عوضاً موازياً، لأنّ الانتصافَ واجبٌ والتّفضّل ليس بواجب، فلا يُعلّقُ عليه الواجبَ. قال المرتضى: التّبقيةُ أيضاً ليست واجبةً، فلا يعلّق عليها الانتصافَ الواجب. بل، يجب أن يكون له في حال ظلمه عوضاً موازياً.

____________________

(1) الاقتصاد: 91؛ كشف المراد: 455.

(2) الموطأ: 2/869؛ بحار الأنوار: 87/267.

١٧٧

المطلب الثّامن

في الآجال والأرزاق والأسعار

ألف - الأجل، هو الوقتُ الّذي يحدث فيه الشّيء. ويعنى بالوقت، الحادثُ الّذي جعل علماً لحدوث غيره. كما يقال: قدم زيدٌ عندَ طلوع الشّمس. وأجلُ الحياة هو الوقت الّذي يحدث فيه، وأجل الموت كذلك. فأيّ ميّتٍ مات على اختلاف أسباب الموت، فإنّ موته في أجله.

واختلف في المقتول لو لم يقتل فقيل: يعيشُ قطعاً، لأنّه لو مات قطعاً لكان ذابحُ غنم غيره محسناً إليه. وقيل: يموتُ قطعاً، وإلاّ لزم انقلابُ علمه - تعالى - جهلاً لو عاش.

والملازمةُ الأولى ممنوعةٌ، لأنّه فوّته العوضَ على الله تعالى. وهو أزيدُ من العوض عليه. (1)

والثّانيةُ أيضاً، لجواز تعلّق علم الموت بالقتل والحياة لولاه.

وأمّا الرّزقُ، فعند العدليّة ما صحّ الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه،

____________________

(1) قال المصنّف في كشف المراد: 340: إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضاً زائداً على الله فقال، فبذبحه فوت عليه الاعواض الزائدة.

١٧٨

لقوله تعالى: ( وَأَنفِقُوا مِن مَا رَزَقْنَاكُم ) (1) والله - تعالى - لا يأمرُ بالحرام.

وعند الأشاعرة، الرّزق ما أكل وإن كان حراماً. ويجوز طلبُه إجماعاً. ولقوله تعالى: ( فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّهِ ) (2) .

وأمّا السّعرُ، فهو تقدير البدل فيما يُباع به الأشياء. ولا يقال: هو البدل؛ لأنّ البدل هو الثّمن أو المثمنُ. وليس أحدهما سِعراً. وهو إمّا رخصٌ، وهو السّعرُ المنحطّ عمّا جرت به العادة، والوقت والمكان واحدٌ. وإمّا غلاءٌ، وهو ما يقابله، وكلّ منهما إمّا من الله تعالى أو من العباد.

____________________

(1) المنافقون: 63/10.

(2) الجمعة: 62/10.

١٧٩

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بتعبير آخر : هو الذي سار على الصراط المستقيم ، لأنّ «حنف» على وزن «صدف» تعني الرغبة ، ومن رغب عن كلّ انحراف فقد سار على الصراط المستقيم.

وعلى هذا فإنّ الآية السابقة اعتبرت الإخلاص وقصد القربة إلى الله محرّكا أساسيّا في الحجّ والعبادات الاخرى ، حيث ذكرت ذلك بشكل عام ، فالإخلاص أصل العبادة. والمراد به الإخلاص الذي لا يخالطه أي نوع من الشرك وعبادة غير الله.

جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أجاب فيه مبيّنا معنى كلمة حنيف : «هي الفطرة التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله ، قال : فطرهم الله على المعرفة»(١) .

إنّ التّفسير الذي تضمّنه هذا الحديث ، هو في الواقع إشارة إلى أساس الإخلاص ، أي : الفطرة التوحيديّة التي تكون مصدرا لقصد القربة إلى الله ، وتحريكا ذاتيا من الله.

ثمّ ترسم الآية ـ موضع البحث ـ صورة حيّة ناطقة عن حال المشركين وسقوطهم وسوء طالعهم ، حيث تقول :( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ ) (٢) .

«السّماء» هنا كناية عن التوحيد ، و «الشرك» هو السبب في السقوط من السّماء هذه.

ومن الطبيعي أن تكون في هذه السّماء نجوما زاهرة وشمسا ساطعة وقمرا منيرا فطوبى لمن يكون شمسا أو قمرا أو في الأقل نجما متلألئا ، ولكن الإنسان عند ما يسقط من هذا المكان العالي يبتلى بأحد أمرين : فإنّما يصبح طعاما للطيور الجوارح أثناء سقوطه وقبل وصوله إلى الأرض ، وبعبارة أخرى : يبتلى بفقدانه هذا

__________________

(١) توحيد الصدوق ، حسبما نقله تفسير الصافي.

(٢) «تخطفه» مشتقّة من «الخطف» على وزن فعل ، بمعنى الإمساك بالشيء ، أثناء تحرّكه بسرعة و «سحيق» تعني «البعيد» وتطلق على النخلة العالية كلمة «سحوق».

٣٤١

المكان السامي بأهوائه النفسيّة المعاندة. حيث تأكل هذه الأهواء جانبا من وجوده.

وإذا نجا بسلام منها ، ابتلي بعاصفة هو جاء تدلّه في إحدى زوايا الأرض بقوّة تفقده سلامته وحياته ، ويتناثر بدنه قطعا صغيرة في أنحاء المعمورة ، وهذه العاصفة الهوجاء قد تكون كناية عن الشيطان الذي نصب شراكه للإنسان!

وممّا لا شكّ فيه أنّ الذي يسقط من السّماء يفقد كلّ قدرة على اتّخاذ قرار ما.

وتزداد سرعة سقوطه لحظة بعد أخرى نحو العدم ، ويصبح نسيا منسيا.

حقّا أنّ الذي يفقد قاعدة السّماء التوحيديّة. يفقد القدرة على تقرير مصيره بنفسه. وكلّما سار في هذا الاتّجاه إزداد سرعة نحو الهاوية ، وفقد كلّ ما لديه.

ولا نجد تشبيها للشرك يضاهي في هذا التشبيه الرائع.

كما تجب ملاحظة ما تأكّد في هذا الزمان من حالة انعدام الوزن في السقوط الحرّ. ولهذا تجرى اختبارات على الفضائيين للاستفادة من هذه الحالة ليعدّوا أنفسهم للسفر إلى الفضاء. لأنّ مسألة انعدام الوزن هي التي تؤدّي بالإنسان إلى اضطرابه بشكل خارق أثناء السقوط الحرّ.

والذي ينتقل من الإيمان إلى الشرك ويفقد قاعدته المطمئنة وأرضه الثابتة تبتلى روحه بمثل حالة انعدام الوزن ، ويسيطر عليه اضطراب خارق للعادة.

وأوجزت الآية التالية مسائل الحجّ وتعظيم شعائر الله ثانية فتقول( ذلِكَ ) أيّ إنّ الموضوع كما قلناه ، وتضيف( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

«الشعائر» جمع «شعيرة» بمعنى العلامة والدليل ، وعلى هذا فالشعائر تعني علامات الله وأدلّته ، وهي تضمّ عناوين لأحكامه وتعاليمه العامّة ، وأوّل ما يلفت النظر في هذه المراسم مناسك الحجّ التي تذكّرنا بالله سبحانه وتعالى.

ومن البديهي كون مناسك الحجّ من الشعائر التي قصدتها هذه الآية. خاصّة

٣٤٢

مسألة الأضحية التي اعتبرتها الآية (٣٦) من نفس السورة ـ وبصراحة ـ من شعائر الله ، إلّا أنّ من الواضح مع كلّ هذا احتفاظ الآية بمفهوم شمولي لجميع الشعائر الإسلامية ، ولا دليل على اختصاصها ـ فقط ـ بالأضاحي ، أو جميع مناسك الحجّ.

خاصّة أنّ القرآن يستعمل «من» التي يستفاد منها التفريق في مسألة أضحية الحجّ ، وهذا دليل على أنّ الأضحية من شعائر الله كالصفا والمروة التي تؤكّد الآية (١٥٨) من سورة البقرة على أنّهما من شعائر الله( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) .

ويمكن القول : إنّ شعائر الله تشمل جميع الأعمال الدينيّة التّي تذكّر الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعظمته ، وإنّ إقامة هذه الأعمال دليل على تقوى القلوب.

كما تجب ملاحظة أنّ المراد من عبارة( يُعَظِّمْ ) ليس كما قاله بعض المفسّرين من عظمة جثّة الأضحية وأمثالها ، بل حقيقة التعظيم تعني تسامي مكانة هذه الشعائر في عقول الناس وبواطنهم ، وأن يؤدّوا ما تستحقّه هذه الشعائر من تعظيم واحترام.

كما أنّ العلاقة بين هذا العمل وتقوى القلب واضحة أيضا ، فالتعظيم رغم أنّه من عناوين القصد والنيّة ، يحدث كثيرا أن يقوم المنافقون بالتظاهر في تعظيم شعائر الله. إلّا أنّ ذلك لا قيمة له ، لأنّه لا ينبع من تقوى القلوب. إنّما تجده حقيقة لدى أتقياء القلوب. ونعلم أنّ مركز التقوى وجوهر اجتناب المعاصي والشعور بالمسؤولية إزاء التعاليم الإلهيّة في قلب الإنسان وروحه ، ومنه ينفذ إلى الجسد.

لهذا نقول : إنّ تعظيم الشعائر الإلهيّة من علامات التقوى القلبيّة(١) .

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال وهو يشير إلى صدره

__________________

(١) بما أنّ هناك ارتباطا بين الشرط والجزاء ، وكلاهما يخصّان موضوعا واحدا ، نجد في الآية السالفة الذكر محذوفا تقديره (ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب). ويمكن أن يكون الجزاء محذوفا فتكون عبارة «فإنّها من تقوى القلوب» علّة نابت عن معلول تقديره : «ومن يعظّم شعائر الله فهو خير له فإنّ تعظيمها من تقوى القلوب».

٣٤٣

المبارك : «التقوى هاهنا»(١) .

ويستدلّ من بعض الأحاديث أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يعتقدون بعدم جواز الركوب على الأضحية (الناقة أو ما شابهها) حين جلبها من موطنهم إلى منى للذبح ، كما يرون عدم جواز حلبها أو الاستفادة منها بأي شكل كان ، ولكن القرآن نفي هذه العقيدة الخرافية حيث قال :( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) .

وجاء في حديث نبوي أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ برجل يسوق بدنة وهو في جهد ، فقالعليه‌السلام : «اركبها» فقال : يا رسول الله إنّها هدي. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اركبها ويلك»(٢) .

كما أكّدت أحاديث عديدة وردتنا عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا الموضوع ومنها

حديث رواه أبو بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قولهعزوجل :( لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) قال : «إن احتاج إلى ظهرها ركبها من غير عنف عليها ، وإن كان لها لبن حلبها حلابا لا ينهكها»(٣) .

والحقيقة أنّ الحكم أعلاه معتدل وحدّ وسط بين عملين يتّصفان بالإفراط وبعيدين عن المنطق.

فمن جهة كان البعض لا يحتفظ بالأضاحي أبدا حيث يذبحها قبل الوصول إلى «منى» ويستفيد من لحومها. وقد نهى القرآن عن ذلك كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة( لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ) .

ومن جهة أخرى كان آخرون يفرطون إلى درجة عدم الاستفادة من الانعام بمجرّد تخصيصها للأضحية ، فلا يحلبونها ولا يركبون عليها إن كانت ممّا يركب وإن بعدت المسافة بين موطنهم ومكّة ، وقد أجازت الآية موضع البحث ذلك.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلّد السابع ، الصفحة ٤٤٨.

(٢) التّفسير الكبير للخفر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرين ، الصفحة ٣٣.

(٣) نور الثقلين ، المجلّد الرّابع ، الصفحة ٤٩٧.

٣٤٤

والنقد الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى التّفسير السالف الذكر ، هو أنّ الآيات السابقة ، لم تتطرّق إلى الأضاحي ، فكيف يعود ضمير الآية اللاحقة إليها؟

ولكن مع ملاحظة كون حيوان الأضاحي من مصاديق «شعائر الله» التي أشير إليها في الآية السابقة ، وسيأتي ذكرها أيضا بعد هذا ، يتّضح بذلك الجواب عن هذا الاستفسار(١) .

وعلى كلّ حال تذكر الآية في ختامها نهاية مسار الأضحية :( ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) .

وعلى هذا يمكن الاستفادة من الانعام المخصّصة للأضحية ما دامت في الطريق إلى موضع الذبح ، وبعد الوصول يجرى ما يلزم وبالطبع فإنّ المفسّرين يقولون بأنّ الذبح يجب أن يتمّ في منى إن كانت الأضحية تخصّ الحجّ. أمّا إذا كانت لعمرة مفردة ففي أرض مكّة. وبما أنّ الآيات المذكورة تبحث في مراسم الحجّ ، فيجب أن يكون للبيت العتيق (الكعبة) مفهوم واسع ليشمل بذلك أطراف مكّة (أي منى) أيضا.

* * *

__________________

(١) ما ذكر أعلاه هو تفسير واضح للآية موضع البحث ، وهنا نذكر تفسيرين آخرين :

الأوّل : إنّ ضمير «فيها» يعود إلى المناسك الحجّ جميعا ، وهنا يكون تفسيرها «لكم منافع في جميع مناسك الحجّ حتّى الزمن المحدّد بانتهاء الحجّ أو نهاية العالم ، ومن ثمّ تقع آخر مراسم الحجّ حيث يخلع الحاج إحرامه ويصبح مجاورا للكعبة ليؤدّي طوافي الحجّ والنساء» وبهذا تكون هذه الآية شبيهة بالآية التي فسّرناها سابقا( لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ) .

والتّفسير الثّاني : أن يعود ضمير «فيها» إلى الشعائر الإلهيّة كلّها ، إضافة إلى التعاليم الإسلامية العظيمة ، وعندها يكون معنى الآية «لكم جزاء جميل ومنافع كبيرة في مجموع التعاليم الإسلامية والشعائر الإلهيّة حتّى نهاية العالم ، ومن ثمّ يجزيكم خالق البيت العتيق». إلّا أنّ التّفسير الذي ذكرناه في متن الكتاب أكثر ملاءمة وأقرب معنى إلى سائر الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية وأكثر انسجاما معها.

٣٤٥

الآيتان

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) )

التّفسير

بشرّ المخبتين :

يمكن أن يتساءل الناس عن الآيات السابقة. ومنها التعليمات الواردة بخصوص الاضحية ، كيف شرّع الإسلام تقديم القرابين لكسب رضى الله؟ وهل الله سبحانه بحاجة إلى قربان؟ وهل كان ذلك متّبعا في الأديان الاخرى ، أو يخصّ المشركين وحدهم؟

تقول أوّل آية ـ من الآيات موضع البحث ـ لإيضاح هذا الموضوع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بكم ، بل إنّ كلّ أمّة لها قرابين :( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ ) .

٣٤٦

يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : «النسك» يعني العبادة ، والناسك هو العابد ، ومناسك الحجّ تعني المواقف التي تؤدّى فيها هذه العبادة ، أو إنّها عبارة عن الأعمال نفسها.

إلّا أنّ العلّامة الطبرسي يقول في «مجمع البيان» وأبو الفتوح الرازي في «روح الجنان» : «المنسك» (على وزن منصب) يمكن أن يعني ـ على وجه التخصيص ـ الأضحية ، بين عبادات الحجّ الاخرى(١) .

ولهذا خصّ المنسك ـ رغم مفهومه العام وشموله أنواع العبادات في مراسم الحجّ ـ هنا بتقديم الأضحية بدلالة( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ ) .

وعلى كلّ حال فإنّ مسألة الأضحية كانت دوما مثار سؤال ، لامتزاج التعبّد بها بخرافات المشركين الذين يتقرّبون بها إلى أوثانهم على نهج خاصّ بهم.

ذبح حيوان باسم الله ولكسب رضاه يبيّن استعداد الإنسان للتضحية بنفسه في سبيل الله ، والاستفادة من لحم الأضحية وتوزيعه على الفقراء أمر منطقي.

ولذا يذكر القرآن في نهاية هذه الآية( فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) وبما أنّه إله واحد( فَلَهُ أَسْلِمُوا ) وبشّر الذين يتواضعون لأحكامه الربّانية و( بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ) (٢) .

ثمّ يوضّح القرآن المجيد في الآية التالية صفات المخبتين (المتواضعين) وهي أربع : اثنتان منها ذات طابع معنوي ، واثنتان ذات طابع جسماني.

يقول في الأوّل :( الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) لا يخافون في غضبه دون سبب ولا يشكّون في رحمته ، بل إنّ خوفهم ناتج عن عظمة المسؤوليات التي بذمّتهم ، واحتمال تقصيرهم في أدائها ، وليقينهم بجلال الله سبحانه يقفون بين يديه

__________________

(١) ولهذا السبب يقال : نسكت الشاة ، أي ذبحتها.

(٢) «المخبتين» مشتقّة من «الإخبات» وأصلها «خبت» وهي الأرض المستوية الواسعة التي يمشي الإنسان فيها بكلّ سهولة. كما جاءت بمعنى الاطمئنان والخضوع ، لأنّ السير في هذه الأرض يلازمه الاطمئنان ، ولهذا تكون خاضعة مستسلمة للسائرين عليها.

٣٤٧

بكلّ خشوع(١) .

والثّاني :( وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ ) فهؤلاء يصبرون على ما يكابدونه في حياتهم من مصائب وآلام ، ولا يرضخون للمصائب مهما عظمت وإزداد بلاؤها ، ويحافظون على اتّزانهم ولا يفرّون من ساحة الامتحان ، ولا يصابون باليأس والخيبة ، ولا يكفرون بأنعم الله أبدا. وبإيجاز نقول : يستقيمون وينتصرون.

والثّالث والرابع :( وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) فمن جهة توطّدت علاقتهم ببارئ الخلق وازدادوا تقربا إليه ، ومن جهة أخرى اشتدّ ارتباطهم بالخلق بالإنفاق.

وبهذا يتّضح جليّا أنّ الإخبات والتسليم والتواضع التي هي من صفات المؤمنين ليست ذات طابع باطني فقط ، بل تظهر وتبرز في جميع أعمال المؤمنين.

* * *

__________________

(١) بحثنا في تفسير الآية الثّانية من سورة الأنفال بإسهاب دوافع الخوف من الله.

٣٤٨

الآيات

( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) )

التّفسير

لماذا الأضحية؟

عاد الحديث عن مراسم الحجّ وشعائره الإلهيّة والأضحية ثانية ، ليقول أوّلا :( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ) إنّ «البدن» وهي الإبل البدينة تعلّقت بكم من جهة ، ومن جهة أخرى هي من شعائر الله وعلائمه في هذه العبادة العظيمة.

فالاضحية في الحجّ من المظاهر الجليّة لهذه العبادة التي أشرنا إلى فلسفتها من

٣٤٩

قبل.

«البدن» على وزن «القدس» جمع لـ «البدنة» على وزن «عجلة» وهي الناقة الكبيرة والسمينة. وقد أكّدها لأنّها تناسب إقامة وليمة لإطعام الفقراء والمحتاجين في مراسم الأضحية ، ومن المعلوم أنّ سمن الحيوان ليس من الشروط الإلزامية في الأضحية. وكلّ ما يلزم هو أن لا يكون ضعيفا.

ثمّ تضيف الآية :( لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ) فمن جهة تستفيدون من لحومها وتطعمون الآخرين ، ومن جهة أخرى تستفيدون من آثارها المعنوية بإيثاركم وسماحكم وعبادتكم الله ، وبهذا تتقرّبون إليه سبحانه وتعالى.

ثمّ تبيّن الآية ـ بعبارة موجزة ـ كيفية ذبح الحيوان( فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ ) أي اذكروا اسم الله حين ذبح الحيوان وفي حالة وقوفه مع نظائره في صفوف.

وليس لذكر الله حين ذبح الحيوان أو نحر الناقة صيغة خاصّة. بل يكفي ذكر اسم من أسماء الله عليها ، كما يبدو ومن ظاهر الآية ، إلّا أنّ بعض الرّوايات ذكرت صيغة محدّدة ، وهي في الواقع من أعمال الإنسان الكامل ، حيث روي عن ابن عبّاس أنّه قال : الله أكبر ، لا إله إلّا الله والله أكبر ، اللهم منك ولك(١) .

إلّا أنّه ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام عبارات أكثر وضوحا فبعد شراء الأضحية توجّهها إلى القبلة وتقول حين الذبح : «وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهمّ منك ولك بسم الله وبالله والله أكبر ، اللهمّ تقبّل منّي»(٢) .

كلمة «صوافّ» جمع «صافّة» بمعنى الحيوان الواقف في صفّ. وكما ورد في

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير ختام الآية ، وروح المعاني في تفسير هذه الآية باختلاف يسير.

(٢) وسائل الشيعة ، المجلّد العاشر ، صفحة ١٣٨ ـ أبواب الذبح الباب (٣٧).

٣٥٠

الأحاديث فإنّ القصد من ذلك عقل رجلي الناقة الأماميتين معا حين وقوفها من أجل منعها من الحركة الواسعة حين النحر. وطبيعي أنّ أرجل الناقة تضعف حين تنزف مقدارا من الدم ، فتتمدّد على الأرض ، ويقول القرآن المجيد هنا( فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) أي عند ما تستقر ويهدأ جانبها (كناية عن لفظ الأنفاس الأخيرة). فكلوا منها وأطعموا الفقير القانع والسائل المعتر.

الفرق بين «القانع» و «المعتر» هو أنّ القانع يطلق على من يقنع بما يعطى وتبدو عليه علائم الرضى والارتياح ولا يعترض أو يغضب ، أمّا المعترّ فهو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه ، بل يحتجّ أيضا.

كلمة «القانع» فمشتقّة من «القناعة» ، و «المعترّ» مشتقّة من «عرّ» على وزن (شرّ) وهي في الأصل تعني الجرب ، وهو مرض عارض تظهر علاماته على جلد الإنسان. ثمّ أطلقت كلمة «المعترّ» على السائل الذي يطلب العون ولكن بلسان معترض. وتقديم القانع على المعترّ إشارة إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزّة النفس.

وينبغي الالتفات إلى أنّ عبارة( فَكُلُوا مِنْها ) توجب أن يأكل الحجّاج من أضاحيهم ، ولعلّها ترمي إلى مراعاة المساواة بين الحجّاج والفقراء.

وتنتهي الآية بالقول :( كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . وإنّه لمن العجب أن يستسلم حيوان عظيم الجثّة هائل القوّة لطفل يعقل يديه معا ثمّ ينحره.

(وطريقة النحر تتمّ بطعنة سكّين حادّة في لبّة الناقة ، لتنزف دمها ، وليلفظ هذا الحيوان أنفاسه بسرعة).

ولإيضاح أهميّة تسلّط الإنسان على الحيوان في الذبح ، فإنّ الله جلّ وعلا يسلب أحيانا طاعة هذا الحيوان وانقياده للإنسان ، حيث نشاهد هياج البعير وتبدلّه إلى موجود خطر لا يستطيع كبح جماحة عدّة رجال أقوياء بعد ما كان

٣٥١

مسخّر حتّى لصبي صغير!!

وهناك ثمّة أسئلة ، وهي : ما هي حاجة الله تعالى للأضحية؟

وما هي فلسفة الاضحية؟

وهل لهذا العمل فائدة تعود إلى الله سبحانه؟

تجيب الآية التالية عن هذه الأسئلة( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) . إنّ الله ليس بحاجة إلى لحوم الأضاحي ، فما هو بجسم ، ولا هو بحاجة إلى شيء ، وإنّما هو موجد كلّ وجود وموجود. إنّ الغاية من الاضحية كما تقول الآية :( وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ) فالهدف هو أن يجتاز المسلمون مراحل التقوى ليبلغوا الكمال ويتقرّبوا إلى الله.

إنّ جميع العبادات دروس في التربية الإسلامية ، فتقديم الاضحية ـ مثلا ـ فيه درس الإيثار والتضحية والسماح والاستعداد للشهادة في سبيل الله ، وفيه درس مساعدة الفقراء والمحتاجين. وعبارة( لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ) مع أنّ دماءها غير قابلة للاستفادة ، ربّما تشير إلى الأعمال القبيحة التي كان يمارسها أعراب الجاهلية ، الذين كانوا يلطّخون أصنامهم وأحيانا على الكعبة بدماء هذه القرابين.

وقد أتّبعهم في ممارسة هذا العمل الخرافي مسلمون جاهلون ، حتّى نهتهم هذه الآية المباركة(١) وممّا يؤسف له وجود هذه العادات الجاهلية في بعض المناطق حيث يرشّون دماء الأضحية على باب وجدران منزلهم الجديد ، حتّى أنّهم يمارسون هذا العمل القبيح الخرافي في المساجد الجديدة العمران أيضا.

ولذا يجب على المسلمين الواعين الوقوف بقوّة ضدّ هذا العمل.

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣١٤.

٣٥٢

ثمّ تشير الآية ثانية إلى نعمة تسخير الحيوان قائلة :( كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) .

إنّ الهدف الأخير هو التعرّف على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي هداكم بمنهجه التشريعي والتكويني إلى تعلّم مناسك الحجّ والتعاليم الخاصّة بطاعته والتعبّد له ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى جعل هذه الحيوانات الضخمة القويّة طيّعة لكم تقدّمونها أضاحي استجابة لله تعالى ، وتعملون عملا طيّبا يساعد المحتاجين ، وتستفيدون من لحومها في تأمين حياتكم. لهذا تقول الآية في الختام :( وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) أولئك الذين استفادوا من هذه النعم الإلهيّة في طاعة الله ، وأنجزوا واجباتهم على خير وجه ، ولم يقصّروا في الإنفاق في سبيل الله أبدا. وفاعلو الخير هؤلاء لم يحسنوا للآخرين فقط ، بل شمل إحسانهم أنفسهم على أفضل وجه أيضا.

وقد تؤدّي مقاومة خرافات المشركين التي أشارت إليها الآيات السابقة إلى إثارة غضب المتعصّبين المعاندين ، ووقوع اشتباكات محدودة أو واسعة ، لهذا طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره( إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم ، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه ، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعدا تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة ، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب ، بل هو ساري المفعول أبد الدهر ، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد. ومن ذا الذي لا يلتمس دفاع الله سبحانه عن عباده الصالحين؟

وفي الختام توضّح هذه الآية موقف المشركين وأتباعهم بين يدي الله بهذه

٣٥٣

العبارة الصريحة( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) أولئك الذين أشركوا بالله حتّى أنّهم ذكروا أسماء أوثانهم عن التلبية. فثبتت عليهم الخيانة والكفر لأنعم الله حيث يسمّون أوثانهم عند تقديم الأضاحي ، ولا يذكرون اسم الله عليها ، فكيف يحبّ الله قوما كهؤلاء الخونة الكفرة؟!

* * *

٣٥٤

الآيات

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) )

التّفسير

أوّل حكم بالجهاد :

ذكرت روايات أنّ المسلمين عند ما كانوا في مكّة ، كانوا يتعرّضون كثيرا لأذى المشركين ، فجاء المسلمون إلى رسول الله ما بين مشجوج ومضروب يشكون إليه ما يعانون من قهر وأذى ، فكان صلوات الله عليه وآله يقول لهم : «اصبروا فانّي لم أؤمر بالقتال» حتّى هاجر ، فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة ،

٣٥٥

وهي أوّل آية نزلت في القتال(١) .

هناك اختلاف بين المفسّرين في كونها أوّل آية نزلت بالجهاد ، فهناك من يؤيّد ذلك ، وهناك من يرى أنّ أوّل آية نزلت في الجهاد هي آية( قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ) (٢) وعدّ البعض آية( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) (٣) هي الأولى(٤) .

إلّا أنّ أسلوب الآية يناسب هذا الموضوع بشكل أفضل لأنّ تعبير «أذن» جاء بصراحة واضحة فيها ، ولم يرد في الآيتين الأخريين ، وبتعبير آخر : إنّ الإذن بالجهاد منحصر في هذه الآية.

ولمّا وعد الله المؤمنين بالدفاع عنهم في الآية السابقة يتّضح جيدا الارتباط بين هذه الآيات تقول الآية : إنّ الله تعالى أذن لمن يتعرّض لقتال الأعداء وعدوانهم بالجهاد ، وذلك بسبب أنّهم ظلموا :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) ثمّ أردفت بنصرة الله القادر للمؤمنين( وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) .

إنّ وعد الله بالنصر جاء مقرونا بـ «قدرة الله». وهذا قد يكون إشارة إلى القدرة الإلهيّة التي تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن الإسلام ، لا أن يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة الله تعالى لهم ، أو بتعبير آخر : عليكم بالجدّ والعمل بكلّ ما تستطيعون من قدرة ، وعند ما تستحقّون النصر بإخلاصكم ينجدكم الله وينصركم على أعدائه ، وهذا ما حدث للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع حروبه التي كانت تتكلّل بالنصر.

ثمّ توضّح هذه الآيات للمظلومين ـ الذين أذن لهم بالدفاع عن

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، وتفسير الفخر الرازي للآية موضع البحث.

(٢) البقرة ، ١٩٠.

(٣) التوبة ، ١١١.

(٤) الميزان ، المجلّد الرّابع عشر ، صفحة ٤١٩.

٣٥٦

أنفسهم ـ بواعث هذا الدفاع ، ومنطق الإسلام في هذا القسم من الجهاد فتقول :( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ ) وذنبهم الوحيد أنّهم موحّدون :( إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ) .

ومن البديهي أنّ توحيد الله موضع فخر للمرء وليس ذنبا يبيح للمشركين إخراج المسلمين من بيوتهم وإجبارهم على الهجرة من مكّة إلى المدينة ، وتعبير الآية جاء لطيفا ـ يجلّي إدانة الخصم ، فنحن على سبيل المثال نقول لناكر الجميل : لقد أذنبنا عند ما خدمناك ، وهذه كناية عن جهل المخاطب الذي يجازي الخير شرّا(١) .

ثمّ تستعرض الآية واحدا من جوانب فلسفة تشريع الجهاد فتقول :( وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) أي إنّ الله إن لم يدافع عن المؤمنين ، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد ، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا.

ولو تكاسل المؤمنون وغضّوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة ، لما أبقى هؤلاء أثرا لمراكز عبادة الله ، لأنّهم سيجدون الساحة خالية من العوائق ، فيعملون على تخريب المعابد ، لأنّها تبثّ الوعي في الناس ، وتعبّئ طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر. وكلّ دعوة لعبادة الله وتوحيده مضادّة للجبابرة الذين يريدون أن يعبدهم الناس تشبّها منهم بالله تعالى ، لهذا يهدّمون أماكن توحيد الله وعبادته ، وهذا من أهداف تشريع الجهاد والإذن بمقاتلة الأعداء.

__________________

(١) وبهذا يتّضح أنّ الاستثناء في الآية المذكورة متّصل غاية الأمر إنّه كنائي مع ذكر فرد ادّعائي. (فتأمّل).

٣٥٧

وقد أورد المفسّرون معاني متفاوتة لـ «الصوامع» و «البيع» و «الصلوات» و «المساجد» والفرق بينها ، وما يبدو صحيحا منها هو أنّ :

«الصوامع» جمع «صومعة» وهي عادة مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصّص لمن ترك الدنيا من الزّهاد والعبّاد. (ويجب ملاحظة أنّ «الصومعة» في الأصل تعني البناء المربّع المسقوف ، ويبدو أنّها تطلق على المآذن المربّعة القواعد المخصّصة للرهبان.

و «البيع» جمع بيعة بمعنى معبد النصارى ، ويطلق عليها كنيسة أيضا.

و «الصلوات» جمع صلاة ، بمعنى معبد اليهود ، ويرى البعض أنّها معرّبة لكلمة «صلوتا» العبرية ، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.

وأمّا «المساجد» فجمع مسجد ، وهو موضع عبادة المسلمين.

والصوامع والبيع رغم أنّها تخصّ النصارى ، إلّا أنّ إحداهما معبد عامّ والاخرى لمن ترك الدنيا ، ويرى البعض أنّ «البيع» لفظ مشترك يطلق على معابد اليهود والمسيحيين.

وعبارة( يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ) وصف خاص بمساجد المسلمين حسب الظاهر ، لأنّها أكثر ازدحاما من جميع مراكز العبادة الاخرى في العالم ، حيث تجرى فيها الصلوات الخمس في أيّام السنة كلّها ، في وقت نجد فيه المعابد الاخرى لا تفتح أبوابها للمصلّين إلّا في يوم واحد من الأسبوع ، أو أيّام معدودات في السنة.

وفي الختام أكّدت هذه الآية ثانية وعد الله بالنصر( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ولا شكّ في إنجاز هذا الوعد ، لأنّه من ربّ العزّة القائل :( إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) . من أجل ألّا يتصوّر المدافعون عن خطّ التوحيد أنّهم ووحيدون في ساحة قتال الحقّ للباطل ، ومواجهة جموع كثيرة من الأعداء الأقوياء.

وبنور من هذا الوعد الإلهي انتصر المدافعون عن سبيل الله على أعدائهم في

٣٥٨

معارك ضارية خاضوها بضالة عدد وعدّة ، ذلك النصر الذي لا يمكن أن يقع إلّا بإمداد إلهي.

وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة ، وتقول :( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها ، ولا يأخذها الكبر والغرور ، إنّما ترى النصر سلّما لارتقاء الفرد والجماعة. إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة ، لارتباطها القويّ بالله ، والصلاة رمز هذا الارتباط بالخالق ، والزكاة رمز للالتحام مع الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد ، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة ، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور(١) .

كلمة «مكّنا» مشتقة من «التمكين» الذي يعني إعداد الأجهزة والمعدّات الخاصّة بالعمل ، من عدد وآلات ضرورية وعلم ووعي كاف وقدرة جسمية وذهنية.

وتطلق كلمة «المعروف» على الأعمال الجيدة والحقّة ، و «المنكر» يعني العمل القبيح ، لأنّ الكلمة الأولى تطلق على الأعمال المعروفة بالفطرة ، والكلمة الثّانية على الأعمال المجهولة والمنكرة. أو بتعبير آخر : الأولى تعني الانسجام مع الفطرة الإنسانية ، والثّانية تعني عدم الانسجام.

وتقول الآية في ختامها( وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) وتعني أنّ بداية أي قدرة ونصر من الله تعالى ، وتعود كلّها في الأخير إليه ثانية( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) .

* * *

__________________

(١) تناولنا أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل هذين الواجبين الإسلاميين ، والجواب عن استفسارات في هذا المجال ببحث مسهب في تفسير الآية (١٠٤) من سورة آل عمران.

٣٥٩

بحوث

١ ـ فلسفة تشريع الجهاد

رغم أنّنا بحثنا مسألة الجهاد بحثا واسعا(١) قبل هذا ، إلّا أنّه مع ملاحظة احتمال أن تكون الآيات ـ موضع البحث ـ أولى الآيات التي أجازت للمسلمين الجهاد ، واحتوت إشارة إلى فلسفة هذا الحكم ، وجدنا ضرورة تناولها بإيجاز.

وقد أشارت هذه الآيات إلى أمرين مهمّين في فلسفة الجهاد :

أوّلهما : جهاد المظلوم للظالم ، وهو من حقوقه المؤكّدة والطبيعيّة ، التي يؤكّدها عقل الإنسان وفطرته. وليس له أن يستسلم للظلم ، بل عليه أن ينهض ويصرخ ويتسلّح ليقطع دابر الظالم ويدفعه.

وثانيهما : جهاد الطواغيت الذين ينوون محو ذكر الله من القلوب بتهديم المعابد التي هي مراكز لبثّ الوعي وإيقاظ الناس ، فيجب مناهضة هؤلاء لمنعهم من محو ذكر الله بتخديرهم ، ثمّ جعلهم عبيدا لها.

وممّا يلفت النظر أنّ تخريب المعابد والمساجد لا يعني تخريبها مادّيا فقط ، بل قد يكون بأساليب غير مباشرة كثيرة ، كإشاعة برامج التسلية والترفيه المقصودة ، وبثّ الدعايات المسمومة ، والإعلام المضادّ لحرف الناس عن المساجد ، فتحوّل أماكن العبادة إلى خرائب مهجورة.

وفي هذا جواب لمن يسأل : لماذا أجيز للمسلمين استخدام القوّة وخوض الحرب لتحقيق أهدافهم؟ ولماذا لا يتمّ تحقيق الأهداف الإسلامية باللجوء إلى التعقّل والمنطق؟

وهل يفيد المنطق ذلك الظالم الذي يهجّر المسلمين من ديارهم لا لذنب اقترفوه سوى اعتقادهم بتوحيد الله. فتراه يستولي على منازلهم وأموالهم ،

__________________

(١) تناولنا فلسفة الجهاد بالبحث في تفسير الآية ١٩٣ من سورة البقرة.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550